روايات

رواية اليمامة والطاووس الفصل الثامن 8 بقلم منى الفولي

رواية اليمامة والطاووس الفصل الثامن 8 بقلم منى الفولي

رواية اليمامة والطاووس البارت الثامن

رواية اليمامة والطاووس الجزء الثامن

اليمامة والطاووس
اليمامة والطاووس

رواية اليمامة والطاووس الحلقة الثامنة

فتح باب شقة ياسر بهدوء لتدخل سلوى تساند نجوى المنهارة، لتغلق باب الشقة بحذر قبل أن تفتح المصباح ليبدد ذلك الظلام الدامس لترى طريقها وتريح شقيقتها فوق الأريكة وهي تهمس برجاء: أهدي يا نجوى أبوس أيدك، ياسين لسه منزلش العيادة، هتفضحينا.
أزاحت نجوى يدها بعنف، وهي تصرخ بانهيار مطبقة بكل قوتها على ذلك الملف الطبي: هو ده كل اللي يهمك، أنت مسمعتيش الدكتورة قالت أيه.
واساتها سلوى بحزن: اللي قالته مش جديدة يا حبيبتي وعرفينه من أسبوعين.
صرخت نجوى وهي تتمسك بيد شقيقتها بهيستريا: بس أنت قولتلي أنها حمارة، وأن أكيد لي علاج، ممكن يطول بس أكيد هاخلف، وعشان كده خلتيني أفهمه أني هأجل الخلفة، هاقوله دلوقتي أيه، هاجلها العمر كله.
بكت سلوى وهي تحتضن شقيقتها بحب، وهي تهمس بمواساة، يعتصر قلبها على من اعتبرتها دوما ابنتها: سيبك منه، هيستحمل غصب عنه زي ما أنا استحملت أخوه.
احتدت نجوى وهي تصيح: رد جميل يعني، ولا واحدة قصاد واحدة، ده ماهيصدق يخلص مني.
أردفت سلوى تطمئنها بتأكيد: متخافيش يا قلبي، ده احنا مش هنخليه يستحمل وبس، ده احنا كمان هنشيله ذنبك، هنفهمه أن الموانع اللي أخدتيها بسبب معاملته هي اللي سببت لك العقم.
ضحكت نجوى بهيستريا وهي تغمغم متهكمة: يعني أنا اتجوزته بتأنيب الضمير لما استغلينا أننا شوفنا دعاء من البلكونة بتكلم خلود وفهمناه أنها بوظت سمعتي، ودلوقتي هنخليه يكمل معايا برضو بتأنيب الضمير وأننا نفهمه أنه هو السبب في عقمي، طيب متضغطي عليه شوية ، يمكن يعرف يخليني أحمل بتأنيب الضمير برضه.
اجابتها سلوى بتعاطف، فمن أكثر منها يعرف قيمة ما حرمت منه، وقد حرمت هي قبلها بلا خطب بها: حبيبتي ده نصيبك، ولازم تحافظي على بيتك أكتر من الأول لأن ياسر بقى أنسب شخص ليكي [بحقد] هو كده كده ربنا رزقه بالخلفة من الست هانم بتاعته، يعني معندوش حجة يسيبك بيها، أعقلي كده ومتضيعيش كل اللي عملناه.
صرخت نجوى بقهر بما ينوء صدرها بحمله، كمن اكتشفت سرا لتوها: أيوه، اللي احنا عملناه، هو ده تحديدا السبب، عقاب ربنا لي على الطفل اللي حاولت أقتله، الأول كنت هاتفضح واتسجن وربنا سترها وبدل ما نحمد ربنا حلفنا على المصحف كدب، وأدي النتيجة ربنا حرمني من الخلفة زي ما حاولت أحرم دعاء.
أحاطت سلوى وجه نجوى بكفيها وهي ترفعه لمواجهتها، محاولة انتشالها من دائرة جلد الذات: بطلي بقى الهبل اللي عمالة تقوليه من ساعتها ده، الدكتورة أكدت أن ده عيب خلقي اتولدي بيه، يعني ملوش علاقة بدعاء وغيرها، [زافرة بضيق] وأنت كنت هتتسجني عشان غبية، قولتلك استخبي فوق واتسحبي فاجئيها، لو شافتك أعملي أنك عاملة مفاجأة وجاية معنا للدكتور، مشفتكيش زوقيها، لكن من غباءك لبستي كعب عالي نبهها وزقتيها بعد ما جت عينيها في عينيك.
أمسكت نجوى بكفيها بعصبية تبعدهما عن وجهها وهي تصيح بهياج: دلوقتي بقيت أنا اللي غلطانة، أنا فعلا غلطانة أني سمعت كلامك، أنت أمنتي نفسك وقفلتي باب شقتك بشهادتها هي وجوزها وسيبتيني أنا أنفذ فكرتك السودة والبسها.
فغرت سلوى فاهها بصدمة وهي تهمهم بجزع، غير مصدقة أن تتهمها أختها ذلك الاتهام وهي التي ضحت بحياتها كلها لإرضاء أسرتها والحفاظ عليها: أنا سيبتك، ده أنا كنت واقفة لك زي ما اتفاقنا عشان أخبيكي، وأول ماقولتيلي أنها شافتك كنت هاموت عشانك، وروحت معهم وأنا باتنفض عشان أتاكد شافتك ولا بيتهيألك، [وقد احتد صوتها موبخة] ده أنا أغمى علي أول ما عرفت أنها بلغت عنك، ولما فوقت مكنش هامنني غير أني أتصل بياسين وكنت هابوس أيده عشان يصدق أنك مظلومة ويوافق يشهد معكي، لدرجة أني محستش أن أيدي نزفت، بعد ده كله وتقوليلي سيبتك.
همهمت نجوى بارتعاش مصاحب لنحيبها لإستعادتها التجربة المفزعة: أيوه سيبتيني، أنا روحت القسم لوحدي، أنا كنت هاتسجن، ياسين نفسه كان متردد وكان باين عليه، لو كنتي معانا مكنتش خفت كده.
زفرت سلوى بنفاذ صبر، محاولة احتواءها تقديرا لظروفها: يابنتي باقولك نزفت وأدوني مخدر عشان متحركش وأنزف تاني، وده كان من حظك لان فعلا ياسين كان رافض يشهد على حاجة ماشفهاش، بس لما أغمى عليا وأنا باكلمه وسمع صريخ الممرضة على الدكاترة، اترعب عليا واضطر يطاوعني.
علا نحيب نجوى وهي تغمغم بندم: بس رجع وشك فينا، وحلفنا على المصحف كدب، وأدي النتيجة.
هدرت سلوى بغضب وكره: كله من الزفتة اللي اسمها دعاء، لما جات من المستشفى عملت الهوللة اللي عملتها، إصرارها وثقتها بنفسها شككته فينا، واضطرينا نحلف وإلا كنتي هتتسجني، يعني ربنا أكيد هيسامحنا لأننا كنا مجبرين، وكمان كنا بندافع عن حقنا.
ارتسمت ابتسامة مريرة على وجه نجوى وهي تردف متهكمة: حقنا.
زامت سلوى بغضب وقد استعادت حدتها، واكتسى صوتها بالقسوة: أيوه حقنا، قولتلك ميت مرة أن العيلة دي حقنا، أنا لياسين وأنت لياسر، هي اللي دخلت وسطنا زي العقربة، زي خلود زمان، واحنا مكنش ينفع نسكت زي ما سكتنا زمان وكان لازم ندافع عن حقنا.
رمقتها نجوى بتشكك، وهي تغمغم بخفوت، فهي تعلم برد فعل شقيقتها عند مجادلتها بمعتقدها بهذا الشأن: بس ياسر عمره ماحبني، أنا عملت كل اللي قولتيلي عليه فضلت لازقاله، فضلت أدلع عليه وأعمل نفسي بخاف أمشي لوحدي، بس هو اهتمامه بيا كان أخوة، وعمره ما عشمني بحاجة، يبقى حقي أزاي.
هدرت سلوى بغضب وجنون وهي تقبض على كتفيها تهزها بعنف متناسية ما كانت تمر به وانهيارها منذ لحظات : زي ما أبوكي شاف أنه من حقه يتجوز اللي حبها حتى لو على حساب بنته، وزي ما الدكتور شاف أن من حقه يصطاد في الميه العكرة ويجري يخطبني وهو عارف أني بحب بخطيبي ومابحبوش، وزي ما ماما شافت أنها من حقها تضغط علي وتهددني بالانتحار لو متجوزتوش، من غير حتى ما تديني فرصة انسى حبيبي أو أتعود عليه.
ازدردت ريقها لتتابع بعدها بنفس الغضب: وزي ما الدكتور شاف أنه من حقه يستغل ظروفي ومسئوليتي عنك واحتياجي لبيته وفلوسه فأنه يستمر بجوازنا مع أنه كده بيحرمني من حقي بالأمومة، يبقى أنا كمان من حقي أن البيت اللي اتبنى على تعاستي وحرماني يبقى بتاعي، ياسين وأخوه حقنا واللي يملكوه كله حق لولادك من ياسر بعدنا.
نطقت أخر جملتها كما اعتادت دائما في شحذها لهمة شقيقتها، دون أن تنتبه أن ذلك الهدف أصبح مستحيلا، تنبهت لزلتها بعد فوات الأوان، بعدما تخشب جسد شقيقتها بين يديها بصدمة، لتنظر لها بهلع وقد ندمت أشد الندم على ما تفوهت به ليزداد ندمها وهي تسمتع لصراخ شقيقتها المدوي وهي تنحني برأسها للأسفل تصفع وجنتيها بعنف صارخة: خلاص مش هينفع، مش هناخد حاجة، كل حاجة راحت، كل اللي عملناه ضاع…
كانت تحاول تهدئة شقيقتها ومنعها من صفع نفسها ولكنها فوجئت بها تبتر جملتها وتتوقف فجأة وقد اتسعت عينيها بذعر، وهي تحدق بشئ ما على الأرض، تفقدت موضع تحديقها، لتفاجأ بسهم من أوراق الزهور يشير لاتجاه ما تتبعته بنظرها لتجد سهما يشير لنفس الاتجاه، تتبعته لتقع عينيها على ذلك الحذاء الذكوري الذي تعرف صاحبه جيدا، احتبست الأنفاس بصدرها كأسلاك شائكة، بينما يزداد ضغط يد شقيقتها المرتجفة على يدها وهي ترفع عينيها ببطء متفحصة ذلك الجسد الرجولي حتى وصلت لذلك الوجه الذي طالما تبسم لها، ولكنه الأن كان أقرب لوجه أحد زبانية جنهم جاء يقودها لجحيمها الأبدي بوجهه الغاضب وظلال النار تلك المنعكسة على وجهه أثر شمعات مشتعلة بغرفة النوم التي يقف على بابها نصف المفتوح، صدرت عنها شهقة كمن ينازع بخروج الروح، لتكن شهقاتها بمثابة الإشارة لإنفجار ثورته وهو يهدر بغضب: ياولاد الكلب.
وكما كنت شهقتها له إشارة البدء فقد انتزعتهم صرخته من صدمتهما فعلا صراخهما وهما تهرولان محاولتا الفرار ليلقى بباقة الورود الضخمة بيده بكل قوته على نجوى فهي الأقرب إليه لترتبك وتسقط أرضا ليخطو عليها غير مبالي بصرخاتها، لاحقا بسلوى ممسكا بشعرها قبل أن تصل لباب الشقة، ليحكم قبضته عليها وهو يصدم رأسها بالحائط مرات متتالية وهو يصرخ بهيستريا: أنت يا سلوى أنت، طيب ليه، ده أنا كنت باعتبرك أمي وأختي وصحبتي، ده أنا سري كله معاكي، أنا تعملي في كده.
وقفت نجوى من تعثرها تنظر برعب لشقيقتها التي غطت الدماء وجهها أثر اصطدامها المتتالي بالجدار، فتغلب قلقها عليها على خوفها منه، فنقضت عليه من الخلف متعلقة برقبته محاولة خنقه بكل غلها ويأسها، ترك سلوى مضطرا وهو يشعر بالاختناق، لتسقط أرضا بضعف، بينما فشل هو في فك يديها من حول عنقه واشتد شعوره بالاختناق، فمد يده للخلف بسرعة ممسكا بشعرها جاذبا لها لأسفل، لتنفك يدها مرغمة وهي تهوي أسفل قدمه، فزفر بقوة وهو يدلك رقبته ، لينقض على رقبتها بدوره محاولا خنقها صارخا بهياج: عايزة تقتليني يا كلبة، زي ما حاولتي تقتلي ابني، والله لأنا اللي هاقتلك وأخلص الناس من شرك، أنا اللي غلطان عشان مصدقتهاش، ودمرت حياتي عشان زبالة زيك.
زاد شدة قبضته على رقبتها ووهنت مقاومتها له، بينما احتقن وجهها بشدة واحتلت شفتيها الزرقة، لتوهن قبضته فجأة، تاركا نجوى تلتقط أنفاسها بلهفة غير مصدقة نجاتها، لتصرخ بفزع وهي تراه يهوي بجوارها، لتقع عينيها على شقيقتها التي استعادت قواها وتسللت خلفه في غفلة منهما، وهاهي تقف أمامها تحمل بيدها تلك المزهرية الملطخة بدمه.
تعالت صراختها غير مصدقة أن يكونا قتلاه، لتنهرها سلوى وهي تلقي بتلك المزهرية أرضا: اسكتي، بطلي صريخ هتفضحينا، قومي بسرعة.
تصلبت بمكانها غير منتبهة لأمرها، تتبعها بعينيها وهي تهرول تحمل حقيبتهما، ثم تقترب منها تساندها للنهوض، فتستجيب لها أخيرا، وقد استوعبت الصدمة، لتتسللا الشقيقتان خارجا، مهرولتان على الدرج، تاركتين ياسر ملقى أرضا مضرج بدماءه.
❈-❈-❈
استقلاتا سيارة سلوى لتنطلق بسرعتها القصوى، لتنطلق مع انطلاقها صرخات نجوى وانهيارها: روحنا في داهية، ده ممكن يكون مات، أنت اللي موتيه.
بادلتها سلوى الصراخ وهي تخرج هاتفها لتضعه على الحامل أمامها، مجرية مهاتفة عبر مكبر الصوت: أخرسي، يعني أنا غلطانة أني لحقتك، كنت أسيبه يموتك، [قطعت صراخها عندما أتاها ذلك الصوت الرجولي عبر هاتفها] أيوه، سيادة المستشار.
أجابها ذلك المستشار بود: أهلا مدام سلوى، ازاي حضرتك.
حاولت استجماع حروفها، لتخرج حروفها مهتزة: حضرتك أنا في مصيبة ومحتاج لحضرتك.
احتل الاهتمام صوته وهو يردف بجدية: سامعك يا مدام، بس إهدي، عشان أفهمك وأقدر أساعدك.
التقطت سلوى أنفاسها لدقيقة محاولة تهدئة نفسها وترتيب كلماتها: حضرتك أنا ضربت جوز أختي على دماغه وهو دلوقتي مرمي وأنا مش عارفة هو حصله أيه، وأنا أعمل أيه.
أردف ببساطة وكأن ما سمعه أمرا اعتياديا: أنت فين دلوقتي، وأختك فين وموقفها أيه من اللي حصل، يعني في صف جوزها ولا معاكي.
زفرت بحرقة، وهي تردف: أختي معايا طبعا، أنا أصلا ضربته عشان أخلصها من أيديه، هو كان بيخنقها، وهتموت في إيده، واحنا دلوقتي مع بعض، بس لسه مش عارفة هنروح فين.
رد عليها بلهجة حاسمة وصوت آمر: اطلعي حالا على مستشفى —- وأسألي على دكتور وسام الخولي، وهو هيقوم باللازم كله.
اجابته مندهشة: مستشفى ليه، هو صحيح ضربنا بس احنا الحمد مفيناش حاجة، {مستاءة ظنا منها بأنه غير مستوعب لما قالته} باقول لحضرتك هو اللي مرمي سايح في دمه، ومعرفش حصله أيه.
رد متهكما: وحضرتك ناوية تستني لما يفوق ويبلغ عنكم، ولا يموت وتروحي في داهية.
شهقت وهي تتمتم بذعر: طيب أعمل أيه.
أمرها بنفاذ صبر: يبقى تسمعي الكلام، وتروحي حالا على المستشفى و دكتور وسام هيقوم باللازم، هيحجزكم أنتم الاتنين، ويكتب لحضرتك تقرير باصابات بأكتر من واحد وعشرين يوم، ده غير تقرير صغنن كده بأن أخت حضرتك كانت حامل وهو اجهضها.
اصابتها الغصة وهي ترى تغضن وجه شقيقتها ألما، فتتمتم بخفوت: بس هي مش حامل ومش هينفع…
قاطعها بضحكة متهكمة، وهو يردف بغرور: مينفعش دي كلمة مش في قاموسي، واللي مينفعش أنا باخليه ينفع، ولو حتى طعن في التقرير الطبي وطلب تحويلها للطب الشرعي، عندي اللي هيكتب نفس التقرير، [ضاحكا بشر] وياسلام لو كان مغمى عليه بس ومش محتاج مستشفى ودخل التخشيبة علطول؛ أوعدك تتعمله احلى حفل استقبال، تخليه هو بنفسه يعترف أنه أجهضها.
شعرت سلوى بالإطمئنان من تلك الثقة التي تكسو كلماته، فزفرت بارتياح وهي تردف بطاعة: خلاص حضرتك أنا هاطلع حالا على المستشفى، وهاعمل كل اللي حضرتك قولته.
أردف بشكل روتيني وكأنه يتكلم عن أمر بديهي: وأنا كمان هاخرج حالا على القسم أظبط أموري هناك عقبال ما دكتور وسام يبعت لي التقرير هناك، سلام.
انهى المهاتفة دون أن ينتظر ردها، لتسرع بإدارة سيارتها حيث أمرها.
❈-❈-❈
تحرك ياسين خارج شقته مغلقا بابها، وهو يتأفف لرسالة هاتفه المتكررة بغلق هاتف زوجته وعدم مقدرته على الإتصال بها؛ ومعرفة سبب تأخرها، ليجذب انتباهه صوت رنين هاتف أخيه المرتفع لتزداد دهشته لملاحظة باب شقته المفتوح، ليعبره بلهفة ليصدم بمشهد الأثاث المنكفأ وتلك الأوراق والفحوصات الطبية المبعثرة وأخيرا مشهد أخيه المسجي أرضا مدرجا بدماءه.
انحنى بجوار أخيه يتفحصه باهتمام وهو يناجيه بلهفة محاولا حمله: ياسر، مالك يا ياسر، فوق يا أخويا، مين اللي عمل فيك كده.
عاود رنين الهاتف ثانية، فأراح جسد أخيه وبحث عن هاتفه ليجد أن صديقه عمر هو من يهاتفه، فاستنجد به يطلب مساعدته خاصة وبيته على بعد خطوات قليلة: عمر، لا أنا ياسين، ياسر سايح في دمه، الحقني ياعمر.
لم يكمل رجاءه ليجد أن صديق شقيقه قد انهى المهاتفة، ليعاود هو محاولته لإيفاق أخاه دون جدوى، لتمر دقائق يجد بعدها عمر يعدو نحوهما بجزع، صارخا بفزع وهو يطالع صديقه: أيه اللي حصل يا دكتور، من اللي عمل فيه كده.
عاد ياسين لمحاولة رفع أخيه وهو لاهثا: مش المهم، الأهم أننا نلحقه قبل ما دمه يتصفى، أرفعه معايا.
ليتعاونا معا في رفعه ويستقلا المصعد في محاولة لإنقاذه.
❈-❈-❈
هرولا ياسين وعمر خلف ذلك السرير النقال الذي يحمل ياسر حتى وصلوا لباب غرفته بإحدى المستشفيات، يلهج لسانهما بالدعاء، متمنيين تمام شفائه حامدين الله على نجاته خاصة وقد أبدى الطبيب قلقه من كمية الدم المفقودة وضرورة تعويضها.
انهمك المساعدين بنقل ياسر لفراشه تحت أشراف الطبيب الذي أمرهم بالأنصراف بمجرد انتهائهم ليلتفت لياسين مطمئنا: حاليا حالته مستقرة، احنا أتاكدنا أن مفيش شرخ بالجمجمة والجرح مش عميق قوي، المشكلة أنه قعد فترة كبيرة ينزف، والحمد لله نقلنا له دم وحالته استقرت، [مردفا بحرج] أنا طبعا إكراما لحضرتك يا دكتور ياسين اتعاملت مع الحالة من غير ما أبلغ البوليس، بس الحالة دي جناية، وأنا موقفي حرج.
أندفع ياسين يهتف وهو ينظر لأخيه الراقد بقهر: اللي مرمي ده أخويا يا دكتور، حضرتك أنا اللي هبلغ البوليس بنفسي، وهاقطع اللي عاملها بسناني.
أخرج عمر هاتفه ضاغطا على أزراره وهو يردف مؤكدا: أنا أخويا ظابط في القسم هنا؛ وأنا هابلغه دلوقتي عشان محيصلش أي مشكلة للمستشفى، وكمان يهتموا بالبلاغ و…
قطع كلامه عندما بدأت محادثته وصدح صوت شقيقه بأذنه بينما انسحب الطبيب بعدما أطمئن بأن الأمور ستاخد المجرى القانوني على النحو الصحيح: عمور، أخبارك أيه يا غالي.
ليجفل شقيقه من جديته وهو يقاطعه: علي، أنا مش متصل أسلم، أنا محتاجك.
أحتل القلق نبرة شقيقه وهو يسأله باهتمام: في أيه ياعمر، أنت بخير.
زفر عمر بضيق وهو يردف بحزن: أنا كويس، بس ياسر صاحبي لاقيناه مرمي في شقته مضروب بحاجة على دماغه وسايح في دمه، واحنا دلوقتي في المستشفى والمفروض نبلغ البوليس بس أنا قولت أكلمك أنت تتصرف.
هتف علي بلهفة: لاحول ولا قوة إلا بالله، ليه كده،
[ليصمت لدقيقة ثم يسأل بفضول] هي مراته معاه.
انتبه عمر لتوه لغياب نجوى وزادت دهشته لسؤال شقيقه، فأجابه متسائلا: لا معرفش هي فين، احنا لاقيناه مرمي لوحده في شقته.
زفر شقيقه بقلق وهو يردف متشككا: طيب بص خلي بالك من صاحبك وسيبك من البلاغ دلوقتي، لغاية ما أتأكد من حاجة كده.
استغرب عمر من أسلوب شقيقه وشعر بوجود أمر غير طبيعي: حاجة أيه يا علي.
أنهى شقيقه المكالمة بسرعة مشددا على عدم التصرف حتى يعاود الاتصال به: أقفل دلوقتي ومتتحركش من مكانك ولا تتصرف أي تصرف لحد ما أكلمك تاني.
أنهى المحادثة دون أن يعطي شقيقه فرصة للرد، الذي ورغم انتهاء المكالمة ظل ينظر لهاتفه بتعجب لم يخرجه منه سوى صوت ياسين: مالك يا عمر هو أخوك قالك أيه.
هز رأسه بدون فهم وهو يغمغم: مش عارف، بس في حاجة مش طبيعية، لكن بكل حال هو قال ما اتحركش ولا اتصرف أي تصرف لحد ما يتصل هو.
توتر ياسين لهذا الغموض وقبل أن يعبر عن شكوكه ارتفع رنين هاتف عمر يحمل اسم أخيه ليتبادل الاثنان نظرات قلقة، ليهتف ياسين بحسم آمرا: أفتح الاسبيكر يا عمر.
استجاب عمر ضاغطا زر المكبر وهو يجيب بصوت مرتجف: أيوه يا علي.
ارتفع صوت علي جليا وهو يهتف: عمر أوعى تفكر تهوب بصاحبك ناحية القسم ولو حالته تسمح ياريت يمشي حالا من المستشفى.
تسرع ياسين بالرد جزعا: هو في أيه يا سيادة الرائد.
هتف علي متفاجئ بسماع ياسين له: دكتور ياسين، (محاولا إنتقاء كلماته بهدوء) طبعا حضرتك عارف أننا جيران من زمان ومصلحتكم تهمني، ده غير أن عمر وياسر أكتر من الأخوات.
قاطعه ياسين بنفاذ صبر: مفيش داعي للمقدمات دي، ممكن أعرف في أيه بالظبط.
تنحنح علي حرجا وهو يغمغم بتردد: أنا بس عايز حضرتك تكون واثق أني خايف على ياسر، لكن أنا مش هاقدر أقول أكتر من اللي قولته، أرجوك قدر موقفي.
توسله ياسين خوفا على أخيه: أرجوك يا سيادة الرائد أنا لازم أعرف في أيه بالظبط.
لمس بصوته خوفه على أخيه وربيبه وتصور نفسه بموقفه، فأجابه علي باستسلام: حضرتك تعرف المستشار عبد المجيد الحاوي.
ياسين مستغربا علاقة ذلك الشخص بما هم فيه الأن: مش ده عضو مجلس الشعب.
أجابه علي موضحا: مش عضو مجلس الشعب وبس ده كمان من أشهر المحامين (مشمئزا) بيسموه الحاوي من كتر الاعيبه القذرة لأنه في الحقيقة محامي قذر بيستغل ثغرات القانون وحصانته ونفوذه والمشبهوين من كل مجال عشان مصلحة موكله سواء ظالم أو مظلوم.
صاح ياسين بنفاذ صبر: وأيه علاقة البني أدم ده باللي حصل لياسر.
أجابه علي بتردد وخفوت: قبل ما عمر يتصل بيا كان هو وصل القسم تقريبا قبلها بنص ساعة وبلغ عن واحد حاول يقتل مراته وأختها بس هما ضربوه على دماغه وهربوا واتنقلوا للمستشفي لان حسب كلامه الزوجة حالتها خطر لان الزوج اجهضها غير محاولاته لخنقها هي واختها لما حاولت تدافع عنها.
أزدادت ثورة ياسين غير مراعيا أن علي يحاول مساعدته فقط: واحنا علاقتنا ايه بالقصة دي.
زفرعلي وهو يدلو بما يثقل صدره: الزوجة اللي قدمت البلاغ تبقى مدام نجوى وأختها تبقى مدام سلوى مدام حضرتك.
لم يستوعب ياسين معنى كلماته لتتردد بعقله عدة مرات لإستيعابها ليفغر فاهه وهو يردد بعدم تصديق: مستحيل.
لانت لهجة علي شارحا وقد أشفق عليه لحرج موقفه: لما عمر كلمني انا شكيت لانه لما الحاوي وصل حكى مجمل الموضوع وكان في انتطار التقرير الطبي عشان يضمه للمحضر، واللي لفت نظري وقتها أن المنطقة اللي ذكرها تبقى حوالين بيتنا، عشان كده لما عمر كلمني قلقت وقولت له يستنى عشان كنت حابب أتأكد، واستنيت لما التقرير وصل واطلعت عليه، وطبعا أنا أعرف مدام سلوى وأختها ووالدهم بحكم جيرتنا كلنا حتى قبل جوازها من حضرتك.
هدر ياسين صارخا مكذبا ما يسمعه فحبيبته لا تفعلها وشقيقه كذلك: باقولك مستحيل.
علي محاولا إنهاء الحوار الذي ندم على خوضه من البداية ويخشى عواقبه على عمله: انا عارف صدمة حضرتك وانا المفروض مكنتش بلغت حضرتك بحاجة زي دي بس لاني عارف ياسر كويس ده غير ان كمان عارف قذارة الحاوي وألاعيبه، خصوصا أني لاقيت التقرير صادر من نفس المستشفى القذرة اللي بيتعامل معها في قضاياه المشبوهة، فنصيحة من أخ، اخوك لازم يختفي الحاوي حبايبه كتير والف مين يتمنى يخدمه، وطبعا ياريت سيرتي متجيش وحضرتك تقدر أني كان قصدي أساعد.
غمغم ياسين بكلمات مبهمة وهو يستند لحافة فراش أخيه مسقطا الهاتف بجواره، ليسانده عمر بقلق مجلسا أياه على أقرب مقعد، ليلتقط بعدها الهاتف منهيا الحديث وهو يطمئن أخيه واعدا أياه بعدم توريطه أو ايذاءه بعمله بأي شكل من الأشكال.
❈-❈-❈
تمدد ياسر فوق فراشه يئن متحسسا رأسه بألم، بعدما فرغ من قص كل شيئ على صديقه وشقيقه، وبينما عمر بدوره يخبره ما وصل إليه عن طريق شقيقه علي، كان ياسين بعالم أخر يخوض حرب داخلية، فقلبه يرفض ما سمعه بينما عقله يمرر أمام عينيه شريط من ذكريات متفرقة يربط بعضها بما سمع مسترجعا حزنها الجلي وجمودها معه أيام خطبتهما، والذي بررهما بظروفها العائلية، وعدم اعتيادها عليه رغم عقد قرانهما.
……………..
اندفعت السيدة البسيطة بعفوية: لا يا حبيبتي متقلقيش على شوارها، ده أنا من سنين كل شهر باستقضى لها حاجات واشيلها، ده أنا جايبة لها طقم الألمونية وهي في سنة ستة.
اطلقت سلوى ضحكة مدوية لتنتبه فجأة لخطأها، وتحاول كتم ضحكاتها بلا جدوى، تحت نظرات ياسر القلقة وهو يرى التحفز والضيق بعين محبوبته، والحرج بأعين والديها وشقيقه بينما ذهل ياسين فهو أعلم الناس بزوجته وأن ضحكتها هذه تحمل رنة مستفزة أكثر مما تحمل من مرح خاصة وهو يلمح بعينيها تلك اللمعة الخبيثة وهي تلمح استنفار دعاء وغضبها، ولكنه صمت عازما تقريعها عند عودتهما للمنزل ولكن فعلة أخيه وذلك الإتفاق الأخرق والتعجيل بموعد الزواج الهاهه عن كل هذا.
……………..
بمجرد أن قص عليها حديثه مع أخيه انتفضت سلوى بثورة: يعني هو اتلكك بضحكي غصب عني وعمل اللي في دماغه، وأنت بعد ما كنت داخل تحاسبه على اللي عمله هناك راجع تقولي أنك وافقت وباركت له كمان.
ياسين متذكرا سعادة أخيه بموافقته: ياسر مش صغير يا سلوى، وبعدين أزاي أعترض على تصرف سبق وأنا نفسي عملته.
سلوى باهتياج غير مبرر وهي تلقي بما تطاله يدها أرضا: أنت بتقارني أنا بدي، بعد كل اللي مستحملاه معك بتذلني بأن أبويا مجهزنيش، لا يا دكتور مفيش وجه للمقارنة ولو اتحاسبنا فأنت لسه مديوني بكتير قوي.
……………..
راقبها وهي تشرف على تنظيم المائدة متعجبا؛ فبعد كل ثورتها هدأت فجأة بل وأصرت على دعوة أسرة دعاء، ليزداد شعوره بأنها تخطط لشيئ ما، ولكنه تجاهل شعوره وهي تقترب عليه بابتسامتها الخلابة تسأله بثقة: أيه رأيك بقى في المستوى.
تسائل بدهشة وهو ينظر للمائدة بانبهار: أيه ده كله، ده أوبن بوفيه مش غدا، هي أيه الحكاية بالظبط.
هندمت رباطة عنقه وهي تبتسم بتلاعب: يعني أنا غلطانة أني باشرف أخوك قدام نسايبه، ولا أنت خايف أنهم مايعرفوش هما بياكلوا أيه.
تغاضى عن تلميحها الأخير لمستوى أهل دعاء سعيدا بهدؤها ورضاها: لا طبعا يا قلبي، ربنا ما يحرمنا منك.
ابتسمت بغموض وهي تردف بلهجة هازئة: أما نشوف بقى رد العزومة، وهما كمان هيشرفوا بيه ولا.
……………
ـ استني يا نوجا.
هتف ياسين مستوقفا نجوى التي كانت تهم بالخروج، لتعيد غلق الباب وهي تلتفت إليه باهتمام: في حاجة يا أبيه.
التقط ياسين مفاتيحه وهو يتحرك نحوها: أنا كده كده نازل بعد نص ساعة فسيبي ياسر النهاردة وأنا هوصلك.
هيئ له بأن وجهها قد شحب وتقلصت ملامحها، ولكن صرف انتابهه عنها نداء سلوى من خلفه: استنى يا ياسين عايزاك، روحي أنت يا نجوى عشان ما تتأخريش عن درسك.
اسرعت نجوى بالخروج مهرولة بينما التفت هو لزوجته بحب: اؤمري يا قلبي.
ابتئست ملامحها بعبوث مزيف وهي تقترب واضعة يدها فوق كتفيه وهي تهمس بدلال: قلبك أيه بقى وأنت الساعة اللي فاضي فيها عايز تسيبني وتنزل، وأنا اللي أفتكرت أنك ماهتصدق وتقعدها معايا.
اتسعت عينيه بدهشة فمنذ دقايق كانت منشغلة عازفة عن التحدث معه، متسائلا عن سر تغيرها المفاجئ، ولكن عبث يدها المحيطة برقبته بشعره، أطاحت بكل تساؤلاته وتعقله معها.
……………..
انهى ياسين محادثته الهاتفية وهو متعجب من ملامح زوجته المنقبضة لتهتف محتدة بمجرد إنهاءه المحادثة: أنت بتكلم مين، وأيه حكاية السواق دي بقى؟

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية اليمامة والطاووس)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *