رواية قلبي و عيناك و الأيام الفصل السابع و الخمسون 57 بقلم رحاب إبراهيم حسن
رواية قلبي و عيناك و الأيام الفصل السابع و الخمسون 57 بقلم رحاب إبراهيم حسن
رواية قلبي و عيناك و الأيام البارت السابع و الخمسون
رواية قلبي و عيناك و الأيام الجزء السابع و الخمسون
رواية قلبي و عيناك و الأيام الحلقة السابعة و الخمسون
… مواجهة وصدمة…؟!…~
لا تترك عثرة خلفك قد يأتي ريحها العاصف للآت !
ها وقد دقت الساعة العاشرة صباحاً …
مرت فتاة من المدخل الرئيسي للمشفى .. وتقدمت بخطوات ثابتة للداخل وخصلات شعرها ترفرف على النظارة السوداء التي تخفي جزءّ كبير حول عينيها.
ويبدو أنها قد لفتت الانتباه منذ دخولها باللحظة الأولى بجمالها ومظهرها المُلفت وخاصةً أنها ترتدي بنطال من الجينز الضيق جدًا، وبلوزة بيضاء تماثله ضيقا وتبرز مفاتنها عن عمد.
ورغم برودة الهواء إلا انها لا يبدو عليها الاكتراث لأن ترتدي المزيد وتنعم بالدفء.
تبختر خطواتها وهي تسير يقول أنها تتعمد لفت الانتباه وأغراء الرجال ! …. حتى صعدت الفتاة التي تعلق حامل حقيبتها بمعصمها بمنتهى الثقة وكأن المكان أصبح ملكها تمامًا..!
كاد أن يسألها عامل المصعد عن هويتها، ولكنه خشي خلق مشكلة لنفسه وأكتفى بسؤالها عن رقم الطابق المقصود … فأخبرته بثبات دون حتى أن تلتفت له.
ومرت دقائق حتى خرجت من المصعد لهدفها مباشرةً … وكان هدفها هو مكتب الدكتور ” آسر” … وعندما مرت بالممر الذي يقف فيه يوسف يتحدث مع جاسر ويتبادلان أطراف الحديث عن شيء يخص المشفى … أشارت بيديها تحية السلام، وبصوتً تغمره الأنوثة غمراً …. فرد يوسف دون أن ينظر لها بينما جاسر ضيق عينيه متعجبًا وقال باستغراب ليوسف :
_ مش دي ريهام الدهبي ؟! …..
التفت يوسف للفتاة التي ابتعدت عنهما خطواتٍ، وقال وظهر بعينيه أنه غير متأكدًا :
_ مش عارف …. وبعدين افتكرلنا حاجة عدلة بدل البت الملزقة دي ! … والله جدي كان عنده حق يرفض خطوبتها بآسر .
زفر جاسر ببعض العصبية وقال:
_ لأ هي ريهام الدهبي أنا عارفها كويس …. بس اللي أعرفه برضو أن الموضوع ده المفروض أنتهى وآسر خلصه من وقت ما رجعنا من القافلة ! ….
اتسعت عينان يوسف بدهشة والتفت مرة أخرى للفتاة التي بالفعل دخلت مكتب آسر دون حتى أن تستأذن … ثم قال بشك:
_ مش معقول آسر اللي يكون كلمها تيجي ! … هو اصلًا مكانش بيحبها ولا كانت في دماغه ، هو كان عايز يعاند جدي وبالمرة يحاول ينسى حبيبته الأولانية بيها!
أطبق جاسر شفتيه على بعضهما في يأس ثم قال بتبرم:
_ دي أخرة العند …. وأدي سما عرفته أنه محبش أصلًا قبلها وكل اللي فات كان لعب عيال وعبط ! …. بس الانسان مش بيصبر !
نظر يوسف له بسخرية وقال:
_ لأ وأنت اللي كان صبرك يتحكي عنه ! ….. ما أنت كنت مقضيها !
رد جاسر بصدق واعترف:
_ انت قولتها بنفسك …. كنت !، بس دلوقتي خلاص عايز استقر وتوبت ، وبعدين أنا مالعبتش بواحدة ولا قضيتها زي ما أنت فاكر!، وكل اللي عرفتهم هما اللي جريوا ورايا وكلهم شمال اصلًا ! ….. بس لما لقيت البت الصح اللي دوختني ولففتني كده حواليها اتمنى بس كلمة …. اتمسكت بيها … يابني أحنا بنحب البنت الصعبة اللي مانعرفش نوصلها بسهولة … أنما السهلة دي تمامها يومين وبتتنسي … ما بتلزقش في الدماغ غير ام لسانين اللي تيجي تكلمها تلم عليك الناس .
وضحكا الاثنان سويًا حتى قال يوسف بطيف محبة طفر بعينيه:
_ واللي بتلزق في القلب هي الحنينة الجدعة … اللي تحسها حته منك ، اللي تبقى عايز بنتك شبها ، وتبقى عايزها أم لولادك … عارف يا جاسر …كلكم فاكرين أني بحب حميدة عشان اكلها حلو …. بس هي الوحيدة اللي عارفة الحقيقة … بحبها عشان بحب حياتي بيها هي بالذات … وبحسها قريبة أوي مني …من قبل حتى ما أعرف أنها بنت عمي كنت بحسها مني !
ضربه جاسر ضربةً خفيفة على كتفه بمزاح وقال بابتسامة صادقة:
_ خلاص قريب هنشوفك عريس وهتفرح وتفرحنا معاك يا چو … يمكن جميلة قلبها يحن وتحس على دمها وتوافق ! ….. بحب واحدة عندها أنيميا في المشاعر !
ضغط عالي في طولة اللسان والتهزيق! …. فيروسات في لسانها!
وانخرط يوسف في نوبة من الضحك وشاركه جاسر بعد لحظات.
********
كان آسر على وشك أن يعود للعمل بعدما أخذ فترة مروره على بعض المرضى … ولكن توقف مدهوشا بدخول تلك الفتاة الذي واعدها لفترة قبل سفره للبلدة الريفية، وقد اتفقا سابقا أن يعلنا خطوبتهما لفترة وجيزة ومرتبة حتى ينال كلًا منهما هدفه بذلك الارتباط المزيف والمؤقت …
قالت ريهام مباشرةً وهي تخلع نظارتها بثقة امرأة تدرك أنها فاتنة:
_ لقيتك مابتسألش قولت أما اسأل أنا !
تنهد آسر وهو ينظر لعدة اتجاهات بنظرات خاطفة، ثم عاد ناظرا لها وقال محاولا الهدوء قبل أن يتأكد من ظنه:
_ اللي بينا أنا نهيته يا ريهام … وأظن علاقتنا مكنتش جدية للدرجة!.
ابتسمت ريهام ولكن ابتسامتها لا تنذر بالخير … أو أنها لم تأخذ حديثه على محمل الجد … فقالت:
_ نهيته بمكالمة تليفون ! …. مكلفتش نفسك تطلب تقابلني وتفهمني حتى ! …. المفروض أنك كنت مسافر قافلة طبية تبع المستشفى ، سافرت وكنت تمام … مجرد ما رجعت القاهرة كلمتني وقولتلي كلام مافهمتهوش ! …. سيبتك تفكر وتهدا براحتك والنهاردة جيتلك …. أنت ناسي أن كان بينا اتفاق واكدتلي بتنفيذه؟!
تحكم آسر بهدوء هذه المرة أيضا وأجاب :
_ اتفاق فاشل …. وبعترف أني خدته في لحظة غضب من جدي وتحكمه فينا … وأنتي كنتي عايزة تغيظي بيا خطيبك السابق ! …. أظن في كتير غيري يقدروا يقوموا بالدور ده واحسن مني !
احتدت نظرات ريهام وبائت أقرب للشراسة وهتفت:
_ بعد ما وصلتله أننا هنتخطب وأني على علاقة بيك ؟! ….. الفترة اللي فاتت دي عرفته أني بجهز للخطوبة مش أني هفركش ! …. لو مش أد كلامك بتقوله ليه ؟! أنت عارف أحنا لو ما اتخطبناش في أقل من شهر هيحصل إيه؟!
لم يكن آسر يعتقد أن الأمر سيتأزم لهذه الدرجة ! …. بل معرفة عابرة وانتهى أمرها ومرت ! …. فقال بتعجب :
_ هيحصل إيه يعني ؟!
نبض الغضب بصوت ريهام وهي ترد بصوتً مرتفع :
_ هيشمت فيا أكتر وهتكسرني قدامه ! ….. وعيلته كلها هتفرح فيا ومش هقدر اروح أي مكان هما فيه!
غضب آسر من سطحية رؤيتها وقال بحدة:
_ أنتي سطحية وتافهة! … وأنا للأسف كنت هدخل نفسي في حوارات ومشاكل لو كنت خطبتك بالفعل! …. وأظن أنا كلمتك باحترام واعتذرت عن الاتفاق ده فلو سمحتي ….
أشارت له ريهام بنظرات واسعة تعبر عن التهديد الصريح وقالت:
_ مش ريهام الدهبي اللي يتقالها كده ! …. وأنا هعرف اتصرف وأخليه وأخليك أنت كمان تندموا على اللي عملتوه فيا !
وبعدها خرجت من المكتب بعدما رددت بشراسة تهديدها الواضح ….. فتمتم آسر بعصبية:
_ انسانة مريضة بعقلها وغبية! ….
وهنا تذكر سما ! ….. لم يكن وجه مقارنة بين تلك الفتاة الرقيقة والناضجة، وبين فتاة لم تعرف من العمر سوى أن الايام تمر وعقلها يضيق أكثر!
********
وبمكتب وجيه….
ابتعدت ليلى عن ذراعيه حتى وقفت بعيدة عدة خطوات شعرت فيهن ببعض البرودة تتسلل إليها …. فابتسم لها مقتربا مرةً أخرى وهو يرمقها بنظرة ضيقة … وتسللت خطوات أضافية حتى النافذة ونظرت له شاردة لبعض الوقت … ثم قالت عندما اقترب واقفا خلفها ومرر أنامله على ذراعيها بحنان :
_ وجيه …. عايزة أقولك حاجة وماتقولش لأ !
وبعدما اجتاح قلبه العشق باللحظات الفائتة، لم يكن بوسعه أن يرفض لها طلبا … فهمس لها بدفء:
_ قولي وهوافق …
استدارت لها وقالت بنظرة راجية:
_ في الأيام اللي هتكون فيها مع جيهان … عايزة أبات مع بابا هنا … احنا بقالنا كام يوم متجوزين … بس صدقني مش قادرة أنساه لحظة … وقلبي واجعني طول الوقت أني سيباه كده في الحالة دي ! ….
ابتسم لها وجيه بحنان … ثم قبّل جبهتها وأجاب:
_ يا ليلى يا حبيبتي … أنا لما اتكلمت مع الدكتورة مروة في حالتك هي اللي نصحتني اسرع قرار جوازنا …. لأنك كنتي في حالة في أشد الاحتياج لأنك تفرحي وتحسي بالأمان وكذلك ريميه …. وجدك كان مستعد لو رفضتي يجوزك غصب عنك …. بس هو عارف أن قلبك بيتمنى … ده كله كان مفتاح حله أنك تبقي معايا … وبعدين والدك مش لوحده … جدك معاه ليل نهار والدكاتره مش بيسيبوه ابدًا …. قعدتك جانبه هتفيد بإيه غير أنها هتتعب صحتك ونفسيتك … وكده كده مش بيفوت اكتر من يوم وبتجيله تشوفيه …. ظروفك مكنتش عادية عشان قلبك يوجعك للدرجادي …
قالت ليلى بعد اطمئنت بحديثه:
_ بس برضو ده هيسعدني وهيريحني …. عشان خاطري ما ترفضش.
ابتسم مقتربا لعينيها وهمس بعشق :
_ عشان خاطرك اعمل أي حاجة … وموافق لو ده هيريحك …. بس مش دلوقتي … لحد ما أطمن أن المستشفى مابقاش فيها حالات عدوى … وكمان لأن كنت مرتب شيء بخصوص البنات ..
تعجبت ليلى وسألت :
_ مرتب إيه ؟!
شرح وجيه ما يجول برأسه:
_ المفروض بعد يومين البنات هيجوا يستلموا الشغل … بس ده مش هينفع مع موضوع الفيروس ده …. كنت هقولهم كده ولكن حسيت أنهم مش هيصدقوني وهيشكوا في كلامي ….. وأني بتحجج عشان ما يجوش يشتغلوا وخلاص … فكنت هقولك وهرتب معاكي تأكيدلهم بنفسك موضوع الفيرس ده وأن رغم مرض والدك إلا أنك مش هتعرفي تزوريه زي الاول… وده هيكون اثبات صريح ليهم …
استغربت ليلى من الأمر وقالت :
_ طب ليه مش هيصدقوك ؟! …..
رد وجيه بتوضيح :
_ بصي … اللي بتصدقني فيهم أوي حميدة أنما التلات بنات الباقيين مش بيتكلموا كتير …. وده عرفته لما اتكلمت معاهم وحسيت أنهم بيفكروا في كل كلمة بس مش قادرين يقتنعوا بكلامي بالدرجة الكافية، وده عاذرهم فيه لأنهم لسه مايعرفونيش كويس زي الشباب … أنا عملت حساب شكوكهم وحبيت أني لما أقول الشغل يتأجل شوية يبقى قراري منتهي مش قابل للمناقشة … ومش قابل للظنون لأني كنت معارض فكرة شغلهم من البداية وهما عرفوا كده للأسف.
فهمت ليلى ما يدور بخلده وهزت رأسها بموافقة … ولكن قالت بقلق:
_ طب ده معناه أني مش هشوف بابا ؟!
رد مبتسما بحنان :
_ لأ هتشوفيه …. بس مع احتياطات الوقاية … ومش كل يوم … كام يوم كده لحد ما الأمر تمر بخير واحضر أوضة مخصوص لينا …
ابتسمت مع بعض التعجب وقالت:
_ لينا …!
رمقها مبتسما ابتسامة بها بعض المكر من تعجبها … وقال بجدية بعد ذلك :
_ آه لينا مستغربة ليه…. أي مكان هتكوني فيه هتلاقيني معاكي ..
ابتسمت له واحمرت وجنتيها بحياء … ولكن مهلًا …
هنا تذكرت حديث الطبيبة مروة …. وتذكرت موقف جيهان عندما تبدأ بالبيات بالمشفى ويصمم وجيه على المكوث بجانبها ولا يعود لمنزله ! ….
وكان الأمر به قسوة على جيهان واعترفت لنفسها بذلك … ريثما أن المكوث لن يأخذ فقط يوم أو يومان ! … بل لأجلا غير مسمى وغير معروف ! …. ولكن لابد أن تلازم والدها بمرضه ولا تتركه يومٍ آخر ومن المتوقع إفاقته بأي لحظة ….
**********
فتح زايد باب غرفته المتواجدة بأول الممر المؤدي للغرفة المنعزلة البعيدة والتي تمكث فيها فرحة …. رمق أفراد الأمن بعصبية وغيظ وعلم أنه لن يستطيع رؤيتها وهؤلاء الرجال متجمعون بالممر هكذا ! ….
وانتبه فجأة لخروج أحدى الممرضات من ذات الغرفة وأشارت له قائلة بصوتً عالي:
_ اديتلها التليفون لو عايز تكلمها …
هجر بعض من استياءه وعبوسه وأومأ برأسه لها شاكرا …. ثم عاد لغرفته واغلق الباب سريعا ….وتوجه مستندا على عكازه ناحية الفراش المُلقى عليه الهاتف ….وكان يعرف رقم هاتفها ، فقد استطاع الوصول إليه قبل أن يغادر مسبقا من هنا ….وأجرى الأتصال في لحظات منتظرا صوت بات هاجسه بتلك الأيام …. وأجابت فرحة بصوتً ضعيف جدًا ويكتمه بحة مختنقة …. وقالت وهي لا تعرف من المتصل :
_ مين ….؟!
تنهد تنهيدة ارتياح لأول مرة بعد مرور عدة ساعات تصارع فيها مع كافة المشاعر الغاضبة والمنفعلة …. فرد بعدها كأنه وجد طريقا بحث عنه سنوات :
_ أنتي بخير ؟
تاهت فرحة قليلًا في صوته ومدى تأثيره عليها، ولم تأخذ وقتً للتعرف عليه … بينما شعرت بشيء مبهج يتسلل بأوردتها وبمجرى الدم قد أنعش ذهنها قليلًا ….. فأجابت:
_ الحمد لله ..
ردد الكلمتان بمشاعر صادقة من الشكر والحمد لرب العالمين …. ثم قال بصوتً قوي رغم هدوئه:
_ ماتخافيش … صدقيني هتكوني بخير .. هستناكي لحد ما تخفي عشان نكمل كلامنا ..
ابتلعت ريقها الجاف تقريبًا وأنتابتها رجفة ارهقت جسدها أكثر وضعفت بقايا قوتها …. وطرحت سؤالها بتوتر:
_ نكمل كلامنا! …. كلام إيه ..؟!
أجاب بتأكيد :
_ كلام كتير يا فرحة …. فيه منه قولته ، والباقي منه لسه باقي !
لم تكن بحالة جيدة لأن تطرف حتى بجفنيها لتفكر بكلماته …. فأخذت الممرضة منها الهاتف بيدا مغلفة بقفاز غليظ، وقالت من بعيد ليصله صوتها :
_ طمنتك عليها … هتتعب لو اتكلمت أكتر من كده … مع السلامة ..
واغلقت الممرضة الهاتف ووضعته بعيدًا عنها … ثم قالت معتذرة :
_ أنا غصب عني سيبتك تتكلمي بس هو كان هيتجنن ويدخلك ….. واضح أنه بيحبك أوي …
هربت بقايا الدماء من وجه فرحة وبات وجهها شاحب كالأموات …. وهناك العديد من الأفكار والتخبط من هنا لهناك في خواطرها ….. ورغم ما يفعله الآن … فأنها لم تنسى ذلك اليوم الذي أمر بأختطافها !
*********
وحل المساء بنسمات معتدلة … بينها البارد ومنها الدافئ …
ووقفت ليلى بشرفة غرفتها بالمنزل تنظر أمامها بشرود …. بعدما ادت فرضها منذ وقت، وروت الكثير من الحكايات لصغيرتها … ودقت الساعة التاسعة الآن …
لابد أنه الآن بمنزل عائلة جيهان ! …. اغلقت عينيها لتكتم هذه الثورة التي تغزوها مجددًا … حتى انتبهت لدق خفيف على باب الغرفة …. وعادت لداخل الغرفة لتفتح الباب …حتى وجدت حميدة قبالتها ترمقها بتوتر وبعض التردد …. ابتسمت لها ليلى وأشارت لها بالدخول قائلة:
_ تعالي يا حميدة ادخلي ….
دخلت حميدة ببطء وما أن اغلقت ليلى الباب حتى جذبتها ليجلسا معا بالشرفة في هذا النسيم المنعش ….. وكانت حميدة تحتاج حقا لهذا الهدوء … فقالت ليلى مبتسمة :
_ كويس أنك جيتي تقعدي معايا …. مكنش جايلي نوم خالص.
ابتلعت حميدة ريقها وقالت بحرج :
_ هو عمي هيتأخر ؟
نظرت لها ليلى لبعض الوقت وقد كشفت سبب سؤالها هذا فاتسعت ابتسامتها بمكر وأجابت :
_ ده هيبات برا كمان ….
اتسعت عينان حميدة فجأة وظهر بعد ذلك تقطيبة تحمل كثير من العتاب …. فقالت ليلى مجددًا :
_ بس اكيد لما يرجع بأذن الله أول حاجة هيعملها أنه يكلمك وياخد رأيك …. اكيد يوسف دلوقتي مستني على نار.
ووضع بموضع العبوس الحياء والحمرة الخفيفة …. حتى تنسمت شفتي حميدة ابتسامة رقيقة وتهربت من عيني ليلى … وقالت بتلعثم:
_ بسأل بس بطمن عليه … وكمان بصراحة دي فرصة كويسة عشان اتكلم معاكي.
شجعتها ليلى لتتابع …. فبدأت حميدة وقالت وهي تبتسم بحياء شديد وارتباك :
_ أنا فكرت وقررت … بس يعني كنت مكسوفة أقول لعمي قراري ….. أنا موافقة ..
قالت ليلى بلهجة ومشاعر صادقة :
_ مبروك يا حميدة الف مبروك ….. بجد مبسوطة عشانك أوي أوي.
ظهرت ابتسامة حميدة وقد أخذت بعض الحرية من تلقائية ليلى واكملت بارتياح وسهولة :
_ بحسك مننا كده وعلينا يا مرات عمي … عشان كده حبيت اتكلم معاكي شوية …. يمكن أنا موافقة وفرحانة مش هنكر …. بس خايفة أوي … أنا معرفش يوسف كويس ، هو فعلا حاسة أني فهماه وعارفاه وحفظاه … بس الحقيقة والواقع أني فعلّا معرفهوش كويس … وخايفة أوي من اللي جاي .
سألت ليلى :
_ خايفة من أيه بالضبط ؟
صمتت حميدة لبرهة كأنها تبحث عن الإجابة الحقيقية للسؤال …. فقالت بحيرة:
_ مش من حاجة معينة …. بس أنا وخاصةً بعد ما أبويا توفى بقيت بحس أني خايفة … حتى في عز الفرحة بلاقي الخوف ملاحقني ! …. خوف زي الشبح مش عارفة أحدده …. بس بخاف.
تفهمت ليلى حديث حميدة وقالت :
_ طبيعي يكون ده احساسك يا حميدة …. أنا يوم كتب كتابي على وجيه معرفتش أفرح … جوايا فرحة اد الدنيا بس محبوسة ! …. وده عشان ظروف مرض أبويا وأنه مش معايا ….. حاجة كده بتلاقيه جواكي وتلومك أنك فرحانة من غيره فبيتقلب الفرح
لقلق وخوف ….
أشارت حميدة مؤكدة:
_ ايوة زي ما بتقولي كده بالضبط …. ومش عارفة اعمل إيه ؟!
قالت ليلى :
_ ادعي وسبيها على ربنا …. واللي جاي كله خير بأذن الله ….
وفجاة وهن يتحدثان التفت للباب الذي فتح فجأة … واتسعت عين ليلى عندما رأت وجيه يقف مبتسماً عند الباب …. وقفت حميدة مبتسمة له وقالت :
_ مساء الخير يا عمي
دلف وجيه للداخل بنظرات مبتسمة وقال لحميدة بمشاكسة:
_ جيتلك مخصوص …. عشان موضوع يوسف وأخلصه النهاردة زي ما اتفقنا…
قالت ليلى وعينيها مفتوحتان على آخرهما من الدهشة :
_ بجد أنت جيت ! …. كنت فكراك هتروح لجيهان !
أجاب وجيه بصدق:
_ خلصت شغلي وجيت على هنا …. نخلص موضوع حميدة وهروح لجيهان برضو …..
وراقب وجهها الذي تبلد فقال لها :
_ نفك التكشيرة بقا !
ابتسمت ليلى ابتسامة مترددة له ….. حتى وجه وجيه حديثه لحميدة التي اصطبخت وجنتيها أكثر … وقال لها بابتسامة :
_ عروستنا رأيها إيه ؟ …. نقول الف مبروك ؟
جف ريق حميدة وارتجفت بحياء ثم قالت قبل أن تركض خارجة من الغرفة :
_ نقول يا عمي …
واتسعت ابتسامته وهو يراقب ركضها للخارج …. ثم التفت لليلى التي ابتسمت أيضا على ما حدث وقالت له :
_ حميدة موافقة …. هي قالتلي كده …
قال بثقة:
_ ما أنا عارف أنها هتوافق …. بس برضو سيبتها تفكر …..
هروح بقا أطمن يوسف لأني لو فضلت هنا مش ماشي …
ورماها بنظرة مشاكسة ضاحكة … حتى تسللت اليها ابتسامتة اتسعت شيئا فشيء …..
وكما توقع وجيه عندما يخبر يوسف بالموافقة …. كاد أن يقفز من فرط الفرحة وتجمع الشباب حوله للمباركة والتهنئة …. حتى سأل رعد بترقب:
_ طب وموضوعي يا عمي ؟
رد عليه وجيه وقال بنظرة فيها الكثير من الخبايا:
_ كل شيء هيتحل في وقته …. أما نشوف لما تقعد معاه بكرة هيكون ردها إيه !
قال يوسف بسعادة شديدة :
_ والله أنا حاسس أن فرحنا الاربعة هيكون في يوم واحد ….
فأضاف وجيه بتوضيح :
_ وأنا أتمنى ده أكتر منكم …. نشوف موضوع رضوى بكرة وبعدها نحضر خطوبة يوسف وحميدة بأذن الله …
وبدا على آسر بعض الشرود المريب … ولم يستفيق منه حتى بعدما خرج وجيه ….
فقال جاسر له بشك :
_ بقولك إيه يا آسر …. إيه حكاية ريهام الدهبي معاك ؟ أنت مش قولت أنك كنسلت الموضوع ده ونسيته؟!
غضب آسر من تذكيرها بأكثر أمر ملأ قلبه بالقلق في الساعات الماضية وأخذ كتيب صغير وخرج دون أن يرد على جاسر …. فقال الآخر بيأس :
_ بتجيب لنفسك مشاكل من الهوا !
حتى أنشغل الشباب مجددًا بالمرح والشعور بالفرحة من الخطوبة المنتظرة ….
*******
وبعد ساعات قليلة وصل وجيه لمنزل عائلة جيهان …. واستقبلته الأخرى بشوق شديد وركضت اليه حتى ارتمت بين ذراعيه بقوة ….. حاوطها بذراعه ، وقال بثبات دون تأثير واضح بصوته من اقترابها منه :
_ اخبارك أنتي وسمر إيه ؟
اجفلت جيهان للحظة من هجر اللهفة والاشتياق من صوته …. وابتعدت قليلا ونظرت بعينيه بقوة … ثم قالت بقوة :
_ وجيه هو أنا وحشتك ؟
رد سريعا :
_ اكيد و….
هزت جيهان رأسها بدموع وهي تبتعد عنه… ثم قالت وعينيها يلتمع فيهما الألم:
_ اكيد دي محستهاش في صوتك ولا في لمسة ايدك ! …. ارجوك لما تلاقيني في الحالة دي عاملني بشوية حب …. حتى لو هتمثل عليا ! ….
نظر لها وجيه وفي نفسه يعرف أنها محقة … هو يعاملها بالواجب وليس الحب … ولكن ما ذنبه هو إذا كانت الظروف فرضت عليه وضع في قرارة نفسه لا يقبله !
فقال لها وحاول أن يبتسم:
_ هي دي مقابلتك ليا بعد يومين تقريبًا ما شوفتكيش فيهم ! ….
تداركت أنه يبتعد عن مجرى الحديث الأساسي فقالت بعد تنهيدة مؤلمة:
_ العشا جاهز وأنا ….
قاطعها وقال :
_ مش هقدر أتعشى للأسف …. اتغديت في المستشفى ومش جعان دلوقتي ….
يبدو أن هذا أول شعور يتشاركا فيه ! …. فهي أيضا لم تشعر بأدنى لهفة للطعام ! …. فقالت بموافقة :
_ خلاص .. اطلع ارتاح أنت في أوضتي وأنا هطمن على سمر واحصلك ….
وتركها وجيه بالفعل وصعد للغرفة الذي يعرف أنها تخصها …. بينما توجهت جيهان للمطبخ المؤثث بأفخم أدوات الطهي ….. ثم فتحت الثلاجة وأخرجت منها شريط دواء به عدة أقراص لمنع الحمل حفظته هنا حتى لا يكتشفه بأي صدفة ….. فأتى صوت من خلفها يقول بعتاب :
_ ليه يابنتي بتعملي كده ؟! …. في واحدة تمنع رزق ربنا كده وهي في أشد الاحتياج ليه ؟!
التفتت جيهان لمربيتها العجوز وقالت بدموع :
_ مش بإيدي يا دادة …. أنا حاسة أن حياتي معاه على المحك ! …. مش عارفة بكرة هكون معاه ولا لأ ! ….. والأبشع أني متأكدة أنه مش عايزة يربطنا أطفال ! ……. مش هقدر أشوف الزعل في عنيه لو قولتله في يوم أني حامل …. مع أني هموت وأبقى أم ! …. عشان لو في يوم قدرت اسيبه مافيش حاجة تربطني بيه تاني …
قالت المربية بصدمة :
_ ليه يابنتي بتقولي كده بعد الشر عليكوا ! …..
ابتلعت جيهان القرص برشفة مياه …. ثم قالت وهي تضع الشريط مجددا بالثلاجة:
_ مش أنا اللي بقول ….. الأيام الجاية هي اللي هتبين حاجات كتير ….
وانتهت جيهان الحديث مع المربية وصعدت لتطمئن على سمر قبل أن تتوجه لغرفتها …..
*******
وأتى مساء اليوم التالي ومعه الموعد الثقيل لعائلة عاصم ! ….
وظل الشباب بغرفة رعد ليمنعوه من التهور والنزول وارتكاب فعل بالتأكيد سيندم عليه لاحقا ….
بينما عكف الفتيات بغرفة رضوى يساعدونها في الاستعداد للمقابلة ……. وجلس وجيه وزوجتيه والجد رشدي مع عائلة عاصم …. بينما اليوم حضرت سلمى شقيقة وائل …. والتي كانت تنتظر ظهور رضوى بأي لحظة ….. وتراقب بصمت تام.
وقال عاصم بجدية لوجيه :
_ طبعا يا دكتور أنت عارف أن المقابلة دي مش عشان وائل وبس … عايز كمان البنتين التانيين غير حميدة
نظر له وجيه للحظة ثم أجاب بهدوء:
_ نشوف بس موضوع رضوى الأول يا عاصم …. ماتحسسنيش أنك داخل على طمع كده وعايز تخطف ٣ بنات مننا مرة واحدة! …
وقالها وجيه واظهرها ببعض المرح كأنها مزحة … بينما رمقه عاصم بنظرة ضيقة وعلى يقين أن وجيه لن يعبث بالكلمات لمجرد العبث بل بقصد شيء! ….. فقال عاصم بشيء من الحدة :
_ ماشي يا دكتور اللي يريحك … خلينا في رضوى دلوقتي.
وأتت رضوى بالمشروبات مثل المتعارف عليه …. فأشار لها وجيه لتجلس … وبدت بردائها الحريري الأزرق كوردة للتو أزهرت ……. ولم يحيد وائل نظراته عنها …. حتى قالت أمه بضحكة :
_ نسيبهم يتكلموا شوية ولا إيه يا دكتور ؟
رد وجيه بلياقة :
_ طبعا ده حقهم …
وأشار لرضوى بالموافقة ، ثم نظر لليلى أن تصاحبها حتى أحدى غرف الصالون وانتبهت جيهان لذلك بمرارة جرت بريقها …..
وفي غرفة الصالون ….
تركت ليلى رضوى جالسة بعينان زائغتان وشاردتان للبعيد …. كأنها تريد الهروب من المكان بأكمله …. وجلس قبالتها وائل في ابتسامةً ماكرة وهو يتفحصها بدقة ….. وقال :
_ أنتي جميلة أوي … والأزرق لايق مع لون عينك بشكل يجنن !
انفعلت رضوى وقالت له :
_ هي دي مقابلة للتعارف ولا حضرتك جاي تعاكس ؟!
وأضافت وكأنها وجدت مبرر لتنفث عن غضبها :
_ لو جاي عشان كده أنا ممكن أقوم عادي !
أشار لها معتذرا وبداخله غيظ شديد منها …. فقال متظاهرا باللطف :
_ لا لا أسف مش أقصد … بس لقيتك متوترة قولت أما اطمنك شوية واخليكي تفكي …
قالت وهي تزفر ضيقا واختناق:
_ لا شكرا ….
انبعثت منه رائحة التبغ وهو يتحدث، فنفرت منه وودت لو تهرب لأبعد مكان عنه ….. حتى وقف عند :
_ ولفت نظري أخلاقك يوم الحفلة … يمكن ما شوفتكيش إلا مرة واحدة بس … لكن بعدما ما اترددتش لحظة اتقدملك …
وابتلعت رضوى ريقها بمرارة وهي تتذكر رعد الذي تركها ونبذ قرابتهما وخرج فجأة من القرية. الريفية …… حتى انتبهت لحديث وائل وهو يقول :
_ مش هكدب عليكي …. أنا معجب جدًا بشخصيتك دي ، أنا بحب البنت المحترمة اللي عارفة حدودها …. وأنا عايز اسمعك وارد على أي شيء عايزة تعرفيه عني …
وكان بحديث وائل انتقاء للكلمات التي جعلتها رغما عنها تجيبه بهدوء وتهذيب …..
ومر ساعة تثريبًا وهو يتحدث وهي صامتة تجيب بكلمات بسيطة وعينيها تائهة للبعيد ….. حتى أرسل وجيه جيهان هذه المرة لترى ما أن كانت استكفت رضوى من المقابلة أم تريد المزيد ….
وبغرفة رعد …..
ضرب على خزانة ملابسة بعنف وهتف :
_ مش قادر أقف مكاني وأفضل ساكت …. في نار قايدة جوايا ومش هتهدى غير لما أنزل واطرد الحيوان اللي اتجرأ واتحداني وجاي يخطبها …
وكان جاسر يقف متحكما بحركة رعد حتى لا يثور ويفر من بينهم بعدما أخفى رعد مفتاح الغرفة …. وقال له :
_ كلها شوية ويغوروا من هنا ….
وبعد لحظات انتبه الشباب لصوت سيارة يتحرك، فتقدم يوسف للنافذة ليرى الأنر … فتنهد بارتياح قائلا :
_ اهم غاروا والحمد لله ….
وبتلك اللحظة ترك جاسر رعد يتحرك بحرية أخيرا حتى ركض من الغرفة سريعا للهارج ….
وكانت رضوى تصعد درجات حتى غرفة أمها التي رفضت النزول والمشاركة، وتبعها الصبي نعناعة في قرارها وجلس مع عمته منفردان بغرفتها….. وتقابلت نظرات رضوى بنظرات ذلك الثائر الذي يركض على الدرجات نزولا …
حتى وقف أمامها للحظات وتفحصها جيدًا وخاصة وجهها المتوهج احمرارا … وظنه احمرار الحياء والذي ينتاب الفتيات بعذا الوقت … بينما كانت تكتم غضب وتوتر شديد طيلة الدقائق الفائتة … فهتف بها بشراسة :
_ قعدت معاه ؟! … قالك ايه بقا عشان وشك يحمر كده ؟!
وكان وجيه قد أتى ومعه الجد وجميع العائلة تقف ناظرة للذان على استعداد تام للشجار والأشتباك… فصرخت رضوى به وقد تملكها ونهش فيها الغضب :
_ أنت بالذات مالكش دعوة بيا ولا حتى تكلمني كلمة !
وكانت غاضبة لهذا الحد منه ، لأنه السبب خلف شعورها بالألم والكسرة هذه وما تشعر به من تيهة ….. فثارت ثائرة رعد وطلت نظراته شرسة وهو يصيح:
_ مش هتتجوزيه … لو على جثتي مش هتتجوزيه … ويا أنا يا أنتي !
صرخت به مجددًا :
_ احترم نفسك وخليك في حالك !
هتف وجيه بعصبية :
_ طب احترموا نفسكم انتوا الاتنين ومحدش يعلي صوته وجدكم واقف !
نظر رعد لجده بغضب شديد وأشار له بنظرة اتهام وذنب :
_ أنت السبب في كل اللي وصلتله …. أنا عمري ما هسامحك … عمري ….
نظر له الجد رشدي بحزن شديد وبعدها سقط مغشيا عليه وسقطت عصاه الخشبية بجانبه…. فاتسعت عينان رعد بذهول وركض عليه بلمحة ودموعه تسقط هاتفا بصراخ:
_ جـــــــــــــدى ….؟!
يتبع…
- لقراءة الفصل التالي: اضغط هنا
- لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على (رواية قلبي و عيناك و الأيام)