رواية الماسة المكسورة الفصل الثاني والسبعون 72 بقلم ليلة عادل
رواية الماسة المكسورة الفصل الثاني والسبعون 72 بقلم ليلة عادل
رواية الماسة المكسورة البارت الثاني والسبعون
رواية الماسة المكسورة الجزء الثاني والسبعون

رواية الماسة المكسورة الحلقة الثانية والسبعون
[ بعنوان: حين لم يعد التراجع ممكناً ]
قسم قنطرة شرق، الثامنة مساءً
وصل عمار وأصدقاءه إلى القسم، يقفون أمام مكتب الضابط، نظراتهم متوترة وصمت ثقيل يخيم عليهم.
الضابط جالسًا في مكتبه، ينظر إليهم بتعبير لا يُقرأ وهو يمسك البطاقات الشخصية بين يدة.
رفع عينيه تسال وهو يشير بيدهر: الشنطة دي بتاعة مين؟
رامي بسرعة: الشنطة بتاعتي يا باشا، لكن الحاجة اللي جواها مش بتاعتي.
الضابط اتكأ للخلف: أمال بتاعة مين يا رامي؟
رامي تهرب بنظره: والله ماعرف، إحنا كنا أربعة في العربية.
الضابط لف وجهه لباقي الشباب وسأل: حد فيكم يعرف الشنطة فيها إيه؟
نظر الجميع لبعضهم، ثم قالوا في صوت واحد: إحنا مانعرفش حاجة يا باشا، ملناش علاقة بيها.
قال أدهم فجأة: الحاجات دي بتاعة رامي.
الضابط: متأكد؟
أدهم بتأكيد: أيوة.
رامي مسرعًا: ده كذاب، يمكن هو وملبسها فيا.
الضابط: عندك أدلة على كلامك يا أدهم؟
أدهم هز رأسه بلا: لا.
الضابط نظر إلى عمار ودياب وسأل: طب حد فيكم عارف حاجة؟
دياب نظر لأدهم مستغربًا: إحنا ماشفناش حاجة والله، بس الحاجة مش بتاعتنا.
عمار بتأكيد: والله يا باشا إحنا منعرفش أي حاجة.
الضابط بهدوء، تمتم: يعني انتم مصممين على أقوالكم؟ وإنت يا أدهم، مصر إن الحاجة بتاعة رامي؟ وإنت يا رامي مصر إنها مش بتاعتك؟ وانتوا الاتنين مصرين إنكم ماتعرفوش حاجة؟
أومأ الجميع برؤوسهم، صمت متوتر يملأ الغرفة.
الضابط ببرود قاتل: طب تمام، حلو أوي كده، كل الكلام ده تقولوه في النيابة بقى، وهي اللي تحدد.
رفع رامي صوته بتحد غاضب: إنت عارف إحنا ولاد مين؟!
ابتسم الضابط بسخرية: ولاد اللي ولاده يا حبيبي، أنا هنا بنفذ القانون، مش بدوّر على نسبك.
رفع عمار يده باحترام: ممكن اعمل مكالمة؟ مكالمة واحدة بس.
أومأ له الضابط بالموافقة، أخذ عمار نفسًا عميقًا، عقله يدور بين الأسماء: سليم؟ ماسة؟ لا… بعد لحظة حسم، اتصل بسعدية.
فتح الخط وقال بصوت مرتبك: ألو… ماما؟
جاء صوت سعدية من الإتجاه الآخر وهى تجلس على المقعد بهدوء: إيه يا عمار ؟! لسه بالطريق؟
عمار بتوتر: ماما… أنا في القسم.
توقفت سعدية، وارتفع صوتها فجأة مذعورًا: يا لهوي! القسم ليه؟!
حاول عمار تهدئتها: ماما بالراحة، ماتصرّخيش كده، اسمعيني بس.
صرخت سعدية بهلع وهي تتحرك في الصالون: أسمع إيه؟! أعمل إيه دلوقتي؟! الله يسامحك يا بني، أقول إيه لأبوك العيان ده.
عمار بسرعة: ماما، أنا عايز محامي.
اهتزت سعدية بتوتر: هجيبلك محامي إزاي؟! أنا مش عارفة أعمل إيه، قلبي هيقف! عملت إيه؟! إنت فين؟
عمار وهو يمرر يده في شعره: في الإسماعيلية، قسم أول قنطرة شرق، متاخد في مخدر،ات.
شهقت سعدية: مخدرا،ت؟! يا لهووي يا لهوي!
عمار موضحًا: مش بتاعتي والله! هاتلي محامي بس، شوفي سلوى.؟
سعدية وهي تنهار: اقفل! اقفل!
أغلقت الهاتف، يدها ترتجف، والخوف ينهش ملامحها، اخذت تتحدث مع نفسها، تدور في الصالون بعشوائية: أعمل إيه دلوقتي؟!
ظلت تهز بالهاتف بين يديها، تشعر أن قلبها على وشك التوقف وهي تقول: أكلم مين؟ سليم؟ البت مزعلاه، الله يسامحك يا بني… طب أطلع لمجاهد؟ والله يطب ساكت.
فجأة توقفت، كأن ضوءًا ضرب عقلها: أكلم مكي… صح، مكي.
اتصلت بسرعة، وعندما رد، قالت بصوت مرتجف: ألو؟ أيوه يا مكي، أنا آسفة، قلقتك.
جاءها صوت مكي هادئًا من الحديقة القصر: ماتقوليش كده، حضرتك تكلّمينى في أي وقت.
سعدية تكاد تبكي: معلش يا بني، الولا عمار اتاخد في القسم! مش عارفة أعمل إيه!
تجمد مكي قائلا بذهول: في القسم ليه؟!
سعدية وهي تلهث: معرفش والله، بيقول لقوا مخدرا،ت بس مش بتاعته، كان مسافر مع أصحابه، مش عارفة أقول لمجاهد إيه؟! ويوسف صغير، مش هيعرف يعمل حاجة، معلش يا بني، والنبي شوفه.
مكي محاولًا تهدئتها: اهدي كده خالص وعد إنه هيبات عندك النهاردة، وماتجيبيش سيرة لعمي مجاهد.
سعدية بصوت منكسر: أنا مش هنام! والنبي يا مكي، طمّني عليه، أنا مش قادرة حاسة قلبي هيقف.
طمأنها مكي: لا، اهدي خالص ماتقلقيش، عرفتي هو فين بالضبط؟
سعدية وهي تبكي: قاللي، إسماعيلية قنطرة حاجه كدة مش فاهمة.
مكي: طب أقفلي واهدي، ماتقلقيش.
أغلق الخط معها، والتفت فورًا إلى هاتفه، واتصل بإسماعيل.
بنبرة حازمة: أيوه يا إسماعيل؟ اصحى وفوق دلوقتي حالًا، تعرفلي عمار أخو ماسة في أي قسم في قنطره؟ متاخد مخدرا،ت أنا هكلم سليم… لا، ماعنديش أي معلومات.
💞_________________بقلمي_ليلةعادل
في جناح سليم وماسة
كان الصمت سائدًا كأنه سحابة ثقيلة خنقت أنفاس الغرفة، سليم ممدد على الأريكة، عيناه نصف مغمضتين، بينما جلست ماسة على الفراش، ضامّة ساقيها إلى صدرها، رأسها منحنٍ على ركبتيها، وجسدها يرتجف بصمتٍ لا يُحتمل، بعد عودتها من منزل عائلتها لم تكن عادية، ورفضهم لفكرة الطلاق زاد من اختناقها.
رن الهاتف فجأة، فقطع الصمت كطعنة في نسيج الروح، رفع سليم الهاتف، نظر إلى الشاشة، ثم أجاب بصوت مبحوح: أيوه يا مكي، عايز إيه؟
جاءه صوت مكي مترددًا، يحمل نذيرًا لا يُطمئن:
عمار محبوس في القسم!
جلس سليم منتصبًا فجأة كأن صاعقة ضربته: إيه؟! عمار في القسم؟! بيعمل إيه؟!
لم تكن ماسة بحاجة سوى إلى سماع الاسم انتفضت من مكانها، عيناها اتسعتا، وجسدها ارتعد: عمار؟! مالُه؟!
نهض سليم مسرعًا، وأشار بيده محاولًا تهدئتها: اهدي، خليني أفهم.
اقتربت منه، قبضت على يده كالغريق، نظراتها تستنجد، وصوتها يختنق في حنجرتها: ماتَخبّيش عني قولي! عمار ماله!
حاول سليم أن يبقي نبرته هادئة: معرفش حاجة لسه… اصبري خليني أفهم.
لكن ماسة، تملك بها الخوف، صاحت بدموع وذعر: في القسم؟! ليه؟! ليه؟!
سليم بنبرة تحمل طمأنينة: يا حبيبتي اصبري، سبيني أفهم، اصبري لحظة.
عاد إلى الهاتف، وضعه على أذنه مجددًا: ايه يا مكي، عرفت حاجة؟
تنهّد مكي: لسه، كلمت إسماعيل أول ما يعرف هيتصل بيا.
سليم: طب هلبس وأنزل لك.
أغلق الخط، التفت إلى ماسة، نظر إليها بعينين تحاولان أن تمنحاها الأمان: بصي، أنا لسه مافهمتش، ومكي كمان مش عارف حاجة، هنزل أروح له، ماتقلقيش… حتى لو قاتل قتيل، هخرّجه لك. اصبري، متخافيش.
كانت ماسة تائهة في دوامة من الذعر، تتلفت حولها كأن الجدران تضيق عليها دموعها تغشي الرؤية، وعقلها لا يعرف للسكينة طريقًا، فكرة واحدة تسيطر على كيانها: رشدي، خلف ما حدث؟ هل بدأ يُنفذ تهديداته؟
بصوت مبحوح، متلعثم، بالكاد يُسمع: يعني إيه مافيش؟! يعني إيه مافيش؟! أخويا اتحبس؟! بسببي؟! هو كمان؟!
دارت الدنيا بها خفتت رؤيتها، وضاق صدرها عن تنفس الهواء، وقبل أن ينطق سليم بكلمة أخرى، انهارت على الأرض مغشيًا عليها من شدة الهلع.
اتسعت عينا سليم، وصاح بقلق رجولي لا يخلو من الذعر: مــــاسة!
أسرع نحوها، حملها بذراعيه إلى الأريكة، هرول إلى التسريحة، التقط زجاجة عطر، عاد إليها رشّ على يده منه، وعاد يمرره تحت أنفها: ماسة فوقي، يلا افتحي عينك يا عشقي، يلا
بعد لحظات، بدأت تتنفس ببطء، فتحت عينيها تدريجيًا، فتنهد سليم بارتياح، همس إليها بلطف: ها، يا حبيبتي؟ فوقي بالراحة، ماتخافيش اهدي مالك بس فيكي ايه؟!
ماسة وهي تمسك بيده ببكاء يائس: وحياتي يا سليم تخرّجه معملش حاجة، أنا متأكدة، والله متأكدة!
ثم وضعت يدها على صدرها تبكي بحرقة ودموع تتوسل: ورحمة حور خرّجه، أرجوك.
ضمّ سليم وجهها بكفيه، ونظر في عينيها مباشرة:
بس اهدى خالص بـــس هشششش، أكيد هخرّجه، متخافيش هيبات النهارده معانا هنا وعد، إيه الخوف ده كله؟
نظرت إليه بضعف، عيناها ترتجفان، ثم ارتمت على صدره تبكي كمن أُنهك حتى لم تعد الدموع تكفيه.
ضمّها سليم إليه، بينما عقلُه مشغول، يتساءل بصمت:
ما الذي أصابها؟ لماذا هذا الهلع؟ هناك شيء يتجاوز عمار وحادثه والدها، شيء لا يُقال، لكنه حاضر في كل تفاصيلها.
همس لها وهو يربت على ظهرها: عشقي، اهدي، ماتخافيش مش سليم وعدك؟
ابتعدت عنه قليلًا، وهزّت رأسها بإيجاب وبضعف شديد.
فأجابها بحنو: خلاص، استنيني هلبس وهرجعلك بيه متخافيش يا وردتي.
طبع قبلة على جبينها، ونهض متجهًا إلى غرفة الملابس.
جلست ماسة على الأريكة، تنظر أمامها بعيون زائغة، والغضب يغلي في أعماقها، رأسها يعج بالأسئلة، تتضارب الأفكار داخلها كأمواج لا تهدأ.
بعد قليل، خرج سليم من غرفة الملابس وهو يرتدي قميصًا أسودا وبنطالًا داكنًا، اقترب منها، وضع يده على خدها وقال بهدوء وعينيه تتفحص ملامحها: مش هتأخر عليكي، هخلي سحر تعملك ليمون.
هزّت رأسها بصمت، فظل يرمقها بنظرة متعجبة وهو يزمّ شفتيه، ثم تحرك نحو الباب وغادر.
ما إن خرج سليم من الغرفة، وأغلق الباب خلفه، حتى قفزت ماسة من مكانها، هرعت إلى الدريسنج، فتحت درجً الملابس الداخلية أخذت تلقي ما به بجنون، وأخرجت هاتف رشدي الذي كانت تخفيه.
دخلت إلى المرحاض، فتحت مياه الدش كأنها تستحم، ثم ضغطت على الاسم المحفوظ.
لم تمضِ ثوانٍ حتى جاءها صوته، كعادته ممزوجًا بالغزل المقيت من غرفته: ست الحُسن!
ماسة بضيق حاد ونبرة غليظة: ليه عملت كده؟! ليه بتعمل فيا كده؟! مش إحنا اتفقنا؟!
رشدي بصوت هادئ، كمن يتصنّع البراءة: عملت إيه؟
صرخت ماسة به، الغضب يكاد يحرق لسانها: ما تستهبلش يا رشدي!
أكملت هى تتحدث بضعف وتوسل:
عشان خاطري سيبه، وحياة أغلى حاجة عندك، لو في حاجة عندك غالية، ارحمني! قلتلك هنفذ لك كل اللي انت عايزه.
رشدي، متعحبا: يا بنتي فهميني كده بالراحة… والله ماعملت حاجة.
ماسة بسخرية مرة: يا سلام؟! عايزني أصدق إنك مش ورا موضوع عمار؟
رشدي بهدوء، لكنه قال بشك: موضوع عمار؟ لا والله، أول مرة أسمع منك دلوقتي، إيه اللي حصل؟
ماسة، تحاول تمالك نفسها: ماعرفش بالضبط، بس اتقالي إنه محبوس في القسم.
رشدي، بدهشة حقيقية: أنا ماعرفش! اديني دقيقتين كده أشوف، يمكن ماما عملت حاجة، بس الموضوع ده مش تبعي خالص.
صاحت ماسة بيأس ورجاء: عشان خاطر ربنا يا أخي، لو أنت اللي وراها طلّعه، والله هعمل لك كل اللي إنت عايزه.
رشدي بلطف زائف: يا ستي قلتلك، اصبري هعرفلك.
أغلق الهاتف، بينما جلست ماسة على حافه البانيو، ترتجف، وتنتظر مُر الدقائق.
في مكانٍ آخر في غرفة رشدي.
اتصل رشدي بوالدته، التي كانت جالسة مع عزت في غرفتها يحتسون العصير ويشاهدان التلفاز:
بقولك ايه يا ماما… لو الباشا جنبك، ما توضحيش الكلام، انتي حبستى عمار؟
فايزة ردت فورًا: لا طبعاً.
رشدي: طب صافيناز؟
فايزة بحزم: ولا صافيناز بتأكيد، ايه حصل؟!
رشدي بابتسامة جانبيه: يبقى قضاء وقدر، بعدين هفهمك عشان الباشا، سلام.
أغلق الهاتف، ثم أعاد الاتصال بماسة.
ردّت عليه بصوت مرتعش: ها يا رشدي؟
رشدي بثقة وابتسامة تُسمع في نبرته: لا يا ست الحُسن، مش إحنا اللي وراها… قضاء وقدر.
ماسة شهقت: اشمعنا دلوقت؟
رشدي ضاحكًا: ده من حظي، متقلقيش، سليم هيخرجه يا ست الحُسن والجمال، بس أتمنى مايستخدمش القضية دي ضدك.
ماسة تمتمت: إنت فاكر إن سليم وس،خ زيك.
ضحك رشدي وقال بالتركية بمزاح مقيت: يوك يوك، الألفاظ دى ماتطلعش منك يا وردة.
ماسة بقوة بنبرة غليظه: أنا فعلاً وردة، بس كلي شوك مليان سم، والله العظيم اللي منعني عنكم أهلي.
رشدي وهو يضحك: والله التهديد طالع منك سكر، احنا لو كنا اتجوزنا كنا هنبقى كابلز مفاجأة… يلا ابقي بلغيني بالجديد، باااي باااي ست الحسن والجمااال.
أغلقت الهاتف بعينين غامت بسواد الغضب، قبضت علي هاتف كأنها تود تحطيمه، ثم وضعته بعيدًا، تواقفت تحت الماء بملابسها، تحاول أن تغسل ندبات الوجع التي شوهت وجهها، وآلمت قلبها.
أما رشدي فقد جلس على الفراش مبتسما، وهمس لنفسه: الله… والله جت في وقتها، كل الظروف في صالحك يا رشروش أكيد ست الحبايب راضيه عنك.
ثم أطلق ضحكته المميزة، تلك التي لا يعرفها إلا من عرف طعنة الخبث جيدًا، ثم فتح درج الكومودينو وتناول كيس ووضع قليل من المخدر عليها، واستنشق القليل وشعر بسعادة كبيرة.
حديقة القصر، التاسعة مساءً
هبط سليم إلى الحديقة بخطوات سريعة، كانت ملامحه مشدودة وعيناه تبحثان عن مكي، الذي كان يقف عند السيارات أمام الباب، يتلفت بقلق.
اقترب منه سليم وهو يتحدث بنبرة منخفضة: عرفت حاجة؟
مكي بسرعة وعيناه لا تستقران في مكان: لسه.
أشار سليم بيده دون تردد: طب يلا، ركبا السيارتين، ومعهما عدد من الحراس، وتحرك الموكب نحو الطريق.
داخل السيارة
أخرج سليم هاتفه واتصل بإسماعيل، نبرته كانت جامدة مليئه بالهيبة: وصلت لحاجة؟
أجابه إسماعيل دون مقدمات: أيوه، قسم أول قنطرة شرق، متاخد في فرد حشيش، بس بيقول مش بتاعته أجيلك؟
سليم بنبرة جامدة: خليك بس تليفونك ميتقفلش.
أغلق الخط بشدة، وضغط على أسنانه بقوة، بعد لحظة، أجرى مكالمة أخرى، بدا من نبرته أنها موجهة لشخصية كبيرة.
سليم بثقه: ألو، مكرم باشا، أخبارك إيه؟
جاءه الصوت من الطرف الآخر، هادئًا معتادًا: تمام يا سليم بيه، أتمنى المكالمة دي ما تكونش في مشكلة إن شاء الله.
سليم بصوت هادئ، ولكن فيها الكثير من القوة والثقة: لا، مافيش مشكلة، محتاج منك خدمة صغيرة، تتصل بقسم أول قنطرة شرق، وتطلب من الضابط هناك ما يقربش من الشاب اللي اسمه عمار مجاهد المسيري القضية دي تخلص قبل ما أوصل، أنا رايح آخده بنفسي.
سأل مكرم بنبرة فضول: هو متاخد بإيه؟
سليم بنبرة عادية: حشيش.
ضحك مكرم بخفة، ثم قال بثقة: ماتتعبش نفسك يا باشا، هبعتهولك بعربية لحد عندك.
سليم باعتراض: أنا حابب آخده بنفسي.
مكرم: ماتقلقش، دي قضية سهلة. اعتبر الموضوع منتهي.
أنهى سليم المكالمة، ثم نظر للسائق أمامه وقال بهدوء: اطلع على قنطرة شرق بسرعة.
استدار مكي برأسه إلى الخلف: عمار ملوش فيها.
هز سليم رأسه بإيجاب: نروح هناك، ونفهم كل حاجة.
تنفّس مكي ببطء: ما تخليك إنت يا سليم، وأنا أروح. موضوع بسيط وأنا ممكن أحله عادي، مش محتاجاك يعني.
هزّ سليم رأسه نافيًا، بمحبة: ده عمار أخو ماسة يا مكي لازم أهتم بنفسي حتى لو الموضوع منتهي بمكالمة ، بس ماينفعش.
ضاقت ملامح مكي، وكأن الغصّة علقت في صدره:
ياريتها تقدر اللي بتعمله عشانها.
ابتسم سليم ابتسامةً باهتة، نصفها تعجّب ونصفها ألم، ثم قال بنبرة أقرب للهمس: هي مقدّرة كل حاجة، بس الفترة دي مخنوقة، ولازم نعرف الأسباب…أنا شاكك في حاجة، بس مش عارف أمسكها.
نظر له مكي متعجباً ضيق عينه:
رمضان وقف العربية على جنب ..
ثم تحدث في الجهاز اللاسلكي: عثمان هنقف بالعربية تعال أقعد مكاني.
وبالفعل بحركة سريعة هبط مسرعا فتح الباب الخلفي وجلس بجانب سليم وعثمان اخذ مكانه، ثم تحركت السيارة مجددًا.
نظر مكي لسليم هامسًا: طب شاركني، شاكك في إيه؟
سليم بنبرة منخفضة، لكن عينيه كانت تشع بالذكاء:
حد مهددها.
اتسعت عينا مكي بدهشة ويتك على الكلمة: مهددها !! طب مين؟ وبإيه؟ وليه؟؟
همس سليم كأنه يحدث نفسه: بأهلها… خوفها عليهم مش طبيعي.
هز مكي رأسه بعدم فهم: مين ممكن يهددها؟ وليه؟ بعيدة يا سليم.
حك سليم في خده بتردد وهو يرفع كتفه: مش عارف، يمكن أنا مكبر الموضوع، بس خوفها على أهلها بالشكل ده خلاني أفكر كده.
مكي أطرق قليلًا ثم تساءل بحيرة: طب لو فعلاً تهديد، إيه اللي هيخلي سلوى هي كمان متغيرة معايا؟ هي كمان متهددة؟ طب ومين أصلاً ممكن يهددهم؟! واللي هيهددهم ده أكيد في مقابل،ايه هو المقابل؟
صمت للحظة ثم هز رأسه برفض للفكرة: لا لا الموضوع ده مش مقنع خالص؟ هي ممكن تكون ربطت الحلم اللي شافته باللي حصل مع باباها وعمار.
لاذ سليم بالصمت، عينيه كانتا تنطقان بعدم ارتياح، وكأن كل فكرة تتراقص في عقله مثل شبح يعاوده في كل لحظة، يطارد ذهنه دون رحمة.
ثم قال أخيرًا: مش عارف، بس خوفها الغريب ده بيحسسني إن في حاجة.
سأل مكي: طب هتواجهها؟
سليم بتأكيد: أيوه، وهشوف وأعرف من رد فعلها.
هز مكي رأسه بإيجاب وكأن حديث سليم جعله يشك
قال: وأنا كمان هجرب مع سلوى، هي ممكن يجي منها، وتعرف منها حاجة عن ماسة، ماسة أذكى، وبتعرف تتحكم في نفسها، بقت نسخة منك فعلاً تربية سليم الراوي، عموماً، أنا مستبعد الفكرة، بس خلينا ورا الخيط ده… مش هنخسر حاجة.
سليم هز رأسه موافقًا: بالظبط، وكده كده، إنت اخترقت تليفونتهم، وده ممكن يسهل علينا حاجات كتير.
مكي:عموماً، لحد دلوقتي المكالمات كلها عادية جداً، مفيش حاجة تشد أو تثير الشك، كل الأرقام كلامهم طبيعي، يمكن بعد ما ماسة ترجع نكتشف حاجة.
سليم بتنبيه: أهم حاجة خليك واخد بالك كويس.
ثم التفت ناحية السائق، كانت نبرته حاسمة: رمضان دوس بنزين، مش عايزين نتأخر.
رمضان من كرسي القيادة دون تردد: حاضر يا باشا.
في فيلا عائلة ماسة العاشرة مساءً.
غرفة سلوى.
سلوى جالسة على الفراش والهاتف في يدها، ويبدو عليها القلق، بجانبها جلست سعدية، وقد بدا وجهها مصفرًا من التوتر.
حاولت سلوى تهدئها بصوت منخفض: ياما خلاص بقى، صلي على النبي، إن شاء الله مفيش حاجة، ما أنا قدامك، لسة مكلمة مكي وقافلة معاه، وقال إن هو وسليم رايحين له، وكمان كلمتلك الدكتور إللي عندنا في الجامعة، ده مستشار كبير، قالي ماتقلقيش من حاجة، بدل مالقوش حاجة في شنطت، والمحامين إللي مع سليم محامين كبار لو فيه أي حاجة قالي أكلمه.
هزّت سعدية رأسها، وامتلأت عيناها بالدموع: أنا خايفة على أخوكي عمار، طيب وغلبان. كان مستخبي لنا فين ده؟ بس يا رب، ربنا يكفينا شر المستخبي.
دخل يوسف الغرفة بهدوء، يحمل كوبًا من الليمون، وجلس بجانبها: يُا أما أهدي، وأشربي الليمون ده أبويا تحت وماينفعش يحس بحاجة دلوقتي.
تناولت سعدية الكوب بيد مرتعشة، ارتشفت منه قليلًا، وهمست بصوت خافت: استرها يا رب علينا، إحنا غلابة.
أما سلوى، فوضعت يدها على بطنها التي بدأت تؤلمها من شدة التوتر، كانت خائفة من أن يكون رشدي هو من يقف خلف كل هذا توقفت ودخلت المرحاض
في المرحاض
فور دخولها فتحت صنبور الماء، ثم أخرجت هاتفًا آخر كانت تخفيه، وبدأت الاتصال على رقم رشدي الجديد، عبر هاتف ماسة: ألو؟ أيوه يا ماسة… بقولك إيه، هو رشدي إللي وراها؟ متأكدة يا ماسة؟ طيب ماشي، هكلمك بعدين عشان، أمك وأخوكي معايا في الأوضة… سلام.
أنهت المكالمة بسرعة، ووضعت الهاتف في جيبها. شعرت بالغثيان من شدة الخوف والقلق، فغسلت وجهها بالماء، وكتمت دموعها بصعوبة، ثم خرجت مرة أخرى من الحمام، تحاول أن تخفي قلقها، بينما وجهها ما زال شاحبًا ونظراتها زائغة.
الاسماعيلية، بالتحديد القنطرة الحادية عشرة مساءً
وصلت السيارات أمام قسم أول قنطرة شرق، ترجّل سليم من السيارة بخطى ثابتة واثقة وحضور طاغي مليئ بالهيبة والقوة، يتبعه مكي والحراس، ٢٢وقف أمام بوابة القسم،قبل أن يتقدم، نظر إلى مكي.
سليم: ماتتكلمش، أنا اللي هتصرف.
أومأ مكي دون نقاش أقترب أحد الضباط من الباب، فبادره سليم بنبرة هادئة تحمل نغمة نفوذ لا تخفى:
عايز أقابل الضابط المسؤول عن القضية اللي جاية من كام ساعة، فيها اسم عمار مجاهد.
نظر الضابط له متفحصًا: حضرتك تبقى مين؟
سليم بكبرياء وثقة لا تليق إلا به: سليم الراوي.
لم يكن بحاجة للشرح، الاسم وحده كان كفيلاً بأن يفتح له الأبواب، اختفى الضابط للحظات، ثم عاد وأشار له بالدخول.
دخل سليم بخطواته الواثقة، وخلفه مكي.
غرفة الضابط
نرى عمار جالسًا على الكرسي، وجهه شاحب وعيونه متوترة.
عندما وقعت عيناه على سليم ومكي توقف بسرعة وقال بتوتر خوف: سليم! مكي أنا والله مظلوم مش حاجاتي والله يا سليم، أنا مظلوم.
سليم رفع إيده بهدوء: استنى، ماتتكلمش يا عمار.
نظر لها مكي بعينه بابتسامة طمأنينة بمعنى استنى ماتخافش.
التفت سليم إلى الضابط وقال بهدوء لكن بثقة تعكس قوة شخصيته: وصلني إنكم لقيتوا فرد حشيش في شنطة واحد من أصدقاء عمار، ممكن أفهم انتم محتجزين عمار ليه؟
الضابط بنبرة دفاعية: عشان في تضارب في الأقوال، ولازم يتعرضوا على النيابة؟!
رمق سليم عمار بنظرة ثابتة لا ترمش: وإنت؟ كنت في العربية دي؟
عمار بصوت مكسور: كنت معاهم، بس والله العظيم ماليش دعوة.
سليم بحسم: طيب، تمام.
ثم نظر إلى الضابط بهدوء قاتل: بص من غير كلام كتير، إنت هتخرجه دلوقتي وتنسى القضية؟ الحشيش كان في شنطة صاحبه، وهو اعترف إن الشنطه بتاعته، يبقى عمار يخرج هو وأصحابه، وصاحبه ده مبروك عليكم.
تمسك الضابط بموقفه: النيابة هي اللي تقرر، وأنا بطمنك إن..
قاطعه سليم بهدوء جليدي: الأوامر هتوصلك بعد دقيقة، بص في موبايلك.
رن هاتف الضابط فعلًا، فتحه وبدأ يقرأ الرسالة… وتبدّل وجهه.
سليم بهدوء لا يخلو من التهديد: تمام؟ والا أعمل مكالمة كمان؟
تنحنح الضابط: تمام، يلا يا عمار، يا عسكري فكهم كلهم وخلي رامي.
نظر سليم لعمار: يلا امشي واركب العربية، وإنت يا مكي، خليك معاه
عمار بصوت مرتبك: سليم، أنا آسف.
لكن سليم لم يمنحه فرصة: لما نرجع القصر، هنتكلم دلوقتي امشي.
خرج الثلاثة من القسم وسط نظرات الضباط والجنود المتعجبة، الكل يعرف أن سليم الراوي إن حضر لا أحد يجرؤ على الوقوف في طريقه.
________💞بقلمي_ليلةعادل💞_________
قصر الراوي، الثالثة صباحاً
كانت تجلس ماسة على الأرجوحة ذات الحبال بصمت ثقيل يوجع القلب، وعيناها محمرتان من شدة البكاء، في انتظار عودة سليم، وعمار. ما إن توقفت السيارات عند المدخل حتى اتسعت عيناها بلهفة، وحين رأت عمار يهبط من السيارة، نهضت فجأة وركضت نحوه باندفاع مفاجئ وعي تقول: عمااار!
أسرعت إليه بجنون، لا تُبالي بمن حولها، كأن أنفاسها معلّقة بوجوده، كأن روحها قد عادت لتوّها إلى جسدها برؤيته، تشعر بالذنب برغم تأكيد رشدي لها.
وحين وصلت له، ضمّت جسده بقوةٍ حدّ الألم، كأنها تخشى أن يتبخر بين ذراعيها، تبكي بحرقة، وكل جزء فيها يرتجف، اخذت تتحسّس كتفه بكفّين مرتجفتين، تحاول التأكد أنه حي، أنه ليس وهماً من شوقها وقلقها وهي تقول: حبيبي! إنت كويس؟ طمّني عليك! إنت كويس؟!
ابتعدت قليلًا، وجهها غارق بالدموع، ويداها تتحركان بخوفٍ طفولي على ملامحه، تخشى أن ترى فيهما أثر أذى أو حتى خدش: طمّني بالله عليك، قولي، متخبيش عليا، جرالك حاجة؟ حد عملك حاجة؟!
أمسك عمار بيديها برفق، حاول تهدئتها، وصوته يحمل حنانًا: الحمد لله يا حبيبتي، الحمد لله، بس والله ما بتاعتي.
ردّت بلهفة، بنبرة صوت مخنوقة،فيها رجاءٌ وثقة: أنا عارفة… عارفة بتحلف ليه، أنا واثقة فيك.
هبطت دموعها على وجنتيها وضمته من جديد، بقوةٍ أكبر، وكأنها تحاول أن تحميه بجسدها، أن تحبسه بين ضلوعها، أن تخفيه عن كل الشرّ في هذا العالم. قالت في نفسها: أنا آسفة والله آسفة مستحيل أسمح لحد يقرب منك.
تبسم عمار وهو بين أحضانها، مسح على ظهرها:
يا حبيبتي أنا كويس ما تخافيش انا بخير ليه كل الخوف ده بقيتى حساسة بزيادة بقيتى شبه سعدية.
ماسة وهي ما زالت متشبثة قالت بنبرة موجوعة وخوف: خفت خفت اوي عليك خفت لاحسن يجرى لك حاجة.
كان سليم ومكي يقفان يراقبان المشهد بصمتٍ ثقيل، كلٌّ منهما غارق في أفكاره.
همس مكي لسليم بنظرات لا تفارق ملامح ماسة القلقة: عندك ح، الوضع مش طبيعي.
سليم وهو عينه لا ترفع من عليهم بقلق: مش قلتلك؟
ثم تحرك واقترب قليلاً منهم، وصوته خرج رقيقًا رغم صلابته المعتادة: شفتي بقى يا ماسة أنا قد كلمتي، قلتلك هجيبه معايا.
نظرت إليه ماسة بعينين متورمتين من البكاء قالت بشكر وامتنان: متشكرة، متشكرة أوي يا سليم.
ثم عادت تنظر لعمار: لازم تبات معانا النهاردة.
ابتسم عمار، وهزّ رأسه رافضا: مش هينفع، سعدية مابطّلتش اتصال من ساعة ماعرفِت، عايزة تطمن عليا.
زفرت ماسة، ثم مدّت يدها تتحسّس خده: طيب خلاص، ماشي، بس بكرة، تعاللي بدري وحياتي.
ثم صمتت لحظة، ونظرت في عينيه بقلقٍ متجدد، قلبها لا يزال غارقًا في الخوف تساءلت: عمار… هو إيه اللي حصل بالظبط؟
عمار موضحاً: واحد من اللي كانوا معايا، لقوا معاه حشيش.
فجأة تحوّل خوفها إلى غضب، صوتها ارتفع رغم ارتعاشه: وإنت ليه أصلاً تقعد مع حد بيشرب الحاجات دي؟!
عمار: ماكنتش عارف والله يا ماسة.
أمسكت ماسة بيده بكل ما تبقّى فيها من قوة، وعيناها تتفحّصان وجهه بتركيزٍ يائس، تبحث عن أيّ كدمة،أيّ وجع يخفيه عنها: طب إنت كويس؟ كويس بجد؟ متخبيش عليا وتقول مافيش حاجة..ويبقى فيه.
اقترب عمار منها، وطبع قبلة دافئة على جبينها، قال بصوتٍ مطمئن: والله يا حبيبتي، كويس ما تقلقيش عليا..
نظر لسليم قائلا بمزاح:
ماتيجي تشوف مراتك دي يا سليم.
سليم بمزاح مبطن: هي بقالها فترة حساسة كدة.
مسحت ماسة دموعها: الحمد لله، الحمد لله ربنا رجعك لي. عمار وحياتي عندك لو لي خاطر عندك شوية صغيرين تاخد بالك من نفسك ماشي.
عمار بابتسامة وهو يمسح على شعرها: حاضر لازم أمشي دلوقت.
سليم نظر لمكي: وصّل عمار يا مكي وطمن سعدية والكل.
تحرك مكي مع عمار، وصعدا السيارة ثم غادرا. أما سليم، فاقترب من ماسة وتوقف أمامها.
ماسة: هي كدة القضية اتقفلت خالص.
سليم بثقة: اها اتقفلت خالص، بمكالمة وحدة قفلتها.
استمعت لصوت يقول في أذنها، وممكن يفتحها بردو بمكالمة، هزت ماسة رأسها وهى تلوح بكفها وكأنها تهش ناموسة مزعجة.
دقق سليم النظر متسائلا بقلق: إنتي كويسة.
هزت ماسة رأسها بإيجاب: اممم الحمدلله كويسة!
سليم متساءلا باهتمام: طب عاملة إيه دلوقتي؟
ماسة بنبرة عادية: أنا كويسة، بقيت بتسألني عاملة إيه كتير أوي.
سليم وهو يركز النظر في ملامحها بنبرة مختنقة: وهفضل أسألك لحد ماتزهقي وتجاوبي بصراحة عن الحاجة اللي مضايقاكي ومعصباكي.
تبسمت ماسة وهي تهز رأسها بلا: مافيش حاجة معصباني.
سليم ضيق عينه بشك: متأكدة؟
نظرله ماسة باصرار داخل عينه وكأنها تريد ان تجعله يصدقها: زي ما أنا متأكدة إني شيفاك قصادي.
تنهدت وتحركت وجلست من جديد على الأرجوحة، وأسندت وجهها على الحبل. دون أن تتحدث ..
ظل سليم واقفًا يحاول سبر أغوارها ليفهم ما بها، زفر باختناق، ثم اتجه خلفها وبدأ يدفعها بخفة،
بعد لحظات من الصمت..
تحدثت ماسة بصوت منخفض وهي تنظر في الفراغ بألم تسألت: بقولك ايه يا سليم، إيه أكتر حاجة ممكن توجع إنسان في الدنيا؟
سليم بهدوء: يعني… يفقد أكتر حد بيحبه؟
هزت ماسة رأسها نفيًا بألم خنق نبرة صوتها: أنا كنت فاكرة زيك كده، بس طلع لأ.
توقف سليم عن دفعها ونظر إليها باستغراب، التفتت إليه قليلاً بجسدها، بنبرة مبحوحة، موجعة، خلقت من صوتها وجعًا إضافيًا:
عرفت إن في سببين بيوجعوا أكتر من الفقد، اول سبب الخذلان! كنت فاكرة إن افتقاد حور هو أكبر وجع ممكن أحس بيه… ولما حسيت إني هفقدك، لما كنت في الغيبوبة، حتى وإنت عايش، وشايفاك قدامي، كنت موجوعة، بسبب الرصاصة اللي في ضهرك، ممكن تخلص عليك في أي لحظة واتحرم منك، كنت بخاف أنام وأصحى على خبر يخليني أموت من الوجع عليك.
وضعت يدها على جبينها، ثم أكملت بحزن يخرج من عينيها بدموع ترفض الهبوط لكن تلك النظرات المكسورة المقهورة وصوتها الذي يصرخ وجعًا فضحها دون أن تشعر:
عرفت إن لما تحب حد أوي، حب كبير، وبعدين يخذلك وميطلعش قد ثقتك… الاحساس ده بيوجع أكتر من فراقه…فراقه أهون، على الأقل بيمشي وإنت لسه شايفه بنفس الصورة. إنما الخذلان… الخذلان بيوجع أكتر ألف مرة.
صمتت لحظة، ثم شعرت بغصّة تأكل قلبها واهتزت أحشاؤها ألمًا، ارتعش صوتها وبدأت الدموع تملا عينيها:
والإحساس اللي أصعب كمان، إنك تبقى عايز تصرخ، بس الصرخة واقفة هنا..
أشارت إلى حلقها…تابعت على نفس ذات الوتيرة:
هنا بالضبط، مش عايزة تخرج، ولو خرجت، بتطلع مُرة كلها شوك، لما نفسك تتكلم بس مابتتكلمش، تكتم دمعتك، وألمك، وصرختك جواك… ده إحساس موجع قوي ومؤلم جدًا..والله العظيم من قلبي مابتمنهاش لحد حتى الأعداء من كتر ما هو مميت.
سكتت لحظة، ثم تابعت بنبرة مريرة:
بالنسبالي، دول أكتر إحساسين موجعين، إنك نفسك تصرخ مش عارف وانك تتخذل في أكتر حد بتحبه من قلبك، يمكن في حاجات أكتر منهم، وممكن في المستقبل اكتشفهم، بس ما أتمناش والله كفاية حرام.
مسحت تلك الدمعة التي هبطت بمرارة:
بس يعني اللي أقصده من كلامي إن الإحساسين دول عرفوني إن في وجع أكتر من اللي كنت حاسة بيه قبل كده، والواحد، أهو بيكتسب خبرة من الحياة اللي مش عادلة، بالعكس دي جارحة أوووي، خصوصًا للناس اللي زيي.
ظل سليم ينظر إليها بصمت، متأملًا إياها باستغراب من حديثها الذي يحمل ألف معنى، لكنه تأكد أن هناك شيء كبير بداخلها..
تنهد واقترب منها، جلس على ركبتيه أمامها، وأمسك يديها وهو ينظر في عينيها بنبرة مليئة بالحنان والعشق: ليه حاسة بالمشاعر دي؟
نظرت له ماسة بصمت موجع، كل شيء فيها يصرخ بأن تقول الحقيقة، لكنها كما نعلم لا تستطيع التحدث، قالت وهي تنظر بعينيها بعيدًا بنبرة مكتومه:
عادي يعني، بعد كل اللي بيحصلنا، مش عايزني أصرخ؟
سليم متعجبًا وهو يعقد حاجبيه، يحاول فهم ما بها وأستدرجها: إيه اللي بيحصل لنا يا ماسة؟ أنا فاكر آخر مرة كنا كويسين، أو على الأقل بنحاول، واتفقنا على حاجات، وإنتي جيتي بعدها وغيّرتي الاتفاق، ايه اللي حصل؟ لو سمحت ماتقوليش إن هي كانت لحظة ضعف!! لأن في تناقض كبير بين كلامك وتصرفاتك يومها واللي حصل بعد كده.
ماسة بجمود تحاول الهروب: عشان ماكنتش مقتنعة ولازم تصدق انها كانت لحظه ضعف انا بحبك وبضعف قصادك وانت فاهم ده بعد إذنك اقفل الموضوع ده.
قلب سليم شفتيه بضيق زفر ثم نظر لها مجدداً، وتحدث بعقلانية وبنبرة حانية: طب اللي حصل معاكِ عند أهلك النهاردة، أنا مش عايزك تزعلي منهم، هما بس خايفين عليكي، كل اللي بيعملوه ده عشان يحافظوا على استقرار بيتك وثبات حياتك، يمكن طريقتهم كانت مؤلمة، وتعبيرهم ماكانش مناسب وغلط، بس صدقيني، ده كله خارج من حب حقيقي وخوف كبير عليكي، كلمة خذلان دي كلمة كبيرة اوي.
فقد ظن سليم أنها حين تحدثت عن الخذلان، كانت تشير إلى ما فعلته عائلته بها، لا إلى ما سمعته عن حقيقته هو.
نظرت إليه ماسة لثوانٍ، تبادلت معاه النظرات بصمت هشّ، نظرات تعبّر عن وهن داخلي وارتباك مشاعر.
تنهدت بخفوت، ثم سحبت يدها من بين أصابعه وتحركت بخطوات بطيئة، تولّيه ظهرها.
قالت بنبرة ساخرة، تحمل مرارة اللوم ووجع الخذلان:
خوف، عندك حق، هو خوف ورفض، عارف يا سليم، أنا اتفاجئت إن أحيانًا لما تحب حد اوي، ممكن تتئذي وتئذيه معاك وإنت مش واخد بالك. أنا اكتشفت ده معاك.
التفتت ونظرت له وأكملت على ذات النبرة:
حبك، على قد ما هو جميل، وعلى قد ما بنات كتير بتتمناه، بس مؤذي، أهلي بيحبوني جدًا، وبيخافوا عليا، وأنا متأكدة إن تمسكهم بجوازنا مش عشان الطمع، وإنت لازم تبقى متأكد من ده، بس بطريقتهم دي أذوني وهما مش واخدين بالهم، يعني لولا أنك راجل محترم كنت ممكن تستغل كلام أمي بطرق سيئه وتعايرني بيها بس أنا متاكدة أنك مش كدة.
توقف سليم في مكانه، وعيناه معلقتان بها.قال بنبرة مكسورة، تحمل من العتاب أكثر مما تحمل من اللوم:
زي ما أنتي كمان بتئذيني، بكلامك، وبتصرفاتك، بنظراتك، بمحاولة هروبك، وإصرارك على إنك تمشي من هنا وبتبرري ده عشان تحافظي على حبنا، إنتي كمان حبك مؤذي، يا ماسة وأنتي مش واخدة بالك.
أخفضت عينيها، ثم استدارت نحوه دون أن تجرؤ على مواجهته كانت تهرب، لا من كلماته، بل من ثقل الحقيقة التي تعرفها جيدًا.
قالت بصوت خافت وهي تتجه نحو القصر:
سليم، أنا هطلع أنام، وشكرًا على اللي عملته مع عمار، لازم تفهم إن الأسبوع ما خلصش، وبعد اللي شفته النهاردة من أهلي، الأسبوع هيكون أكبر بكتير يمكن شهر يمكن اتنين، لحد ما أهدأ وأحس إني مرتاحة ومش موجوعة احترم قراري.
رفع سليم صوته قليلًا، لكن نبرته كانت قاطعة، تحمل في طياتها وجعًا مُخبأ لا يُفصح عنه بسهولة:
وأنا مش هقول لك تاني يا ماسة، بلاش تضغطي عليا بحبي، بلاش تجرحيني بحبي ليكي انتي ماتتصوريش اللي انتي بتعمليه ده بيجرحني قد ايه، وأنا خايف، خايف لاحسن من كتر ما أنتي عماله تجرحي فيا في أكتر حاجة ممكن توجعني يطلع مني ردود أفعال ماتمناهاش.
ماسة بجمود لم تحرك ساكنا: تصبح على خير يا سليم.
تحركت، لكن أثناء تحركها، قال سليم بهدوء قاتل وهو يشير بيديه: ماسة، هو في حد مهددك بحاجة؟
تجمدت ماسة وكأن هناك يدًا أمسكتها من تحت الأرض، اتسعت عينيها، اهتزت للحظات، تحركت عينيها بجنون، ابتلعت ريقها حاولت التماسك، التفتت وقالت بابتسامة متعجبة وهي تتك على كلمة:
حد مهددني؟ أنت بتقول ايه؟
اقترب منها سليم، نظر في وجهها وكأنه يحلل تعبيرها: حد مهددك بأهلك؟ بيا؟! يعني لو ماتغيرتيش معايا التغيرات دي هتئذيهم.
نظرت له اللحظة، كيف له أن يفهم كل ذلك؟ سليم ذكي بشدة، لكن بتلك الطريقة؟ ماذا فعلت لتجعله يشعر بذلك؟ بالتأكيد فعلت شيء
وفجأة، دخل صوت رشدي في أذنها وكأن الشيطان يتحدث داخلها بهمس وهو يهددها، وضعت كفها على أحد أذنيها، فلابد ان تقنع سليم بأي طريق وتنفي كلماته وإلا ستكون كارثة..
قالت بثبات وتمثيل متقن وهي تضحك بعلو وتتحرك:
هههههه، حد بيهددني بيك؟ إيه اللي أنت بتقوله ده؟ أنت لسه متفرج على فيلم ولا إيه؟
سليم بهدوء قاتل: ردي عليا.
اقتربت ماسة وهي تتحدث بسخرية بتمثيل متقن:
لا يا سليم، محدش بيهددني بيك ولا بيهددني بأهلي، هو أنا بشوف حد؟ ده أنت بتحرم عليا الناس غير بعد ماتعمل عليهم تحريات، قال حد بيهددني؟ شغل العصابات ده بتاعك إنت.
سليم نظر في عينيها بقوة وقال بشك: ماسة، مش هقولك تاني. لو في حاجة قولي لي ماحدش هيقدر يحميكي أكتر مني، صدقيني، إنتي اللي هتخسري يا ماسة، مش تهديد، ده توضيح. عشان كل كلمة بتطلع مني دلوقتي بقت بالنسبالك تهديد.
ماسة نظرت داخل عينيه وقالت بثقة تريد أن تجعله يصدقها: محدش بيهددني غيرك قول لنفسك بقى الكلمتين دول، كل الحكاية إن أعصابي تعبانة وبس. ولما حاولت أمشي من وراك، كنت محتاجة أرتاح عشان إنت ضاغطني مش أكتر، تصبح على خير
قالتها بنبرة متعبة، وكأنها تطفئ الحديث كما يطفئ المرء شمعةً تخنقه رائحتها، استدارت، وسارت نحو القصر بخطوات بطيئة، وكأن كل خطوة تنتزع منها جزء من روحها.
ظل سليم واقفًا، ينظر إلى ظهرها وهي تبتعد، وفي قلبه مزيج غريب من الوجع والحب والغضب، مدّ يده للأرجوحة التي ما تزال تتأرجح بخفة، كأنها تردد صدى حديثها، ولمس الحبل بصمت، قبل أن يهمس لنفسه: هو الحب لما يبقى مؤلم كده، بيبقى اسمه إيه؟ ثم تنهد، ورفع رأسه نحو السماء، كأن الليل وحده القادر على استيعاب كل هذا الثقل.
💞__________________بقلمي_ليلةعادل
جناح سليم وماسة
دخلت ماسة الجناح بعد حديثها مع سليم،
وأغلقت الباب خلفها بعنف، استندت بظهرها إلى الباب، أنفاسها متقطعة، ونظراتها تائهة، كأنها تطارد ظلها الهارب.
بصوت خافت، تمتمت وهي تلهث بذعر:
عرف منين؟ عرف منين؟ حسّ إزاي؟ عملت إيه؟ أنا عملت إيه؟ خليته يحس كده؟ ده قالّي كإنه عارف كإنه فاهم..
بدأت تتحرك داخل الغرفة بخطوات سريعةمضطربة، كأنها تهرب من شيء لا يُرى تحاول أن تتذكر، أن تفهم… ماذا فعلت ليستشعر سليم هذا ؟ هل نظراتها فضحتها؟ هل خانتها تصرفاتها؟
كان سؤاله كافي ليُفجر طوفان الذعر داخلها.
قبضت يديها وقامت بضرب جبهتها في المنتصف بضجر من نفسها كأنها تريد ان تتذكر: عملت إيه؟ عملت إيه؟ مش هينفع يحس بكده، مش هينفع يحس بكده…
وفجأة توقفت وهزت رأسها بحركة عصبية، أغمضت عينيها بقوة وكأن صفارة حادة تمزق أذنيها من الداخل، رفعت يدها قرب أذنها، تحاول صدّ ذلك الصوت الذي يقترب منها.
وجهها تغيّر… رعب، اضطراب. عيناها تتحركان في أرجاء المكان، كأنها تبحث عن مصدر للصوت.
همسٌ قاتل، كأن شيطانًا تمكّن من رأسها: لو سليم حس بحاجة، لو عرف، هقتلك، هغتصب أختك، هقتل أمك، هحرق أبوكي، قضية لأخوكي.
اهتز جسدها بأكمله. أخذت تلوح بكفها بجانب أذنيها، كأنها تحاول ابعاد بعوضة لا تكف عن الطنين. قالت بصوتٍ مختنق، مرتجف: هششش اسكت…. هشش… امشي أمشي
لكن ظل الحديث يتكرر بلا رحمة، كما لو أن كل كلمة تسحبها من أعماق روحها.
وضعت اكففها على أذنيها، وأغمضت عينيها بشدة وكأنها تحاول إغلاق كل العالم حولها قالت بصوت متصدع من الغضب، وهي تصيح: اسكت بقى… بقولك اسكت…
سقطت على الأرض، مستسلمة لذلك الهمس الشيطاني الذي يذبحها من الداخل، ضمّت بذراعيها ركبتيها إلى صدرها، ترتجف كما لو أنها تواجه عاصفة وحدها، بلا سقف يحميها، ولا جدار يسندها.
وفجأة، سكت الصوت. لكن الهواء ازداد ثقلًا.
كل شيء حولها أصبح صامتًا، إلا قلبها، ظلّ يدق بعنف داخل صدرها، فتحت عينيها أخيرًا، تتلفت بعينيها المرتجفتين، تتحسس المكان بنظرات مذعورة، تبحث عن ذلك الصوت، لتتأكد أنه اختفى.
وضعت يدها على فمها، تكتم صرخة تمزق صدرها من الداخل، تحاول ان لا تنهار، أن تصمد، لكن الألم كان أكبر من قدرتها على التحمل، شعرت بعجز موجع، وكأنها ضاعت في دوامة لا مخرج منها ولا طريقة لتصف ما يعصف بها.
بعد حديث سليم، شعرت أنها لم تعد تملك خيارًا سوى التمثيل، أن تُخفي وجعها، أن تتظاهر بالثبات، يبدو أن المواجهة معه لا تُجدي، وأن انكشاف ضعفها يزيد الأمور سوءً، لا بد من حيلة.
فجأة وقعت عيناها على السكين الموضوع بجانب طبق الفاكهة، فكرة شرسة اجتاحت عقلها، أن تضع حدًا لكل هذا العذاب، قلبها صار جمرة مشتعلة، لا تشعر بشيء سوى الاحتراق، تحركت على ركبتيها ببطء، التقطت السكين، وكأن يديها انفصلتا عن إرادتها.د، ضغطة واحدة، وينتهي كل شيء، الخوف، الألم، العجز، لكن…في اللحظة التي همّت بها بغرز السكين في صدرها، تذكّرت، عائلتها خطر رشدي الذي قد يفتك بهم.. تذكرت أنه لا أحد سيحميهم سواها، وأن موتها لن يُنهي الألم بل سيضاعفه، ثم تذكرت حكم فعلتها، أن تأخذ روحها بيدها، الكفر، النار، الطرد من رحمة الله.. فانفجرت دموعها، بحرقة وضعف ألقت السكين بعيدًا عنها، ثم أخذت ترتجف في صمت، ضغطت يديها على فمها في محاولة يائسة لتكتم ذلك الأنين الذي يهدد بانفجارها.
فيلا عائلة ماسة الرابعة صباحًا.
الصالون.
نرى جميع أفراد العائلة يجلسون في الصالون، ومعهم مكي وعمار.
بينما تحدثت سعدية وهي تبكي وتربت على كتف عمار: الحمد لله يا حبيبي إنك طلعت منها على خير.
مجاهد بغضب: إنتي كنتي ناوية تقولّي إمتى يا سعدية؟ ولا علشان رقدت خلاص تفتكري إني ماليش لازمة
سعدية بتوضيح: لا والله إنت الخير والبركة يا مجاهد، بس كنت خايفة عليك، وبعدين إخواته طلعوه منها وهو مالهوش ذنب.
مكي بهدوء: الحمد لله يا عمي، عدت على خير وأنا إللى طلبت مايقولوش.
مجاهد نظر لعمار بغضب قال بتهكم: وإنت إيه إللي ممشيك مع العيال دي؟ من إمتى وإحنا بنمشي مع عيال زي دي؟ مش شبهنا يا ابني كنت هضيع.
عمار: والله يا بابا ما كنت أعرف إنهم بيشربوا ولا الكلام ده، دول أصحابي في الجامعة، ناس محترمة.
مجاهد: مافيش مشي مع العيال دي تاني، إنت فاهم؟
عمار: حاضر
نظر مجاهد لمكي بشكر: شكرا يا مكي، ربنا يخليك يا رب، تعبناك معانا.
مكي هز راسه بإبتسامة خفيفة: مفيش أي تعب ده أخويا،( تواقف )أنا لازم أمشي.
سعدية استوقفتُه: تمشي ليه؟ ماتقعد معانا شوية؟
مكى بإحترام: معلش، لازم أروح، حمد لله على سلامتك يا عمار.
تواقف مكي، واستعد للخروج، لكن سلوى توافقت فجأة واقتربت منه نظرت له بعينين دامعتين: مكي.. شكراً لولاك عمار كان ضاع.
نظر لها لثواني بحزن مبطن قال بثبات: بتشكريني على إيه؟ عمار ده زي أخويا بالضبط، خدي بالك من نفسك، سلام.
نظرت إليه سلوى بصمت، بعينين دامعتين لم تستطيعا إخفاء الوجع، ثم قالت بصوت خافت: سلام.
أخذت تنظر الي إثارة بحزم ووجع بعينين ترقرق بدموع.
قصر الراوي
جناح سليم وماسة الوحدة مساء
جلست ماسة بصمتٍ ثقيل، تنظر للسقف بشرود، حتى اهتز هاتف رشدي على الطاولة فتحته فوجدت رسالة تقول: تعالي أوضة ياسين، في حاجة مهمة لازم تعرفيها.
تنهدت بضيق، وتوقّعت تهديدًا أو خدعة، لكنها نهضت بهدوء وتحرّكت نحو الغرفة بحذر. وعندما دفعت الباب الموارب، صُدمت بالمشهد: سلوى واقفة على أطراف أصابعها فوق الكرسي، يداها مكبلتان خلف ظهرها، وفمها مكمم، وعماد خلفها يمسك بحبلٍ يهدد بشنقها، يهز الكرسي بخفة. أما فايزة، فكانت جالسة ببرود، وصافيناز تدخن بلا اكتراث، بينما سلوى تبكي وتتوسّل بعينيها، أما ماسة تتجمّد من شدّة الرعب. وقبل أن تصرخ، باغتها رشدي من الخلف، أغلق الباب وأطبق على فمها بقسوة.
قرب فمه من أذنها، وقال بصوت خافت كالصقيع، بتهديد: إوعي تفكري في أي حاجة، لو نطقتِ، عماد هيشد الحبل، خلينا عاقلين يا ماسة زي ما طول عمرك عاقلة
كادت تسقط من الصدمة، جسدها يرتجف، وقلبها يكاد ينفجر، الدموع انهمرت، عيناها لم تترك سلوى لحظة، أومأت برأسها، موافقة، صامتة، كأنها تقسم ألا تنطق بضعف في هذا الوضع الصعب.
رفع رشدي يده عن فمها ببطء، فاستدارت إليه ماسة بتوسل هستيري، ودموعها تخفي عينيها: سيبها أبوس إيدك سيبها، هي مالهاش ذنب، أنا هعمل كل اللي أنتم عايزينه، إحنا مش كنا متفقين؟
رشدي ضحك ببرود، قال بحدة: قوليها لنفسك، شكلك بتضعفي وناوية تسامحيه.
هزت ماسة راسها كبجنون بلا، وهي تضغط على يديها: والله أبدًا محصلش، وحياة أغلى معندك سيبها، والله هعمل كل اللي أنتم عايزينه.
فايزة بقسوة وجبروت: شايفة يا ماسة؟ إحنا فين؟ في القصر وشايفة سلوى؟ معمول فيها إيه؟! تفتكري نقدر نعمل إيه في الباقيين؟ عشان تعرفي، اللعبة في إيدينا، في غمضة عين نخلص على الكل.
ماسة تهتز كعصفور مذبوح يتلوى ويلقي بأنفاسه الأخيرة. قالت وهي تبكي وتتوسل بنبرة ضعيفة: أنا تحت رجلكم، سبوها، والله ماهنقول لحد حاجة، ولا هنفتح لسانا، أقسم بالله ماحد هيتكلم، وحياة ولادك يا عماد تسبها، حرام عليكم، أنتم للدرجة دي معندكوش رحمة.
صافيناز ببرود: وإحنا نضمن منين إنك متتكلميش لو سليم ضغط عليكي؟
فجأة عماد شد الحبل فجأة، صرخت سلوى في صمت، جسدها يهتز من الألم، انفجرت ماسة صراخًا، وهي تمد ذراعيها بطولها كحركة تلقائية لإنقاذها بينم شد رشدي عليها لمنعها من التحرك: والله العظيم ماهعمل حاجة، والله العظيم ماهتكلم، ورحمة بنتي اللي مشفتهاش ماهنطق، قوله اللي يثبت وأنا هنفذه، هموت قبل ماقول له كلمة.
صافيناز بجبروت: مش إنتي اللي هتموتي، اللي هيموت سلوى والباقيين لو فكرتي مجرد تفكير إنك تتكلمي.
فايزة: إحنا بس وريناكي قدرتنا، خلي عقلك دايمًا في راسك، احنا حوالين الكل.
رشدي أشار لعماد: سبها.
بدأ عماد يفك الحبل، سقطت سلوى بين ذراعي ماسة، تبكي بحشرجة، وماسة تحتضنها بجنون، وهنا تبكيان، وترتجفان.
فجاة استيقظت ماسة بفزع من نومها وهي تصرخ باسم سلوى، شهقت وكأن الهواء يهرب من رئتيها، تلهث في محاولات بائسة لالتقاط أنفاسها التي ضاقت، وصدرها يعلو ويهبط كأن قلبها يُسحب من بين ضلوعها.
مدّت يدها المرتجفة نحو الهاتف، وضغطت على اسم “سلوى” دون تفكير، رغم أن الساعة كانت تشير إلى السادسة صباحًا.
سلوى بصوت ناعس ومضطرب: ماسة؟ في إيه؟ خير؟
ماسة بسرعة، بصوت مرتعش، أنفاسها متلاحقة كأنها كانت تركض كيلومترات: مافيش، إنتِ كويسة؟ بطمن عليكي بس.
سلوى بهدوء: اطمني يا حبيبتي، أنا كويسة، خير؟ في حاجة؟
صمتت ماسة للحظة، تحاول أن تستجمع نفسها، ثم قالت بصوت مبحوح من شدة الخوف: مافيش، أنا بس، كنت قلقانة عليكي، حلمت حلم مش حلو، عشان خاطري يا سلوى، خدي بالك من نفسك، وماترديش على أي حد، أنا بس اللي تردي عليا، بصوتي أنا حتى لو الرقم رقمي، لازم تسمعي صوتي الأول، إنتِ هتيجيلي النهارده؟
سلوى: آه، زي ماتفقنا.
ماسة بصوت يحمل رجفة وقلق، نبرتها تحذيرية: طب مهما حصل ماترديش على حد، لو حد نادى عليكي، صافيناز، رشدي، فايزة، أي حد ولا أقولك، أنا هستناكي في الجنينة، وأول ما توصلي البوابة ابقي كلميني.
سلوى بقلق: في إيه يا ماسة؟ الزفت ده هددك؟
ماسة تنهدت بمرارة وقهر: هم مابيبطلوش تهديد بس أنا حلمت حلم وحش اوي، اسمعي كلامي عشان خاطري، المهم لازم تيجي، عشان في حاجة حصلت، لازم أقولها لك، عشان تحذري من مكي.
سلوى بلعت ريقها وقالت بحنية: حاضر يا ماسة، ماتخافيش.
أغلقت ماسة الهاتف، وما زال نفسها غير منتظم. وضعت يديها على قلبها تحاول أن تاخذ انفسها لكن لا يوجد وكانها وقعت داخل مقبره منغلقه.
نهضت بخطوات ثقيلة واتجهت نحو الشرفة، فتحت الدرفة، ووقفت عند السور، أغمضت عينيها وأخذت نفسًا عميقًا، للمرة الأولى منذ زمن طويل تشعر بهواء نقي يدخل صدرها.
صوت العصافير، سكون المكان، لحظة سلام زائف بعد عاصفة، لحظة تتشبث بها كأنها طوق نجاة، فتحت عينيها ببطء، نظرت للعصافير تطير بحرية، فابتسمت، ابتسامة حزينة، تمنّت لو كانت مثلهم، تطير، تهرب، تترك خلفها الخوف والانكسار، لكن فجأة… صوت طلق ناري دوى في الأفق، شهقت، اتسعت عينا ماسة بصدمة، أحد العصافير سقط من السماء، يتلوّى على الأرض في لحظة موته نظرت ماسة نحوه باتساع عينيها التي كادت ان تخرج من محجرهما من الخوف ارتعشت يديها.
ثم نظرت ماسة حيث أتى الصوت… فرأت رشدي، واقفًا هناك، يمسك المسدس، ينفخ فيه بخيلاء، بأبتسامة شريرة ترتسم على وجهه.
عقدت حاجبيها من الغضب، ضغطت على أسنانها، تنفست بصعوبة بينما رشدي رفع هاتفه ووضعه على أذنه، كإشارة منه أنه سيتصل بها.
أسرعت إلى داخل الغرفة، أمسكت بهاتفها.
رشدي بصوته الخبيث، أتى كالسم في أذنها: إيه رأيك في الصباح الجميل ده؟ أنا بس مش عايزك تنسي، يا ماسة إني دايمًا هنا.
ماسة بصوت مليء بالكره، كل حرف فيه ينزف قهرًا: أنا بكرهك، عارف يعني إيه بكرهك
ضحك وقال بسخرية ممزوج بتهديد صريح: يا شيخة! على أساس إنك كنتي بتموتي في دابديبي؟ عموماً مش فارق معايا، المهم تخليكي فاكرة إني دايمًا هنا وبلاش تخلي مصير العصفور الجميل ده يبقى نفس مصير حد من إخواتك، حمد لله على سلامة عمار، سلام يا ست الحُسن والجمال.
أغلق الهاتف.
شعرت ماسة وكأن صراخًا حبيسًا يملأ صدرها ولا يخرج، دفعت الطاولة بجانبها بيدها، سقطت بقوة، لكنها لم تهدأ، الغضب يكوي صدرها، والعجز يكبّل لسانها…
سليم بدأ يشك فلابد أن تحافظ على ثباتها، وجميع أفعالها، وملامحها حتى لا تفضحها أمامه، حتى تهرب كما قال لها رشدي.
جلست على الارض، وأسندت ظهرها إلى الحائط، ضمّت ساقيها إلى صدرها، وأحاطت ركبتيها بذراعيها كطفلة خائفة، ارتعشت، ووجهها يتوارى بين ركبتيها. تتساقط دموعها في صمت، والبرد يتسلل إلى عظامها، لكنه لا يقتلها…ما يقتلها هو الخوف… هو العجز… هو التهديد الذي يحاصرها من كل جانب.
ظلت هكذا، جسدها يهتز بنشيج مكتوم، وروحها تتمزق بصمت، لا تملك سوى أن تنتظر النجاة، أو الهلاك.
💞_________________بقلمي_ليلةعادل
مجموعة الراوي الحادية عشر صباحاً
مكتب عزت
يجلس عزت خلف مكتبه، وبعد لحظات دخل سليم. اقترب حتى بلغ المكتب، جلس بهدوء.
سليم بتهذب: بلغني إن حضرتك عايزني.
وضع عزت القلم على المكتب، وعادة بظهره إلى الخلف: مظبوط، أخبارك إيه؟
ضيّق سليم عينيه، وارتسمت على شفتيه ابتسامة جانبية ساخرة: الحمد لله، بس ماعتقدش إنك جبتني تسألني عن أخباري.
عزت بنبرة أبوية معترضة: لأ، جبتك عشان أسألك عن أخبارك، أنا بقالي كتير ماشفتكش لا بتفطر معانا ولا بتتعشى مختفي.
سليم موضحاً: أنا ماكنتش هنا، كنت محتاج أفصل شوية ولسة راجع إمبارح.
تنهد عزت ببطء، ثم قال بنبرة هادئة: أتمنى تكون فصلت، وأتمنى يكون ذهنك رجع زي ما كان..
انحنى بجسده للأمام، صوته هذه المرة أكثر حنانًا أضاف:
بص يا سليم، أنا هتكلم معاك كأب، مش كرئيس مجلس إدارة الإمبراطورية دي كلها، إنت بتغلط ومش واخد بالك، في جملة بتقول: “ورا كل راجل عظيم إمرأة عظيمة” وده حقيقي دور ورا نجاح أي رجل، بالتاكيد هتلاقي السبب ورا نجاحه سيدة، إذا كانت الأم، الأخت، الزوجة، البنت… لازم يكون فيه ست، سند وظهر وداعم اول له، حتى فايزة، رغم عيوبها، سهمت بشكل كبير في نجاح المجموعة دي..
خفّض صوته أكثر، محاولًا إيصال المعنى بلطف:
لازم تفهم إن الست إللي تكون سبب في إن جوزها يتشتت بالشكل ده، ماتستاهلش، خصوصًا لو كان بيحبها..
رفع سليم حاجبه مستعدًا للمقاطعة، لكن عزت رفع يده في وجهه بصرامة تابع:
اسمعني للآخر، أنا عارف إن فيه مشاكل بينك وبين ماسة، ماتقوليش لأ، ده باين عليك، بس مش من الطبيعي إن المشاكل دي توصلك للمرحلة دي، الست إللي ماتستاهلش الحب ما تقدرش اللي بيقدم جوزها ليها، تقطع صفحتها وتتنسى تتمحي من حياته، ماتدمعش غير على إللي تستاهل دمعتك، لكن إللي توجعك وتشتتك وتدمّر شغلك وحياتك، ماتستاهلش، أبكي على إللي تستاهل بس.
سأله ضيق بنظرة حادة:
فين طموحك؟ فين أهدافك؟ فين سليم ابني إللي كان بيحارب في أمريكا؟ عشان ياخد مكاني عشان يكون الامبراطور الجديد لامبراطورية الراوي، ويكمل اسم العيلة إللي بيننا فيها من سنين، أنا دلوقتي شايف راجل محطم ومشتت الفكر وبس، قولتلك قبل كدة أوعى تبين نقطة ضعفك، يا سليم، خصمك أقرب من رمشة عينك، بس للأسف إنت العاطفة بقت تملكك بشكل كبير للدرجة وصلتك إللي إنت فيه ده، ماقلتلكش ما تحبش، حب، بس حب إللي تستاهل.
زمّ سليم شفتيه، وظهرت على وجهه ابتسامة ساخرة لم تبلغ عينيه. قال بنبرة عقلانية حادة قليلًا:
أنا فاهم كل حاجة، وبعدين مين قالك إنها ماتستاهلش؟ بالعكس، دي تستاهل أكتر من كده، حتى لو إحنا شادين مع بعض، حتى لو هي إللي غلطانة، ماينفعش أقول عليها ماتستاهلش، إيه الندالة والإنانية دي؟! لو مشينا بالمنطق ده، يبقى إحنا ناس مش بني آدمين وأنانين…
ثم تابع مستنكرًا:
إيه يعني لو زعلت شوية؟ ولا ضايقتني؟ ولا اتعصبت اروح امسح صفحتها ونساها؟!؟! ماهي اتحملتني سنين، ابنك مش ملاك، بالعكس أنا عندي عيوب كتير،وهي استحملت كتير، كفاية إن بنتها ماتت بسببي، واتخطفت زمان بسببي، وعايشة تحت التهديد بسببي، غير زمان وهي لسة عندها ١٥ سنة، كانت صغيرة جداً، اتعرضت للبلاوي مني ومنكم، ومن مراتك، وماشتكتش، لو نسيت كل ده، أبقى إنسان واطي ومابيصونش الجميل… وأنا مش كده، لو هنتكلم عن الست إللي تستاهل، فـماسة تتحط فوق الراس، تستاهل كل حاجة حلوة.
نظر إليه بثبات بنبرة قاطعه: معاك هانم ليها بصمات في إللي وصلنا له، بس أوعى تنكر إنها خسرت أغلى حاجة، خسرت أولادها، وخسرتك، وخلتك في السن ده تبقى على علاقة بـ نانا.
همّ عزت بالكلام، لكن سليم سبقه، أشار له بهدوء قاتل ممزوج بحكمه:
أنا عارف من سنين، ومش فارق معايا، وأنا فاهمك، وعذرك، وعلى فكرة لو اتجوزت، هكون أول واحد يدعمك، لإنك محتاج حد يحن عليك، مش واحدة كل إللي يهمها البورصة ومين هيوقع مين والمؤامرات، صدقني يا باشا، النجاح مش إنك تبني فلوس وإمبراطورية، النجاح الحقيقي هو إنك تبني علاقات ومحبة حقيقة، الامبراطوريات إللي زي كده إللي مش مبنية على حب واحترام وثقة فهي امبراطوريات فاشلة حتى لو ظاهرياً ناجحة، للأسف، إنتو بنيتوا فلوس، بس فشلتوا تزرعوا حب، فشلتوا حتى في إنكم تخلوه أولادكم يحبوكم بصدق، محبتهم ليكم مبنية على المصلحة …يمكن ياسين وفريدة مختلفين بس حتى دول محبتهم لينا مجرد جينات أو يعني عشان بابا وماما وإخواتي، عارف إنت الحب ده.
أخرج نفسًا حارًا ومسح وجهه بيده استرسل:
ماسة مش السبب في إني بقيت كده، أنا السبب، لإني مش قادر أفصل، مش قادر أوازن، كل الرجاله بتتخانق مع زوجاتهم، بس مش كل راجل بيعرف يطلع من ده، ودي مشكلتي مش هقبل إن ماسة تكون الشماعة..
توقف وقال بنبرة حاسمة:
عموما، أوعدك إن الفترة الجاية هبقى مركز وهتشوف سليم الجديد.
نظر له عزت طويلًا، ثم قال: صدقني يا سليم، أنا بحاول أنصحك، أفوقك، أفكرك بطموحاتك إللي اختفت من أول ماتجوزت ماسة.
رفع سليم حاجبه بابتسامة هادئة: هي ماختفتش… لسة موجودة إنتوا بس مركزين على النقطة السودا.
قاطعه عزت بإنفعال: ماينفعش تبقى عندك نقطة سودا، يا سليم!
سليم بنبرة حاسمة: من غير جدال عشان مش هنوصل لحاجة، حضرتك طلبت مني أركز في شغلي، وأفصل بينه وبين حياتي تمام، أنا أوعدك بده، وأوعدك إني مش هخسرك مشاريع، مش عشانك، عشان أنا ماحبش سليم الراوي يخسر. سليم مابيخسرش.
أنصرف سليم بهدوء، وترك عزت جالسًا، يطرق بأصابعه فوق سطح المكتب، وعيناه تحملان ضيقًا عميقًا
قصر الراوي الحديقة الرابعة مساء
نرى ماسة وسلوى جالستان بجانب بعضهما ويتبادلن الاحاديث.
سلوى بصوت هادئ لكن يحمل حرصًا: خلاص ماتخافيش هاخد بالي كويس بس يمكن سليم بيجس نبضك.
ماسة بتوتر وإصرار: عارفة ويمكن عملت حاجة غلط، بس خلينا ناخد بالنا مكي أكيد هايسألك خدي بالك كويس وحياتي لازم تتوهيه لو سألك.
وفي تلك اللحظة دخلت الخادمة حاملة أكواب عصير، وضعتهم ورحلت.
أمسكت سلوى بالكوب موضحه: أصلا مش بنتقابل لو شفته هاخد بالي وإنتي ماتقلقيش من الكابوس سيبيها على ربنا.
وفي نفس اللحظة مرّ رشدي خلفهما وهو يتحدث في هاتفه بنبرة خافتة بتهديد مبطن: السم إللي قلتي عليه ده بطئ مفعوله يعني مهما كان نوع العصير.
وما إن استمعت ماسة وسلوى إلى الحديث، حتى اتسعت أعينهما هلعًا، وفجأة أفلتت سلوى الكوب من يدها، ليسقط على الأرض ويتحطم تحت وقع الخوف.
أقترب رشدي مبتسمًا وقال ساخرًا: بصوا عليا وأضحكوا علشان الكاميرات كأني بسلم.
ضحكتا بخفة مصطنعة، وكأنهما تؤديان مشهدًا تمثيليًا، بينما في داخلهما اشتعل الغضب، كانتا تتمنيان قتله في تلك اللحظة، لكنهما لم تستطيعا، كأن هناك قيدًا خفيًا يمنعهما.
أضاف رشدي بنبرة تهديد: برافو يا أم نمش عندك سرعة بديهة عالية، بس يمكن المرةالجاية متلحقيش، ويكون بجد أنا بحذرك لو لسانك نطق إنتي كمان.
ثم غادر المكان مسرعًا، فقبضت سلوى على أسنانها بقوة وقد اشتعل الغضب في عينيها، بينما خيّم على وجه ماسة مزيج من قلة الحيلة والحسرة، كأنها عاجزة حتى عن الغضب.
سلوى بلهجة حزينة: إنتي عايشة إزاي كده مع الناس دي؟
ماسة بمرارة: هعمل إيه؟! عذاب والله يا سلوى، بس اتعودت المهم بالله عليكي خدي بالك.
سلوى: حاضر.
فيلا عائلة ماسة، الخامسة مساءً.
دخل سليم إلى الفيلا بعد أن استقبلته سعدية بحفاوة ووجه بشوش.
سعدية ابتسمت له بحرارة: والله مفاجأة زي العسل، أعملها على طول يا سليم.
أجابها سليم وهو يتجه نحو اللفينج روم دون أن يبادلها نفس الحماس: إن شاء الله.
اللفينج روم.
كان مجاهد متمددًا على الأريكة، حين رأى سليم، حاول عدل نومته.
سليم بصوت هادئ: خليك مستريح، أخبارك إيه؟
مجاهد: الحمد لله يا ابني، إنت عامل إيه؟
اقترب سليم وجلس على أقرب كرسي: تمام. إنت أحسن دلوقتي؟
مجاهد برضا: الحمد لله يا ابني رضا زيارتك دي فوق راسي.
سعدية بامتنان وخجل: شكرا يا أبني على إللي عملته مع عمار.
رفع سليم رأسه، وقال دون تردد: بتشكريني على إيه؟ هو أصلاً معملش حاجة.
مجاهد بنبرة امتنان: بس برضو، لولاك الله أعلم كان حصل إيه، جميلك فوق راسنا.
سعدية، محاولة تبرير موقفها: أنا بصراحة ماحبيتش أقولك، عشان عارفة المشاكل إللي بينك وبين ماسة، عشان كده كلمت مكي، البت لسة راجعة النهاردة، وكانت طالبة الطلاق، يعني من كام ساعة بس، فماكنش عندي عين أقولك مش عايزاك تزعل من إللي حصل، إنت دلعتها، ماشيلتهاش المسؤولية بس إحنا كلمناها، وربيناها و…
قاطعها سليم فجأة تجمدت ملامحه، وتصلبت نظرته، فغلف المكان بصمت ثقيل كأن الهواء ذاته توقف عن الحركة.
قال بصوت منخفض، هادئ، يحمل بداخله قوة لا تُرد: معلش مش عايزين نتكلم في الموضوع ده.
ساد صمت قصير،. ثم رفع سليم عينيه بثبات ونبرة خالية من الانفعال، لكنها ممتلئة القوة: أنا بس كنت عايز أقول حاجة ليكم إنتوا الاتنين، ويا ريت توصلوا الكلام ده للكل.
تنفس بعمق، ثم أكمل بهدوء قاتل ونظرة حادة:
ماسة لما جات هنا، جات برضايا، ماجتش من نفسها، ولا غصب عني، أنا إللي وصلتها بنفسي، وأكيد اتكلمنا حتى لو غيرت الاتفاق، ده ما يديش لأي حد فيكم الحق إنه يمد إيده عليها… مهما كان.
لم يرتفع صوته، لكنه سيطر على المكان كليًا كل كلمة خرجت منه كانت كأنها أمر عسكري لا يُناقش.
نظر إليهم مجددًا، بعين ثابتة، تابع بنبرة أكثر قسوة:
ماسة مراتي، وهتفضل مراتي لحد ما تنزل القبر بس ده مش معناه إن ليكم حق تمدوا إيديكم عليها، إللي يفكر يلمس حاجة تخصني، يبقى بيتجنن. تخيلوا إن دي ماسة… مراتي… عارفين ده معناه إيه؟
اعتدل في جلسته، وضع قدمًا فوق الأخرى،واستكمل بنفس الهدوء المخيف: أنا متفهم الأسباب، متفهم إللي حصل، بس إللي كان المفروض يتعمل، إنكم تساعدوها، تكلموها، تطبطبوا عليها، حتى لو تاخدوها على قد عقلها.. والأفضل إنكم كنتم تتكلموا معايا، هي دي الأصول، إنما تمدوا إيديكم وتزعلوها؟ غير مسموح.
تنحنح مجاهد محاولًا التدخل: هو يا سليم إللي حصل
أشار سليم بيده بإشارة صغيرة، اكمل على ذات الوتيرة: أنا ما سألتش عن إللي حصل، أنا جاي أقول كلمتين يتفهموا ويتنفذوا.
انحنى بجسده قليلًا إلى الأمام، وانخفض صوته أكثر، لكنه ازداد حدة، ونظرته اشتدت كأنها تخترق الصدور: قولي يا مجاهد، ينفع حد يمد إيده على سعدية وإنت موجود؟ طبعًا عيب ده يجرح كرامتك ورجولتك وأنا كمان كده.
تراجع مجاهد قليلًا، وقال بصوت خافت: بس إحنا ماكناش قاصدين…
سليم بنبرة باردة لا تحمل عذرًا: وأنا برضو ماسألتش عن القصد، أنا بس بفهمكم، ياريت إللي حصل ده مايتكررش أنا هعديه عشان ماسة غالية عندي أوي. وعارف إن أي تصرف مني ممكن يزعلها علشان إنتم أهلها.
نهض من مكانه ببطء، ونظر إليهم نظرة أخيرة، نظرة جمعت بين الهيبة والتحذير: إللي حصل ده إهانة ليا،
إن مراتي تتضرب وهي على اسمي دي إهانة كبيرة، بس علشان خاطر العشرة والعيش، وعشان ماسة هعتبرها غلطة متهورة وغير مقصودة وعدت.
أسرعت سعدية بالكلام بإرتباك محاولة تبرير الموقف:
والله يا ابني الموضوع مش كده خالص، وهي فعلًا مش مقصودة.
ابتسم سليم ابتسامة خفيفة، لا دفء فيها، باردة كالجليد، وقال بنبرة ثابتة: أنا عارف يا سعدية، من غير حلفان، لو كان عندي شك واحد في المية… ماكناش زمانا بنتكلم دلوقتي بالهدوء ده.
توقف لحظة، ثم أكمل بنبرة حازمة لا تقبل النقاش:
أنا قلت إللي عندي، ولو سمعت إن حد زعل ماسة، أو رفع صوته عليها، أو مد إيده، إللي هيحصل هايزعلكم كلكم تمام ده آخر تحذير.
ثم استدار وغادر الغرفة، بخطوات ثابتة، تاركًا وراءه صمتًا خانقًا وهيبة لا تُنسى.
سعدية التفتت نحو مجاهد بذهول: شفت يا راجل بيكلمنا إزاي؟
مجاهد بصوت خافت حزين: الراجل جه شتمنا، وبهدلنا
ومشي، بس بصراحة عنده حق مهما كنا متعصبين ومتضايقين، ماكانش ينفع نمد إيدنا على مراته، مافيش راجل بيقبل مراته تتضرب وهي على اسمه، والله جاب علينا العيب.
سعدية تمتمت، كأنها تبحث عن مخرج: ما إحنا كنا بنربيها له!
مجاهد بإعتراض: بس الراجل عنده حق، إحنا اتصرفنا غلط.
جلست سعدية بجانبه وقالت بإستغراب: بس إنت مش شايف سليم متغير؟ تحسّه غريب.
مجاهد معترضًا: ولا غريب ولا حاجة زعلان على مراته، وطول عمره كده، فاكرة أول ماتجوزها؟ أول مرة زعقتيلها، عمل نفس الحكاية دي.
سعدية هزت رأسها بتنهيدة طويلة: عندك حق يا أبو عمار، مابيطقش النسمة عليها، خليها تيجي تشوف بيعمل إيه؟! بنتك دي ناقصة… وماعندهاش دم.
مجاهد بصوت واهن: ربنا يهديها ويسترها عليها.
خلال تلك الأيام
لم تعد ماسة تنتظر شيئًا من الحياة، كأنما تجلس في طابور الموت، تنتظر دورها. تحولت أيامها إلى صمت طويل، وهواجس سمعية وبصرية، وخوف ينهشها من الداخل، خوف مريع يُشعرها بأن النهاية قريبة لقد نجحوا في دفعها إلى أقصى درجات اضطرابها النفسي ورغم كل ذلك، كانت تحاول، بكل ما تبقى لها من إرادة، أن تبدو أمام سليم كما عهدها، امرأة عادية تحاول أن تهرب من رؤيته، أن تتفادى وجوده، لكنها لم تكن قادرة على الانفصال الكامل عن دائرة رعبه.
قصر الراوي الخامسة مساءً
جناح سليم وماسة
الشرفة.
ماسة تجلس على الأرجوحة، صمت قاتل يطبق على صدرها كالكفن.
في تلك اللحظة، اهتز هاتف رشدي، الذي لم يفارق جيب ملابسها كما نعلم، وضعته على أذنها وأجابت بنبرة غليظة: خير؟
جاءها صوت رشدي من جهة أخرى، هادئًا ومشحونًا:
ادخلي الحمّام، أفتحي الدش، فيه احتمال كبير إن كراميلك مركّب كاميرات أو ميكروفونات.
تنهدت ماسة بعمق، ومسحت وجهها بضجر، ثم نهضت بخطى مثقلة واتجهت إلى الحمام. أغلقت الباب خلفها بهدوء، فتحت صنبور الماء ووقفت إلى جواره. رفعت الهاتف مرة أخرى، وتحدثت بصوت خافت، خالٍ تمامًا من أي انفعال: يلا، قول إللي عندك.
رشدي بنبرة خافتة تحمل تهديدًا مبطنًا: سليم ممكن يكون فتّش الأوضة، وممكن يكون زرع ميكروفونات أو كاميرات ياريت تاخدي بالك من تصرفاتك كويس وحاولي تخبي التليفون، علشان سلامتك وسلامة أهلك.
ماسة بضجر واضح: متصل عشان تقولي كده؟
أجابها ببرود: لا، متصل عشان أسألك، مش امتحاناتك قربت؟
ماسة بهدوء متعب: آه، آخر الأسبوع.
رشدي بنبرة مرتبة: هتحضري أول امتحانين عادي. بعد أول امتحان، هتروحي عند أهلك وترجعي القصر، وبعد التاني هترجعي هنا مباشرة.
ثم بنبرة مريبة: بس التالت… هو معاد هروبك يا ماسة.
تسارعت أنفاسها فجأة، واهتز جسدها كأن صعقة كهرباء اخترقته ابتلعت غصتها سألت بصوت متهدج: وبعدين؟
رشدي باقضتاب: وقتها هقولك.
ماسة بإختناق: في أوامر تانية؟
أجاب بسخرية لاذعة: سلام، يا ست الحُسن.
انتهت المكالمة.
نظرت إلى الهاتف بين يديها، عضّت عليه بأسنانها، وهمست بحنق وقهر: ربنا يخلّصني منك يا حقير.
(بعد أيام )
بقي الحال كما هو عليه، كانت ماسه تتجنب أن ترى سليم كذلك سلوى تتجنب أن ترى مكي، تتحجج بانشغالها في المذاكرة.
قصر الراوي
غرفة سليم، الخامسة مساءً
الشرفة.
سليم جالسًا على مقعده، شاردًا في الفراغ، غارقًا في دوامة من الألم لا نهاية لها دخّن سيجارته بصمت، ورشف من قهوته المرّة والثقيلة كأيامه
بعد دقائق، دخلت ماسة بخطى مترددة، توقّفت خلفه للحظات، مرّرت عينيها عليه وقلبها يعصف بها، يتألم لأجله، تدرك تمامًا أنها السبب فيما يمرّ به، لكنه سليم، حبيبها، قطعة من قلبها، كيف لها أن تراه في تلك الحال وتتركه؟ لم تشكّ يومًا في حبّه لها، رغم ما عرفته.
رفعت عينيها نحو السماء بتعب تنهدت، ثم اقتربت
مدّت يدها ببطء، وارتعشت أصابعها، في داخلها صراع: هل تلمسه؟ أم تتركه يغرق وحده؟ وبعد ثوانٍ، قلبها المحب انتصر بالطبع.
وضعت كفها المرتجف على كتفه، وانحنت نحوه بحنان غامر، ضمّته من الخلف، واستقرّت رأسها على كتفه، وطبعت شفتيها بقبلة صامتة طويلة على جانب جبينه.. أحاطت جسده بذراعيها، كما لو أنها تحاول أن تُسكت كل الصخب الذي ينهشه من الداخل.
اهتزّ سليم للحظة، كأنّ روحه تنفست بعد اختناق. شقّت وجهه ابتسامة حزينة، ووضع يده فوق يدها، يتمسك بها كما يتمسك الغريق بطوق النجاة.
مرّت لحظات، لا صوت فيها سوى أنفاسهما، ثم جلست بجانبه أخيرًا، وقالت بصوت خافت يكاد يُسمع: عامل إيه يا سليم؟
سليم بابتسامة ألم: لو إنتي كويسة يا ماسة، أكيد أنا هبقى كويس.
صمتت قليلًا، وعيناها معلّقتان بالأرض: سليم بكرة عندي امتحان.
أومأ سليم برأسه قليلًا: أنا عارف، عندك امتحان الساعة11 وهيخلص الساعة1 بس هو إنتي أصلًا عندك استعداد تدخلي؟ بتذاكري؟
أجابت ماسة بحماس كاذب: أيوه، بذاكر، أمال أنا كنت مختفية فين الفترة إللي فاتت؟
أومأ سليم بإيماءة خفيفة، وصمت فلم يعد يملك رغبة في المواجهة، أو حتى تكذيبها صار يتركها تكذب كما يحلو لها.
سليم بنبرة مكتومة: حاضر يا ماسة، إن شاء الله الساعة9 هاتلاقي العربية مستنياكي، ومكي وراوية معاكي.
تابع بنبرة أكثر صرامة لكنها حنونة:
أتمنى يا ماسة بعد ماتخلصي امتحانات، تكوني هديتى، عشان أنا مش هصبر تاني، ولا هقبل الوضع ده، اتفقنا؟
رفعت ماسة حاجبها، ونبرة دفاعية تغلّف صوتها:
هو إنت ليه محسسني إننا بقالنا شهور كده؟ على فكرة، الحوار كله على بعضه ماكملش أسبوعين تلاتة.. بابا مافكش الجبس غير أول إمبارح!
حاول سليم أن يتمالك أعصابه: والله؟ وأنا المفروض أفضل كام شهر يعني صابر وساكت وقابل إللي إنتي فيه ده؟
ماسة بضجر: قلتلك إن إللي أنا فيه ده زاد بسبب رد فعل ماما وبابا، إنت ماتعرفش هما عملوا معايا إيه؟!
أغلق سليم عينيه بتعب للحظة، وأخرج نفسًا ساخنًا، ثم فتح عينيه وقال بهدوء: ماشي يا ماسة… حاضر، أنا هسكت، بس مش مصدقك..
صمت للحظات، وهو يمرر عينيه عليها بضيق، ثم قال بمرارة:
هو إنتي جيتي ليه؟ جاية تديني شوية محبة ومشاعر وبعدين تاخديهم مني تاني؟ أنا مش هقبل يا ماسة بساعات محبة مزيفة، وأصحى ألاقي نفسي وحيد تاني، وأتوجع تاني، مش هقبل قلبي وحبي وعواطفي ليكي يبقوا لعبة، و وقت ماتحبي تقربي تقربي، ووقت ماتحبي تبعدي تبعدي، الشخصية التانية دي وجودها غير مرغوب فيه هنا.
رفعت ماسة نظرها إليه، ثم قالت بصوت مبحوح:
أنا مش جاية أديك شوية محبة واخدهم، ولا أنا دلوقتي في الشخصية التانية، أنا بس كنت جاية أطلب منك أروح الامتحان بكرة، ولما لقيتك قاعد زعلان كده ماستحملتش، هو إنت عندك شك في حبي ليك؟
سليم بثقة: لو عندي شك 1% إنك مابتحبينيش، كان زماني سبتك من زمان، بس أنتي فيكي حاجة، إيه هي؟ مش عارف، بس هعرفها.
خيم الصمت من جديد، لكنه لم يكن يشبه الصمت السابق، كان يحمل ثقلًا أكبر، كما لو أنّ الهواء صار أكثر كثافة.
بينما ماسة تنظر إليه نظرة طويلة، تريد أن تقول له ما بها، أن تزيح ذلك الحجر، وأن ترتمي بين أحضانه، لكنها خافت. خوفها كان أكبر من كل شيء.
فجأة، ضجّ صوت رشدي، الذي لم يتركها للحظة.
همس من جديد داخل أذنها، فكلما فكرت ماسة أن تقول لسليم، تستمع لصوته، كأنه يذكّرها بأنه هنا، ولابد أن تفيق.
هزّت رأسها مرة واحدة وهي تغمض عينيها، رفعت يديها أمام أذنيها تلوح لتطرده.
لاحظها سليم وسأل بهدوء مشوب بالقلق: هو إنتي ليه بتعملي كده كل شوية؟! كأن ودانك بتوجعك؟ أو في حاجة مش عايزة تسمعيها؟ولا هتقولي لي تاني بهش ناموسة.
هبطت ماسة يديها، وأجابت بسرعة غير مقنعة: لا… أصل أنا بعمل رجيم تقريبًا هو السبب؟
سليم بتعجب واستنكار: بتعملي رجيم ليه أصلًا؟
أصلا إنتي خسيتي ومش حلو إللي إنتي فيه ده، إنتي مش بتبقي حلوة في الرفع الزيادة.
ماسة بكذب: ما هو أنا شكلي هبطّله
سليم تساءل: بس ده ماله ومال ودنك؟ تعالي أودّيكي للدكتور، بتحسي بإيه؟
سكتت، نظرت إلى الأرض، ثم همست: بحس إني.. مش عارفة أوصفلك، بس يعني هو مش وجع، بس زي صفارة كده.
سليم بإهتمام: خلاص، بكرة بعد الامتحان، هاجي آخدك، وبعدين تروحي للدكتور، ممكن يكون عندك مشكلة في الأذن الوسطى، ومش عايز جدال، هتروحي.
ماسة بإستسلام: ماشي، حاضر، بس أنا هروح عند بابا بعد الامتحان، تكون إنت خلصت شغل، ونروح
أنا هروح بقى أذاكر.
نهضت من مكانها، وألقت نظرة عليه كانت ترغب أن تضمه، أن تسرق لحظة أمان واحدة فقط لحظة تنسى فيها كل شيء، لكن شيئًا ما أوقفها، لم يكن خوفًا، ولم يكن نفورًا. بل كان حاجزًا خفيًا، لم تجد له اسمًا.
شعرت أنّ دموعها أصبحت على وشك السقوط، وأنها لم تعد تقوى على التمثيل كتمت أنفاسها، وخرجت.
بينما تنهد سليم بعمق، نظر إلى آثارها بوجعٍ يغمر روحه، مسح وجهه بتعب ثقيل، ثم وضع يديه على قلبه، الذي يصرخ بصمت داخل حناياه، كأنه يحتضر بين الألم الضياع.
وبالفعل في اليوم التالي
توجهت ماسة إلى الجامعة مع الحراس لتخوض الامتحان، بالطبع كانت ماسة داخل الامتحان شاردة لكن عين الحراس التي عليها جعلتها أن تنظر في الأوراق كانها تقوم بالإجابة، في الخارج كان مكي في انتظارها هي وسلوى، لكن سلوى سبقتها في الخروج.
الجامعة الأمريكية، الساعة 12:30 مساءً
عند السيارة
اقتربت سلوى من السيارة بخطوات بطيئة، لكن ماإن وقع بصرها على مكي واقفًا حاولت أن تتماسك.
أخذت نفسًا عميقًا وقالت ببرود مصطنع: مساء الخير
اعتدل مكي واقفًا وردّ عليها بإهتمام: مساء النور، عملتِ إيه في الامتحان؟
سلوى وهى تنظر امامها: حليت كويس، هي ماسة ماخرجتش لحد دلوقتي؟
مكي: آه لسة، ميعادها الساعة1، إنتي اتأخرتي، المفروض تخلصي12؟! كلمتك تليفونك كان مقفول؟!
نظرت سلوى له وقالت بغلاسة: وقفت مع أصحابي شوية، ولا ممنوع أقف معاهم؟ بعدين إنت عايز تفهمني إنك ما كنتش عارف إن أنا واقفة مع أصحابي ومابعتش أصحابك يشوفوني فين.
نظر لها مكي من أعلى لأسفل بضيق، لكنه تجنّب الدخول في نقاش، ظل واقفًا وهي أيضًا، تعبث في شعرها مرة، وفي هاتفها مرة أخرى، كان يرغب في الحديث لكنه قاوم، يعلم أنه لو فتح معها مجال الكلام ستكذب، وقد سئم من ذلك، لكنه لم يستطع كتم السؤال وفجأة، قال بنبرة خبيثة:
مكي: بقولك إيه، هي ماسة لسه حد بيضايقها؟ يعني بيهددها؟
سلوى باستغراب مقتن: بيـهـددها؟! مين بيهددها؟! مش فاهمة، هو في حد بيهددها وأنا آخر من يعلم؟!
مكي حاول استدرجها: مش بالظبط، بس انتي عارفة فايزة هانم، بتحب تلعبها من تحت لتحت.
سلوى تبسمت بتمثيل: الموضوع عمره ما وصل للتهديد هو شويه معايره كده، وماسة ما بقيتش تسكت، من ساعة ما بدأت ترد وتقول لسليم كل حاجة، الوضع اتغير.
مكي هو يركز النظر في ملامحها: يعني، ماحصلش قبل كده إن حد فعلاً، هددها؟
سلوى بتأكيد: لا يا سيدي، مافيش حد يجرؤ أصلاً! دول بيخافوا من سليم زي القطط، مستحيـــل!حد فيهم يفتح بقه؟ لو في حاجه زي كده مثلا كانت قالتلي واكيد كنت هقول لك عشان تقول لسليم يلمهم.
هز مكي راسه بإيجاب قال بخبث: امتحاناتك هتخلص بعد 10أيام بالضبط.
سلوى بإقتضاب: عارفة.
مكي: يعني آخر امتحان ليكي يوم التلات؟
سلوى: تمام.
مكي يحاول استدراجها: كتب الكتاب هيكون يوم الأربع، أعملي حسابك.
سلوى بإرتباك: إزاي يعني؟ إحنا لسه ماجهزناش حاجة في الفيلا، ولا العفش، ولسة ما
قاطَعها مكي بنبرة قاطعة: هنكتب الكتاب، وبعدين تعملي إللي إنتي عايزاه، كل حاجة متجهزة، وإحنا بنقضي الهاني مون المهندس هايزبط كل حاجة، وبعدين ممكن نكتب الكتاب ونستنى شوية، مش لازم الفرح فورًا.
نظر لها ليرصد رد فعلها، كان يختبرها، يريد أن يتأكد من شكوكه، لكن سلوى كانت أذكى من أن تقع في الفخ.
سلوى هزت رأسها بإيجاب: خلاص ماشي، تمام بس خلينا نستنى شوية، أسبوعين تلاتة كده، بعدين نعمل الفرح ونسافر.
مكي مندهشا وهو يمد وجهه: غريبة!
سلوى وهى تعقد بين حاجبيها: وإيه إللي غريب؟ مش ده إللي إنت عايزه؟
مكي: الصراحة كنت متوقع ترفضي
سلوى وهى تضحك بإستنكار: وأرفض ليه؟ إحنا اتفقنا، وبعدين أنا مش عارفة ليه حاطت في دماغك إني متغيرة؟ عندي امتحانات، وهتجوز قريب، وماسة كمان زعلانة ومش فاهمة مالها، وأنا مشغولة بيها، كل الحاجات دي ومش عايز دماغي تشت.
حدّق مكي فيها لثوانٍ، ثم انحنى حتى أصبح في مستوى نظرها، قرّب وجهه من وجهها وقال وهو يركز في ملامحها: أنا همشي معاكي للآخر، رغم إن قلبي حاسس إنك… بتثبتيني.
سلوى بسخرية: ليه هو إنت برواز عشان أثبّتك؟
لم يضحك مكي، كانت ملامحه ساكنة كالموت، وقال بجمود: زي ما قلتلك 10أيام ونشوف.
سلوى تساءلت بشك: ولو الكلام اتغير بعد العشرة أيام؟ هتعمل إيه؟
مكي بنبرة بها ريبة: هعمل كتير.
سلوى برفعة حاجب: تهديد؟
مكي بجمود: لا معلومة.
قلبت سلوى وجهها وقالت بحدة: أوعى تستخدم معايا الأسلوب ده، عشان أنا عنيدة، وإنت عارف. مش هتجوزك بالعافية، ماتضايقنيش بالله عليك، لإن أسلوبك الفترة الأخيرة مستفز، وأنا بحاول أعدّي.
اتسعت عينا مكي وبرق لها ونظر لها بنظرة مرعبة، قال بصوت رجولي هادئ: سلوى صوتك ده ما يعلاش هنا، إحنا مش في البيت عشان أعديها، فاهمة؟ وماتتكلميش معايا بالأسلوب ده يا سلوى، مفهوم.
لكنها لم تهتز من نظرته، قالت بتحدي: هتكلم بالطريقة إللي تريحني، إذا كان عاجبك.
لف مكي بجسدة، قبض يده، وضرب برفق على رأسه من الخلف كأنه يحاول تهدئة نفسه، ثم عاد إليها وقال وهو يشير بإصبعه نحو وجهها: سلوى، سلوى ماتستفزنيش، لو في حاجة للمرة الألف، ردي وقولي!
سلوى ببرود: وللمرّة الألف، بجاوبك مافيش حاجة، إنت إللي أسلوبك متغير.
مكي بغضب خفيف: وأنا لو متغير، فده عشانك ومنك ماتقوليش تهيؤات، انا وسليم مش مجانين، عشان إحنا الاتنين نقول إنكم متغيرين، وهعرف وصدقيني لما أعرف، هزعل ولما مكي بيزعل إنتي مش عارفة بيبقى عامل إزاي ولو عرفت إن أختك السبب، ساعتها يبقى فيه كلام كتير..
سلوى بتحدي نظرت داخل عينه: أوعى تكون فاكر إني ممكن أختارك على أختي أوعى.
نظر لها مكي بقوة: إجابتك دي أكدتلي إن التغيرات بسبب ماسة، وهعرف السبب.
سلوى بحدة وهي تزفر: أوووف، بجد الكلام معاك بقى ممل وبيصدع، أنا عندي امتحانات وعايزة أركز فيها، مش طالبة النكد بتاعك ده.
فتحت باب السيارة ودخلت وأغلقت الباب بعنف، تطلع إليها مكي بضيق، ثم أغلقت سلوى النافذة في وجهه، فضرب مكي بكفه على سقف السيارة، بغضب ثم ابتعد.
وبعد وقت، جاءت ماسة ومعها الحراس وراوية.
توقفت ماسة أمام مكي وقالت بإستغراب: إيه ده؟هو إنت هنا؟
أجابها مكي، وقد بدا عليه الضيق: آه موجود.
ماسة بتعجب: ومادخلتيش ليه؟
مكي: عشان راوية معاكي؟ كان عندي حاجات مهمة بعملها.
ماسة: طب إحنا هانروح عند ماما، أنا أستأذنت من سليم.
مكي: عارف؟ اتفضلي.
توقفت ماسة أمام الباب، نظرت له برفعة حاجب وقالت بأمر: أفتح باب العربية
نظر لها مكي بإبتسامة وهز رأسه: أمرك يا ماسة هانم.
نظرت له ماسة بعينيها دون رد، ثم دخلت وجلست بجانب سلوى.
فهما يفهمان لبعضهما البعض، ويحاولان مضايقة بعض، وبطبع تستطيع ماسة التفوق بفضل سليم.
سلوى: عملتي إيه؟
ماسة: الحمد لله، حليت وإنتِ؟
سلوى: الحمد لله برضه، كان سهل.
جلس مكي بجانب السائق، بينما جلست راوية بجانب ماسة، وتحركت السيارة، تتبعها سيارة الحراس.
فيلا عائلة ماسة الثالثة عصراً
دخلت ماسة الفيلا برفقة سلوى. فهذه هي المرة الأولى التي تطأ فيها هذا المكان منذ طردهم لها ورفضهم لطلب الطلاق، كانت تشعر بالحزن؛ لم تكن ترغب في المجيء، لكنها جاءت لكي تنفذ خطة رشدي، فالبرغم أنها تحميهم بحياتها وبصمتها وبحبها الشديد لهم، إلا أنها تشعر بالخذلان والوجع، فكانت تريد لو قليل من الحنان معها لكن للأسف لم تجده.
كان مجاهد قد فكّ الجبس، لكنه ما زال لا يتحرك كثيرًا وفور دخولها، وجدتهما جالسَين في الهول.
سعدية بمزاح: جيتي يا مقموصة؟
ماسة اقتربت منهم قالت بنبرة خذلان: مش إنتوا إللي قولتولي ماتجيش هنا تاني؟
مجاهد بحكمة: إحنا كنا شداد معاكي علشان نعقلك، لإنك كذبتي وقلتي كلام ماحصلش، وأوعي يابنتى تكوني فاكرة إني هبقى ضدك، وإني باختار سليم أنا بوعيكي يا ماسة وبصحيكي من غفلتك بس إنتي حمارة.
ماسة وهي تقترب منه قالت بعتاب: أنا عارفة يا بابا، عارفة كل حاجة والله، بس أنا ماكنتش عايزاكم تبقوا قاسيين معايا.
سعدية بصوت مكسور وعينها مليانة دموع:
يا بنتي، خراب البيت مش بالساهل، ربنا عوّضك عن وجع سنين والبهدلة.. شفتي إيه يا ماسة من الظلم والبهدلةء؟!أنا شِلت وسكت، وكتمت جوّه قلبي لحد ماتعودت على الوجع،
بقهر فاض بها تابعت بحسرة:
شفتي إيه إنتِ بس؟ شفتي إيه في الدنيا؟ من مرمطة وبهدلة، إنك تنامي من غير عشا؟
وإنك تشوفي عيالك بيتبهدلوا قدامك؟
ماتقدريش تفتحي بقك، عشان لو فتحتيه، هاتترمي إنتِ وراجلك وعيالك في الشارع، ومش هاتلاقيي تاكليهم، ممكن عيالك يموتوا قدام عينيك من الجوع، وتضطري تحطي الجزمة جوه بقك عشان تعيشي إنتِ وعيالك! إنتِ مش عارفة حاجة يا ماسة، أنا وأبوكي شفنا قد إيه في حياتنا؟ ده احنا ماشممناش نفسنا غير بعد جوازك، اللي مزعلك دلوقتي؟ حاجات تهون، بس إنتي اتعودتي على الراحة، ومش قادرة تستحملي تعب جوزك، ولو قسيت عليكي ولا ضربتك، فكان عشان كذبتِ وخلّيتينا نشوف سليم بشكل وحش، ليه كده؟ إيه اللي حصلك؟ إحنا بنحاول نرجعلك عقلك، ولو سليم غلطان، والله ما هنسيبه
ماسة بصوت هادئ، وهي تنظر على الأرض:
مش عايزة أتكلم في الموضوع ده يا ماما بعد إذنك، أنا جاية أقولكم حقكم عليا، ماتزعلوش مني، أنا آسفة لو كنت تطاولت في طريقة كلامي بس كنت مخنوقة وتعبانة.
تنهدت سعدية، وسلّمت أمرها لله: ربنا يهديكي يا بنتي، ويرجعك لعقلك تاني يا ماسة.
مجاهد وهو يربت على خدها بحنان: إحنا مش زعلانين منك يا ماسة، إحنا زعلانين عليكِ وصدقيني يا بنتي، إحنا بنعمل كده لمصلحتك.
اقتربت ماسة وقبّلت رأس والدها: عارفة، قولي بس إنت عامل إيه دلوقتي يا بابا؟
مجاهد: الحمد لله. الدكتور قاللي أبدأ علاج طبيعي وهنشوف.
ماسة: على خير، وإنتي يا ماما، عاملة إيه؟ أخباركم إيه؟
سعدية وهر تربت على ظهرها: كويسين، وإنتي؟ عاملة إيه مع جوزك؟ اتصالحتوا؟
ماسة هزت رأسها بإيجاب: طبعاً.
سعدية بابتسامة: جوزك جِه هنا وبهدلنا عشانك، عشان تعرفي قد إيه بيحبك ومابيستحملش عليكي ريشه تجرحك.
تبسمت ماسة إبتسامة جانبية مغيرة الكلام: هتأكليني إيه النهاردة يا سعدية؟
سعدية: أنا عاملة طاجن بامية باللحمة الضاني ورز وملوخية.
ماسة: حلوين! أنا فعلاً نفسي في طاجن البامية اوي.
سعدية: خلاص، أنا قلت أستناكم، يا دوبك بس هطشّ الملوخية وخلاص.
تحركت سعدية، بينما توقفت سلوى وقالت لماسة:
تعالي نراجع سوا الامتحان ونشوف حلّينا إيه.
ماسة وهي تتوقف: طيب ماشي، بعد إذنك يا بابا.
وبالفعل، صعدتا إلى الطابق الثاني، ودخلتا الغرفة، وجلستا على الفراش.
سلوى بتوتر: ماسة، مكي تعبني أوي، مش عارفة لحد إمتى هفضل ماسكة نفسي من نظراته وطريقته… بتوترني النهارده بس كان حد مهددك بس بخباثه.
ماسه نظرت لها بتوتر: وانت عملت ايه؟!
سلوى: ما تقلقيش قلت له مافيش الكلام ده واقنعته بس انا مش عارفه لحد امتى هفضل متمسكه.
ماسة تنهدت وأمسكت يدها: لحد الأسبوع الجاي أنا هاهرب تاني الأسبوع الجاي.
سلوى بقلق: المرة دي إزاي بقى؟
ماسة مدت شفتيها بعدم معرفة: ماعرفش، هو قال لي تالت امتحان ليكي هاتهربي، وهيعرفني التفاصيل تعرفي هو السبب إني أجي النهاردة، عايز يعمل تمويه لسليم.
سلوى بحزن وهي تنظر أمامها: والله يا ماسة، أنا رأيي تقولي لسليم.
ماسة نظرت لها بعينين ترقرق بالدموع: كل مابقى على وشك أحكيله لساني بيتلجّم، صوت رشدي بقى جزء من حياتي، على طول شايفاه بيقتلكم، بأبشع الطرق، صوركم مابقتش تفارق خيالي، حياتي كلها بقت كوابيس، مابقيتش عارفة أفرّق بين الحلم والواقع، أنا مش هقول له حاجة، وده قرار أنا مش قدّهم. هما عايزني أبعد عن سليم؟ خلاص، هبعد المهم إن إنتوا تكونوا بخير يا سلوى بعدين بعدين بعد اللي كان هيحصل ليوسف قدام عينك والسم اللي كان محطوط لك في العصير كل ده بتفكري ان انا اتكلم استحاله وانت كمان لازم تشيلي الفكره دي من دماغك.
سلوى بقهر: هنفضل لحد إمتى في العِذاب ده يا ماسة؟
ماسة بدموع هبطت على وجنتيها قالت بمرارة: لحد ماموت ومايلاقوش حد يبتزّوه، أو أجيب آخري وأحرّق القصر بيهم في يوم.
طبطبت سلوى على قدميها: إحنا ربنا معانا، ربنا مابيرضاش بالظلم، وأكيد هاييجي وقت والحق هايظهر، وسليم يعرف لوحده، أنا كمان زيك، حاسة إن مكي وسليم لو عرفوا، ممكن يحافظوا علينا بس خوفي اكتر، رشدي بيخوفني، نظراته، وجودك في البيت مع فايزة وصافيناز، بيرعبني عليكي، بقيت أخاف على بابا وماما، حتى موضوع عمار، كنت مرعوبة يكونوا هم السبب فيه، ممكن يستغلوه ضدنا.
حسبي الله ونعم الوكيل، في إخوات كده؟
انهارت بالبكاء، فضمّتها ماسة وطبطبت على ظهرها، تحاول أن تواسي قلبهما المكسور.
بعد وقت، نادت سعدية عليهما لتناول الغداء، وجاء سليم ليأخذ ماسة للطبيب. لم يدخل الفيلا، بل انتظرها في السيارة.
السيارة، السادسة مساءً
كان سليم في المقعد الخلفي، ومكي بجوار السائق.
سليم بإهتمام: عملتي إيه النهاردة؟
ماسة: حلّيت، كان سهل الحمدلله، ماتقلقش.
سليم تبسم بثقة وأمسك يدها: أنا مش قلقان، أنا بثق فيكي يا قطعة السكر.
ماسة ابتسمت بهدوء وسحبت يدها، حكّت في خديها ونظرت من النافذة، بينما تنهد سليم وأشار بيده للسائق أن يتحرك.
العيادة، السابعة مساءً
جلست ماسة على الفراش، وقام الطبيب بفحص أذنيها.
الطبيب: بتحسي بإيه يا مدام ماسة؟
ماسة: بحس بحاجة، زي صفارة.
الطبيب: بتحسي بيها كتير؟
ماسة: يعني، مش دايمًا.
الطبيب: بصي، أنا مش شايف أي حاجة، وأكيد الرجيم مش هو السبب ممكن ناخد أدوية بسيطة واشوفك بعد أسبوع.
سليم بقلق وهو يمسح على ظهرها: يعني يا دكتور، مفيش حاجة خطيرة؟ محتاجة تحاليل؟ أشعة؟
الطبيب: لا خالص، الموضوع نفسي بسبب ضغط الامتحانات، هنمشي على فيتامينات وقطرات، وهاشوفي فرق كبير إن شاء الله، بس قولي لي بتحسي بأي ألم؟ بتاخدي شاور؟
ماسة: لا خالص.
الطبيب: تمام، زي ماقولت هنمشى على الأدوية مرتين في اليوم، وإن شاء الله تبقي أحسن.
ماسة: تمام، شكرًا.
خرجت ماسة مع سليم بعد أن كتب الطبيب الروشتة، وركبا السيارة من جديد.
ماسة اطمأنت إن مافيش حاجة خطيرة.
سليم: أنا مش هطمن غير لما ترجعي زي زمان، ضحكتك الحلوة… قطعة السكر إللي عرفتها.
لم ترد، واكتفت بالنظر أمامها.
سليم: تيجي نتمشى على الكورنيش؟ تاكلي ذرة؟ أشربك حلبسة؟ مش اسمه كده؟
ماسة تبسمت: أيوه، اسمه كده بس لا، عايزة أذاكر، المادة الجاية صعبة أوي، وبعدين إحنا متفقين بلاش ضغط.
سليم تنهد بتعب: آه متفقين، صح، ثم نظر للسائق: على القصر يا رمضان.
وبالفعل عادوا إلى القصر، ودخلت ماسة الجناح، لتُكمل ما تبقّى لها من أيام في هذا القصر كما خطّط رشدي، حتى جاء موعد الامتحان التالي، ذهبا إلى الامتحان، ثم عادت مباشرة إلى القصر.
كانت تتعمّد الانشغال بالمذاكرة أمام سليم وسحر، تحاول أن توحي بأنها لا تفكّر في شيء سوى دراستها إن كانوا يراقبونها بكاميرات أو ميكروفونات، فليكن. هذا ما يجب أن يروه.
أما سلوى، كانت تحاول أن تتحدث مع مكي بهدوء، تكاد تعصر على نفسها ليمونة، كما يُقال فقط لتهدئة الشك، فـسلوى وماسة كانا يتّبعان خطة “الهدنة” في تلك الفترة: رسم ابتسامة كاذبة، والتعامل بشكل عادي، لأن خلق المشاكل أو أي تغيير قد يثير جنونهما وهما لا يريدون ذلك.
ظلّت ماسة على ذلك السياق، حتى جاء اليوم الذي يسبق امتحانها الثالث، اليوم الذي يسبق هروبها… كان يوافق عيد زواج ماسة وسليم التاسع.
كانت ماسة تتذكّره جيدًا، فهو ليس مجرد ذكرى زواج، بل يوم ميلادها الحقيقي، ويوم ميلادها الآخر، حين تزوجت من سليم عشقها المستحيل، تحفظه عن ظهر قلب.
جناح سليم وماسة، الساعة الثانية عشرة بعد منتصف الليل.
جلست ماسة على الأرض، والكتب مبعثرة أمامها تسند وجهها بكفيها، غارقة في التفكير في الغد، وفي الخطة التي أخبرها بها رشدي عبر الهاتف بعد أن أجرت اتصالًا بسلوى لتُطلعها على الخطة كي تساعدها.
وبينما كانت غارقة في شرودها، مرّ سليم من الخارج، يحمل علبة هدايا في يده وبوكيه ورد قرنفل، النوع الذي تحبه ماسة توقّف أمام الباب لم تنتبه لظلاله في البداية.
كان سليم على الطرف الآخر مترددًا، يمد يده نحو المقبض، ثم يتراجع هل يترك الهدية وينصرف؟ أم يدخل؟ لم يكن يعرف، أفكاره مشوّشة يشتاق إليها، لكنه لا يريد أن يُظهر ضعفه لا يريد أن يشعر بلحظة سعادة ثم تُنتزع منه في اللحظة التالية، وهذا يعصر قلبه ألمًا.
رفع كفّه بتردد… وفي اللحظة نفسها، انتبهت ماسة، رفعت رأسها ببطئ، قلبها يرتجف، وعيناها على وشك البكاء، تتمنى في داخلها أن يرحل تهمس داخليًا: أمشي… أمشي.
لكنه لم يرحل، وفجأة، سمعت صوت طرق على الباب.
تنهدت بتعب، فهي لا تستطيع مواجهته، بالأخص في ذلك اليوم: حاضر… ثانية واحدة.
نهضت بسرعة، نظرت في المرآة، وجهها شاحب. وضعت قليلًا من الكريم على وجهها محاولةً إخفاء آثار التعب فتحت الباب.
تصنّعت المفاجأة: سليم؟ مادخلتش على طول ليه؟
سليم بهدوء: عادي كده أفضل، ومش عايز أسمع كلام مستفز.
صمت لحظة قال بابتسامة محبة: كل سنة وإنتي طيبة.
تصنّعت ماسة عدم الفهم، عقدت حاجبيها ونظرت له:
ليه؟ هو النهاردة إيه؟
سليم بحب: عيد جوازنا، وعيد ميلادك إحنا النهاردة ٦/٢٧.
ماسة ابتسمت ابتسامة مصطنعة: آه، معلش بقى الامتحانات أنت فاهم
مدّ سليم يده بالهدية وببوكيه الورد: اتفضلي.
مدّت ماسة يديها وأخذتهما بإبتسامة متصنّعة: شكراً يا سليم.
سليم بنبرة موجوعة: أنا عارف إن الفترة دي صعبة، بس مهما حصل، ماينفعش اليوم ده يعدي كده، حتى لو ماحتفلناش حبيت أقولك كل سنة وإنتِ طيبة يا عشقي الأبدي.
سكتت ماسة قليلًا، دموعها على وشك الانفجار، وقالت بنبرة مكتومة مبحوحة: وإنت طيب.
تقدّم سليم خطوة: مش هاتشوفي هديتك؟
ماسة، وهي لا تنظر في عينيه: بعدين.
وقعت عين سليم على الأوراق المبعثرة، فتقدّم بعض الخطوات وقال: ليه بتذاكري على الأرض؟ إنزلي تحت، ذاكري في المكتب بتاعي أو أجيبلك مكتب هنا نحطه في الركنة إللي هناك.
ماسة، وهي تضع الورد والهدية على الفراش: لا، كدة مرتاحة أكتر.
سليم بحماس: تيجي نرجع الفيلا بتاعتنا؟
نظرت له بدهشة: نرجع الفيلا؟
فجاة ضحكت ماسة ضحكة موجوعة، كأنه يتحدث عن أشياء إنتهى موعدها.
سليم معلقًا بإستغراب: بتضحكي ليه؟ هأمرهم دلوقتي ينظفوها، وبكره بعد الامتحان تروحي عليها… إيه رأيك؟
ماسة برجاء: أنا بكرة هروح عند ماما، لو سمحت يا سليم وافق.
سليم بلطف: ماشي، روحي براحتك، بعد ماتيجي من عند مامتك، نرجع فيلتنا.
ماسة معلقة بتعجب: والعصابة؟ مش إنت دايمًا شايف إن الأمان هنا في القصر؟
سليم تنهد: بصراحة آه. بس مش عارف، مش مرتاح. حاسس إن من ساعة ماجينا القصر ده، حياتنا اتقلبت، قوليلي بأمانة… ماحدش بيضايقك يا ماسة؟
ماسة بثبات: لو حد بيضايقني، هاجي أقولك إنت عارف مابقاش بيفرق معايا شيل من دماغك يا سليم حوار إن حد بيهددني اوحد بيضايقني مافيش الكلام ده، كلهم بيخافوا منك.
تنهد سليم بصمت نظر لها مطولا انتظر منها أي حديث لكنها صامتة مسح وجهه: طيب، أنا هرجع أوضتي بقى، كل سنة وإنتِ طيبة، كل سنة وإنتِ في حياتي لو احتاجتي حاجة تكلميني مهما كان الوقت هسيبك تكملي مذاكرتك سلام.
كان في داخله وجع يقتله، وهي كذلك، كل منهما يتمزق، لكن يحاول التماسك أمام الآخر.
وقبل أن يبتعد، نادته: سلــيم
توقف والتفت لها بلهفة قائلا بنبرة عاشقة بالتركي: أفندم، أشكم.
نظرت له طويلًا، كأنها تودّع ملامحه، تحتفظ بها في ذاكرتها قبل أن ترحل غدًا وتهرب للمرة الثانية، إذ ربما لن تراه مجددًا.. أتاه شعور قد تقول الحقيقة.
كالمعتاد، بدأت الهمسات السوداء تملأ أذنيها لكن تلك المرة شعرت كأن هناك من يهمس من خلفها، كأن شبحًا يقف خلفها استدارت بحركة عصبية فيها هلع.
لاحظ سليم ارتباكها قال بمزاح محبب: مالك؟ في إيه؟ شايفة عفريت؟
نظرت له ماسة بصوت غاضب قليلا: إنت بتهزر؟
سليم وهو يبتسم: لا، بس وشّك اتغيّر فجأة كأنك شفتي حد واقف وراكي.
لكن الصوت لم يرحل وضعت يديها على أذنيها، ونظرت خلفها مرة أخرى، فرأت وجوه صافيناز ورشدي وفايزة ينظرون لها كأنهم أشباح مخيفة تطاردها شعرت بالخوف يتسلل إلى قلبها وعقلها.
سليم بقلق وضيق: لسة بتسمعي صوت الصفارة ده؟
لكنها لم تكن تسمعه، كانت تستمع فقط لأصوات هؤلاء الوحوش الذين لم يتركوها لحظة.
ناداها سليم مرة أخرى: ماسة، بتبصي وراكي ليه؟
نظرت له فجأة بضعف وخوف، وبحركة تلقائية، مدّت يديها وضمّته أحاطت عنقه بيد، دفنت رأسها بين حنايا رقبته، واليد الأخرى تلف خصره.
سليم لم يتحرك في الوهلة الأولى، عيناه فقط تحركتا بإستغراب ثم رفع يديه واحتواها بذراعيه بحنان
كانت تشعر بالأمان فقط في حضنه لكن الخوف مازال يعصف بها.
همست بصوت مرتجف بعينين ترقرقت بالدموع: على فكرة في شعور تاني أقصد ثالث، أصعب كمان صعب أوي.
ضيّق سليم عينيه ولم يرد.
أكملت باهتزاز في صوتها، وهي تشد ذراعيها عليه كأنها تريد أن تحتمي به من الخوف، من هؤلاء الذين يقفون خلفها، وتستمع لأصواتهم:
الخوف شعور الخوف ده، وحش أوي أسوأ حاجة ممكن حد يتعرض لها أسوأ حتى من الصرخة المكتومة جواك، وأسوأ من إنك تتخذل في إللي بتحبه، أسوأ من كل حاجة إنك تفضل خايف، حياتك كلها كابوس بيخنقك.
أبعدها سليم قليلًا، وهو يحتوي كتفيها بكفيه، نظر لها وسأل بتعجب: خايفة وإنتي جنبي؟ خايفة من إيه؟ مين مخوّفك يا ماسة؟
ماسة سكتت، لم تعرف كيف ترد، لكنها وجدت نفسها تنظر في عينيه وتقول: إنت الشخص الوحيد إللي عمري ماخفت منه، أو خفت وأنا معاه.
نظرت خلفها باضطراب مرة أخرى، فرأت صور رشدي وصافيناز وفايزة مجددًا فيبدو أنها لم تعد فقط تسمع أصواتهم، بل أصبحت تراهم.
اقتربت منه من جديد، احتضنته مرة أخرى، وضعت رأسها على صدره، وهمست: زي ما قلتلك يا سليم أنا مابحسش بالأمان غير جوّة حضنك.
ضمّها سليم أكثر وقال بحب متعجباً: وده إللي مش قادر أفهمه، بتحسي بالأمان في حضني، طب ليه بعيدة؟ ليه معيشانا في العذاب ده؟
ماسة ابتعدت عنه، وهي تمسك كفّه وتقول بهروب حزين، بوداع مبطن: خلاص يا سليم، فاضل مادتين. كلها عشر أيام.
ابتسم سليم إبتسامة مريرة: وبعد العشر أيام؟ هتيجي تقوليلي أنا عايزة أبعد تاني، عايزة أطلق؟
ابتسمت ماسة ابتسامة حزينة لم تصل إلى عينيها، وقالت بصوت مبحوح: لا مش هقول كده وعد، مش هقول.
سليم تنهد بتعب: وأنا مستني.
نظرت له ماسة، وضعت كفها على وجهه، تحاول أن تشبع عينيها من ملامحه قبل أن ترحل قالت بصوت ناعم: تصبح على خير يا سليم ميرسي على الهدية وإنك لسه فاكر.
سليم بحب يخرج من عينيه العاشقتين لتفاصيلها لكن لم يخفى الحزن منهما: مستحيل أنسى أسعد أيام حياتي، اليوم إللي فيه حياتي كلها اتغيرت واتجوزت أحلى ست في الوجود.
مدّ يده وسحب كفّها، ووضع شفتيه عليها، وعيناه تحدّقان في ملامحها بصمتٍ عميق. ثم ابتعد وهو يتنهّد بثقل.
همّت بالابتعاد، لكنه جذبها من يدها وضمّها إلى صدره بقوة، وطبع قبلة طويلة على رأسها، وبقي على حاله لحظاتٍ دون حراك.
ثم أبعدها قليلًا، وتبادلا النظرات، نظراتٍ امتزج فيها الحب بالعتاب والوجع، أقترب منها ثانية، ووضع قبلة طويلة على عينيها، وفجأة، انخفض إلى شفتيها، وتبادلا قبلة عميقة، شوقها حار، ولهيبها أذاب كل تماسكٍ بينهما، كأنهما يرويان ظمأ سنوات.
مرّت الدقائق وهما كذلك، إلى أن ابتعدت ماسة فجأة كمن لُسِع، أنفاسها متلاحقة، وصدرها يعلو ويهبط بشدة، أما هو، فظلّ يحدّق بها في دهشة، فقد كانت قبل لحظات بين ذراعيه كوردةٍ تحتمي بغصنها ماذا حدث.
أشاحت ماسة بنظرها بعيدًا وأعطته ظهرها، لم تنطق بشيء، فلا كلمات تصلح الآن يكفي ما فعلته
تنهد سليم بتعب ومرارة، مسح وجهه بكفّيه، وغادر الغرفة بصمتٍ دون أن ينطق بكلمة.
دخل غرفته وأغلق الباب أخذ يضرب الجدران وكل ماوصلت إليه يداه، صرخ قلبه بصمت مزقه الغضب، الحزن ينهشه والحيرة تتلف أعصابه فهي كانت بين يده الان ناعمة شعر بمحبتها بشتيقها تريدة كما يريدها لكنه لا يعرف ما أصابها فجاة لكنه غاضباً بشدة وقلبه يحترق.
أما ماسة، فعادت إلى الأرض جلست وهي تضم نفسها تبكي بصمت، كما اعتادت دومًا، لكن هذه المرة كان الشعور مختلفًا، المكان من حولها بدا كـ بيت مهجور يعجّ بأشباح يطاردونها بلا رحمة، كل زاوية فيه تعجّ بالكوابيس والذكريات المؤلمة.
بعد وقت لم تستطع أن تحدد ما إن كان ساعات أم دقائق، نهضت من مكانها تشعر بألمٍ يلف جسدها، جلست على الفراش، أمسكت باقة الورد، قربتها من أنفها، واستنشقت رائحتها بعمق.
أغمضت عينيها، وغاصت في أحلامها الوردية، تلك الأحلام التي تحيا فيها ذكرياتها الجميلة مع سليم، تتذكره وكأنها تعيش شهر عسلها الآن، تلك السنة التي كانت من أسعد سنوات عمرها، الأيام التي كان فيها كل شيء بسيطًا وسعيدًا تلك القبلة العاشقة التى كانت على وشك تسقطها في حفرة.
فتحت عينيها ببطء، وضعت الباقة بجانبها، ثم مدت يدها نحو الهدية الملفوفة بشريط فيونكة أنيق فتحتها، فوجدت داخلها علبة صغيرة، فتحت العلبة، لتجد بلورة زجاجية شفافة، تحتوي على مجسم صغير لبيت.
شغّلت البلورة، فانبعثت منها موسيقى حالمة والوان مبهجه، ودار البيت من الداخل، ثم انفتح ليخرج منه تمثالان صغيران يرقصان وهما يضمان بعضهما البعض.
تجمّدت عيناها بدهشة… التمثال الأول يُشبه سليم، والثاني يُشبهها هي.
قالت في سرها: ده أكيد معمول مخصوص لينا!!
كان الثلج الصغير يتراقص حولهما، ثم أغلق البيت مجددًا، ودخلا داخله، ارتسمت على وجهها ابتسامة طفولية نادرة، لم ترها منذ اليوم الذي عرفت فيه حقيقة سليم.
وضعت يديها على قلبها، وقد شعرت بشيء يتحرك بداخله.
وجدت ورقة صغيرة ملونة، مكتوبة بخط يد سليم. أمسكت الورقة بيد مرتجفة، بعينين اغرورقتا بالدموع وقلب يعصفه الوجع، قرأتها بلسان سليم.
الرسالة 👇
“البيت اللي جوه البلورة ده هو بيتنا، زي ما اتمنيناه بسيط، دافي، ودايمًا في حضن بعض، وهتفضلي إنتِ بيتي وكل دنيتي، ومفيش أي حاجة هتبعدنا عن بعض، ومفيش أي حاجة هتغير حبنا، أنا واثق في ده، يمكن الحياة بعدتنا شوية يمكن الزعل غيرنا، بس إنتي جوا قلبي، لسة نفس البنت إللي كنت بصحى على صوت ضحكتها، وإللي بشوف سعادة الكون من عينيها، وبأعشق كل حاجةوفيها، بحبك يا قلب سليم وهفضل أحبك لحد ماموت، كل سنة وإنتي طيبة يا قطعة السكر الحلوة إللي محلية حياتي، عيد جواز سعيد يا عشقي الأبدي، يا صاحبة أحلى عيون في الكون. عقبال عيد جوازنا الـ 100
سليم 💘
لم تكن كلمات كثيرة، لكنها كانت كافية لتجعل قلبها ينكسر، شعرت وكأنها تسمع صوته وهو يتفتت داخلها، يتكسر غصبًا عنها، احتدت أنفاسها، وأهتز جسدها، وكأن روحها تحترق، ثم بدأت تبكي، تبكي بحرقة لا تنتهي،
تذكرت حديث رشدي…كل أموال سليم حرام.
ضربت بيديها على قدميها بقوة، أمسكت بالبلورة والورد، كانت على وشك أن تُلقيهم أرضًا، أن تنفجر غضبًا، لكن فجأة، توقفت، وكأن شيئًا ما شد يديها وجمّدهمابدا صوت يهمس:
ده آخر حاجة منه، يمكن دي آخر ذكرى هتفضل عندي منه
رفعت رأسها إلى السماء، بعينيها المبللة، وكأنها تحدث الله في صمت: يا رب سامحني أنا مش هرميهم.
وضعت البلورة في شنطتها، تلك التي ستأخذها معها إلى الجامعة غدًا، انتقت بضع ورود، وضعتها داخل كتاب، ثم ضمّت باقي الباقة إلى صدرها، وتمدّدت على الفراش، تحتمي بين أزهارها.
لكنها لم تنم، ظلت عيناها مفتوحتين، والدموع تنهمر منهما، سرحت بخيالها وأخذت تتذكّر كل شيء منذ أن عرفت سليم، وحتى هذه اللحظة.
وبينما هي على هذه الحال، أذَّن الفجر، تنهدت تنهيدة ثقيلة، كأنها تودّع شيئًا داخلها لا تملك له اسمًا، قامت، توضأت، وفرشت سجادة الصلاة.
وقفت بين يدي الله، وبدأت تبكي مجددًا
لكن هذه المرة، لم يكن بكاؤها ضعفًا، بل رجاءً صادقًا:
يا رب ساعدني أهرب، يا رب مايحصلش حاجة، احفظلي أهلي من الشيطان رشدي وأعوانه، أكشف الحق، وخليني أشوف الحقيقة، وشيل من قلبي حب سليم، الحب إللي مخليني ضعيفة، مش قادرة أشوفه غير بالعين إللي بتحبه، خليني أكرهه خليني أشوفه إنسان وحش، خليني أكره ضعفي ده.
ظلت تردد الدعاء، والدموع لا تتوقف.
حتى جاء موعد الامتحان، مسحت وجهها ببطء، ارتدت ملابسها، وأخذت من الخزنة مبلغًا ليس كبيرًا، لكنه يكفيها لتعيش أو لتسير به نحو المجهول، حملت حقيبتها الثقيلة على كتفها… وغادرت إلى الجامعة.
داخل القاعة، جلست طوال الوقت تمسك القلم بين أصابعها، لكنها لم تكن تراجع إجاباتها، بل كانت شاردة تفكر في المجهول: كيف ستهرب؟ إلى أين ستذهب؟ وماذا سيحدث لها بعد ذلك؟ ظلّت تفكر حتى اللحظات الأخيرة للامتحان.
عندما خرجت، كان مكي والحراس في انتظارها. انتظرت قليلاً حتى وصلت سلوى بعد دقائق ثم صعدوا جميعًا إلى السيارات وتوجهوا إلى منزل عائلتها.
فيلا عائلة ماسة الثانية مساءً
في الصالون، جلست مع والدها الذي أصبح يتحرك بعكاز كانت حالته أفضل كثيرًا من قبل، وأثناء حديثهم، قالت سعدية لسلوى: قومي يا سلوى ساعديني عشان نغرف الغدا.
سلوى بملل: أمي، فكّك مني، أنا لسة جاية من الامتحان تعبانة إنت عندك خدامين جوة، جايباهم ليه؟ يشموا الهوا؟
مجاهد بتأييد: عندها حق، ماتخلي الخدامات يساعدوكي.
سعدية باستهجان: يساعدوني إيه يا راجل؟ ما هي بنتك جابتلهم صناديق قد كده، قالتلهم مش عارفة أعملوا إيه وجيبوا إيه.
سلوى بتوضيح: حاجات قديمة عندي من زمان، فقلت أوزعها للمحتاجين حطيتهم في صناديق عشان أوديهم البلد، كلمت خالتي وبعتت عربية تاخدهم أنا كده غلطت يا بابا !! كلامي فيه حاجة؟
مجاهد: لأ، عندك حق، ربنا يجعله في ميزان حسناتك.
ماسة بتصنع: فكرة حلوة أنا كمان هعمل كده، عندي حاجات كتير أوي.
سعدية وهى تنهض: طب أنا هقوم أعمل لكم الأكل، وإنتي روحي شوفي الخدامين دول خلصوا ولا لسه؟ عايزين نخلّص مش هانقعد طول اليوم في الهم ده.
سلوى: طيب تعالي معايا يا ميسو.
ماسة: طيب
صعدت سلوى وماسة إلى الطابق العلوي، كانت الخادمات يضعن بعض الملابس والمتعلقات الخاصة بسلوى في صناديق صغيرة، وكان هناك صندوق كبير أيضًا (يبدو أن هذه هي الخطة التي اتفقتا عليها)
غرفة سلوى
فور أن دخلت سلوى الغرفة نظرت إلى الخادمات غمزت لماسة.
سلوى وهي تلوّح بيديها قالت بضجر: إيه إللي إنتوا بتعملوه ده؟ الحاجات دي كلها تتحط في الصندوق الكبير إللي هناك، الصناديق الصغيرة، هاتتبعت فاضية يلا خلصوا، خالتي كلمتني وقالت العربية ساعة وهتكون هنا. أخلصوا.
إحدى الخادمات: يعني إنتي يا هانم عايزة نفضّي الصناديق دي ونحطهم في الكبير؟
سلوى بحدة: أيوه، أنا ماطلبتش منكم تحطوا الحاجة في الصغيرة. يلا، كل الحاجات تتحط في الصندوق الكبير وتتقفل كويس، تنزلوا بيهم صندوق صندوق، ترصوهم في العربية تحت، وأنا هخلي الحراس يساعدوكم.
اقتربت ماسة من سلوى وسحبتها من يدها بعيدا وقالت بهمس: أنا هقعد شوية، نتغدى، وبعدين هكلم رشدي وأمشي… وبعد كده نبدأ الخطة. لازم أبان قدام بابا وماما إني ماشية من هنا.
سلوى بقلق: هاتعمليها إزاي دي؟
أثناء ذلك استمعتا لصوت سعدية وهي تقول: انزلوا يلا.
ماسة بتوضيح: عادي، بعد الغداء، هقعد شوية وبعدين هخرج قدامهم من الباب، وبعد كده ألف في الجنينة، وأدخل من باب المطبخ أغير اللبس وأمشي.
سلوى تنهدت بتعب: معرفش إيه أفلام الأكشن إللي إحنا بقينا فيها دي؟ منك لله يا رشدي! حسبي الله ونعم الوكيل فيك إنت وأمك.
ماسة: خلينا ننزل بس.
وبالفعل، نزلتا للأسفل وجلستا على السفرة. بدأ الجميع بتناول الطعام وتبادل الأحاديث ثم توجهوا إلى الصالون واحتسوا الشاي وتناولوا بعض الفاكهة.
جلست ماسة وسط عائلتها، تحاول أن ترسم ابتسامة باهتة، بينما في داخلها كانت دقات قلبها تُحصي الثواني.
رفعت نظرها نحو والدها: أنا ماشية يا بابا اتأخرت.
نظر إليها مجاهد، وفي عينيه مزيج من الرضا:
ربنا يسهّلك يا بنتي ويهديكي.
سعدية بصوت مبحوح: يومين كده وهجيلك.
هزّت ماسة رأسها بإيجاب بعين مشتتة خائفة: ادعيلي يا ماما بالله عليكي.
سعدية وهي تكتم دموعها: بدعيلك والله يابنتي.ربنا يصلح حالك ويهديكي ويسعدك ويسهل أمورك.
هزّت رأسها بهدوء، ثم قامت تتحرك بخطوات ثابتة نحو الباب.
لحقت بها سلوى، وتحركتا في الجنينة مثلما اتفقتا، كأنهما تتجولان بلا هدف، كانت نظرات مكي تتبعهما.
سلوى بصوت خافت: أنا سيبالك شنطة فيها لبس ومكياج في حمام الخدامين زي ما اتفقنا.
ماسة بتنييه: تمام… الأهم تشغلي مكي، خليه يشك إن الصندوق الكبير فيه حاجة.
سلوى بقلق: خدي بالك من نفسك يا ماسة.
تمتمت ماسة بتوتر: ادعيلي خايفة أوي
سلوى بتمنى: يا ريت كان فيه حل ممكن أقدمهولك بس مفيش، إنتي بتضحي بنفسك وبحياتك عشان تنقذينا وأنا واقفة متكتفة مش عارفة أعمل حاجة
ماسة بتنبيه: الحاجة الوحيدة إللي لازم تعمليها إنك تسكتي وتحفظي السر، لازم تعرفي إنك بتحافظي على حياتكم بكتمانك للسر، ولما سليم ييجي يسألك لإن أنا متأكدة إنك أول واحدة هيسألها لإنه عارف إن سرنا مع بعض،ماتتكلميش تفضلي تقولي ماعرفش وبس، تليفوني إللي معاكي ده لازم تكسريه وتتخلصي منه لأنه أكيد هايفتش المكان، أنا هبقى أطمنك عليا بمعرفتي.
صمتت لحظات ثم ابتلعت غصتها المرة وقالت: هدخل دلوقتي عشان مش عايزة أمشي بالليل زي المرة إللي فاتت، تعالي معايا وبعدين أخرجي من الباب الرئيسي.
هزت رأسها بإيجاب وسارتا معًا في الحديقة حتى وصلتا إلى الجزء الخلفي، مرّتا من أمام الحراس دون أن تثيرا أي شك، ثم دخلتا من الباب الخلفي المؤدي إلى المطبخ.
المطبخ
كان المطبخ خاليًا من الخدم كما نعلم أن سلوى أشغلتهم في فض الصناديق ووضع ما بها في صندوق الكبير.
ماسة بخطة مرسومة: سلوى، إنتي اظهري قصادهم عادي، وبعدين اتعصبي واسألي الخدامة قدام ماما: خلصتوا ولا لسه؟ لما تقولك “لا”، قولي بعصبية: ليه كل ده؟ اطلعي!”
وزعقي على البوابة، أول ما يقربوا بالصندوق الكبير، قولي بتوتر: “خلي بالكم، كأنه فيه حاجة بتتكسر. خلي مكي يشك، وحاولي تثيري انتباهه فاهمة؟
سلوى بتوتر: طيب، ماتخافيش.
ماسة بتحذير: استني مني رنة علشان نبدأ الخطة، أول ماتسمعي خبر إن سليم عرف تعرفيني واتخلصي من التليفون أوعي تنسي.
سلوى بحزم: حاضر ماتخافيش والله.
نظرت ماسة لإسورة التتبع التي في يدها خلعتها خلي الإسورة دي معاكي.
سلوى مسكتها: ماشي.
تبادلتا النظرات بتوتر وخوف وحزن، ثم ضمتا بعضهما بوداع لدقائق و دموع ساخنة..
ثم خرجت سلوى إلى الصالون وهي تمسك طبق حلويات.. كأن شيئا لم يكن.
كان الخدم منشغلين بإنزال صناديق قديمة من الطابق العلوي مع الحراس ووضعها في عربية نصف نقل.
سعدية وهي تشير بيديها: ما كانش لازمته دلوقتي ده، كنتي استني لما تخلصي امتحانات.
سلوى وهي تجلس: معلش يا ماما كده أفضل، بعد كده هنشغل في حوارات الجواز.
على إتجاه آخر
دخلت ماسة حمّام الخدم بسرعة، فتحت الشنطة التي أعدّتها لها سلوى.
أخرجت مستحضرات التجميل: بدأت تضع كحلًا أسود ثقيلًا في عينيها، بودرة داكنة، عدسات سوداء، حسنة مرسومة بجانب الشفاه، رسمت حاجبيها بثقل
ارتدت عباءة سوداء فضفاضة، وطرحة ملفوفة بشكل عشوائي، ونظارة شمسية كبيرة تخفي ملامحها تمامًا.
رشّت على نفسها عطرًا رخيصًا، ومسحت أي أثر للعطرها المميز الفاخر الذي كانت تضعه.
نظرت لنفسها في المرآة لم تعد “ماسة” بشكل كبير، بل إمرأة أخرى إلى حدّ ما.
اتصلت برشدي: أنا خلصت، هخرج دلوقتي.
أتاها صوت رشدي من إتجاه آخر حيث كان يجلس في قاعة بلياردو ويقوم بضرب الكرات:
بنبرة ثابتة: أركبي ميكروباص، وإنزلي عند موقف رمسيس.
ماسة بتوتر: هو إنت مش هتبقى معايا؟
رشدي بصرامة: لا يا حبيبتي، سليم أكيد هيراجع الكاميرات. لو ظهرت جنبك هنتفضح هروبك لازم يبان منك لوحدك.
ماسة بصوت مبحوح: أنا خايفة يحصلي زي المرة إللي فاتت.
رشدي بحدة ناعمة: ما تقلقيش، هتركبي ميكروباص فيه ناس… وطول ما انتي معايا على التليفون، مش هتضيعي. بلاش تقلعي هدومك، خليكي لحد ماتوصلي بالعابيه.
أغلقت ماسة الخط، وهى تضغط على اسنانها: ربنا ياخدك يا حقير.
ثم اتصلت بسلوى: أنا خارجة دلوقتي يلا.
اغلقت الهاتف وضعته في جيبها وأخذت انفاسها
وخرجت بخطى بطيئة، منحنية الظهر كأنها عجوز، ومرت بجوار الحراس دون أن يلتفتوا لها.
في نفس اللحظة، كان مكي يقف يشاهد الصناديق.
اقتربت منه سلوى غاضبة: إنتو لسه مخلصتوش؟ الصندوق الكبير ده شيلوه بالراحة
مكي معلقاً: ويشيلوه بالراحة ليه؟ في إيه خايفة عليه يتكسر.
سلوى بتلعثم: وإنت، وإنت مالك؟
نظر للصندوق وقالت بتصنع كبير: ما تاخدوا بالكوا بقى، هو إنتم أغبياء.
مكي وهو يقترب ويشير بيده بشك: أفتحلي الصندوق ده.
حاولت سلوى منعه: ماتفتحش حاجة!
مكي بشدة: أنا من حقي أشوف كل حاجة بتخرج من هنا أفتحلي كل الصناديق
وقفت سلوى أمام الصندوق: لا، مش من حقك تشوف حاجة بتدخل أو بتخرج من هنا! ماتفتحش حاجة إنت وهو سامعين.
نظر لها مكي بغضب: بعد إللي عملتيه إنتي وأختك، لازم أفتش… وإللي بتعمليه ده بيأكد إن فيه حاجة غلط.
سلوى بإستهجان: غلط إيه؟ بطل هبل! الصناديق دي فيها حاجات خاصة!مكي ما تفتحش الصندوق من فضلك.
مكي بشدة: سلوى أوعي!
دفعت سلوى صدره: لا، مش هاوعى!
في تلك اللحظة، مرّت “ماسة” من خلفهما بخطوات هادئة، متنكرة كخادمة، وقالت بلهجة فلاحية وهي مغيرة صوتها:
أنا ماشية يا ستي هروح أجيبلك إللي إنتي عايزاه.
نظرت لها سلوى بلا رمشة: طيب يا نوال، متتأخريش بس.
عدّت من البوابة وسط الزحمة، ولا أحد شك فيها، الجميع كان منشغلًا مع سلوى وطريقتها بينما مكي ركز النظر في ملامحها.
صرخ مكي فجأة: أفتح الصندوق ده حالًا!
وبالفعل فتح الحراس الصندوق، لم يجدوا سوى ملابس قديمة وبعض المستلزمات الخاصة.
سلوى بضيق مصطنع: شفت بقى؟ إيه إللي بتعمله ده؟
تمتم مكي متعجباً: إصرارك هو إللي شككني، عملتي كده ليه؟
سلوى وهي تستدير: مش هبررلك… عن إذنك.
مكي بشك: ماسة فين؟
سلوى ببرود: جوه… هاتكون فين يعني.
أسرع مكي وأخرج هاتفه، ليراجع تحركات ماسة عبر إسورة التتبع، فوجدها ساكنة على الأريكة في الصالون… لم يدرك أنها خدعة.
على إتجاه آخر في الشارع الخامسة مساءً
في الشارع، كانت ماسة متوقفة على الرصيف، قلبها يدق بجنون والخوف متملك منها.
أوقفت ميكروباصًا، وصعدت مسرعة، ثم اتصلت برشدي.
بصوت خائف:. أنا في الميكروباص أهو… أعمل إيه؟
رشدي بهدوء: هتاخدي تذكرة لأول قطر رايح مرسى مطروح…معاكي فلوس؟
ماسة: آه، معايا.
رشدي: تمام، لما تركبي قوليلي.
أغلقت الهاتف، وقلبها لا يزال يقرع كطبول الحرب… لم تكن تعرف إلى أين تقودها تلك الرحلة، لكنها تشعر برعب يكاد يوقف قلبها.
في نفس اللحظة، في فيلا عائلة ماسة،
دخلت سلوى الصالون، وجدت الإسورة على الأريكة أمسكتها، فكرت للحظات، ثم بدأت تتحرك بها في أرجاء الفيلا.
دخلت الحمام بها لدقائق، ثم خرجت وجلست على الأريكة، بينما كان مكي يتابع تحركاتها عن طريق الهاتف
لم يعرف أن كل تلك الحركات مجرد تمويه، وأن “ماسة” صارت الآن خارج أسوار الفيلا تمامًا.
فى الحديقة
كان مكي جالسًا في الحديقة، يدخن سيجارته بصمت الهواء يمر على وجهه، وعيناه شاردتان في الفراغ قلبه غير مطمئن، شيء ما بداخله يهمس بأن هناك خطبًا ما… لكنه لا يستطيع تحديده.
تقدمت منه راوية بهدوء وقالت بصوت منخفض: مكي… ماسة هانم هتتأخر.
نفث مكي نفسًا طويلًا من السيجارة وأجاب: مش عارف، هشوف.
رمى السيجارة على الأرض، دهسها بطرف حذائه، ثم نهض بخطوات ثقيلة وأتجه نحو الفيلا. فتحت له الخادمة الباب بصمت، وتحرك إلى الداخل.
في الصالون
كان مجاهد، وسعدية، وسلوى يجلسون. نظر إليهم مكي، وعيناه تنتقلان بينهم ببطء، سأل بصوت هامس:فين ماسة؟
سعدية رفعت حاجبيها بدهشة: هو إنت مامشتش مع ماسة؟
توقف الزمن داخله للحظة، واتسعت عيناه، قالها بصدمة: ماسة إيه؟
أنزل نظره إلى الهاتف الذي يحمله، تفقد تطبيق التتبع… الإشارة قادمة من مكان سلوى.
تحرك مكي فجأة نحو سلوى، اقترب منها بخطوات ثابتة، لكنه تحكم في انفعالة
صوته خرج هادئًا حادًا: سلوى… من غير صوت عالي ومشاكل، ماسة فين؟
سلوى انسحبت قليلًا، ارتبكت، وقالت بتوتر: ماعرفش…هي خرجت وقالت إنها ماشية.
رمش مكي ببطء قائلا بغضب: إنتِ عايزاني أصدق إنك ماتعرفيش راحت فين؟!
مجاهد متعجباً: إنت بتتكلم كده ليه يا مكي خير؟!
لكن مكي لم يسمعه، لم يرَ أحدًا غير سلوى. رفع يده في وجهها وأشار بغضب: إللي إنتي عملتيه ده غلط كبير..ده كارثة!
سلوى محاولة الدفاع عن نفسها، صوتها كان عالي : أنا مش عارفة إنت بتتكلم عن إيه… أنا أصلاً لسه واخدة بالي إنك لسه هنا!
نظر مكي إلى يدها، ولاحظ الإسورة أمسك بها فجأة، وقال بنبرة ساخرة: فعلاً ماتعرفيش مكانها ولسة واخدة بالك.
صاح بها بصوت رجولي خشن: إنطقي يا سلوى… ماسة فين؟ قبل ماتحصل كارثة!
نظرت إليه سلوى بثبات، عيناها جامدتان: أنا بقول لك ماعرفش هي خرجت قدامنا كلنا، وقالت إنها رايحة على بيتها.
سكت مكي لحظة صمت مرّت كأنها دهر. في رأسه بدأت الصور تتلاحق: صناديق، خادمة غريبة، وسلوى التي حاولت منعه من تفتيشها وكأنها كانت تحاول لفت انتباهه. تذكر صوت الخادمة وهي تتحرك خلفه.
رفع يده وضرب جبهته، وتمتم: الخدامة… ماسة كانت الخدامة.
صرخ في نفسه: غبي!
ركض بسرعة إلى الخارج.
في الداخل، اقتربت سعدية من سلوى، ملامحها تعج بالقلق: فيه إيه؟ ماسة راحت فين؟
أجابت سلوى بجفاء: ماعرفش يا ماما..ما هي خرجت قدامكم أنا مالي؟
مجاهد تدخل بصوت مرتجف: لو تعرفي حاجة قولي… ما تسيبناش تايهين كده!
سلوى بغضب: هخبي إيه؟! أنا قاعدة قدامكم! أنا كمان قلقانة.
توقف مجاهد ونظر إلى سعدية: كلمي البت.. شوفيها راحت فين.
أمسكت سعدية الهاتف بسرعة: لأ… هكلم سليم.
مجاهد تحرك نحوها: لأ! ماتكلميش حد دلوقتي، نفهم الأول، بلاش نعمل مشكلة.
سعدية: طيب وبالفعل اتصلت بماسة،لكن هاتفها مغلق: مقفول، يا بنتي يا سلوى، لو فيه حاجة قولي!
سلوى ردت بضيق مصطنع: يووه!قلتلكم ماعرفش حاجة.
تركتهم ودخلت الحمام، أغلقت الباب وفتحت الماء كي لا يُسمع صوتها.أخرجت من جيبها الهاتف الذي أعطته ماسة لها قامت بالاتصال بها.
رفعت السماعة بصوت منخفض: أيوه يا ماسة، إنتي فين؟
أتاها صوت ماسة مرهقًا، يتردد صداه وسط ضوضاء محطة القطار: لسه داخلة محطة القطر يا ستي هركب قطر بيروح مرسى مطروح.
سلوى متعجبة: هتعملي إيه في مرسى مطروح؟!
ماسة باستهجان: الزفت ده قال لي أوصلي بس، وهقولك تعملي إيه…
سلوى: طيب بقول لك إيه مكي عرف خلاص إنك خرجتي… خدي بالك، ممكن يوصلك في أي لحظة انا هقفل التليفون أبقي طمنيني لما توصلي.
ماسة بقلق: طب أقفلي، أقفلي، عشان أكلّمه.
أغلقت ماسة الخط توقفت فى وسط المحطة. ضغطت الأرقام بيدين مرتجفتين واتصلت برشدي بعد ثواني رد: أيوه يا رشدي، أنا في المحطة ها روح أقطع التذكرة، مكي عرف إني خرجت، افرض ميعاد القطر لسة بدري أعمل إيه؟
رشدي متجمداً: شوفي أي قطر غيره طالع دلوقتي وأركبيه… ومن المحطة إللي هتكوني فيها، خدي من هناك لمرسى مطروح يلا إنجزي.
ماسة بقلق: حاضر حاضر.
تحركت حتى اقتربت من شباك التذاكر، وقلبها يدق بعنف
ماسة: لو سمحت، عايزة تذكرة لمرسى مطروح بس بسرعة.
الموظف: القطر بيطلع الساعة 11بالليل يا أستاذة.
ماسة بخوف: 11؟! لأ أنا عايزة حاجة طالعة دلوقتي، أي مكان، المهم أوصل مرسى مطروح.
الموظف: بصي يا بنتي، ممكن تطلعي قطر إسكندرية، طالع كمان 10 دقايق ومن هناك خدي مطروح.
ماسة: ماشي اروح إسكندرية.
دفعت النقود، أخذت التذكرة، وسألت عن رصيف القطار، ثم أسرعت إليه. جلست على المقعد، تنظر إلى ساعتها كل دقيقة، تدعو الله أن يتحرك القطار قبل أن يصل إليها مكي.
اتصلت برشدي مرة أخرى: أيوه يا رشدي، أنا في قطر إسكندرية، خلاص، هروح من هناك مرسى مطروح.
رشدي: جميل ماتروحيش بقى بقطر روحي بعربية بقولك إيه… نصيحة، غيري اللبس إللي إنتِ لابساه.
ماسة برفض قاطع: مش هركب عربيات تاني، لما أوصل هيبقى نص الليل القطر أأمن.
رشدي: أسمعي الكلام.
ماسة بضجر: لما أوصل إسكندرية، نبقى نشوف سلام.
أغلقت الهاتف، وأراحت رأسها على الزجاج، تدعو أن تمضي الدقائق سريعًا.
على إتجاه آخر في فيلا عائلتها
كان مكي يقف أمام الكاميرات، صاح بالحارس: افتحلي تسجيل الكاميرا من نص ساعة بسرعة!
ظهر التسجيل، ماسة تخرج مرتدية كالخادمة:
عايز كاميرات الشارع… إللي بعد الفيلا!
وبالفعل شاهدوا ماسة تتحرك في الشارع لكنها اختفت قال الحارس: لحد هنا وخلاص… مافيش كاميرات تانية.
مكي: خليك هنا.
خرج مكي. كان الحراس متوقفين: معايا يلا… هانشوف باقي الكاميرات إللي في الشارع لحد مانعرف ماسة راحت فين وركبت إيه.
راوية بصدمة: هي ماسة مش جوة؟!
مكي: هربت.
راوية بذعر: يا خبر إسود!
صاح مكي بها: مش وقت ندب.. يلا..
هرولا للخارج، وبالفعل انتشروا في المكان وبدأوا يتفحّصون تسجيلات كاميرات المحال والفيلات واحدة تلو الأخرى، حتى عثروا أخيرًا على كاميرا مثبتة في نهاية الشارع، تُظهر ماسة واقفة على الرصيف، تنتظر ميكروباص.
مكي: قربلي الصورة… عايز رقم الميكروباص!
امتثل الفني لطلبه، وقرّب له الصورة بقدر الإمكان.
أمسك مكي بورقة ودوّن الرقم بسرعة، ثم تحرّك نحو الباب قائلًا لراوية دون أن يلتفت: ماحدش يعرف سليم حاجة.
ركب سيارته بسرعة، وأثناء القيادة أرسل الرقم إلى أحد معارفه في الشرطة، طالبًا منه تتبّع المركبة.
وصلته الرسالة بعد دقائق: العربية دي بتوصل لرمسيس… تابعة للموقف هناك.
اتجه مكي فورًا إلى هناك، وبرفقته راوية وعدد من الحراس. وما إن وطأت قدماه المكان حتى صرخ بصوت جهوري هزّ الأرجاء:
دوروا عليها في كل مكان… دوروا على السواق ده!
صورهم معاكم على التليفونات، يلا… بسرعة!
بدأوا على الفور في سؤال السائقين وأصحاب المحلات المارة عن ماسة، لكن دون جدوى، دقائق مرت وكأنها دهر، حتى ظهر أحد الحراس يصطحب رجلاً تبدو على وجهه علامات القلق.
وقف أحد الحراس، وأشار إلى رجل يقف بالقرب من الميكروباص قائلاً باقتضاب: السواق، يا مكي باشا…
تقدّم مكي بخطوات سريعة نحو السائق، مدّ الهاتف أمام وجهه دون مقدمات، وحدّق فيه بعصبية:
أنا هسألك سؤال وتركّز فيه… شايف البنت دي؟
أظهر له صورة لماسة وهي ترتدي ملابسها التي هربت بها، وقد التقطتها الكاميرا وهي تنتظر على الرصيف. نظر السائق إلى الصورة وقد ارتسم التوتر على ملامحه.
تابع مكي بهدوء: هي ركبت معاك النهارده من حوالي ٤٠ دقيقة؟ شفتها
السائق وهو يشيح ببصره قليلاً: والله يا باشا ماشفتها… أصل أنا بركز على الأسفلت.
زفر مكي بضيق، ثم قال بصوت هادئ يخفي بركانًا داخله: ركز تاني…؟ ما خدتش بالك منها لمحتها؟ بص في الصورة دي كويس… طب استنى.
بدأ يقلب الصور في هاتفه حتى وصل إلى صورة لماسة بملامحها طبيعية، ثم مد الهاتف مجددًا نحوه:
خليك في دي… ركّز.
تأمل السائق الصورة لعدة ثوانٍ، ابتلع ريقه، وتمتم بصوت خافت: والله يا باشا، أنا ما ببصش على الركاب… أنا ببص على الطريق، والله ما شفتها، لو شفتها ها أقولك.
حاول مكي كتم غضبه، وشدّ على أسنانه: حاول تفتكر أي حاجة… طب في ست نزلت في وسط الطريق؟
هزّ السائق رأسه بعشوائية وقال بارتباك: والله فيه زباين نزلت وطلعت… ستات ورجالة… يا باشا الطريق طويل، ده أنا جاي من أكتوبر فوق.
لم يُجبه مكي، بل أشار له بالإنصراف في صمت. تراجع السائق بخطوات مترددة، فيما بقي مكي واقفًا في مكانه، يداه متدليتان، ونظره شارد، العالم من حوله يتهاوى، كل شيء تهاوى من بين يديه، وكأنه تائه في صحراء لا نهاية لها.
اقتربت منه راوية، وضعت يدها على كتفه وقالت بصوت خافت:
لازم نقول لسليم بيه إنها خلاص هربت إحنا حاولنا نداري، بس مش هاينفع نداري أكتر من كده إحنا مش عارفين يمكن ركبت عربية وسافرت، يمكن قطر، يمكن نزلت في وسط الطريق… لازم ندور على الكاميرات في كل مكان ممكن تكون راحت له، وده محتاج وقت، ومتهيألي لو طولنا أكتر من كده وماقلناش لسليم بيه، هاتبقى مصيبة، انت حاولت يا مكي، بس ماوصلناش.
مكي بصوت مبحوح: دي كارثة، كارثة! سليم مش،هيسامحني ومش هايرحمنا، ولا هايرحمهم، ولا هيرحمها هي، هي كده خلاص. فرصها خلصت، كل أبواب الصبر عنده اتقفلت. أنا عارف سليم… عارفه كويس.
طمأنته راوية: هنوصل لها، مادام الكاميرات جايباها هنعرف نوصل إسماعيل ممكن يساعد، وأنا أعرف ناس يقدروا يوصلوا لمعلومات.
مكي بقلق: أنا متاكد إننا هانوصل لها، أنا بس خايف من إللي جاي، ورد فعل سليم لما يعرف، بس فعلاً لازم أكلمه
تنهد بتعب، ثم أشار لها: تعالي، تعالي كده على جنب.
تحرك ببطء، واقترب من أحد الحراس، ثم أخذ هاتفه، واستعد للاتصال بسليم.
محطة القطار السادسة مساءً
القطار.
مازالت ماسه تجلس على المقعد تسند رأسها علي النافذة تحدق في السكة الممتدة أمامها كأنها تنتظر شيئًا لا تدري ملامحه، يديها على قدميها، لا تتحركان، بينما أنفاسها متسارعة، وعيناها لا تفارق عقارب الساعة في هاتفها.
كل ثانية تمر كأنها عام، وكل تأخير في إنطلاق القطار كأنه إعلان بالهلاك. أخيرا تحرّك القطار.
وهنا زفرت ماسة براحة: الحمدلله الحمدلله، يا رب… يا رب خليني أعرف أكمّل، قويني يارب..
همست بها لنفسها، وارتجف صوتها أول مرة تشعر أن شيئًا ما يبتعد، أن جدارًا من الحزن انكسر ولو قليلًا. لكنها رغم ذلك، لم تكن تعلم إلى أين تتجه، وماينتظرها.
أنا رايحة فين؟ هعمل إيه؟ طب بعد كده؟
تساءلت في سرّها، تحاول أن تسمع نفسها لتجد جوابًا، فلا تسمع سوى الصمت.
ظنت أن هذه الرحلة ربما تكون نهاية الألم، وربما بداية الخلاص، لكنها لم تكن تدري أن الطريق أمامها ليس طريق نجاة… بل بداية لعاصفة جديدة.
مجموعة الراوي، السادسة مساءً
مكتب سليم
جلس سليم خلف مكتبه، وعيناه تتنقلان بين الأوراق التي أمامه بتركيز بالغ. إحدى يديه تستند إلى جبينه بإرهاق والأخرى يدون بعض الاشياء.
لم يكن يعلم بعد… أن ماسة قد هربت للمرة الثانية.
على إتجاه آخر عند مكي
كان يتوقف في الشارع راوية والحارس إلى جواره والقلق بادٍ عليه.
الحارس بقلق: يا باشا بلاش نقوله دلوقتي… ده ممكن عقله يطير.
رفع مكي الهاتف إلى أذنه، صوته خرج بالكاد متماسكًا بصعوبة: لازم نقوله… استحالة نفضل مخبيين.
كان يعلم أن هذا الخبر سيكون كارثيًا على سليم.
في الوقت ذاته، رنّ الهاتف على مكتب سليم. سحب سليم نفسًا عميقًا، ثم أجاب دون أن يرفع عينيه عن الأوراق:
إيه يا مكي؟ لسة ماتحركتوش من الفيلا ليه كل ده؟
تلعثم مكي، يحاول السيطرة على صوته المرتعش:
أحم… في حاجة… لازم أقولك عليها.
ضرب سليم القلم فوق المكتب بملل: خير؟ مالها؟ مش عايزة ترجع معاك؟
ابتلع مكي ريقه، قال بتردد: يا ريت كده… بس
سليم بشدة: ماتخلص يا مكي! في إيه؟!
جاء صوت مكي خافتًا، مرتعشًا: سليم، ماسة هربت.
توقف سليم فجأة كمن لدغته صاعقة، اتسعت عيناه، وجحظتا من مكانهما: بتقول إييييه؟! ماسة إيه؟!
حاول مكي أن يشرح، لكنه لم يتمكن من النطق.
ما… ما..
قاطعه سليم بانفجار غضب: إنت هتمأ مأ؟! كنت فين وهي بتهرب؟! ياويلك يا مكي.. لو ماسة ماظهرتش، رقبتك هتكون التمن!
أنهى المكالمة بعنف، وإندفع خارج المكتب كالإعصار.
في الردهة، لمحته فريدة واقتربت منه مسرعة:
في إيه يا سليم؟ مالك؟
لم يجب. دخل المصعد بسرعة، هبط، وأنطلق كالمجنون بسيارته التي تكاد عجلاتها تحطم الطريق .
وخلال القيادة، ضغط على هاتفه: إسماعيل! إنت فين؟
جاءه صوت إسماعيل من غرفة نومه في منزله، حيث يجلس إلى جوار زوجته عبير المستلقية على الفراش، وقد بدا عليها المرض، كان يطعمها بيده.
إسماعيل موضحًا: أنا في البيت أصل عبير تعبانة و…
قاطعه سليم بشدة: أسمع، حالًا تسيب كل حاجة وتدور على ماسة، هربت.
وأغلق الخط دون أن ينتظر ردًا.
تنهد إسماعيل وهو يضع الهاتف جانبًا. نظرت إليه لبنى: ده سليم؟
إسماعيل مندهشا: أها، بيقول مراته هربت.
ضيقت عبير عينها بتعجب: هربت ليه؟ في واحدة تهرب من سليم الراوي؟
تبسم إسماعيل: ماتتغشيش أوي كده، سليم صعب.
عبير بطمع: إسمع، إنت لازم تروح تدور عليها.
إسماعيل متعجبًا: إزاي يعني؟ إنتي تعبانة، هعتذر له.
عبير بنصح: لأ، أوعى. ده اتصل بيك إنت دونا عن الكل دي فرصتك، لازم تستغلها، ولو وصلتلها، هتاخد عينه وثقته، ومكي هيتركن على الرف.
إسماعيل: عبير إنتي تعبانة، أسيبك إزاي؟
عبير بفحيح أفعى: أنا كويسة، ماما هتيجي عندي، إنت يا حبيبي لازم تصطاد فرصتك دي، علشان تقرب من سليم، لما تجيبها أكيد فيها مبلغ كبير وقبل المبلغ فرصتك… لازم تثبت نفسك قصاده وتفهمه إن رجّالته مالهمش لازمة، وإنك إنت رجله الأول، مش مكي إللي ماسة ضربته على قفاه وهربت منه.
إسماعيل هز رأسه وقد طاب له الحديث: عندك حق، لازم أقرب من سليم، لإنه الملك الجديد وسليم مابيديش ثقته لحد بسهولة، هقوم ألبس وأكلم أمك تيجي عندك.
طبع قبلة على جبينها، وتحرك ليبدل ملابسه، قالت له وهي تبتسم: طول عمرك حنين يا حبيبي، إن شاء الله توصلها بسرعة.
أما عند مكي كان يقف في الشارع بعد إغلاق الخط مع سليم، فقد كان يغلي من الغضب، يشعر أن هروب ماسة بسببه لإنه لم ينتبه لها، ولم يقم بعمله على ما يرام، ولم يستحق ثقة سليم.
شعور بالذنب كان ينهشه، تنهد ومسح وجهه، ثم أشار بيده:
يلا، خلينا نرجع الفيلا بسرعة قبل ما سليم يوصل.
صعدوا إلى السيارة وتحركوا فورًا.
أما سليم، فكان يقود السيارة بجنون.
أخذ يضرب دركسيون القيادة بيده، يصرّ على أسنانه، يتنفس كوحش جريح، يهتف بصوت مجروح:
ليه يا ماسة؟ ليه؟ ليه وصلتينا لكده؟ مابتحرميش إنتي مصممة تخرجي أوحش نسخة فيا لييييه؟! ماشي يا ماسة ماشي.
بعد وقت ..
وصل سليم أمام فيلا عائلة ماسة، أوقف السيارة بعنف، وترجّل كالمجنون. كان مكي واقفًا ينتظره، يقطر توترًا.
بمجرد أن وقعت عينا سليم عليه إندفع نحوه كأسد غاضب فك من عقال أسره…
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية الماسة المكسورة)