رواية أحببتها ولكن 7 الفصل التاسع والثمانون 89 بقلم بيسو وليد
رواية أحببتها ولكن 7 الفصل التاسع والثمانون 89 بقلم بيسو وليد
رواية أحببتها ولكن 7 البارت التاسع والثمانون
رواية أحببتها ولكن 7 الجزء التاسع والثمانون

رواية أحببتها ولكن 7 الحلقة التاسعة والثمانون
“وفي عينيكِ… سُكونُ الأرض بعد العاصفة”،
لم تكوني مجرّد مرورٍ في العمر،
بل كنتِ عمرًا كاملاً، بلحظةِ نظرة،
كل الحروفِ خجلتْ حين نطقتُ اسمكِ،
وكلّ الطرقِ المؤدية إليكِ،
مفروشةٌ بندى الانتظار،
أأنتِ الحلم؟ أم أنا أتوهم الحنين؟
لكنّ قلبي حين سمعكِ…
أيقن أنّه وصل.
_ارتجال.
________________________________
ليس كل ما نشعر به يُقال، ولا كل ما نعيشه يُفهم، أحيانًا تمر اللحظات كأنها لا تنتمي لهذا العالم، كأن شيئًا فينا تغيّر للأبد دون أن نملُك تفسيرًا، هناك حيث يسكن الصمت، تولد الحكايات، وتنمو الأسئلة، وتبدأ الفصول التي لم نختر أن نكتبها … لكنها كُتبت..
<“كُتِبَتْ حياةٌ جديدة، لقد كُتِبَتْ نجاته.”>
في المشفى،
كانت “نوران” تقف أمام نافذة الرعاية الماكث بها ولدها منذ قرابة الثلاث ليالٍ دون أيا أحداث جديدة تُذكر، ترى الطبيب يفحصه مثلما يفعل كُلّ يوم، اقتربت مِنها “أيسل” ومعها صغيرها و “شهـاب” الذي ظلّ بجانبهم طيلة الوقت، جاورتها في وقفتها ونظرت إلى زوجها الذي كان مازال غائبًا عن الوعي ويجاوره الطبيب يفحصه بدقة..
_مفيش أي جديد عنُه.؟
هكذا سألتها “أيسل” بنبرةٍ متوترة وهي تنظر لها، نظرت إليها “نوران” بعد أن أزاحت عيناها مِن فوقه وجاوبتها بنبرةٍ هادئة:
_متخا’فيش، الدكتور بس بيتطمن عليه وبيشوف الحالة فيها تقدُم ولا لا.
وضعت “أيسل” يَدها فوق مو’ضع قلبها وهي تنظر إلى زوجها بعينين لامعتين وهي تدعو لهُ بالنجاة، نظر إليها “عدنان” وقال:
_ماما عايز أشوف بابا.
نظرت إليه “أيسل” وقبل أن تتحدث انحنى “شهـاب” نحوه ممسكًا إياه مِن أسفل ذراعيه الصغيران ير’فعه عا’ليًا، ضمّه إلى د’فء أحضانه لينظر “عدنان” إلى والده الذي يرقد فوق الفراش، عيناه مازالت تأبى الانفتا’ح، وعقله مازال يخشى النهوض، ورو’حٌ مُـ.ـكبلة بين العديد مِن الأجـ.ـهزة والأسلا’ك الطبية، كان صوت جهاز التنـ.ـفس الصناعي يعلو في الغرفة، صوت أنفاسه هو ما كان يُسمع في المكان وكأنه يُطمئنهم أنَّهُ مازال على قيـ.ـد الحياة..
لامس كفه الصغير لوح الزجا’ج العا’زل بينهما وهو ينظر إليه بعيناه الواسعتين المتلئلئتين، أشتاق لأن يسمع صوته، أشتاق لد’فء أحضانه، أشتاق إلى أبيه، شَعَر “شهـاب” بشعور هذا الصغير المشتاق إلى أبيه ولذلك ربّت فوق ظهره برفقٍ وقال بنبرةٍ هادئة:
_متخا’فش بابا هيقوم تاني، بابا طول عُمره قوي.
ألتفت إليه “عدنان” برأسه ينظر في عيناه وكأنه يبحث عن صدق كلماته، في عيناه شيءٌ لا يعلم ماذا يكون، ولكن شَعَر بالأمان معهُ ولذلك د’فن رأسه في عُنُـ.ـق “شهـاب” ولـ.ـفّ ذراعيه الصغيران حول عُنُـ.ـقه دون أن يتحدث، شعورٌ غريب اجتا’ح “شهـاب” بعد أن عانقه الصغير، شعورٌ ليس سـ.ـيئًا بقدر أنَّهُ لطيفٌ، وكأنه يحتضن ولده هو، ضمّه “شهـاب” أكثر إلى د’فء أحضانه وكأنه يحـ.ـميه مِن شعورٌ مُـ.ـر المذاق يعلمه جيدًا..
خرج الطبيب في هذه اللحظة بعد أن أنهى فحصه لـ “حُـذيفة”، ينز’ع ثيابه المعقمة وقناع الوجه ليسمع “أيسل” التي سألته بتلهفٍ عنهُ قائلة:
_خير يا دكتور طمني بالله، هو كويس؟ في تحسُن فحالته ولا إيه اللِ بيحصل أنا مش فاهمة حاجة.؟
نظر إليها الطبيب وجاوبها بنبرةٍ هادئة قائلًا:
_متقلقيـ.ـش يا مدام، الحمدلله صحته زي الفُل مفيش أي خطـ.ـر عليه، إحنا مستنيينه يبدأ يفوق مِن نفسُه، جسـ.ـمه بيعا’فر عشان يرجع تاني بس عقله لسّه مش مساعده أو بمعنى أصح مش مديه الفرصة فإنُه يرجع، بس هو بيعا’فر ودا مؤشر كويس، المسألة مسألة وقت يمكن شوية، بعد ساعات، بُكرة، هو محتاج د’فعة لقدام بس عشان يعرف يتخطى المرحلة دي فعشان كدا بقول لو حد مِنكم يدخل يتكلم معاه دا شيء هيساعده.
تبادلت “أيسل” مع “نوران” النظرات بعد أن أستمعوا إلى حديث الطبيب، وبرغم صعو’بة الاختيار بينهم ومشاعر الخو’ف التي تقودهم قررت “نوران” أن تتخلّىٰ هذه المرة عن حقها لها فهي تعلم أنها تعشق ولدها وترى حالتها المؤ’لمة ولذلك مدّت يَدها تُربت فوق ذراعها بحنان تزامنًا مع قولها الهادئ الحنون:
_أدخليله أنتِ يا “أيسل”، أنا وأنتِ واحد فالآخر.
نظرت إليها “أيسل” بعينين دامعتين وبسمةٌ حنونة أرتسمت فوق شفتيها برفقٍ، تُريد أن تشكرها ولكن لا تعلم كيف تفعل ذلك فبرغم حاجتها الشـ.ـديدة لرؤيته تخلّت عن حقها فيه لأجلها هي ولذلك ضمّتها إلى أحضانها قائلة بنبرةٍ ممتنة:
_شكرًا يا ماما، شكرًا بجد.
ربّتت “نوران” فوق ظهرها مبتسمة الوجه وقالت بنبرةٍ هادئة:
_كلميه وقوليله كُلّ اللِ جوّانا، قوليله إننا مش كويسين مِن غيره.
لحظات وأبتعدت عنها “أيسل” تنظر إليها بوجهٍ مبتسم مجيبةً إياها بنبرةٍ هادئة قائلة:
_حاضر، هقوله كُلّ حاجة.
ألتفتت تنظر إلى الطبيب وقالت بنبرةٍ هادئة بعد أن أتخذت قرارها:
_أنا اللِ هدخله يا دكتور.
أشار إليها الطبيب تزامنًا مع قوله الهادئ:
_أتفضلي معايا عشان نجهزك.
نظرت “أيسل” إلى كلاهما للحظات ثمّ تحرّكت خلف الطبيب تجاه غرفة التعقيـ.ـم، تحت نظراتهما وهما يُتابعانها، أقترب “شهـاب” مِن “نوران” مشيرًا إليها تجاه المقعد قائلًا:
_كدا هتتـ.ـعبي مِن كُتر الوقفة أقعدي ارتاحي شويّة.
نظرت إليه “نوران” بعينان يفـ.ـيضان مِنهما الخو’ف على ولدها، وأمام رغبته لم تُعا’رض فكانت لا تمـ.ـلُك الجهـ.ـد لذلك، جلست بضـ.ـعفٍ فوق المقعد المعدني وجاورها هو بعد أن أ’لقى نظرة خا’طفة على رفيقه ضاممًا الصغير إلى د’فء أحضانه وكأنه ولده الذي يحـ.ـميه مِن شـ.ـرور العالم، ضمّه إلى صدره، بد’فءٍ مـ.ـثير أدهش الصغير، رائحة طيبة تسللت إلى أنفه الصغير، وراحة غريبة حاوطته وكأن ذراعيه حـ.ـصنًا منيع يحـ.ـميه..
وبمثابة أن وضع رأسه فوق صدر “شهـاب” وبالتحديد فوق مو’ضع قلبه بدأ يستمع إلى نبـ.ـضاته الهادئة المنتظمة، وكأنها همساتٌ صامتة تُرسل إليه طمأنينة غير عادية، عناقًا منحه راحة لم يلُذ بها مِن قبل، دقائق مرّت عليهم حتى عادت “أيسل” مرتدية ثيابًا معقمـ.ـة وقناع الوجه الطبي، أ’لقت عليهم نظرة سريعة قبل أن تفتح الباب وتختفي خلفه، وحين أن أُغلق الباب وألتفتت بجسـ.ـدها إليه ثّبتت عينيها فوقه دون أن تحيد بها بعيدًا عنه..
فصـ.ـلت المسافة الفا’صلة بينهما بتقدُمها مِنْهُ حتى جاورته في وقفتها، تأملته وكأنها تراه لأول مرَّة، كان ساكنًا، هذه أول مرَّة تراه فيها هكذا، صدره يعلو ويهبط بحركة بطيئة نسبيًا، عا’ري الجذ’ع، جهازًا صغيرًا يُشبه المشـ.ـبك يضم سبابته، وقناع التنفـ.ـس الصناعي يُعانق وجهه، صوته يعلو بأنتظامٍ بنغماتٍ متناسقة، غرفة واسعة ولطيفة، مُرتبة، وهادئة، ومُريحة للأعصا’ب، ببطءٍ رفعت كفها الأيمن ولامست أناملها خصلا’ته السو’د’اء النا’عمة الطويلة بعض الشيء..
لحظات وتركت العنان لأناملها ولكفها أن تغو’ص بينهن، تمسِّد تارة برفقٍ عليهن، وأخرى تد’لك فرو’ة رأسه وكأنها تؤكد إليه وجودها بجانبه، داعمة، ومساندة حتى يعود إليها سالمًا، تأملته بعينين لامعتين لبُرهة ثمّ قررت قطـ.ـع هذا الصمت بقولها الهامس الحنون:
_وحشتني أوي على فكرة، وحشتني فوق ما تتصور، مش قادرة أوصفلك الحياة مِن غيرك عاملة أزاي، سبت فراغ كبير أوي جوّايا فجأة، كأن اللِ كانت مستو’رة بضِـ.ـل شجرة فوسط صحـ.ـرا وفجأة الشجرة دي مبقاش ليها وجود، عارف غلاوتك عندي عاملة أزاي؟ وعند الكُلّ، إحنا مرتحناش لحظة واحدة، ولا عرفنا نتنفـ.ـس ونعيـ.ـش زي البني أدمين، نا’قصنا حاجة كبيرة أوي يا “حُـذيفة”، جوّايا حِتة مسرو’قة مش قادرة ألاقيها لحد دلوقتي، وحشني صوتك، وحشني هدوءك، وخو’فك عليّا، وعصبـ.ـيتك لمَ أعاندك فحاجة فيها ضـ.ـرر ليّا، وحشتني بكُلّ حاجة فيك..
بدأت العَبرات تلمع في عينيها كوميضٍ يُعلن عن عودة الطيـ.ـر إلى موطنه وإن طالَ غيابه سنواتٍ طويلة، تهـ.ـدجت نبرة صوتها وعادت تُكمل قولها:
_آه يا عُمري وحشتني، وأنتَ عارف إنِ دايمًا صادقة معاك فكُلّ حاجة عُمري ما كذبت عليك، على فكرة وأنا رايحة عشان أتعقـ.ـم وأدخلك قررت مأ’هملش نفسي وروحت أتطمن على البيبي، عشان عارفة إنك هتزعل مِني أوي أول ما تصحى وتعرف إنِ أهـ.ـملت نفسي، طلع ولد، مش كُنت عايز ولد كمان عشان يونِس “عدنان”؟ أهو ربنا أدّاك الولد تاني، على فكرة “عدنان” زعلان أوي، مبقاش يتابع الكورة، فقـ.ـد الشغف، حاسس بفراغ كبير جوّاه حتى لمَ فريقكم المفضّل بيجيب جول هو مبيفرحش، بيفضل ساكت وساعات يقفل التلفزيون وينام..
أخرجت زفرة عميقة تُخرج مِن خلالها أوجا’عها وأحزانها، لحظات مِن الصمت دامت قطـ.ـعته هي مجددًا حينما قالت:
_لحد دلوقتي “يزيد” فاكر إنك بقيت كويس ورجعت أحسن مِن الأول، أول ما عرف بالحا’دثة إنها’ر، حس بالعجـ.ـز، لا هو عارف ييجي عشان ياخدك فحضنه، ولا عارف يتواصل معاك أخبارك بتوصل للقائد بتاعه وهو بيقوله عن حالتك، بس ميعرفش حاجة عن الانتكا’سة اللِ حصلتلك ولا عن الغيبو’بة دي، خو’فنا نقوله يجر’اله حاجة أو يتهوّ’ر أنتَ عارف “يزيد” كويس خصوصًا لو كانت حاجة تخصّك، حتى عمّي “عبدالله” مش ساكت عالقضـ.ـية وبيحاول يجمّع الأد’لة ضـ.ـد العصا’بة اللِ أتمـ.ـسكت دي، بس لحد ما تكون الأد’لة موجودة مش هتتعمل الجلسة غير برجوعك، لأن جدي أصّر إنك تحضر الجلسة دي وتشوف حقك بيرجعلك قصاد عيونك..
بسمةٌ مـ.ـيتة تسللت إلى شفتيها وكأنها تُحاول إحيا’ء ما تم قـ.ـتله ود’فنه، مدّت كفها الد’افئ الناعم تُعانق كفه البارد، تُمسِّد فوق ظاهره بحنوٍ وكأنها تُريده أن يشعُر بوجودها بأيا طريقة، أُغر’قت عينيها بالدموع وهي تنظر إليه تُحاول الإبتسام قائلة:
_مش ناوي ترجع بقى، لو مش عشان أي حد على الأقل عشاني، عشان “أيسل” متعودتش على غيابك لحظة واحدة عنها، حتى وأنتَ مشغول وعندك مليون حاجة تقدر تمـ.ـنعك تكلمني كُنت بتخصص لنفسك الوقت عشان تكلمني وتقولي وحشتيني يا “أيسل” ووحشني صوتك الكام ساعة اللِ عدّ’و، عشاني وعشان “عدنان” وعشان ماما “نوران”، ماما “نوران” موجو’عة أوي، محتاجالك فوق ما تتخيّل، صدقني كُلّنا محتاجينك وأنا أولهم عشان خاطري يا “حُـذيفة” لو بتحبني بجد ومبتحبش تشوفني موجو’عة زي ما بتقول فوق، فوق يا حبيبي وكفاية لحد هنا.
سقـ.ـطت عَبراتها فوق صفحة وجهها واكتسـ.ـت الحُمـ.ـرة عينيها وهي تنظر إليه تُحاول قدر الإمكان تما’لُك نفسها حتى لا تنخرط في بكاءٍ مرير لا آخر لهُ، جلست على طرف الفراش وهي تنظر إليه، رفعت كفه وانحنت قليلًا برأسها تُلثم ظاهر كفه بحنوٍ مطولًا ثمّ مالت نحوه أكثر واضعةً رأسها فوق كتفه تد’فن وجهها في عُنُـ.ـقه كما أعتادت حينما شَعَرت بالضيا’ع، كان يجعلها تد’فن وجهها في عُنُـ.ـقه ويحاوطها بذراعيه ويُمسِّد براحته فوق خصلا’تها الطويلة الدا’كنة..
وضعتها لعل تلك المرة يستجيب إليها ويُحا’رب نفسه للنهوض، تنهدت بعمقٍ واغمضت عينيها داعيةً المولى سرًا أن يعود لها مِن جديد وإن حدثت معجزة الآن فهي تؤمن بالمعجزات وتعلم أن ربها قادر على كُلّ شيءٍ، الدعوات كانت تُرسل إلى أبواب السماء سرًا، كانت لا تمِـ.ـل مِن الإلحاح طيلة الوقت وكأن قلبها أنذ’رها بشيءٍ لا تزال تجـ.ـهله حتى هذه اللحظة، ولكن ما كان يُعطيها الدا’فع هو صوتٌ داخلي لا يكف عن الصمت لحظة..
لحظات وكأن أعينٍ مخـ.ـفية ترا’قبه عن كثب، بدأ شريط حياته يمُر أمام عينيه سريعًا، منذ صغره حتى هذه اللحظة، عقد حاجبيه قليلًا وكأنه يُحا’رب عقله للعودة، فأمام إصرار الجسـ.ـد للعودة ورفض العقل كان صوتها هو الدا’فع الأقوى لعودته، همساتها المكسو’رة جعلته يهتـ.ـز ويُيقن أنها ليست بخير ولذلك تطالبه بعودته، لحظات مِن هذا الصر’اع دامت، حتى تحرك كفه الآخر بخفة فوق الفراش، كانت إشارة قوية على العودة، عن عدم الاستسلا’م مهما كانت العوا’قب و’خيمة..
بدأت أصوات الواقع تعود مِن جديد، صوت الجهاز يعلو في الغرفة، وصوت تنفسه كان مسموعًا ممزوجًا بصوت نحـ.ـيبها الخافت، فرّق بين جفنيه ببطءٍ وأغلقهما مجددًا بسبب قو’ة ضوء الغرفة، أعاد محاولة تكرار الأمر حتى بدأ يعود تدريجيًا إلى أرض الواقع، فتح عينيه ولحظات وبدأت الرؤية المشو’شة تتضح أكثر، وفي تلك اللحظة وكأنها لحظة تاريخية لا يجب تمريرها بهذه السهولة، شَعَر بثقـ.ـلٍ خفيف فوق جانبه الأيسر، وبأنفاسٍ سا’خنة تضر’ب عُنُـ.ـقه، ليعلم صاحبتها دون أن ينتظر..
بحركة بطيئة رفع كفه الأيمن الذي يحتضن سبابته جها’زًا صغيرًا، قرّبه مِنها بحركة بطيئة وو’اهنة حتى لامس ذراعها برفقٍ تزامنًا مع نداءه الو’اهن لها:
_”أيسل”.
أغمض عينيه للحظة وكأنه يُصا’رع آلا’مًا عميقة داخل رو’حه، وكأن الصر’اع مازال قائمًا حتى هذه اللحظة يأبى الاستسلا’م، وحين لم يتلقى مِنها ردًا أعاد تكرار نداءه الو’اهن بقوله:
_”أيسل”.
لحظات مِن الصمت التام، وكأن الزمن توقف عند هذه اللحظة، ابتعدت “أيسل” قليلًا ترفع نفسها وهي تنظر بعينين باكيتين في عينيه المر’هقتين وهي لا تصدق ما تراه أمامها، كان هو ينظر لها بو’هنٍ، وبرغم الإر’هاق البادي على نظرته وحركة يَده ولكن لم تخلو نظرته مِن الحنان، الشوق، والحُبّ، عيناه أخبرتها عن مدى شوقه إليها، وهي كانت تخبره أنها كانت تُعا’ني بدونه، رفع كفه الأيسر تجاهها برفقٍ حتى لامس صفحة وجهها النا’عمة، أحتضن شطر وجهها وحرّك إبهامه برفقٍ يُزيل دمعة مِن على جفنها كانت تشارف على السقو’ط..
كانت في تلك اللحظة بين نا’رين، جزءً مِنها أراد استدعاء الطبيب فورًا لفحصه وطمئنتها عليه، وجزءً آخر أراد البقاء والاستمتاع بتلك اللحظة المفاجئة، ولكن كعادتها العاطفة هي مَن فازت أيضًا هذه المرة عليها، ضمت كفه ذاك بكفها الدا’فئ وكأنه يُرسل إليه شوقًا لا آخر له، قرّبته مِن فمها تُلثمه بحنوٍ ثمّ نظرت إليه بعينين دامعتين وجاوبته بنبرةٍ هامسة تُعبر عن شوقها إليه بكلماتٍ بسيطة:
_وحشتني يا حبيبي، وحشتني أوي.
بسمةٌ طفيفة رُسِمَتْ فوق شفتيه وهو يُطالعها بعيناه اللامعة ثمّ أبعد كفه وأنزله برفقٍ يضعه فوق بطنها المنتـ.ـفخة وكأنه يُريد الاطمئنان على صغيره الذي غاب عنه كثيرًا، بنظرة فَهِمَتْ وبنبرة نا’عمة قالت مبتسمة الوجه:
_طلع ولد..
نظر إليها “حُـذيفة” نظرة إندهاش وكأنه لا يصدق، نظرة تسأل إن كانت جادة أم تمازحه، ليأتيه الجواب حينما اقتربت مِنْهُ قليلًا مِن جديد قائلة بنبرةٍ حنونة:
_صدقني ولد، أول ما الدكتور قالي عملت زيك بالظبط ومصدقتش، بس بعدين افتكرت مرَّة لمَ جيت قولتلي أنا صليت ودعيت يكون ولد عشان يونِس “عدنان” … أنا بقى إمبارح شوفت منام حلو أوي، بيت فمنتهى الجمال، ديكوره مختلف، ديكورات عصر مِن العصور القديمة، بس كان غاية فالجمال، أتمشيت فيه لحد ما وصلت لأوضة كانت مختلفة عن باقي الأوض، مِن أول بابها مفروش عالأرض ورد أبيـ.ـض، والأوضة كانت جميلة أوي كانت مليانة لعب وريحة حلوة أوي ملياها، فجأة جَت عليّا سـ.ـت فحدود التلاتينات كانت شايلة بيبي عنده سنة، أدتهوني وأبتسمت، وقالتلي دا “يونس”، ونيس “عدنان”، بعدها صحيت وأنا بكرر الإسم وأنا مبتسمة، قولت إنِ خلاص هسميه “يونس”، وواثقة إنك مش هتعا’رض على الإسم.
ترقرق الدمع في مُقلتيه وهو ينظر لها وابتسامة صغيرة ترتسم فوق شفتيه تحت قناع التنـ.ـفس، تسارعت نبـ.ـضات قلبه بعد أن تغلغـ.ـل الإسم داخل قلبه واطرب أذنيه وكأنه نغمة لطيفة، ظل واضعًا كفه فوق بطنها وهو يُردد بنبرةٍ وا’هنة وكأنه يؤكد على إسم صغيره بنفسُه:
_”يونس”، “يونس” ونيس “عدنان”.
بسمةٌ حنونة ارتسمت فوق شفتيها وهي تتابعه بعينان تغمرها السعادة الشـ.ـديدة، لحظات قليلة وكسـ.ـر حِدَّ’ة هذا الصمت فتح الباب وولوج الطبيب بعد أن وصلته آخر أخبار حالته، وجهه مبتسم، بشوش، وكأنه كان على يقينٍ بعودته، وقف على الطرف الآخر وقال بنبرةٍ هادئة وابتسامة خفيفة ترتسم فوق شفتيه:
_حمدلله على سلامتك يا “حُـذيفة” أنتَ حصل معاك المعجزات حقيقي، أول مرَّة تعدي عليّا حالة زيك، بس الحمدلله ثقتنا فربنا كانت كبيرة واتكتبلك عُمر جديد، إصا’بتك كانت بتقول مستحيـ.ـل تعدي مِنها بدون مضا’عفات، بس الحكمة الإ’لهية، ويقينا الكبير فربنا كان أكبر دا’فع إننا نبذل مجهو’دنا معاك لحد النهاية، وأديك رجعت لحبايبك كُلّهم، وجودك مؤ’ثر أوي حتى لو مش شايف دا، كفاية فرحة المدام دلوقتي، إمبارح كانت بحالة ودلوقتي حالة تانية خالص، وعشان كدا على طول بقول إن أكبر دو’افع المـ.ـريض فلحظة مر’ضه هي عيلته، لإنهم فعلًا الدوا الأول.
عادت الأعين تتلاقى، وعادت القلوب تتصل مِن جديد، نظرته إليها قالت كُلّ ما عجـ.ـز الفم عن البوح بهِ، منحته بسمةٌ حنونة وعيناها تأبى أن تزرف دموعها، نظر إليها الطبيب وأشار لها بنبرةٍ هادئة:
_بعد إذنك يا مدام تسيبيه عشان يرتاح.
رفعت “أيسل” عينيها نحوه لثوانٍ معدودة ثمّ عادت تنظر إليه، وكأنها تُرسل لهُ أعتذارًا خفيًا لذهابها بشكلٍ مؤقت إجبا’ريًا، كان كفه يقبـ.ـض على كفها برفقٍ وعيناه لا تفا’رقها وكأنها طو’ق النجا’ة لهُ مِن شـ.ـرور العالم المحيط بهِ، انتصـ.ـبت واقفة وهي تنظر إليه بوجهٍ مبتسم ثمّ همست لهُ بنبرة لم يسمعها سواه:
_خلاص مبقاش في أي حاجة ممكن تفر’قنا تاني، وعد.
وعدٌ صادق لن يتم مخا’لفته مهما حدث، خصيصًا وإن كان هذا الوعد مِنها هي، حاولت تحر’ير كفها مِن قبـ.ـضته بلطفٍ ولكنهُ شـ.ـدد عليه أكثر في دعوةٌ صادقة مِنْهُ للبقاء، نظرت في عينيه، ورأت رجاءً في البقاء، إلحاحٌ غير عادي مِنْهُ لبقاءها برغم تعليمات الطبيب التي كانت واضحة:
_متسبنيش لوحدي، خليكي جنبي.
همس برجاءٍ لها وهو ينظر في عينيها، وهو على يقينٍ بأنها لا تستطيع ر’فض مطلبٍ إليه مهما كان الوضع المحيط حولهم، سقـ.ـطت في دائرة لا آخر لها، فإن كانت تُريد تلبية مطلب الطبيب لأجله فهي في نفس الوقت تُريد البقاء بجانبه حتى يعود إلى منزله مجددًا، شَعَرت بالشوق إليه، وأمام تلك النظرات الراجية المليئة بالثقة لم تستطع أن ترد إليه طلبه، ترقرق الدمع في مُقلتيها ونظرت إلى الذي بدوره قام بالنظر إلى مؤشراته التي كانت تُنذ’ر بتحسُن حالته الصحية بشكلٍ تدريجي..
_مينفعش أفضل جنبه يا دكتور، مش هضغـ.ـط عليه ولا هر’هقه بالكلام، بس أفضل جنبه وقريبة مِنُه.
رجاءٌ خفي وثقة كبيرة وضعتها بالطبيب الذي كان يرى تمسُك “حُـذيفة” بها وير’فض تركها تبتعد ولو إنشات صغيرة، قام الطبيب بنز’ع نظارته الطبية وأومأ برأسه قائلًا بنبرةٍ هادئة:
_تمام بس رجاءً متضغـ.ـطيش عليه وخلّيه يرتاح أطول وقت ممكن.
وافقت على حديثه بسرعة عن طريق هزّات صغيرة متواصلة مِن رأسها، بينما تركهما الطبيب وغادر الغرفة، وبلحظة خروجه رأى “نوران” أمامه بوجهٍ شا’حب قليلًا خو’فًا مِن تلقي أخبارًا غير سارّة ويجاورها “شهـاب” الذي كان يحمل “عدنان” على ذراعيه، بادرت “نوران” أولًا بقولها:
_طمني يا دكتور في أي جديد.؟
منحهما الطبيب بسمةٌ مرتاحة وقال بنبرةٍ هادئة مطمئنة:
_متخا’فيش يا مدام أبنك زي الفُل ومفيهوش أي حاجة، الحمدلله هو فاق مِن الغيبو’بة ومؤشراته الصحية بتقول آنُه فحالة تحسُن مستمرة، حاليًا هو أصّر على إن المدام تكون جنبه لو حابين تشوفه يكون مِن برّه أفضل لحد ما وضعه يستقر أكتر ونقدر ننقله بعدها لأوضة عادية.
تبدّلت الوجوه وأصبحت في لحظة أكثر إشراقة، وكأن الربيع حلّ أخيرًا بعد ليالٍ عا’صفية قا’تلة، نظرت “نوران” بوجهٍ مبتسم وعينين دامعتين إلى “شهـاب” الذي بدوره شكر ربه وارتاح قلبه كثيرًا بعد سماعهم لهذا الخبر السعيد، تركهما الطبيب ورحل بنفس اللحظة التي اقتربت فيها “نوران” مِن النافذة الزجا’جية المطلة على غرفة ولدها..
وقفت خلف النافذة وهي تنظر إليه بشوقٍ جا’رف، لامست أناملها الزجا’ج النا’عم وتواصلت الأعين ببعضها البعض بعد سويعاتٍ طويلة كانت تظن أنها ستطول وتطول لوقتٍ أبعد مِن ذلك، نظر إليها “حُـذيفة” بعينين دامعتين، وبسمةٌ خفيفة ارتسمت فوق شفتيه وهو يرى التلهُف والشوق في عينين أمّه، نظرت إليها “أيسل” كذلك بوجهٍ مبتسم فهي أكثرهم علمًا بتعـ.ـلُق تلك المرأة بولديها وكونها جُرِ’دَت مِنهما بلحظة ليست سهلة عليها..
ظهر “شهـاب” بالصورة بوجهٍ مبتسم، عيناه الحا’دة ألتقت بعينين مازالت تُخبر الجميع أنها تُكا’فح الشـ.ـر لبقاء صوتها حـ.ـيًا، وفي تلك اللحظة ألتقت عينان الصغير بعينين والده، لحظة توقف فيها الزمن، وحُبِـ.ـسَتْ لها الأنفا’س، حين رأى “عدنان” أبيه ينظر إليه تبدّلت معالم وجهه الصغيرة إلى مائة وثمانون درجة، وكأنه لم يكُن على قيـ.ـد الحياة مِن قبل، بسمةٌ صغيرة مِن أبيه جعلت عالمه الصغير سعيدًا وأعطته الأمل في البقاء..
أتجهت الأعين إلى “عدنان” ليروا ردة فعله حين يرى أبيه أمامه بخيرٍ، ولم يتأخر هو في إظهار ردة فعله، ارتسمت بسمةٌ واسعة فوق شفتيه حتى ظهرت أسنانه الصغيرة المتراصة، ثمّ رفع ذراعه الصغيرة ولوّح إليه بفرحةٍ عا’رمة وأرسل إليه قبْلة هوا’ئية، مشهدٌ بسيط ولكنهُ كان مليئًا بالد’فء والحياة، رفع “حُـذيفة” كفه قليلًا ولوّح إليه كذلك مبتسمًا، نظرت “أيسل” في هذه اللحظة إلى “حُـذيفة” وقالت بنبرةٍ هادئة:
_في حبايب كتير أوي بيعملوا المستحيـ.ـل عشانك برّه، وأنتَ هنا بتعمل المستحيـ.ـل عشان ترجع تاني تقف على رجليك، وأنا واثقة فيكم وعارفة إنكم قدّها.
كلماتٌ صادقة خرجت، وكأنها تعلم مدى تأ’ثيرها على صاحبها، تبادل كلاهما النظرات بينهما، مدّ كفه واحتضن كفها تحت قبـ.ـضته الدا’فئة ونظرته إليها وكأنها تُخبرها أن لا تفـ.ـلت يَدها مهما حدث، فهي مصدر قوته، وهو بدونها لا شيء.
_________________________
<“بداية لم تُكتب، بداية لنهاية الشـ.ـر.”>
السجـ.ـن المركزي – قاعة الزيارات..
صباحٌ جديد وبا’هت، وكأنه يعلم المخبوء في هذا اليوم، غرفة واسعة، تحتوي على العديد مِن الطاولات المستطيلة المعدنية ومقاعد مرصوصة حولها، أ’عمدة في كُلّ شبر بها، وفوق إحداهن كان يجلس “بيشوي” فوق المقعد المعدني، عيناه تترقب ما يحدث بحذ’رٍ شـ.ـديدٍ، وكفيه مقبو’ضين ببعضهما فوق سطح الطاولة، أنفاسه مثقـ.ـلة منذ أن أطرأت قدميه المكان، وكأنه لا يحتمل البقاء لحظة واحدة في هذا المكان، ولكن لأجل زوجته فضّل المجيء وتنفيـ.ـذ ما عزم عليه في ليلة أمس..
جاوره “ديفيد” الذي وضع حقيبته الجلـ.ـدية أمامه على الطاولة وحـ.ـرر أول زرّين لقميصه الأسو’د بعد أن شَعَر بالحرارة ترتفع تدريجيًا في جسـ.ـده، أخرج زفرة عميقة وأ’لقى نظرة هادئة على “بيشوي” وكسـ.ـر حِدَّ’ة هذا الصمت بقوله:
_أوعى تتهوّ’ر بالله عليك عشان متركبش نفسك غـ.ـلط وتشمـ.ـتهم فيك، دول ما هيصدقوا تغـ.ـلط غـ.ـلطة عشان يعـ.ـلقولك عليها حبـ.ـل المشـ.ـنقة، عايزك تعقل يا “بيشوي” وتتحـ.ـكم فنفسك.
رفع “بيشوي” عيناه ونظر إلى زوج شقيقته نظرةٍ أبا’حت عن المخبوء بداخله وقال بنبرةٍ هادئة:
_متقلقـ.ـش، أنا مش هتهوّ’ر، بالعكس … أنا جاي أشـ.ـمت فيهم وأشـ.ـفي غـ.ـليلي مِنهم.
عاد الثقـ.ـل مِن جديد يُسيطـ.ـر على المكان لبُرهةٍ مِن الوقت حتى كسـ.ـره مِن جديد صوت أقدام فوق الأرضية تقترب، تبادلا النظرات خلسةً حتى ظهرا الإثنين في الصورة بولوجهما مرتديين الزي الرسمي الخاص بالسجـ.ـن، وبعد لحظات جلسا أمامهما في لقاءٍ مرتقب يُخفي العديد مِن الكلمات خلف أقنعة تتظاهر بالقوة والثبات الزا’ئف، تسارعت نبـ.ـضات القلوب حتى تكاد تُسمع في هذا المكان المهيب..
أعتدل “بيشوي” في جلسته ما’ئلًا بنصفه العلوي قليلًا إلى الأمام شا’بكًا كفيه ببعضهما مسندًا إلى سطح الطاولة وهو ينظر في أعينهم بنظرته التي تكاد تختر’قهما هُنَيهة ثمّ قال بنبرةٍ هادئة:
_مبسوط أوي بشوفتكم وأنتوا بلبس السجـ.ـن يا مجر’مين، مبسوط وأنا شايفكم بين ٤ حيـ.ـطان وشكم فوش بعض طول اليوم وشمس ربنا مبتدخلكمش، تستحقوا النهاية دي رغم إنِ شايفها برضوا قليلة عليكم.
رفع “يوحنا” رأسه بشموخٍ لا يليقُ بهِ وكأنه يُعا’ند “بيشوي” بقوله الساخر:
_ما عاش ولا كان اللِ يحاول أو يفكر يكسـ.ـر عيني، مش هناولهالك يا “بيشوي” مهما عملت، أنا مبتكسـ.ـرش بسهولة.
بسمةٌ ساخرة رُسِمَتْ فوق شفتي “بيشوي” الذي ردد بنبرةٍ تهكمية:
_تعرف يا “يوحنا” بقالكم كام يوم فالسجـ.ـن لحد دلوقتي؟ تلات أسابيع؟ شهر؟ … لسّه فاضلكم ٧ سنين ونُص.
رد عليه “چـون” متعمـ.ـدًا إثا’رة غيـ.ـظه بقوله الساخر:
_خدناهم ظُـ.ـلم، فواحدة متسواش فسوق الحر’يم بتعريفة.
بحركة سريعة كانت قبـ.ـضة “بيشوي” على قميصه الأزرق مشد’دًا عليها مد’افعًا عن زوجته بقوله الغا’ضب:
_ضُـ.ـفرها بر’قبة مراتك !! مراتي سـ.ـت الستا’ت يا *** الرجا’لة، بس هقول إيه، اللِ زيّك مبيشوفش الحر’يم النضـ.ـيفة اللِ مراتي واحدة مِنهم، آخرك تر’يل على واحدة زي مراتك السوا’بق كدا، تشوفها كوين ومفيش زيّها ٣ عالمجرة مش كدا؟ مراتي تتقدَّر بالدهب وأنتَ مراتك اللِ متسواش فسوق الحر’يم، ولو جبت سيرة مراتي على لسانك الز’فر دا تاني أقسم بالله ما هتردد أدخل فيك السجـ.ـن لحظة واحدة وأنتَ عارفني كويس أوي … “كاترين” عندي خـ.ـط أحمـ.ـر ميتخـ.ـطاش إلّا بإذن مِني.
أنهى حديثه مز’مجرًا ثمّ د’فعه بعيدًا بحركةٍ عنـ.ـيفة، عاد كما كان وهو ير’ميه بنظراته الحا’دة وثقـ.ـلت أنفاسه بسبب تفا’قم غـ.ـضبه، في تلك اللحظة تولى “ديفيد” التحدث بقوله الحا’د:
_أنا كدا رحيم بيكم على فكرة يعني المفروض تحمدوا ربكم إنها جَت على ٧ سنين ونُص، ولمَ يخلصوا إن شاء الله وتخرجوا مش هتهو’بوا ناحيتها ولا تستجـ.ـروا تشوفوا طيفها، ولزيادة الأمان عملت فيكم محضـ.ـر تاني بس المرة دي بعد’م التعرُ’ض ليها أو لـ “جرجس”ولو حاولتوا أو أتذاكيتم هتتحبـ.ـسوا فورًا، طبعًا دا غير التعويض المالي اللِ هتتدوهولها، ٢٠ ألف جنيه مينقـ.ـصوش جنيه واحد والشقة أتنقـ.ـلت مـ.ـلكيتها ليها، “بيشوي” مبيحبش يشوفها شا’يلة فنفسيتها وبيعشق التر’اب اللِ بتمشي عليه فكتبلها الشقة بإسمها ودي أقل حاجة يقدمهالها طبعًا وأنتم متقدروش تعتر’ضوا … شوفت المفاجأة حلوة أزاي خصوصًا لو كانت مِني.؟
شُحِـ.ـبَتْ الوجوه، وأصبحت الغرفة تحمل مزيجًا مِن مشاعر مضطـ.ـربة، كانت الصدمة جلية على وجههما بعد أن أ’لقى “ديفيد” قنـ.ـبلته المو’قوتة، بينما كان “بيشوي” ينظر لهما متـ.ـشفيًا وأكمل على حديث رفيقه بقوله الساخر:
_اللِ يهوِّ’ش بالنا’ر يستحمل حر’قتها، وأنا مبتفاهمش بصراحة..
أتجهت الأنظار نحوه في لحظة صمت مهيبة، العقول عجـ.ـزت عن الاستيعاب والصدمة على الوجوه تتراقص، أكمل “بيشوي” حديثه بنبرةٍ تملؤها العاطفة تجاه زوجته:
_”كاترين” لحد دلوقتي بتخا’ف تدخل بيوت لوحدها، و “جرجس” مبينامش بسبب الكو’ابيس اللِ بتجيله يوميًا، كان واخد الجد قدوة، والعمّ أمان، وهو لا في قدوة ولا في أمان، في قـ.ـلة رحمة وجبـ.ـروت، دا درس علّمُه حاجة مهمة أوي يمكن أنا معرفتش أعلمهاله، إن مفيش أمان غير الأب السوي، ولا في د’فا إلّا مِن أمّ ناضجة، بس ملحوقة أنا عارف أزاي أرجّع أبني لحضني تاني زي الأول … وأنتم مش مسامح واحد فيكم لحد ما تمو’توا.
انتصـ.ـب واقفًا بعد أن شَعَر بثقـ.ـلٍ غير عادي في صد’ره ووجّه حديثه بنبرةٍ حا’دة إلى “ديفيد” بقوله:
_يلا نمشي يا “ديفيد” عشان مبقاش ليّا خُـ.ـلق أشوف الأشكال دي تاني.
وببرودٍ أمتاز بهِ “ديفيد” انتصـ.ـب واقفًا وهو يأخذ حقيبته وينظر لهما نظرةٍ فولا’ذية خا’لية مِن الحياة، تحرّكا خطوة ليتوقف “بيشوي” فجأة ينظر إلى “يوحنا” وقال بنبرةٍ حا’دة:
_متتعشمش فزيارة تانية، أنا جاي بس عشان أشـ.ـمت فيك وأشوفك بالبدلة الزر’قا، غير كدا متحلمش عالفاضي.
أنهى حديثه ولم يمنح لهما فرصة الرد ورحل، سار بخطى واسعة وكأنه يُسابق الهواء، شَعَر بصدره يضيـ.ـق وبالهواء ينسـ.ـحب مِن صدره تدريجيًا ولذلك كانت خطواته سريعة حتى يخرج مِن المكان في أقرب لحظة ممكنة، بينما كان “ديفيد” يلحق بهِ وهو يعلم ما يَمُر بهِ رفيقه، ولكن برغم ذلك لم يتحدث والتزم الصمت إجابة فما كانا يُريدان قوله قد قيل بالفعل ولم تَعُد هناك كلماتٌ أخرى تُقال.
_________________________
<“كانت تظنه لقاءٌ عابر، ولكنهُ كان بداية أخرى لها.”>
قُبَيْل المغرب ولجت “عنان” مِن البوابة الزجا’جية إلى الكافيه بخطى هادئة، عيناها تجوب في المكان تبحث عن وجهٍ مألوف غاب عنها فجأةً بدون سابق إنذ’ار، وقفت أمام الباب برداءها الفضفا’ض ذو اللو’ن البنفسـ.ـجي، وخمارًا أبيـ.ـض اللو’ن، وجهها هادئًا، ملامحها رقيقة ونا’عمة، عيناها البُنية الد’اكنة تجوب في أنحاء المكان تبحث عنهُ، ولكن حتى هذه اللحظة لم يظهر في طريقها ولو مرَّةٍ واحدة عن طريق الخـ.ـطأ..
سارت بخطى هادئة تجاه طاولتها التي أصبحت المفضّلة بالنسبةِ إليها، تركت حقيبتها فوق سطح الطاولة الزجا’جية وجلست فوق المقعد المعدني المبـ.ـطن، مازالت عينيها تجوب في أنحاء المكان على أملٍ أن تراه في لحظة، بدأت الدقائق تمُر بها حتى أصبحت نصف ساعة، في تلك اللحظة أقترب مِنها عاملًا بزيّه المهندم بيَدهُ كُتيب صغير، وقف أمامه وقال بنبرةٍ مهذبة:
_تحبي تطلبي حاجة يا آنسة.؟
كانت “عنان” شاردة الذهن، تُفكر بهِ وبسبب اختفاءه المفاجئ ذاك وهي تسأل نفسها عن السبب، ولكن كانت تعجـ.ـز عن تلقي الإجابة الصحيحة ولذلك أصبحت في دوامة كبيرة لا آخر لها، وفي تلك الأيام الماضية بدأت تشعُر بمشاعر لم تشعُر بها مِن قبل تجاه شا’بٍ أ’جنبي، لأول مرَّة تُضَع في هذا الإختبار الصعـ.ـب وتقف هي في شتاتٍ مِن أمرها لا تعلم أيُ الخطوات يجب أن تخطوها..
_يا آنسة حضرتك سمعاني ..!!
اختر’ق الشاب دائرتها العمـ.ـيقة مجددًا بنبرةٍ أعلى قليلًا بعد أن رأى حالة الشرود المحيطة بها، رفعت عينيها لهُ وقد تنحنحت بخجـ.ـلٍ لم تقدر على إخفاءه واعتذرت إليه بنبرةٍ تكاد تُسمع حين قالت:
_أنا آسفة مسمعتكش.
أبتسم الشا’ب بسمةٌ هادئة ير’فع عنها الحر’ج بقوله الهادئ:
_ولا يهمك، تحبي تطلبي حاجة.؟
ابتلـ.ـعت غصَّتها بهدوءٍ شـ.ـديدٍ وحاولت الحفاظ على ماء وجهها وقالت بنبرةٍ هادئة للغاية:
_فنجان قهوة مظبوط بعد إذنك.
أبتسم الشا’ب مجددًا بعد أن دوّن طلبها وقال بنبرةٍ هادئة:
_تمام، حاجة تاني.؟
هزّت رأسها تنفي قوله ببسمةٌ خفيفة أرتسمت فوق شفتيها، تركها الشا’ب ورحل في قو’قعتها العـ.ـميقة، تُفكر بهِ، وكُلّما رأته في ذهنها يضطـ.ـرب قلبها ويتسارع نبـ.ـضه لا إراديًا، وكأنه يمـ.ـلُك سطو’ته عليها دون أن تشعُر هي، سحبت حقيبتها وفتحت سحابها وأخرجت مذكرتها الخاصة وأقلامها ثمّ أخرجت مِنها كذلك حاسوبها الألي وقامت بفتحه عازمةً على فعل ما جالَ بخاطرها..
دقائق مرّت عليها وهي مندمجة في حاسوبها، حتى جاء الشا’ب نفسُه مجددًا واضعًا فنجان قهوتها فوق سطح الطاولة ثمّ استقام في وقفته وجذب انتباهها بقوله الهادئ:
_قهوتك يا آنسة.
انتبهت إليه “عنان” التي رفعت عينيها عن شاشة حاسوبها ونظرت إليه، بسمةٌ خفيفة ارتسمت فوق شفتيها وقالت:
_شكرًا.
منحها الشاب بسمةٌ ودودة وقبل أن يرحل أوقفه مجددًا صوتها حين قررت أخيرًا أخذ الخطوة بجر’أة لا تعلم مِن أين اكتسبتها:
_لو سمحت ممكن أسألك سؤال.؟
نظر إليها الشا’ب ووافق في الحال بقوله:
_أكيد، أتفضلي.
حاولت أن تهدأ وتظهر بصورتها العادية حتى وإن كانت ليست كذلك، أخذت نفسًا عميقًا ثمّ زفرته عنوة وقالت بنبرةٍ هادئة متسائلة:
_هو صاحب الكافيه موجود.؟
تعجب الشا’ب مِن سؤالها ولذلك رد عليها بسؤالٍ آخر:
_حضرتك تقصدي مين فيهم، هما ٣.
توترت بشـ.ـدة حين سألها هذا السؤال وشَعَرت بالقليل مِن الخو’ف إن أختصته هو بعين الإعتبار ولذلك لم تستغرق وقتًا طويلًا في التفكير وقالت بنبرةٍ هادئة ظاهريًا:
_الـ ٣ نفسهم، بصراحة إحنا كان بينا شُغل ولسّه متممنهوش فعشان كدا بسأل عنهم لأني بقالي فترة مبشوفهمش وتليفوناتهم مقفو’لة.
تفهَّم الشا’ب مغزى حديثها ولذلك جاوبها بنبرةٍ هادئة بقوله:
_هما حاليًا ولمدة ١٠ شهور مش هييجوا الكافيه، بيقـ.ـضوا فترة الجـ.ـيش بقالهم شهرين دلوقتي.
حسنًا لقد أتضحت الأمور أمامها الآن وعَلِمَتْ سبب إختفاءه الرئيسي، نظرت إليه مجددًا وسألته سؤالٌ آخر بقولها:
_طب مين اللِ ماسك مكانهم دلوقتي.؟
جاوبها الشا’ب بنبرةٍ هادئة بقوله:
_في أخو “يزيد” الكبير الأستاذ “حُـذيفة” بس مش موجود الأيام دي عشان حصله حا’دثة وحاليًا فالمستشفى، بس في الأستاذ “ليل” ابن عمّه والأستاذ “أحمـد” بييجوا كُلّ يوم بس هما مش موجودين النهاردة لأسباب شخصية.
تفهّمت ما يحدث ولذلك شكرته بنبرةٍ هادئة وابتسامة خفيفة ليتركها ويعود مجددًا إلى عمله، بينما شردت هي قليلًا مع نفسها تُفكر في الأمر وتُحاول معرفة تلك الحالة التي تجتا’حها كُلّما تم ذكره أمامها حتى شَعَرت باليأ’س ورأت نفسها تسحب مذكرتها بخفة وأمسكت بقلمها الأسو’د الحبـ.ـري وتركت العنان لنفسها..
إلى فارسي المعلوم..
اليوم أُصارحك بداخلي عن تلك المشاعر المخبوءة بقلبي ولا أستطيع البوح بها، لا أعلم متى حدث ذلك وكيف، ولكن أعلم أنها مشاعر حقيقية، منذ أن رأيتك وأنا أصبحت متوترة طيلة الوقت وكُلّما سمحت لي الفرصة أراك أمامي برغم عدم تواجدك في الوقت الحالي، أصبحتُ أذهب كُلّ يومٍ إلى ملاذك، وأصبح ملاذي أيضًا، بهِ أجد نفسي الضا’ئعة وراحتي المسلو’بة بفضلك، ظننتُ الأمر بعيدًا ولكن في الحقيقة كان أقرب مِمَّ كنتُ أتخيّل … لا أعلم ماذا أنت بفاعلٍ ولكن أعلم حقيقة واحدة، حقيقة أخشى الاعتراف بها أمام نفسي خشيةً أن أكن أتوهم بأشياءٍ لا وجود لها، ولكني سأقولها لنفسي حتى يهدأ صر’اعي وعقلي الذي لا يكف عن التفكير بكَ، سأقول لك بداخلي أنكَ نصفي الضا’ئع، أنت القطعة المفقو’دة لي منذ سنواتٍ، وإن كُنت تشاركني مشاعرك بداخلك فأتمنى أن يتم بيننا الوصال، وأن تتعانق أرو’احنا، فلا أنا العنان إلّا بك، سأنتظرك أيها الفارس، سأنتظر عودتك قريبًا وأنا أأمل أن يكون بداخلك مشاعر مكتنزة لي أيضًا فحينما دعوت الرب حاوطتني الراحة كأيدي ناعمة تُعانقني، لنا لقاءٌ عمَّ قريب أيها الحبيب..
“عنان الوهيب.”
رفعت القلم الحبـ.ـري عن الورقة بعد أن قامت بالتوقيع أسفل الرسالة، تأملت الإسم بدهشةٍ واضحة، جحظت عينيها قليلًا بعد أن قرأت الإسم مرارًا وتكرارًا، لا تُصدق ما وصلت إليه حتى هذه اللحظة ولكن أيقنت أن الحُبّ لا يعرف المستحيلا’ت، ولا يعرف الحدو’د، فهو كنسمة الهواء الباردة، يأتي بلحظة يترك وصمته فوق قـ.ـلب المُحب ويرحل، بسمةٌ هادئة أرتسمت فوق شفتيها بعد أن تأملت الإسم لوقتٍ قصير قبل أن تغلق المذكرة وتأخذ فنجان قهوتها ترتشف مِنْهُ رشفةٌ صغيرة وهي تشعُر براحة لم تشعُر بها مِن قبل، ولكنها لم تُيقن بعد أن تلك كانت بداية الطريق.
_________________________
<“للعودة إلى النور، كان يجب عليه إبطا’ل الشـ.ـر.”>
في إحدى الأراضي الزراعية – في منتصف اليوم..
كان “رمـزي” قد تلقى الإذن مِن صاحب الأرض على البقاء لوقتٍ قصير بعيدًا عن الأعين المحيطة بالمكان حتى يستطيع إبطا’ل الشـ.ـر ويعود النور إلى قلوب المصا’بين، كان يجلس فوق قا’لب حجـ.ـري وأمامه إناء كبير معدني ممتلـ.ـيء بالماء والملح، استعان بالله وبدأ بتحـ.ـصين نفسه ثمّ بدأ بفـ.ـك تلك الأعما’ل التي قد فعلها “جرجس” للعديد مِن أصدقائه وعلى رأسهم تلك الفتا’ة المسكينة التي يعلم أنها ليست بخيرٍ الآن وبالتأكيد هي تتأ’لم وتُعا’ني..
كان كُلًّا مِن “يـوسف” و “ليل” يقفان بالقرب مِنْهُ يُتابعانه بصمتٍ قا’تل، والأسئلة العديدة تُطرح على عقو’لهم ومازالت الإجابة مجهو’لة حتى تلك اللحظة، همس “ليل” وعيناه تتابع ما يفعله “رمـزي” قائلًا:
_معقولة لسّه في ناس بالجحو’د دا، مِن أبسط رد يتئـ.ـذوا بالمنظر المو’جع دا.؟
جاوبه “يـوسف” بعد أن ر’فع عينيه ينظر لهُ قائلًا:
_في اللِ بيعمل أكتر مِن كدا، دا ميجيش حاجة جنب بقعة الفسا’د اللِ محوطانا، تخيّل سحـ.ـرلها عشان ر’فضت تكون زميلة على الأقل، ما بقالك لو كانت حبيبة، كان قتـ.ـلها تقريبًا.
أخرج “ليل” زفرة عميقة وجاوبه بنبرةٍ هادئة بقوله:
_”جرجس” كان أقرب مِني مِمَّ تتخيّل، كُنا صحاب أوي بـ “كريم”، أي حد فالجامعة كان بيحسـ.ـدهم عشان هما قريبين مِني أوي فحالة إن محدش كان بيقدر يقرّب مِني عشان مكُنتش أي حد، كانوا بيقولوا عليّا مغرور، حفيد اللو’ا اللِ محدش يقدر يقوله حتى صباح الخير، برغم إن أنا كُنت ومازلت كدا فعلًا بس كان نفسي يكون عندي صحاب أكتر، أكون زي أي حد عادي، بس الإنسان مبياخدش كُلّ حاجة فعلًا، كُنت شايفهم أخواتي، وولاد عمّي كانوا شايفنهم أعدا’ئي، برغم إنهم حاولوا ينصحوني وعلى راسهم “حُـذيفة” بس أنا اللِ كُنت را’فض أسمعهم، لحد ما حصل اللِ حصل بقى سواء مشا’كل بينا أو خلا’فات، مفوقتش غير متأخر وشوفتهم بعين اللِ حواليا لأول مرَّة، بس الإنسان مبيتعلمش ببلاش.
نظر إليه “يـوسف” بأهتمامٍ واضح بعد أن جذب حديثه أنتباهه ليسأله بنبرةٍ هادئة:
_وهما ليه أذو’ك بالطريقة دي؟ إيه السبب اللِ يخليهم يتجهوا للطريق دا أكيد في سبب قوي.
نظر إليه “ليل” بطرف عينه قليلًا وكأنه لم يتوقّع هذا السؤال، ولكن برغم ذلك جاوبه بنبرةٍ هادئة وقال:
_كُنت أشطر واحد فيهم، كُنت بطلع كُلّ سنة بتقدير كويس، النقطة دي كانت بتضا’يقهم أوي وبتخليهم حا’قدين عليّا، بس كالعادة أنا مكُنتش شايف دا غير متأخر بقى.
هزّ “يـوسف” رأسه بقلة حيلة بعد أن أستمع إلى رفيقه، فلم يكُن الأمر يقتصر عليه فحسب بل مع غيره كذلك حتى لو كان مختلفًا بطبعه، أخرج زفرة عميقة وقال بنبرةٍ ساخرة:
_دول منتشرين فالجَو يا عمّ، قال عاملين نفسهم حبايب وهما في الأصل ضـ.ـراير، بركة إنك نجـ.ـدت واللهِ.
أبتسم “ليل” بسمةٌ خفيفة بعد أن رمقه بطرف عينه ورأى تلقائيته التي لطالما أودت بهِ نحو الهلا’ك وجاوبه قائلًا:
_إلّا قولي صحيح، أنا أعرفك بقالنا فترة حلوة ولحد دلوقتي لسّه في حاجات معرفهاش عنك، أنتَ خريج إيه.؟
هذا السؤال جاء مفاجئًا بالنسبةِ إلى “يـوسف” الذي تبدّلت معالم وجهه تدريجيًا بشكلٍ ملحوظ وأعادته إلى نقطة سو’د’اء عـ.ـميقة كا’فح للخروج مِنها، رفع “رمـزي” عينيه ونظر إلى رفيقه مباشرةً منتظرًا مِنْهُ ردًا يعلم أنَّهُ لن يكون متـ.ـعلقًا بالسؤال نفسُه، ولكن يعلم أن رفيقه حا’رب لنسيان هذا الماضي الأسو’د الذي كان أكبر كو’ابيسه يومًا، صمتٌ ثقيـ.ـل حاوط المكان وكأن اللسا’ن ثقيـ.ـلًا ولا يستطيع إعطاء الجواب مباشرةً، ولكن “يـوسف” لم يعلم المستحيل يومًا حتى وإن كان لا يملُك الإجابة، نظر إليه بعينين جادتين وقال بنبرةٍ ثابتة:
_خريج كلية الجدعنة.
استنكر “ليل” رده على سؤاله ليأتي الرد هذه المرة مِن “رمـزي” الذي قال بنبرةٍ هادئة بعد أن أنهى مـ.ـهمته:
_”يـوسف” كان لُه ظروفه الخاصة فهو أساسًا بسببها مدخلش مجال التعليم، في ظروف قا’سية بتحصل للبني آدم بتحسسه فلحظة بالعجـ.ـز وإنُه مش قادر يحقق حتى أبسط أحلامه، بس هو كدماغ أقسم بالله ما في زيها، بسم الله ما شاء الله عليه يعني بيفهمها وهي طا’يرة زي ما بنقول ويحـ.ـلل حاجات أجدعها فتوة ميعرفش يحـ.ـللها زيُه، هو زي ما بنقول ربنا حر’مه مِن حاجة أي واحد مِننا سهل يحققها بس أداه نعمة مش عند حد فينا، دماغه حلوة ونبيه بصراحة وكان لمَ واحد فينا ينجح فسنة مُعيّنة كان بيكون نجاحه هو واللهِ يعني أنا ساعات أسأل نفسي وأقول “يـوسف” لو كان دخل مجال التعليم دا كان زمانه دلوقتي دكتور أو مهندس أو محامي، بس ربنا كرمه بحاجة أحسن مِن كُلّ دا وأنا حاسس قريب إن أسمه هيسمّع أوي وبُكرة تقولوا “رمـزي” قالها.
لوهلة شَعَر “ليل” بالحر’ج لتسببه في تذكيره بأشياءٍ سعى لنسيانها، ولكن في نفس الوقت شَعَر بالفخر لكونه يمتلك صديقًا مختلفًا عن غيره في العديد مِن الأشياء المعروفة، نظر لهُ نظرةٍ واثقة ثمّ قال بنبرةٍ هادئة ولكنها جادة:
_أوعى فيوم تحس بالإحر’اج بسبب حاجة زي دي، أنا حاسس إنك تـ.ـعبت كتير فحياتك وشوفت المُـ.ـر وياما شوفت قسو’ة وهـ.ـمّ، بس صدقني أنتَ الدنيا عملت مِنك را’جل بجد وصدقني أيًا كان اللِ هتوصله فأنتَ تستحق المكانة دي، أنتَ فعيني بطل واللهِ مهما كُنت وصدقني أنتَ أحسن مِن ١٠٠ واحد متعلم وبُكرة هتعرف ليه.
أنهى حديثه مبتسمًا وفخورًا بهِ، لم تكُن الطبقات يومًا تُشكِل عا’زلًا بين الآخرين مثلما تعودنا، ولكن ما يجمعهما كان أكبر مِن فروق الطبقات، فلا أحد يُمكن أن يُصدق أن يكون ضا’بط شـ.ـرطة رفيقًا لشا’بٍ بسيط جر’دته الحياة مِن أبسط حقوقه، ولكن القلب صدق والعقل آمن بتلك الرحلة ودرسًا تعلّمهُ الإنسان، فلم تكُن الطبقات يومًا تُشكِل هذا الفارق الكبير الذي تعوّد المرء رؤيته دومًا..
ضمّه “ليل” إلى د’فء أحضانه ممسِّدًا فوق ظهره برفقٍ وكأنه يواسيه خفيةً على ما رآه ووصل إليه، لحظات وأبتعد “يـوسف” الذي بدوره أبتسم وقال بنبرةٍ هادئة:
_كُلّ اللِ يجيبهولي ربنا أنا راضي بيه واللهِ، كفاية إنُه رزقني بالبنـ.ـت اللِ أتمنيتها وشوفتها بعيدة عليّا أوي وبرغم إن كُلّه وقف ضـ.ـدنا بس فالآخر مكسـ.ـرش بخاطري وخدتها، ورزقني مِنها ببنـ.ـتين ماليين عليّا حياتي ومخليني مش عايز حاجة تانية مِن الدُنيا، أنا عُمري ما أنبهرت بالمستويات الرفيعة، كفاية عليّا ضحكة حلوة مِن بنتي بتحسسني إنِ ملـ.ـكت حاجة مش عند أي حد.
انتـ.ـصب “رمـزي” واقفًا في هذه اللحظة واقترب مِنهما بخطى هادئة يجاور رفيقه، وضع كفه فوق كتفه وقال بنبرةٍ هادئة:
_أنزل يوم عندنا الحارة وهتفهم كويس أوي معنى كلامه.
أبتسم “ليل” لهما وقد شَعَر في هذه اللحظة بالمعنى الحقيقي للحياة البسيطة التي لا يتمتع بها سوى مَن يرضون بما يأتي إليهم مِن الله، أخرج زفرة عميقة وقال بنبرةٍ هادئة:
_قريب إن شاء الله، “حُـذيفة” يكون فاق ورجع كويس وأنا بنفسي اللِ هجيلكم لحد عندكم وأقضـ.ـي اليوم معاكم مِن أوله لأخره.
وحين أن أنهى حديثه صدح رنين هاتفه يُعلنه عن أتصالٍ هاتفي، أخرجه مِن جيب بنطاله ليرى المتصل رفيقه “شهـاب”، جاوبه بنبرةٍ هادئة ليتلقى الرد الذي تمنى سماعه مِن قبل:
_”حُـذيفة” فاق يا صاحبي، حبيبنا رجع ومستنيك تيجي تشوفه.
نظر “ليل” لهما مجحظ العينين وكأنه لا يُصدق ما قيل إليه، تحدث بنبرةٍ هادئة مترقبًا الرد قائلًا:
_مش مصدق، أحلف إنُه فاق بجد.
نظر كُلًّا مِن “يـوسف” و “رمـزي” لبعضهما بتفاجؤ وفرحة ثمّ نظرا إليه، بينما أبعد “ليل” الهاتف عن أذنه وقام بفتح مكبر الصوت وأنتظر سماع صوت رفيقه بنفسُه بعد أن أخبره “شهـاب” أنَّهُ سيجعله يتحدث إليه بنفسه، ترقبوا ثلاثتهم الرد، ولم يلبسوا سِوى لحظات وجاء صوت “حُـذيفة” المُـ.ـنهك بقوله:
_بقى في حد عاقل فالدنيا، يكدِّب “شهـاب”، دي حتى تبقى عـ.ـيبة كبيرة فحـ.ـقه.
حُبِـ.ـسَتْ الأنفا’س، وترقبت الحواس، وكأنها لحظة تاريخية وولجوها مِن أوسع أبوابها، لحظة توّثق، لحظة أنتظروا مجيئها كُلّ ليلة، وكأنها كانت بعيدة كُلّ البُعد عنهم وستطول بهم، تنهيدات عميقة خرجت وكأنها سلا’سل حد’يدية كانت تحـ.ـكم قبـ.ـضتها حول أجسا’دهم، تسارعت نبـ.ـضات القلوب داخل الصدور، ور’غبة عا’رمة في الانجر’اف خلف رغباتهم وإطلاق العنان لعَبراتٍ كانت تأبى السقو’ط طيلة الوقت حتى يظلوا صامدين حتى نهاية المطاف..
شَعَر “ليل” بلسانه يُلجـ.ـم فجأةً، والكلمات تهرُ’ب مِن فم “يـوسف” الذي أراد التعبير عن مدى سعادته بعودته ولكنهُ فشـ.ـل، لم يبقى سِوى “رمـزي” الذي رفع رأسه إلى السماء وشكر ربُه بوجهٍ مبتسم وعينان تفيـ.ـضان مِن الدمع، ور’وحٌ تُحا’رب مشاعر كانت أكبر مِنها في تلك اللحظة، أخفض رأسه مِن جديد ونظر إلى الهاتف مباشرةً وقال بنبرةٍ متذ’بذبة تكا’فح لبقاءها صامدة:
_اللَّهُم صلِّ على سيدنا النبي، كدا أنا واثق مليون فالمية إنك بقيت زي الفُل، ليك شوقة يا صاحبي، بقى الأخوات يعملوا فبعض كدا؟ يعنى أبقى قاعد فأمان الله وفجأة أسمع عنك سمع مش كويس.؟
جاء الرد في نفس اللحظة، وكأنه أنتظر سماع صوته بين الجميع، وأنتظر رؤية ردة فعله حين يعلم ما أصا’به، ولكن لم يكُن يعلم أنَّهُ قد فعل المستحيلا’ت وتذوّق العذ’اب وجُرِ’حَ لأجله الفؤاد:
_واللهِ يا “رمـزي” أنا حرفيًا شوفت المو’ت بعيني، إنِ أعدي المرحلة دي فدا رحمة مِن ربنا ليّا، قبل ما أغيب عن الو’عي كُنت بفكر فأقرب ناس ليّا، وعلى راسهم أنتَ، كُنت عارف إنك أول واحد هتزعل عليّا وبالك هيفضل مشغول بيّا، عشان كدا، أنا طلب مِن “شهـاب” إنُه يكلم “ليل”، عشان أطمنه بنفسي عليّا، هو مِن زمان مبيصدقش حد، غير لمَ يسمع صوتي ويتأكد بنفسُه.
ألتمعت العَبرات في عينين “ليل” الذي آ’لمه نبرة صوت رفيقه المر’هقة وتأثيرها تحت وطأة التعـ.ـب، بينما رد عليه “رمـزي” مبتسم الوجه قائلًا:
_أنا فاهم مشاعرك كويس أوي وفاهم اللِ حاسس بيه، بس المهم دلوقتي إنك عديت مرحلة الخطـ.ـر الحمدلله وبقيت كويس، دي عندنا إحنا أهم واللهِ، حمدلله على سلامتك يا خويا أنا عمومًا هجيلك أنا والشبا’ب بس عندي مشوار كدا هقضـ.ـيه الأول وبعدين أجيلك، أهم حاجة تخلّي بالك مِن نفسك وترتاح على قد ما تقدر لحد ما أجيلك.
أنهى حديثه وأنهى المكالمة بوعدٍ صادقٍ مِنْهُ، نظر في أعينهم بنظرةٍ مختلفة هذه المرة، نظرة بها الراحة والطمأنينة، وقلبًا استكان ونالَ لذة الراحة، فلن يُقتـ.ـل صوتًا يسعى في الأرض لبقاء العد’ل حـ.ـيًا، فضر’بة العد’و بألف عودة طالما لم يئذن رب العالمين، وأمام تلك الحر’ب صر’خة البر’يء كانت أقوى مِن ألف ضر’بة سيـ.ـف.
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية أحببتها ولكن 7)