روايات
رواية وقبل أن تبصر عيناك الفصل الحادي والأربعون 41 بقلم مريم محمد غريب
رواية وقبل أن تبصر عيناك الفصل الحادي والأربعون 41 بقلم مريم محمد غريب
رواية وقبل أن تبصر عيناك البارت الحادي والأربعون
رواية وقبل أن تبصر عيناك الجزء الحادي والأربعون
رواية وقبل أن تبصر عيناك الحلقة الحادية والأربعون
_ كنتِ هنا ! _ “2”
المكالمة المقتضبة التي تم استدعاؤه بها أغارت قلقًا عظيمًا بصدره، علاوةً على أن صوت الأخير لم يبدو على ما يرام البتّة، شعر “علي” بالسوء في الحال و سار على الوصفة السهلة التي أملاها عليه إبن عمه
ليصل في غضون دقائق معدودات عند شقة عمه، المحراب المحرّم …
كان الباب مفتوحًا بطبيعة الحال، فولج “علي” مناديًا و هو يوّزع بصره المتوجس عبر المساحة المظلمة :
-يا رزق… إنت فين يا رزق.. ررررررزق !
لمح من مكانه بصيصٌ من النور ينبعث عبر فتحة باب غرفة النوم بصدر الشقة …
أسرع “علي” إلى هناك من فوره، و في طريقه لفحت وجهه ذراتٍ من الغبار طبعت أكسبته تعبيرًا عابسًا سرعان ما تبدد بلحظة، عندما صار داخل الغرفة
بالبداية جعلته الصدمة يبدو كصنمٍ أصم، حين شاهد على ضوء الغرفة الخافت إبن عمه و قد جلس القرفصاء مغطيًا نصف وجهه بذراعه، بحيث بقيت عيناه الملآى بالدموع تحدقان بالكفن المهترئ أمامه و الذي برزت منه بقايا رفات آدمية و عظامٍ و خصل شعر شقراء !!!!
-إيه ده يا رزق !!! .. تمتم “علي” و قد إنفكت عقدة لسانه بصعوبةٍ
دقق نظراته المصدومة بالكفن أكثر و هو يردد من جديد :
-يا نهار إسود ..
جتة مين دي.. رد عليا… إوعى تقول إنها !!!!
و صمت رافعًا نظراته إليه، لتتشابك أعينهما الآن، بدون حاجة لجواب “رزق”.. صمته أكد شكوك “علي” الذي نزلت على مقصلة الصدمة هذه المرة لتقضي على قسمًا كبيرًا من براءته الطفولية التي احتفظ بكل ما أوتي من إرادة
لم يستطع نطقًا و لم يقوى على الإتيان بأيّ حركة بعد ذلك …
فقام “رزق” بحركة مفاجئة واقفًا على قدميه، و بمنتهى الهدوء و السكينة.. تحدث و كأنه رجلًا آلى :
-جبت العربية ؟
______________
المكالمة المقتضبة التي تم استدعاؤه بها أغارت قلقًا عظيمًا بصدره، علاوةً على أن صوت الأخير لم يبدو على ما يرام البتّة، شعر “علي” بالسوء في الحال و سار على الوصفة السهلة التي أملاها عليه إبن عمه
ليصل في غضون دقائق معدودات عند شقة عمه، المحراب المحرّم …
كان الباب مفتوحًا بطبيعة الحال، فولج “علي” مناديًا و هو يوّزع بصره المتوجس عبر المساحة المظلمة :
-يا رزق… إنت فين يا رزق.. ررررررزق !
لمح من مكانه بصيصٌ من النور ينبعث عبر فتحة باب غرفة النوم بصدر الشقة …
أسرع “علي” إلى هناك من فوره، و في طريقه لفحت وجهه ذراتٍ من الغبار طبعت أكسبته تعبيرًا عابسًا سرعان ما تبدد بلحظة، عندما صار داخل الغرفة
بالبداية جعلته الصدمة يبدو كصنمٍ أصم، حين شاهد على ضوء الغرفة الخافت إبن عمه و قد جلس القرفصاء مغطيًا نصف وجهه بذراعه، بحيث بقيت عيناه الملآى بالدموع تحدقان بالكفن المهترئ أمامه و الذي برزت منه بقايا رفات آدمية و عظامٍ و خصل شعر شقراء !!!!
-إيه ده يا رزق !!! .. تمتم “علي” و قد إنفكت عقدة لسانه بصعوبةٍ
دقق نظراته المصدومة بالكفن أكثر و هو يردد من جديد :
-يا نهار إسود ..
جتة مين دي.. رد عليا… إوعى تقول إنها !!!!
و صمت رافعًا نظراته إليه، لتتشابك أعينهما الآن، بدون حاجة لجواب “رزق”.. صمته أكد شكوك “علي” الذي نزلت على مقصلة الصدمة هذه المرة لتقضي على قسمًا كبيرًا من براءته الطفولية التي احتفظ بكل ما أوتي من إرادة
لم يستطع نطقًا و لم يقوى على الإتيان بأيّ حركة بعد ذلك …
فقام “رزق” بحركة مفاجئة واقفًا على قدميه، و بمنتهى الهدوء و السكينة.. تحدث و كأنه رجلًا آلى :
-جبت العربية ؟
______________
بمعاونة مجموعة من رجال الحي الأشدّاء، تم نقل السيدة الأم.. “دلال” من بيتها إلى المشفى التخصصي التي أودعت بها زوجة إبنها و المفضلة الغالية على قلبها… “هانم”
لم تمكث هادئة أبدًا حتى أقالوها بسيارة مخصوصة و صعدت بالكرسي المتحرك خاصتها إلى غرفة “هانم” …
كان “سالم” أول من رآها حين برزت عند مقدمة الرةاق الطويل و قد كان يقف قبالة أولاده و شقيقه “عبد الله”.. مضى صوبها فورًا و هو يهتف بعتابٍ :
-كده بردو ياما !
نفذتي إللي في راسك و جيتي. قولتلك كلها سواد الليل و راجعين.. و بعدين خلاص الفجر وجب
واصل الشاب القوي دفعها بالكرسي تجاه سيده، بينما ترد “دلال” بقلقٍ متزايد :
-مقدرش أقعد على بعضي كده قولتلك يا سالم. دي هانم.. مش أي حد. هي فين الغالية ؟؟!!!
ابتسم “سالم” رابتًا على كتفها بلطفٍ و قال مشيرًا بيده :
-جوا مع الحريم بيغروا لها هدومها ..
ثم إلتفت آمرًا إبنه الأكبر :
-تعالى يا مصطفى دخل ستك عند أمك …
أصغى إليه “مصطفى” بانصياعٍ تام و أقبل نحو جدته، تولّى زمام الأمر و باشر دفعها على الفور تجاه غرفة أمه، ليصرف “سالم” الرجال بعد أن شكرهم بأنفته المعهودة
من جهة أخرى يطلب “عبد الله” الرخصة لكي يذهب إلى دورة المياه، و هكذا بقى “حمزة” فقط برفقة أبيه، و هذا أيضًا بعثه “سالم” بعد أن أعطاه حفنة من المال إلى كافيتيريا المشفى ليأتي له بفنجانٍ من القهوة
و إذ بقى وحيدًا، ألقى نظرة إلى ساعة يده الضخمة و تمتم بتعجبٍ :
-الله.. إمام اتأخر كده ليه… بيعمل إيه كل ده !
و زفر نفسًا حارًا من صدره، قبل أن ينهيه تمامًا برز “إمام” فجأة عند مقدمة الرواق صائحًا بلهاثٍ حاد و هو يتكئ على الفاصل المعدني للجدار :
-سالم.. سالم إلحق إبنك !!
حتى لم يمهل نفسه فرصة ليسمع الجملة جيدًا، إنتفض “سالم” منطلقًا صوب أخيه …
-رزق ماله ؟؟؟؟؟
كان على وشك أن يفقد صوابه ما لم يجبه “إمام” في التو.. و هو ما فعله رغم الإعياء الشديد الذي ألمّ به… فنطق لسانه مترددًا و مجبرًا في آن بينما نظراته القلقة تلتقي بنظرات أخيه الصاعقة :
-رزق عرف كل حاجة يا سالم !
عبارة وجيزة قد تكون مبهمة …
إلا أن “سالم” أدرك مفادها فورًا، رغم ذلك آمل أن يكون مخطئًا فسأل أخيه زاجرًا بشدة :
-رزق عرف إيه إمام ؟!
مذعورًا لردة فعل شقيقه المبدئية دون أن يدري بالأمر كله، أضطر “إمام” لمصارحته و الدموع تكاد تفيض من عينيه :
-عرف.. عرف سرنا. عرف عن أمه كل حاجة …
كان هذا فوق طاقة إحتماله، في أقل من ثانية إنقض “سالم” على “إمام” ممسكًا بتلابيبه، حشره بين جسده و الجدار البارد من خلفه و صرخ فيه بضراوةٍ :
-إنـت بتقــول إيــــــه ؟؟؟؟؟؟
إزااااااي.. إزاااي عرف. ميــــــن قالَّــــه. مين عـرَّفــــــه ؟؟؟؟؟؟؟؟؟
لم تمكث هادئة أبدًا حتى أقالوها بسيارة مخصوصة و صعدت بالكرسي المتحرك خاصتها إلى غرفة “هانم” …
كان “سالم” أول من رآها حين برزت عند مقدمة الرةاق الطويل و قد كان يقف قبالة أولاده و شقيقه “عبد الله”.. مضى صوبها فورًا و هو يهتف بعتابٍ :
-كده بردو ياما !
نفذتي إللي في راسك و جيتي. قولتلك كلها سواد الليل و راجعين.. و بعدين خلاص الفجر وجب
واصل الشاب القوي دفعها بالكرسي تجاه سيده، بينما ترد “دلال” بقلقٍ متزايد :
-مقدرش أقعد على بعضي كده قولتلك يا سالم. دي هانم.. مش أي حد. هي فين الغالية ؟؟!!!
ابتسم “سالم” رابتًا على كتفها بلطفٍ و قال مشيرًا بيده :
-جوا مع الحريم بيغروا لها هدومها ..
ثم إلتفت آمرًا إبنه الأكبر :
-تعالى يا مصطفى دخل ستك عند أمك …
أصغى إليه “مصطفى” بانصياعٍ تام و أقبل نحو جدته، تولّى زمام الأمر و باشر دفعها على الفور تجاه غرفة أمه، ليصرف “سالم” الرجال بعد أن شكرهم بأنفته المعهودة
من جهة أخرى يطلب “عبد الله” الرخصة لكي يذهب إلى دورة المياه، و هكذا بقى “حمزة” فقط برفقة أبيه، و هذا أيضًا بعثه “سالم” بعد أن أعطاه حفنة من المال إلى كافيتيريا المشفى ليأتي له بفنجانٍ من القهوة
و إذ بقى وحيدًا، ألقى نظرة إلى ساعة يده الضخمة و تمتم بتعجبٍ :
-الله.. إمام اتأخر كده ليه… بيعمل إيه كل ده !
و زفر نفسًا حارًا من صدره، قبل أن ينهيه تمامًا برز “إمام” فجأة عند مقدمة الرواق صائحًا بلهاثٍ حاد و هو يتكئ على الفاصل المعدني للجدار :
-سالم.. سالم إلحق إبنك !!
حتى لم يمهل نفسه فرصة ليسمع الجملة جيدًا، إنتفض “سالم” منطلقًا صوب أخيه …
-رزق ماله ؟؟؟؟؟
كان على وشك أن يفقد صوابه ما لم يجبه “إمام” في التو.. و هو ما فعله رغم الإعياء الشديد الذي ألمّ به… فنطق لسانه مترددًا و مجبرًا في آن بينما نظراته القلقة تلتقي بنظرات أخيه الصاعقة :
-رزق عرف كل حاجة يا سالم !
عبارة وجيزة قد تكون مبهمة …
إلا أن “سالم” أدرك مفادها فورًا، رغم ذلك آمل أن يكون مخطئًا فسأل أخيه زاجرًا بشدة :
-رزق عرف إيه إمام ؟!
مذعورًا لردة فعل شقيقه المبدئية دون أن يدري بالأمر كله، أضطر “إمام” لمصارحته و الدموع تكاد تفيض من عينيه :
-عرف.. عرف سرنا. عرف عن أمه كل حاجة …
كان هذا فوق طاقة إحتماله، في أقل من ثانية إنقض “سالم” على “إمام” ممسكًا بتلابيبه، حشره بين جسده و الجدار البارد من خلفه و صرخ فيه بضراوةٍ :
-إنـت بتقــول إيــــــه ؟؟؟؟؟؟
إزااااااي.. إزاااي عرف. ميــــــن قالَّــــه. مين عـرَّفــــــه ؟؟؟؟؟؟؟؟؟
توتر “إمام” و هو يرد عليه مرتجفًا عن آخره :
-سمعنا يا سالم. سمعنا لما كنا بنتكلم هنا.. وقفني لما رجعت البيت أجيب الفلوس إللي وصيت عليها. ثبتني في الخرابة و حط المطوة على رقبتي. سيّح دمي يا سالم و غصبني أحكي كل حاجة …
صرخ “سالم” بجنونٍ هز المشفى هزًا لدرجة تجمع بعض العاملين حولهم و خروج بعض أفراد العائلة من غرفة “هانم” :
-حكيتله يا إمام.. حكيتله. إزااااااااااي عملت كــــــداااااااا إزااااااااي ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
و شدد ضغط معصمه على رقبة أخيه …
ليرفع “إمام” يده المخضلة بدمائه و التي كان يكبس بها الجرح على عنقه، وضعها في وجه أخيه مبررًا بوهنٍ شديد :
-كان هايموتني. إنت ماشوفتش شكله كان إزاي.. ماكنش هايهدا و لا يسبني قبل ما يعرف كل حاجة.. و الله ما كنت أقوله بخطري… بس غصب عني. ماعرفتش أفلفص منه !!!!
كان عقل “سالم” يعمل بلا هوادة أثناء حديث الأخير، لم يلقي بالًا حتى بمعرفة جوابه، أفلته بلحظة و استدار مطلقًا لساقيه الريح
أخذ الأروقة و الدرج ركضًا واسعًا و هو لا يرى أمامه سوى وجهان.. “رزق” و “كاميليا” …
_________________
السماء صارت فجرًا و النهار يتصاعد بسرعة تدريجية …
خلال ثلاثة ساعات و قليل من القيادة بسيارة خاصة جلبها “علي الجزار”… و بالتنسيق مع الأقرباء و المعارف بكافة أسقاع المناطق بالبلد كلها
تم وصولهما على خير و سلامة إلى مدينة الأسكندرية، مسقط رأسه و نشأته الأولى.. تحديدًا ذهبا رأسًا إلى المقابر المطلة على البحر مباشرةً
كان “رزق” طوال الطريق يجلس بالمقعد الخلفي، في حجره وضع بقايا أمه الملفوفة بالكفن، كان يبدو منتشيًا، نصف غائبًا عن الوعي
حتى جرعة مخدر متينة قد لا يكون لها نفس التأثير، و “علي” لا يفقه ما أصابه، أهي صدمة.. أم ماذا !
لكن على كلٌ لا يلومه، و لا ينوي ذلك مهما حدث.. مهما حدث …
توقفت السيارة عند مدخل المقابر، بينما كان “علي” يأتي بأدوات الحفر البدائية من الصندوق الخلفي، كان “رزق” سبقه حاملًا كومة العظام على ذراعيه
كان يشبه السكارى إلى حد كبير، ما إن وصل أمام شاهدة قبر جده، أراح عظام أمه فوق التربة الطينية، مد يده ليستلّ مديته الحادة من خلف طوق خصره
و بأيدي مرتعشة إنحنى صوب الكفن و جاء بخصلة شعر طويلة، قصّها بينما تنهمر دموعه لتسقى الزهور الجافة أسفل قدميه، ثم أخرج محفظته و دس الخصلة بداخلها
لحظات و كان “علي” يقف إلى جواره.. بدون أن ينظر إليه “رزق” أحس به يشمر عن ساعديه بغية الحفر
لكنه مد ذراعه ناحيته و إنتزع منه الفأس بحزمٍ، أشار له أن يرتد بعيدًا، ليبدأ هو بانشاء حفرةٍ لأمه بيديه.. بجوار حفرة جده …
نصف ساعة من العمل الدؤوب المتواصل، فرغ “رزق” و قد وضع أمه أخيرًا بمرقدها و أراحها بعد عذابٍ لا يصدق، هو و لا غيره.. أوصلها إلى مثواها الأخير مثل كبقية البشر
و قد أهال الثرى عليها و زرع بضعة بتلاتٍ من الزهور عند رأسها، الآن فقط اطمأن، الآن فقط أمه ترقد بسلام.. كما شعر هو أيضًا ببرودةٍ مفاجئة و ضعفت قواه
ترنح خلا ثانيتين و كاد يسقط، لولا ذراعيّ “علي” أحاطتا به، أسنده وصولًا إلى السيارة، هذه المرة وضعه بالمقعد الأمامي
أتى له بقنينة من المياه و جعله يشرب منها على جرعاتٍ و هو يقول :
-اشربها كلها يا رزق.. اشرب.. إنت كويس ؟
تيجي نفوت على المستشفى نشوفك ؟!!
يدفع “رزق” بيد “علي” الممسكة بالقنينة عند إفراغ نصفها في جوفه، كالأطفال كان قد بلل فمه و صدره، لكنه لم يبالي
تطلع إلى “علي” بنظراتٍ محتدة و غمغم بقتامةٍ مطلقة :
-وديني لسالم الجزار !
_________________
-سمعنا يا سالم. سمعنا لما كنا بنتكلم هنا.. وقفني لما رجعت البيت أجيب الفلوس إللي وصيت عليها. ثبتني في الخرابة و حط المطوة على رقبتي. سيّح دمي يا سالم و غصبني أحكي كل حاجة …
صرخ “سالم” بجنونٍ هز المشفى هزًا لدرجة تجمع بعض العاملين حولهم و خروج بعض أفراد العائلة من غرفة “هانم” :
-حكيتله يا إمام.. حكيتله. إزااااااااااي عملت كــــــداااااااا إزااااااااي ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
و شدد ضغط معصمه على رقبة أخيه …
ليرفع “إمام” يده المخضلة بدمائه و التي كان يكبس بها الجرح على عنقه، وضعها في وجه أخيه مبررًا بوهنٍ شديد :
-كان هايموتني. إنت ماشوفتش شكله كان إزاي.. ماكنش هايهدا و لا يسبني قبل ما يعرف كل حاجة.. و الله ما كنت أقوله بخطري… بس غصب عني. ماعرفتش أفلفص منه !!!!
كان عقل “سالم” يعمل بلا هوادة أثناء حديث الأخير، لم يلقي بالًا حتى بمعرفة جوابه، أفلته بلحظة و استدار مطلقًا لساقيه الريح
أخذ الأروقة و الدرج ركضًا واسعًا و هو لا يرى أمامه سوى وجهان.. “رزق” و “كاميليا” …
_________________
السماء صارت فجرًا و النهار يتصاعد بسرعة تدريجية …
خلال ثلاثة ساعات و قليل من القيادة بسيارة خاصة جلبها “علي الجزار”… و بالتنسيق مع الأقرباء و المعارف بكافة أسقاع المناطق بالبلد كلها
تم وصولهما على خير و سلامة إلى مدينة الأسكندرية، مسقط رأسه و نشأته الأولى.. تحديدًا ذهبا رأسًا إلى المقابر المطلة على البحر مباشرةً
كان “رزق” طوال الطريق يجلس بالمقعد الخلفي، في حجره وضع بقايا أمه الملفوفة بالكفن، كان يبدو منتشيًا، نصف غائبًا عن الوعي
حتى جرعة مخدر متينة قد لا يكون لها نفس التأثير، و “علي” لا يفقه ما أصابه، أهي صدمة.. أم ماذا !
لكن على كلٌ لا يلومه، و لا ينوي ذلك مهما حدث.. مهما حدث …
توقفت السيارة عند مدخل المقابر، بينما كان “علي” يأتي بأدوات الحفر البدائية من الصندوق الخلفي، كان “رزق” سبقه حاملًا كومة العظام على ذراعيه
كان يشبه السكارى إلى حد كبير، ما إن وصل أمام شاهدة قبر جده، أراح عظام أمه فوق التربة الطينية، مد يده ليستلّ مديته الحادة من خلف طوق خصره
و بأيدي مرتعشة إنحنى صوب الكفن و جاء بخصلة شعر طويلة، قصّها بينما تنهمر دموعه لتسقى الزهور الجافة أسفل قدميه، ثم أخرج محفظته و دس الخصلة بداخلها
لحظات و كان “علي” يقف إلى جواره.. بدون أن ينظر إليه “رزق” أحس به يشمر عن ساعديه بغية الحفر
لكنه مد ذراعه ناحيته و إنتزع منه الفأس بحزمٍ، أشار له أن يرتد بعيدًا، ليبدأ هو بانشاء حفرةٍ لأمه بيديه.. بجوار حفرة جده …
نصف ساعة من العمل الدؤوب المتواصل، فرغ “رزق” و قد وضع أمه أخيرًا بمرقدها و أراحها بعد عذابٍ لا يصدق، هو و لا غيره.. أوصلها إلى مثواها الأخير مثل كبقية البشر
و قد أهال الثرى عليها و زرع بضعة بتلاتٍ من الزهور عند رأسها، الآن فقط اطمأن، الآن فقط أمه ترقد بسلام.. كما شعر هو أيضًا ببرودةٍ مفاجئة و ضعفت قواه
ترنح خلا ثانيتين و كاد يسقط، لولا ذراعيّ “علي” أحاطتا به، أسنده وصولًا إلى السيارة، هذه المرة وضعه بالمقعد الأمامي
أتى له بقنينة من المياه و جعله يشرب منها على جرعاتٍ و هو يقول :
-اشربها كلها يا رزق.. اشرب.. إنت كويس ؟
تيجي نفوت على المستشفى نشوفك ؟!!
يدفع “رزق” بيد “علي” الممسكة بالقنينة عند إفراغ نصفها في جوفه، كالأطفال كان قد بلل فمه و صدره، لكنه لم يبالي
تطلع إلى “علي” بنظراتٍ محتدة و غمغم بقتامةٍ مطلقة :
-وديني لسالم الجزار !
_________________
تلقى السلك يرن، إذ كان البيت خاليًا إلا من سواه، أمام الجدار المثوب.. يحتضن إطار صورتها و قلبه يدمع لا عينيه
ذلك الخواء العظيم الذي حل بداخله، إنه يختبره كالموت، أين هي الآن ؟
بديهيًا أن “رزق” قد أخذها منه …
و لكن أين أخذها ؟
أين أخذ حبيبته ؟ إلى أين أخذها ؟ أين هي “كاميليا” ؟
-خلاص كده يا كاميليا ؟! .. نطق “سالم” بصوتٍ مسموع يخاطب صورتها
و بكل شجن العالم استطرد و كأنها تسمعه :
-خلاص يا حبيبتي.. سبتيني. مش هاشوفك تاني.. و لا أحس بيكي. لما توحشيني مش هقرب عليكي و أشم ريحتك. مش هقولك صباح الخير لما أصحى.. و لا تصبحي على خير و لما أنام.. لما الدنيا تضيق عليا.. مين هايسمعني ؟ مين هاكلمه و أفضفضله ؟ أنا كنت مصبر نفسي إنك جمبي… دلوقتي أنا أعمل إيه.. أنا حاسس إني إتعريت في وسط برد و عواصف. أعمل إيه يا كاميليا.. ردي و قوليلي أعمل إيه ؟!!
“ســـــالـم يـا جـــزااااااااااااااااااااااااار !!!”
إرتفع رأس “سالم” عندما هدر ذلك النداء باسمه، تحفز بشدة بالأخص لأنه صوت إبنه، صوت “رزق” …
أسند “سالم” الإطار إلى جوار الفراش، أطل من خلف نافذة الغرفة، ليشاهد “رزق” يأتي راجلًا من منتصف الساحة بالأسفل، على صوت هتافه فتحت النوافذ قاطبةً
حتى أنه رأى آل بيته و قد عاد أغلبهم، النساء و قد رافقهن كلًا من “مصطفى” و الشقيق الأصغر “عبد الله” …
لم يضيع وقت أكثر و إستدار موليًا للأسفل
صدره يعلو و يهبط خافقًا باللهاث، بينما يستقر بالشرفة الرئيسية، و الآن صار قبالة إبنه مباشرةً، لا يفصلهما سوى بضعة أمتار
كانت المواجهة مشهودة، و “سالم” في وضعٍ غير متوقع بلا حول و لا قوة، بيّد أنه لا يستطيع إيقاف إبنه أبدًا، و لو أنه في الأساس لا يريد، بعد الآن أيّما سيحدث فلن يكون اسوأ مما حدث سلفًا …
في الطرف الآخر “رزق”
و كأن لا أحد هنا أمامه سوى أبيه، و كأن ما من أحدٍ سيسمعه غيره.. صاح فجأة من مكانه بكلمةٍ واحدة :
-ليـــه ؟
لعل “سالم” توقع إتهامات و شنائع أكثر فداحة، لكن هذا السؤال تحديدًا لم يتوقعه، لأنه حمّال أوجه.. لا يمكن أن يحدد له إجابة دقيقة …
مرةً أخرى يكرر “رزق” سؤاله بوحشية أكبر :
-عملت فيها كده ليــــــه ؟؟؟؟؟
و تقدم خطوة لم يتمّها إذ تعثر في حجرٍ و سقط على ركبيته …
أبقى رأسه مخفضًا، مصممًا، منتظرًا جواب “سالم” !
و لأول مرة تطل من عينيّ أبيه الدموع و هو يستجديه يائسًا :
-كل ده كان عشانك !!
في هذه اللحظة رفع “رزق” وجهه و تعلّقت نظرته الميتة بنظرة أبيه المتوّهجة.. نهض واقفًا على قدميه بصعوبة و هو ينفض عنه يديّ “علي” التي إمتدت لتساعده
و بيده استلّ سلاحه من غمده الخلفي بطوق خصره، رفعه بمستوى نظر أبيه و هو يفتح فمه ليقول بآلية :
-أنا مش هقدر أقتلك انت آه.. بس أقدر أقتل الشخص إللي انت خلقته فيا… أقدر أقتل نفسي !
ذلك الخواء العظيم الذي حل بداخله، إنه يختبره كالموت، أين هي الآن ؟
بديهيًا أن “رزق” قد أخذها منه …
و لكن أين أخذها ؟
أين أخذ حبيبته ؟ إلى أين أخذها ؟ أين هي “كاميليا” ؟
-خلاص كده يا كاميليا ؟! .. نطق “سالم” بصوتٍ مسموع يخاطب صورتها
و بكل شجن العالم استطرد و كأنها تسمعه :
-خلاص يا حبيبتي.. سبتيني. مش هاشوفك تاني.. و لا أحس بيكي. لما توحشيني مش هقرب عليكي و أشم ريحتك. مش هقولك صباح الخير لما أصحى.. و لا تصبحي على خير و لما أنام.. لما الدنيا تضيق عليا.. مين هايسمعني ؟ مين هاكلمه و أفضفضله ؟ أنا كنت مصبر نفسي إنك جمبي… دلوقتي أنا أعمل إيه.. أنا حاسس إني إتعريت في وسط برد و عواصف. أعمل إيه يا كاميليا.. ردي و قوليلي أعمل إيه ؟!!
“ســـــالـم يـا جـــزااااااااااااااااااااااااار !!!”
إرتفع رأس “سالم” عندما هدر ذلك النداء باسمه، تحفز بشدة بالأخص لأنه صوت إبنه، صوت “رزق” …
أسند “سالم” الإطار إلى جوار الفراش، أطل من خلف نافذة الغرفة، ليشاهد “رزق” يأتي راجلًا من منتصف الساحة بالأسفل، على صوت هتافه فتحت النوافذ قاطبةً
حتى أنه رأى آل بيته و قد عاد أغلبهم، النساء و قد رافقهن كلًا من “مصطفى” و الشقيق الأصغر “عبد الله” …
لم يضيع وقت أكثر و إستدار موليًا للأسفل
صدره يعلو و يهبط خافقًا باللهاث، بينما يستقر بالشرفة الرئيسية، و الآن صار قبالة إبنه مباشرةً، لا يفصلهما سوى بضعة أمتار
كانت المواجهة مشهودة، و “سالم” في وضعٍ غير متوقع بلا حول و لا قوة، بيّد أنه لا يستطيع إيقاف إبنه أبدًا، و لو أنه في الأساس لا يريد، بعد الآن أيّما سيحدث فلن يكون اسوأ مما حدث سلفًا …
في الطرف الآخر “رزق”
و كأن لا أحد هنا أمامه سوى أبيه، و كأن ما من أحدٍ سيسمعه غيره.. صاح فجأة من مكانه بكلمةٍ واحدة :
-ليـــه ؟
لعل “سالم” توقع إتهامات و شنائع أكثر فداحة، لكن هذا السؤال تحديدًا لم يتوقعه، لأنه حمّال أوجه.. لا يمكن أن يحدد له إجابة دقيقة …
مرةً أخرى يكرر “رزق” سؤاله بوحشية أكبر :
-عملت فيها كده ليــــــه ؟؟؟؟؟
و تقدم خطوة لم يتمّها إذ تعثر في حجرٍ و سقط على ركبيته …
أبقى رأسه مخفضًا، مصممًا، منتظرًا جواب “سالم” !
و لأول مرة تطل من عينيّ أبيه الدموع و هو يستجديه يائسًا :
-كل ده كان عشانك !!
في هذه اللحظة رفع “رزق” وجهه و تعلّقت نظرته الميتة بنظرة أبيه المتوّهجة.. نهض واقفًا على قدميه بصعوبة و هو ينفض عنه يديّ “علي” التي إمتدت لتساعده
و بيده استلّ سلاحه من غمده الخلفي بطوق خصره، رفعه بمستوى نظر أبيه و هو يفتح فمه ليقول بآلية :
-أنا مش هقدر أقتلك انت آه.. بس أقدر أقتل الشخص إللي انت خلقته فيا… أقدر أقتل نفسي !
و فجأة سحب صمام الامان و صوّب السلاح على الفور نحو رأسه !!!!
شقّت صرخة “سالم” الحي بأكلمه، و تحوّلت الساحة إلى مسرح، شهقات النساء قد علت و الصدمة جللت وجوه الرجال و بخاصةً “مصطفى” الذي واصل النظر إلى أخيه غير الشقيق بعدم تصديق
كان الوضع غير قابل للهزل أو المزاح، إذ بالفعل إنفجر السلاح بطلقةٍ اخطأت هدفها بفضل “علي” الذي إنقض على إبن عمه و أطاح بذراعه بيعدًا، فانطلقت الرصاصة مصيبة واجهة زجاجية لمتجر المخبوزات المجاور
لم يكن “رزق” بالخصم الهين، لكنها كانت مسألة حياة أو موت بالنسبة لـ”علي” …
نجح بانتزاع السلاح من يده و قام عنه مسرعًا
بالمقابل تتهاوى ساقيّ “سالم” من شدة الرعب، أما “رزق” الذي أحبطت إرادة مجددًا لم يتحمل و إنفجر صارخًا ملء قلبه، ثم أصبح عقل فارغًا.. ليسقط فجأة مغشيًا عليه !
شقّت صرخة “سالم” الحي بأكلمه، و تحوّلت الساحة إلى مسرح، شهقات النساء قد علت و الصدمة جللت وجوه الرجال و بخاصةً “مصطفى” الذي واصل النظر إلى أخيه غير الشقيق بعدم تصديق
كان الوضع غير قابل للهزل أو المزاح، إذ بالفعل إنفجر السلاح بطلقةٍ اخطأت هدفها بفضل “علي” الذي إنقض على إبن عمه و أطاح بذراعه بيعدًا، فانطلقت الرصاصة مصيبة واجهة زجاجية لمتجر المخبوزات المجاور
لم يكن “رزق” بالخصم الهين، لكنها كانت مسألة حياة أو موت بالنسبة لـ”علي” …
نجح بانتزاع السلاح من يده و قام عنه مسرعًا
بالمقابل تتهاوى ساقيّ “سالم” من شدة الرعب، أما “رزق” الذي أحبطت إرادة مجددًا لم يتحمل و إنفجر صارخًا ملء قلبه، ثم أصبح عقل فارغًا.. ليسقط فجأة مغشيًا عليه !
يتبع…..
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على (رواية وقبل أن تبصر عيناك)