روايات

رواية يناديها عائش الفصل الثالث والتسعون 93 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش الفصل الثالث والتسعون 93 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش البارت الثالث والتسعون

رواية يناديها عائش الجزء الثالث والتسعون

يناديها عائش

رواية يناديها عائش الحلقة الثالثة والتسعون

“و لأنكِ معيّ أعيشُ السعادة، و لم أعد أتمنىَ شيء؛ لأنكِ أُمنيتيّ الوحيدة .”
~~~~~~~~~~~~~~~
الحُب الحقيقي النقي، مثل البذرة التي تزرعها و ترويها بشغفٍ و حماسٍ؛ لتنمو و تكبُر و تصبح بكامل جمالها.. هكذا هو الحُب، لينمو بطريقته الصحيحة؛ عليك العناية به جيدًا و الاهتمام بكل احتياجاته، و ” كريم ” برغم شخصيته الصعبة في التفاهم و عصبيته المفرطة، لكن عند
” رُميساء” و أمامها بالذات، يرفع راية الحُب و يتراجع في اللحظة الحاسمة عن أي فعلٍ قد يعيق حُبهما القوي، أمامها هي بالتحديد؛ يتجرد من كل معاني التعصب و الانفعال، و يصبح طفلًا حنونًا كل ما يحتاجه هو الشعور بمشاعر الحُب الدافئة الرقيقة، و هي الرقيقة التي سلبت قلبه و جعلته يحكم ضبط أعصابه و انفعالاته، ليس ضعفًا منها !، و إنما حُبًا و تقديرًا لها.
و لضمان نجاح الحُب، وُجب أن يُكلل بالرحمة و المودة، فالحُب وحده لا يكفي لإقامة علاقة قوية، الحُب إذا اقترن و اتصل بالرحمة، جعل الزوجين غاية في التفاهم، فلا يَفْرَكْ الزوج زوجته و العكس..
” كريم ” برغم شخصيته الصارمة، إلا أنه استطاع السيطرة على غضبه، و كبح جماح عصبيته على زوجته قبل الانجراف في طريقٍ قد يودي بهما للطلاق، و هذا هو المطلوب في الزواج لتنجح العلاقة، المقدرة في السيطرة على الغضب و الحد منه قدر المستطاع.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَوْصِنِي، قَالَ: (لاَ تَغْضَبْ) فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ:
(لاَ تَغْضَبْ) رواه البخاري.
وَ قد مدح الرسول صل الله عليه وسلم صفة الحلم و الأناة في الأشج عبد القيس فقال له:
(إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ) رواه مسلم.
وقفت تتابع شقيقتها وهي تقوم بِرَصَّ الأطباق التي تحتوي على الطعام المفضل لدى ” كريم ” على شكل عشاء رومانسي، ثُم أشعلت الشموع الصغيرة و وزعتها على الطاولة بطريقة أنيقة، و التفتت تقول لها بنبرة سارّة:
” لو كريم سألك أنتِ اللي عملتي كل ده، قولي آه.. عشان إما يعرف بالحمل إن شاء الله يكون مبسوط إنه أول واحد عرف، اوعي تجيبي سيرة إني جيت لك يا رُميساء، أصل أنا عارفاكِ مبتعرفيش تخبي عنه حاجة، بس الحاجة دي بالذات لازم تستخبى، شوفي رغم إنك أختي الكبيرة، بس عاوزة اللي يوعيكِ شوية، عشان أنتِ على نياتك خالص. ”
رمقتها رُميساء بتوعدٍ ضاحكةً:
” أنتِ بتغلطي فيا بس بالأدب يعني ! عامةً أنا كُنت هعمل كده فعلًا، بس اللي بفكر فيه دلوقت.. هو شكلي أول ما أشوفه، هيبان عليا إني مخبية حاجة، و أنا وشي مفضوح أصلًا ”
بادلتها شقيقتها الضحك، و أردفت وهي تضع اختبار الحمل الذي قاما بلف ربطة عنق الفراشة عليه، في طبقٍ له غطاء يخفي ما بداخله عن الأعين:
” هو هيجي امتى صحيح ؟ عشان ألحق أمشي قبل ما يوصل ”
” هو قالي كمان نص ساعة و أكون عندك إن شاء الله ”
قالتها وهي تقوم بالاتصال عليه ثانيةً، فأتاها الرد في وقتها يقول باسمًا:
” للدرجة دي وحشتك ! كل خمس دقايق تتصلي ! ”
أحست بالاحراج من اتصالاتها الكثيرة عليه، برغم أن شقيقتها حذرتها من الالحاح عليه في الاتصال؛ حتى لا يتخلل الشك موضع قلبه، فيذهب كل ما
فَعَّلَتَا سُدًى.
ردت بابتسامة مهزوزة:
” أيوه، أيوه وحشتني.. هتيجي امتى بقى ؟ ”
” خلاص يا فراشتي، كلها ربع ساعة و أكون عندك إن شاء الله، بس هَصلي المغرب في المسجد اللي جنبنا قبل ما اطلع، خلاص باقي على الآذان أقل من ربع ساعة ”
قالها باسمًا بكامل اشتياقه لها، في تلك الساعات التي مضت عليه بوزارة الداخلية.
أجابت في همسٍ ملحوظ:
” تيجي بالسلامة ”
أغلقت المكالمة، و التفتت لأختها تقول بخجلٍ:
” لما بسمع صوته بحس إني لسه مكسوفة منه، رغم إن كلها أسبوعين و نكمل خمس شهور متزوجين إن شاء الله، بس بحة صوته بتخليني مكسوفة، عنده نبرة كده فيها كاريزما بتشيب راسي لما بسمعها، و في نفس الوقت بحب أسمعها ”
ابتسمت شقيقتها « سلسبيل» و التي تصغرها بعامٍ، و لكن نضج عقلها و طريقة تفكيرها تسبق بقية شقيقاتها، ربما لأنها تُحب قراءة الكتب الخاصة بالتنمية البشرية و تثقيف المرء.
قالت بابتسامتها الحنونة لأختها:
” كريم بأسلوبه اللي بيتنوع ما بين الصرامة و الحنية و يمتزج بالشخصية القوية مع الناس و الضعيفة اللينة معاكِ؛ خلاكِ تحبيه لدرجة مبقتيش قادرة تتحملي غيابه عنك لمدة ساعة، اللي يقدر يتحكم في غضبه عشان خاطر حد بيحبه، هو ده الشخص الصح اللي تطمني وهو معاه، إحنا كلنا فينا عيوب، بس العيب اللي نقدر نسيطر عليه لأجل عيون الحبيب لو هيسبب له أذى، بيرفعنا لأعلى مكانة في نظر شريك حياتنا، و كريم رغم إنه مهووس بيكِ و تعدى مرحلة الحُب و وصل للعشق الجنوني، لكنه بيجاهد نفسه و بيتحكم في عصبيته عشانك، الشخص اللي يخاف عليكِ حتى من نفسه، هو ده اللي تطمني معاه يا رُميساء ”
أومأت بابتسامة واسعة تؤكد على كلامها، و أضافت:
” عارفة يا بُلبُلة، كنت مفكرة الأول خالص إن الضباط حريقة في السجاير و بيقولوا ألفاظ وحشة و مش بيصلوا، بس لما بدأت أفهم الدنيا شوية شوية، عرفت معنى جملة صوابعك مش زي بعضها، فعلًا مش كل الناس زي بعض، أي مهنة زي ما فيها الحلو فيها الوِحش، و الصلاة مش بس المتدين اللي مفروضة عليه، الصلاة على كل مسلم و ملهاش علاقة بالتدين، بس الصلاة الصحيحة هي اللي بتقربنا للتدين و بتخلينا نتحكم في انفعالاتنا و أسلوبنا مع اللي حوالينا، و كريم ما شاء الله عليه مش أي ضابط، ده مهم جدًا في بلدنا، و رغم إن شغله كتير و ممكن يلتهي فيه، بس منتظم في صلاته و بيحاول إنه ما يهجرش القرآن، و أنا بقول إن الحاجتين دول و الاستعانة بالله، هما اللي ساعدوه يتحكم في عصبيته معايا، مش الحُب بس، الحُب وحده مش كافي، ده غير إني مسمعتش منه لفظ وحش ليا، فَفعلًا صوابع الايد مش شبه بعضها، و زي ما فيه الوِحش في المهنة دي فيه الكويس برضو، أنا بس نفسي اخليه يبطل السجاير، هو قلل منها بس لسه بيشرب.. إن شاء الله ربنا يعيني و اخليه يبطلها خالص ”
” يارب يا حبيبتي، يلا بقى تعالي ابوسك عشان أمشي قبل ما اتقفش ”
قالتها بمرحٍ و سعادة، فالفتاة ستصبح خالة لأول طفل من شقيقتها الكبرى، ثُم ودعتها بعد أن ساعدتها بتزيين غرفة الأطفال ببعض البالونات المكتوب عليها « مرحبًا أبي، قريبًا سنصبح ثلاثة»
وأخرى كُتب عليها« أعلم أنك ستكون أفضل أب»
و جُمل من هذا القبيل.
و بعد ذهابها و مرور عشرين دقيقة، رنّ الجرس، فعرفت في الحال أنه جاء أخيرًا، مما هرولت تفتح له، فتذكرت أنها الآن مسؤولة عن بويضة مخصبة ستبدأ مرحلتها في التكوين لتصبح جنين، لذا عليها التريث و التمهل في خطواتها عن ذي قبل.
فتحت له الباب بعد أن جاهدت في جعل أنفاسها منتظمة، و رسمت ابتسامة ساحرة على وجهها، و قبل أن تنطق بشيء، تقدم نحوها و عانقها باشتياقٍ يقول:
” طب والله وحشتيني في الكام ساعة دول ”
وضعت يدها في كفه، و شدَّته برفقٍ ليسير معها بملامح تقبع علامات الاستفهام عليها من فعلتها، ثُم أمرته بالجلوس على طاولة الطعام قائلة برِّقتها المعتادة:
” قولي رأيك في العشا الرومانسي ده ؟ عملت لك البشاميل اللي بتحبه و ستيك بالصوص البني ”
تأمل الطاولة الأنيقة و الطعام المُرتب بعينين يضوي بريقهما بلمعة الاعجاب، متسائلا:
” تحفة من قبل ما ادوقه، بس شموع و جو رومانسي.. إيه الدنيا ؟! ”
تساءل بجُملته الأخيرة، وهو يستدير لها و يطوق خصرها بحنانٍ مصحوب بالابتسامة الجذابة، فقالت بخجلٍ حاولت إخفائه:
” إحنا لسه عرسان على فكرة، إيه المشكلة لما أعمل كده ! ”
” مفيش مشكلة خالص، بالعكس أنا مبسوط جدًا، بس حاسس إنك مخبية حاجة”
قالها وهو يتفحص وجهها بدقةٍ، جعلتها تخفض رأسها و تفرك أناملها بتوترٍ، ليضيف و عينيه تهبط لتتفحص ما ترتديه:
” حلو التيشيرت اللي مرسوم عليه البيبي ده، بس الأحلى منه، البنطلون الجينز اللي هياكل من عليكِ حتة ”
اتسعت عيناها ترمقه بدهشةٍ، فهي تريد منه التركيز على شيء، وهو بعينيه نصب تركيزه على شيءٍ آخر !
تنهّدت قائلةً بنبرة عالية قليلًا:
” و التيشيرت ده مش بيفكرك بحاجة ؟! ”
غمز لها بابتسامة لعوب، و أردف:
” بيفكرني بإن روح الطفولة لسه موجودة جواكِ، رغم أنوثتك ”
قلبت كفيها على بعضهما بطريقةٍ جعلته يضحك رغمًا عنه و يتساءل:
” في إيه بس ! اتعصبتِ ليه مرة واحدة ؟! ”
تجاهلت ما قاله، و سحبته من يده تجاه غرفتهما لتوقفه أمام خزانة الملابس، و أخرجت له ملابس بيتية، هامسةً:
” غير هدومك على ما أغرف البشاميل، و يلا عشان جعانة ”
بدل ملابسه في محاولة منه للاستيعاب التدريجي لتصرفاتها الغريبة عليها، ثُم خرج يلقي بسؤالٍ جعلها ترمقه في حدةٍ:
” أكيد بقى الطبق اللي أنتِ مغطياه ده، فيه جلاش باللحمة المفرومة ”
” عَدي ليلتك يا كريم ”
لم يستطِع منع نفسه من الضحك، فالأدوار الآن بدأت تنقلب لصالحها، هي تعامله بشراسة و هو مستسلم لها تمامًا.. قال وهو يميل ليضع قُبلة على رأسها يرُضي بها صرامتها:
” حاضر هعدي ليلتي حاضر، بس هو أنا أشرسك فا تتشرسي عليا ! يعني يوم ما يطلع للقُطة مخالب، ترفعها في وش اللي معلمها ! ”
مسحت على وجهها بهدوءٍ تُقلد حركته المعتادة عند التعصب و الانفعال بدون قصدٍ منها، فتعالت صوت ضحكته وهو يقول في انبهار بها:
” و كمان بتقلديني ! يلا و ماله.. فراشتي تعمل اللي هي عايزاه ”
أشارت له بالجلوس باسمةً بحُب، و قالت:
” دوق كده و قولي رأيك ”
” حلو من قبل ما أدوق، تسلم ايدك يا فراشتي”
قالها دون تزييفٍ لقوله، و أخذ كفيها يلثم بهما قُبلة حنونة، و قبل أن تمتد يده للشوكة، قام برفع غطاء الطبق الذي أمامه في لهفةً، ليعرف ماذا أعدت له أيضًا، فتوقف به الزمن لدقائق يتأمل الاختبار و الورقة الملونة التي كُتب عليها بأناقةٍ
« في داخلي تنمو بذرة حُب منكَ، هل أنت مستعد ليكتمل حُبنا بطفلنا الأول ؟»
بينما هي ارتكزت بعيناها عليه مبتسمة بحنو بالغ و سعادة مشرقة أضاءت وجهها، تُتابع ردة فعله و تعابير وجهه وهو يتأمل الاختبار و الورقة باستيعابٍ بطيءٍ، و ملامحه بدأت ترتسم عليها أمارات الانشراح و قلبه أعلن اهتزازه فرحًا و غبطةً، ثُم بدأت الدموع تتكون في عينيه، و سالت العبرات الرقيقة، و هو يلتفت لها بابتسامة واسعة منشرحة، ليجدها هي الأخرى تبادله ابتسامته بابتسامة دامعة أوسع، و همست بلينٍ:
” هتبقى أحسن أب إن شاء الله يا كيمو ”
” أنتِ حامل ! ”
تساءل بها في دهشةٍ شديدة سيطرت على ملامحه بالكامل، و أقسمت ألا تبرح مكانها لدقائق، فقالت وهي تمد أناملها تمسح له دموعه السارة:
” عرفت امبارح الصبح إني حامل، و كنت حابة أعرفك بالطريقة دي ”
لمعت الفرح في عينيه تعجز الأقلام عن وصفها، و هو يسحبها من يدها برفقٍ و حذرٍ يُجلسها على فخذيه، ثُم وضع يده على بطنها، و أعاد سؤاله غير مُصدقًا بعد:
” أنتِ بجد حامل ! بجد يا فراشتي ؟! ”
” والله فراشتك حامل إن شاء الله ”
ردت بها ضاحكة برّقة، فمال بجبهته على كتفها يستند عليه بارتياحٍ، ثُم همس:
” إحساس إني هبقى أب إن شاء الله، مخليني عاوز أقوم أطير من الفرحة ”
ثُم ابتعد عنها قليلًا، و أضاف وهو يعيد وضع يده على بطنها بحنوٍ، و ينظر في عينيها بسعادةٍ:
” كل الفراشات فراشات، و فراشتي فريدة من نوعها.. مهما يهذوا بالكلمات، مش بلين غير قُدام عيونها ”
تنهّدت بسعادةٍ، تبعتها بقولها:
” أنا محظوظة بيك ”
“أنا اللي محظوظ بيكِ بجد، أنتِ دخلتِ قلبي رتبتيه من الفوضى اللي فيه، أنتِ بهجة حياتي يا رُميساء”
قالها و يديه تطوق جسدها بحنانٍ ممزوجٍ بالارتياح، ثُم تابع بنبرة واضحة:
” أنتِ فتاتي التي مرَّت على قلبي مثل سَّحَابَةُ مَارَت لضلوعي و مارٌّ فؤادي المار لفؤادك مارّ لي
مَرَّ مَرَى عنان قلبي، فَمَارَّ مِرَارًا يعالجه، تَمَوُّرٌ كُل مُرٍّ لسائر جسدي، فتنشر في كُل ممارّ تُمور بنكهة الحُب ”
ظلت للحظاتٍ تتأمله بتعجبٍ و دهشةٍ كالعادة، و هتفت بتلقائية جعلته يهتز من كثرة الضحك:
“أرنبنا في منور أنور و أرنب أنور في منورنا.. أنت مجنون يا كريم !”
رد وهو يحاول ضبط إتزانه و الكف عن الضحك:
” بيكِ، مجنون بيكِ ”
تساءلت بعد دقيقة من شعورها بالخجل من نظراته العاشقة لها:
” عملت إيه صحيح في الشغل ؟ ”
رفع كتفيه بلا مبالاةٍ يقول:
” ها يعفوني من المهمة بس هفضل مشرف عليها، أصلًا رفضوا استقالتي ”
” أنت محدش يقدر يستغنى عنك يا كيمو ”
قالتها بنبرة مداعبة، و تساءلت في براءةٍ منها:
” كريم، أنت مش هتتعصب عليا تاني ولا تزعلني صح ؟ ”
ترك سؤاله أثر الحزن و الندم في قلبه و على وجهه مما حدث أمس، فأراد مطمئنة فؤادها اللين باحتواء يديها و بث فيهما قُبلاته النادمة، ثم تحدث بهدوءٍ و بصدقٍ في مخارج الأحرف:
” رُميساء.. فراشتي.. أنا حبيتك حُب غير مشروط، حُب بدون شروط، بدون قيود، بدون حدود، بدون عهود؛ إلا عهد واحد عقدته مع المولى سبحانه يوم كتب الكتاب، عهدي مع الله إني اتقِ الله فيكِ، عهدي مع ربنا قبل نفسي، و أنتِ العهد اللي بيني و بين ربنا، لو كان عهد بيني و بين نفسي و نفسي نقضت العهد دي فلا إثم عليّ، لكن نقد العهد مع الله يا فراشتي؛ يلزم توبة بعده، و أنا مقدرش انقض عهدي مع ربي، لأني مُلحد للتوبة من حُبك، و الرحمن سبحانه يقول: ﴿ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما} و أنتِ الأجر العظيم اللي بدعي ربنا يكون ليا لأبد الآبدين.”
تأملته لوهلة بابتسامة مطمئنة، ثُم عانقته بلُطفٍ منها، فبادلها العناق و تابع بهمسٍ:
” وعد مني أي حاجة بتضايقك، ها أسعى إني أبطَّلها، عشانك هعمل أي حاجة، عشان تفضلي مطمنة معايا دايمًا يا رُميساء ”
بعد قوله، رن جرس الشقة، فأبعدها عنه برفقٍ، و تساءل في ضيقٍ:
” ده مين الغتت اللي جاي دلوقت ده ! ”
” ما تغلطش في حد عشان ما تشيلش ذنبه، قوم شوف مين ”
اِنْصاعَ لها، و نهض يستكشف من بالخارج بواسطة ما يُسمى « العين السحرية» الملحقة بالباب، و بعد معرفته لهوية الطارق، رجع بصدمةٍ للخلف خطوة هامسًا بعدم تصديق:
” بابا ! ”
_____________________.
” تتطلب الحديقة العمل والصبر والاهتمام، لا تنمو النباتات لمجرد إرضاء الطموحات أو تحقيق النوايا الحسنة، إنها تزدهر لأن شخصًا ما بذل جهدًا عليها “. -ليبرتي هايد بيلي
~~~~~~~~~~~~~~~~~
بعدما أنهى ” سيف ” الاجازة، و غادر ليستعد لخوض التصفيات المؤهلة لكأس العالم، حيث تقع مصر في مجموعة تسمى مجموعة الموت، و تضم المجموعة بجانب مصر كل من
« المغرب و السنغال و جنوب أفريقيا، و موريتانيا
و جزر القمر»، و قد استهل سيف أول مباراة، و كانت مع جنوب أفريقيا على أرضهم في «جوهانسبرغ و هي أكبر مدن جنوب أفريقيا»
و كانت المباراة بين سجال هنا و هناك، ليخرج بطلنا « هُس هُس» في الدقيقة الخامسة و الثمانون، مُحرزًا أولى أهداف مصر في التصفيات، و أغلى ثلاث نقاط في البداية، و انتهت تلك المباراة بهدف سيف الاسلام.
أما المبارة الثانية مع المغرب في القاهرة، و يظهر ” سيف ” في لحظة جميلة و لقطة مضيئة في لقاء السحاب لقاء الجبابرة، يظهر أمامنا سوبر هيرو سيف المصري، في لحظة تسعد مائة مليون مصري، ليسجل هدف على طريقة الكبار بتسديدة صاروخية من على بُعد ثلاثين ياردة، مُعلنًا بقدوم مصر بهدف على أسود الأطلس « المغرب»
ما اروعك يا سيف !
يُسجل هنا و هناك و لا يبالي بالخصم أبدًا..
ويهتف المعلق على المباراة
« اضرب اضرب يا سيف اضرب ولا تبالي، فأنت ابن مصر الغالي»، و ها هو جمهورنا العظيم جمهورنا الكبير في المدرجات يهتف بصوتٍ عالٍ
( عالي و عالي و عالي الصوت، هدف سيف عمره ما يموت)
( هُس هُس واحد بس).
و بعد أول نصف ساعة سجل سيف فيها هدفه، تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، و لا يمهله القدر حتى يكمل المباراة، فيخرج لإصابته في الكاحل..
رغمًا عنه نزلت الدموع تنساب من عينيه بغزارةٍ، و اصفر وجهه بفعل الخوف من الخسارة، فشعر بأن كيانه رجّ رجةً قويةً أثر الصدمة، و هم يحاولون إخراجه من الملعب، لكنه أبىٰ و ظل يقاوم لثوانٍ أراد فيها استكمال اللعب و الضغط على كاحله، فلم يستطِع و خرج في النهاية يخفض رأسه بحُزنٍ و خجلٍ من جمهوره، اللذين وقفوا جميعًا بتشجيع و دعمٍ له يساندونه بمشاعرهم، و بعد انتهاء المباراة الممتلئة بالحماس و الشد و الجذب من لاعبي المنتخب، فازت مصر بالمباراة الثانية على التوالي، و تم أخذ سيف ليمكث في مركز التأهيل البدني في مدينة السادس من أكتوبر، حيث هناك يخضع لمراحل العلاج و الاستشفاء التام.
شاهدت ” روان ” تلك المباراة التي أصيب فيها حبيبها، و تفاعلت مع بكائه على الشاشة بالهروب لغرفتها و التخفي بخجلٍ من أعين والدها و زوجته، ثُم أحضرت هاتفها و قامت بالاتصال عليه وهي تكتم صوت بكائها، أتاها الرد يقول بنبرة ضعيفة يبدو عليها الألم و الحزن:
” أنا كويس يا رواني الحمدلله، متقلقيش يا حبيبتي ”
انطلق صوتها في مواساةٍ منها:
” لعله خير والله يا سيف، أنا فخورة بيك و أنت مش بس بطل المنتخب و النادي، أنت بطل قلبي و كل حكاياتي، متزعلش نفسك يا حبيبي، خيرها في غيرها والله، التزم بس بعلاجك يا إما هتلاقيني راكبة عربيتي و جاية لك، أنت عارف إني مجنونة و أعملها ”
صدرت ضحكة خفيفة منه قائلًا:
” حاضر يا روان، مش عاوزك تقلقي.. ادعيلي بس”
” و الله بدعيلك، أنا موجودة عشان أدعم حلمك يا سيف، أنا معاك لحد ما تنول مُناك، معاك على المرة قبل الحلوة، و ربنا بيجيب كل حلو يا سيفو.. صح ؟ ”
قالتها بنبرة مرحة قاصدة التخفيف عليه، فابتسم ببسطاطةٍ، و أردف:
” صح يا رواني ”
صمتا للحظاتٍ، لتقطع هي هذا الصمت هامسةً:
” أنا كنت عارفة إنك هَتطلع من الملعب بإصابة، بس مرضيتش أقولك عشان مضعفش إيمانك بنفسك، أنت أقوى من أي حاجة و الرؤية الأخيرة اللي شوفتها لك، هي اللي ها تتحقق بأمر الله يا سيف، بس الصبر يا حبيبي، اصبر و قاوم و اوعى تيأس و تستسلم، ده الحلم اللي كان نفسك توصله من زمان، و وصلت له الحمدلله، كمل بقى بقلب جامد و أنا معاك ”
تهدج صوته ثانيةً ببكاءٍ مكنون بين أضلاعه، فقد أراد خوض المباراة القادمة مع المنتخب أمام موريتانيا، و لكن لإصابته تخلف عن زملاؤه، و هذا كل ما يزعجه، ألا يواكبهم اللعب أما الخصم..
همس بوهنٍ:
” بس يا روان أنا كنت عاوز ألعب المباراة الجاية”
أدركت في نفسها أنه لن يتقبل الهزيمة بسهولة، فهذا هو سيف حبيبها الذي تعرفه أكثر من أي شخصٍ آخر.. ردت بنبرة تفاؤل تحثه على المثابرة:
” ربنا ليه حكمة في كده يا سيف، حكمة الله أكبَرُ من حدود ظنك، طالما جواك حُب و اصرار للكرة و كلك أمل المنتخب يفوز و أنت تنجح في حلمك أكتر، فتأكد إن ربنا ها يحقق لك حلمك في الوقت المناسب بإذن الله، حاشَاهُ أن يُحيي فيك أملًا تُم يَقتُله ”
تنهّد بارتياحٍ قليلًا، و ظهر صوته بعد لحظاتٍ يقول:
” أنتِ كُنتِ حلمي الأول يا روان، أنتِ فوق أي حلم، و بعد كده تيجي الكرة و أي حاجة تانية، أنتِ لوحدك بكل الخانات، ربنا ما يحرمنيش منك”
” ولا منك، يلا نقفل عشان المغرب قرب أهو، باقي خمس دقايق على الآذان، صلي و أنت قاعد طالما مش هتقدر تقف على رجلك، المهم متكسلش و متسيبش الصلاة، الصلاة هي بداية الطريق الصح يا سيف ”
لثم قُبلة قوية على الهاتف، صدح صوتها في أذنيها، فأخذت تضحك دون تعليق، بينما هو قال:
” عُلم و سَيُنفذ يا قلب سيف ”
أغلقت معه المكالمة، و تنهدت بانشراحٍ ارتوى به صدرها، هامسةً:
” يارب بارك لي فيه و احفظه من كل سوء ”
____________________.
“كل الأيام بجانبكِ تكسوها الرحابة وكل الضحكات معكِ إستثنائية.” لقائلها.
~~~~~~~~~~~~~
يقال دائما أن المرأة بطبعها طيبة و حنونة، ويقال أيضا أن الرجل ما هو إلا طفل كبير، ولذلك فإن كلا من الطرفين في حاجة ماسة إلى التدليل من الطرف الآخر، سواء عن طريق الكلمة أو اللمسة أو بأي تصرف آخر يعبر به الزوج أو الزوجة عن حبه لطرفه الآخر.
و يقول د. طاهر شلتوت أخصائي الطب النفسي
إياكِ والحياء المزيف، والمقصود به الحياء في غير موضعه بينك وبين زوجك؛ فرسولنا الكريم صل الله عليه وسلم رغّب في تنمية العواطف بين الزوجين، وحث على اختيار المرأة التي تمتلك صفة «تداعبك» و «تلاعبك» من النساء، ويدخل في ذلك كله طريقة اللبس، والعطور، والحركات، و الكلمات، و الإشارات، و الإيماءات .. وكل وجوه الجاذبية والتفنن في إشباع الحواس و الفؤاد.
بعد ما فعلت ” عائشة” ما طلبه منها ” بدر ” و عبر و أعرب عن إعجابه الشديد برقصها، جاء دوره أيضًا لتنفيذ طلبها، و اصطحابها لنزهة يُمتع بها نظرها.
عانقت يدها كفه الرجولي في حُبٍ، يسيران معًا لأخذ جولة في المالديف، همست له بدلالٍ:
” عايزة حلاوة شعر يا بدر ”
نمت ابتسامة جميلة على شفتيه، ليقول باستنكارٍ بدا مضحكًا لها:
” اسمها غزل البنات يا عائش ”
” عايزة غزل البنات يا بدر ”
أومأ وهو يطوق كتفيها بحنانٍ:
” حاضر، النهاردة اليوم بتاعك، اعتبريه مكافأة ليكِ على الشو الهايل اللي عملتيه، و اطلبي كل اللي نفسك فيه ”
تعلقت في ذراعه هاتفة بحماسٍ:
” أطلب أي حاجة أي حاجة ؟! ”
” أي حاجة أي حاجة ”
أومأ يؤكد بقوله، و أضاف بنبرة بدا مُتيم بها لأبعد حد:
” اتمني و أنا أحقق، أنا عندي كام عائش ”
عضت على الشفة السفلية و انفجرت بابتسامة واسعة ممزوجة بالسعادة الناضجة في عينيها، لتهتف بمرحٍ أشبه بسعادة الأطفال في العيد:
” عاوزة أشوف غروب الشمس على البحر، و عاوزة أشوف شواطئ المالديف المتلألئة اللي بيتكلموا عنها دي.. بيقولوا جمالها رهيب ما شاء الله ”
” هي فعلًا جمالها رهيب، بس برغم جمالها الرهيب، أنتِ أجمل منها ”
رد بها، وهو على شفا المحك تمامًا و على انجراف الهاوية لأخذها و العودة للجناح ثانيةً، و لكنه أراد من صميم قلبه إسعادها حقًا، لذلك تغاضى عن رغبته الجامحة، و امتثل لطلباتها بصدرٍ رحب.
أردف بعدما طلب سيارة بمساعدة الفندق الذي يقيمان فيه:
” أنا أجرت ليلة نقضيها في فلل أنانتارا كيهافا الموجودة وسط المدينة، هناك تقدري تشوفي روعة البحار الفيروزية مع حمرة السماء الخجولة، الخجولة شبهك امبارح ”
قال جملته الأخيرة بغمزةٍ مداعبةٍ أخجلتها، فأخفضت رأسها تهمس:
” أنا اللي كان لساني طول لسان الضفدعة، اجي دلوقت و أتكسف ! آه من الدنيا و من الزمن و من الأيام ”
استطاع سماعها على مقربة منها، فظهرت أسنانه بضحكة مكتومة، ترك لها الزمام فخرجت تطرب سمعها، مما ظلت لثوانٍ تتأمله وهو يضحك، لتقول بعفوية زادت أكثر من ضحكاته القمرية:
” جامد فحت ”
” بتقولي إيه ؟! ”
اتسعت عيناها بصدمة مما قالته، فتراجعت سريعًا تعيد تصحيح ما تفوهت به مثل الحمقاء:
” أنا يا ابني ! أنا قولت حاجة ! أنا نطقت أصلًا ! ده أنا بدأت أحس إني خرساء من كتر سكوتي ”
غمز بطرف عينه يقول:
” رغم إنه لفظ سوقي بس عجبني ”
” بنتك و غلطت، و لو مفيش حد بيغلط مكانوش حطوا فوق القلم أستيكة⁦ ”
رد في اندهاشٍ من ردها:
” أنتِ كُنتِ شغالة تباع لتوكتوك قبل كده و أنا معرفش ! ”
تجاهلته و ضربت على صدره بخفةٍ تُضيف:
” لو عجباك دوس نجمة شباك ”
ضرب كفًا بكف و ضحك يقول بدهشة مزيفة:
” تباع ميكروباص قديم مفيش كلام ”
جاءت السيارة التي ستصلهما للمكان المُراد، و في منتصف الطريق استطاع ” بدر ” الاستفسار من السائق عن متجر يبيع غزل البنات، و ترجل مُصطحب ” عائشة ” معه، رافضًا جلوسها وحدها مع السائق، ثُم اشترى لها عشر أكواب من
” غزل البنات الوردي “؛ حتى تستمتع بمذاقها الذي يذوب سريعًا في الفم و تأكل كما تشاء، و أحضر لها أيضًا علبة مليئة بحلويات السكاكر مختلفة الأنواع و الألوان، و قبل خروجهما من المتجر، لاحظ وقوع عيناها على مصاصات حلزونية، و قبل أن تطلب منه شيء آخر، أسرع هو بشراء عدة نكهات منها لها، ثُم سألها بحنانٍ:
” قولي لي نفسك في إيه تاني ؟ ”
هزّت رأسها بنفيٍ وهي تتفحص الأكياس بحوزتها، لتقول بسعادة أسعدت قلبه:
” أنت جبت لي كتير، مش عاوزة حاجة تاني، ربنا ما يحرمنيش منك ”
” ولا منك يا عائش ”
عادا للسيارة لتنطلق بهما تجاه الفيلا الواقعة يمنتجع سياحي رائع، و التي استأجرها ” بدر ” قبل حتى طلب عائشة بمشاهدة غروب الشمس، و لكن لغرضٍ آخر، فقد أراد من استئجارها لقضاء ليلة ساحرة في ناحية أخرى، للاستمتاع بجمال جزر المالديف عن قُرب.
وصلا للمنتجع الراقي، تحديدًا للفيلا التي تتميز بمعانقتها لشاطئ المياه، و التي توافر بها كل أساليب الترفيه و الاسترخاء، فقد اختار البدر فيلا منعزلة بالشاليه الخاص بها بعيدًا عن الناس، ليتيح لعائشة اللهو و المرح كما تُحب.
جابت ” عائشة ” الفيلا و أرجائها بانبهارٍ و اعجابٍ تركا أثرٍ جميلٍ على وجه ” بدر “، فتقدم من خلفها يعانق خصرها و يستند بذقنه برِقةٍ على رأسها، فوضعت هي يدها على يديه اللتان تطوقا خصرها بِحُبٍ و حنانٍ، لتقول بنبرة هادئة تتأمل جمال المكان الساحر من شرفة الفيلا الواسعة:
” أبدع ربي ما خلق، ما شاء الله ! ”
” مبسوطة يا عائش ؟ ”
تساءل بها و يديه تدير جسدها له، فأراحت رأسها على صدره و تنهدت بارتياحٍ، قائلةً:
” مبسوطة عشان ربنا هداني لحُبك، مبسوطة عشان معاك أنت يا بدري، مبسوطة عشان بقيت من نصيبك أنت، مبسوطة عشان اسمي بقى منسوب لاسمك، و عمري ما كُنت مبسوطة زي دلوقت ”
تأملها لدقائق بشغفٍ و افتتانٍ شديدٍ وشوقٍ لها، هامسًا وهو ينزع عنها خمارها ليظهر شعرها المموج الغجري، الذي يُذهب بعقله مذهب الريح للأوراق:
” تعرفي إنك أحلى من أحلى حاجة عيني شافتها قبل كده ! ”
” للدرجة دي ! ”
” و اكتر كمان، لَقَدْ شَغَفَنِي قلبك حُبًّا يا عائش،
أنتِ شَغْفٌ قلبي و مُهجتهُ المُدللة ”
قالها و عينيه ما انفكت تبتعد عن التحديق في عينيها بقوةٍ، جعلتها تستسلم بخفض بصرها ثانيةً عنه، بينما هو تابع همسه الذي ينجح دائمًا في إذابة مسامعها:
” أنا قلبي مَشْغُوفٌ بكِ يا عائش ”
” تنستر ”
قالتها في محاولة للتملص من بين ذراعيه، قبل أن يترجاها بالرقص ثانيةً، و هي تريد الاستمتاع بكل لحظةٍ بهذا المنظر الخلاب و الجو الرائع.
تَمَلَّصت أخيرًا منه، و استدارت تواجه الشاطئ الذي يعانق السماء من الأسفل، فتبادله العناق من الأعلى، في مشهد خرافي جميل للغاية.
رضخ لاستسلامها؛ لئلا يفسد عليها ليلتها، و وقف بجانبها وقفة تأمُل للحظة انعكاس أشعة الشمس الحمراء في وقت الغروب على موجات البحر، لتتحول المياه البحرية إلى مرآة ترسم آية من آيات الجمال، مما حدقت في المشهد و هتفت بحماسٍ، فابتسم هو لطفولتها:
” الله يا بدر الله ! مشهد حلو أوي أوي.. هات موبايلي بسرعة و صورني معاهم، يلا يلا بسرعة”
انصاع لها، و أخرج هاتفه ليلتقط الصور لها، وهي تقوم بتنويع حركاتها الجنونية بمهارة، أفقدته صوابه الصورة الأخيرة و جعلته يضحك بشدة، فقد فرقت بين جانبي شعرها، و أمسكت بالجزء الأيمن و الجزء الأيسر و فردتهما على هيئة ذراع طائرة، مما بدا شكلها غبي و مضحك في نفس الوقت، قال وهو يعيد الهاتف لجيبه و يجذبها عليه بغتةً:
” بعشق جنانك اللي في مرة ممكن يجيب لي صرع ”
” أنا أصلًا أتحب، تعالَ مرجحني بالمرجيحة اللي هناك دي، و نشوف بالمرة الشط وهو بينور في الضلمة ”
قالتها و سبقته نحو الأرجوحة المعلقة أسفل شجرة ضخمة بجانب الفيلا، و أثناء ركضها نحو الأرجوحة؛ نزعت ثيابها في الهواء، لتظهر من تحتها إحدى « بجامات» التوحيد و النور المليئة بالرسومات الكرتونية، مما فزع هو لفعلتها و قفز في الهواء يلتقط ملابسها و يضمها إليه، هاتفًا بصدمةٍ منها:
” إيه اللي بتعمليه ده يا مجنونة أنتِ ! ”
جلست على الأرجوحة، و أخذت تدفع بقدميها الأرض، لتنطلق في الهواء بصياحٍ جعله يقف بالقرب منها لا يدرِ ماذا يفعل:
” و أطيـر و ارفرف في الفضــا، و اهرب من الدنيا الفضــا ”
” ده أنا اللي ها هرب منك دلوقت ”
وضع الملابس بجانبه، ثم تقدم يقف خلفها و يدفع بها، لتتأرجح باستمتاعٍ و صياحٍ جعل بدر يغمض عينيه بألم أثر الصداع المفاجئ الذي شعر به..
قال بنفاذ صبرٍ، وهو يتجه ليجلس بجانبها:
” أنتِ مش قولتِ عاوزة تشوفيه الشط وهو بينور في الضلمة ! ما تيجي يلا ”
” لسه بدري يا بدري على ما الضلمة تيجي، خلينا شوية كمان ”
سكتت دقيقة كاملة، و صاحت ثانيةً بضربة اخترقت فخذه:
” ما تيجي أغني لك ”
” ها اقوم أرمي نفسي في البحر لو عملتيها ”
تجاهلته، و ضحكت بخبثٍ كأنها تستمع بازعاجه، بينما هو لم يشعر بالازعاج أبدًا منها، و إنما كان يصطنع الضيق فقط قاصدًا المجاكرة..
هتفت وهي تتراقص بذراعيها:
” يا ستي يا ختيارة يا زينة كل الحارة
حبيبي يا اللي بحبه ناطرني بالسيارة
يا دادا يا ختيارة يا زينة كل الحارة
حبيبي يا اللي بحبه ناطرني بالسيارة
بحبه، بحبه ما بقدر خبي وعيونه خلت قلبي مثل رماد السيجارة ”
توقف للحظات قبل الفرار منها، و استدار لها بكامل جسده، يتأملها باعجابٍ لأول مرة بصوتها، فبرغم أنها لا تجيد الغناء و لكنها بدت فاتنة وهي تهز كتفيها بخفةٍ و تفرض دلالها و تغنّجها عليه دون أن تشعر هي بذلك، لأول مرة ينظر لها بولهٍ و ولعٍ وهي تغني.. تقدم نحوها باستسلامٍ أمام تغنُّجها عليها، بينما هي تابعت وهي تعبث بشعرها و تهز قدميها في تدلُّل صريح:
” عيونه الحلوة بتقول لي يا دادا تقي وجني
يا دادا بخوف وبجن لما بيبعدهن عني
عيونه الحلوة بتقول لي يا دادا تقي وجني
يا دادا بخوف وبجن لما بيبعدهن عني
بحبه، بحبه ما بقدر خبي وعيونه خلت قلبي مثل رماد السيجارة ”
توقفت عن العبث، و تلاشت ابتسامتها التي تجاكره بها، لتحل محلها الابتسامة الخجولة من اقترابه الشديد منها، فقد انحنى و مال عليها يصوب سهام نظرته لعينيها، و همس بنبرة آمرة:
” كملي ”
ابتلعت ريقها و تعثرت الأحرف في حلقها، فأعاد طلبه:
” كملي ”
تنهّدت لتقول:
” أنا قليلة الأدب إني غنيت ”
ضحك بدوره و جلس بجانبها يشير للشاطئ:
” الليلة ليلتك مش هسبب لك احراج اكتر من كده، الأيام جاية بينا كتير إن شاء الله ”
صمتا يتأملان هذه العوالق النباتية الموجودة في الماء، و التي تمتاز بوجود إشعاع حيوي مضيء تملأ رمال الشاطئ و مياهه، يتحول إلى ضوء أزرق ساطع نابض بالحياة وعلى شكل نجوم متلألئة في الشواطئ بعد غروب الشمس، و تسبب في توهج الأمواج و تلاطمها، الأمر الذي يجعل من تأمل هذا المنظر الخيالي أمرًا في غاية الروعة.
همست عائشة وهي تميل برأسها على كتف بدر:
” سبحان الله، خلق فأبدع ”
_________________.
في تلك الغرفة الشبيهة بالسجن التي يقبع بها
” إبراهيم ” منذ عدة أيام، دلف عليه شقيقه
” أوزان ” أخيرًا، يتفحصه بحنانٍ منه، فقد تمدد الآخر بتعبٍ على الأريكة و رأسه يعج بالأسئلة لوالده و أشقائه، و من جهة أخرى يشعر بالخوف الشديد على ” ملك ” التي يعتبرها أخته تمامًا، و ليست أخت رفيقه.
رمقه إبراهيم بطرف عينيه بلا مبالاة، و قال:
” ما الذي جاء بك ؟ ”
” جئت لأجلك أخي ”
تبسم ساخرًا، و صمت دقائق ليعود بسؤال آخر:
” هل ارسلك والدنا لتحريري أخيرًا ؟! ”
لم يعقب ” أوزان ” بشيءٍ، و تقدم تجاه إبراهيم، يربت على شعره، فأبعد الأخير يده عنه، و هتف بضيقٍ:
” ابعد يدك القذرة عني، تَكاتَفَتْ جُهودَكم لمعاونة الصهاينة، ماذا تريدون بعد ! أراكم مثل الكلاب الضالة تلهث على أي لحمٍ فاسد يُلقي لها، هنيئًا لكم الشراب من بولهم، بال اليهود على شرفكم، و أنتم في ترحابٍ شديدٍ لكل ما يفعلونه !
لعنة الله على القوم الظالمين ”
حاول شقيقه التزام الهدوء، و لكن كلام أخيه جاء حادًا كشفرات السكين على رقبته، فأغمض عينيه بغضبٍ، و صاح بحدةٍ هو الآخر:
” إبـراهيـــم ! أنت لا تعي ما تقول، كُف عن الكلام الجارح، إنك تحرق قلبي أخي ”
قال جملته الأخيرة و اتخذ موضعًا بجانبه يبكي في صمتٍ، مما رق قلب إبراهيم له، و جلس بجانبه بنظراتٍ حائرة يتساءل:
” أكاد أصاب بالجنون، الله الله ! ما الشيء العظيم الذي تحاولون إخفائه عني ؟! ”
مسح ” أوزان ” وجهه، و كفكف دمعه، ليزفر بألمٍ يليه كشف الغامض:
” كل ما فعلناه هي خطة منا وضعها أبي و معاونيه و نحن، لاصطياد اليهود في فخاخنا ”
قاطعه إبراهيم بصدمة هاتفًا:
” خطة ! ”
أومأ أوزان و استرسل حديثه:
” نعم، من ضمن الخطة ألا تأتِ في الصورة، الجندي الاسرائيلي الذي رأيته في مكتب أبي، ليس في الحقيقة منهم، ليس يهوديًا بمعنى أدق، هو عميل سري للجيوش العربية تحديدًا سوريا، و يعمل في الموساد الاسرائيلي منذ عشرون عامًا، عشرون عامًا ولم تعرف إسرائيل أنه جاسوسًا أو سوري الأصل، مثل العم مجاهد الخياط، تستطيع أن تقوله أنه خلفه في العمل ”
ظل إبراهيم يستمع له بوجهٍ يملؤه علامات الدهشة و الحيرة و الادراك البطيء، ليتساءل:
” و لماذا قمتم بابعادي عن الخطة ؟! ”
” لأنك ساهمت بنجاح آخر عملية لمصر على الماسونية، و العيون بدأت تتجمع حولك؛ لذلك أبي لم يُرد المغامرة بك ثانيةً، أنت تعرف أنك المقرب بيننا لأبي، فكان إخفائك و حبسك هو الحل الأمثل في تلك الظروف الراهنة ”
” و عن ماذا كانت الخطة ”
تنهّد بابتسامة خافتة، و أجاب:
” دخول صفقة أسلحة فاسدة لإسرائيل تعمل بعلاقة عكسية مع الجندي، عندما يطلق العيار.. يرتد و يعود له ثانيةً، و لاتمام تلك الصفقة، كان لابد من الاستعانة بشخص موثوق يعمل معهم منذ سنوات ”
تأمله إبراهيم للحظات يحاول استيعاب جُل كلامه، فلاحظ علامات الحزن على وجهه..
أحاط كتفي شقيقه و تساءل:
” ما سبب كل هذا الحزن على وجهك ؟ ”
هربت دمعة من عين أوزان وهو يجيب بعد دقائق من الصمت:
” إياد الريحاني كان معنا في الخطة.. ”
صمت يسترد أنفاسه، و تابع بحزنٍ بالغ:
” استشهد ليلة أمس ”
______________________.
أنتَ الرَّحِيم بِقَلب عَبْدٍ ضَائِع.. يا رَبّ.
~~~~~~~~~~~~~.
التكبر صفة شيطانية وأول ذنب ارتكب في الوجود، حيث رفض إبليس أمر الله له بالسجود لآدم عليه السلام قال تعالى:
(مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ)، سورة الأعراف.
فطرد إبليس من الجنة بسبب تكبره.
يقول صل الله عليه وسلم
«يُحشَرُ المتكبِّرون يومَ القيامةِ أمثالَ الذَّرِّ في صُوَرِ الرِّجالِ يغشاهم الذُّلُّ من كلِّ مكانٍ يُساقون إلى سجنٍ في جهنَّمَ يُقالُ له : بُولَسُ تعلُوهم نارُ الأنيارِ يُسقَوْن من عُصارةِ أهلِ النَّارِ طِينةَ الخَبالِ»
الراوي : [جد عمرو بن شعيب] | المحدث : المنذري | المصدر : الترغيب والترهيب | الصفحة أو الرقم : 4/293 | خلاصة حكم المحدث : [إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما]
شرح الحديث كما شرحه المصدر..
توَعَّد اللهُ تعالى المتكبِّرين الَّذين يتَكبَّرون على عِبادةِ اللهِ تعالى، وعلى خلْقِ اللهِ بأشَدِّ أنواعِ العذابِ يومَ القيامةِ؛ فالكِبْرُ صِفةٌ مذمومةٌ، ذمَّها اللهُ سبحانه وتعالى في كِتابِه، وحذَّرَنا منها رسولُنا صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، كما يقولُ في هذا الحديثِ: “يُحشَرُ المتكبِّرون”، أي: يَحشُرُ اللهُ سبحانه وتعالى أو يأمُرُ الملائكةَ أن تَحشُرَ المُتكبِّرين الَّذين يتَكبَّرون على عِبادةِ اللهِ تعالى، وعلى خَلْقِ اللهِ تعالى، والكِبرُ: إنكارُ الحقِّ وتَحقيرُ النَّاسِ، “يومَ القيامةِ”، أي: يَحشُرُهم يَومَ القيامةِ في أرضِ المَحشَرِ، وهُم “أمثالُ”، أي: مِثلُ وفي حَجْمِ، “الذَّرِّ”، أي: النَّملِ الصَّغيرِ، وقيل: إنَّ مِئةَ نَملةً مِنها وَزنُ حبَّةٍ، وقيل: الذَّرَّةُ يُرادُ بها ما يُرى مِن هباءٍ وغُبارٍ في شُعاعِ الشَّمسِ الدَّاخِلِ في النَّافذةِ، في “صُورِ الرِّجالِ”، أي: على صُورِ الرِّجالِ في هيئَتِهم، ولكنَّ حَجْمَهم حَجمُ النَّملِ في الصِّغَرِ والحقارةِ، “يَغْشاهم”، أي: يأتيهم ويَنالُهم، “الذُّلُّ”، أي: المهانةُ، “مِن كلِّ مكانٍ” ومِن كلِّ جانبٍ بأنْ يطَأَهم الخلائقُ ويَدوسوا عليهم بأرجُلِهم؛ وذلك الجَزاءُ مِن جِنسِ عَملِهم؛ فإنَّهم لَمَّا تَكبَّروا وأرادوا العِزَّةَ والعُلوَّ بغيرِ الحقِّ، أذلَّهم اللهُ تعالى وصَغَّرَ وحَقَّرَ شأنَهم؛ فعُومِلُوا بنقيض قَصدِهم جَزاءً وفاقًا.
ثمَّ “يُساقون” ويُسحَبون ويُجَرُّون، أي: تَسوقُهم الملائكةُ بأمرِ ربِّها إلى “سِجْنٍ”، وهو المكانُ المُظلِمُ الضَّيِّقُ المُعَدُّ للحبسِ “في جَهنَّمَ”، أعَدَّه اللهُ تعالى للمُتكبِّرين، “يُسمَّى” هذا السِّجنُ باسمِ “بَولَسَ”- بفتحِ الباءِ وقيل: بضَمِّها، وسكونِ الواو وفتحِ اللَّامِ- قيل: هو مِن (الإبلاسِ)، بمعنى: اليأسِ، ولعلَّ هذا السِّجنَ إنَّما سُمِّي به؛ لأنَّ الدَّاخِلَ فيه يائسٌ مِن الخَلاصِ عمَّا قريبٍ، “تَعْلوهُم”، أي: تأتي مِن فوقِهم، وتَغْشاهم وتُحيطُ بهم
“نارُ الأنيارِ”، جمعُ نارٍ، وأُضيفَ إليها لفظُ نارٍ؛ للمُبالَغةِ في الإحراقِ وشِدَّةِ الحرِّ، وقيل: إنَّها أصلُ نيرانِ العالَمِ، “يُسقَون” بصيغةِ المجهولِ، أي: تَسْقيهم الملائكةُ مِن خزَنةِ جَهنَّمَ بأمرِ ربِّها، “مِن عُصارةِ أهلِ النَّارِ”، وهو ما يَسيلُ مِن دَمٍ وقيحٍ وصديدٍ مِن أهلِ النَّارِ، ونَتنِهم، وهذه العُصارةُ تُسمَّى “طِينةَ الخَبالِ”، أي: الفسادَ الَّذي يَفسُدُ به البدَنُ.
وفي الحديثِ: ذَمُّ الكِبْرِ والمتكبِّرين، وبيانُ سُوءِ عاقِبَتِهم.
وفيه: تَعدُّدُ أنواعِ العَذابِ في النَّارِ، أعاذَنا اللهُ منها.
وقف أمام المرآة يتأمل وجهه المفرط في الجمال، و يتأمل نفسه بفخرٍ و تباهٍ، ثُم تحدث مع ذاته في المرآة بنظرة فخر:
” أنا سيد سادة الكبرياء، أنا الأفضل و الأحسن، أنا فوق الكل، و الكل أقل مني، أنا الكبرياء بذاته ”
ظل لدقائق يتأمل نفسه بتشتيت ما بين صراعه الداخلي المؤلم بين العقل و القلب، فعندما يختلف عقلك مع قلبك، فأنت تواجه سؤالًا وجوديًا:
“من أنا ؟ وما الذي أريده حقًا؟ ”
هكذا سأل نفسه وهو يرجع خطوات متعثرة للخلف، و عينيه لا زالت تنصب كل تركيزها على انعاكسه في المرآة..
” أنت مين بالضبط ؟! قُصي اللي قلبه فيه خوف من ربه، و لا قُصي اللي عقله مخليه دايمًا في خوف من نفسه ؟! أنت عاوز إيه ؟! ”
وجد نفسه عالقًا بين قرارين، أحدهما يمليه عليه عقله و الآخر يهمس به قلبه، إنها ليست مجرد أفكار متضاربة، بل صراع داخلي حقيقي أخذه في دوامة من المشاعر و الحيرة.
جلس على المقعد خلفه و ظل ينظر لنفسه في المرآة بوجلٍ من عقله المخيف الذي نطق بمساره نحو الهلاك، مسح على شعره في ضيقٍ يتنهد عدة مرات، ليحدث ذاته بارتعاش تقشعر له بدنه:
” لو ملحقتش نفسك يا قُصي و دفنت غرورك بالحيا، هتعيش في هلاك طول عمرك، حتى آخرتك هتبقى سودة ”
نهض ليقوم بتسجيل صوتي لشخصيته المغرورة التي تحدثت منذ قليل و ساقته للكبرياء و التعالي، أراد بذلك التسجيل أن يتعرف على حقيقة تلك الشخصية الخبيثة المدفونة بداخله، قبل أن تنمو و تسيطر عليه بالكامل و يصبح من الصعب ردعها، لقد علم منذ ساعة أنه حصل على المركز الأول في القسم الخاصة بجامعته و أحرز الدرجات النهائية في كل المواد حتى شديدة الصعوبة منها؛ لذا شعر بالغرور و أخذه الكبرياء ليقف أمام المرآة يتأمل ذاته الجديدة العبقرية الخالية من أي شوائب كما يقرّ هو.
بدأ يسجل و يتخيل كل كلمة يقولها و تأثيرها على عائلته و جميع معارفه، في جلسة مع الذات لتصحيح مساره، قرر مصارحة نفسه بغروره و التسجيل له وهو يتحدث كما لو أنه معجزة نادرة
« أنا قُصي، في شهادة الميلاد عمري هو ثلاثة و عشرون عامًا، أما في الحياة تجاوزت سِن العشرينات بمراحل..»
و ظل يتحدث و يخرج شخصيته السوداوية المظلمة، و مُخيلته تصور له ردات فعل كل شخص يعرفه، حتى وصل لآخر جملة في التسجيل
« أنا قُصي، اللعنة التي حلت على كوكب الأرض.»
انتهى التسجيل، و تم حفظه ثم قام بتشغيله لسماعه..
بعد لحظات اهتز جسده بصدمة مما يسمعه، في محاولة فاشلة منه للاستيعاب البطيء، و ادراك حجم المصيبة التي يقحم نفسه فيها..
قال بدموعٍ فشل في كبحها:
” يارب احميني من نفسي، مش عاوز أبقى كده يارب.. يارب ساعدني، أنا عبدك الضعيف الذليل ساعدني يارب ”
ما يحدث معه ليس انفصام في الشخصية، أو حتى مجنون، هو شخص نادر يحمل عقل معجزة بمعنى الكلمة، و لكنه تخيل في جلسة استثنائية مع ذاته، لو لم يستطيع تهيئة عقله بشكله الصحيح، ماذا سيحدث له ؟!
ماذا سيحدث لو أصبح ذكائه و جماله نقمة عليه كما قالت جدته ؟!
هل سيكون حقًا مثل خاله اليهودي ؟!
لا، لن يسمح لغروره بأن يقحمه في مثل تلك الشوكة الغليظة.
قرر الهبوط لأسفل، و الذهاب لوالده يستنجد به، و على آخر الدرج قبل نزول ” نورا ” وصل لأذنيه همسات خفية بين والدته و والده، و الأخير يقول بنبرة حزنٍ واضحة وضوح الشمس:
” لو خرج عن السيطرة زي هيوشوع، يبقى مفيش قدامنا غير حل واحد.. نخفيه عن عيون الجيش المصري عشان ها يعدموه ”
تعالى صوت بكائها، و هي تضغط على يد زوجها باحتواءٍ تتوسله بحُرقة:
” لأ يا مجاهد لأ.. ده ابننا، لأ مش هسمح لأي حد يقرب منه، اتكلم معاه قبل ما يبقى زيه، بس ابني محدش يلمسه يا مجاهد ”
تنهّد بصعوبة و بدموعً، ثُم أردف بغير حولٍ منه ولا قوة
” قُصي لو ما اتغيرش يا لين، ها يفسد في الأرض ”
وقف مصدومًا مكانه، و صعد ثانيةً لغرفة السطح بحزنٍ خيم على وجهه و كساه ألمًا و قهرًا، تحت نظرات ” منة ” المستفهمة و المتعجبة، فقد قررت عدم الذهاب للصالة الرياضية، و المكوث حتى تستعيد صحة عيناها..
اقتربت هي منه تتساءل بقلبها الرقيق:
” أنت كويس ؟! ”
أومأ في صمتٍ و اكمل صعوده للأعلى، مما ازداد استغرابها، فلأول مرة يرد عليها بذلك الهدوء دون مجاكرة، و هذا الهدوء تسبب في قلق قلبها عليه، مهما كانت تظهر للجميع كم هي قاسية ولا تبالي، لن تستطيع كتم مشاعر الحُب و الحنان بداخلها، هي بطبعها حنونة، و الحنون لا يقسو.
جلس يعيد سماع التسجيل بارتباكٍ، و هو يتخيل وجوه كل من يعرفهم، لو أباح بذلك الكبرياء و جنون العظمة أمامهم جميعًا في حفلة التخرج..
يتخيل يد والده التي ترتعش و تقبض على فخذ
خاله ” عزمي “، و يتخيل ردود أفعال أبناء أعمامه و شقيقه، و رد فعل ” والده و كريم ” لو أفصح عن حقيقة عملهما، و يتخيل الوزير وهو يسأل لواء بجانبه عنه باستغراب، و تتسع مخيلته فيتخيل نفسه يخرج من القاعة الواسعة، و يصطحب ” منة ” معه، و كل الأعين مرتكزة عليهما، و والده يهمس بضعفٍ لخاله، بجملة تردد صداها في قلبه « اقتلوه يا عزمي» !
أعاد كلام والده في رأسه، فتخيله يقول
« لو خرج عن السيطرة زي هيوشوع، يبقى مفيش قدامنا غير حل واحد.. اسلمه بنفسي للجيش المصري يعدموه»
يتخيل لو كانت الكلمات هكذا، هل سيكون مصيره بالفعل مثل خاله !
عزيزي القارئ، أيها المحقق الذكي، يا خليفة كونان..
لقد انشغلت بحديث قُصي عن نفسه بكل غرورٍ و كبرياء، و ضربت أخماسٍ في أسداس، و نسيت أهم نقطة.
قد تكون نقطة تافهة من وجهة نظرك؛ لذلك لم تهتم بها ولم تضعها في الحسبان، و لكن.. احذر
( فالامتحان يأتي من بين السطور).
عندما تظهر نتيجة الطلاب بالأخص الأوائل بالجامعات أو حتى اللذين يؤدون امتحاناتهم في السفارة، و يتم معرفة الطالب الحاصل على المركز الأول، يقوم المعنيين بشؤون التعليم بارسال النتيجة الكترونيًا عبر الانترنت، و الحاصلون على التكريم من الجامعة، يتم الاتصال بهم و بأولياء أمورهم لابلاغهم لحضور التكريم..
برأيك هل يتم كل ذلك في يومٍ واحدٍ و خلال ست ساعات من ظهور النتيجة !
لو انقلب العالم رأس على عقب، لن يحدث ذلك..
بكل بساطة؛ لأن الأمر يستغرق أسبوع أو أكثر للتجهيز لحفلة التخرج و تكريم الأوائل حتى لو كانوا عباقرة مثل الأخ قُصي.
هل فهمت الآن ؟
هل وصل إليك ما فعلته أنا برأسك الجميل ؟!
( تعيش و تاخد غيرها يا معلم)
ما كُنت تظنه أنت حقيقة، كان مجرد جلسة مع الذات..
احذر من الشخصيات مرة، و من الكاتب ألف مرة.
أخذ نفسًا عميق و همس لنفسه وهو يفتح هاتفه للاتصال على ” بدر “..
” مينفعش أسكت، لو سكت هغرق اكتر، لازم أكلم بدر يشوف لي حل ”
أتاه الرد عبر مكالمة الفديو بعد دقائق، يظهر بدر بصورة سعيدة و من خلفه مظهر البحر الجميل..
قال بابتسامته البشوش:
” السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، عامل إيه يا قُصي ؟”
رد الأخير التحية، و فلت لسانه يقول بنبرة مهزوزة:
” بدر، أنا محتاج اتكلم معاك و ملقتش غيرك اجيله، بس نتكلم على انفراد، و أنا آسف على الازعاج والله، بس محتاجك ضروري ”
شعر بدر بالقلق حياله و تساءل:
” في حاجة حصلت لقدر الله ؟ ”
هز رأسه بنفيٍ، و أردف:
” متقلقش، الحوار يخصني أنا ”
ابتعد بدر عن عائشة و تركها تلعب بالرمل مثل الصغار تحاول تصميم قلاع منها..
جلس وحده و أومأ بتفهم و عقلانية يحثه على البوح بما في جعبته، فتنهد ” قُصي ” بعجزٍ، و أخبره عن كل شيء، كل شيء يخصه و يخص عمله السري و نسب والدته و غيره، و بدا على بدر الصدمة الكاملة، حتى كاد رأسه ينفجر من شدتها، و لكنه ثبُت و حاول تفهم الأمر و استقبال كل ما يعترف به قُصي، ليستطيع التصرف بحكمة و مساعدته..
ختم قُصي كلامه بقوله:
” و مش قادر اسيطر على غروري، حاسس إني هبقى زيه، و أنا والله العظيم أكره أبقى زيه، و اتمنى لنفسي الموت قبل ما أكون كده ”
” اهدى و كله ها يتحل إن شاء الله، أصل طالما في قلبك موجود ذرة مجاهدة للنفس الامارة بالسوء، فأنت كده ماشي صح.. أهم حاجة ضمير الانسان يكون صاحي و واعي للي بيعمله، و أنت ضميرك لو مكنش صاحي يا قُصي، مكنتش ها تيجي تتكلم معايا بالشكل ده ”
صمت بدر بعد قوله يتابع نظرات الحسرة و الندم على وجه “قُصي ” فكان آخر شيء يتوقعه هو ما يحدث الآن، تابع بقوله اللين:
” طيب ما فكرتش تسمع كلام عمي و تفضل في البلد و تتنازل عن اختراعك أو تعرضه للبلد، لو الاختراع ده عمي شايف إنه هيجرك لطريق آخرة اغتيال ! ”
تأمله قُصي لثوانٍ يحاول فيهم تهدئة نفسه؛ كيلا يفجر عصبيته بابن عمه الذي يكبره بعشر سنوات، كلما ذُكر له أن يبقى معهم و يصرف نظر عن أبحاثه في الفلك.. هتف بنبرة بدت حادة قليلًا:
” البلد دي العالِم فيها بيتباع، بيتباع و يتقبض تمنه هو و اختراعه، عشان كده أنا رايح بكرامتي أعرض اختراعي لناس بتفهم و تقدر، حتى لو احتكروا اختراعي بس على الأقل ها يتنسب لاسمي، لا أنا ولا موهبتي اللي ربنا أنعم عليا بيها عُرضة للبيع.. أنا مبعرفش أسكت عن حقي يا بدر، أنا مش زي الشعب الغلبان ده، أنا حقي أجيبه بنفسي لو فيها موتي، بس على الأقل أموت و أنا بدافع عن حاجة بتاعتي، أموت بكرامتي و شرفي، اختراعي لازم يطلع للنور، و مصر مهما كانت غالية على قلبي، مش ها تقدر تتبنى موهبتي عشان اللي برا حاطين عليها جامد، و لو حبت تتنفس هيقطعوا عنها الاكسجين، عشان كده أنا هسافر أمريكا يا بدر، بلد الظلم عارف، بس فيها العبقري بيتقدر مش بيتباع..
بلدي جميلة لكن ضعيفة، و أنا ما اتخلقتش عشان أبقى انسان ذليل ضعيف اتساق زي البهايم و يتحط قدامي قوت يومي عشان أنتج لهم اللي يراضيهم، أنا مش من النوع اللي بيعمل بلقمته يا بدر، أنا بعمل بدماغي، و دماغي هي اللي تمشيني مش دماغ غيري، بعترف إني شخص متمرد، بس متمرد على الظلم، و أنا عزة نفسي اللي ربنا خلقني بيها، منعاني أعيش تحت ريشة من جناح الظُلم..
ربنا خلق الانسان عزيز و خلق له عقل يفكر بيه، مش يخضع لتفكير غيره و يقبل الذل و المهانة، أنا مؤمن بإننا لازم نطيع المسؤول عنا، لكن مش مؤمن أبدًا بإن قفايا ينضرب عليه و أقول آمين..
دي بلدكم أنتم يا بدر، لكن مش بلدي رغم حبي ليها، لكن عمري ما هقبل بيها بلد، بلدي الحقيقية اللي تدعم الموهبة و توفر لها كل حاجة عشان تتحقق على أرض الواقع.”
اتسعت عين بدر بذهولٍ مما باح به، و هتف يلومه بشدة:
” ها تودينا في داهية يا بني، افرض كان حسابك متراقب ! ”
رد قُصي مبتسمًا بسخرية:
” لا متقلقش، قولت لك أنا معايا حصانة أمريكية، بصراحة أنا مهكر تليفون بابا و سمعت خالو عزمي بيقوله إني مكلل بالحصانة الامريكية و المصرية، بس مصر مش ها تعرف تحميني من أمريكا، لكن أمريكا تقدر تحميني من أي حد ”
” الحامي ربنا يا قُصي، و بطل كلام في المواضيع دي ”
” قولت لك متخافش، الغلابة اللي زيك هما اللي بيلبسوا الأساور و يتاخدوا كلبوش، الناس بتاعت قال الله و قال الرسول دي، هما اللي بيبقى عليهم العين و اغلبيتهم مرميين في السجون، أما اللي برا و عايشين في النعيم، الفنانة فلانة و الرقاصة علانة، طب والله العظيم نص المتعلمين و معاهم شهادات مش لاقيين شغل لمهنتهم، و أغلبهم بيشتغل مهنة غير مهنته، و اللي عايش و مدلع و بيحقق احلام الغلابة، الناس بتاعت السلاح و المخدرات.. يا بدر اسكت، أنا لو فضلت في البلد دي؛ كل احلامي ها تندفن قبل ما احقق منها حلم واحد، مصر جميلة بس شعبها يحب ضرب القفا ”
ظل ” بدر ” يستمع له وهو يضع وجهه بين كفيه بصبرٍ، ثُم رفعه و قال:
” أنا معاك في اللي أنت بتقوله، بس ده مش موضوعنا دلوقت، خلينا في الموضوع الأساسي، أنت ها تقوم دلوقت تصلي لله ركعتين و تتذلل لربنا فيهم إنه يشيل الغرور و الكبرياء من قلبك، أنت شخص كويس يا قُصي و عقلك ما شاء الله عليه سابق سنك، لكن قوة الايمان بالله أهم من كل دول ”
تنهّد بأسى على حاله، و أومأ يؤكد على كلامه:
” والله العظيم يا بدر أنا بدعي ربنا مبقاش زي يهوشوع”
انهى جملته، و قام بتشغل المسجل ليسمعه بدر، و للمرة الثالثة يهتز جسد قُصي بارتعاشٍ، و يخفق في السيطرة على حزنه، فيبدأ في البكاء لأول مرة يشهده بدر، بكاءٍ مريرٍ أدمعت له عيني بدر..
قال قُصي من بين دموعه:
” خايف أبقى كده فعلًا يا بدر، حاسس إني مرعوب و بترعب اكتر لما أفكر في عذاب الآخرة و إني ممكن أموت و أنا في قلبي ذرة كِبر حتى ”
تمنى بدر لو أنه معه الآن ليستطيع التخفيف عنه بالعناق أولًا قبل نصحه بأي كلمه، قال بهدوءٍ:
” عياطك دليل على ندمك الصادق و براءة قلبك و حُبك لربنا.. أنت قوي يا قُصي و تقدر تجاهد نفسك يا حبيبي، النفس تعرّف باعتبارها:
الجانب المحرك والموجه والمسؤول عن سلوكات الإنسان وأفكاره و نزواته و أخلاقه و انفعالاته وتوجيهاته سواء كانت خير أو شر، و القرآن أكد الحقيقة دي بقوله تعالى:
﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا *فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا *﴾ (الشمس).
و جهاد النفس يا قُصي من أفضل أنواع الجهاد، قال ابن بطال: “جهاد المرء نفسه هو الجهاد الأكمل، قال تعالى:
{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى}[النازعـات:40].
صمت يرى أثر تأثير كلامه عليه، فوجده يمسح دموعه كالطفل و ينصت باهتمامٍ إليه، مما تابع بدر:
” ركز معايا يا قُصي في اللي هقوله ده..
قال تعالى {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}[القيامة: 1، 2]، ربنا أقسم سبحانه بيوم عظيم؛ لتحقيق وقوعه وبيان هوله، وإيقاظ النفوس النائمة الغافلة عنه، فتصحو وتنتبه من سُباتها.
وقد ذكر الله تعالى النفس اللَّوَّامة إثر قَسَمه بيوم القيامة للعلاقة الوثيقة بين مصير النفس وقيام ذلك اليوم، حيث تقف فيه وحيدة دون نصير؛ فهي نفس تفعل الخير وتحبه وتعمل المعصية وتكرهها، نفس تعيش في داخلها صراعًا بين الخير والشر.. و أنت يا قُصي استعن بالله و جاهد نفسك الأمارة بالسوء و اللي بتزرع في نفسك الكويسة الغرور و الكِبر، و تفهمها إن المغرور ده ملوش مكان في الجنة، و إحنا بنعمل لآخرتنا يا قُصي، ذكر نفسك كل مرة إنك متقدرش تخلق جناح بعوضة رغم عبقريتك، و إنك ولا حاجة في الدنيا، و إن ربنا سبحانه و تعالى نسب لاسمه المتكبر، فهو وحده المنسوب ليه الاسم ده، و أي حد هيكون في قلبه ذرة تكبر هيبقى مصيره زي ابليس اللعين.. مطرود من رحمة ربنا للأبد ”
مسح قُصي وجهه مرورًا بشعره بارتياحٍ، و شكر بدر، ثُم نهض يتوضأ و يسجد لله باكيًا بأن يهدي له قلبه..
في الأسفل قلقت ” منة ” عليه، فقد قضى معظم اليوم في غرفته بالسطح، و ما يقلقها أكثر؛ حزنه الذي أصاب وجهه فجأة..
انهت مكالمتها مع أختها ” شمس ” التي ظلت لساعة كاملة تحثها على التشجع و التقدم لنيل قلبه بأنوثتها كأي زوجة، و لكنها رفضت رفضًا قاطع معللة؛ بأن ذلك سيحط من كرامتها أمامه، و أنها لن تبادر و تخبره بحُبها له مهما حدث، و ستجاهد لمحو هذا الحب تمامًا.
بعد لحظات، جاءها اتصال هاتفي من زعيم إحدى العصابات المشهورة، يخبرها بعثورهم على مكان والدها..
لقد كلفت عصابة منذ أشهر باعادة البحث عن والدها الهارب من السجن لسنوات، و بما أنها كانت تعمل عميلة سرية مع الجيش، فهذا الأمر سهل يالنسبة لها.. معرفة رجال العصابات و تكليفهم بمهمة ما، هذا كله بسيط عليها فعله.
تهلل وجهها في الحال، و اغلقت الهاتف تتوعد له بداخلها بانتقامٍ يشفي غليل السنوات التي ذهبت من حياتها ادراج الرياح، و في تلك اللحظة أتاها هاجس أختها الذي يخبرها بالتقدم و نيل قلب أزرق العينين بتلك الطريقة..
بعد مشاجرة مع نفسها امتدت لنصف ساعة، قررت أخيرًا أن تبادر و تذهب له على طريقة الوداع دون أن تخبره شيء، و إذا امتثل لها ستخبره بما فعله والدها، و إذا جاءت النتائج المرجوة بالفشل، ستختفي من حياته تمامًا دون سابق انذار.. !
فتحت خزانة ملابسها، و ظلت واقفة أمامها لدقائق بتشتيت و حيرة لما سترتديه للفت انتباهه، و هي ليست معتادة على ارتداء الملابس الغير محتشمة، و لكنها في النهاية فعلت و ارتدت!
تأملت نفسها في المرآة بخجلٍ، و مسحت أحمر الشفاه الذي وضعته سريعًا، لكن رغم ذلك ترك أثاره عليها تزامنًا مع دخوله للشقة و صوت صرير اغلاق الباب !
اضطربت انفاسها و أخذت تحاول ممارسة عملية الشهيق و الزفير بانتظامٍ للحد من ارتباكها و ارتجافة جسدها، ثُم بقلبٍ عاشق و بعقلٍ يرفض المجازفة، انتصر القلب الأحمق على صوت العقل، و خرجت من الغرفة تتجه لغرفته بخطوات متعثرة خائفة..
طرقت الباب، و فتح لها بهدوءٍ و قبل أن تتحرك شفتيه بقول شيء، تصلب بصدمة مكانه بعدما تفحصها سريعًا، ثم ولى لها ظهره دون أن يتفوه بشيء، فانتهزت الفرصة و تقدمت نحوه و يديه ترتجفان بشدة، قبضت عليهما لتهدئ من روعها، و رفعت أناملها ناحية ظهره، فلم يتحرك إنشًا واحدًا، و أغمض عينيه يزفر بغضبٍ من نفسه لشدة تشتيت انتباهه في تلك اللحظة و عدم استطاعته ردعها أو قول حرفٍ لها، أحس بأنه أخطئ في حقها و اعترف لنفسه أنه معجب بها كثيرًا، و لكنه لا يريد الخوض معها في علاقة حُب تجعله نقطة ضعفه و الذراع الذي يؤلمه، قاصدًا بذلك حمايتها من كل شيء قد يتعرض له في المستقبل.
لم تعرف بماذا تبدأ كلامها، فأخذت تغني له بصوتها الذي أسر قلبه منذ سماعه لها أول مرة..
تغنت و تغنجّت بكلماتٍ تبوح بالمكمن في الأنفس
« جيت هنا أعمل إيه ؟ حتحبني أو تجرحني ؟
تسأل، بستنى ليه ؟ هو لون عيونك اللي مصبرني
خلي التركيز معايا، أنا مش طالبة تقسى عليا
نبدأ حكايتنا الليلة و خلي احساس الحُب ليا »
تنهد بثقلٍ و اغمض عينيه يتنفس بعمقٍ، و قد بدأت عضلات ظهره في الارتخاء، فابتلع ريقه يجاهد ألا يقع فريسة أمام صوتها الجميل، و قرر أخيرًا المضي قدمًا في جعلها تكرهه بأي شكلٍ، فاستدار لها يتأملها لثوانٍ باعجابٍ، ثم غير نظرته سريعًا لتحل محلها الصرامة المزيفة، و انحنى يهمس جانب أذنها ككل مرةٍ يسمعها كلامه السام، و قبل أن ينطق بكلمة، هربت دمعة مقهورة من عينيها و أغمضت جفونها تطبق على باقي الدموع، كأنها على علم بما سيقوله..
همس بقسوة:
” ده في أحلامك، عَدي و عِدي معايا أيامك “

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية يناديها عائش)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *