روايات

رواية في حي الزمالك الفصل الخامس و الثلاثون 35 بقلم ايمان عادل

رواية في حي الزمالك الفصل الخامس و الثلاثون 35 بقلم ايمان عادل

رواية في حي الزمالك البارت الخامس و الثلاون

رواية في حي الزمالك الجزء الخامس و الثلاثون

رواية في حي الزمالك الحلقة الخامسة و الثلاثون

مَنَادِيل وَرُقَيّة 🤎✨

“بص يا رحيم أنت باين عليك شاب كويس ومتربي وبتفهم في الأصول، أنا ارتاحتلك وفاتحلك بيتي تنور أنت وأهلك في أي وقت وتيجوا ونتقابل ونتفق لكن غير كده.. أنا أسف يا ابني أنا مقدرش أوافق وأهلك رافضيين.. رضا أهلك عليك ومباركتهم في خطوة زي ديه أهم من أي حاجة حتى لو الحاجة دي هي أفنان بنتي.”

اضطربت معالم رحيم وهو يحاول إبتلاع الغصة في حلقه، شعر رحيم بالكون يتجمد من حوله ولم يدري ماذا يقول، نظر نحو أنس الذي بادله نبرات حيرة واستياء.

“أحنا كده أتطردنا ولا أيه؟” سأل أنس هامسًا في أذن رحيم الذي بقى صامتًا لدقيقة قبل أن يُردف:

“أنا طبعًا مقدر لكل اللي حضرتك قولته.. وحضرتك يعني عندك حق في كل كلمة قولتها، وأنا أوعدك أني هحل مشاكلي مع بابي وما…”

“مع باباه ومامته، هيحل المشكلة مع باباه ومامته وهنيجي كلنا سوا الزيارة الجاية إن شاء الله.” نظر رحيم نحو أنس بدون استيعاب وهو يتسأل بداخله لماذا قاطع الأخير حديثه وعدله ليدعس أنس على قدمه بخفة.

“تنوروني يا حبيبي في أي وقت البيت بيتكوا، وأنا حبيتك جدًا يا رحيم يا ابني ومُرحب بيك في أي وقت.”

“شكرًا لحضرتك.. طيب هو ينفع أخد من حضرتك وعد.” تمتم رحيم بإحراج ليبتسم والد أفنان وهو يقول:

“لو كان في استطاعتي فأكيد اتفضل.”

“ممكن حضرتك متوافقش عالعريس اللي كان متقدم لأفنان؟ أنا مش هتأخر على حضرتك أنا إن شاء الله هاجي على طول عشان نقرأ الفاتحة ونجيب الشبكة.”

تحدث رحيم بحماس شديد خاصة عند جزئية قراءة الفاتحة ليمنحه والده أفنان نظرات مُطمئنة وهو ينبس بكلمة واحدة والتي أثلجت صدر رحيم:

“أوعدك.”

“شكرًا جدًا لحضرتك.. إن شاء الله هكلم حضرتك تاني في أقرب وقت عشان نحدد ميعاد.”

“تنور في أي وقت يا حبيبي.”

“طيب يا عمو نستأذن أحنا بقى.” أردف أنس وهو يُنبه رحيم أن عليهم الرحيل فلقد انتهى الحديث عند هذا الحد ولا يوجد معنى لمكوثهم الآن.

“ليه يا حبيبي ما أنتوا مشرفينا.”

“إن شاء الله هنقعد كتير كلنا الفترة الجاية لما يتم المراد.” تمتم أنس بنبرة درامية قليلًا مستخدمًا لفظة قديمة للغاية لم يفهمها رحيم لكن فهمها والد أفنان بسهولة بالطبع.

“إن شاء الله.”

ودع والد أفنان الشابان بلطف شديد وبمجرد أن أُغلق باب المنزل بعد تأكد والد أفنان من رحيلهم نظر رحيم نحو أنس بحيرة وهو يقول:

“مراد مين؟ أنا مش فاهم حاجة!”

“بس اسكت.”

“أنت بتسكتني جوا ليه؟ كل أما أقول جملة تعدل عليا!!”

“يا عم الراجل رافضك أصلًا من الأول تقوم قايله مامي وبابي؟ ده كده هيضربنا بالنار.”

“فين المشكلة؟ مش فاهم.”

“هي مش مشكلة ولكنها اختلاف ثقافات مش أكتر، الناس في المستوى ده هيبقوا شايفين إنك مايع أو مايص لمجرد أنك بتستخدم مصطلح أو لفظ غير دارج بالنسبالهم.”

“بعيدًا عن جملة ‘في المستوى ده’ عشان طبقية جدًا، بس اللي أنت بتقوله ده سيء أوي.. دي Toxic masculinity ‘ذكورة سامة’.”

“بالضبط كده، بس أنت لوقلتلهم المصطلح ده برضوا هيفتكروك بتشتمهم.”

“عالعموم مش مهم كل الكلام ده دلوقتي.. أنا حاسس بإحراج فظيع ومتضايق أوي، حتى أفنان مشوفتهاش النهاردة..”

“ما ده المتوقع يا رحيم، أنا قولتلك من الأول إن الموضوع مش هيمشي بس أنت اللي صممت إننا نيجي والحمدلله إن الراجل محترم ومطردناش.”

“خلاص بقى متقعدش تلومني وبعدين أنا أصلًا أنا مش ندمان..”

أردف رحيم وهو على وشك أن يدلف داخل السيارة لكنه شعر بشيء صلب يرتطم بكتفه وقبل أن يسب من فعل ذلك وجد صوت ‘بسبسة’ من الأعلى، رفع عيناه ليرى أفنان تنظر نحوه من الشرفة وهي تختبأ بين الستائر.

“يا عيال يا معفنة ياللي بترموا حجارة عالناس!!” صاح أنس بصوتٍ مرتفع نسبيًا ليقترب منه رحيم واضعًا يده على فم أنس كي يُجبره على الصمت.

“بس اسكت دي أفي.”

“أيه أفي دي؟”

“أفنان يا أنس أفنان!”

“طب ما تنده ولا ترن، بتحدف على قفانا طوب ولا مشابك ليه؟!”

“أنت غبي بجد، يلا.. يلا نمشي أركب.”

نبس رحيم بحنق وهو يدفع أنس إلى داخل السيارة قبل أن يرفع عيناه ليُلقي نظرة أخيرة على أفنان قبل أن يرحل، منحها ابتسامة مُنكسرة لكن لم تستطيع هي أن تبادله الإبتسام حيث كانت دموعها تنهمر لكنه لم يستطع رؤية ذلك بوضوح نظرًا لبعد المسافة، لوح لها رحيم مودعًا إياها قبل أن يدلف إلى داخل السيارة.

بالعودة إلى منزل أفنان، جلس والدها بضع دقائق في انتظار خروج أفنان من حجرتها لكنها لم تفعل بل فعلت ميرال والتي دنت من والدها لتُخبره بأن شقيقتها قد أجهشت في البكاء في حجرتها بسبب سماعها لرفض والدها لزواجها من رحيم، تنهد والدها بضيق قبل أن يمنح ميرال ابتسامة حنونة مُرهقة وهو يُردف:

“متقلقيش أنا هدخل أتكلم معاها.”

استقام من مقعده واتجه نحو غرفة أفنان واستطاع سماع صوت بكائها حتى قبل أن يدلف إلى الحجرة، شعر بالآلم يتسلل إلى قلبه فلم تكن ابنته من الشخصيات سريعة البكاء، طرق الباب مرتين بطرقته المميزة لتقول أفنان بصوتٍ مبحوح:

“اتفضل.”

“عروستي القمر عاملة أيه؟”

“عروسة أيه بقى يا بابا..”

“طبعًا عروسة وأحلى عروسة كمان.” تفوه والدها بنبرته الحنونة المعتادة وهو يضع يده أسفل ذقنها ليرفع وجهها الذي خفضته هي لتظهر عيناه الباكية ووجنتها المُحمرة.

“أنتي بتعيطي ليه يا عبيطة؟ عشان مقولتش أني موافق؟ ده انا كده برفع قيمتك وببين أد ايه أنك غالية وإن عمري ما هقبل أنه يكون متجوزك في الدراء ولا أنه ميقدرش يمشي جنبك وهو حاطط عينه في عين أي حد قصاده.”

“أنا فاهمة يا بابا وأنا عارفة أن حضرتك عندك حق و اللي عملته هو الصح بس أنا..” تحدثت أفنان من بين شهقاتها ليُكمل والدها ما لم تستطع هي إكماله قائلًا:

“متضايقة، عارف أنك متضايقة وأن كان نفسك كل حاجة تتم، بس صدقيني يا أفنان يا بنتي الشخصك اللي مش بيحارب عشان الحاجة ويتعب عشان يوصلها مبيحسش بقيمتها وأنتي قيمتك غالية أوي يا حبيبتي.”

“شكرًا يا بابا أنك بتعمل كل حاجة عشان مصلحتنا حتى لو أحنا مش فاهمين.”

“أنا أهم حاجة عندي سعادتكوا يا نور عيني، المهم يلا قومي بقى عشان نشوف المحروس جايب أيه معاه.”

“اه صح هو جاب أيه؟” سألت بفضول ليضحك والدها ثم يُجيبها بسخرية:

“سي روميو جايبلك ورد وشيكولاتة وحلويات.”

“أكيد مكلف ما أنا عارفاه ابن البكري بيحب المنظرة.”

“البكري؟”

“اه هو اسمه رحيم البكري، بس مش عارفة اسم باباه أيه حاجة بحرف ال ح كده..” نظر والد أفنان نحوها بحيرة وكأنه يحاول تذكر شيئًا ما قبل أن تُباغته هي بسؤالها:

“هو حضرتك بتشبه عالإسم ولا أيه؟”

“حاسس أني سمعته قبل كده، اسم العيلة مميز.”

“أكيد الإسم عدى على حضرتك في الجرايد أو أخبار رجال الأعمال أو المستثمرين مثلًا.”

“ممكن، المهم يلا قومي أغسلي وشك وتعالي أقعدي معانا برا.”

“حاضر.”

داخل السيارة جلس رحيم إلى جانب أنس في صمت، مازال يشعر بالضيق والإحباط لما حدث في مقابلة والد أفنان وما زاد الطين بلة هو تلك الأغنية الحزينة التي تتحدث عن الفشل والتعاسة والتي قام أنس بتشغيلها بصوتٍ مرتفع وكأنه متعمد جعل حالة رحيم أسوء.

“أيه يا عم القرف اللي أنت مشغله ده؟”

“اه لا مؤاخذه الأغنية جت عالجرح، طب تحب أدورلك عن أغنية بتحكي عن واحد راح يتقدم لواحده فأبوها طرده؟”

“طب تحب أنا أشغلك أغنية عن واحد أتعصب من صاحبه So he got rid of him ‘تخلص منه’ ؟”

“لا خلاص أنا أسف، قولي بقى أوصلك على فين؟”

“هو أنا كنت عايز أرجع عال Hotel ‘الفندق’ طبعًا، بس بيقولولي في مشكلة في الشركة ولازم أروح أشوفها ضروري.”

“تمام هاجي معاك ولما نخلص هعدي عالمستشفى أشوف أروى.”

“ماشي.”

وصل رحيم إلى الشركة وبمجرد أن دلف إلى داخل انتبه الجميع له، فمنذ أن عاد من بريطانيا لم يحضر إلى الشركة تقريبًا وقد كان الفضول يلتهم الجميع ليعرفوا سر الإختفاء المفاجئ لشخصية صارمة كرحيم، تركه أنس واتجه إلى مكتبه بينما فعل رحيم المثل ولكن قبل أن يفعل اتجه إلى المساعدة الشخصية خاصته أولًا.

“دخليلي كل الورق اللي محتاج يتمضي عالمكتب و reports ‘تقارير’ الشهر كله من فضلك.” طلب رحيم من المساعدة خاصته التي أومئت بهدوء وهي تستقيم من مقعدها لتقوم بإحضار ما طلبه رحيم.

“ثواني هو أنتي أيه اللي مقعدك لحد دلوقتي في الشركة؟ الساعة Almost 9 pm ‘تقريبًا التاسعة مساءًا’.”

“ما هو يا فندم حضرتك في ضغط شغل جامد جدًا اليومين دول وحضرتك مكنتش هنا فأوقات كنا بنقعد زيادة عن مواعيد العمل الرسمية ومستر حامد قال إن هيبقى في Over time ‘المقصود زيادة في الراتب نتيجة العمل لساعات أطول’.”

“تمام، بعد ما تجيبي الحاجات اللي طلبتها تقدري تتفضلي.”

“تحت أمرك يا فندم.”

جلس رحيم على المكتب خاصته بضيق وهو ينزع رابطة عنقه بإستياء، ثم يعيد خصلات شعره نحو الخلف، عشرة دقائق تقريبًا مرت قبل أن يسمع رحيم طرقات هادئة على الباب يسمح للمساعدة بالدخول وهو يعبث في أحد الأوراق التي أمامه بينما يُعلق دون رفع عيناه نحوها:

“حطيهم عالمكتب وأتفضلي.”

“طب ينفع متفضلش وأقعد معاك شوية؟” صدر هذا السؤال بغتة من صوت رجولي يعرفه رحيم جيدًا بالتزامن مع ملاحظة رحيم أن اليد التي وضعت الاوراق هي يد رجل وليست يد مساعدته.

“بابي؟ أهلًا بحضرتك اتفضل طبعًا.” نبس رحيم بمزيج من الدهشة والتوتر وهو يستقيم من مقعده على كرسي المُدير مُشيرًا لوالده بأن يجلس مكانه كنوعًا من الأدب والذوق، ابتسم والده تلقائيًا من فعلة رحيم تلك وهو يشعر بالفخر كونه استطاع تربية ابنًا بهذه السلوكيات.

“خليك مستريح يا رحيم ده مكانك.”

“العفو يا بابي، حضرتك أتفضل وأنا هقعد عالكرسي اللي قصاد حضرتك.”

“طب أنا عندي حل وسط، أحنا نقعد عال Couch ‘الأريكة’ اللي هناك دي.”

“تمام أتفضل.” نبس رحيم وهو يُشير إلى والده ليجلس الإثنين على الأريكة، تسلل التوتر إلى قلب رحيم وهو ينتظر سماع ما سيقوله والده بقلق.

“خليني أدخل في الكلام على طول، أظن أنت عارف أنا جاي لحد هنا عشان أتكلم في أيه.”

“عارف طبعًا..”

“طيب بعيدًا عن أعتراضي أو موافقتي على البنت والجوازة بشكل عام، مش شايف إنك كان المفروض ترجعلي أنا الأول يا رحيم في موضوع زي ده قبل ما تاخد أي خطوة؟

سأله والده بنبرة تحمل في طياتها اللوم لكنه لم يكن حادٍ كذلك، اضطربت ملامح رحيم أكثر وهو يحك مؤخرة رأسه بينما يُردف:

“حضرتك عندك حق أنا غلطت، بس أنا لو كنت عرفتك اللي بخططله كنت هتقولي استنى وكنت هتقولي أنك هتكلم مامي بهدوء وهتحاول توصل معاها لحل، وده هياخد وقت طويل ده فحالة أنك قدرت تقنعها أساسًا وأنا مكنش عندي أي استعداد استنى لما البنت تروح من إيدي.”

“ولما روحت لوحدك كانت أيه النتيجة؟”

“مش فارقة النتيجة دلوقتي يا بابي، لأني لسه هحاول تاني وتالت وعاشر لحد ما اللي أنا بطمح ليه يحصل.”

“بتحبها أوي كده؟ شايف إن الجوازه دي تستحق المخاطرة بكرامتك وكرامتنا وإنك تخسر رضاء أمك؟”

سأل والده بنبرة جادة ليسود الصمت لثوانٍ حيث كان يحاول رحيم ترتيب الحديث في رأسه أولًا قبل أن يُجيب على سؤال والده، أخذ رحيم نفسٍ عميق ثم نبس بالآتي بكل صدق:

“بابي، أنا عمري في حياتي ابدًا ما أعمل أي حاجة تمس كرامتنا بسوء، أما عن جزء المخاطرة بقى فإيه المانع أني أخاطر زي ما حضرتك خاطرت زمان يا بابي وأتجوزت مامي بالرغم من رفض عائلة حضرتك للموضوع ورغبتهم في إنك تتجوز بنت من بنات عائلة البكري؟”

صمت والد رحيم وقد ذم شفتيه، فرحيم محق بهذا الشأن، فلم يتردد حامد منذ أكثر من عشرون عامًا في الوقوف أمام كل أفراد عائلته وليس أبويه فقط من أجل الزواج من إيڤلين والتي كانت تختلف عنهم كثيرًا من حيث التربية والتعليم بل من ناحية العادات، التقاليد، والجنسية كذلك حتى وإن كانت العائلتين متقاربتين من ناحية المستوى المادي.

“بابي، أنا كنت تايه.. كنت تايه ولاقيت نفسي لما لاقيت أفنان، يمكن أنا معرفهاش كويس.. يمكن أحنا محتاجين نعرف بعض أكتر ويمكن يحصل بينا مشاكل وخناقات لكن All of this won’t change my mind about the proposing ‘لكن كل ذلك لن يُغير رأي/فكري حول موضوع طلب يدها للزواج’.”

“أنت عندك حق في كل كلمة قولتها بس صدقني يا رحيم أنت هتتعب جدًا لإختلاف المستوى والتربية ده الموضوع مش سهل زي ما أنت متخيل، أنا تعبت كتير لحد ما وصلت للتفاهم اللي بيني وبين والدتك.”

“أنا وأفنان مدركين ده كويس يا بابي أحنا مش صغيرين، وأحنا عندنا رغبة إننا نحاول فياريت تدولنا فرصتنا.”

“على راحتك يا رحيم، طالما ده اللي أنت بتتمناه فأنا عمري ما همنع عنك حاجة أنت نفسك توصلها وهتمنالك كل خير وهقف في صفك وأدعمك، أنت ابني الوحيد ولكن هفكرك أنت اللي هتتحمل نتيجة كل حاجة لوحدك في الآخر.” تفوه والده بهدوء شديد ونبره جادة.

“عارف حضرتك متقلقش، شكرًا جدًا يا بابي أنا حقيقي محتاجلك تقف جنبي في الوقت ده أكتر من أي وقت تاني.”

“أوعدك أني مش هخذلك يا ابني، ألف مبروك يا رحيم.”

نبس والده بنبرة حنونة وهو يُقربه إليه ليضمه بقوة، لقد مر وقتًا طويل منذ أن ضم رحيم والده بهذا الشكل، كان الأمر برمته يأخذ منحنى عاطفي مؤثر، لحظة لا تتكرر كثيرًا بين الأب وابنه في هذا الزمان لكن بالطبع تم قطع المشهد حينما صدح في المكان صوت حذاء أنثوي وصوتٍ مستاء يتحدث بإستنكار مُتسائلًا:

“ألف مبروك على أيه يا حامد؟ أنت موافق عالمهزلة دي؟”

“بعدين يا إيڤلين.”

“أيه يا رحيم مش هتسلم عليا؟”

“لا طبعًا مقدرش.. أهلًا بحضرتك يا مامي.”

“أيه مش ناوي ترجع البيت ولا أيه؟ it seems like you are enjoying staying away from home like a homeless person ‘يبدو الأمر وكأنك تستمتع بالبقاء بعيدًا عن المنزل وكأنك شخص بلا مأوى/مشرد’.”

“لا، محتاج أفضل لوحدي أحسن ليا وللكل ده أولًا، ثانيًا I am staying at a hotel, and homeless people can’t afford staying at a hotel mum’ أنا أمكث في فندق، الأشخاص الذين لا مأوى لهم/المشردين لا يمكنهم تحمل تكلفة البقاء في فندق أمي’.”

سخر رحيم في نهاية جملته من حديث والدته ولكنه حاول جاهدًا الحفاظ على نبرته الهادئة ففي النهاية هو يتحدث إلى والدته.

“واللي أنت بتعمله ده آخرته أيه؟”

“آخرته أني هتجوز أفي يا مامي.”

“شايف آخرة دلعك ليه يا حامد؟ بقى بعد السنين دي كلها تعصاني يا دكتور رحيم عشان بنت ملهاش قيمة زي دي آخر تشتغل خدامة عندنا!”

“بعد إذن حضرتك!”

“إيڤلين! استنى أنت يا رحيم، مش من حقك ابدًا أنك تتكلمي عن البنت أو عن أي حد بالطريقة المُهينة دي ابدًا! وبعدين دلع أيه اللي بتتكلمي عليه يا هانم وأنتي طول عمرك معيشه الولد في ضغط وقلق من إن تعليماتك لازم تتنفذ بالحرف؟! وبعدين لو كنت أنا غلطت في حاجة تبقى في أني سيبتك تربي الولد بالإسلوب ده!”

صاح والد رحيم بإنفعال شديد للمرة الأولى في حياته تقريبًا، فالطالما كانت والد رحيم يلجأ إلى النقاش الهادئ والدبلوماسي لكن الكيل قد طفح به حينما تعلق الأمر بإبنه الوحيد، أخذت تطالعه زوجته بنظرات تنم عن عدم الرضا والسخط ولا تخلو من الإندهاش كذلك فهي لم تتوقع قط أن تسمع مثل تلك الكلمات من زوجها.

كان رحيم يراقب ما يحدث بشعور كبير من الذنب في أنه جعل الحوار بين والديه يحتد بهذا الشكل لكن لم تكن بيده حيلة فما حدث ليس عن قصد وهو مازال معه كامل الحق في اختيار فتاة أحلامه والدفاع عنها، وكم تمنى أن تسير الأمور بوتيرة هادئة وأكثر بهجة لكن كل ما يتمناه المرء يدركه.

“أنت بتكلمني أنا يا حامد بالإسلوب ده؟ وعشان مين؟ عشان واحدة ابنك ميعرفهاش غير من كام شهر؟”

“افهمي بقى يا إيڤلين! أنا بتكلم عشان ابني.. ابني اللي يخصني اللي حته مني مش عشان البنت أو غيرها!”

نبس حامد بإنفعال شديد وهو يُمسك رأسه بآلم نتيجة ارتفاع ضغط دمه في الغالب، أقترب منه رحيم بلهفة وقلق بينما يحاول معرفة بماذا يشعر بالضبط ولكن قبل أن يسأله باغته أحدهم بسؤالًا آخر:

“رحيم أنا هطلب طاجن مكرونة وعلبة كشري أجبلك معايا؟!”

سأل أنس ببلاهة شديدة لينظر ثلاثتهم نحوه بحيرة وعدم فهم، حمحم أنس بإحراج وقد تحول وجهه إلى لون ثمرة الطماطم وهو يعتذر منهم على الفور قائلًا:

“أنا أسف جدًا شكلي جيت في وقت غلط..”

“خد هنا يا أنس! You truly disappointed me ‘لقد خيبت ظني حقًا’ بقى تطاوع رحيم وتساعده في الكارثة اللي عايز يعملها دي؟”

“الله! وأنا مالي يا Auntie؟ وبعدين حضرتك وعمو مكبرين الموضوع جدًا، يعني أيه المشكلة أنه أُعجب ببنت وعايز يتجوزها في الحلال؟ مش أحسن ما يضرب ورقتين عرفي ولا يشرب سجاير محشية؟”

“أنت بتقول أيه؟ أنس Shut up ‘أخرس’!!”

“أنا بتكلم جد والله، يعني هو عايز يعمل حاجة ترضي ربنا أولًا وتتوافق مع العادات والتقاليد بتاعت المكان اللي أحنا فيه وهو عرض على حضرتك الموضوع بهدوء وأنتي رفضتي ولمح لحضرتك قبل كده برضوا يا عمو والنتيجة كانت صفر، فمحدش يلومه دلوقتي أنه اتصرف من دماغه وراح نفذ لوحده.”

نظر رحيم نحو أنس بإمتنان شديد لدفاعه عنه بتلك الإستماته بينما استنكرت والدة رحيم ما قاله أنس، حمحم حامد ببعض الحرج وهو يتمتم:

“أنت عندك حق فعلًا يا أنس، أحنا غلطنا.. رحيم حدد معاد مع والد البنت دي وهنروح معاك ونطلب إيدها زي ما الأصول بتقول.”

“حامد أنت لو عملت كده أنا..”

“أنتي أيه؟ هتعملي أيه؟ فوقي بقى يا إيڤلين رحيم مش صغير ومحدش واصي عليه، هتتبسطي لما يتجوز من وراكي؟ ولا هتتبسطي أكتر لما ميتجوزش خالص ويفضل طول حياته تعيس؟! أنتي نسيتي الحالة اللي كان فيها لما ساب ناتالي؟”

“ما شاء الله، موضوع ناتالي ده وراك وراك يخربيت الذل.”

“أنا كنت لسه بشكر فيك فأخرس من فضلك.” قال رحيم من بين أسنانه، لكن أنس لم يُعلق حيث قاطعتهم والدة رحيم وهي تقول بكل جدية:

“روح معاه يا حامد بس من النهاردة يا رحيم انسى إن ليك أم!”

“كليشية أوي الحركة دي يا إيڤو والله، يعني روحي لمستوى أعلى شوية يعني مثلًا روحي أعرضي عليها فلوس عشان تسيب رحيم.. أو مثلًا سيبيهم يتخطبوا وبعدين طلعي عينيها كده يعني..”

علق أنس بحديثٍ ساخر كالمعتاد لكن ملامحه كانت جادة تمامًا، نظر رحيم نحو أنس بحدة وهو يسأله:

“أنت بتقول أيه يا بني آدم أنت؟!”

“حامد I will be waiting for you outside ‘سأكون في انتظار بالخارج’.” بصقت كلماتها وغادرت المكان لينظر والد رحيم نحوه بإبتسامة جاهد لرسمها على فمه وهو يُردف:

“متقلقش، أوعدك أن كل اللي أنت عايزه هيحصل بس أديني وقت أحسم الموضوع مع والدتك.”

“تمام يا حبيبي.”

“أظن أنا دافعت عنك وضبطك عالآخر، قدرني بقى.”

“مسمعش صوتك لحد بكرة الصبح، ويلا نروح لإن الوقت اتأخر وأكيد مفيش زيارة لأروى دلوقتي.”

“اه صح.. طيب يلا.”

مر أسبوعًا آخر ولم يحدث جديد، مازال رحيم يمكث في الفندق ولم يأتيه الخبر اليقين من والده ولم يتحدث هو إلى أفنان والتي قضت أيامها بصعوبة تحاول جاهدة تشتيت نفسها بالجامعة وصب تركيزها في المذاكرة لكن الأمر لم يكن سهلًا بتاتًا.

“يعني دلوقتي عدى أسبوع ويوم والبيه لسه متصلش.”

“في أيه يا أفنان هو لحق؟ وبعدين عقبال يا بنتي ما يقنع أهله أنتي فاكرة كل الأهالي كويسين مع ولادهم وبيقتنعوا بسرعة زي ماما وبابا ولا أيه؟”

“وهي ماما بتقتنع أصلًا أنتي كمان؟ أو هي بتقتنع اه بس بتشتمني في سرها.”

“المهم سيبك من الكلام ده كله، حلو الطقم ده ولا مش أد كده؟” سألت ميرال أفنان وهي تتأمل ثيابها أمام المرآة.

“اه حلو، أنا من بدري عايزة اسألك رايحة فين وبنسى.”

“هكون رايحة فين مثلًا؟ خارجة مع خطيبي.”

أجابتها ميرال وهي تُأشر بيدها على خاتم الخطبة بطريقة مبتذلة لتقلب أفنان عينيها بتملل وهي تُعلق ساخرة:

“خطيبك؟ طيب ياختي ربنا يوفقكوا، نازلين عادي ولا هتشوفوا حاجة ليها علاقة بالشقة؟”

“لا هنخرج نتغدى وكده وهنبص على محلات الموبيليا عشان لو في موديل عاجبنا نبقى نعمل زيه.”

“طيب كويس، إنچوي ‘استمتعي’.”

بالفعل جاء نوح لإصطحاب ميرال ليقضوا بعض الوقت سويًا، بدأو أولًا بالتجول بين محلات ‘الموبيليا’ وبعد أن شعروا بالإرهاق قرروا الذهاب لتناول الغداء، كان نوح لطيفًا هادئًا في ذلك اليوم على غير المُعتاد مما جعل ميرال تشعر بالسعادة والسكينة لكن ذلك لم يدوم طويلًا فبمجرد جلوسهم في أحدى المطاعم باغتها نوح بسؤاله الآتي:

“إلا قوليلي يا ميرال، الشملول جيه أتقدم بقى ولا لغى المعاد؟”

“لا ملغاش حاجة.. جيه اه بس..”

“بس أيه؟” سأل نوح بإهتمام واضح لتتنهد ميرال بضيق قبل أن تُردف:

“هقولك بس متقولش لأفنان أني قولتلك.”

“خلصي يا ميرال أكيد مش هقولها شايفاني عيل صغير؟”

تذمر نوح بضيق بينما أخذت ميرال تنظر إليه بحيرة، كيف لنبرته ونظراته أن تتحول بتلك السرعة؟ ولما يسألها بكل هذا الإهتمام المُبالغ فيه؟ أخرجها من شرودها صوت نوح وهو يُسمعها بعضًا من توقعاته للسيناريو الذي حدث بنبرة انتصار مُردفًا:

“أنا هتوقع.. أهله مش موافقين صح؟ أو شايفينكوا طمعانين طبعًا ومش أد المقام.”

“لا هو مش ده اللي حصل وبعدين مالك بتقولها بشماته ليه كده؟” ذمت ميرال شفتيها بعد أن سألته مُستنكرة نبرته تلك وبدلًا من الإعتذار ابتسم ابتسامة جانبية وهو ينبس بالآتي:

“مش شماته، أنا بس مبسوط إن كان عندي حق واللي قولته هو اللي حصل.”

“يعني أنت مش فارق معاك مشاعر أفنان اللي هي أختك وزعلها وكل اللي فارق معاك إن كلامك يطلع صح؟ وبعدين أنا مش فاهمة أنت حاطط أفنان في دماغك كده ليه يا نوح؟ ما تسيبها في حالها شوية.”

“في أيه يا ميرال هو كل مرة هتيجي سيرة أفنان هنتخانق فيها؟” تسأل نوح بنبرة حادة وصوت مرتفع نسبيًا، تُصدم ميرال من نبرته لكنها تُجيبه بنبرة منفعلة كذلك وهي تقول:

“اسأل نفسك، وبعدين أصلك مش شايف أنت بتتكلم ازاي! وبعدين هو مفيش سيرة غير سيرة أفنان نتكلم فيها؟! مفيش مرة قعدنا فيها إلا لو أتكلمنا عنها أيه مفيش مواضيع تانية ولا ناس تانية في حياتنا؟ ده أنت مريم أختك مبتجبش سيرتها كده!”

“أنتي الكلام معاكي بقى صعب أوي يا ميرال.”

“ده على أساس أننا بنتكلم كتير أوي يعني.” سخرت من ميرال وهي تعقد كلتا يديها أمام صدرها، زفر نوح بضيق قبل أن يتراجع سريعًا ويحاول إصلاح الأمر ويقول:

“طيب.. خلاص حقك عليا، متزعليش.”

“خلاص مش زعلانة، أنا عايزة أروح.”

“طيب تعالي هوصلك.”

“لا مش عايزة! أنا هروح لوحدي.”

“بلاش عِند بقى يا ميرال ويلا هطلب الحساب ونقوم.”

“قولتلك مش عايزاك توصلني أنا همشي لوحدي.”

“ما خلاص يا ميرال قولت! ما تسمعي الكلام ولا أنتي هتعملي إن ليكي شخصية عليا!”

بصق نوح كلماته القاسية في لحظة غضب، شعرت ميرال وكأن أحدهم قد سكب ‘جردل’ مياه مُثلجة فوق رأسها، نظرت لي نحو نوح بإنكسار وصدمة وهي تسأله مستنكرة:

“يعني أنت شايف أني مليش شخصية يا نوح؟”

“أنا مقولتش كده..”

لم تسمح له ميرال بالتفوه بحرفًا آخر واستقامت من مقعدها بعد أن جذبت حقيبتها مهرولة نحو الخارج، حينما حاول نوح استيعاب ما يحدث كانت ميرال قد غادرت بالفعل، حاول اللحاق بها لكنها كانت داخل سيارة الأجرة ‘تاكسي’ بالفعل، وقف يضرب كفيه ببعضهم وهو لا يدري ما العمل.. فماذا سيحدث له إن سردت ميرال ما حدث لوالديها والأسوء لو علمت أفنان بالحوار الذي دار بينهم.

أخذت ميرال تنظر من شرفة سيارة الأجرى إلى الطريق بشرود، لا وجهة محدد تنوي الوصول إليها.. دموعها تنهمر في صمت وآلم شديد يجتاح رأسها، يصدح صوت هاتفها بالإتصالات المُتكررة من نوح لكنها لا تجيب فلا طاقة لها للشجار ولا تود سماع صوته قط في الوقت الحالي، في نهاية الأمر وبعد مرور نصف ساعة تقريبًا طلبت من السائق أن يتوقف بالقرب من النيل، منحت السائق أمواله وغادرت السيارة.

وقفت تستند على السور المعدني الصدئ في بعض البقع وهي تتأمل مياه النيل السوداء والتي أكتسبت لمعة نتيجة لإنعكاس ضوء القمر عليها بينما تتسأل بداخلها متى ستلمع هي مثل تلك المياة والتي من دون القمر لكانت منطفئة كئيبة المنظر.. ولكن تُرى هل نوح هو قمرها الذي سيساعدها على التلألأ أم هو سحابة سوداء ستحجب الضوء عنها؟

بالإنتقال إلى مقر شركة البكري، جلس رحيم يُنهي عمله بعد رحيل معظم الموظفين تقريبًا.. كان يُخرج بعض الأوراق من أحدى الأدراج حتى وقعت أمامه شهادة تحوي اسم أفنان والتي لم تأتي لإستلامها قط، ابتسامة صغيرة زينت ثغره وهو يتأمل اسمها بينما تقفز إلى ذاكرته المواقف اللطيفة التي جمعتهم سويًا.

“أيه ده أنا جيت في وقت مش مناسب ولا أيه؟”

“يا ابني هو أنت محدش علمك إن من الآدب إننا نخبط على الباب قبل ما ندخل؟”

“لا محدش علمني، وبعدين الحق عليا كنت جاي أقولك خبر عدل بدل ما أنت قاعد تحب في شهادة التقدير كده.”

“خبر أيه ده إن شاء الله؟”

“الحاج أبوك أتصل بيا بما إن حضرتك عامل الموبايل Silent ‘صامت’ كالعادة وبيقولك نخلص ونروح عالبيت عندكوا نتعشى معاه عشان عايز يكلمك في موضوع أفنان.”

“تمام، بس هي مامي هتكون هناك؟ عشان لو هناك مش هروح.”

“لا بيقول إنه في البيت لوحده، معرفش خلص عليها بقى ولا أيه.. عالبركة عمتًا.”

“احترم نفسك بعد الشر عنها.. عمومًا أنا هخلص الورق اللي في إيدي ونتحرك سوا.”

“تمام.”

بعد نصف ساعة غادر رحيم وأنس مقر الشركة لكن رحيم كان يسبق أنس ببضع خطوات حيث وقف يثرثر قليلًا مع أفراد الآمن.

“لا..لا.. Oh shit ‘تبًا’!!”

همس رحيم من بين أسنانه حينما رأى المرآة التي تتكئ على سيارة أنس، كانت ملامحها متوترة ويديها ترتجف بقوة بينما تنهمر دموعها بلا سبب واضح، بمجرد أن لمحت أنس هرولت نحوه وهي تسأله بينما تحاول أن تُمسك بيده:

“أنس!! أنس، فريد فين؟ رد عليا! أنا مش عارفة أوصله.”

“متلمسنيش! معرفش هو فين روحي دوري عليه بعيد عني.”

صاح أنس بإستنكار وهو يرفع كلتا ذراعيه كي يمنعها من لمسه ثم يعود نحو الخلف بضع خطوات، أقتربت هي منه مجددًا وهي تحاول التحدث من بين دموعها التي تنهمر بغزارة مُردفة بترجي:

“أنس أنا مليش في الدنيا غير فريد مينفعش تعمل معايا كده حرام عليك، قولي هو فين بس وأنا أوعدك همشي.”

“حرام عليا أنا؟ حرام عليا أنا يا ما.. حتى لساني مش مطاوعني أناديلك باللقب ده عشان أنتي متستحقيهوش أساسًا!”

“طيب على الأقل قولي أروى فين طيب، أنا عايزة أشوفها..أختك فين؟”

“أروى؟ أنتي لسه فاكرة أن ليكي بنت اسمها أروى؟ أنسيها وأنسيني مش أنتي مردتيش تشهدي إن فريد كان هو السبب في اللي حصلنا، خلاص انسي بقى إنك خلفتي من الأساس.”

“أنس أبوس إيدك متعملش فيا كده يا ابني..”

“أنا مش ابنك!” صرخ أنس في وجهها بقوة وهو يدفعها بعيدًا عنه حتى كادت أن تسقط لولا أن رحيم أمسك بها برفق بينما يصيح موبخًا أنس:

“أنس أنت أتجننت! أنت ازاي تزقها كده؟”

“اه أتجننت وخليها معاك بقى طالما خايف عليها كده، أنا ماشي.” بصق أنس كلماته قبل أن يدلف إلى داخل سيارته تاركًا والدته منهارة من البكاء ورحيم يقف في حيرة من أمره، تحرك أنس لمسافة قصيرة بالسيارة قبل أن يتوقف بالقرب من أفراد الأمن عند البوابة الخارجية للشركة ثم يفتح الشرفة التي بجانبه وهو يُردف بصوتٍ مسموع:

“الست اللي جوا ديه لو حد سمحلها بالدخول تاني للشركة اعتبروا نفسكوا مرفودين.”

“أنا أسف حقك عليا..” كان هذا آخر ما سمعه أنس قبل أن يرحل تاركًا المكان بأكمله.

كان يقود بسرعة جنونية غير مهتم بكم المخالفات التي سيحصل عليها في الغالب وبالطبع غير مُهتم لما قد يُصيبه في حالة وقوع حادث فغضبه وإستياءه جعله لا يُفكر بمنطقية.. أخذ يتنقل بين الشوارع دون وجهة محددة حتى انتهى به المطاف بالتوقف بالقرب من النيل.

أوقف السيارة فجاءة وبقوة حتى تسببت في صوتٍ مزعج ليلتفت الجميع نحوه لكنه لم يأبه بأحد، غادر سيارته صافعًا الباب بقوة قبل أن يركل إطار السيارة عدة مرات بإستياء شديد، لم ينتبه لتلك التي تتأمل فعلته بفضول فهو لم يكن في حالة تسمح له بالإنتباه لما حوله، أعاد خصلات شعره نحو الخلف وهو يذهب للإتكاء على السور المعدني الصلب.

لفحته نسمات الهواء الباردة وتخللت خصلات شعره البُنية، ألحان الست تسللت إلى أذنه والتي كانت صادرة من أحدى عربات ‘الحمص’ التي توقفت بالقرب منه، كانت الألحان تجمع بين الحزن.. الشوق.. العتاب واللوم، لم يستطع كبح دموعه من الإنهمار بغزارة رغمًا عنه فلقد كانت الاجواء مناسبة للبكاء وقد احتمل هو كثيرًا بحيث لم يعد يستطيع فعل ذلك مجددًا.

مرت دقيقتين تقريبًا ومازال أنس يبكي بشرود حتى انتبه حينما سمع صوت شهقات تصدر بالقرب منه، كانت التي بجانبه تحاول كتم شهقاتها قدر الإمكان لكن يبدو أنها حاولت كثيرًا حتى فقدت السيطرة على نفسها، ابتسم أنس ساخرًا وهو يكفكف دموعه فلقد تحول المكان من مكانًا رومانسيًا لطيف إلى ساحة للبكاء والعويل منه ومن غيره.

“منديل يا بيه؟” سألت فتاة تبدو في الثامنة من عمرها وهي تُقدم إلى أنس ‘كيس مناديل’ صغير، كان أنس على وشك أن يرفض لكن هيئة الفتاة ذات الملامح البريئة والوجه المنهك جعلته يُغير رأيه على الفور، منحها ابتسامة صغيرة وهو يأخذ منها اثنين ويمنحها ورقة مالية تفوق ثمن ما أخذه بكثير، نظرت نحوه الفتاة بإمتنان شديد وهي تدعو له بكل ما جاء في خاطرها:

“ربنا يوسع رزقك يا بيه، ربنا يكرمك، يارب يرزقك ببنت الحلال..” كان هذا آخر ما سمعه أنس من الدعاء ولم يهتم لسماع الباقي، أن يُرزق بإبنة الحلال.. هذا هو ما يحتاجه في الوقت الحالي بالفعل.. أن يجد من تُشاركه همومه ويُشاركها همومها لعلهم يساعدون بعضهم البعض في تخطي الأحزان والبحث عن السلام النفسي.

“منديل؟” سأل أنس الواقفة على بعد خطوات منه والتي كانت تبكي قبل قليل، كانت تنوي الرفض ظنًا منها أنه بائع أو أحد الشحاذين لكنها رفعت رأسها لتُقابل عيناه العسلية اللامعة.. تأخذ المنديل من يده وتُشيح بنظرها سريعًا بعيدًا عنه بينما لم يستطيع هو أن يفعل المثل بل أخذ يتأمل ملامحها الهادئة ووشاح رأسها ذو التصميم اللطيف.. عيناها المُنتفخة من البكاء، وتلك البشرة الخمرية.. مهلًا، لقد رأى تلك الملامح من قبل لكن لا يذكر أين.. كان على وشك أن يسألها لكن سرعان ما أدرك أنه يتعدى على مساحتها الشخصية لذا هم بالإبتعاد عنها والنظر إلى الجهة الآخرى.

بعد بضع دقائق كان أنس يحاول إختلاس النظرات نحوها فقط للتأكد من رحيلها من عدمه ليجد أنها قد فعلت المثل معه ولكن بمجرد أن أستوعبت هي أنه رأها وهي تنظر نحوه همت بالرحيل مُبتعدة عن المكان بسرعة وحينما عاود هو النظر نحوها وجد أنها اختفت وكأنها لم تكن.

“ودي بني آدمه دي ولا جنية ولا نداهة؟ وبعدين نداهة أيه دي اللي بتوقف عالنيل؟ مش كانت بتبقى في الترعة باين؟” همس إلى نفسه بمزيج من السخرية والدهشة، من تلك الفتاة التي جعلته يتناسى همومه وما حدث اليوم بهذه السرعة؟

بعد مرور ساعة تقريبًا كانت ميرال قد عادت سالمة إلى منزلها، دلفت إلى حجرتها سريعًا وهي تحاول تجنب والديها قدر الإمكان كي لا يلاحظ أحد عيناها المُنتفخة المُحمرة، استطاعت بالفعل اجتياز الأمر بنجاح لكنها لم تستطع الفرار من شباك أفنان التي أردفت بمجرد دخولها إلى الحجرة:

“أيه يا ميرال أنتي كنتي فين كل ده؟ بكلمك من بدري مش بتردي وسي زفت ده كمان مش بيرد عليا.”

“مفيش أصل..”

“أنتي معيطة؟” سألتها أفنان بقلق فور رؤيتها لوجه ميرال لتقترب منها ميرال وتضع يدها على فمها وهي تُردف بنبرة أقرب إلى الهمس:

“وطي صوتك يا أفنان مفيش حاجة..”

“عملك أيه الحيوان ده وأنا أكسرلك دماغه! انطقي زعقلك ولا عمل أيه؟”

“مفيش شدينا مع بعض شوية في الكلام عشان أنا كنت مصممة على حاجة يعني.. في الآخر سبته ومشيت.”

“ميرال متكدبيش عليا لو سمحتي، أنتي مش محتاجة تداري عليه في حاجة هو ماسك عليكي ذلة يا بنتي ولا أيه؟” تحدثت أفنان بحنق وهي تُفكر كيف ستنتقم من نوح لإحزانه لشقيقتها لتلك الدرجة.

“اه يا أفنان.. ذلة! قلبي.. قلبي اللي بيحبه ومشاعري اللي كلها متوجهة ليه بتذلني وبتخليني استحمل سخافته وخناقاته عشان أنا بحبه ومش متخيلة حياتي من غيره..” أفصحت ميرال عما تشعر به ويجول في خاطرها بنبرة أقرب إلى البكاء.

“وعليكي من ده كله بإيه يا بنتي؟ دوسي على قلبك ودوسي عليه هو شخصيًا وصوني نفسك وكرامتك! يا ميرال أنتي غالية أوي والله وتستحقي واحد أحسن منه مليون مرة وقولتلك قبل كده أحنا لسه عالبر يعني لو حصل حاجة هترميله الشبكة في وشه ويا دار ما دخلك شر.”

“ما هو أنتي شايفة الموضوع بالسهولة دي عشان أنتي مش مكاني ومش حاسة باللي أنا حاسه بيه.. يعني رحيم لو زعلك ولا عمل حاجة هتسبيه بكل سهولة؟”

باغتتها ميرال بالسؤال لتصمت أفنان وقد أمتعض وجهها، ميرال محقة في تلك النقطة فإنهاء العلاقات ليس بالأمر السهل لكن أفنان لم تكن لتسمح لرحيم بفعل ما يفعله نوح، حمحمت أفنان قبل أن تحاول من تصحيح مسار الحديث على النحو التالي:

“ماشي يا حبيبتي أنتي عندك حق الموضوع مش سهل فعلًا، بس أنا قصدي يا ميرال إنك لازم تاخدي موقف وأوعي تحسسيه إنك باقية عليه مهما عمل عشان ده هيخليه يسوء فيها يا حبيبتي.”

“حاضر يا أفنان حاضر.”

“حضرلك الخير، بقولك أيه معاكي مناديل؟ مناديلي خلصت ومكسلة أجيب من برا.”

“ها؟ اه معايا.. أصلي اشتريت كيس وكده.. وأنا جايه، كان في بنت بتبيع.” أجابت ميرال بتلعثم شديد وهي تسرد تفاصيل لم تسأل أفنان عنها لتقهقه الأخيرة وهي تُعلق ساخرة:

“في أيه يا ميرال أنا بطلب منك منديل مش بقولك أحكيلي قصة حياة كيس المناديل.”

“تصدقي أنك إنسانة رخمة بجد والله.”

في منزل حامد البكري، دلف رحيم إلى داخل المنزل بضيق وهو مازال يحاول مهاتفة أنس والذي لم يُجيب مجددًا، استقبلته المُربية خاصته ذات الوجه البشوش وهي تُردف:

“حمدلله عالسلامة يا ابني، حامد بيه مستني حضرتك عالسفرة جوا عشان تتعشوا سوا.”

“تمام يا دادة شكرًا.”

تمتم رحيم بإبتسامة صغيرة حاول جاهدًا أن يرسمها على ثغره قبل أن يتجه لغرفته ليبدل ثيابه ثم يعود للطابق السفلي لتناول العشاء برفقة والده.

“بعتذر إني اتأخرت على حضرتك يا بابي، بس كان في ضغط شغل جامد النهاردة.”

“ولا يهمك، الله أومال فين أنس؟”

“شوية وهيجي..” كذب رحيم وهو يتنهد بضيق.

“تمام يوصل بالسلامة، طيب خلينا نتكلم وأحنا بناكل.”

“اتفضل.”

“طبعًا أنت كنت متضايق الأيام اللي فاتت وفاكر أني نسيت موضوعك بس ده محصلش طبعًا، في الواقع الأيام اللي فاتت كانت كابوس بالنسبالي.. نقاشات وجدالات وخناق بيني أنا وإيڤلين محصلش من سنين أو تقريبًا محصلش بالحدة دي قبل كده.”

“أنا أسف إني خليت حضرتك أنت ومامي في الوضع ده..”

“أنا مش بقولك كده عشان تعتذر أنا بوصلك بس إني واقف في ضهرك، المهم أني توصلت لحل.”

“بجد؟ يعني مامي وافقت؟”

“لا، لكن هتوافق.”

“أمتى طيب؟” سأل رحيم بخيبة أمل ووجه عابس ليقهقه والده على تعبيراته الطفولية الذي اعتاد أن يفعلها منذ أن كان صغيرًا.

“أنا وأنت وأنس طبعًا هنروح لوالد البنت وهنتفق معاه، بمعنى تاني هنحط إيڤلين قدام الأمر الواقع.”

“لا ما هو في مشكلتين.. أولًا أنا وأنس أتخانقنا تقريبًا وأنا مش هينفع أروح من غيره، ثانيًا هنحط مامي قدام الأمر الواقع ازاي؟ دي عارفة مكان بيت أفنان يعني ممكن تيجي يومها وتبوظ كل حاجة.”

“طيب وهو فين أنس دلوقتي؟ خليه يجي وأنا هصالحكوا على بعض زي ما كنت بعمل زمان وتبقى المشكلة أتحلت وسيب موضوع إيڤلين ده دلوقتي.”

“لا ما هو.. أنا مش عارف برضوا هو فين..”

“أيه اللي حصل لكل ده؟”

“مامت أنس جت الشركة النهاردة.. وهو طبعًا أتخانق معاها وكان هيوقعها غصب عنه وأنا لحقتها وزعقت فيه وهو اتضايق مني وسابني ومشي..”

“طبعًا هو حس أنك واقف ضده، نظره سطحية لكن نظرًا للوضع الحساس اللي هو فيه فأنا عذره.. المهم هي راحت على فين دلوقتي؟”

“أنا وصلتها لحد بيت Uncle فريد وطلبت من ال Maids ‘الخدم’ اللي هناك أنهم يهتموا بيها بس.”

“كويس جدًا، عالعموم متقلقش من موضوع أنس أنا هوصله وهجيبه لأن وجوده هيبقى مهم جدًا معانا وأحنا رايحين.”

“بابي هو حضرتك بتتكلم بجد؟ يعني أحنا فعلًا هنروح نطلب أيد أفنان؟” سأله رحيم بلهفة شديدة لينظر نحوه والده بإبتسامة صغيرة وهو يسأله بثقة زائدة:

“هو أنا عمري قولتلك حاجة ومنفذتهاش؟”

“لا..”

“خلاص يبقى أتصل بوالد البنت وحدد معاه معاد وكمان خلي حد يكلم الجواهرجي اللي بنتعامل معاه عشان يجهز أغلى شبكة عنده.”

يتبع..

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (في حي الزمالك)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *