روايات

رواية صرخات أنثى الفصل الثاني والثلاثون 32 بقلم آية محمد رفعت

رواية صرخات أنثى الفصل الثاني والثلاثون 32 بقلم آية محمد رفعت

رواية صرخات أنثى البارت الثاني والثلاثون

رواية صرخات أنثى الجزء الثاني والثلاثون

صرخات أنثى
صرخات أنثى

رواية صرخات أنثى الحلقة الثانية والثلاثون

(اللهم إني أعوذ بك من عينٍ تصيب القلب فتُحزنه والرزق فتُنقصه، والبال فتتعبه والنجاح فتُفشله.. واخرجني اللهممن أشد الضيق إلى أوسع الفرج، واجعلني اللهم مِمَّن نظَرت إليه فرحمته وسَمِعت دعاءه فأجَبته، وأخرجنا اللهم من حولنا إلى حولك ومن عزمنا إلى عزمك ومن ضعفنا إلى قوتك ومن انكسارنا إلى عزتك ومن ضيق اختيارنا إلى براح إرادتك)
انتهى “عمران” من ارتداء بذلته السوداء الآنيقة، وأخر ما وضعه ليكتمل طالته الجذابة كان البرفيوم الخاص به، وزعه على ذقنه النابتة ورقبته واستدار ليغادر مرددًا بحبٍ:
_مايا حبيبتي أنا نازل وعلي هيجيبك زي ما أتفقنا.
طلت برأسها من خلف زجاج خزانتها المنفصلة تخبره باستياءٍ:
_وليه متستناش لما أجي معاك؟
أجابها وهو يعقد ساعته حول معصمه بتركيزٍ:
_لإني لازم أعدي على الشركة الأول، في صديق ليا سبته في عهدة أستاذ ممدوح وزمانه حاليًا بيستغيث.
تمردت ضحكة مشاكسة على وجهها، وتركت فستانها وخرجت تضم خصره مستندة برأسها على صدره هامسة بسخرية:
_ مين صاحبك البائس ده اللي وقع في طريقك وطريق أستاذ ممدوح؟
إهتز جسده بخفة تأثرًا بلمساتها، فاستدار يحيطها بذراعيه وهو يتنعم بقربها ونظرات عينيها المهلكة، فوجدها تترك كل كلمة احتفظت بها له وأخذت تتأمل ثيابه ووجهه بانبهارٍ فشلت بأخفائه، فقالت بتذمرٍ:
_إنت رايح حفلة افتتاح ولا رايح تدور على عروسة فحابب تلفت الانتباه؟
عاد بوجهه للخلف من شدة ضحكاته، واستقام قبالتها فور انتهائه ليخبرها بخبث:
_أنا بلفت الإنتباه دايمًا من غير أي مجهود يا بيب، بس أنا كعُمران مش عايز حد من الصنف الناعم غير حبيب قلبه!
واستكمل بغمزة ماكرة:
_اللي الغيرة هتطق من عينها من اللحظة اللي واقفة فيها قدامي لحد ما نرجع هنا تاني.
ومال عليها يفترس ملامحها بنظراته الدافئة، ويهمس بصوتٍ كان مغريًا يحارب كل لحظة صمدت بها أمامه:
_لو حابه نكسنل الخروجة دي وندبس علي أنا معنديش أي مانع يا بيبي!
أبعدت يديه عنها واتجهت للخزانة تردد بضحكة مرحة:
_وصاحبك اللي وقع في مصيدة أستاذ ممدوح ده! لا طبعًا حرام تقسى عليه بالشكل ده، روح خرج صاحبك ونبقى نتكلم بعدين.
مرر يده بين خصلاته الطويلة يصففها أمام المرآة وهو يردد بجدية تامة:
_أنا اللي تعمدت أخد أيوب للخطوة دي، أولًا أستاذ ممدوح خبرة وهو السبب الأساسي بعد ربنا سبحانه وتعالى للي أنا وصلت ليه وبفضله كان زمان نعمان لسه بيستغفلنا وبيضربنا على قفانا وهو متأكد إني عيل صغير مش هيكشف تلاعبه بالميزانية والمشروعات اللي بيتتممها من غير ما يسيب وراه أي ورق، ولسه في شيء مبهر هيفرحه أوي خصوصًا لما يعرف إن المشروع اللي جاي من مصر عشانه أنا رفضت أمضي العقود النهاردة والخبر زمانه رايحله.
واستطرد وهو يراقبها حائرة بالاختيار بين الفساتين المعلقة من أمامه:
_ثانيًا أنا وديت صاحبي لاستاذ ممدوح لإني عارفه كويس وعارف إنه هيكون شبه اللي في السجن ال٢٤ساعة شغل وده اللي أنا عايزه لإن أيوب مدبس نفسه في مصيبة هتجبله مشاكل ملهاش أخر، عشان كده أخدته بنفسي لعنده.
استدارت “مايسان” إليه تطالعه باهتمامٍ، فوجدته ينزوي بين أغراضها، يجذب بنطال أسود ينتهي ساقيه باتساعٍ، وقميصًا أبيض اللون، قدمهما لها وغادر لخزانته ليعود لها بجاكيت أسود يخصه، فرده من أمامها وهو يردد بحيرةٍ:
_أعتقد ده ممكن يكون مقاسك.. هو ضايق عليا حبتين يبقى هيناسبك.
التقطته منه وهي توزع بصرها بين القطع بحيرةٍ، فسألته بتوتر:
_ملبستش الاستيل ده قبل كده.. مش عارفة هيبقى حلو عليا ولا أيه؟
جلس على حافة السراحة وببسمة جذابة قال:
_أنا هحكم حلو ولا وحش.
اتسعت ابتسامتها وأسرعت بغلق باب الخزانة لترتدي ما تحمله بيدها بلهفةٍ، اتسعت حدقتيها بانبهارٍ من تناسق ملابسها المختارة، لدرجة جعلت لسانها عاجز عن الحديث، تجزم بأن زوجها هذا هو أعظم انتصارًا لها كأنثى تحتار بكل مناسبة طارئة ماذا سترتدي؟
فتحت “مايسان” الباب وخرجت تتدلل محدثة صوتًا بكعب حذائها الأبيض المرتفع، لتلفت انتباهه عن هاتفه المستقبل رسالة من “سيف” الذي يبحث عن صديقه “أيوب” بقلقٍ وصل للأخير من نبرته المرتشعة المسجلة بمقطع صوتي، فبث طمأنينته له حينما أخبره بأنه برفقته وسيعود به بعد خمسة عشر دقيقة.
ابتعدت عينيه عن الهاتف ليرى تلك الفاتنة الرقيقة، ببنطاله المتسع من الأسفل وتتاسق قميصها مع جاكيته، وكأنها اليوم تتعهد له بأنه لن يغادرها، تستخدم كل سحرها لتفتك به بشكلٍ يجعله يود أن يكون ندلًا يتخلى عن “يوسف” بمناسبة هامة كتلك، وعن “أيوب” المحتبس بوكر البشمهندس “ممدوح”!
طال صمته مما جعله ترتبك، فسألته بريبة:
_وحش؟
عمران؟
نهض عن السراحة يتجه إليها، فدار حولها مطلقًا صفيرًا شمل إعجابه الشديد بها، رفع” عمران” يدها يحثها على الدوران بين يديه هامسًا بصوته الذكوري:
_عمران مسكين قدام جمال حبيب قلبه..مايا هو إنتِ مش عايزانا نروح المشوار ده فبتعملي فيا كده عشان أخد أنا القرار؟
تسلل لها مفهوم حديثه المحرج فهزت رأسها نافية باستحياءٍ:
_لأ…. إنت اللي مختار اللبس مش أنا.
رفع أحد حاجبيه بسخطٍ:
_مهو المصيبة إن أنا!
تنحنح وهو يحاول الثبات بوقفته رغم انحراف رماديته عليها، فأشار وهو يتجه سريعًا للفرار:
_طيب يا بيبي أنا هروح أنقذ أيوب وانتِ كملي لبس وانزلي.. علي مستنيكِ.
وإلتفت يغمز لها بخبث:
_هيجمعنا لقاء تاني.
أغلقت الباب من خلفه ويده تمسد على قلبها الذي يكاد يقفز من خلفه، زاد من حبال عشقه حولها وتركها ضعيفة تحارب كل تلك الأحاسيس المرهفة وكأنها تلك المراهقة التي وقعت في حبه منذ إن كانت في الثانية عشر من عمرها.
اتجهت للسراحة تستكمل ارتداء حجابها وابتسامة هيامها به لا تفارقها، فودت لو تمكنت من الجلوس بمفردها تتذكر كل كلمة ونظرة شملها به منذ قليل حتى لا تنسى أي لافتة صغيرة حدثت بينهما!
*******
ارتبكت “فاطمة” للغاية حينما وجدت “فريدة” تقف خلفهما، وتتساءل باسترابةٍ:
_إنت تقصد خالك بالكلام ده يا علي؟
تهدلت شفتيه بابتسامة هادئة، ودنى ليصبح بالقرب من والدته هاتفًا بمكرٍ:
_فريدة هانم حمدلله على السلامة.
واقترب منها متفحصًا لما ترتديه بإعجابٍ انطبع على نظراته ومعالمه باجتيازٍ:
_أيه الجمال ده كله، حضرتك كنتِ في سهرة ولا بتقيمي البيت… مش ممكن دايمًا شيك حتى في أبسط خروجاتك مش كده ولا أيه يا عمي؟
منع “أحمد” ظهور تلك الابتسامة على شفتيه، فحك أنفه وإتجه يميل بقامته الطويلة تجاهه هامسًا:
_ده أنت اللي عمي!
وتنحنح رافعًا من صوته:
_طبعًا يا علي فريدة هانم طول عمرها شيك ومحافظة على جمالها بشكل مش طبيعي إسالني أنا!
ربعت يديها وعينيها تتوزعان بينهما بنظراتٍ مفترسة جعلت “شمس” و”فاطمة” تسيطران على ضحكتهن بصعوبة.
نزعت فريدة قبعتها وهي تعيد السؤال بطريقة أكثر حدة:
_علي بطل بكش وجاوبني تقصد مين بكلامك ده؟
مال أحمد يخبره بحزنٍ:
_حاولت أساعد بس إنت عارف إن فريدة مبتتثبتش!
أكد علي بإيماءة رأسه، وقرر اللجوء لطريقة عمران المشاكسة، فقال ببسمة هادئة:
_مفيش أنا بس كنت بهزر مع فطيمة ومقصدتش بكلامي حد!
اتجهت نظراتها لفاطمة التي هزت رأسها أكثر من مرة وابتسامتها تزداد بطريقة زرعت الابتسامة على وجه فريدة فتخلت عن اصرارها لمعرفة الحقيقة، فاستغل أحمد الفرصة وأشار لها بحنان:
_بعد الجولة المرهقة دي تحبي نطلع نرتاح شوية في جناحنا يا فريدة هانم؟
تسللت حمرة الخجل على وجهها، فخطفت نظرة سريعة لعلي فوجدته يمنحها ابتسامته الدائمة، لذا منحته يدها واتجهت برفقته للمصعد، بينما استقلت شمس الدرج قائلة:
_بتمنالكم سهرة سعيدة.. تصبحوا على خير.
وما كادت باستكمال طريقها حتى اعترض عمران طريقها، اختلس نظرة شملتها وهبط ما تبقى بينهما مرددًا بغموضٍ:
_شكلك انبسطي من المشوار اللي كنتي فيه… للدرجادي عجبك البيت الجديد؟
لعقت شفتيها الجافة بتوترٍ اتبع منهج نبرتها المهتزة:
_هااا.. آآه… جدًا بيت مريح وذوقه عالي جدًا يا عمران.
اتسعت ابتسامته وانحنى لآذنيها يهمس لها:
_خدي بالك من المدخل أصله بابه لسه معلق!
واستكمل على نفس منواله:
_هتغاضى عن اللي حصل عشان لو علي عرف هيزعلك وميهنش عليا زعلك.
اتسعت حدقتيها بخوفٍ، وهزت رأسها بخفة، انتصب عمران بوقفته ومد يديه يعدل من الوشاح الملتف حول رقبتها، فأحاط بأصابعه السلسال، اتسعت ابتسامته الخبيثة ورفع أهدابه يواجهها بكلماته البطيئة:
_زي ما سمحت إنه يوصلك قادر أقطعه حولين رقبتك لو حسيت إنك هتسغفليني يا شمس، هسامحك المرادي عشان ماما وعمي كانوا معاكي مرة تانية تروحي فيها الشقة دي هزعلك بجد.
أدمعت عينيها تأثرًا بسماعها نبرة جديدة يخوضها معها عمران لأول مرة، فتابع وهو يجذبها لتقف على نفس مستوى الدرج، وأحاطها بين ذراعيه يسترسل همسه بحنان مبالغ به:
_مش هعتذر على طريقة كلامي معاكي لإن ده خوف عليكي..فريدة هانم غلطت لما أخدتك معاها هناك.. أنا عايزك عزيزة وغالية يا شمس حتى لو كان الشخص ده عارف قيمتك وفاهم دماغك.. مينفعش أديله أكتر من فرصة وأقول مش هيأخد عني فكرة سيئة… بتمنى تكوني فهمتي كلامي.
أبعدها عنه يزيح دموعها فوجدها تبتسم له وتخبره بصوتٍ يطمسه البكاء:
_فهمت.. وأوعدك مش هتتكرر تاني.
منحها ابتسامة هادئة وانحنى يطبع قبلة على جبينها قائلًا:
_شوفي مذكرتك.
هزت رأسها بطاعةٍ واستكملت طريقها للأعلى، بينما هبط الاخير للأسفل، فتفاجئ بأخيه يجلس بالصالون جوار زوجته، فقال باستغرابٍ:
_إنت لسه مغيرتش هدومك يا علي؟
نهض عن الأريكة يشير له:
_كنت مستنيك… تعالى.
إتجه إليه عمران بدهشة، خاصة حينما نهضت فاطمة تقف قبالته، تفرك أصابعها بحرجٍ طفيف، فقطع صمتهما علي الذي ردد:
_فطيمة مصممة تعتذرلك عن اللي حصل الصبح، وأنا بحاول أفهمها إنك رغم وقاحتك وقلة أدبك بس قلبك أبيض.
زم شفتيه بضيقٍ، وردد ساخرًا:
_ولزمتها أيه تختمها بالقلب الأبيض ما بكمالة الجملة بقى!
سدد له نظرة أخرسته فحك جبهته يهمس بسخط:
_هيبرقلي بقى مهي ناقصة!!
وتجاهله وهو يتطلع لزوجة أخيه يمنحها ابتسامة دافئة يبدد بها ارتباكها الظاهر له، وقبل أن يعرضها لاحراج اعتذار تقدمه له قال:
_أنا مزعلتش من اللي حصل علشان تعتذري يا فاطيما، وبعدين أنا سبق وقولتلك إنك بالنسبالي زي شمس بالظبط ومفيش بيني وبين أختي اعتذار أو مبررات باللي حصل، صدقيني أنا مش زعلان.
رفعت عينيها المحتقنة إليه، وبتلعثمٍ وارتباك قالت:
_لأ أنا كنت قليلة الذوق معاك يا عمران ولازم أعتذر.
هز رأسه نافيًا وصاح:
_مفيش داعي تعتذري لشيء تافه يا فاطيما.
وبمكرٍ استرسل:
_بس لو مصرة يبقى تعمليلي نفس الأكلة الغريبة اللي عملتيها يوم ما كان جمال ويوسف هنا أعتقد إسمها كسكس صح؟
ضحكت بصوتٍ أطرب سماع علي، فكان سعيدًا بأنها ولأول مرة تتبادل حديث يجمعهما بأخيه إشارة مقبولة للقادم، واستمع لها تخبره:
_عنيا، بكره إن شاء الله هعملك.
اتسعت ابتسامته وحذرها وعينيه تلتفت من حوله بشكل مضحك:
_خلصيها في المطبخ واديني إشارة أدخل أكل في الخباثة لحسن فريدة هانم لو قفشتني هتطردني بالحلة برة البيت.
عاد الضحك يفرد سلطانه عليها من جديد وهي تؤكد له:
_متقلقش هخلي مايا توصلهالك.
قدم يده لها ليفاجئها قائلًا:
_اتفقنا؟
تلاشت ابتسامتها بشكلٍ ملحوظ، فوزعت نظراتها بين كف عمران الممدود وبين علي الذي منحها بسمة وإيماءة خافتة، جعلتها تصافحه مرددة بوجهها البشوش:
_اتفقنا.
تركهما عمران وغادر لسيارته رافعًا من صوته:
_لو وصلت قبلي عرف يوسف إني مش هتأخر يا علي… سلام.
وغادر بسيارته بينما ترك علي فاطمة قائلًا بابتسامة هادئة:
_هطلع أغير هدومي عشان منتاخرش.
وتركها وصعد للأعلى بينما ظلت هي بانتظاره بالاسفل، فانضمت لها زينب ومايسان وبعد قليل هبط علي متألقًا ببذلة آنيقة من اللون الرمادي، مصففًا شعره لنهاية رقبته بشكلٍ لفت انتباه فاطمة وهي تراه يصففه كذلك للمرة الأولى، فأخذت تختلس النظرات إليه في السيارة من وقتًا لأخر حتى وصلوا للعمارة القابع بها عيادة “ليلى”.
*******
انهى لمساته الأخيرة أمام باب العيادة، فثبت عمود الورود جيدًا وولج للداخل يبحث عنها بعينيه، فوجدها تستند على باب الشرفة، تتأمل مدخل العمارة بنظرة هائمة، وفجأة تسلل لجسدها البارد دفء يحاوطها، مالت” ليلى”برأسها فوجدت “يوسف” يحاوطها ويميل برأسه يعانق رأسها بحنانٍ، وهمس لها بفرحةٍ:
_مبروك يا أجمل وأرق دكتورة.
انزوت داخل ذراعيه تشدد من عناقه قائلة بكل امتنان تمتلكه:
_من يوم ما دخلت حياتي يا يوسف وبقى ليها طعم تاني، كل حاجة بتعملها عشان ترضيني أنا حتى لو كانت على حسابك إنت، أنا مقدرتش أقدملك أي شيء أردلك بيه حنانك وحبك الكبير ليا.
رفع ذقنها ليجبر رأسها المدفون بصدره على التطلع إليه، فرأت أجمل ابتسامة يحررها لها خصيصًا، وذراعه يقرب خصرها إليه بتملكٍ لتستمع إليه يردد:
_ادتيني قلبك وده كفايا عليا يا ليلى.. وحبك ليا أكبر مكافأة قدمتهالي.
أغلقت عينيها تستمع بهمساته بعشقٍ يزاحم قلبها في عقر داره، فانتقلت إليها عاطفته التي تتقرب منها بلمساته، استسلمت تتمنى أن لا يبتعد إلى أن تسلل إليهما صوت “سيف” الساخر:
_بعتني أجيب الورد علشان تستفرض بالدكتورة، طيب ما كنت تقول من الأول إنك بتوزعني وأنا كنت هتوزع باحترام بدل أم الفرهدة دي!
انتفضت مبتعدة عن زوجها بخجلٍ جعل حديثها يخرج بتلعثم:
_هو والله يا سيف هو اللي آآ..
قاطعها “يوسف” بحدةٍ:
_بتبرري لمين يا ليلى، أنا جوزك مش واحد ماشية معاه يا حبيبتي!
واستدار يحذره بنظرةٍ صارمة:
_سيف إتادب بكلامك مع لوليتا مش واخده منك على كده.. تحذير ما قبل إنذار الخطر.
رفع يديه معًا باستسلامٍ:
_أنا مجتش.
وتابع بابتسامةٍ هادئة:
_مبروك الافتتاح الرائع ده يا دكتورة ليلى.
أجابته على استحياءٍ:
_الله يبارك فيك يا سيف عقبال ما نفرح بيك مع بنوتة بنت حلال تستاهلك.
رفع “يوسف” يديه بتمني وكأن الدعوة من نصيبه هو:
_ دي الدعوات ولا بلاش.. لو ربنا تقبل دعوتك يا لوليتا بالي هيرتاح.
زم شفتيه ساخطًا:
_إنت نفسك تتخلص مني بس مش هنولهالك يا يوسف، أنا قاعد معاك شوية.
لف يده حول رقبته وجذبه إليه بالقوة يخبره:
_بس أنا مش هسيبك تقعد كتير يا سيفو..أول ما ألقى البنت المناسبة ليك هسحبك تتقدملها رغمًا عن أنفك.
تعالت ضحكات “ليلى” وهي تراقب تعابير وجه سيف المضحكة، وكأنه سيلقى بين نيران جهنم، فترك الردهة وإتجه بما يحمله للشرفة، فلحق به “يوسف” يتساءل وعينيه تتفحص ساعة يده:
_فين أيوب وآدهم؟
جذب إحدى باقات الزهور وقدمها إليه:
_آدهم بعتلك الورد ده وبيعتذرلك، الجرح شد عليه ومقدرش إنه يجي.. أما بقى أيوب فأنا لحد الآن معرفش هو فين؟ آدهم قال انه مرجعش البيت من الصبح قلقت عليه ليكون ورط نفسه في مصيبة تانية، دورت عليه في المطعم اللي بيشتغل فيه وفي الجامعة وملقتهوش فكلمت عمران وقالي كلمتين مختصرين “متقلقش هو معايا” وبعدها معتش رد على رسايلي!
ابتسم وهو يراقب انزعاج معالمه، فربت على كتفه قائلًا بمرحٍ:
_مدام قالك متقلقش يبقى من حقك تقلق!
*******
طرق على الباب الحديدي، فانتبه له “ممدوح” ، نهض عن مقعده وهو يعيد ضبط نظارته الطبية، فحرر الباب هاتفًا بحيرةٍ:
_أيه رجعك بالوقت ده يا عمران؟
اشرأب بعنقه للأعلى في محاولةٍ لرؤية صديقه البائس، فوجده يطفو من خلف ذاك المكتب المتهالك، وبين يده لوحة بيضاء سميكة، وبيده عدة أقلام ومسطرة ضخمة، رمش بعدم استيعاب هل توجه للتصميم بأول جلسة جمعتهما!
استعاد ثباته المهدور مصدرًا تنهيدة مقلقة:
_أنا كنت جاي أستأذن حضرتك في أيوب، معزومين أنا وهو على حفلة مهمة والصبح هيكون موجود في مواعيده.
أخفى عُمران ابتسامته الساخرة بصعوبة، وكأنه يأتي لروضة الأطفال لطلب سماح الانصراف لاخيه الصغير، ومع ذلك احتلت معالمه بادعاء صلابته، وأخذ يراقبه وهو يعود لمكتبه مشيرًا لأيوب:
_روح وعلى معادنا بكره.
لا يصدق ما إلتقطته آذنيه، هل سمح له بالمغادرة أخيرًا؟
ترك “أيوب” مقعده وهرول لحقيبته الصغيرة يجذبها وهرول للخارج كمن نجى بروحه من تابوت محكم الإنغلاق، فتفاجئ بعمران ينتظره، وما أن رأه حتى استقبله بابتسامة بلهاء:
_أيوب وحشتني يا راجل!
قابله الأخير بلكمة قاسية أطاحت بالأخير أرضًا، فتمردت ضحكاته واستند على درابزين الدرج ليستعيد استقامة جسده، ليجد الأخير يهرول للأعلى مرددًا بحنقٍ:
_لو جيت ورايا هصفيك لدرجة أنهم مش هيلاقوا فيك حاجة تدفن.
نفض الغبار العالق على بذلته ولحق به للأعلى يناديه ضاحكًا:
_طب استنى بس..يعني ده جزائي إني جيت وأخدت الأذن عشان تلحق تروش نفسه للحفلة؟
توقف عن الصعود واستدار إليه يقابله بنظرة شرسة، فأطبق على أصابعه مشيرًا بحدة:
_اخفى من قدامي يا عمران، أنا بقالي هنا عشر ساعات وحقيقي مش شايف قدامي من التعب والإرهاق، لأ والاستاذ ممدوح ده على ما يبدو مكمل في شغله ومش همه، والدي تقريبًا من عمره وبيحتاج كام ساعة في اليوم يستريح فيها واتعشمت إنه يديني ساعه راحه لكنه ما شاء الله مستمر في الشغل كأنه ألة مش بني آدم، ده حتى معاد خروج موظفين الشركة جيه ومازال مستمر!
واسترسل بدهشة أحاطته منذ الوهلة التي خطت قدميه للداخل:
_هو مطلعش يروح ليه، ولا هيبات هنا؟
راقب “عمران” الباب السفلي وأشار لأيوب بتتبعه:
_طيب تعالى نخرج من هنا وهحكيلك كل حاجة، بس الأول حسام اداك الأكل والعصير؟
احتل الغضب معالمه بشكلٍ جعله كالقنبلة المهددة بالإنفجار، فأحاطه “عمران” بذراعيه ضاحكًا:
_خلاص بقى ميبقاش قلبك أسود.. وبعدين منتكرش إنك استفدت منه جدًا بدليل إنك ما شاء الله من أول درس بتصمم بنفسك!
لوى شفتيه بسخطٍ:
_ولو كنت اتاخرت شوية كنت هتلاقيني مع فريق التنفيذ بنفذ اللي صممته بنفسي! الراجل ده غريب تحس إنه إنسان ألي مش بني آدم!
دفعه برفقٍ للمصعد فأبعده أيوب عنه بغيظٍ، صعد بهما المصعد للأعلى وحرب النظرات سائدة بينهما حتى خرج به فتركه وغادر دون أن يستمع إليه.
أسرع “عمران” لسيارته يتبعه على محاذاة خطاه، ففتح الشرفة الزجاجية يناديه:
_أيوب اركب بقى وفكك من شغل الأولاد ده.
منحه نظرة مشتعلة وردد بانفعال:
_امشي يا عمران بجد، أنا مش ضامن رد فعلي على اللي عملته معايا النهاردة… امشي.
كسر الطريق عليه بسيارته ليصيح بحدة:
_اركب ومتخرجش جنوني عليك.. أنت مش عاملي فيها راجل مكافح نخيت ليه من أولها؟
نظم أنفاسه الحارقة حتى هدأ قليلًا، فاحتل المقعد المجاور له، تحرك به عمران لشقة سيف، والصمت الحائل بينهما فقطعه عمران مجددًا حينما قال:
_أيوب بلاش تفكر بالطريقة دي، أنا عملت كل ده علشانك صدقني، وعارف أنك بتفكر إني بعدتك عشان متختلطش بالمشاكل مع البنت اليـهودية دي، وأنا مش هنكر ده بس كمان عملت كده عشان تستفاد من خبرة أستاذ ممدوح، بذمتك الكام ساعة اللي قضتهم معاه مستفدتش منه؟
ارتخت تعابيره المشدودة رويدًا رويدًا، واعترف له:
_استفدت جدًا بس الضغط والإرهاق ده خلاني مش قادر أستوعب أغلب اللي قاله.
والتفت له يسأله باهتمامٍ:
_هو معندوش بيت ولا أهل يا عمران، يعني بقالي معاه يوم كامل ومشوفتوش حتى طلع موبيله يكلم حد!
رد عليه بحزنٍ وعينيه تراقب الطريق بعناية:
_كان له بيت وأولاد، اتغرب طول عمره عشانهم.. بنى ليهم بيت كبير وصرف على تعليمهم لحد ما دخلوا كليات كويسة، وبعدها طلب من بابا الله يرحمه أجازة طويلة علشان ينزل ويقعد وسط أولاده بس بعدها باسبوعين رجع وهو حزين لانهم طلبوا منه يرجع تاني للشغل لان ابنه الكبير كان خاطب وعايزه يجهزله شقته ومصاريف الجواز.
واستدار، يقابله بنظرة ألم وابتسامة فارقة:
_جوازة ورا التانية وطلباتهم مش بتنتهي، لحد ما أخد على الغربة والوحدة اللي هو بقى فيها، أنا كنت جنبه لحظة بلحظة وسامع أغلب مكالمتهم ليه وطلباتهم اللي مش بتنتهي، لحد ما استلمت الشركة واطمن أني قادر أديرها من غيره فنزل مصر وهو عنده النية ميرجعش تاني، بس اللي حصله خلاه يرجع لندن تاني يوم..
سأله بفضول بعدما نجح الاخير بسحب كل اهتمامه لقصة ممدوح المؤلمة:
_حصل أيه؟
رد عليه بحزنٍ عميق:
_ولاده ومراته لما عرفوا انه نزل بشكل نهائي طردوه من البيت ومحدش من عياله رضى يقعده عنده ولا يستقبله في شقته، كلهم كانوا هيتجننوا ويخلوه يرجع تاني حتى وهو بالسن ده، ولما رجع واتاكدوا إنه سافر تاني رجعوا يكلموه ويشدوا معاه ناعم من تاني بس هو رمى موبيله وبقى زي ما أنت شايف حياته كلها شغل..
وتابع بألمٍ يطغي على نبرته المبحوحة:
_قدمتله شقة فخمة وعربية ومكافأة مالية كبيرة اكرامًا لتعبه واخلاصه لأبويا الله يرحمه، كنت بحاول أرد جزء بسيط من جمايله عليا، الاستاذ ممدوح الشخص الوحيد اللي علمني يعني أيه راجل مخلص وابن اصول في حين إن بعد خالي وأهل أبويا أول ناس نهشوا فينا بعد وفاة والدي الله يرحمه، وفجائني تاني لما رفض كل اللي قدمتهوله وطلب مني أسلمه الآرشيف وخزنة التصميمات والملفات المهمة ومن وقت للتاني خصص لنفسه أوضة صغيرة تحت فيها سرير صغير وحمام، عايش فيها وببشتغل ليل نهار ولو حاولت أساعده وزودتله مرتبه بيرجعلي الفلوس وبيتضايق جدًا.
واستدار تجاه أيوب يخبره بحزن بالغ:
_بحس إني عاجز ومش عارف أزاي أكافئه أو أردله جزء من جمايله… كل ما بشوفه قلبي بيتقطع عليه هو إنسان كويس وعظيم وميستاهلش اللي أولاده بيعملوه فيه ده.
تغلغل الحزن معالم “أيوب” بتمكنٍ، واحتقن صوته المتأثر بما استمع إليه:
_الزمن ده بينجح إنه يفاجئنا باللي مخبيه، الناس عادت وحشة أوي يا عمران، اللي سمعته منك ده كبره في نظري وخلاني متحمس أكون معاه الفترة الجاية، عارف إنه صعب يندمج مع أي حد وده باين جدًا بس على الأقل هكون ونس ليه الفترة الجاية وبتمنى بس يخف عليا ساعات العمل لإني كده مش هتخرج من الجامعة هتخرج من الدنيا كلها.
ضحك الأخر وربت على كتفه يمازحه:
_متخافش يالا عمران الغرباوي معاك ومش هيسيبك.
_علامة مسجلة إنت ولا أيه مش فاهم!
_بتتريق! طب خلاص هوديك الحضانه كل يوم الصبح ومش هروح أخدك.. هسيبك كده كل يوم معاه لحد ما تستنجد بالشيخ مهران تقوله يبعت حد ياخدك!
قالها بمرحٍ جعل الأخير يضحك متغلبًا على غيظه، فتابعه وهو يصف السيارة أمام العمارة وأشار له:
_اطلع غير هدومك وانزل بسرعة.. مش عايزين نتأخر أكتر من كده.
حرر حزام الأمان عنه وقال وهو يتثاءب:
_ما تروح إنت وفكك مني.
دفعه للخارج بضيق:
_انزل يا عم هي ناقصة رخامة سيف..ده كل نص ساعة يتصل عليا ويتمم إنك بخير ورايح معايا..مش بعيد لو ملقكش داخل معايا يطلبلي بوليس النجدة!
ضحك بصوته كله، وأشار وهو يستدعي المصعد بضغطة الزر:
_مش هتأخر متقلقش.
وولج للداخل حتى وصل للشقة،طرق بابها حتى فتح “آدهم” فوجد جسدًا ثقيلًا يندفع إليه حتى كاد بأن يسقط به، فردد باستغرابٍ:
_أيوب!!
أغلق عينيه باستسلامٍ على كتف آدهم وكأنه طفلًا صغيرًا يغفو على كتف والده، فأحاطه آدهم بقوة وهو يجاهد الا يصيب جسد أيوب كتفه المصاب.
جذبه بقوة للداخل وأغلق الباب، قائلًا بقلقٍ:
_مالك يا ابني؟ وكنت فين لحد دلوقتي سيف قالب عليك الدنيا ومش مبطل رن؟
خرج صوته هامس وعينيه تنغلق استسلامًا للنوم:
_خدني لأقرب سرير أو كنبة.. بنام على نفسي!
أبعده عن كتفه يتفحص وجهه وجسده ظنًا من أنه قد مسه أذى جعله مرهقًا لتلك الدرجة، وحينما اطمئن بأنه على ما يراه أعاده لكتفه فأحاطه أيوب بذراعيه تلقائيًا وغفى واقفًا.
تحرك به آدهم بتعبٍ سيطر على كتفه المصاب، حتى وصل لغرفته القريبة، طرحه على الفراش وهو يتهامس بسخرية:
_أيه وصلك للحالة دي!!
واتجه إليه يناديه:
_طيب قوم حتى غير هدومك يا أيوب!
لم يأتيه أي ردًا، صوت انتظام أنفاسه يتصاعد ليخبره بنومه الشبيه بفقدان الروح، لم يستطيع السيطرة على ضحكاته وهو يراقبه كطفلٍ لم يحتمل عناء أول يوم دراسي إليه وعاد لفراشه يغفو بملابسه وحقيبته.
انحنى آدهم ينزع عنه حذائه ورفع قدميه للفراش ليمنحه نومة مريحة، وجذب عليه الغطاء فتحركت يد أيوب تجذبه على وجهه تلقائيًا رغم غفوته.
رمش آدهم بدهشةٍ مما فعل، واتسعت ضحكته الساخرة مرددًا:
_مش معقول في دي كمان شبهي!
انحنى إليه يزيح الغطاء عن رأسه ووضعه على صدره حتى يتمكن من التتفس بشكلٍ منتظمٍ، ففجأه مرة أخرى حينما تحركت يده تحذب الغطاء على رأسه مما زاد من دهشة آدهم المعتاد على أن يغلف جسده بأكمله بالغطاء وقت نومه، يتذكر كيف كانت تستاء والدته من تلك الحركة التي تجعلها يتهييء لها وكأن جسد إبنها جثمان وليس ينبض بالروح، وما يزيد ضجرها بأنه يرث حركته السخيفة تلك عن أباه.
قطع شروده صوت طرق الباب مجددًا، فأحاطه بنظرةٍ أخيرة قبل أن يتحرك ليفتح الباب.
ولج عمران للداخل يتساءل بضيق:
_هو فين يا آدهم.. كل ده بيلبس؟
وشمله بنظرة متفحصة ليزيد من غضبه:
_وإنت ليه ملبستش لحد دلوقتي! انتوا بتهزروا يا جدعان!
أجابه قبل أن يندفع بحديثه الغاضب:
_انا اعتذرت من دكتور يوسف مش هقدر أنزل.. ولو بتسأل عن أيوب فمتستنهوش إنزل إنت لإنه في سابع نومة.
رمش بعدم استيعاب وهو يلتقط تلك الكلمة الساخرة، فصاح بتهكم:
_لحق ينام؟
ضحك يشاكسه:
_هو طالع نايم أساسًا… اترمى عليا شبه المقتول وبمعجزة قدرت أسنده لسريري!
زم شفتيه ساخطًا على من أدعى قوته الزائفة وردد:
_أمال عاملي فيها شجيع السيما ليه.. ده مخدش غلوة في إيد استاذ ممدوح.
منحه نظرة مشككة تحيط بمضمون حديثه، فقال:
_إنت عملت أيه فيه يا عمران؟
رفع كتفيه مداعيًا براءته:
_ولا حاجة… شغلته في شركتي!
واستطرد مقدمًا عرضه المغري:
_طيب خلاص تعالى إنت معايا… ده يوسف محضرلنا أكلة سمك بعد الحفلة إنما أيه.
اتجه آدهم للردهة، فجلس على المقعد يتأوه بتعبٍ:
_ألف هنا ليكم.. أنا مش قادر أتحرك قدامك يا عمران.. تتعوض مرة تانية.
إتجه إليه يراقبه بقلقٍ انتقل لنبرته الرجولية:
_شكلك موجوع.. تحب أكلم دكتورة ليلى تيجي تشوفك؟
هز رأسه نافيًا:
_الموضوع مش مستاهل… هأخد المسكن والألم هيروح على طول إن شاء الله.
منحه ابتسامة هادئة، وربت على كتفه بهدوء:
_يلا خف قوام قوام عشان نجوزك ونخلص من البت اللي قارفاني في البيت دي.
ضحك بشدةٍ وردد بحبٍ:
_عنيا يا سيدي… هأخدها تنور حياتي المكفهرة دي.
انتصب عمران بوقفته وأشار له:
_هبقى أكلمك أطمن عليك… سلام.
_مع السلامة… متتساش توصل مُباركتي لدكتورة ليلى ودكتور يوسف.
أجابه وهو يستعد لغلق الباب:
_اعتبرها وصلت.
*******
صف “جمال” سيارته أسفل البناية، وانضم لزوجته التي تنتظره حاملة طرف فستانها الأسود الطويل، فانضم إليها ومازال يلاحظ وجهها العابث، جدد ذاكرته عساه قد اقترف شيئًا أزعجها وحينما لم يجد قال:
_افردي وشك ده شوية هو أنا جايبك معايا غصب؟
تعمقت بنظراتها الغاضبة إليه، وأردفت:
_مش جاية غصب بس جوايا في بركان نار احذر منه لينفجر في وشك.
جحظت عينيه صدمة، فأبعد الورود التي يحملها جانبًا وقال:
_بركان مرة واحدة… ليه كل ده؟
منحته نظرة ضاقت عليه وكأنها تعتصره داخل مقبضة من حديدٍ لتطلق ما تدفنه إليه:
_أي مشوار أو خروجة ليها علاقة بعمران أو يوسف صاحبك بتجهز وتجري هوى، لكن لو أنا اللي طلبت منك نخرج شوية مش هتعبرني، معرفش صحابك دول عاملين ليك أيه؟
رفرف بأهدابه بعدم استيعاب والكارثة تحليله لمغزى حديثها فقال باستنكارٍ:
_انتي بتغيري من عمران ويوسف يا صبا؟
ولجت للمصعد توليه ظهرها والأخر يلحق بها بصدمة تجعل تعابيره متجمدة كالثلج وهو يراقبها بحاجبيه المرفوع، ليجد ذاته يضحك دون توقف، فاستدارت إليه تلكمه بغيظٍ:
_متضحكش.. اسكت!
أحاطها بين ذراعيه لتكف عن تسديد الضربات إليه، مرددًا بدهشةٍ:
_متهزريش يا صبا، انتي بتغيري من علاقتي بصحابي يعني من رجالة!! أنا بحاول أتخيل موقفي السييء لو حد سمعك هيأخدوا عننا فكرة شكلها عاملة ازاي!!
راقبت ضحكاته باستياءٍ، ورددت بضيقٍ:
_انت السبب.. لانك بتهتم بيهم أكتر مني.. إنت حتى مش بتقولي كلام حلو أوازن بيه المقارنة بيني وبينهم!
اختصر ضحكاته بابتسامةٍ جذابة، فتغاضى عن توقف المصعد بالطابق المنشود واحتوى وجهها بيديه بحنانٍ:
_صبا سبق وقولتلك قبل كده أنا مبعرفش أقول كلام حلو ومتزوق.. بس إنتِ عارفة ومتأكدة إني بحبك وبتمنالك الرضى ترضي.. كون إنك تحطي نفسك بمقارنة مع عمران ويوسف فده غباء منك لإنك في مكانه إنتِ واللي في بطنك صعب حد يتقارن فيها معاكي.
اتسعت ابتسامتها والفرحة تجعل وجهها مشرق، عينيها تشعان بجاذبية جعلته عاجزًا عن سحب نظراته عنها، فوجد ذاته يضمها رغم أنه يستغرب ما يفعله ربما لإنه زوجًا عاديًا إعتاد أن لا تفارق مشاعره غرفة نومه، ولكن موقفها الذي حررته الآن أكد له بأنها ليست مرتها الأولى التي تفكر هكذا.
ارتعشت بين ذراعيه التي تحيطها ورددت بعشقٍ وصل إليه:
_بحبك أوي يا جمال.. وأي كلمة بسيطة منك بترضيني.. صدقني أنا مش طمعانة غير في قربك مني.
ربت على ظهرها ويده الأخرى تقرب رأسها لعنقه، فاهتز بهما المصعد ليهبط للأسفل، ابتعد عنها “جمال” ضاحكًا:
_شوفتي إدينا نزلنا تاني للدور الأرضي!
شاركته الضحك ورددت بمشاكسة:
_حد قالك تحضني!
غمز لها بخبث:
_مستعد نطلع وننزل طول اليوم بالاسانسير عشان الحضن الجميل ده.
اكتست الحمرة معالمها، فأبعدت وجهها عنه، فُتح باب المصعد وطل “عُمران” من أمامهما متسائلًا بحيرة وعينيه تجوب بينهما:
_انتوا طالعين ولا نازلين؟!
ارتبكت صبا بينما أجابه جمال:
_هتفرق يعني.. اركب خلينا نطلع!
منحه نظرة وقحة جعلت جمال يدفعه للوحة قائلًا:
_دوس على الزرار وصفي نيتك!
ضحك بصوته كله وغمز له:
_وماله نصفيها يا جيمي.
ومال إليه يهمس له بصوتٍ منخفض:
_هو مش جو قالك تهدى شوية ولا إنت مبتحرمش!
احتدت نظراته القاتمة، فلكمه بعنفٍ جعله يرتد لمرآة المصعد، فتراجعت صبا للخلف برعب:
_في أيه يا جمال؟
ضحك عمران وهمس له:
_رد يا جيمي.
جز على شفتيه بغضب، واعتدل بوقفته يعدل من جاكيت بذلة عمران وينفض كتفيه بقوة مؤلمة ولكنها تبدو مساعدة نبيلة منه لزوجته التي تراقب ما يحدث بينهما بقلقٍ:
_مفيش يا صبا دا كان في ناموسة رزلة واقفة على خد عمران ومصممة تمص دمه ادتها اللي فيه النصيب.
هزت رأسها بتفهمٍ رغم عدم اقتناعها بما يخبرها به، فاستقام كلاهما بوقفتهما حتى توقف المصعد فخرجوا جميعًا.
استغل عمران دخول صبا وجذب جمال للخلف يعيد له لكمته هاتفًا بضجرٍ:
_ناموس في لندن فاكر نفسك في سيوة!!
وقبل أن تطوله يديه ركض للداخل سريعًا، فتنحنح جمال واستعاد اتزان هيبته المهدورة ولحق بالاخير.
*******
رحب “يوسف” بعلي وإتجه به للداخل ليريه الأجهزة التي استوردها من الصين خصيصًا لزوجته، فنالت استحسانه وأبدى اعجابه قائلًا:
_لو على ضمنتك نتواصل معاه عشان المركز خلاص عمران قالي قدامه عشر أيام بالظبط وفريقه ينجز.
رد عليه يوسف بابتسامة واسعة:
_عظيم.. استغل الفترة دي في اختيار الدكاترة والممرضات اللي هيشتغلوا بالمركز على الأقل نزل اعلان واستغل السوشيل ميديا.
جذب علي أحد المقاعد القريبة منه، اعتلاه وهو يراقب يوسف الذي جذب المقعد المقابل له، فقال:
_أنا ناوي أنزل مصر وأختار فريقي بنفسي يا يوسف، مش حابب شغل الموبيلات ده.
استحسن فكرته وأبدى اعجابه:
_كده أفضل ألف مرة… رتب أمورك وتوكل على الله وسيب حكاية الأجهزة دي عليا وعمران موجود مع العمال وده شغله.
نهض علي يلتقط كوب العصير من ليلى وقال بلباقة ورقي:
_الدكتورة بنفسها اللي بتقدم الضيافة.. تسلم إيدك.
ابتسمت إليه بحبور:
_وجودك هنا إنت وفاطيما والبنات غالي عندي يا دكتور… نورتونا كلكم.
رد عليها وعينيه مازالت أرضًا:
_متقوليش كده احنا زمايل.. ومبروك عليكي مرة تانية عندي ثقة إنك هتكوني من أهم دكاترة الجراحة بانجلترا كلها.
وبمزحٍ أضاف:
_عشان كده إنتي والدكتور يوسف من أوائل الناس اللي هتكون معايا في المركز الطبي.
كانت هي أول من أجابته:
_ده شرف لينا يا دكتور علي.
ردد يوسف بابتسامة:
_الافتتاح الجاي هنكون متجمعين عندك في المركز ان شاء الله.
ردد بخفوت:
_بإذن الله.
*******
بالخارج.
انسجمت “فاطمة” مع “مايسان”، ومازالت”زينب” تحيطها غمامة الماضي، تركتهما واتجهت للشرفة التي انعشت وجهها بالهواء البارد، فأغلقت عينيها تستمتع بتلك الانتعاشة التي تندفع إليها، متجاهلة كل شيءٍ حولها، إلى أن تسلل لمخضعها الخاص صوته العميق:
_المنظر من هنا مسحرنيش لوحدي!
التفتت جوارها فوجدته يجلس على أحد الأرائك يتابعها ببسمته الهادئة، اعتدلت “زينب” بوقفتها هامسة بخفوت:
_سيف!
تمكن من قراءة حركة شفايفها بحرافيةٍ، فاندفع قلبه يهوى بتمنى أن لو تمكنت أذنه من سماع صوتها.
نهض عن محله واقترب منها يردد:
_توقعت إني ممكن أشوفك تاني صدفة في الجامعة لكن هنا كان صعب!
لقائها به الآن يطيب جزءًا من وجعها، هي الآن مشتتة، بائسة، يركض شبح الماضي من خلفها، نهض سيف عن محله المظلم إليها،وبمجرد أن رأته يرتدي جاكيت مشابه لجاكت “يمان”، انقبض صدرها وتراجعت للخلف بذعرٍ مقبض بينما الأخير يراقبها بذهولٍ ودهشة، فحرر صوته أخيرًا متسائلًا:
_انتي كويسة؟
هزت رأسها نافية ومازالت تتراجع بجسدها للخلف بذعرٍ، شخوص عينيها ونظراتها إلهمته بأنه وحشًا مفترسًا هرول من أحد أفلام الرعب ليقتحم مخيلاتها البريئة، ومع ذلك أعاد سؤالها بحنان:
_دكتورة زينب مالك؟
ابتلعت ريقها الجاف بصعوبة بالغة، ودون وعي منها ترجته:
_ممكن تقلع الجاكت ده من فضلك إقلعه!
برق” سيف”لوهلة مندهشًا، فمشط الشرفة المطولة بنظرة متفحصة وبدون أي تفكير نزع عنه جاكيته الجلدي وأسقطه أرضًا هاتفًا بقلقٍ:
_أهو.. لو ده اللي مسببلك الحالة الغريبة دي مش هلبسه تاني أوعدك بس طمنيني إنتِ كويسة؟!
استعادت جزء من ثباتها فابتعدت عن المقعد الذي تتمسك، وقد أحاطها حرجًا جعل وجهها أحمر قاني، فتلعثم قولها المرتبك:
_آآ… أنا أسفة…أنا بس افتكرت شخص مش حابة أفتكره… أنا بعتذرلك تاني يا دكتور سيف..
وهرولت من جواره تهمس بحرج:
_عن إذنك.
أوقفها حينما طالت يده معصمها دون ارادة منه ليوقفها:
_استني… متخرجيش كده إهدي بس وخدي نفسك الأول
ارتعش جسدها وعينيها جاحظة على يده الممسكة به، فدفعته بكل قوتها وهي تصرخ:
_يماااان ابعد!!
تجمد محله فور أن استمع إليها تنطق بإسم رجلًا يجعله لأول مرة يشعر بالكره الشديد تجاه هذا الرجل الذي لم يراه ولا مرة ولا يعلم حتى الصلة التي تجمعهما، كل ما يشعر به بأن كره إسم “يمان” ولا يود سماعه مرة أخرى.
هدأت قليلًا وتغلبها الحرج لما تفعله منذ تجمعها به، فهمست بصوتٍ لا يحمل الا الخجل الشديد:
_أنا آسفة أرجوك سامحني.
واستدارت لتتجه للمغادرة فأوقفها متسائلًا:
_راحة فين؟
أجابته ومازالت توليه ظهرها:
_همشي مش حابة أقعد.
دنى منها سيف حتى بات قريبًا، فابتلع غصته المؤلمة داخله وسيطر على انفعالاته قائلًا:
_السهرة لسه في أولها.
واستطرد بمحاولة لتلطيف الاجواء:
_لو لسه لابس أي حاجة مسببلك ازعاج هقلعها فورًا.
ومسك ياقة قميصه الأسود المندث ببنطاله:
_مش عجبك القميص ده أقلعه هو كمان؟
أشارت له بهسترية:
_لأ… لأ كويس.
منحها ضحكة جعلتها تبتسم، فاقترب منها يحاول اختلاق أحاديث تجمعهما:
_طمنيني حد اتعرضلك بالجامعة النهاردة تاني؟
أجابته وهى تستند على السور بخفة:
_لأ خالص.. واتفاجئت بالبروفيسور بيبهدلهم على اللي حصل في الفصل، وكان هيعملهم فصل.
استند على السور بمسافة معقولة بينهما:
_طب كويس.. كان لازم حد يحطلهم حدود.
هزت رأسها وعادت تتطلع إليه لتخبره بانزعاجٍ:
_بس أنا لسه قلقانه يحطوني في دماغهم بعد اللي حصل وكده، لإن الشاب ده نظراته ليا مكنتش لطيفة.
بث لها الأمان والطمأنينة:
_ولا يعرف يعملك حاجة.. ولو حصل أنا موجود مش هتخلى عنك أبدًا يا زينب.
عاد قلبها يخفق مجددًا، ذاك الأبله الذي سبق وإنخدع تحت شراع الحب الكاذب، ذاك الذي وضعت من حوله ألف سور وختم على ميثاق بعدم سقوطه بتلك الأكاذيب مجددًا.
توترت من أمامه وسحبت عينيها للأسفل، تراقب المارة بشرودٍ تام بينما مازال سيف يراقبها.
*******
بالخارج.
قدم جمال الزهور إلى ليلى قائلًا:
_مبروك الافتتاح يا دكتورة ليلى.
التقطته منه بابتسامة عذباء:
_الله يبارك فيك يا بشمهندس.. ليه بس تعبت نفسك؟
أجابتها صبا التي تحتضنها:
_تعبك راحة يا دكتورة… قوليلي بس أيه الجمال ده كله؟
سحبتها جانبًا لغرفة الفتيات، بينما انضم يوسف وعلي لعمران وجمال، فتساءل وهو يتطلع خلفهما بذهول:
_آدهم واعتذر فين أيوب هو كمان؟
أجابه عمران:
_رجع مقتول بعد ما قضى اليوم مع استاذ ممدوح.
برق علي بعينيه بدهشة:
_سلمته لاستاذ ممدوح يا عمران؟
ضحك وهو يجيبه بوقاحة:
_مش أحسن ما تستلمه البت اليهوديه، على الأقل الاستاذ ممدوح مننا وعلينا ومعروف أخره أيه!
أمسك جمال كف يوسف يتساءل:
_فكك من الواد ده وطمني أخبار أكلة السمك أيه كله تمام ولا هنقضيها مطاعم؟
اتجهت الانظار إلى يوسف المصعوق، تجردت عنه الكلمات وجحظت عينيه بوميضٍ جعلهم يتجهون بابصارهم تجاه ما يجذب انتباهه فوجدوا سيف يقف بالشرفة ولجواره فتاة لم يتعرف عليها الا علي وعمران الذي تنهد بيأس وتيقن بأن يوسف سيخطف زينب رغمًا عن الجميع لأخيه!
فرقع جمال أصابعه أمام يوسف مناديًا:
_يوسف.. إنت يا ابني روحت فين؟
خرج عن صدماته مرددًا بابتسامة واسعة:
_مين البنت اللي واقفة مع سيف دي؟
ووزع نظراته بينهم:
_أكيد تبع حد فيكم.. وبما إنكم كلكم متجوزين يبقى أكيد دي سينجل وبما إن سيف واقف منشكح معاها بقاله فترة يبقى هي المنشودة وبما إنها المنشودة بينا نكتب كتب الكتاب ونحدد الفرح والذي منه.
دفعه عمران ساخطًا:
_حيلك يا عم إنت مصدقت قفشته واقف مع واحدة.. على كده هتجوزه نص بنات الجامعة والجيران بالمرة!
عاد لمحله يتابعه بسعادة وكأنها امرأة تتمنى أن تجد عريس مناسب لابنتها التي قفزت من قطار الزواج، ليعود بوجهه إليهم بحزم:
_تبع مين دي بقولكم؟!!
ابتسم علي وهو يجيبه:
_أخت مراتي يا يوسف هديت؟!
هز رأسه نافيًا:
_مش ههدى الا لما أجوزهم.
ضرب جمال كف بالأخر:
_لا حول ولاقوة الابالله العلي العظيم، هو أنت مصدقت تمسك أخوك واقف مع واحده، طيب اصبر حتى يمكن البنت تكون مرتبطة أو اللي بينهم شيء بريء مش واصل لحوار جواز والكلام ده!
ردد باصرار:
_هجوزهم يعني هجوزهم إن شاء الله حتى أخطفها.
ضحك علي بعدم تصديق، بينما أحاط عمران كتفه:
_في أيه يالا إنت ليه محسسني إنك أول مرة تشوف نسوان… حبيبي لو دكتورة ليلى طلعت وشافتك بحالتك الغريبة دي هتقلب الليلة عليك ومش بعيد نتلم كلنا في محكمة الأسرة.
وتابع بسخط:
_ أمسك نفسك مش كده.. مش من أول مزة تقفشها مع الواد تجوزهاله إتقل تأخد حاجة على الزيرو مش بعيد تعتر في خواجية تغيرلكم النسل لألوان مبهجة إيشي شعر أصفر وعين أزرقكيك وآ..
أحاط علي كتف عمران وهمس له بنظرة جامدة:
_أيه رأيك تسيبك من دكتور يوسف وتخليك معايا.. نأخد وندي مع بعض ونشوف العينات والنسل ده على مزاج!
ترك عمران يوسف ورسم ابتسامة حمقاء:
_مالك يا علوى أنا بهزر مع جو.. وزيادة تأكيد أنا اللي هجوزهاله يا جدع!
تعالت ضحكات جمال الرجولية وشاركه علي، تركهم يوسف وإتجه للشرفة فهمس جمال:
_إلحقوا.
اتبعت النظرات يوسف بذهول، فوجدوه يدلف للشرفة بابتسامة واسعة جعلت زينب تستدير لذلك الغامض الذي يقترب منها، بينما اتسعت عين سيف بصدمة وأسرع لاخيه يترجاه بهمسٍ منخفض:
_اارجع يا يوسف أبوس إيدك متفضحناش.. ارجع.
أبعده من أمامه بقوة وكأنه نسمة هواء عابرة، فسانده عمران ليحيل عن سقوطه فهمس له برجاء:
_الحق صاحبك هيفضحني قدامها يا عمران.
اتاهما صوت يوسف المتفائل وهو يمد يده لمن تراقبه بدهشةٍ:
_دكتور يوسف أخو دكتور سيف الكبير والمسؤول عن أموره الشخصية والعاطفية يعني تقدري تقولي كل شيء يخصه.
وجود عمران لجوارها وعلي الذي يقترب إليها جعلها ترسم ابتسامة رقيقة وبادلته الصفح قائلة برقة:
_أهلًا بحضرتك يا دكتور..اتشرفت بيك.
ابتسم بحبورٍ وقال:
_أنا اللي كلي شرف أقسم بالله.
وتابع بلهفة:
_إنتي بتدرسي؟
رغم غرابة ما يحدث الا أنها تطلعت لعلي وأشارت:
_أنا مع دكتور سيف بنفس الكلية.
تهللت أساريره بشكلٍ ملحوظ واستدار يشير للشباب بفرحة:
_معاه في الجامعة هااا….يعني دكتورة كمان! متدينة وجميلة مفيش أي موانع هنا.
وعاد يسألها:
_مرتبطة يا أنسة؟
جذبه عمران للخلف وهو يهمس له:
_استهدى بالله يا يوسف مش كده!!
أبعده يوسف بغضب:
_اصبر يا عمران… اديها فرصة ترد… ها يا آنسة؟
ارتسم الخوف على معالم وجهها وهزت رأسها بالنفي، فصاح بحماس:
_يبقى نتوكل على الله ونيجي البيت نطلب إيدك لدكتور سيف.
جذبه جمال وعمران يحاول إبعاده هاتفًا بحنقٍ:
_يا عم فزعت البت اهدى بقى إنت أول مرة تشوف لحمة!
أخذت زينب خطوة تجاه علي فتغلب على ضحكاته قائلًا بهدوء يحاول التمسك به:
_متقلقيش يا زينب دكتور يوسف بس بيحب يهزر.
هز سيف رأسه بتأكيد وقال بحرج:
_أنا بعتذرلك بالنيابة عن أخويا، هو بس مش واخد إني أقف مع أي واحدة فتلاقيه بس رسم كذا سنياريو غرامي.
كبتت ضحكة كادت بالانفلات منها وخاصة حينما دفعه يوسف للخلف قائلًا:
_بتعتذر ليه عجبني ذوقك وهندخل البيت من بابه وأبوابه الاتنين هنا أهو تحب نبدأ بدكتور علي ولا عمران الوقح؟
ضحك علي بقوةٍ فترك زينب وجذب يوسف قائلًا:
_تعالى معايا يا يوسف… عايزك جوه.
وأشار لاخيه:
_خد زينب عند البنات يا عمران.
اتبع سيف علي وردد برهبة:
_خد بالك منه يا دكتور علي، لينزل ويرجع بالمأذون وتبقى الفضيحة كملت!
استدار يوسف إليه يؤكد له:
_هجوزهالك يالا أقسم بالله النهاردة من بكره مش هتفرق!
طرق بيده على جبينه بقلة حيلة، بينما انفجر جمال ضاحكًا حتى أحمر وجهه، فقال عمران بغضب:
_حبكت يعني تقف معاها قدام أخوك! ده بيتمنى لحظة زي دي!
رد عليه بضيق:
_وأنا إيش عرفني إنه هيعمل اللي عمله ده!!
واستطرد بخوفٍ:
_أمال لو عرف إني اتخانقت مع الشاب في الجامعة عشانها هيعمل أيه؟
**********
بالداخل.
سيطر “علي” على ضحكاته بصعوبة وردد بابتسامته الهادئة:
_خلاص والله هكلمها وأشوف دماغها.. مع إني متأكد إنها رافضة الارتباط بالوقت الحالي لإنها لسه في تانية جامعة…
وتابع بثبات:
_سبلي إنت الموضوع ده ومتشلش هم يا دكتور.
طرق على ساقه ونهض يشير له:
_بينا بقى نأكل، الجمبري والسمك زمانهم بردوا.
لحق به علي للخارج، فتجمع الشباب من حولهما، فتساءل سيف بارتباك:
_ها يا يوسف أحسن دلوقتي؟
منحه نظرة ساخطة:
_حد قالك أني كنت بطلع في الروح!
واستطرد ببسمة انتصار:
_وكلت الموضوع لدكتور علي هيشوف دماغ البنت وهيرد علينا.
صدم سيف وتغلف بالصمت، لا يعلم لما شعر بفرحة داخله رغم أنه يرتدي قناع التذمر، راق له الأمر حتى وأن كان ما يحمله تجاهها إعجاب مبدئي.
*****
بالغرفة المجتمع بها الفتيات.
فردت مايا أطباق الطعام على المنضدة برفقة صبا وليلى، ووزعت فاطمة العصائر قائلة:
_مكنش له داعي ترهقي نفسك بالشكل ده يا دكتورة ليلى.
ابتسمت لها برقة وقالت:
_ولا تعب ولا حاجة.. كله يهون عشان عيونكم بس يا رب أكلي يعجبكم.
أجابتها مايا وهي توزع الأطباق:
_من ريحته باين إن في عظمة مستنيانا.
بنفس الابتسامة الرقيقة قالت:
_ألف هنا على قلوبكم..
وتابعت وهي تكشف الغطاء عن اللحم:
_أنا عملتلكم لحوم أفضل من الاسماك اللي عملتها للشباب… يوسف وسيف مصممين أعملهم سمك معرفش ليه؟
ضحك صبا ورددت:
_هما الرجالة كده دايمًا خلف خلاف… يعني كوني على ثقة لو كنتي عملتي لينا سمك كانوا طلبوا لحوم.
تعالت الضحكات بينهن الا تلك الشاردة التي تعيد بمخيلاتها ما حدث منذ قليل، فمالت عليها فاطمة تتساءل بقلق:
_مالك ساكتة ليه؟
ارتسمت بسمة مخادعة على وجهها وقالت:
_مفيش أنا بس سرحت شوية.
وضعت فاطمة الطبق من أمامها وهمست مجددًا:
_طيب كلي عيب كده دكتورة ليلى تعبت في الأكل وممكن تفكرك قرفانه أو مش عجبك.
هزت رأسها بتفهمٍ وبدأت تتناول ما قُدم لها، أما بالخارج هبط الشباب جميعًا لسيارة عمران، بينما نادى “يوسف” “ليلى” يخبرها بحنان:
_حبيبتي إحنا نازلين خدوا راحتكم واحنا ساعة أو ساعتين وراجعين.
ضيقت حاحبيها بذهول:
_رايحين على فين يا يوسف؟
رد عليها وهو يجذب الحقيبة الصغيرة الخاصة بباقي الاطعمة:
_هنروح شقة سيف، أيوب وآدهم مقدروش يجوا فميصحش نأكل من غيرهم، هننزل نأكل مع بعض وبعدين نرجع على هنا… خدوا راحتكم.
هزت رأسها بابتسامة هادئة، ففجأها حينما ضمها لصدره طابعًا قبلة أعلى جبينها:
_تسلم إيدك على الأكل مبدئيًا.. انا عارف انك تعبانه طول الليل وبتحضري فيه من بدري.
تمسكت بجاكيته الأزرق قائلة:
_كله يهون عشان عيونك يا حبيبي… يلا انزل عشان متتأخرش على اصحابك.
ودعها يوسف وهرول للأسفل لينضم للشباب فتحرك بهم عمران لشقة سيف.
*****
صعدوا للأعلى وجذب علي ويوسف طاولة يضعون الطعام من فوقها، بينما ولج سيف لغرفة آدهم يحاول إيقاظ أيوب الذي غمغم بانزعاجٍ:
_يا سيف سبني أنام أنا راجع تعبان.
انتصب بوقفته تاستدار تجاه عمران المستند على باب الغرفة جوار آدهم، فسأله بشكٍ:
_انت عملت فيه أيه يا عمران؟؟؟
نزع عنه جاكيت بذلته وشمر قميصه لأعلى ساعديه مشيرًا بحدة:
_قتلته… ارجع ورا كده وسبني بقى أصحيه من الموت بمعرفتي.
وجذبه من تلباب قميصه كأنه يسحب مجرمًا لزنزانته، صائحًا بعنفوان:
_فوق يا عم القتيل جايبلنا الكلام ونايم مستمتع، إنت من رجال الكهوف اللي أول مرة تشوف مرتبة فيبر!!!
ضحك آدهم وانضم إليه يحرر رقبة أيوب الذي يوزع نظراته بينهما بغضب ساحق، فأخبره آدهم:
_تعالى كل معانا وارجع نام براحتك… سيف مش جايله قلب يخليك تنام من غير ما تأكل.
خطف نظرة سريعة لسيف الذي أكد له بإيماءة رأسه، فاستقام بوقفته يصيح بنفور:
_طيب طرقونا أغسل وأغير هدومي ولا هتشاركوني في دي كمان؟
غمز له عمران بمكر:
_لا ميصحش تقلعي قدام تلات رجالة يا عسلية، كله الا الشرف مبقاش حلتنا غيره من الدنيا!
واستطرد بسخرية وهو يتجه للخروج:
_أمال لو مكنتش البت مثبتاك قدامنا!!
كبت آدهم ضحكاته وأشار لايوب:
_معلش معلش… عديها.
ولحق بعمران بينما صاح سيف بغضب:
_ممكن تفهمني إنت كنت فين وقافل موبيلك ليه من الصبح والأهم أيه اللي يجمعك بعمران ده من الأساس؟!
دفعه أيوب للخارج وصفق الباب من خلفه:
_بعدين يا سيف الحكاية مش نقصاك.
بدل أيوب ملابسه واتجه للخارج لينضم لطاولة الطعام التي صنعها علي ويوسف، وشرع بتناول طعامه مبتسمًا وسط أجواء المرح المتبادلة بينهم جميعًا.
قاطع أجوائهم صوت دقات الباب الخافتة، فتطوع هو ليفتح الباب بعدما وجد الشباب يتهربون من فتح الباب وكأنهم سيواجهون وحشًا سيفترسهم لا محالة، حرر أيوب باب الشقة، فجحظت عينيه صدمة مما رآه، وجهها متورم بشدة والدماء تنفجر من كل أنش به، بينما يدها تضم بطنها النازف لنفورة من الدماء فردد بهمسٍ مرتعب:
_آديرا!!
تراخى جسدها أسفل قدميه فلم يجد ذاته الا بأنه يحيط بها رغمًا عنه، فوجدها تحرر صوتها المتألم إليه ودموعها لا تتوقف عن الهبوط:
_لقد كنت محقًا أيها الإرهابي!

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية صرخات أنثى)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *