رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الثاني والأربعون 42 بقلم سيلا وليد
رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الثاني والأربعون 42 بقلم سيلا وليد
رواية شظايا قلوب محترقة البارت الثاني والأربعون
رواية شظايا قلوب محترقة الجزء الثاني والأربعون

رواية شظايا قلوب محترقة الحلقة الثانية والأربعون
الأماكنُ لا تساوي شيئًا،
إن خلتْ ممّن نحبُّ،
والحنينُ…
هو ذاكَ الشعورُ الدافئُ بالشوقِ،
لشخصٍ ما،
لمكانٍ ما،
لشعورٍ عابرٍ،
لحُلمٍ مضى،
لأشياءَ تلاشتْ، واندثرتْ،
لكنّ عطرَها
ما زالَ يملأُ ذاكرتَنا ومكانَنا…
نتمنّى أن تعودَ إلينا،
وأن نعودَ إليها،
في محاولةٍ بائسةٍ
لإحياء لحظاتٍ جميلة،
لزمانٍ رائعٍ
أدارَ ظهرَهُ لنا،
ورحلَ كالحُلمِ الهادئ…
فإنْ كانَ النسيانُ
قافلةً تمضي،
فالحنينُ…
قاطعُ طريق.
❈-❈-❈
اتَّسعت حدقتا إسحاق كأنَّهما على وشكِ الانفجار، وارتجَّ جسدهِ مع اندفاعِ فريقِ الأمن إلى الغرفةِ كعاصفةٍ هوجاء، توقَّفت عينيهِ عن الرؤية سوى جسدِ إلياس الداني، تقدَّم بخطوةٍ أثقلُ من أن تحملها قدماه، وقلبهِ يدقُّ كطبولِ القيامة، ولم تتزحزح عينيهِ عن الجسدِ المسجَّى وسطَ بركةٍ من الدماء، هامدًا لا حراكَ فيه، وكأنَّ الحياةَ قد لفظته.
اقتربَ أكثر، وانحنى يرفعُ رأسهِ المرتخي بين يديهِ المرتجفتين، ثمَّ تمتمَ بصوتٍ مخنوقٍ كأنَّ حنجرتهِ تختنقُ بكلِّ حرف:
– إلياس…سامعني؟ إلياس؟! رد عليَّ…
كرَّر النداء، ليفتحَ إلياس عينيهِ بإرهاقٍ يُقاومُ الموت، همسَ بنبرةٍ ضعيفة، ولكنَّها لم تصل اليه، حاول رفعَ كفَّيهِ المرتجفتين، يشيرُ إلى جسدِ أخيه الذي سقطَ مطروحًا كدُميةٍ محطَّمة، وعليها آثارُ عذابٍ لا تُحتمل..
– أرسلان…
همس بها، وكأنَّ اسمهِ آخر ما تبقّى له من الدنيا، ليغمضَ عينيه، وغاص في ظلامٍ عميق
وصل همسهِ إلى إسحاق، لتخترق أذنيهِ اسمَ فلذةِ كبده، كالسيفِ يخترق السكون، تجمَّد واستدارَ برعب، ورفع رأسهِ ببطء، حتى سقطت عينيهِ على دماءٍ متناثرة، وفراشٍ ملطَّخٍ بالدماء، ناهيك عن صوتِ إنذارٍ يملأُ الفراغَ بأزيزِ الجنون، لحظة اثنين ثلاثة ليفيقَ من بشاعةِ المشهد ويهبَّ فزعًا..
يصرخُ بجنون..بصوتٍ خرج من أعماقِ روحه، صوتٌ تمزَّقَ فيه القلب قبل الحنجرة:
– دكتوووور!!
قالها بصرخة زلزلت المكان، ارتجَّت لها الجدران، لو استمعت اليه الطيورُ لتفزع في السماء، وترتعد الأرواحُ النائمة..
ثوانٍ فقط…واقتحم الأطباءُ الغرفةَ كجيشٍ جاء من القيامة، يحملونَ بين أيديهم ما بين الحياةِ والموت، ما بين الرجاءِ والقدر..مع دخولِ مصطفى مفزوعًا يتجوَّلُ بعينيهِ في الغرفةِ التي أصبحت ساحةً لمعركةٍ دامية..
خطا بخطواتٍ ثقيلة..واقترابِ الجميع من الغرفة بعد حدوثِ هرجٍ ومرجٍ مع أصوات الطلقاتِ النارية بالداخلِ والخارج، اباختلاط انذار الأجهزة
اقترب مصطفى ببطء، كأنَّ خطواتهِ تقودهُ إلى جهنم، لا إلى جسدِ أبنه، توسَّعت عيناهُ بفزع، لا تُصدِّقُ ما ترى، وهو ممددًا، لا يتحرَّك، كأنَّ الحياةَ قد انسحبت من جسدهِ وتركتهُ بارداً، خاليًا من النبض.
ارتجفت ركبتيهِ وسقطَ على الأرضِ كمن خارت قواه، بل كمن سقط قلبهِ قبل جسده، وانحنى فوق إلياس، لا بجسده، بل بروحٍ تحترق، وهمس باسمهِ وتمنَّى بتلك الهمسة أن تكون قادرة على إعادته:
إيلي…إلياس…، ابني …
قالها بنبرةٍ مبحوحة، يشعرُ بشروخِ نبرته، وكأنَّ حلقهِ تمزَّق من الداخل.. وفي لحظةٍ كالإعصارِ دخل إسلام كمن انسلخَ عن عقله، يركضُ إلى أخيه، ولكن منعهُ المسعفون، إلَّا أنَّه دفعهم و سقط، يزحفُ حتى وصل اليه، بصراخهِ كالطفلِ وهو يجذب جسدَ أخيهِ إلى حضنه:
لااااا!! مستحيل! مستحيل! إلياس افتح عيونك، إلياس إنتَ قولت لي إيه..قالها بصرخاتٍ كالذي فقد عقلهِ تمامًا، هجم عليه الأطباء مع المسعفون، يحاولونَ منعهِ الوصولَ إلى جسدِ إلياس، لكن إسلام التصقَ به كأنَّهم سيخطفونهُ للأبد..
تأزَّم الوضعُ في حالة ضياعٍ وانهيارٍ بالكاملِ لمصطفى الحاضرِ الغائب، وكأنَّه ليس موجودًا بالمكان، ولكن إذا رأى أحدًا حالته، سيقسمُ أنَّه يعاني من خروجِ الروح من الجسد، عيونهِ التي تبدَّلت وارتعاشةِ جسدهِ بالكامل، حتى سقط يرتجفُ يتمنَّى من الله أن يصيبهُ بالعمى من ذلك المشهدِ الباكي ..
سحبَ المسعفونَ إلياس بصعوبة من بين يديهِ متَّجهينَ به إلى الفراش، مع صرخاتِ إسلام، ولكن أوقفهُ الطبيب محذِّرًا إياه:
-خرَّجوه برة..أنا مقدَّر حالتكم بس لا..
عايزين نشوف شغلنا، لازم نعرف إذا في نبض، لسة عايش ولَّا مات..
اقتربَ إسلام يريد أن يطبقَ على عنقهِ وهو يصرخ:
– لأاااااااااا!! هوَّ عايش، سامعني! إلياس سامعني!!
ومع تلك الكلمات، دوى صوتُ طبيب اخر:
لسه عايش الحمدُ لله لازم ننقله عمليات بسرعة..
وقعت الكلمات على قلبِ مصطفى كالسهمِ المسموم، تحجَّرت عينيه، وانطفأت روحه، وهزَّ رأسهِ مرارًا، هامسًا لنفسه:
عايز ابني، ابني لازم يعيش يادكتور، سامعني، لازم ابني يعيش..
-إن شاء الله سيادةِ اللوا.
نظر إلى إسلام وهو يبكي كطفلٍ فُجع.. كأنَّهُ فقدهُ للأبد، وارتفاع شهقاتهِ كانت شروخًا في قلبِ مصطفى الذي فقد الحركة والشعور ، أغمضَ عينيهِ يهربُ من صوت ابنه، وبكائه، نظر إلى ارتعاشةِ يديهِ الملطَّخة بدماءِ ابنه، ثمَّ صاحَ فجأة بصوتٍ أفزعه:
-باااااس، مش عايز أسمع صوتك، إنتَ إيه يالا، طفل، أخوك لسة عايش..هدأت نبرتهِ واختتقَ صوتهِ وهو يتمتم:
-أيوة لسة عايش، إلياس لسة عايش، مش عايز نفس، ابني عايش سمعتني، امسح دموعك إيَّاك أشوفك بتعيط، أومال سبت إيه لغادة وفر..ارتجفت شفتيهِ وتوقَّف لسانهِ عن تكملةِ اسمها، يستندُ على الجدارِ متوقِّفا:
-لله الأمرُ من قبل ومن بعد..ربِّي لا أسألك ردَّ القضاء ولكن أسألك اللطف فيه..
اقتربَ ينظر لوالدهِ بأسى، وألقى نفسهِ بأحضانهِ يبكي:
-هيقوم يابابا، أنا عارف أنُّه هيقوم..استدار يتَّكئُ على الجدارِ يجرُّ خطواتهِ بصعوبة، إلى أن وقعت عينيهِ على المسعفينَ يركضونَ بجسدِ أرسلان، يحملونه وكأنَّهم يحاولون أن أن يسرقوا من فمهِ الموت، همس اسمهِ بصراخِ قلبه حينما وجد الأطباءَ يحاولونَ إنعاشَ قلبهِ الذي توقَّف، أطبقَ على جفنيه:
-كتير على قلبك يافريدة، إذا إحنا وكدا، اللهمَّ إنِّي أشكو إليكَ ضعفي وقلَّة حيلتي ” قالها وسحب جسدهِ بصعوبة، كمن يُساقُ إلى غرفةِ إعدامه، فكيف سيواجهُ زوجتهِ بعدَ الذي حدث..
دقائقَ معدودة حتى انقلبت المشفى إلى جحيمِ صفَّارات، وصُراخ، أقدام تركض، ضباط يقتحمونَ المكانَ بعد تسرُّبِ الخبر.
أصبحت المشفى سكنة عسكرية، وجوهٌ جامدة، وعيونٌ تفتِّشُ على يدِ الغدر التي فعلت ذلك، وأسئلة لا صوتَ لها: “من فعل هذا؟”، “كيف؟”، “لماذا؟”.
أمَّا الحقيقة، فكانت تصرخُ في أذهانِ الجميع:
“من لا يملك قلبًا، لا ينتمي لدينٍ ولا وطن.”
بمنزلِ يزن..
جلسَ على جهازهِ يُنهي بعض أعماله، استمع إلى رنينِ هاتفه، حملهُ مبتسمًا بعدما وجد اسمها ينيرُ فوق شاشته، فتحدَّث:
-أوعي تقولي وحشتك، أنا لسة سايبك من ساعتين تقريبًا…نهضت ميرال من جوارِ طفلها وتحرَّكت إلى الشرفة، رفعت أناملها تعيدُ خصلاتها التي تطايرت بسبب الهواء وأجابته:
-أكيد وحشتني، بس أنا ماتصلتش علشان كدا..
تراجعَ بجسدهِ يستمعُ إليها باهتمام بعدما أحسَّ بنبرةِ صوتها الحزين، حمحمَ قائلًا:
-سامعك حبيبتي محتاجة حاجة، هوَّ إلياس رجع ولَّا لسة؟..
جذبت المقعدَ وجلست عليهِ تتجوَّلُ بعينيها في الحديقةِ قائلة:
-لا..لسة بس احتمال يبات الليلة هناك، عمُّو مصطفى بقاله فترة طويلة أوي مرجعشِ بيته، قالِّي لازم يقنعه، حتى قالي هلعب على وتر ابنها ولازم أكون جنبها..فبكدا عمُّو مصطفى هيوافق ويرجع يرتاح شوية، المهم مش دا اللي عايزة أقولَّك عليه..
-أنا سامعك خير فيه حاجة؟..
أخرجت تنهيدة شقَّت صدرها، لتقول:
-رؤى يايزن، رؤى لازم نقعد نتكلِّم معاها، بقت صعبة أوي ومبتسمعشِ منِّي أيِّ كلمة، وخايفة إلياس يعرف تغيُّرها يقلب عليها، خلِّي بالك هوَّ سامحها المرَّة اللي فاتت علشان أنا اتحايلت عليه، بس أفعالها تجاوزت كلِّ الحدود، تخيَّل بقت تسهر وترجع بعد الساعة اتناشر، لسة راجعة من شوية، وحمدت ربِّنا إنِّ إلياس مش هنا.
أجابها معترضًا على حديثها:
-أنا طلبت أخدها عندي وإنتي اللي رفضتي ياميرال..قاطعتهُ ممتعضة:
-كنت محتاجة أقرَّب منها، قولت يمكن لمَّا نقرَّب من بعض أعرف أشيل الحقد اللي جوايا منها، بس دلوقتي بقت تتمادى، أنا مش هتحمِّل تماديها دا.
-هيَّ عملت إيه ياميرال مخليكي مضايقة منها كدا؟..
حاولت تغيير الموضوع وسحبهِ إلى حديثٍ آخر فأردفت متسائلة:
-بكرة تيجي نتكلِّم معاها مع بعض، ونشوف هيَّ ناوية على إيه، وكمان لازم تقولِّي إيه اللي حصل بينك وبين رحيل، مجتشِ فرصة تحكي لي بسبب اللي حصل لأرسلان وماما فريدة..
نظر بشاشةِ هاتفهِ بعدما استمع إلى انتظارِ مكالمة فأجابها سريعًا:
-تمام بكرة هجيلك ونتكلِّم معاها، معايا تليفون مهم هكلِّمك تاني..
-أوكيه..قالتها وأغلقت الهاتف تنظرُ للخارجِ بشرود، بينما أجاب يزن سريعًا على هاتفه:
-فيه إيه، عرفت أخبار عن رحيل؟..
-لا ياباشا، المستشفى اللي فيها أرسلان الجارحي مقلوبة، كلِّمني حد من فريقِ الأمن وقال أرسلان الجارحي حدِّ حاول يقتله، رحت علشان أتأكد للأسف الوضع هنا صعب أوي..
هبَّ من مكانهِ يصرخ به:
-إنت بتنقَّطني ماتقول إيه اللي حصل عندك، أنا كنت هناك من ساعتين.
-للأسف ياباشمهندس، فيه حد هجم على أوضة أرسلان الجارحي وإلياس باشا اتصاب وحالته خطيرة جدًا، عرفت أنُّه بالعمليات…لم ينتظر تكملةَ حديثه، حمل هاتفهِ وتحرَّك للخارجِ مع مهاتفةِ كريم، بخروجِ إيمان التي خرجت على صوتهِ العالي:
-أبيه يزن فيه حاجة؟..نظرَ إلى هاتفهِ الذي أعطاهُ انشغال كريم بمكالمة، ثمَّ أشارَ على يدها:
-اقفلي مع كريم عايزه ضروري، قالها واتَّجه إلى دراجتهِ البخارية ومازال يحاولُ مهاتفةَ كريم:
-أيوة قابلني في المستشفى اللي فيها أرسلان الجارحي، فيه حد حاول يموِّته..
❈-❈-❈
عند ميرال..
نهضت من مكانها ودلفت إلى غرفةِ طفلها، راقبت نومهِ للحظات ثمَّ انحنت تقبِّله، تمرِّرُ أناملها على خصلاتهِ مرَّةً وعلى وجنتيهِ مرَّة، ظلَّت تحدجهُ لفترةٍ وثغرها مبتسمًا ترى فيه صورةَ زوجها المصغَّرة، رفع ذراعيهِ يتثاءب، فشقَّت ابتسامتها على طفولتهِ البريئة..أشارت إلى مربيَّته:
-خلِّيكي جنبه لحدِّ ما يروح في النوم، ولو جاع أكَّليه فواكه، بلاش أكل تقيل علشان ينام براحته، ومتنسيش اللبن، أنا حضَّرته له وجبته جاهزة..
-حاضر يامدام..تحرَّكت للخارج ونظراتها مازالت متعلِّقة عليهِ إلى أن خرجت وأغلقت البابَ خلفها، قابلتها رؤى تحملُ قهوتها، توقَّفت أمامها متسائلة:
-فين الشغالة؟..معقول مفيش حد يعملي فنجان قهوة!..خطت من جوارها قائلة:
-هوَّ جريمة تعملي لنفسك قهوة، أنا مشيتها، والدتها تعبانة، ومش محتاجاها، أنا طول الوقت برَّة من شغلي للمستشفى، وكمان إلياس، ولمَّا بيرجع مابحبِّش حد يعملُّه حاجة..توقَّفت واستدارت إليها تحدجها واستطردت:
-من وقت مااتجوزنا وهو مبقاش ياكل غير من إيدي..قطبت جبينها تشيرُ إليها:
-معقولة ياميرال بتوقفي في المطبخ، علشان تعملي أكل!!..
رفعت ميرال حاحبها مستغربةً ردَّها فأجابتها:
-أنا اللي مستغربة كلامك، يعني المفروض عشتي فترة كبيرة في الملجأ، المفروض الموضوع يكون عادي لمَّا أقوله، مش تكبر زي مابتتكلِّمي، اقتربت خطوةً منها وتابعت حديثها:
-وعلى العموم أنا بكون سعيدة جدًا، وأنا شايفة جوزي مش عجبه أكل غير أكلي..
-والله، ومن إمتى دا، مش شايفة إنِّ إلياس متحكِّم زيادة عن اللزوم؟..
أفلتت ضحكةً صغيرة تهزُّ رأسها ساخرةً من حديثها:
-متحكِّم، ياشيخة مش شايفة الكلمة كبيرة أوي عليكي، مابلاش إنتي يارؤى، إحنا لسة متكلِّمين في الموضوع دا من كام يوم..خطت خطوةً أخرى إلى أن توقَّفت أمامها ولم يفصلها سوى أنفاسهما وتابعت حديثها:
-رؤى لآخر مرَّة هحذَّرك تدخلي بيني وبين جوزي، وعلى فكرة إنتي من بكرة هتنقلي عند يزن، هوَّ عايزك عنده، شايف إنِّك الأولى تقعدي عند أخوكي مش جوز أختك..
-واللهِ ياميرال، بتطرديني من بيت إلياس..وياترى بتطرديني خوف ولَّا..قاطعتها ميرال ترفعُ أناملها بتحذير وارتفعت نبرتها حتى احمرَّ وجهها من الغضب:
– ولا كلمة، وبلاش أحلامك الهبلة الغير منطقية، وبعدين دا مش بيت إلياس دا بيتي أنا، اللي متعرفهوش كتبه باسمي من أوَّل مانقلنا هنا، حتى لو بيته ماهو جوزي وليَّا الحق أقعَّد اللي يريَّحني؛ واللي ميريحنيش زي حضرتك أقولُّه مع السلامة..
-أفهم من كدا إيه ياميرال؟..
استدارت للمغادرة ونطقت:
-أخوكي أولى بيكي، على الأقل لو قعدتي قدَّامه بقميص نوم اسمه أخوكي..توقَّفت وأدارت رأسها ترمقها باحتقارٍ وتمتمت بنبرةٍ مشمئزة:
-بدل ماأقعد في بيت راجل غريب وأظبَّط مواعيده وأخرج له بحجج فارغة، عيب عليكي احترمي حتى الدم اللي بينا، وافتكري إنِّ دا جوز أختك..بس لحدِّ كدا وكفاية، إلياس مبقاش عايزك في البيت..
-كدَّابة..قالتها سريعًا واقتربت منها وهتفت بنبرةٍ خرجت غاضبة اخترقت صدرَ ميرال حينما قالت:
-إنتي اللي ألَّفتي كدا، خايفة..ماهو هتفضلي خايفة منِّي، ماأنا البنت اللي كانت هتخطف جوزك، اقتربت أكثر وبخَّت حديثها كالسمِّ القاتل:
-إيه نسيتي لو إنِّك مانتحرتي كنت زماني مراته وإنتي برَّة حياته، وقتها كان فين الحبِّ اللي بتقولي وتنفخي نفسك بيه، أنا متأكِّدة هوَّ اضطر يكمِّل معاكي بعد تحذير الدكتور له، ماهو ياحرام حاولتي بدل المرة تلاتة تتخلَّصي من حياتك، كان لازم يجاريكي لحدِّ مايطمِّن، بس مكنشِ يعرف أنُّه هيتورَّط بابنك..فوقي وبصي لنفسك؛ لولا الدكتور مكنشِ كمِّل معاكي وإنتي متأكِّدة وكلِّنا عارفين أنُّه انجبر يرجع لك..
لطمة قوية على وجهها ثمَّ أشارت إليها بالخروج:
-اطلعي برَّة بيتي حالًا، مش عايزة أشوفك..لوت شفتيها:
-إيه عرِّيت حقيقتك قدَّام نفسك دا لو كنتي مش عرفاها أصلًا..بلاش تنفخي نفسك ياميرال إنتي مش أقلِّ مني، إحنا بنات راجح ياحبيبتي، راجح اللي شردهم، تخيلي واحد هيحب واحدة ابوها قتل ابوه، واغتص. ب امه، دا لو محاولش ينتقم منك وحاول اللي يعمل اللي ابوكي عمله مع أمه يعمله معاكي، ايه مش إلياس حاول يعملها
سحبتها ميرال بقوَّةٍ تدفعها خارج المنزلِ ثمَّ أشارت إلى الأمنِ الخاصِّ بالفيلا:
-خد البنتِ دي ودِّيها عند يزن، ممنوع تدخل بيتي تاني، التفتَت لها قائلة:
-متستهليش الشفقة يابنتِ راجح..قالتها وأغلقت البابَ خلفها بقوةٍ جعلت جسدَ رؤى ينتفض، سحبها الرجلُ إلى السيارة في محاولةٍ منها لإبعاده، ولكن كان الأقوى في السيطرةِ عليها، بينما جلست ميرال خلف الباب تبكي بشهقاتٍ تضعُ كفَّيها على فمها تمنعُ شهقاتها وحديثُ رؤى يخترقُ آذانها:
-إحنا بنات راجح..ظلَّت الكلمات كصوتِ رعدٍ تتذلَّلُ له الآذان..نهضت من مكانها سريعًا، وصعدت غرفتها، وقامت بتبديلِ ثيابها مع إزالةِ عبراتها التي أغرقت وجهها، حملت حقيبتها تضعُ هاتفها بها، هبطت للأسفل متَّجهةً سريعًا إلى سيارتها، تحرَّكت بخطواتٍ مبعثرةٍ، ولم تشعرُ بأنَّ حارسها الشخصي قد اقترب، ظنًّا أنَّها علمت ماحدثَ لزوجها بسبب حالتها التي كانت بها..
ألف سلامة على الباشا ياهانم، إن شاء الله يقوم بالسلامة.
لم تستمع إلى حديثهِ جيدًا، فنبضُ قلبها كان كبركانٍ يثورُ بداخلها، يشوِّشُ كلَّ شيءٍ من حولها..
فتحت باب السيارة بجسدٍ مرتعش، فتقدَّم هو ووقفَ أمامها مشيرًا إلى المقعدِ الخلفي قائلاً:
-أنا هوصَّل حضرتك للمستشفى، مينفعشِ تسوقي وإنتي في الحالة دي..
تمتمَ بها لتشعرَ بها كطعنةٍ في صدرها، فأشارت له بالابتعاد، وقد عجزَ لسانها عن النطقِ للحظات، تحاول لملمةَ شتاتها، ثمَّ همست بصوتٍ خافتٍ بالكادِ وصل أذنه:
-أنا…عايزة أسوق..تعالَ ورايا..
قالتها وصعدت إلى السيارة دون أن تضيفَ كلمةٍ واحدة..
مرَّت الدقائقُ وهي جالسةً في مقعد القيادة، لا تتحرَّك..
فقط دموعها تنسابُ على وجنتيها، وكأنَّها نارٌ تحرقها من الداخل..
رفعت الهاتفَ بيدٍ مرتجفة، أرادت أن تحادثه..أن تسمعَ صوتهِ فقط، تشتاقُ لاحتضانه، لصوتهِ الحنونِ يربتُ على قلبها الهش، لا تريدهُ أن يبتعدَ الآن، لا تريدُ من هذا العالم سوى شيءٍ واحد…هو فقط …
مرَّ الرنينُ عليها كدهرٍ وهو لم يجب عليها، تحرَّكت بالسيارة بعدما فقدت الأمل في الوصولِ إليه، تمنَّت لو أنَّ لديها أجنحة لتطيرَ اليه، تلقي نفسها بأحضانه.
بعد فترةٍ وصلت إلى المشفى، ولكن توقَّفت تلتفتُ حولها بذهول من كمِّ الأمن الذي يحاصرُ المشفى، ازداد نبضها ظنًّا أنَّ أرسلان أصابهُ مكروه، خطت بعض الخطواتِ للداخل، ولكن أوقفها الأمن يهتفُ بنبرةٍ غاضبة:
-ممنوع الدخول ياأستاذة، قسم الطوارئ بالجهة التانية.
قطبت جبينها باعتراض وأتت للتحدُّث ولكن قاطعها رجلُ الأمن الخاص بها:
-ابعد يابني دي مدام إلياس باشا السيوفي ..
دقَّق بملامحها للحظات ثمَّ رفع نظرهِ للرجلِ قائلا:
“معنديش أوامر أدخَّل أيِّ مخلوق!”
صرخ به الأمني بصرامة، واقترب ليعترضَ طريقها بجسده، لكنَّها لم تتحرَّك، بل نظرت إليه بنظرةٍ ممزوجةٍ بالدهشة، فتحت فاهها للرد ولكن قاطعها صوتُ رجلِ الأمنِ الحادِّ الغاضب:
“مين رئيسك؟ دي مدام إلياس السيوفي، من حقَّها تدخل.”
أخرج بطاقتهِ ببطء،ثمَّ أكمل:
“وأنا رئيس طقمِ الأمن الخاص بالباشا، ولَّا علشان متصاب هتتحكِّموا فينا؟!”
تدخَّل الآخر، يعترضُ بنبرةٍ لا تخلو من الاتهام:
“طيب، بدل حضرتك رجل أمن وعارف خطورة الوضع، مش من حق أيِّ حد يدخل قبل ما نتأكِّد إنِّ المستشفى خالية من الخطر، ولَّا ناوي تضحِّي بيها زي جوزها؟”
تجمَّد الزمن حولها للحظة…
“زي جوزها؟”
الكلمة ضربت داخلها كطلقةٍ باردة.. نظرت لهم بحدَّة، تتساءلُ بعينيها قبل لسانها:
“هوَّ إيه اللي بيحصل؟ إزاي تمنعني أدخل، إنتَ متعرفش أنا مين؟”
التفتت نحو رجلها الخاص، الذي شحُبَ كأنَّ روحهِ انسحبت وهتفت:
“اتِّصل بإلياس، خليه ينزل يشوف ليه مش عايزني أدخل!”
نظر إليها بعينيهِ التي تريدُ أن تخبرها بشيءٍ لا يُقال، ثمَّ التقت نظراتهِ بعينِ رجلِ الأمن، الذي تنحَّى جانبًا وأشارَ لها بالدخول..دون كلمة..
تحرَّك الرجلُ معها بصمت، عيناهُ تراقبُ الأجواء..
المستشفى انقلبت في دقائق لثكنةٍ عسكرية…ظلَّا يتحركانِ إلى أن أوقفهم المسؤولُ صارخًا:
“مين سمح لكم تدخلوا؟ اتفضلوا برَّه بدل ما نعمل مشكلة!”
اقتربَ رجلها منه، همس بنبرةٍ محذِّرة وهو يُخرجُ بطاقتهِ مرَّةً أخرى:
“مدام إلياس…هي متعرفشِ اللي حصل، أرجوك خلِّيها تطلع.”
تحوَّلت نظراتُ المسؤولِ نحو ميرال، التي كانت تتابعهم دون فهم، يدها على هاتفها، تحاولُ الاتصالَ بإلياس… ولكن لا رد..
ضغطت أكثر، قلبها يضربُ صدرها كطبولِ الحرب.
اقتربت، ثمَّ صرخت بنبرةٍ مخنوقة:
“أنا ميرال السيوفي، وماما محجوزة فوق، لازم أطلع لها!! بحاول أوصل لجوزي ومش عارفة هوَّ فين، إحنا مش مجرمين!”
أشارت على نفسها، وعيناها تدمع:
“أكيد شكلي مش شكلِ مجرمة؟!”
تبادلَ الرجالُ نظراتٍ سريعة، ثمَّ أشار أحدهم لرجلِ الأمن:
“معاهم ياابني لحدِّ فوق.”
تحرَّكت بجانبه، بخطواتٍ سريعة، تتساءل:
“هوَّ فيه إيه؟ أرسلان وماما كويسين؟”
التزم الرجلُ الصمت، وصمتهِ كان أفظع من أيِّ جواب، جعل قلبها يصرخُ من الخوف..تحرَّكت حتى وصلت إلى الطابقِ المنشود، خرجت من المصعد تخطو في أوَّلِ الردهة، ولكن توقَّفت حينما وقعت عيناها على مشهدٍ شعرت بخنقِ أنفاسها:
يزن يحتضنُ إسلام، ويحاول السيطرةَ عليه، وجهُ إسلام محمَّر، وعيناهُ دامعتان
خطت نحوهم بخطواتٍ ثقيلة رغم استعجالها، وكلَّ سيناريو مرعب يعصفُ برأسها…
هل أصابَ والدتها مكروه؟ هل أرسلان بخير؟
وقفت أمامهم، ووزَّعت نظراتِ القلق والرجاء عليهما ثمَّ تساءلت بصوتٍ مرتجف:
“ماما…ماما حصلَّها حاجة؟”
تجمَّد جسدُ يزن، وجحظت عيناه…
نسيَ تمامًا أنَّها لم تعرف بعد..
نسيَ أنَّ صدمتها ستصبحُ أكبر ماتتحمَّله..
❈-❈-❈
ميرال ردَّدها مقتربًا منها، جيتي إزاي؟..
تذكَّرت رؤى، فأردفت بصوتٍ مختنقٍ بالكادِ خرج من بين شفتيها، لكنَّه اخترقَ أعماقَ يزن كالسهم، حينما أردفت:
-لسة واصلة، عايزة إلياس، كلَّمته كتير ومبيردش، تنهَّدت بحزنٍ وتابعت:
-أنا روَّحت رؤى بيتك..ولكنَّها توقَّفت بعدما أدركت وجوده:
-إنتَ هنا بتعمل إيه؟..إحنا كنَّا بنكلِّم بعض من نصِّ ساعة تقريبًا، ومقولتش إنَّك جاي، ثمَّ وقعت عيناها على إسلام الذي تراجعَ يزيلُ دموعه، محاولًا السيطرة على بكائهِ أمامها:
-إسلام ماله؟!..اقتربت منهُ وأمسكت ذراعه:
-ماما فريدة كويسة، أوعى يكون حصل لها حاجة، إسلام، ماما فريدة كويسة؟..
هزَّ رأسهِ دون حديث، يبتعدُ بنظراتهِ عن مرمى عينيها، شهقت تتطلَّعُ إليه:
-ياربي أرسلان، أيوة هو، علشان كدا إلياس مابيردش، حسِّيت إنِّ فيه حاجة في المستشفى..دول منعونا من الدخول، بس معرفشِ أحمد قالُّهم إيه..
سحبتهُ من ذراعه:
-إسلام..فين إلياس تلاقيه دلوقتي هيتجنِّن على أخوه، أنا عارفة ومتأكدة مهما يحاول يداري، دقَّقت بملامحهِ بعدما كثُرت دموعهِ بغزارةٍ على وجنتيه..
-هوَّ إنتَ مابتردش عليَّا ليه؟..انتقلت ببصرها إلى يزن الذي يطالعها بألمٍ يشقُّ صدرهِ ثمَّ قالت:
-هوَّ حالته خطيرة أوي كدا يايزن، إيه اللي حصل، هوَّ مش كان كويس؟..
أنتوا مابتردوش عليَّا ليه؟..خطت قائلة:
-أنا لازم ألاقي جوزي دلوقتي، لازم أكون جنبه، قالتها وتحركت بعض الخطوات
تجمَّد يزن مكانه، للحظة شعر بأنَّ قلبهِ سيخرجُ من صدرهِ من حديثها:
-استني ياميرال..مش هتلاقيه.
ضاقت عينيها بتعجُّبٍ وهي تراقبُ ملامحَ إسلام الباكية، ووجههِ الشاحب، نظراتهِ الشاردة بكافَّةِ الاتجاهات، فسألتهُ بقلقٍ خانق:
– في إيه ياإسلام، معقول كنت بتحبِّ أرسلان أوي كدا؟
ولكن توقَّفت عن الحديثِ عندما وصلت الممرضة، وبكلماتٍ قليلة، ألقت قنبلتها:
– أنتو قرايب الظابط اللي انضرب، فين والده أو أيِّ حد قريب من الدرجة الأولى؟..ابتلعَ إسلام ريقهِ بصعوبة، وأجابها بنبرةٍ تصرخُ بالألم:
-أنا أخوه، وبابا جاي أهو، هوَّ فيه إيه؟..
-هوَّ المريض كان بكلية واحدة؟..
شهقت ميرال، والتفتت تنظرُ للممرضة وكأنَّها تتحدَّثُ بلغةٍ أخرى، تطلَّعت إليها بعينينِ مذهولتينِ تجاهدُ لفهمِ ماقيل، بينما إسلام، لم يستطع أن يتنفَّس، وكأنَّ شيئًا ثقيلًا ضربَ صدرهِ حتى أخرج شهقةً كشهقةِ إخراجِ الروح، ليضعَ يدهِ فوق فمه، محاولًا منعَ صرخةٍ حارقةٍ من الانفجار،
ليرتجفَ جسده، ممَّا جعل قدميهِ لم تساعدهُ على الوقوف..فتراجعَ يصطدمُ بالجدارِ بقوةٍ بعدما علمَ بما حدث..
بينما ميرال التي التفتت ببطء تتساءل:
-هوَّ مين اللي بتتكلِّمي عنُّه؟!..
ردت الممرضة سريعًا
-الظابط اللي انضرب من شوية، للأسف محتاجين حدِّ من أقاربه.. الدكتور عايزه ضروري..قالتها بوصولِ مصطفى الذي يتحرَّكُ بتثاقلٍ كأنَّ عمرهِ زاد الضعف متسائلًا بنبرةٍ مكسورةٍ متقطِّعة:
-فيه إيه يابنتي؟..
-حضرتك لازم تنزل الاستعلامات..
-ليه ؟!
-مش حضرتك والد حضرةِ الظابط إلياس السيوفي، قالتها بعدما نظرت بدفترها، ثمَّ أكملت:
-الحالة محتاجة حضرتك ضروري يافندم.
استدارت ميرال بجسدها كلِّه، على كلماتِ الممرضة الذي يتردَّدُ كصفعةٍ قاتلة، وكأنَّها نطقت حكمًا بالإعدام حينما قالت:
– للأسف…الكلية التانية متضرِّرة جدًا، وهنضطَّر نستأصلها…
توقَّفت، ثمَّ ختمت حديثها المُدمي:
– أتمنَّى تلاقوا متبرع في أقرب وقت، الدكتور هيفهم حضرتك اكتر مني
صدمة بل صاعقة ضربتهم حتى شعروا باهتزازِ جسدهم الذي كان يصرخ لهم بكمِّ الوجع:
-إنتي قصدك مين؟!
تساءلت بها ميرال بجهل..
اقترب يزن يحاوطُ جسدها، يضمُّها وأردف:
-هيكون كويس إن شاءالله حبيبتي..
-هوَّ مين؟! قالتها بتيه تنظرُ إلى مصطفى الذي شعرَ وكأنَّ الأرضَ تُسحبُ من تحت قدميه..
وميرال التي كانت على وشكِ الانهيار، طالعتهم بوجه شاحبًا كأنَّ الدم فارق ملامحها..
أمَّا إسلام، فقد انهارَ تمامًا، وخرج صوتهِ مكسورًا، نحيب في هيئة كلمات:
-يعني ممكن يموت …قالها اسلام بتقطع
أيها الجريء لا تخلق اعذارا لظلمك ولا تلقى الملامه على الاخرين لا تغمض عينك وانظر إلى كل مايدور من حولك لأنك تدرى بأن بلاؤك من صنع يديك اصنعت شئ لم ترى له ظلاً اغرست بذرة ولم تحصدها كل ما صنعت من روحك وجسدك وسيأتي اليوم ترى فيه البلاء كطفل
جلال الدين الرومي
تحرك مصطفى يجر ساقيه التي تلتصق بالأرض، متوجهًا نحو غرفة الطبيب، فتح الباب ودلف بنظرات مرتجفة إلى الطبيب، ناهيك عن قلبه الذي ينتفض بزعر داخل قفصه الصدري
-خير يادكتور؟!
تسائل بها بعيونًا ضائعة..تنهد الطبيب متأسفًا..ثم أشار إليه بالجلوس
-اقعد ياسيادة اللواء، مش خير ..
خرَّ مصطفى على المقعدِ حينما خانتهُ ساقيه بعد أن أثقلهما الوجع، وشحُبَ وجههِ وكأنَّ الحياة ذبُلت فيه، ارتفعت عينيهِ إلى الطبيبِ وتمتمَ بصوتٍ مبحوح:
– للهِ الأمرُ من قبل ومن بعد…ربِّي، لا أسألك ردَّ القضاء، ولكن أسألك اللّطف فيه.
تقدَّم يزن إليه مسرعًا، وقد اكتسى صوتهِ بنبرةٍ تُخفي الحزن:
-عمُّو لازم تقوى،
أمَّا ميرال بالخارج، فوقفت ساكنة تحدِّقُ بهم بذهول، بجبينٍ معقود، وكأنَّها لم تستوعب مايُقال، فتبعت خطواتهم بوجهٍ جامدٍ وعينينِ تائهتين، وكلماتُ الممرضة تصدحُ بأذنها..هزَّت رأسها بالرفض:
-لا..أكيد ماتقصدشِ إلياس..قالتها بنبضٍ يضربُ صدرها بقوةٍ كادت أن تخترقَ عظامها..
دلفت إلى غرفةِ الطبيب..
وجدت مصطفى يجلس كالميِّتِ الحي، بوجههِ الشاحب، وعيناهُ الزائغتانِ اللتان لا تُركِّزان، رفع عينيهِ إلى الطبيبِ وتمتم بنبرةٍ خرجت من بين شفتيهِ مثقلةً بوجعٍ لايُحتمل:
-خير يادكتور، طمِّني..
اعتدلَ الطبيب، وعدَّلَ نظارتهِ الطبية، وسحب نفسًا عميقًا كأنَّ صدرهِ قد ضاقَ بالكلمات، ورغم ذلك قال بصوتٍ هادئ:
– سيادةِ اللواء…أنا مش هلفِّ وأدور عليك، حضرة الظابط كان بيعيش بكلية واحدة، ومع الأسف، نتيجة الاعتداء الوحشي اللي اتعرض له، تأذَّت الكلية التانية بأذى بالغ..وحصل نزيف داخلي شديد، علشان كدا لازم نستأصلها، قبل النزيف مايدمَّر أعضاء تانية
سقطت الكلماتُ كالصاعقة على الجميع، ممَّا جعل ميرال تتطلَّعُ إليهم بعينينِ متسعتين، وتراجعت خطوةً كأنَّها صُدمت بالكهرباء..شهقةٌ خرجت منها، ممزوجةٌ بالذعرِ والرفض:
-هوَّ يقصد مين يايزن!! مين اللي عايش بكلية واحدة غير إلياس؟..هزَّت رأسها رافضةً ما تلفَّظ بهِ الطبيب:
-لا، إلياس كويس، هوَّ عند أرسلان، أكيد يقصد حدِّ تاني..
-حبيبتي ممكن تهدي، إنتي مش شايفة عمُّو مصطفى، ضيَّقت عينيها متسائلة بنبرةٍ متقطِّعة:
-هوَّ..إل ياس..سحب بصره يهزُّ رأسهِ بالإيجاب..انحنت على ركبتيها فجأة، حتى اصطدمت بالأرضِ لتصدرَ صوتًا قويًا مع تراخي جسدها، فقد انهارت قواها، وأمسكت برأسها تهزُّهُ بعنف، كأنَّها تطردُ الكابوس:
– لا..لا! مستحيل!..إلياس كلِّمني من شوية،، تعثَّرت كلماتها وسطَ دموعها، وعقلها يرفضُ التصديق..اقتربَ يزن منها، وحاولَ أن يرفعَ جسدها من فوقِ الارض:
– ميرال، اهدي.
لكنَّها صرخت، وراحت تضربهُ بكفَّيها، بقلبٍ انفجرَ من الألم:
-بيقول إلياس يايزن، إلياس هوَّ اللي يقصده، قولِّي لا مش هوَّ..رفعت رأسها تنظرُ لأخيها بدموعها التي تتدفَّقُ كالشلالِ، تهتفُ بنبرةٍ مغموسةٍ بالألم تترجَّاه قائلة:
-وحياة أغلى حاجة عندك، قولِّي مش هوَّ يايزن، هوَّ كلِّمني واللهِ، وقالِّي هيبات مع أرسلان هنا، علشان عمُّو إسحاق يرتاح، هزَّت رأسها ودموعها كالشلال حتى أخفت وجهها قائلةً بصوتٍ باكي:
-أه هو َّخاف إسحاق يتعب، قالِّي كفاية أرسلان، أنا مش حمل حدِّ تاني، لو كنت أعرف أنُّه جاي هنا علشان يحصل له كدا، كنت منعته..واللهِ كنت منعته حتى لو هيطلَّقني، قالتها وكأنَّ الحياة تنهارُ بين يديها، وقلبها يُسحبُ من صدرها قسرًا..
ضمَّ رأسها لأحضانهِ ينظرُ إلى مصطفى الذي لايقلُّ ألمًا عنها ثمَّ قال:
ميرال…إلياس كان ضحية لمحاولة اغتيال..طعنوه في جنبه كذا مرة، إحنا كنَّا شاكين قبل ماالدكتور يقول..
سقطت الكلمات على قلبها كالسيف..
تراجعت مذعورة، تزحفُ بجسدها الذي اهتزَّ كأوراقِ الشجرِ في مهبِّ الريح، وصرخةٌ خرجت من أعماقها:
-لا…لا..أمسكَ بها يزن مرَّةً أخرى، وأردفَ بصوتٍ مرتجف:
– حبيبتي إن شاءَ الله هيكون كويس، ادعيله، اهدي عايزين نشوف الدكتور عايز يقول إيه..مش هوَّ هيكون كويس يادكتور..قالها يزن يطالعُ الطبيب بعيونٍ مترجية..
– أكيد دا كابوس، لا كابوس، دا كدا هيموت، معندوش كلية تانية، كدا هيموت..ظلَّت تتمتم بها مع انتفاضةِ جسدها، إلى أن انهارت بين ذراعي يزن، تتمسَّك بقميصهِ كطفلةٍ اقتُلعَت من حضنِ والديها وأُلقيت في قاعِ الجُبّ..
نهضَ الطبيب بعد إحضارِ إبرةٍ مهدئة ليغرزها بوريدها ممَّا جعلَ يزن يحملها ويخرجُ بها إلى غرفة أخرى..
عدَّةُ ساعاتٍ مرَّت والجميعُ في حالةِ ترقُّب، عيونهم متشبثة ببابِ غرفة العمليات، بوجوهٍ يكسوها الألم والحزن..
وصلَ زين وأولادهِ بعد أن تسرَّب الخبر، فوجد مصطفى جالسًا على المقعد، بجسدٍ منهكٍ وكأنَّ الحياةَ انسحبت منه..
اقتربَ منه زين يواسيه، ثمَّ جلس إلى جواره، وقال بنبرةٍ خافتة:
– إن شاء الله يقوم بالسلامة…أنا لسه عارف من آدم لمَّا الخبر نزل على المواقع..
أومأ له مصطفى بصمت، ولسانـهِ معقود، لا يقوى على الكلام.
ربتَ زين على كتفهِ بلطف وقال:
– استودعناه عند ربِّنا، وإن شاء الله يرجعلك بالسلامة…
همسَ مصطفى بانكسار:
– اللهمَّ لا اعتراض…
فجأة، دوت صفاراتُ الإنذار من داخلِ غرفة العمليات..
هبَّ الجميعُ مذعورين، وخرجت الممرضة مسرعةً دون أن تنطقَ بكلمة، فيما تدافعت الأسئلة من أفواههم، والقلق ينهشُ قلوبهم..
بمنزلِ راجح..
قبل عدَّةِ ساعاتٍ استمعَ إلى رنينِ هاتفه:
-تمام ياباشا، الولاد خلَّصوا المهمة، بس اتنين ماتوا، والتالت اتمسك..
-يعني قتلوا الظابط؟..تساءلَ بها بتقطُّعٍ وقلبهِ الذي يصفعهُ على ما فعله..
أجابهُ الآخر:
-الاتنين ياباشا، آخر المعلومات أخوه الكبير كان هناك، هقفل معاك علشان أخبر الباشا الكبير، علشان إفراج العفو..
هوى راجح على مقعدهِ عندما اختلَّ توازنه، يدورُ بأنظارهِ بالغرفةِ بأكملها، ولم يشعر بتلك الدمعة التي تحرَّرت من مقلتيه..
-آاااااه..صارخة يطيحُ بكلِّ مايُوضعُ على مكتبهِ وصرخَ بصوتٍ مرتفع:
-ليييييه، ليه عملت كدا، آاااه، ردَّدها عدَّة مراتٍ إلى أن توقَّف يدمِّرُ كلَّ ما يقابلهُ حتى أُنهكَ جسده، وهوى على الأرضيةِ يبكي بصرخاتٍ مرَّة، ويضربُ رأسهِ بالجدارِ مرةً أخرى:
-ليه..مبسوط دلوقتي، بدل ماتنضَّف نفسك بتغرق أكتر وأكتر، المرَّة دي إيدك ملوَّثة بدمِ أخوك وعياله ياراجح، حاولت تبعد ومادوَّرشِ عليهم علشان ماتوصلشِ لكدا، وفي الآخر حصل اللي كنت خايف منُّه، إنتَ قذر ياراجح قذر، قذر علشان سمعت كلام واحدة نجسة زي رانيا لحدِّ ماعرفت..
آااه يارانيا لو لسة عايشة كنت زماني دفنتك حية، هوى برأسهِ على ركبتيهِ يبكي لأوَّلِ مرَّة..يضغطُ بقوةٍ على ركبتيه:
-شوفت يابا ابنك اللي كنت بتتفاخر أنُّه ظابط، النهاردة قتل ولاد أخوه ووافق زمان على قتلِ أخوه، أنا بحمد ربنا إنَّك مت قبل ماتشوف ابنك وصل لإيه..
تراجعَ بجسدهِ مستندًا على الجدارِ يحدِّثُ نفسهِ وابتسمَ ساخرًا:
-كنت عايز تتوب، كنت بتحاول تكبر جنبهم علشان توقَّعهم وتاخد تار أخوك، أهم لعبوا عليك ياراجح وسبقوك وورَّطوك بدم ولاد أخوك، إيه كنت عامل عبيط ومفكَّر أنُّهم مش هيقدروا يموُّتوهم..هنا فاقَ من صدمتهِ ونهض من مكانهِ يدورُ بالغرفة:
-إزاي قتلوهم، هوَّ مش إلياس كان في المكتب؟. الواد قالِّي أنُّه في المكتب، أكيد في حاجة غلط..تمتمَ بها ورفع هاتفهِ وقامَ بالاتصالِ برؤى، لحظات وأجابت على الهاتف:
-أيوة مين؟،،
-رؤى، إلياس السيوفي عايش ولَّا مات؟..
ابتعدت عن الجميع وتحدَّثت بنبرةٍ غاضبة:
-إنتَ اللي عملت كدا، إنتَ اللي بعتّ ناس يموِّتوه؟..
-بقولِّك مات ولَّا عايش؟..جاوبي وبس..
-لسة عايش ياباشا، وإن شاءالله يقوم بالسلامة وينتقم من كلِّ اللي عمل فيه كدا…قالتها وأغلقت الهاتف، ليتراجعَ راجح بهدوء ولا يعلم لماذا ابتسم:
-عايش، عايش..طب جمال اسمه إيه الواد التاني بنسى اسمه..تحرَّك إلى المقعدِ مع دلوفِ رجلهِ الأوَّل المسؤولِ عن عملياتهِ المشبوهة:
-راجح باشا، العيال نفذوا المهمة، بس مفيش خبر يؤكِّد موتهم، بس عيونَّا في المستشفى.
رسمَ ابتسامةٍ ونهضَ من مكانهِ قائلًا:
-هيموتوا ياعوض، العيال اللي اتعيِّنوا للمهمَّة على أكمل وجه وعارفين بيعملوا إيه، المهم سيبك من الموضوع دا، وقولِّي إيه أخبار الدمنهوري مع هشام، لسة فيه خلافات بينهم زي مابيقول؟..
-أكيد ياباشا، ومش بس كدا، دا طرده علشان جالك هنا وهدَّدك.
شقَّت ثغرهِ ابتسامةٍ ساخرة، وتحرَّك نحو البار، يسحبُ كاسًا ويتناولُ ماحرَّم الله قائلًا:
-يستاهل…ثمَّ التفتَ إليه وقال بنبرةٍ آمرة:
-خلَّص الشغل، عايزين نحتفل بالعملية الأخيرة، قبل ماالباشا يقولِّنا هنصفِّي مين المرَّة الجاية..قالها وأشار إليهِ بالخروج..غادرَ الرجل، ليُلقي راجح الكوبَ من يدهِ ويسبُّهُ بعدما خرجَ متمتمًا بهسيسٍ مرعب:
-واللهِ لأندِّمك ياخاين ياحقير، اصبر عليَّا أوصل للِّي عايزه..
عند رحيل..
جلست بمقابلةِ يعقوب يتحدَّثون عن العملِ المشتركِ بينهما، قاطعهم دلوفُ كارمن:
-صباح الخير، هعطَّلكم .توقَّف يرفعُ يديهِ ويجذبها لأحضانه:
-زوجتي الجميلة، أنرتي الشركة كما أنرتي حياتي..راقبتهما رحيل بعيونٍ سعيدة، ثمَّ توقَّفت قائلة:
-طيب نكمِّل بعدين..أوقفها بإشارةٍ من يديه:
-انتظري رحيل..لم نكمل بعد، كارمن ستغادر، ابتسمت إليه زوجتهِ وبسطت كفَّيها بصندوقٍ قائلة:
-Happy birthday
قهقهَ بصوتهِ الرجولي:
-كنت أعلم أنَّكِ لن تنسين..جلست بجوارِ رحيل، بعدما ارتفعَ رنينُ هاتفه، فاعتذرَ مبتعدًا:
-عفوًا..جلست بجوارها وتحدَّثت:
-عاملة ايه، زعلانة منك علشان رفضتي دعوتي
-اسفة كنت تعبانة، ومقدرتش أخرج
-يعقوب قالي كدا، وقالي كمان انك حامل، ألف مبروووك
-ميرسي ..تأففت تنظر إليه وهو يتحدث بعصبية بهاتفه، ثم اردفت
– رغم انه نسي عيد ميلاده، فقولت أعدِّي بهدية، وكانت دي النتيجة، بيزعق في التليفون
ابتسمت رحيل بإعجابٍ لحياتهما ثمَّ تساءلت:
-لسة محتفظة باللهجة المصرية..
-طبعا علشان ولادي، مكنشِ ينفع مايعرفوش لغتهم، غير كمان حفَّظتهم بعض سور من القرآن.
-ربِّنا يبارك لك فيهم، ولادكم كبار؟..
-مش أوي، عندنا بنت وولد.
-ماشاء الله ربِّنا يحفظهم، مسميينهم إيه بقى؟..مش تطفُّل بس يمكن الاسم يعجني..
-ربِّنا يكمِّلك على خير..إحنا معانا جواد اتناشر سنة، وغزل سبعة..
قطبت رحيل جبينها مردِّدةً الاسمين:
-جواد وغزل..وااااو حلوين أوي..
طبعًا…قالتها كارمن بابتسامةٍ سعيدة واستطردت:
-جواد دا اسم عمُّو جواد اللي رباني بعد بابا الله يرحمه، وغزل مراته، إن شاء الله لمَّا ننزل مصر يبقى أعملِّك دعوة وأعرَّفك عليهم..رفعت يديها وكأنَّها تذكَّرت شيئًا:
-غزل دي دكتورة وعندها مستشفى..
ارتشفت من قهوتها تهزُّ رأسها بابتسامةٍ سعيدة:
-أيوة إنتي تعرفيها؟..أيوة صح دي مشهورة جدًا في مصر، ودايمًا بتعمل ندوات طبية عن مرض الكانسر، أكيد عرفتيها من شهرتها؟..
هزَّت رأسها بالنفي وأجابتها:
-لا ..الحقيقة بابا اتجحز عندهم شوية، فافتكرت، بس شكلك بتحبِّيها أوي بدليل إنِّك تسمِّي ولادك على أسمائهم..
-طنط غزل وعمُّو جواد دول معنى يعني إيه حب، وعيلة وحنان، كل حاجة …على فكرة من وقت حكيتي لي وأنا بفكَّر ولازم نتكلِّم لو بتعتبريني صديقة، بس مش في وجود يعقوب..
-أوكيه..
-إن شاءالله، سعيدة اني اتعرفت عليكي..قاطعهم وصول يعقوب
-رحيل سأخرج، عليك الاستكمال
-فيه حاجة..تسائلت بها كارمن
-نعم..هيا بنا سنخرج
بعد فترةٍ وصلت إلى منزلها تشعرُ بإرهاقٍ بجسدها، قابلتها والدتها:
-حمدَ الله على السلامة ياحبيبتي.
-الله يسلِّمك ياماما..تناولت الخادمة حقيبتها، ثم ألقت نفسها فوق الأريكة..
-حاسة عايزة أنام، معرفشِ النهاردة راسي تقيلة أوي ياماما.
ربتت والدتها على كتفها وأردفت:
-علشان كدا بقولِّك اللي بتعمليه غلط ياحبيبتي، دي أعراض الحمل..
– ماما..قالتها باعتراض حتى لا تتحدَّث والدتها مرَّةً أخرى..
توقَّفت مبتعدةً عنها ثمَّ قالت:
-إنتي كنتي تعرفي بموضوع فريدة السيوفي؟..
رفعت عينيها بجهل وتساءلت:
-مالها؟..أنا معرفهاش غير إنَّها مرات عم..صمتت ولم تقوَ على تكملةِ حديثها، جلست والدتها ترمقها واستطردت:
-حتى اسمه مش قادرة تقوليه، طيب يارحيل الِّلي يوصَّلك إنِّك تكرهي شخص بالطريقة دي..يبقى أكيد عمل فيكي حاجات تانية غير اللي حكيتها، مش موضوع أنُّه اتجوِّزك علشان ياخد الشركة من راجح ..
تنهَّدت بحرقة، وأحداثُ الماضي تضربُ عقلها لينتفضَ قلبها بنبضاتهِ ولا تعلم هنا، لما هذا النبض؟..هل غضبًا ام اشتياقًا؟.قاطعت شرودها والدتها:
-يزن عمل فيكي إيه يارحيل غير موضوع أنُّه خبَّى عليكي أنُّه ابنِ راجح؟..
-وحضرتك شايفة موضوع أنُّه يخبِّي عليَّا دي بسيطة؟..
دقَّقت والدتها النظرَ بهروبها ثمَّ تساءلت:
-رحيل إنتي حملتي من يزن إزاي وإنتي بتكرهيه كدا؟..أوعي يكون اغتص..هبَّت من مكانها منتفضةً رافضةً حديثَ والدتها..
-إيه اللي حضرتك بتقوليه دا ياماما!! أنا تعبانة ومش قادرة أتكلِّم قالتها..ثم صعدت إلى غرفتها هاربةً من نظراتِ والدتها.
دلفت للداخل بعيون متحجرة، هوت على فراشها تبكي بصمت، رفعت كفيها تضعها فوق احشائها
-ياترى اللي هعمله فيك دا صح ولا غلط، حاولت اسامح باباك بس مش قادرة، الخيانة صعبة اوي، بكرة لما تكبر احكي لك ..ابتسمت حينما تذكرت أنها سترزق بجنين، اعتدلت ونهضت متجهة للمرآة، تنظر بهيئتها، تحرك أناملها على احشائها، ثم اردفت
-ياترى هتكون شبهي، ولا شبه باباك، المهم تعرف اني بحبك ومستحيل اتخلى عنك ..استمعت الى رنين هاتفها، فاتجهت والتقطته
-إيلين ..عاملة ايه
-أنا كويسة حبيبتي، بتصل بخالتو مابتردش، ممكن تديلها التليفون عايزاها ضروري
-حبيبتي صوتك ماله، خالو كويس ..
-أيوة الحمد لله، على فكرة ابن عمتو فريدة مضروب وحالته خطيرة
-ابن عمتو فريدة مين
سحبت ايلين نفسا واردفت:
-إلياس السيوفي، ايه يزن مالقكيش
هنا تذكرت حديث يزن، فتحركت إلى والدتها قائلة
-مااهتمتش اصلا، كل اللي اعرفه انه له ابن عم، بس مين ماسألتش
-طيب عايزة خالتو ضروري ..بسطت كفها لوالدتها
-إيلين عايزة تكلمك ضروري
تناولت الهاتف بلهفة بعد الحاحها
-إيلين حبيبتي خير…استمعت إلى شهقاتها فأردفت بتساؤل
-ماما خانت بابا ياخالتو مع ابن الدمنهوري …هبت من مكانها بعيونا جاحظة ثم تسائلت
-مين قالك كدا…استمعت إلى شهقاتها واستطردت:
-ليه عمو جمال مات ياخالتو، ليه انا عرفت الحقيقة
-مش صح ياحبيبتي، ايه اللي بتقوليه دا، امك مستحيل تعمل كدا
صاحت بغضب قائلة:
-الراجل دا قتل عمو جمال لما منعها تهرب معاه مش كدا
-لا مش كدا يابنت محمود، ومعرفش جمال مات ازاي، وبعدين جمال مركبه غرقت ايه اللي جاب امك في الموضوع…لأنها هي السبب ياخالتو، انا لقيت جواباتها، عمو جمال مات بسبب امي ..هو اتقتل المركب ماغرقتش
-اخرصي يابت واياكي اسمعك تقولي كدا، سمعتيني
بالمشفى عند إلياس..
خرجَ الطبيبُ أخيرًا، والإرهاق خيرُ دليل على صعوبةِ الوقتِ الذي مكثهُ بالداخل..توقَّف مصطفى أمامه:
-خير يادكتور..
-الحمدُ لله النزيف وقف، واستأصلنا الكلية، بس للأسف المريض دخل في غيبوبة..
شهقة أخرجتها ميرال وكأنَّ روحها صعدت إلى بارئها لتتقدَّمَ بخطواتٍ متعثِّرة:
-عايزة أشوفه، مش أشوفه بس عايزة سرير جنبه.
-مينفعشِ يامدام..نطقَ بها الطبيب سريعًا..التفتت إلى مصطفى وعيناها كمجرى لشلالٍ قائلة:
-قولُّه ياعمُّو، قوله خلِّيني جنبه، مش هقدر أتنفس وبينا باب..
جذبَ رأسها لأحضانهِ ينظرُ للطبيب:
-خلِّيها معاه يادكتور، بس عايز أعرف إيه اللي المفروض يتعمل دلوقتي هوَّ من غير كلى؟..
-هنعمل غسيل كلوي كلِّ فترة، نحمد ربنا تأذِّي الكلية ماأثَّرشِ على أعضاء تانية، بس ياريت نشوف متبرِّع بسرعة، الكلية دي كانت مزروعة، مش كدا ..
اومأ مصطفى بعد تذكره بتبرع فريدة له
-ايوة، من هو طفل، جاله فشل كلوي، بسبب دواء غلط، وعملنا زرع كلى،
-لازم نشوف متبرع في اسرع وقت، وإن شاء الله الغيبوبة ماطوِّلش..
-لمَّا أكون جنبه هيصحى، لو سمحت.. قالتها ميرال برجاء
صمتَ الطبيبُ للحظاتٍ ثمَّ هزَّ رأسهِ قائلًا:
-تمام..هخلِّي الممرضة تدخلك كلِّ تلات ساعات عنده شوية، بس مينفعشِ تكوني ملازمة معاه، دا علشانه مش علشان أمنعك..مُعافى إن شاءَ الله..تمتمَ بها الطبيبُ وتحرَّك..لتشهقَ ببكاءٍ مرتفعٍ بأحضانِ مصطفى:
-أنا خايفة أوي عليه، قلبي مش عايز يطمِّني، طفِّي ناري ياعمُّو وقولِّي هيقوم بالسلامة، طمِّني عليه لو سمحت ياعمُّوو..
سحبها يزن من أحضانِ مصطفى بعدما وجدَ حالته، اقتربَ زين يساعدُ مصطفى بالجلوس:
-خير إن شاءَ الله، ربِّنا يحميه ويقوِّمه بالسلامة، بس دلوقتي فريدة إزاي هنقولَّها؟..
-لا لا..فريدة مش لازم تعرف حاجة، دي ممكن تموت فيها.
-خلاص اهدى، إن شاء الله تعدِّي على خير، أنا هنزل أشوف فاروق الجارحي، وأطَّمن على أرسلان، هوَّ خرج من العمليات من ساعتين، والحمدُ لله الدكاترة طمِّنونا، هنزل أبص عليه وأرجع لك..قالها زين وهو يرمقهُ بنظرةٍ متألمة..أومأ مصطفى دون حديث..مما جعل زين ينسحبُ للمغادرة، بينما يزن حاوطَ جسدَ ميرال يجذبها إلى المقعد، أجلسها عليه، وحاوطَ وجهها:
-حبيبتي ممكن تهدي، عايزك أقوى من كدا، مينفعشِ انهيارك دا، لازم تقوي علشان طنط فريدة، وكمان يوسف، ينفع إلياس يفوق وتبقي كدا..
وضعت كفَّها على صدرها تنظرُ لأخيها بعيونها التي تحوَّلت إلى بركةٍ من الدماء:
-دا بيوجعني أوي يايزن، ومش هيبطَّل وجع طول ماهو جوا، أنا ماليش حياة من غيره، قولِّي إزاي أعيش وأتماسك وحياتي مش ملكي، حياتي جوَّا، جوا بين الحيا والموت..
احتضنَ كفَّيها يربت عليهما بحنانٍ أخوي:
-اختبار حبيبتي، ولازم تكوني قدُّه، أنا مكنتش أعرف إن إلياس بكلية واحدة، بس تقبَّلت قدر ربنا، مش يمكن فيه حاجة في علم الغيب إحنا منعرفهاش..
-آاااه..ياقلبي
بمكتبِ وكيل النيابة:
-جلس راكان مع أحدِ الضباط الذي تمَّ تعيينهِ بالقضية:
-إحنا بنحقَّق مع الولد اللي اتمسك، بس ماطلعناش بحاجة، هنحوِّله لحضرتك..
أومأ له ثمَّ نظرَ إلى أوراقِ القضية:
-ابعتهولي، وممنوع عنُّه الزيارات نهائي، والأفضل يكون انفرادي، وحاجة أخيرة مش عايز أيِّ حد يقرَّب منُّه، حتى لو كان عسكري، عيونك ماتفرقوش..
نهض الضابط قائلًا:
-تمام، دا اللي عملته بالفعل، بس حضرتك متنساش إنِّ أمنِ الدولة طلبته، وإحنا مش هنقدر نرفض.
-القضية ماتخصهمش، دا واحد مضروب في مستشفى خاصة، يعني مالوش علاقة بالسياسة..
-بس يافندم الظابط يخصُّهم..سحب راكان سيجارتهِ يشعلها ثمَّ رفع رأسهِ إليه وأردفَ بمغذى:
-دا لو مفيش معايا أدلة إنِّ القضية قضية شخصية، محدش يقدر ياخده،
طالعهُ باعتراضٍ متمتمًا:
-بس النية قتل أخوه، الِّلي محدش كان يعرف أنُّه أخوه أصلًا ولا بيشتغل إيه..
مطَّ راكان شفتيهِ معترضًا على حديثه:
-اعمل اللي قولت لك عليه وبس
– تمام..قالها وتحرَّك للخارج..بينما رفع راكان هاتفهِ وهاتفَ أحدهم:
-إنتَ يابني هتفضل عندك كتير؟..
أجابهُ الآخر ضاحكًا بعدما ابتعدَ عن الجميع:
-أوعى تكون متَّصل بيا علشان وحشتك؟..
-لا يافاشل، علشان محتاجك هنا، توحشني ليه هوَّ إنتَ مراتي.،
قهقه جاسر قائلًا:
-وأنا لو واحدة ستِّ هرفضك..أفلتَ راكان ضحكةً حتى دمعت عيناه؛ ونهض من مكانهِ متَّجهًا إلى النافذةِ واستأنفَ حديثه:
-مغرور يابنِ الألفي.
-طبعًا وأمور كمان والبنات بتقع في حبُّي..
-أيوة عارف ومتأكِّد من كدا، هتقولِّي، احترم شيبتك ياأخويا، ولادك بقوا طولك..قاطعهم صوتُ جنى:
-جاسر بتكلِّم مين؟..
-راكان حبيبتي، شوية وجاي..
هزَّت رأسها وتحرَّكت تنادي على أولادها..أردفَ راكان بجدية:
-إلياس السيوفي حاولوا يقتلوه، هوَّ وأرسلان الجارحي..
-أيوة شوفت الأخبار، وعرفت إنَّك مسكت القضية، فيه حاجة ولَّا إيه؟..
-أه، القضية دي مش متركِّبة طبيعي، مش معقول عمُّه هيحاول يقتلهم في مستشفى وفيهم واحد في غيبوبة..
-بالعكسِ ياراكان، المستشفى أسهلُّه، وخاصةً إنَّها مش عسكري.
-لا ياجاسر، أنا متأكد مش هوَّ، فيه حاجة مش مفهومة، يعني أخوه يختفي تلات شهور، وفجأة يظهر حد طلع عليه وضربه ويدخل غيبوبة، وبعد كدا يحاولوا يقتلوه، فيه حاجة ناقصة..
-أممم…مش إلياس كان جابلك فيديوهات توريط عمُّه في أعمال مشبوهة..يمكن عرفوا بكدا علشان كدا حاولوا يتخلَّصوا منهم، بدأوا بأخوه، وبعدين هوَّ..
-لا دا إنتَ الإجازة ضربت عقلك، يابني هيروحوا يقتلوا إلياس وهوَّ عند أخوه، أنا بقول كانوا قاصدين أخوه، أنا دوَّرت وراهم منكرش، ابنِ الجارحي كان مسافر، بس مش بلد واحدة، دا عدِّة بلاد وتوقيت مختلف..
-إنتَ تقصد إيه مش فاهم؟..
-شغل أرسلان ياجاسر، دا مربط الفرس، الواد جاي من برَّة مضروب، يعني مش مضروب في مصر..
قطبَ جاسر جبينهِ متسائلًا:
-إزاي هيجي مضروب من برَّة؟..إنتَ بتهزر، مش لازم يكون السفارة عندها علم
-اقفل ياجاسر، جنى بتنادي عليك، دا لو بشرح لكنان ابنك العيل كان طلع بمعلومة، مش قولت ظابط فاشل..
-هردهالك على فكرة، أعمل إيه القلب والعقل مشغولين دلوقتي..
قهقهَ راكان يهزُّ رأسه:
-بحقد عليك يابنِ الألفي..
مرَّت الأيام والقلوبُ مشتعلةً كالجمر، بل ثقيلة كأنَّها جبالٌ تنهارُ على صدرها، والساعاتُ تُقطِّع قلبها رويدًا رويدًا، وكأنَّ الزمن توقّفَ عند أنينِ الأجهزة وأزيزِ أنفاسهِ الضعيفة..جلست بجوارهِ كما اعتادت، ولكن كلَّ يومٍ يمرُّ كان يأكلُ من روحها قطعة، ويُطفئُ من عينيها وهجَ الحياة.
بسطت كفَّها الذي ارتجفَ من شدَّةُ حزنها ومرَّرتهُ على وجههِ الباهت، تبحثُ في ملامحهِ عن روحهِ التي فقدتها تلك الأجهزة اللعينة، ظلَّت تمرِّرها حتى توقَّفت على شفتيهِ التي شحُبَ لونها، تاهت ابتسامته، رغمَ أنَّها قليلة ولكنَّها كانت تبعثُ الطمأنينة في قلبها، أمسكت بمحرمةٍ ورقية، بللَّتها دموعها قبل أن تلمسَ بها جبينهِ البارد..
وبدأت تمسحُ وجههِ، كأنَّها تحاولُ إعادةَ الدفءِ إليه بلمستها المرتعشة، وهمست بصوتٍ اختنقَ بالعبرات:
دقنك طولت شوية، ينفع أحلقها، بس عارف شكلك قمر فيها..انحنت تضعُ جبينها فوق جبينه..هنا عجزت دموعها بالاختباء، فانفجرت كالبرك:
-إلياس..أنا وحيدة، ماليش غيرك، أوعى توجعني كدا حبيبي، أنا ماليش أهل غيرك، مش عايزة لا يزن ولا رؤى، عايزاك إنت، أوعى تعملها معايا، لأن مفيش حنان في الدنيا غير حضنك، أنا دلوقتي فهمت كلمتك لمَّا قولت لي يمكن اللي مش لقتيه عندي تلاقيه عند يزن..لا حبيبي أنا لقيت معاك كلِّ حاجة، أوعى تخلِّ بوعدك، هزعل منك، هتسيب مراتك وابنك في الدنيا يتعذِّبوا من غيرك؟.
ارتجفَ صوتها وهي تتذكَّر كلماتهِ القديمة..
وضعت رأسها فوق صدرهِ وحاوطت جسدهِ بذراعيها، تحاولُ سحبه من غيبوبتهِ بعنفِ الحب، وصراخ قلبها..
شهقة عالية خرجت منها لتشعرَ بتمزُّقِ أحشاءها، كأنَّ القلبَ ينهارُ من الداخل، ثمَّ تابعت بصوتٍ تائه:
– أنا بموت…واللهِ بموت، مش قادرة أتنفس…رجَّعلي روحي ياإلياس… رجَّعلي عمري، مراتك بتموت من غيرك، مش إنتَ قولت لي إنَّك بتحبِّني، طيب اثبت لي ياإلياس..اثبت لحبيبتك إنَّك بتحبِّني..قاطعها دخولُ مصطفى، يتحرَّكُ بجسدٍ كالظل، ذابت ملامحهِ من الحزن، من يراهُ لا يصدِّقُ أنَّ الذي يرقدُ على فراشهِ ليس من دمه، اقتربَ منها، وبسطَ كفِّه على رأسها بحنانٍ أبوي موجوع:
– قومي حبيبتي، ارتاحي شوية، شوفي ابنك بيسأل عليكي.
هزَّت رأسها، بعينينِ غارقتين:
– أرتاح إزاي وهو بيتألِّم كدا؟ أرتاح إزاي وقلبي بيتقطَّع؟ أنا مستعدة أتنازل عن حياتي كلَّها عشان يرجع يفتح عيونه بس، قولُّه ياعمُّو، قولُّه يفتح عيونه وأنا أعملُّه اللي عايزه، قولُّه ميرال مش هتقدر تعيش من غيرك.
تنهَّد مصطفى، كأنَّهُ يسحبُ من روحه آخر ما تبقَّى من أمل:
– إن شاء الله هيقوم، وترجعي تتخانقي معاه، وتيجي تشتكي لي منُّه زي زمان…
ابتسمت بمرارةٍ وهي تتهاوى في حضنهِ مع ارتفاعِ شهقاتها:
– مش هشتكي تاني…واللهِ ماهزعَّله، بس يقوم، هتنازل عن كلِّ حاجة، كلِّ حاجة مستعدة أتنازل عليها حتى روحي وحياتي كلَّها، بس مايسبنيش، الفراق وحش وأنا ضعيفة مش قدُّه، ميرال ماينفعشِ تعيش من غير إلياس..واللهِ ماتعرف تعيش من غيره..
انهارَ مصطفى مع دموعهِ التي خانته، تسقطُ بصمت، وهو يهمس:
– مش إنتي بس ياحبيبتي اللي متعرفيش تعيشي من غيره، كلِّنا… وربِّنا مش هيضرِّنا فيه..لازم نفضل متمسِّكين، قولي يارب…
أومأت برأسها، أمسكت دموعها بصعوبة، تمسحُها بقوة، وحاولت أن تتماسك:
-حاضر…عندك حق، لازم أتماسك علشان هوَّ يقوم..
ربتَ على ظهرها بحنان بعدما ضمَّ رأسها لأحضانه:
-برافو عليكي حبيبتى، أهو كدا أقول إنِّي عرفت أربِّي، يالَّه امسحي دموعك وروحي زوري والدتك، بتسأل عليكي مش عايزين نحسِّسها بحاجة، ماصدَّقنا إنَّها اقتنعت بسفر إلياس في شغل..حاضر هعدِّي على ماما بس بعد شوية، لازم أسند نفسي علشان ماضعفش قدَّامها..قاطعهما دلوفُ الطبيب، اقترب، ثمَّ فحصَ إلياس بهدوءٍ يثيرُ الرعب، ثمَّ نظر إلى مصطفى بنبرةٍ مختصرة:
– لقيتوا متبرع؟.الغسيل على حالته تقيل، دلوقتي هوَّ في غيبوبة ومش حاسس، بس لمَّا يفوق هيكون صعب عليه..
ارتجفَ قلبُ ميرال، ثم نظرت إليه بتلهُّف:
-هيَّ الغيبوبة من الكلى يا دكتور؟
– لا، من النزيف اللي حصل…إن شاء الله يفوق قريب، بس لازم نلاقي متبرِّع بشكل نهائي، الغسيل مرهق لحالته جدًا، احنا بنعمله يوم ويوم، يعني بحالته دي هيكون صعب ..قاطعه مصطفى:
-كلِّنا عملنا التحليل ولسة بانتظار النتيجة، إن شاءالله حد مننا يتطابق..
تركتهما وخرجت من الغرفة بعينيها المتعلقتينِ بجسده، حتى أغلقت الباب..وجدت غادة أمامها، ضمَّتها دون كلمة:
-إيه الدكتور مقالشِ فيه جديد، ما تقوليش مفيش جديد؟…
أجابت بنبرةٍ مبحوحة:
– مفيش، فيه رحمة ربِّنا ياغادة…
وقعت عينيها على يزن يحملُ صغيرها..لم تحتمل، ركضت إليه، ثمَّ تلقَّفتهُ بلهفةٍ تحتضنهُ كأنَّها تغرسُ وجهها في حضنهِ الصغير، لتستنشق رائحة الغائب منه:
– حبيبي…وحشتني…
ضربها بكفِّه الصغير، وقال:
– با…با…
كأنَّها سُمِّرت، شهقت، ثمَّ جثت على الأرضِ تحتضنهُ تبكي:
– يا روح بابا…يااارب ما تحرمنا منُّه…
اقتربَ يزن، يأخذ طفلها ثم ضمَّها:
– ينفع كدا يا ميرال؟! طب سبتي لماما فريدة إيه؟ محتاجة تقوي شوية، لازم تروحي لها، بتسأل عليكي كلِّ شوية، جوزك لسه عايش، بلاش ضعفك دا.،
-آااه..قلبي مولَّع نار يايزن، بحاول بس كلِّ اللي بيحصل أقوى منِّي..
حاوطَ جسدها بحنانِ ذراعيهِ يشيرُ إلى غادة
-خدي يوسف ياغادة، ثم التفت اليها -حبيبتي إن شاءالله يفوق، عايزك تقوي، إنتي مرات إلياس السيوفي، لازم تقوي عن كدا، الإعلام كلُّه برَّة..هتخرجي إزاي بشكلك دا، دي مش مرات إلياس، اعرفي إنِّ جوزك يستاهل الدنيا كلَّها تعرف أنُّه اتغدر بيه من ناس لا دين ولا قيم..
رفعت عينيها التي انطفأت وتمتمت:
-زي أبونا يايزن، مش بعيد أنُّه هوَّ اللي عمل كدا…تسمَّر جسدهِ للحظات:
-لا..ماأظنش، وهوّّ يقتله ليه؟.لو عايز كان قتله من زمان..
أشارت إلى غادة وأردفت:
-خدي يوسف وروحي ياغادة، خلِّي بالك منُّه..ثمَّ التفتت إلى يزن:
– عايزة أشوف أرسلان، ودِّيني عنده…
– لأ، ممنوع الزيارات، أنا حتى مشوفتوش، الِّلي عنده إسحاق بس…
هزَّت رأسها، بعينينِ تشتعلان بإصرار:
– اتِّصل بيه، لازم أشوفه…ده مش أيِّ حد، ده ابنِ عمِّنا، وأخو جوزي… محدِّش يقدر يمنعني، قالتها ثمَّ انطلقت إلى الأسفل، وقلبها يسبقُ خطواتها، متَّجهةً للطابقِ الذي يُحتجز فيه أرسلان، وكأنَّ خلف ذلك الباب، جزء من الأجوبة، لما صار ذلك لزوجها؟
مرَّت عدَّة أيامٍ أخرى، لم تخلو من شيئٍ سوى معرفةِ فريدة بما صار لابنها، تقبَّلت الخبر بنفسٍ راضية
-بتخبي عليا يا مصطفى، يعني تلاتين سنة وانا صابرة على بعده، مش هتحمل الخبر دا
-فريدة عيطي، مش عايزك كدا، طلعي اللي جواكي
-مش هتتحمله يامصطفى، انا مش زعلانة، ربنا رحيم، بعد اللي حصل ماليش اختل برحمة ربنا يا مصطفى، متأكدة من عظمة الخالق، اللي يحرمني منهم تلاتين سنة ويرجعوا لحضني تاني وهم بالشكل دا، يبقى لترتيبه حكم ومواعظ يامصطفى، ولادي الاتنين بين ايد اللي احسن مني ومنك، لو ربنا رايد اذيتهم مكنش وقعهم مع ناس كدا تلاتين سنة، دا ربنا رحمهم، ارجع لسورة الكهف يامصطفى وشوف رحمة ربنا في آياته من سفينة غرقت علشان ملك ظالم، وجدار حمى ملك يتامي، اقتربت تنظر بمقلتيه
وطفل وحيد والديه قُتل علشان هيكون سبب لنزع الايمان في قلوبهم، يبقى انا أكون ايه علشان اعترض على حكمه، بعد مااتربوا كدا، وبقوا وسط ناس الكل بيضرب بيهم المثل، بكرة اتفاخر بيهم ويقولوا ولاد فريدة اهم
قالتها بنبرة مبحوحة، تشكر بسكين ينخر جوفها، ثم رفعت عيناها التي يختزن بها حزن العالم قائلة:
-قوم ياابو يوسف، وديني عند ابني، يمكن يحس بامه اللي محستش بيه تلاتين سنة وهي بتربيه، تلاتين سنة بيكبر قدامي ومعرفتش أنه ابني، يبقى ماليش اعترض واقول ليه يارب، لا المفروض اقول .. الحمد لله أن ربنا رضاني بعد سنين عذاب بحضنهم وكلمة ماما، كفاية عليا مكنش طماعة، واعترض على حكمه، أمانة ربنا يامصطفى وهديته، وأنا عندي يقين بيه أنه هيردهم، بس لازم ادفع تمن حب وكرم ربنا ليا ..قوم ياابو يوسف قوم، وارمي حمولك على الخالق
ذهبت إليه وبدأت الزيارة عدَّةَ مرَّاتٍ بمساعدةِ مصطفى، ولكن افزعهم واعجزهم التحاليل بما يناسبه،
كانت تغطُّ بجوارهِ تضعُ رأسها على الوسادة بجواره، وجسدها منسابًا على المقعد، فتحَ عيناهُ لعدَّةِ مرَّاتٍ يهمسُ اسمَ أخيه بخفوت، تململت ظنًّا أنُّه حلمًا ولكن حركة أناملهِ التي تضعها على وجهها جعلها تقفزُ من نومها تتأكَّدُ بما تشعرُ به..
-أرسلان ياميرال..ابتسمت تقبِّلُ جبينه:
-كويس حبيب ميرال إنتَ حاسس بإيه؟..ضغطت على زرِّ المساعدة، حتى وصلت الممرضة:
-فاق..وصلَ الطبيبُ يتفحَّصه، ولكن بنظراتٍ غير راضية أشارَ إلى مصطفى:
-محتاجين متبرِّع ياسيادةِ اللواء..
-بندوَّر، ونزِّلنا إعلان في كلِّ مكان، التحاليل كلَّها سلبية للأسف..
بعد فترة دلف الطبيب وجدها تحتضن كفه، وعيونا دبت بها الحياة مرة اخرى، اقترب منها بدخول مصطفى ويزن، فأردف الطبيب
-مدام ميرال عملت التحاليل بتاعتها، والحمد لله النتيجة ايجابية؟..
-بلاش ميرال لو سمحت..وصلت إليهم ميرال بعدما استمعت إلى حديثهم الجانبي:
-إيه يادكتور فيه حاجة، إلياس كويس؟..
-مدام ميرال تحاليلك الوحيدة المتَّفقة مع المريض، دون تفكيرٍ أجابته:
-أنا جاهزة، حضَّر العمليات..قالتها واتَّجهت إلى إلياس الذي يحاولُ أن يظلَّ بوعيه، توقفت تنظر إليه بحب، تهمس لنفسها:
-مستحيل اسمع كلامهم، اقتربت منه قائلة:
-إلياس حاسس بإيه..أغمضَ عينيه، استندت على جبينهِ تهمسُ له:
-حبيبي سامعني؟..
-تعبان، شوفي الدكتور..قالها بتقطع، مع دخول فريدة
-عامل ايه ياحبيبي
-الحمد لله..قالها واغمض عيناه متألمًا، انزلقت عبرة رغمًا عنها، اقتربت تلثم جبينه
-فداك عمري كله ياحبيبي..فتح عيناه إليها يهمس بخفوت
-ماما عايز اشوف ارسلان
مسحت على وجهه مع انسياب دموعها
-ارسلان كويس، انت شد حيلك، إن شاءالله بكرة تعمل العملية وتشوفه
-عملية ايه…تراجعت تنهر نفسها، ثم استدارت لتخرج سريعا قائلة
-حبيبتي خلي بالك من جوزك..اتجه بنظره إلى ميرال وحاول الحديث، ولكن انهك جسده، ولم يقو، دلفت الممرضة، فحصت اعضائه ثم رفعت نظرها إلى ميرال
-الورقة دي فيها كل حاجة علشان تجهزي للعملية بكرة إن شاءالله، ربنا يقومكم بالسلامة، ياريت تتبعي كل اللي فيها
-اومأت لها وعيناها على إلياس الذي يتطلع إليها بعيونا متسائلة، اقتربت منه بعدما لاحظت آلامه التي تجلت بملامحه
-تعرف انا اتأكدت انك اغلى من روحي، عارف انا مش عايزة غير حاجة واحدة بس، تعرف ايه هي..كان يتابعها بصمت، رفعت كفيه تقبلهما ثم نطقت
-ترجع تستقوى عليا وتطلع كل غلك فيك، وترجع تقول ماشي يابنت مدام فريدة ..انحنت تطبع قبلة بجوار خاصته:
-مستعدة أضحي بعمري كله، ولا اشوفك كدا، انا بحبك اوي، وتأكد أنك احسن حاجة حصلت لي في الدنيا دي، زي ماانا متأكدة أن ربنا بيحبني اوي اوي علشان اتجوزتك
-مير. ال ..مخبية عليا ايه..قالها بثقل لسانه ..طبعت قبلة سريعة، تنظر لعيناه القريبة بعشق ثم غمزت له
-دمك تقيل يابن عمي، ولازم حبيتك تخففه ..
ارتفعت أنفاسه من شدة الامه، مما جعلها تستدعي الطبيب الذي فحصه، قائلا
-جرعة بسيطة قبل العملية، إن شاءالله كله هيكون تمام، وبعدين المفروض تتحمل ياحضرة الظابط، حد يبقى عنده ست بتحبه كدا ويفضل نايم على السرير
-ايه الألم دا يادكتور، فيه ايه
-إلياس بكرة هنعملك زرع كلى، مدام ميرال هي المتبرع
سقطت الكلمات فوقه كصقيع ترتجف له الأبدان
-لا ..لا ..كررها محاولا النهوض، مع ارتفاع صرخاته المتألمة، صوت اذيذ الأجهزة
-إلياس لو سمحت مينفعش، حالتك خطرة جدا، لازم العملية، وضعك مش هيتحمل الغسيل كتير
-مراتي لا..رمقها بنظرة حزينة قائلاً:
-اياكي تعمليها، سمعاني ..تمتم بها مع شحوب وجهها حاول الطبيب إنعاش قلبه بعض شحوب وجهه، اقتربت منه تمسد فوق خصلاته:
-ارتاح دلوقتي، إلياس متعملش كدا
اغمض عيناه بين النوم واليقظة هامسًا
-هطلقك لو عملتيها..
انزلقت دموعها وآلامه الصارخة التي شقت قلبها لنصفين، ليخرجها الطبيب بعدما اغلق عينيه كأنه لم يعد لديه قوة للحياة، ورفع جهاز الصدمات في محاولة أخرى لإنعاش قلبه .. دقائق مرت عصبية تفصل الحياة بالموت، إلى أن استمع الى النبض مرة اخرى، ليتنهد الطبيب بارتياح اخيرًا
ذاتَ ليلة بعدما عجز الجميعُ عن إفاقةِ أرسلان، بعدما استخدمَ معه الأطباءُ كلَّ الطرقِ العلاجية، حتى فُقدَ الأمل إلَّا أنَّ القدرة الإلهية كان لها تدبيرًا آخر..
اخترقت الإضاءةُ عيناهُ بقسوة، كمن انتُزعَ من قبرهِ ليواجهَ شمسًا ساطعةً فوق الرؤوس..
أطبقَ جفنيهِ سريعًا، متأوِّهًا بصوتٍ خافت، ارتسمت أعينُ إسحاق بابتسامةٍ ليكرَّر ندائهِ مرَّةً أخرى:
-أرسلان!.قالها
بصوتٍ مرتجف، ليخترقَ أذنهِ ويقومَ بفتحِ عينيه بعد علمهِ لصاحبِ الصوت..
ظلَّ إسحاق للحظات ، قريبًا، مترقبًا، يكاد يلهثُ تحت وطأةِ الانتظار..ليتأكَّد أنَّه ليس سراب، إلى أن همسَ بصوتٍ بالكادِ خرج من بين شفتيهِ المتشقَّقتين:
إلياس…؟
هنا فقدَ إسحاق السيطرة ليسقطَ على ركبتيهِ بجوارِ السرير حينما لم يستطع مقاومةَ الطوفانِ الجارفِ الذي اجتاحه، فانحنى يسجدُ على الأرض، والدموعُ تسقط بصمتٍ كسره.. شهقاتٌ متقطِّعة، خافتة، لاعترافهِ بالحمد، بالرهبة، بالخوف، وبالنجاةِ التي جاءت بعد ظلامٍ طويل…حينما فقدَ الأمل، نهضَ مرةً أخرى على صوتِ أرسلان المشبعِ بالألم :
إلياس…فين؟!
نهضَ إسحاق مسرعًا، مسحَ دموعهِ بظهرِ كفِّه، قبل أن يميلَ نحوه، ويطبعُ قبلةً طويلةً على جبينه، يحاولُ أن يطبعَ الطمأنينةَ في قلبهِ المضطرب..
حبيبي، حاسس بإيه؟
حاول أرسلان بلعَ ريقه، لكنَّه كان كمن يحاولُ ابتلاع َصخرة، عيناهُ تائهتانِ بين الوعي والذاكرة، بين الحاضرِ والماضي الذي لا يزالُ يصرخ داخله.
ثمَّ، بصوتِ بالكادِ خرج من بين شفتينِ مرتجفتين، همس:
عمُّو… إلياس…؟
تجمَّد إسحاق للحظة وشعر بجسدهِ يبرد، كأنَّ أنفاسه احتُجزت قسرًا في صدره..كيف يخبره؟ كيف يواجهُ تلك العيونِ القلقة بالحقيقة التي قد تقتلهُ قبل أن يتقبَّلها؟
رسمَ ابتسامةٍ مع لمسِ خصلاتهِ المبعثرة بحنان، ثمَّ أردفَ بنبرةٍ جعلها متَّزنة:
إلياس كويس، حبيبي…
لكن عجزت الشفاهُ عن النطق، ولم تعد لديها القدرة على الكلام..
رفع أرسلان عينيهِ إليه لتقابلَ عيناه التي تحملُ الوجع الذي تسللَّ بين حروفهِ رغم ابتسامته، بدأ قلبه يخفقُ بجنون..وارتجفَ جسده، وتثاقلت أنفاسه، وخرج صوتهِ متحشرجًا، ممزَّقًا بين الرجاءِ والرعب:
إلياس فين يا عمُّو؟!..أوعى يكون… قتلوه..!
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية شظايا قلوب محترقة)