روايات

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الفصل الأول 1 بقلم رحمة نبيل

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الفصل الأول 1 بقلم رحمة نبيل

رواية ما بين الألف وكوز الذرة البارت الأول

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الجزء الأول

ما بين الألف وكوز الذرة

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الحلقة الأولى

اضواء تلتمع في الإرجاء، أصوات تصفيق حارة، صيحات مُعجبة وأخرى مُشجعة، صوت احتكاك معدات التصوير بالارضيات اللامعة، وهتاف المخرج من خلف الكاميرات والذي يرن صداه في تلك السماعة الصغيرة المزعجة التي أجبروه على وضعها في أذنه قبل بدء البرنامج.
أغمض عينه يحاول تحمّل كل تلك التفاصيل المزعجة، فهو ورغم وظيفته كصحفيّ، إلا أنه يومًا لم يتعرض لكل تلك الاضواء التي تحيط به، لم يسبق له أن أصبح في موضع الاستجواب …
أخرجه صوت المذيع من شروده طارحًا عليه سؤال سبق ورفضه قبل بدء الحلقة وأكد عليهم ألا يتناقشوا معه به، وهم رضخوا له، لكن يبدو أنهم يحبون التلاعب، ولم يدركوا أنه سيد التلاعب …
” السؤال الأهم واللي الكل بيسأله، هل فعلا الشخص المُشار ليه في مقالك الاخير هو نفسه الشخص اللي الجمهور خمنه ؟؟
بسمة واسعة ارتسمت على فمه، ليست سعيدة كما تظهر للجميع، بل أخرى، بسمة لا ترتسم أعلى فم صلاح السقاري، إلا حينما يبلغ غضبه مبلغه، لكن رغم ذلك لم يسمح لذلك المتملق الذي يحب إثارة الجدل هو وبرنامجه من النيل منه :
“والله الإجابة على سؤالك ده تقدر تعرفها من الجمهور، لأنه هو اللي خمن مش انا ”
ارتفع حاجب المذيع في حنق واراه بشكل مدروس خلف بسمة دبلوماسية مصطنعة :
_ بس المقال بتاعك، وكل الأدلة اللي فيه بتشير على سعيد الاشموني وإن كلامك عن الفساد في المقال مُوجه ليه هو بالتحديد .
ارتاح صلاح في جلسته اكتر يجيب ببساطة كبيرة، وكأن الأمر عادي او لا يعنيه من الأساس :
_ أنا شايف أنك أنت اللي بتتهم سعيد الاشموني بالفساد دلوقتي مش مقالي، اصرارك الشديد على زجّ اسمه في المقال بيخليني اشك أنك أنت اللي حابب تشهر بيه مش انا .
صمت ثم أكمل ببساطة شديدة وإقناع حتى أنه كاد يصدق افتراءه :
” السؤال هنا، هل يا ترى فيه مشاكل بينك وبين سعيد الاشموني، عشان تصر على اتهامه، وبتحاول تداري اتهامك ورا مقالي وتخمين الجمهور زي ما بتقول ؟!
صدمه الرد وبشدة حتى أنه وللحظات نسى تمامًا ما تعلمه من أساليب ضبط النفس، وتجاهل أن يلجم صدمته وهو يشهق على الهواء بشكل رسم بسمة أوسع على فم صلاح الذي وضع قدم أعلى الأخرى، وقد التمعت عيونه السوداء بشكل مخيف، لكن مازال يحافظ على هيئته الهادئة المنمقة، وجاءه الرد قويًا من المذيع :
” ازاي تقول كده؟! على أي أساس بتتهمني اتهام زي ده ؟!”
” على نفس الأساس اللي اتهمتني بيه إن مقالي موجه لسعيد الاشموني ”
التمعت عين ذلك المذيع الأربعيني بشر شديد، وما هي إلا ثواني حتى سمع أمر الاعداد في سماعته يُطالب المذيع بفاصل اعلاني .
ها هو حقق هدفه، أرادوا إحضاره ووضعه بين المطرقة والسندان، معتقدين أنه غبي حتى يقع في فخهم، ولا يدركون أنه لطالما لعب لعبتهم تلك عند رغبته في استدراج أحد الأشخاص لفخه لنيل سبق صحفي مثير للجدل .
نهض صلاح يغلق زر بدلته التي تألق بها دون أن يتقيد برابطة عنق، وبذقن حليقة بها بعض الشعيرات التي ارتصت لتكون لحية خفيفة منمقة .
رمى نظرة على الجمهور الذي يملء الاستوديو حوله، فقد كان ذلك من نوع البرامج التي تحتوي جمهور، حياهم بنظرة هادئة وبسمة راقية، ثم تحرك خارج منطقة التصوير بكل هدوء ..
تابعه المذيع بأعين تطلق شرار يتحرك بعنف شديد صوب الكواليس يخفف من عقدة رابطته، يحاول أن يبتلع ما حدث منذ ثواني، فها هو صاحب الاربعين عامًا، والذي لم يستطع ضيف طوال سنوات عمله كمذيع أن يفلت من مصيدته، أتى ذلك الشاب الذي لم يكد يتم السابعة والعشرين من عمره وفجر كل ذلك على الهواء مباشرة وأمام الجميع، موقعًا إياه في مصيدته الخاصة.
سمع مساعده خلفه يلومه بصوت خفيض بعدما جذبه بعيدًا عن الجميع :
” بلغت حضرتك بلاش هو، الواد ده مش سهل، اللي يخليه بيخبط في كبار البلد في مقالاته ومش هامة حد، عمره ما يخليه يسكت لكلامك ”
نظر له مدحت بحنق :
” ليه فاكر نفسه مين ؟! ده حتة كاتب وصحفي محدش سمع عنه غير بعد كتابه الاخير والمقالة اللي لسه نازلة من يومين، أنا عارف الاشكال دي كويس وعارف أنه عمل كده مخصوص عشان يتشهر زيه زي أي واحد بيعمل حوار عشان يبقى تريند.”
زفر مساعده بغيظ من عناده وتسلطه، يظن أن الجميع يخضع لسماع اسمه، ويرضخ لرؤية محياه، لكن ذلك الشاب والذي رآه لمرته الاولى منذ شهور ورأى كيف يتحدث، علم أنه ليس بالشخص الهين ..
____________________
كان صلاح يتحرك في ممرات القناة يستغل وجود فاصل اعلاني لمحادثة شقيقه العزيز ونصفه الآخر، النصف الذي سيتسبب في دمار نصفه الخاص .
أخرج هاتفه، بينما تحركت أصابعه برشاقة تفك من زر بذلته يخرج من المكان عبر باب زجاجي وأثناء ذلك أبصر سيدة تقترب من الباب حاملة حقائب عديدة، فانتظر حتى أتت وهو يمسك لها الباب راسمًا على فمه بسمة واسعة راقية هادئة مردفًا بصوت متزن :
” اتفضلي ”
منحته السيدة بسمة ممتنة معجبة برقيه ولباقته :
” شكرًا ”
هز رأسه بهدوء مانحًا إياها بسمة أخرى آسرة، يراقبها تتحرك من أمامه ببطء وهي تنظر له، بينما هو اعتدل في وقفته ينتبه لمكالمته ينتظر أن يجيبه ذلك البلاء الذي يُسمى توأمه ..
وعلى الجانب الآخر في ممر طويل، لا يتحرك به سوى القليل فقط من أصحاب الثياب المنمقة والمظاهر الراقية، عداه هو، فقد كان بمظهره وثيابه تلك كنقطة سوداء وسط لوحة بيضاء، كان شكله في ذلك المكان بين هؤلاء الأشخاص متناقض بشكل منفر ، بنطاله الممزق من فوق ركبته وحتى أسفلها ببضع سنتيمرات، وسترته البيضاء التي يتوسطها رسومات غريبة، شعره الهائج وكأنه مرر به يده مرات ومرات، كل ذلك هو ما صنع لصالح السقاري شهرته كشخص بوهيمي في مكان عمله .
كان يتحرك وهو يضع قلم في فمه يحمل بين يديه ورقة يراقبها بهدوء، حتى توقف أمام باب زجاجي ودون أن يرفع عينه حتى، دفعه بقوة غير مهتمًا أنه بفعلته تلك الصق إحدى زميلاته في الجدار خلفها، حتى أضحت تشبه رسمة على الجدار .
ارتفعت تأوهات الفتاة وهي تتذمر بصوت عالي :
” مش تاخد بالك يا دكتور وأنت ماشي ”
لوح صالح بيده في الهواء دون أن ينظر لها وهو يقول :
” لا مش باخد ”
أنهى حديثه ينحرف نحو أحد الغرف التي تقع في نهاية الممر يقبع أمامها حارس نائم.
دخل ليشعر ببرودة كبيرة تتحرك عبر جسده، حرّك عينه في الغرفة التي تحتوي العديد والعديد من الادراج، يبحث عن رفيقه وزميله الوحيد الذي يتحمل فظاظته هنا ..
” أنت قاعد بتعمل ايه يا محمود ؟! أنا بعتك تجهز الشغل لغاية ما اجيب التقرير، وحضرتك قاعد ولسه مبدأتش في حاجة ؟!”
تحدث المدعو محمود والذي كان يجلس على مقعد جوار طاولة طولية تتوسط الغرفة وهو يقول بجدية وبين يديه تقبع سيجارة :
” أصل لما جيت اشتغل، معتصم قالي أنه مش قادر دلوقتي، أصله سهران من امبارح”
رفع صالح حاجبه يضم الورق لصدره يبحث بعينه في المكان عن ذلك المعتصم الذي عطّل سير عمل صديقه المتفاني :
” معتصم مين يا عيوني ؟؟”
أشار محمود على جسد الرجل الذي يتوسط الفراش، والذي كان من المفترض أن يبدأ العمل عليه وهو يقول :
” معتصم ده ”
أشار له صالح ببسمة ساخرة وقال يحاول كبت حنقه :
” الجثة ؟!”
فتح محمود عينه بصدمة وهو ينظر للفراش وكأنه تفاجئ من الأمر للتو :
” يا راجل هو مات ؟؟ ده لسه كان بيكلمني من شوية، لا حول ولا قوة إلا بالله ”
أنهى حديثه يرفع كفه ممرًا إياه أعلى عين الجثة أمامه وصوته يردد بحزن صادق :
” ارقد في سلام يا معتصم ”
نعم، لهذا السبب هو الوحيد الذي يتحمله في هذه المشفى؛ لأنه لا يعي شيئًا معظم الوقت بسبب تلك السجائر الغريبة التي يستنشقها، أو لا يهتم بشيء ولا يعنيه أمر.
اقترب منه صالح يجذب السيجارة من فمه ملقيًا إياها ارضًا داهسًا إياها وهو يشده بغيظ من ثيابه :
” شوفت الدنيا، فانية يا اخ محمود”
قربه أكثر مرددًا من بين صفوف أسنانه التي اصطكت بنفاذ صبر:
” فوق يا غالي أنت شغال في مشرحة مش في مستشفى الحميات، واللي على السرير ده مش اسمه معتصم، دي جثة المفروض تتشرح ”
أبعد محمود يده وهو يقول بجدية بعدما تخلى عن دور التائه :
” يا عم عارف بس انا ملقتش ليه اسم أناديه بيه، فسميته معتصم وهو عجبه للعلم، بعدين أنا قولت ادردش معاه لغاية ما تيجي ”
رفع له صالح حاجبه وهو يتركه بحنق، يعلم جيدًا أن لا أحد يفوز على محمود في الحديث، ذلك المتحذلق الذي يفضل لعب دور الابله، رغم كل ذكاءه، اقترب من باب يتوسط الجدار والذي كان مرحاض، يدخله ليتعقم ويرتدي قفازاته يضيف بهدوء :
” طب جهز معتصم لغاية ما اطلع ..”
تحرك محمود صوب الطاولة الطولية بخطوات جادة ثم ارتدى قفازاته وبدأ العمل بكل حرفية وإتقان، حمل مشرط، يحدق بالجثة ثواني قبل أن يضع مشرطه على معدته شاقًا إياها حتى بداية صدره، في اللحظة التي خرج بها صالح وهو يقترب منه مرددًا :
” شوفت التقارير بتاعته ؟!”
” أيوة، مكتوب أنه اتقتل بطلق ناري، رصاصتين واحدة في منتصف الصدر والتانية على بُعد ثلاثة سنتي من القلب ”
مدّ صالح يده يعبث في الجثة أمامه بشكل مدروس، يعلم جيدًا ما يفعل، فهو إن كان يجيد شيئًا في حياته تلك فهو حمل المشرط والتشريح، تلك الوظيفة التي سعى لها بكامل رغبته، واستغل معارف والده وكل ما يملك كي يُقبل في العمل كطبيب شرعي، أو ما يسميه البعض “مشرحجي “، اختار تلك الوظيفة بكامل إرادته، مفترضًا أنها تليق ببدائيته الواضحة.
” وأنت شايف ايه من النظرة الأولى كده ؟! الرصاصتين هما اللي قتلوه ؟؟”
هز محمود رأسه نافيًا يجيب كعادته من عالمه الموازي :
” لا طبعًا ده اكيد مسموم، معتصم حكالي إن مراته عقربة ومش بتطيقه، اكيد حطت ليه سم في الأكل وخلصت منه ”
وتلك النظرة التي حصل عليها من صالح كانت كفيلة بجعله يصمت، ولم يكد الاخير يتحدث حتى قاطعه رنين هاتفه، نفخ بحنق وهو يبعد يده من الجثة أمامه، ليس وكأنه كان يعبث بأحشائها منذ قليل، نزع قفازه يستل هاتفه من جيبه مجيبًا :
” الو ”
وصل له صوت شقيقه من الجانب الآخر وهو يقول بجدية :
” الو يا صالح، أنت رجعت البيت ؟!”
” لا لسه مشغول شوية مع معتصم ”
انعقد حاجبا صلاح بتعجب :
” معتصم مين يابني ؟! مش اسمه محمود ؟! أنت صاحبت واحد حشاش تاني ؟؟ مش كفاية صاحبك البايظ ده ؟!”
” لا معتصم مش صاحبي، ده الجثة ”
فتح صلاح عينيه، ثم هز رأسه بلا اكتراث يتنهد تنهيدة متعبة :
” طيب اسمع عشان أنا احتمال أتأخر، لو رجعت البيت بدري متسيبش المفتاح في الباب الله يكرمك مش كل مرة يطلع عيني لغاية ما اصحيك أنت أو الزفت التاني تفتحوا ليا ”
حرّك صالح عينه بملل يراقب صديقه الذي جذب مقعده وجلس جوار معتصم يتحدث معه حول مشاكله الأسرية؛ محاولًا أن يصلح بينه وبين زوجته العقربة مخبرًا إياه أن يسامحها على قتله، فالبيوت جميعها زاخرة بالمشاكل، ولا يجب أن يغضب من زوجته ويهدم منزله فقط لأنها سممته ..
” بعدين يا معتصم يا خويا ده أنت تحمد ربنا، أنت احسن من غيرك، ده اسماعيل بتاع الاسبوع اللي فات كان جاي يا حبة عيني قطع بعد ما مراته خلّصت عليه”
صمت محمود يراقب ملامح معتصم يتحدث بجدية محاولًا إقناعه بوجهة نظره :
” فمتجيش أنت تتقمص عشان سمتك وبعدين ضربتك رصاصتين، متبقاش قماص، عشان بيرجعوا يشتكونا على الفيس ويقولك الرجالة نكدية اكتر منهم ”
أبعد صالح انتباهه عن رفيقه الاحمق، فهو يدرك جيدًا أنه الآن يحلق في عالمه الموازي رفقة معتصم، عاد لأخيه يجيبه بهدوء :
” طيب يا صلاح يا حبيبي، ها عملت ايه في اللقاء بتاعك؟! الدنيا تمام معاك ؟!”
سمع صالح زفرة حانقة من فم شقيقه وهذا ما لم يسره، فأن يصل صلاح لمرحلة الحنق ليس بالأمر الهين، وإن حدث لا يمكن إعادته بسهولة لحالته الطبيعية :
” المذيع المحترم جايبني عشان يكسب مشاهدات على حسابي، بس تمام، ده انا هخليه يندم على اللحظة اللي فكر فيها يطلبني لمقابلة تلفزيونية ”
تمتم صالح بصوت خفيض :
” أنت هتقولي ربنا ما يوقعنا تحت ايدك ”
” بتقول ايه ؟! ”
” بقولك وأنت جاي متنساش تجبلنا عشا معاك، لاحسن أنت عارفني مش باكل أكل الشغل هنا ”
لوى صلاح فمه بتقزز، يحاول دفع ذلك الشعور المقيت الذي يتلبسه بمجرد حديث شقيقه عن عمله :
” يا أخي أنا مش عارف اساسا أنت بتطفح ازاي وأنت عايش بين الجثث اللي عندك دي، بزمتك مش بتقرف منهم ؟!”
نظر صالح للجثة التي تتوسط الطاولة وقد عاد محمود للعمل عليها مرة أخرى بعدما يأس من إتمام الصلح بين معتصم وزوجته يمسك بيده احشاءه وقد امتلء قفازن بالدماء:
” يا صلاح يا حبيبي، الوظيفة دي هي اجمل وظيفة في الدنيا، يكفي أن الزبون هنا، دايما ساكت ومش بيشتكي، وأي حاجة بتعملها فيه بيكون راضي عنك ومش بيديك تقييم نجمة من خمسة ”
ثواني وسمع صلاح صوت نسائي خلفه يردد برقة شديدة :
” استاذ صلاح، لو سمحت ممكن تتفضل لأن هنرجع تاني على الهوا يا فندم ”
هز صلاح رأسه وهو يردد بلطف ورقي شديد :
” تمام، استأذنك تسبقيني وانا وراكِ يا آنسة ”
أنهى صالح المكالمة مع أخيه وهو يلتفت للجثة مجددًا حتى يباشر بها العمل مرة أخرى، لكن فجأة فتح فمه بصدمة وهو يرى محمود يفتح أحد الإدراج الفارغة التي تُحفظ بها الجثث مخرجًا منها عبوة مثلجات يتناولها دون الاهتمام لما كان يفعل وهو يهمهم بتلذذ كبير .
سخر صالح في رأسه من أخيه :
” وصلاح بيقول عليا مقرف، كويس أنه مشافش اللي بتعمله كان كتب فيك مقالة وسماها( محمود هلوان) للقذارة عنوان ”
_____________________
اصوات قرع حوافر الحصان تطرق الأرض الاسمنتية اسفله، سرعة مخيفة تجعل البعض يخشى حتى الاقتراب من مسار تحرك ذلك الحصان، فالأمر لا يعتمد أنه لن يتوقف وقد يحطم عظامهم أسفل حوافره، بل لأن الفارس الذي يمتطيه، لا يرى الآن أمامه أحد بعد نقاش عنيف خاضه للتو..
واعلى ظهر الحصان، كان جسدٌ يتحرك للأعلى والاسفل بقوة كبيرة عيون بنية ضبابية تطوف في باحة القصر الفسيحة لا تهتم لمن حولها، ولا لذلك الهواء القوي الذي ابعد وشاحها كاشفًا عن خصلات سوداء نافست سواد الليل، تتحرك يمينًا ويسارًا بقوة وصوته يتردد في أذنها، ضربات قلبها تعلو بقوة وهي تأبى أن تبطء حتى حركتها، لقطات من ماضي بعيد تتحرك أمام عينيها تغطي على رؤيتها، اصوات صرخات متلاحقة وصيحات مرتعبة وكلمة واحدة يتردد صداها في أذنها ( حريـــق)، حريق أحال ماضيها لرماد، كما أحال تلك الصغيرة الرقيقة لمهرة شرسة مرعبة…
وبعد ساعات وساعات شعرت بالتعب وقد بدأت قطرات العرق تتدحرج أعلى وجهها، بدأت تبطء من سير الحصان حتى توقف تمامًا.
افتر ثغرها عن بسمة واسعة وهي تميل عليه مقبلة إياه هامسة :
” فكرني احلي بُقك بحتة سكر يا سكر ”
صهل الحصان وكأنه فهم كلماتها، ابتسمت له، ثم أبصرت عامل الاسطبل يقترب منها ليساعدها على الهبوط، لكنها تجاهلت يده وهي تقفز عن فرسها الحبيب بكل رشاقة، رامقة العامل بعبث كبير :
” خد بالك منه واكله كويس ”
تحركت بخطوات رشيقة صوب مقدمة القصر، تعيد لملمة خصلات شعرها مستخدمة رابطة الشعر المطاطية التي تزين معصمها، بمجرد أن خطت ارض القصر الرخامية حتى ابصرته يجلس بكل كبرياء على الأريكة يرمقها ببسمة جانبية؛ ها هو سبب غضبها وحنقها الذي جعلها تخرج لامتطاء فرسها في ذلك الوقت .
لكن لم تسمح له بالتحدث معها كلمة واحدة، ليس بعدما قضت ساعات تحاول تناسي سبب شجارهما، وقبل أن تتحرك خطوة واحدة سمعت صوته يتحدث بقوة :
” اتمنى تكون الجولة الليلة طفت نارك وهدتك شوية يا ميمو ”
التفتت له تعطيه بسمة أطاحت بكل آماله في أن يحيل ليلتها لحزن، اقتربت منه بخطوات جعلته يرسم بسمة صغيرة أعلى فمه، وبمجرد أن وصلت له قالت بهدوء شديد لا تمتلك ذرة منه :
” تسلم يا سعودي، أنا بقيت زي الفل يا حياتي، المهم أنت تاخد دش حلو كده وتقعد على سريرك تاخد شهيق وزفير لغاية ما نارك أنت تنطفي”
أنهت حديثها تعتدل في وقفتها، ثم تحركت بسرعة صوب الاعلى تاركة سعيد ينظر لاثرها بحنق شديد.
لا يصدق أن تلك الصغيرة المتمردة تحاول أن تعصيه، كل يوم شجار وغضب وتحطيم في أثاث المنزل لأجل فتاة لم تبلغ حتى الخامسة والعشرين من عمرها تريد التمرد عليه وصنع مشاكل له، نفخ بغيظ يحاول أن يهدأ قبل أن يسمع صوت رنين هاتفه، فتحه ليجد رسالة وصلت له من مساعده تخبره أن يفتح التلفاز على محطة معينة.
تحرك سعيد صوب الشاشة الضخمة التي تتوسط الجدار يحرك أصابعه أعلى جهاز التحكم قبل أن تتعلق عينه بصورة ذلك الشاب الذي يثير ضجة حول اسمه مؤخرًا ..
ارتفع صوت صلاح من التلفاز بينما يحاور المذيع بجدية وخبث :
” والله كل فاسد عارف أنه فاسد، أنا بس بفكره بأصله مش بتهم حد بحاجة مش فيه”
كان يتحدث وهو ينظر للشاشة وكأنه يعلم أن سعيد يراه، ارتسمت بسمة مرعبة على فم سعيد وهو يعض شفتيه وأفكاره تتلاطم داخل عقله قبل أن يغمض عينه وهو يردد :
” شكل الليلة دي مش هتعدي على خير، أولا الست ميمو وبعدين حتة الحشرة ده، تمام ..”
_________________
بعد ساعات من العمل خرج الاثنان من غرفة التشريح، يتحركان في ممرات المشفى بين أيديهما تقبع عدة أوراق خاصة بتلك الجثة التي جاءتهما بأمر من الشرطة لتشريحها، ومعرفة كل ما حدث معها ليوصلها لتلك اللحظة …موتها .
كانت هناك بسمة واسعة ترتسم أعلى فم محمود بفخر وعينه تمر على الأوراق في يده بعدما أنجز رفقة صديقه تلك المهمة بكل يسر :
” شوفت، قولتلك مات مسموم، معتصم مش بيخبي عليا حاجة، التشريح أثبت أن المرحوم بعض أعضاءه توقفت قبل تلقي الرصاصة الأولى من اساسه، وبالنظر للعلامات على جسمه فأكيد ده تسمم ”
هز صالح رأسه يوافق رفيقه الرأي، فما اكتشفوه يثبت صحة حديثه، أو بالأحرى حديث معتصم .
” بدأت اصدق أنك فعلًا بتكلم الاموات ”
ضحك محمود يحرك رأسه بعشوائية وعينه الزرقاء كمياه بحر انعكست عليها شمس صباح حار، بينما خصلاته الشقراء بعض الشيء مبعثرة بشكل شابه خاصة صالح يقول بهدوء :
” أنا مش بكلم الاموات، أنا بسافر ليهم وبرجع تاني ”
هزّ صالح رأسه بيأس على رفيقه وما يفعله، وفي تلك اللحظة أبصر بطرف عينه فتاة تنتفض بمجرد رؤيتها له في الممر وكأنها رأت شبحًا، تلتصق في الجدار لتبتعد عنه، ثم ركضت بعيدًا، بينما صالح كل ما فعله هو أنه اشتمّ نفسه بتعجب :
” هو فيه ايه ؟؟ ”
نظر محمود لأثر الفتاة بشفقة :
” مش دي السكرتيرة الجديدة في قسم الإدارة ؟؟ هي لحقت تعرفك ؟؟”
” مش فاهم يعني ايه تعرفني ؟! هو حد قالها اني بعض ؟؟”
انطلقت ضحكات محمود على تذمر صديقه، ليس وكأنه يجهل نفسه أو ما شابه، بل لأنه لا يود الاعتراف أنه إنسان غير مؤهل للتعامل مع الجنس الناعم :
” لا، حد قالها ايه بس ؟! دول حدود يا حبيبي، ده انت مفيش ست هنا إلا ولسانك اللي زي الساطور ده علّم على وشها ”
وملامح الاستنكار المعتادة ارتسمت على وجه صالح، الذي يرى أن ردات الفعل تلك مبالغ بها، هل لأنه يتحدث براحة مع النساء دون لجم جماح لسانه، يتجنبه الجميع بهذا الشكل ؟!
ارتفع صوت محمود مضيفًا :
” وكمان الدكتورة سجدة خطيبتك المصون السابقة، ساهمت أنها تحسن صورتك عن قد إيه أنت إنسان مراعي لطيف ”
ارتسم الحنق واضحًا أعلى ملامح صالح بمجرد ذكر اسم تلك الخائنة التي رفضت تحمله اسبوعين فقط :
” بس متقولش خطيبتي، دي واحدة أنانية وبيّاعة، عمومًا هي اللي خسرانة بكرة تندم”
“تندم ايه يا حبيبي ؟! دي البنت يا عيني وزعت شوكولاتة غالية يوم ما فسخت معاك الخطوبة، ده أنت مشوفتش الفرحة اللي كانت على وشها يومها، ولا كأنها كانت أسيرة حرب وتم الإفراج عنها ”
فتح صالح فمه للتحدث، لكن محمود قاطعه بغلاظة :
“متبررش أنا عارف كل تبريراتك، هي اللي مفترية يا حبيبي ، مش فاهم ازاي واحدة متحمدش ربنا على النعمة اللي معاها، ازاي تنسالك أنك كنت اول واحد تبعتلها تورتة بمناسبة عيد ميلادها ؟!”
هز صالح رأسه بحنق يتقبل مواساة صديقه برضى :
“والله قعدت ساعة على جوجل اختار ليها صورة تورتة تلات ادوار باللون اللي هي بتحبه، وفي الآخر شافت الصورة ومردتش ولا عملت لايك حتى .”
” لا ازاي تعمل لايك وتبوظ البوست بتاعك اللي كان كله اضحكني، و اللي حضرتك نشرته على جروب عيلتها بعد اسبوع من عيد ميلادها اللي رفضت تروحه .”
نظر له صالح بطرف عينه يرفض أن يتحدث له محمود بهذه النبرة التي تظهره كشخصٍ وقحٍ حقيرٍ :
” ما أنت عارف مليش في الحلويات والاغاني هروح اعمل ايه هناك؟! بعدين ما أنا بعت ليها هدية .”
” اممم، بعتلها مجموعة برفانات ومزيل عرق وبادي لوشن، ده أنت كنت ناقص تبعتلها صابونة وليفة وحجر مغربي .”
فتح صالح فمه، لكنه عاد واغلقه، ثم قال دون تفكير :
” ما هي اللي قالتلي أنها اكتر حاجة بتهتم بيها هي النضافة والريحة الحلوة، بعدين أنت عارف انا مكلف كام في الحاجات دي ؟!”
” وده ملفتش نظرك لحاجة ؟!”
نظر له صالح بجهل ثواني ليصرخ محمود في وجهه :
” بتقولك أنت يا اهبل، بتقولك أنت تنضف يا معفن .”
ومجددًا اشتم صالح رائحته بشك، ليجد أن مزيل العرق الذي وضعه صبيحة اليوم عقب استحمامه مازال يؤتي مفعولة :
” بس انا ريحتي مش وحشة .”
” لكن معفن، دايما شعرك هايج ولابس مقطع زي الشحاتين.”
نفخ صالح بعدم اهتمام :
” والله هو ده اللي عندي، بعدين غيّر الموضوع .”
ابتسم له محمود بسخرية وهو يدخل معه لأحد المكاتب والتي كانت تعود لهما رفقة شخص ثالث وقال :
“نغير الموضوع، قولي بقى هنعمل ايه بعد الشغل”
______________________
ومع انتهاء حلقة البرنامج استقام صلاح في وقفته يمنح الجميع بسمة واسعة اعتاد التألق بها، متحركًا صوب الخارج يعترضه مجموعة من الجماهير التي كانت حاضرة اللقاء، يحملون كتبًا له مطالبين إياه بالتواقيع والتقاط الصور .
رسم صلاح بسمة واسعة على فمه يتلقى الشكر والمدح بنفسٍ راضية، يُعامل تلك بلباقة ويمنح تلك كلمات راقية، ويتحدث مع هذا بألفاظ مختارة، كان هكذا طوال الوقت، وسيظل …
شعر صلاح بشابٍ _يرتدي ثياب الأمن _ يقف جواره حاملًا هاتفه وهو يوجه أنظاره نحو شاشته يتحدث بفخر وسعادة :
” اهو يا حبيبتي عشان تصدقي قولتلك أن الكاتب اللي بتحبي كتبه جاي القناة عندنا انهاردة ”
نظر له صلاح ببسمة لطيفة يراه يسجل مقطعًا مصورًا عنه لفتاة وعن مقدار إعجابها بكتاباته، قبل أن يستدير له الفتى متحدثًا برجاء :
” معلش يا استاذ احمد ممكن تعمل معايا فيديو قصير عشان ابعته لخطيبتي، اصلها مش مصدقة أنك موجود هنا واني شوفتك ”
ضيق صلاح ما بين حاجبيه بتعجب، يحاول إدراك ما يقصد ذلك الفتى، لكنه لن يمنحه الفرصة لذلك وهو يجذبه من كتفه حتى يقرب وجهه من الكاميرا، ثم تحدث وهو يسجل مقطعًا مصورًا لخطيبته :
” اهو يا منال استاذ احمد توفيق اللي بتحبيه، عشان لما اقولك إني شوفته تصدقي، قولها كلمة يا استاذ احمد لاحسن دي بتحب اوي مسلسلاتك خصوصا مسلسل رفعت اسماعيل ”
كان جسد صلاح متشنجًا وهو يستمع لكل ذلك العبث الذي يخرج من فم ذلك الابله، أي احمد توفيق وأي مسلسل هذا؟! بالطبع لا يقصد أنه دكتور احمد خالد توفيق ؟!
ولم يمنحه الشاب الفرصة للانغماس أكثر في حيرته وهو يجذبه من شروده :
” ها يا استاذ احمد قولها حاجة، عشان تصدقني ”
ابتسم صلاح بسمة واسعة وهو ينظر للهاتف يقول بهدوء مثير للضحك :
” اهلًا يا آنسة منال، مع حضرتك الدكتور احمد خالد توفيق الله يرحمه، ياريت بعد كده متتكلميش عن الكتب مع خطيبك، وياريت لو متتناقشيش معاه اساسا ”
ابتسم الشاب وهو يغلق المقطع المصور، ثم استدار لصلاح يصافحه جاذبًا إياه ليقبل وجنته كرفيق قديم :
” تسلم يا استاذ أحمد، طلعت متواضع والله ”
هو لا يمزح وهذا ليس مقلبًا إذًا ؟! هذا الفتى يظنه دكتور أحمد خالد توفيق رحمة الله عليه ؟؟ حقًا؟!
” يا بني أنت اهبل ولا بتهزر ولا بتعمل ايه ؟! احمد مين ؟! أنا اسمي صلاح ”
تفاجئ الشاب وهو يشعر كأنه غُدر به للتو :
” صلاح مين؟! يعني حضرتك مش احمد خالد توفيق ؟”
ضرب صلاح كف بكف متعجبًا من ذلك الشاب الذي يبدو كما لو أنه من عالم آخر، فمن لا يعرف دكتور احمد خالد توفيق وأنه رحمة الله عليه توفي منذ أعوام ..
” يابني دكتور احمد خالد توفيق الله يرحمه مات ”
شهق الفتى متراجعًا بصدمة كبيرة للخلف لا يصدق ما سمعه للتو :
” ازاي ده كان لسه عامل المسلسل من سنتين تقريبًا، سبحان من له الدوام، وأنا اللي كل ده مستني الجزء التاني من المسلسل ”
اغتاظ منه صلاح ولم يدرك ما يجب قوله، لكنه دفع الشاب بعيدًا وهو يردد بحنق :
” بقولك ايه روح كلم منال، اجري يا حبيبي ”
تركه الشاب ورحل وهو يتمتم بحزن، فهو لا يكذب، هو لا يهتم بالروايات وعالمها ولا يحب القراءة حتى، ولم يسمع عن أحمد خالد توفيق إلا من خطيبته، لا يعلم من هو ولا يعلم ما يفعل سوى أنه كاتب مشهور وقد كتب مسلسلًا تلفزيونيًا نال إعجابه واعجاب والدته، والآن اكتشف أنه ميت، لهذا لم تصدقه منال حين أخبرها أن كاتبها المشهور سيأتي لعمل لقاء في القناة التي يعمل كرجل أمن عليها.
زفر صلاح وهو يمسح وجهه يحاول أن يهدأ مجددًا، يعيد اهتمامه للباقي من معجبيه، يوقع لهذا ويلتقط صورة مع ذاك ..
اقتربت منه فتاة تضم كتابًا لصدرها وكأنه حبيبٌ غائبٌ، توقفت أمامه بأعين ملتمعة تمد له كتابه الاخير وهي تقول بحب ظهر واضحًا بين احرف كلماتها الهائمة :
” أنا بحب كتابات حضرتك جدا، بجد كل حرف بتكتبه جميل اوي”
امسك منها صلاح الكتاب يردد بهدوء ولطف :
” ربما، لكن اكيد مش هينافس جمالك آنستي ”
إن سقطت الآن في هذه اللحظة ارضًا مغشيًا عليها، هل سيتهمها البعض بالمبالغة ؟! كاتبها المفضل ومثلها الاعلى جاملها للتو واصفًا إياها بالجميلة، قفز قلبها داخل صدرها بعنف، تقول بشغف دون أن تتحكم في لسانها :
” بجد مش مصدقة اني شوفتك، أنا جاية لحضرتك مخصوص من اسكندرية، عشان اخد توقيعك على الكتاب ده، أنا حضرت جميع المعارض واخدت توقيع حضرتك على كل الكتب أنا بجد مش مصدقة ”
ابتسم لها صلاح بلطف كبير، يُقدّر الحماس في صوتها، بل ويمتن له كثيرًا :
” اشكرك يا آنسة …”
” مروة، اسمي مروة ”
خطت انامل صلاح اسمها في الكتاب يكتب لها اهداء راقي بخط منمق، بينما يتحدث بكلمات مختارة :
” شكرًا على ذوقك ولطفك يا آنسة مروة، كلامك شرف كبير لي صدقًا، ومجيئك للقاهرة مخصوص لحضور اللقاء، شيء اقدره، وعشان كده هقولك خبر حصري محدش يعرفه لسه ”
أنهى حديثه يتحدث بنبرة منخفضة وهو يقترب منها قليلًا، مع الابقاء على مسافة بينهما هامسًا بصوت خافت :
” قريب هاجي أنا اسكندرية بنفسي لحضور مؤتمر ادبي، هنتظر اشوفك هناك ”
وبمجرد انتهاء كلماته اعتدل مانحًا إياها غمزة مشاكسة وكأنها رفيقة قديمة، ثم تحرك للخارج بهدوء تاركًا إياها ما تزال في صدمتها، تشعر بأنها على وشك السقوط ارضًا من الصدمة ..
ولم تفق إلا على يد رفيقتها التي هزتها بملل :
” مروة، أنتِ يابنتي، اخلصي اخويا مستني برة عشان نرجع اسكندرية، يلا لأحسن هو جاي على عينه اساسا ولو يطول هيرمينا في البحر وهو ماشي”
نظرت لها مروة بصدمة وقالت :
” قالي أنه جاي اسكندرية ”
” هيطلب ايدك ولا ايه ؟!”
اومأت لها بنفي تقول ببسمة متسعة :
” لا عشان مؤتمر ادبي”
لوت صديقتها شفتيها بسخرية وهي تتحرك معها خارج المكان حيث تصطف سيارة شقيقها الذي أجبره والدها على المجئ واحضارها هي وصديقتها المهووسة بذلك المُسمى ” صلاح السقاري “، خرجت من المبنى :
” كل ده عشان بس قالك أنه جاي في مؤتمر؟! اومال لو جاي طالب القرب منك ؟!’
دفعت الفتاة مروة للسيارة وهي تقول بجدية :
” خلينا نرجع عشان هموت وانام ”
وعلى مقربة من تلك السيارة كانت تقبع سيارة صلاح الصغيرة، صعد إليها بتعب وبمجرد أن استقر خلف المقود، حتى رسم بسمة واسعة مخيفة وهو يهنئ نفسه على إنجازه اليوم، صفّر بسعادة يتحرك بالسيارة صوب شقته التي يقطنها رفقة أخيه وصديق طفولتهما، تلك الشقة التي استقر بها الثلاثة منذ أعوام حينما هجروا قريتهم الريفية في إحدى مناطق محافظة الجيزة، فهم الثلاثة ينحدرون من أصول ريفية خالصة، أتوا للمدينة هنا لتحقيق أحلامهم بدعم من ابائهم فقد كان والده هو وصالح الصديق الأقرب لوالد رائد، صديقهم الثالث والذي يعمل شرطيًا هنا ..
وعلى ذكر رائد تعجب صلاح أنه لم يتحدث معه منذ الصباح، وهذا أثار تعجبه فهو كصالح لا يتوقف عن ازعاجه .
أخرج هاتفه يرى إن كان اتصل به اليوم ولم ينتبه، لكن لا شيء، عقد حاجبيه بتعجب :
” ايه اللي حصل ده ؟! يا ترى رائد متصلش ليه ؟!”
توقف بالسيارة في إحدى إشارات المرور وهو يتصل برائد لمعرفة ما مر به طوال اليوم، لكن أثناء ذلك أبصر بطرف عينه على جانب الطريق شاب مُلقى ارضًا كالخرقة البالية يحمل بين يديه سيجار ميّز نوعه بكل سهولة، احتدت عينه وهو يتنفس بعنف يحاول أن يتجاهل الأمر فامثال ذلك الشاب مترامين في كل الأزقة كالمهملات وما من رقيب.
تحرك بسيارته بمجرد أن أضاءت الإشارة، لكن بعد دقائق لم يتمالك نفسه وعاد بالسيارة حيث لمح الشاب، توقف بها يهبط من السيارة متحركًا صوب ذلك الشاب بخطوات مخيفة وبمجرد أن وصل له انحنى يجلس القرفصاء جواره يرمقه بنظرات مثيرة للريبة، والشاب لا يعي ما يحدث حوله، هو فقط يستند برأسه على الجدار خلفه منتشي من تلك المواد التي بدأت تفعل الافاعيل برأسه، يشعر بالتنميل ينتشر على طول جسده مسببًا له شعورًا رائعًا.
ابتسم له صلاح وهو يقول بهدوء :
” حلوة مش كده ؟؟ شعور جميل صح ؟؟”
رمقه الشاب دون اهتمام، أو هو لا يملك سلطة على أعصاب جسده ليظهر اهتمامًا لما يقول، هو فقط كل ما يستطيع التحكم به أن يحتفظ بالسيجارة بين أصابعه كي لا يفوت رشفة واحدة بها .
غامت عين صلاح بشكل مخيف يجذب وجه الشاب له يقول بأعين التمعت بوميض مخيف مقربًا إياه منه :
” بعد ساعتين من دلوقتي هتحس كأن عضمك متكسر وبعدين هتلف زي الكلب اللي مش لاقي عضمة تدور على سجارة تانية وتالتة ورابعة”
صمت يهمس بفحيح وكأنه مهتم حقًا بما يفعل ذلك الشاب :
” يا ترى اهلك فين ؟! سرقت مين فيهم ولا قتلت مين عشان تقعد تشرب كده؟!”
نظر له الشاب بخدر كل ما استطاع إخراجه هو :
” أنت مين وعايز ايه مني ؟؟”
ابتعد عنه صلاح واقفًا ينظر له من عُلياه، يراقب مقدار الدمار الذي يحوم حول ذلك الشاب، شعور بالشفقة والمقت والاشمئزاز يملئه :
” قوم روح بيتك، فوق لنفسك وبطل اللي بتعمله في نفسك ده، بلاش تضيع نفسك وتضيع عيلتك عشان دقايق من الانتشاء ”
نظر له الشاب بتعجب ولم يفهم ما يريده منه ذلك الغريب، هل يعرفه حتى ليقف متبجحًا هكذا أمامه يأمره أن ينتبه لحياته ؟؟
بينما صلاح حاول أن يُذّكر نفسه أنه لن يحرز شيئًا من وقوفه في منتصف الطريق لنصح أحد مدمني المخدرات، هو لن يستطيع فعل ذلك، حتى وإن استطاع فكم واحد سيستمتع له، وكم شخص سيعود لرشده ؟! لا طائلة لما يفعل، الحل لكل ذلك واحد، وهو يعلمه، سينزع كل ذلك من جذوره..
ارتسمت بسمة مخيفة على فمه، يتحرك صوب سيارته وفي رأسه يردد اسماء متتالية، اسماء كل من سوّلت له نفسه ليكون له يد في إدخال تلك السموم بلاده، وهو يعلم جيدًا بمن سيبدأ .
_______________
يسير في ممرات مركز الشرطة الجميع يحيه باحترام شديد ويبتسم له بفخر، هكذا كان طوال الوقت موضع احترام، ومضرب مثل في دائرته، فهو اللواء رائد سليمان، نعم لا تتعجب رائد رغم عمره الذي لم يتعدى الثامنة والعشرين، إلا أنه استمر في الترقي خلال مهماته العديدة ليصل لهذه الرتبة..
ابتسم ينظر حوله لهؤلاء الضباط الذين يشجعونه ويرفعون أيديهم له في تحية وتقدير، هز رأسه لهم ببطء وهناك بسمة صغيرة ترتسم على فمه دون أن يكلف نفسه عناء رد التحية، توقف أمام مكتب في أحد الممرات تعلوه يافطة نُقش عليها اسمه مسبوقًا برتبته ( اللواء رائد سليمان ).
فجأة سمع صوت مرتفع يناديه من نهاية الممر باسمه منفردًا دون رتبته، رفع حاجبه بتحفز وهو ينظر لنهاية الممر باحثًا عن مصدر الاسم الذي يتردد صداه في المكان بأكمله.
وفجأة ارتفع الصوت أكثر لينتفض رائد من جلسته على المكتب الخاص به صارخًا بفزع وهو ينظر في المحيط ..
ثواني مرت وعيونه تحاول أن تستوعب ما تراه، أين هو ؟! لقد كان لتوه في أمام مكتبه الذي يحتوي لافتة باسمه مسبوقة بلقب لواء، هل كل ذلك حلم ؟؟؟؟؟
انتفض أثر سماعه صوت رفيقه في المكتب وهو يردد :
” يابني أنت فين بقالي ساعة بفوقك، سيادة اللوا باعت عايزك ”
نظر له رائد بأعين ناعسة ووجه احمر به بعض العلامات التي نتجت عن نومه الطويل أعلى مكتبه الحشبي، لتصبح كما لو أنها طُبعت على وجنته :
” لواء ؟! هو فيه لواء هنا غيري ؟؟”
تشنج رفيقه ينظر حوله بعدم فهم :
” غيرك مين لامؤاخذة؟! أنت لسه نايم ؟! فوق يا رائد أنت لسه نقيب يا حبيبي يعني قدامك سكة سفر على لواء دي، يلا روح شوف اللواء لأنه شكله مش مبسوط ”
نهض رائد من مكانه يحاول أن يعدّل من ثيابه والقهر يملئه، لقد كان لواء للتو كان الجميع يحترمه، والآن عاد لواقعه الأليم، حيث يحارب لنيل تريقة عفنة تضعه على أول طريق السلطة والقوة .
امسك سلاحه يضعه في جيب بنطاله، يعيد خصلات شعره البنية الناعمة للخلف، وعينيه التي تتشابه مع خصلاته تلتمع بالحسرة، يتجه خارج مكتبه بخطوات قوية، لكن فجأة وقف في طريقه يستمع لرنين هاتفه، رمق الاسم الذي يتوسط شاشته ليجده صلاح …
“الو يا صلاح ”
” ايه يا رائد، من الصبح مسمعتش ليك صوت كنت بتعمل ايه ؟!”
احتقنت ملامح رائد بغيظ وهو يؤدي التحية في طريقه لجميع أمناء الشرطة وغيرهم، فرتبته كنقيب لا تسمح له بالتباهي الآن؛ لذا صبرًا حتى تتم ترقيته لرائد وحينها سيدهس كل هؤلاء الحمقى الذين يعبثون معه كل يوم بشكل خانق .
” مفيش يا صلاح بس كانت عندي مناوبة من الصبح ورجعت من شوية نمت من غير ما احس .”
وصل له صوت صلاح عبر خط الهاتف حينما اصبح على أعتاب مكتب اللواء :
“أنت لسه هناك ؟! أنا فكرتك روحت من بدري أنت وصالح، حتى صالح اتصلت بيه ولسه في الشغل .”
توقف رائد قليلًا يتحدث معه متجاهلًا استدعاء اللواء العاجل له وقال :
“خلاص آخر حاجة اهو هشوف اللواء استدعاني ليه وهرجع، جهزوا أي أكل بدل المرار اللي كل شوية اطفحه ده .”
تعالت ضحكات صلاح عبر الهاتف لتزيد من حنقه ويغلق الهاتف في وجهه يطرق الباب منتظرًا تقريع ما قبل النوم كالعادة، فهو لا ينام قرير العين إلا إذا تم توبيخه قبل النوم وبعد الاستيقاظ .
سمع صوت اللواء يأذن له بالدخول، رسم بسمة على وجهه فاتحًا الباب وصوته يعلو بمزاح :
“مساء الخير يا فندم حضرتك استدعتني ؟؟”
وبرؤية تلك النظرات التي تعلو وجه اللواء أدرك رائد أي مساء سيعيشه الآن، تمتم في سريرته بحنق :
” يا معين يارب، ادينا هنبدأ اهو ..”
وبمجرد انتهاء كلماته حتى ارتفعت صرخات اللواء بصوت هز اركان المركز بأكمله :
” ازاي يا حضرة النقيب المتهم المسؤول عنه يهرب بدون علمي ؟!”
” يا فندم يمكن مكانش عنده وقت يستأذنك، يا دوبك يلحق يهرب قبل معاد الترقية بتاعتي ”
كانت كلماته خافتة، بل تكاد تكون بينه وبين نفسه ساخرًا من حاله الذي يدعو للرثاء، لكن يبدو أن همساته تلك زادت في اشتعال غضب مديره الذي صاح بجنون :
” بتقول ايه يا حضرة النقيب سمعني ؟؟؟؟”
ها نحن ذا رائد، استمتع بأمسية شاعرية، أنت واللواء وتقريعه فقط، أوليس ذلك رومانسيًا ؟؟
__________________
كان أول الوافدين لشقة الشباب الاكثر شهرة في الحي هما صالح ومحمود.
دخل صالح رفقة محمود لمنزله يُلقي المفاتيح على الطاولة الصغيرة المجاورة لباب المنزل، ثم خلع حذاءه ملقيًا إياه في الردهة لحقها بسترته التي ألقاها بلا اهتمام على الأريكة، رامقًا صديقه بتحذير :
” هدخل اخد دوش مش عايز ارجع الاقيكِ بتعاكس في الشمعدان ولا بتكلم التلاجة ”
أشار له محمود بعدم اهتمام، ثم تحرك ملقيًا جسده على الأريكة التي تقبع أمام شاشة تلفاز عريضة يخرج سيجارة قام بحشيها ببعض النباتات الغريبة التي وجدها في معمل والده؛ فقد كان والده واحدًا من اشهر علماء النباتات والجينات في هذه القارة، وهو استغل ذلك خير استغلال، فلم يكن ما يستنشقه هو الحشيش المعروف، بل نباتات غريبة مجهولة التكوين تعطيه نفس الشعور وقد كان يبرر ذلك لنفسه أنه لا يتعاطى سوى نباتات .
في تلك اللحظة عاد صلاح ودخل للمنزل يحمل حقائب كثيرة، وقبل أن يخطو للصالون اتجه للمطبخ واضعًا الحقائب أعلى الطاولة، ثم خلع حذائه واضعًا إياه بترتيب في مكانه، ليرى أثناء ذلك حذاء أخيه الغوغائي ملقى بإهمال جانبًا، زفر بحنق وهو يحمله واضعًا إياه جوار خاصته .
دخل للصالون ليبصر ذلك الفاسد محمود يتوسط اريكته الطاهرة ملوثًا إياها بافعاله الرعناء، اتجه له بغضب ملحوظ :
” أنت يا حيوان، كام مرة اقولك مش عايز المح سجايرك المريبة دي جوا بيتي ؟! هو أنا احارب الفساد برة البيت اجي الاقيه نايم على الكنبة عندي ؟!”
رفع له محمود عينه وهو يقول ببسمة واسعة :
_” الاه ؟! أنت سرحت شعرك اخيرًا، والله ما مصدق اللي شايفة، بس مكانش له لزوم البدلة يعني، لكن ماشي لايقة عليك .”
” بدلة ايه وسرحت ايه ؟! أنا صلاح يا بايظ، قوم من مكانك واطلع برة بيتي حالًا ”
رفع له محمود نظره يحاول أن يفهم ما قال، في نفس اللحظة التي سمع الجميع صوت فتح الباب ودخول رائد وهو يصرخ :
” الاكل يا صلاح ميت من الجوع .”
لم ينزع صلاح عينه عن ذلك الفاسد وهو يقول بخبث :
” بقولك يا رائد يا حبيبي، مش أنت عايز تترقى من زمان ؟؟”
سمع صوت رائد الذي امتلء لهفةً خلفه راكضًا صوبه:
_ ترقية ؟؟ أنت قولت ترقية ؟؟ ليه هتسلم نفسك وتقول أنك أنت اللي هربت المتهم اللي كنت بحقق معاه ؟!
نظر له صلاح بتعجب شديد :
” هرب تاني ؟! هو أنت يابني حظك قليل كده ليه مفيش مجرم بيدوم لك ؟!”
التوى فم رائد بقهر يلقي بجسده جوار محمود الذي كان يحلق في عالمه الموازي لا يهتم بشيء حوله، بل هو الآن يطير رفقة اسماك السالمون في سماء تكساس الملبدة بالغيوم، ذاهبين لإنقاذ المفتش كرومبو من أسر المغول ..
سحب رائد السيجارة من يد محمود بوجع، ظنًا أنها سيجار عادية كالتي يرتشفها من حين لآخر حين غضبه كالان، وقال بغضب :
” انا حاسس أن ده كله مؤامرة عليا، حاسس أن حد متعمد يعمل كده فيا ..”
أنهى حديثه يسحب بعض الدخان لرئتيه تحت أنظار الصدمة من صلاح الذي لم يكد يتخذ خطوة لمنعه مما يفعل حتى سمع صوت طرق على الباب خلفه تبعه صوت جهوري يعلمه تمام العلم يردد :
” احنا شكلنا جينا في وقت مش مناسب يا حاج سليمان، تلاقي العيال رجعت من الشغل تعبانة وناموا”
زاد قرع قلب صلاح يستمع لصوت والده في الخارج، معه والد رائد؛ الذي بدأ يحلق مع محمود الآن .
في اللحظة التي خرج بها صالح من المرحاض يلتف في منشفة وهو يردد بجدية ناظرًا لأخيه كما لو أنه يحدق في المرآة ويرى نفسه فلا فرق بينه وبين صلاح سوى اسلوب كلٍ منهما في الملابس والمعيشة :
” صلاح أنت جيت امتى ؟! بعدين إيه الخبط ده ؟! ما تفتح .”
ولم يكد يفعل شيء حتى وجد صلاح ينتفض من مكانه وهو يمسك يده ناظرًا في عينه بريبة، يهمس بصوت خفيض ملقيًا كلماته بغضب جحيمي :
” صاحبك الفاسد قاعد يحشش جوا والغبي رائد أخد منه السيجارة وبقى طينة زيه .”
ورغم حنق صالح مما حدث إلا أنه قال مطمئنًا :
” متقلقش ده مش حشيش اصلًا وهما واعيين بكل شيء هو بس السيجارة هتخلي هرمون السيروتونين زايد حبتين، و خلال عشر دقايق هتلاقيهم زي الفل وعادي ”
قاطعه صلاح بغيظ وهو يهتف واعصابه تنتفض بغضب شديد :
” عشر دقائق ؟! احنا لو متصرفناش خلال عشر ثواني هنروح في داهية كلنا، ابوك وعمك سليمان واقفين على الباب دلوقتي.”
نظر الاثنان بصدمة صوب الأريكة حيث يتسطح محمود ورائد بشكل مزري، في نفس اللحظة التي ارتفع بها صوت سليمان _ والد رائد_ بحنق :
” اوعى كده شوية يا مرتضى أنا معايا نسخة من المفتاح ………”
__________________
ثم؟؟؟؟
لا تفترض الكثير فهذه فقط مجرد بداية لرحلتنا ..

 

يتبع..

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية ما بين الألف وكوز الذرة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *