روايات

رواية يناديها عائش الفصل السادس والتسعون 96 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش الفصل السادس والتسعون 96 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش البارت السادس والتسعون

رواية يناديها عائش الجزء السادس والتسعون

يناديها عائش

رواية يناديها عائش الحلقة السادسة والتسعون

اللّهم احفظْ إخواننا المجاهدين من بين أيديهم ومنْ خلفهم وعن يمينهم وعن شمالهم ومنْ فوقِهم ونعوذُ بعظمتك أنْ يُغتالوا مِنْ تَحتِهم، اللهمَّ أيِّدهم بجند من عندك فجندك لايهزم ياربّ
حَماهم الرحمن وسدّدَ رَميهم وثبّتَ أقدامَهم.
______________________.
“-جَزَى اللهُ الشَّدَائِدَ كُلَّ خَيْرٍ
-وَإنْ كانت تُغصّصُنِي بِرِيقِي
-وَمَا شُكْرِي لهَا حمْدًا وَلَكِن
-عرفتُ بها عدوّي من صديقي.”
ـ الشافعي.
~~~~~~~~~~~~~~~.
اِصفرَّ وجه ” كريم ” من الخوف و حالة الفزع التي انتابت جسده على ” رُميساء “، بعد ارتخاء يدها بجانبه، فأخذ يُناديها بهمسٍ مُرْتَعِد:
” رُميساء ! رُميساء ! ”
و لكن لا حياة لمن تُنادي !، بينما الطبيبة فتحت جفونها؛ تتأكد من أمرٍ يُسبب لها القلق، فهتفت بعدما صحَّت شكوكها:
” لا حول و لا قوة إلا بالله، لازم تدخل العناية المركزة حالًا ”
ثُم استدارت و هتفت لطاقم المساعدة معها:
” جهزوا غرفة العناية المركزة.. حالًا اتحركوا ”
قلَّب كريم بصره بين رُميساء و بينها في تساؤل ارعب قلبه:
” في إيه ؟! رُميساء مالها ؟! ”
ردت بأسفٍ:
” جسمها مستحملش قوة الدفع للجنين؛ فحصل نزيف شديد و للأسف دخلت في غيبوبة ”
” غيبوبة ! ”
هتف بها في صدمةٍ كادت أن تجعله ينهار تمامًا غير مستوعب ولا مُصدقًا لما يحدث.. تساءل بوجلٍ ازداد أكثر:
” حصلها اغماء ؟ ”
” الغيبوبة غير الاغماء، أصعب.. ادعي لها ”
قالتها، و اتجهت سريعًا خلف الترولي الموضوع عليه رُميساء و يُجرُّ بواسطة الممرضات تجاه غرفة العناية المركزة، أما ” كريم ” وقف مكانه بصدمة، و ظَلّ مَشْدوهًا مِمَّا سَمِعَ حتى بدأ الاستيعاب البطيء يعمل عنده؛ عندما سمع والدتها تقول باكية:
” يارب يارب طمني عليها يارب طمني على بنتي”
لضعف جسد رُميساء في فترة الحمل خاصةً و أنها المرة الثالثة لها في سنواتٍ قليلة؛ انخفض مُعدَّل الحديد في جسدها و لم تجدِ الفيتامينات نفعًا قويًا معها، فأُصيبت بتكسير كرات الدم الحمراء المفاجئة مما أدى لزيادة الأمونيا في جسدها الضعيف و الهشّ، و أثر ذلك تأثيرًا سلبيًا على بقية الأعضاء؛ فأدى لانقطاع وصول الأكسجين للدماغ، و الذي يعد غذاء الدماغ الأساسي؛ لأنه في حال غياب الأكسجين عن أنسجة وخلايا الدماغ فإن عملية تزويد الدماغ بالجلوكوز والطاقة ستتوقف.
هذا الموقف على كريم أصعب من أي موقفٍ مرَّ عليه، فمن شدة خوفه على رُميساء؛ ظل واقفًا مكانه لدقائق لم يتزحزح فيهم إنشًا واحدًا.. فقط ينظر أمامه بصدمة و كأن الحروف أعلنت رفضها القاطع عن الخروج؛ رهبةً للحدث الجَلَل.
أما طفلهما الذي خرج للتو من رحم أمه يبكي البكاء الطبيعي للمولود، قد نظفته الممرضة من بقايا الرحم كالدماء الملتصقة به، و ألبسته الملابس التي كانت بحوزة والدة رُميساء، ثُم أعطتها الطفل الذي لم يكف عن البُكاء، و كأنه بحاجة ماسَّة لرائحة والدته.
لقد تواجد معهم بالمشفى أيضًا والد كريم ووالدته، أما أشقائها الفتيات جلسنَّ بالطفلين في المنزل لحين عودة أمهما بشقيقهما الثالث، فلم تدرِ واحدةً منهنَّ بعد.. مصاب أختها..
الكبير و الذي يُدعى ” مُراد ” و عمره ثلاث سنوات و ثلاثة أشهر، أكثر شبهًا بوالده من حيث الملامح الحادة رغم براءة وجهه، لكن عينيه توحي بأنه نسخة مصغرة من كريم، أما ” إياد ” الأوسط و الذي يصغر شقيقه بعامٍ و شهرين أي بعمر العامين و الشهر الآن؛ أشبه بوالدته في الملامح الرقيقة الجميلة، و لكن في الطباع فهو مشاكس للغاية لا يمل من اللعب و لا ينام بسهولة، و اسماه والده
” إياد” تَيَّمنَا ببطلنا الشهيد الشجاع
” إياد الريحاني”، و الطفل الذي وُلد منذ دقائق، قد اختارت رُميساء اسمه سابقًا، و أرادت تسميته
” المعتصم بالله “، و لكن للأسف ربما لن تراه من الأساس.
أقبل رياض على كريم ليسانده في محنته و ربَّت على ظهره بحنانٍ قائلًا:
” ادعي لها يا كريم، أنا عندي حُسن ظن بالله إنها هتفوق و تبقى كويسة.. ادعي لها يا حبيبي ”
لم يَرُدَّ عليه بحرفٍ واحد، و حملته قدميه تسوقانه ناحية غرفة العناية المركزة، ليقف أمام بابها يحاول النظر من زجاج الباب الصغير هامسًا برجفة قلب:
” رُميساء.. ”
تبادل رياض و مصطفى والدها النظرات بحزنٍ و قلقٍ كبير، ليقول الأخير:
” كريم مش هيستحمل، ابعده عن الاوضه ”
اتجه رياض ناحيته ليأخذ بيده في همسٍ مرتبك عليه:
” تعالى يا كريم.. تعالى شوف ابنك ”
سحب يده من والده بقوةٍ، و رفع يديه تجاه الباب يحاول فتحه و لسانه مستمر في الهمس يُنادي عليها:
” رُميساء.. رُميساء يلا نروح، ابننا بعيط.. معتصم عاوزك يا رُميساء، و كريم كمان عاوزك ”
قال جملته الأخيرة بانهيارٍ بعدما استوعب أخيرًا أنها على جهاز التنفس الصناعي الآن و المحاليل معلقة في يدها.. أسند رأسه على الباب و حبس دموعه بصعوبة في محاولة ضعيفة منه لاظهار قوته، و أعاد الهمس بوجعٍ ظاهرٍ للجميع:
” رُميساء.. فراشتي ”
انتبه للباب على وشك أن يُفتح، فابتعد قليلًا و خرج الطبيب المسؤول عن العناية المركزة و بجانبه طبيبتها الخاصة، ليقول هو بحُزنٍ بدا عليه:
” كريم بيه.. أنا آسف للي حصل لمدام حضرتك، ده خارج عن إرادتنا، و آسف عن الكلام اللي حضرتك هتسمعه دلوقت.. ”
قاطعه كريم بنبرة مهزوزة بفعل البكاء المكتوم:
” عاوز مراتي ”
أيقن الطبيب أن كريم ما زال في حالة الصدمة، فالتفت لوالده و حماه ليتابع في تأسُّفٍ:
” لو عدت عليها ثمانية و أربعون ساعة و هي في الحالة دي، فللأسف الشديد مش هيبقى فيه أمل تعيش، و الأعمار بيد الله و مفيش في ايدينا غير الانتظار.. حالة الغيبوبة اللي هي فيها دي صعبة على جسمها يتحملها و ممكن القلب يفقد وظيفته في أي لحظة، أنا عملت اللازم و أنتم عليكم الدعاء، ربنا معاها ”
بعد سماع والدها لكلام الطبيب، لم يستطع منع نفسه من البكاء، فابتعد يجلس على مقعد و يبكي داعيًا الله أن يرد وعي ابنته، أما رياض أدمعت عيناه و اقترب من كريم يحاول أخذه بعيدًا من أمام الغرفة، فأبى الأخير و هزَّ رأسه بنفيٍ دون أن ينطق بكلمة، ثُم اقترب من الباب أكثر حتى التصق به و أخذ يُنادي عليها كالشريد التائه الغريق في بحرٍ لُّجِّيٍّ متلاطم الأمواج دون وسيلة واحدة تساعده على النجاة:
” رُميساء.. رُميساء أنا كريم.. فراشتي رُدي ! ”
مسَّد والده على ظهره بحنوٍ و قال:
” رُميساء في غيبوبة يا كريم، هي محتاجة لدعواتك دلوقت يا حبيبي، تعالى خد ابنك في حضنك و ادعي لمراتك تقوم بالسلامة ”
” رُميساء كويسة أنا عارف، هي بس زعلانة مني.. زعلانة مني عشان كُنت بسيبها كتير في حملها ده بسبب الشغل، عشان كده قررت تعاقبني.. دي مراتي و أنا عارفها، لما بتزعل مني بتاخد جنب و مبتردش عليا غير إما اصالحها كذا مرة، بس أنا أهو بنادي عليها عشان اصالحها مش بترد عليا.. ردي يا فراشتي.. أنا آسف ”
أخفض والده عينيه بِحِيرةٍ لا يدري ماذا يفعل حياله، فابنه على وشك فقدان عقله تمامًا.. يعلم جيدًا بل و جميعهم يعلمون و يدركون مدى عشق كريم لرُميساء و أنها تعني كل شيء بالنسبةً له، مجرد تخيل الحياة للحظة بدونها؛ أمر يتفطَّر له قلبه من شدة الألم، و لن يقدر على تحمله بسهولة.
رغم أن كريم على مشارف الثامنة و الثلاثون، إلا أن هذا الموقف لم يجعله يتعامل بنضجٍ ووعيٍ، بل زادت الأمور صعوبة و تعقدت كلما خُيِّل له عقله أنها من الممكن ألا تفيق !
تظل في غيبوبة لأجلٍ غير مُسمى ! تموت !
لا، مجرد التصوُّر فقط يجعله في هذيان كالمجنون الآن لا يستطيع التحكم في عقله و توجيه مساره الصحيح، يتمنى أن ينتهي أجله قبلها؛ حتى لا يرَ هذا اليوم.
السنوات الماضية لم تمر هباءً، بل تركت أثارها على شخصية ” كريم” الجديدة، كان يعود من العمل يرتمي في حُضن ” رُميساء “، و كأنه يستريح بها من عناء يومه، و اغلب الأوقات كان يريح رأسه على فخذيها و يطلب منها أن تعبث و تُمسِّد على شعره، فكان ذلك يشعره براحةٍ كبيرة.. لم يجد الدلال في طفولته فتدلَّل عليها، و أصبحت شخصيته الصارمة أمام الناس فقط، أما أمامها و معها تجده مثل القطة السيامي.. ليِّن حنون هادئ الطباع، حتى عصبيته لم تعد موجودة، لقد نجحت الفراشة في التأثير عليه كُليًا فصار كما يقولون مثل الخاتم في اصبعها، لكنها لا تود نزعه أبدًا، سيبقى معها و يموت معها لأبد الآبدين..« كريم حرفيًا هو طفل رُميساء الأول».
رؤيته هكذا وهو ينظر من خلف الباب في شرودٍ و ضياع؛ يجعل قلبك يبكي عليه قبل عينك، رجُلٌ على مشارف الثامنة و الثلاثون ولا يستطيع مواساة نفسه ولو بكلمة واحدة، حتى البكاء أبى الخروج.. الصدمة التي حلَّت عليه الآن؛ جعلته عاجزًا في التعبير عن مشاعره، فظل يُنادي عليها في همسٍ أبدى صوته المبحوح، و أهليهما يشاهدون المشهد في تحسُّرٍ و أسفٍ، و ما باليد حيلة غير الدعاء.
جاءت أمها بالوليد في يدها يبكي يريد أمه، لتقول لحماة رُميساء بدموعٍ لم تتوقف منذ دخول ابنتها غرفة العناية:
” أخت كريم بترضع.. بنتها لسه عندها تسع شهور مش كده ! خليها تيجي بالله عليكِ ترضع الولد، مش مبطل عياط ”
بادلتها المرأة النظرات الدامعة للوليد قائلة:
” أنا فعلًا كلمتها و جاية.. هاتيه شوية عنك ”
بينما هي تذكر الله و تعطيه لها، رنَّ هاتفها باسم
” روان “، فردت بنبرة فشلت في مداراة الحزن بها:
” السلام عليكم ”
ردت روان في لهفة:
” وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته عاملة ايه يا طنط ؟ رُميساء ولدت ؟ ”
تهدَّج صوتها و أردفت:
” رُميساء في العناية المركزة يا روان.. نزفت جامد و دخلت في غيبوبة، ادعي لها بالله عليكِ”
انتفضت روان مكانها، و أبعدت طفلتها ” فيروزه” عنها برفقٍ، ثُم هتفت بعدم تصديق:
” غيبوبة ! أنتم في مستشفى إيه ؟ ”
” خليكِ يا حبيبتي، أنتِ ها تيجي من الشيخ زايد للمنصورة ؟! ادعيلها بس كتير، ربك رحيم ”
منذ عامين انتقل ” سيف ” للعيش بفيلا اشتراها في مدينة الشيخ زايد، فلكثرة المباريات أراد تقريب المسافات بينه و بين روان، فترك شقته في منزل والده و أخذ زوجته ليستكملا حياتهما في الشيخ زايد..
كان جالسًا بجانبها يُلاعب و يُداعب ابنته صاحبة العامين، و التي ورثت عنه البشرة البيضاء و العينين العسلية من والدتها، طفلة جميلة لا تمل من اللعب معها؛ بسبب ضحكتها القمرية التي تخطف قلبك منذ الوهلة الأولى التي تسمعها فيها.
التفت لها و تساءل في دهشةٍ حينما سمعها:
” غيبوبة إيه ؟! في إيه ؟! ”
ردت بخوفٍ و بدموعٍ بعدما أنهت المكالمة:
” رُميساء دخلت غيبوبة يا سيف، وديني عندها.. لازم أبقى جنبها ”
طوق كتفيها و ضمها له يحاول تهدئتها قائلًا:
” لا حول ولا قوة إلا بالله، ربنا يقومها بالسلامة يارب و يقوي كريم.. حبيبتي أنا عارف إنها أختك مش صاحبتك، بس مفيش زيارات للعناية المركزة.. طول ما هي في غيبوبة و محطوطة على أجهزة مينفعش حد يدخلها.. فأنتِ لو روحتي يا روان مش ها تعملي لها حاجة، مفيش في ايدينا حاجة غير الدعاء ”
ابتعدت عنه و ازدادت دموعها، فبكت تتوسله:
” سيف بالله عليك وديني عندها، إحنا عمرنا ما سيبنا بعض في أي حاجة.. هي كانت معايا و أنا بولد فيروزه و إياد ابنها كان لسه عنده شهر على دراعها و ابنها التاني شبطان في ايدها و مع ذلك فضلت قدام أوضة العمليات لحد منا ولدت و اطمنت عليا، حتى كريم فضل واقف معاك.. سيف عشان خاطري وديني لرُميساء.. أنت دكتور و لاعب مشهور.. ممكن تستغل ده و تخليهم يدخلوني اشوفها بس، اعمل كده عشاني بالله عليك ”
لم يجد دافع للهروب من توسلاتها، فأخذ يعانقها حتى تكف عن البكاء، و لم تستطِع هي الهدوء و نهضت في عَجلةٍ من أمرها ترتدي ملابسها، و قبل أن تضع النقاب عليها؛ تذكرت تشجيع رُميساء المستمر لها على ارتدائه، و ارتدته بعد زواجها بشهرين.. ارتدت النقاب و قالت داعية بترجِّي:
” يارب تفوق يارب تبقى كويسة يارب طمني عليها، ياربي اشفيها و ما توجع قلبي عليها يارب يارب ”
في حينٍ أنه اتجه لجراج سيارته و ابنته على كتفه، فقام بتشغيلها بعدما وضع فيروزه بجانبه و قال لموظفي الفيلا:
” رايحين مشوار و احتمال كبير نفضل في المنصورة كام يوم.. خلوا بالكم من الفيلا ”
ثُم أشار بأدبٍ لحارس الفيلا و الذي يكبره بثلاثون عامًا.. سيف الآن على مشارف اتمام الثامنة و العشرون:
” و أنت يا عم حامد حاول متغفلش كتير و جيب واحد من معارفك تكون بتثق فيه، ياخد وردية بالليل مكانك، أنت عارف الفيلا كبيرة و فيلا جارنا مسروقة من يومين ”
رد الرجل بابتسامة مطمئنة:
” الفيلا في أمان يا كابتن اطمن.. ربنا معاكم ”
” يلا سلام عليكم ”
” وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، تروحوا و تيجوا بالسلامة يا بيه ”
كانت ” روان ” قد ركبت بجانبه، و حملت ابنتها على حجرها، فوقفت الأخيرة على فخذي أمها و أخذت تحاول رفع لها النقاب بدلالٍ قائلة:
” يوني ايفعي النتاب ”
فيروزه تلك الطفلة الجميلة إذا تحدثت تأكل معظم الأحرف و أحيانًا يُصعب فهمها، لكنها مع ذلك تجعلك تود أكلها من غناجها الدائم على والديها، خاصةً والدها “سيف” الذي ينال دغدغة رقيقة منها كلما أراد النوم، فتوقظه و تقول:
” سيفو ايعب مع يوزه بالعيوسه ”
التفت سيف لروان يرفع لها النقاب و يمسح دموعها بحنانٍ وهو يقول:
” كفاية عياط يا حبيبتي، هتبقى كويسة بإذن الله ”
” أنا قولتلها تلبس الشريط بعد ما ولدت إياد، هي طنشت و قالت كريم عاوز عيال كتير، استغنت عن صحتها عشان تسعده و أنتم رجالة مش بتفكروا غير في اشباع رغباتكم معندكمش ضمير، يلا الحمدلله قدر الله و ما شاء فعل ”
رمقها سيف بدهشةٍ هاتفًا:
” الله ! طب و لازمته إيه الكلام ده ؟! وبعدين دي حاجة بتاعت ربنا، أنا من دراستي للطب بقولك إن الست عادي تحمل وهي لابسة شريط، مش كل الحالات زي بعضها يا روان، في ستات الشريط مش بيأثر على منع الحمل أصلًا و بتحمل عادي.. إرادة ربنا يا حبيبتي، وبعدين أنتِ شوفتِ مني استغلال عشان تقولي كده ؟! ”
سكتت دون تعقيب، فهي خائفة و مرتبكة لأجل صديقتها ولا تعي ما تقوله، تريد أن تنام و تصحو فتجد كل شيء يسير على ما يرام و رُميساء تحمل طفلها بين ذراعيها تُرضعه في أمان.. مدَّ سيف يده نحو ذقنها يديرها له برِقَّةٍ ليقول:
” حبيبة قلبي ممكن تهدي ؟ صدقيني يا روحي ها تبقى كويسة والله، تفائلي خير و متعيطيش ”
أخذت فيروزه تمسح لها دموعها قائلة:
” يوني عيط ! تتدي بوسة ؟ ”
قالتها و طبعت قُبلة رقيقة مثلها على عيني والدتها، التي قامت بدورها باحتضان صغيرتها هامسةً:
” يا عُمر يوني أنتِ ”
هتف سيف بغيرةٍ مزيفةٍ:
” شامم ريحة شياط طالعة مني ”
ابتسمت له روان، فأردف ضاحكًا:
” أيوه كده، الابتسامة دي عندي بالدنيا والله..
تتدي بوسة ؟ ”
صدرت منها ضحكة خفيفة تبعتها بقولها:
” فاكر نفسك فيروزه ولا إيه ! ”
“أنا أبو فيروزه اللي جبت فيروزه، تتدي بوسة ؟”
زفرت بنفاذ صبرٍ منه و بدأت تهدئ لتردف بأملٍ:
” واثقة في ربنا إنها هتقوم بالسلامة ”
” بإذن الله يا حبيبتي، ربنا يكون في عون كريم”
تنهّدت روان بأسى، فهي تدرك مدى تعلق كريم برُميساء:
” كريم يا عيني زمان حالته حالة دلوقت، ده هي بالنسبة له النفس اللي بيتنفسه عشان يعيش، ربنا يقومها بالسلامة يارب ”
” اللهم آمين يارب ”
..
أما في المشفى، ظل ” كريم ” واقفًا أمام غرفة العناية، و لم يستطع أحد إبعاده عن الغرفة، و عندما اقترب منه الطبيب يقول له بهدوء أنه غير مسموحٌ له بتواجده هنا، استدار له كريم و همس بنبرة أخافته:
” كلمة كمان و هشيلك من وظيفتك ”
و هكذا ظل طوال اليوم يقف أمام الغرفة؛ ينظر ببصيص أمل من خلف الزجاج الصغير دون اظهار دمعة واحدة من عينيه مُظهرًا صلابته و قوته المزيفة أمامهم جميعًا، أما بداخله نارٌ جمرُها مشتعل من الحريق، و قلبه منهمر من الدموع الخائفة.. صامت طوال الوقت دون ابداء ردة فعل، و لكن صمته هذا قال كل شيء يشعر به، قلبه محشوّ بالحزن و قامته ثابتة على الأرض، جوفه مليئة بالرعب و عينيه تأبى اظهار الألم.
مرّت الساعات عليه هكذا، و تم ارضاع الصغير من قبل أخته، و وصلا روان و سيف أخيرًا.
أسرعت روان في خطواتها بعدما استطاع سيف الدخول بالواسطة في وقت غير مسموح به بالزيارة، و حينما وقعت عيناها على والدة صديقتها، هرولت تجاهها تتساءل بنبرة على وشك البكاء ثانيةً:
” مفيش أي اخبار عنها ؟ ”
بعد استيعاب الأم لوجودها، ردت بحُزنٍ:
” لسه ”
لم ينتبه كريم لهما، بينما سيف اقترب من خلفه و وضع يده على كتفه بضغطةٍ خفيفةٍ يمُدَّه بالقوة قائلًا:
” متخافش يا كريم، إن شاء الله هتبقى كويسة”
لم يعره كريم اهتمامًا كأنه غير موجود، أو لم يتفاجئ بوجوده لشروده الشديد في عالمٍ آخر، و تجاهله و حوَّل بصرَه عنه، ففضل سيف الصمت و علم أن كريم في حالَةٍ يُرْثَى لها الآن.
ابتعد عنه ليخرج هاتفه و يحادث شقيقه يخبره بتواجدهم في المنصورة، و أنه سيأتي للمبيت عندهم..
كان بدر وقتها في اجتماعٍ بالشركة، فتجاهل الرد رغمًا عنه، لحين الانتهاء و معاودة الاتصال به.
وقف ” بدر” أمام شاشة العرض يشرح للموظفين خطة المشروع الجديد.. لقد أصبح من أبرز المهندسين و رجال الأعمال في سوق السيارات التجارية، عقله لم يكف عن الابداع في تطوير السيارات و توالت عليه الإبتكارات في مشاريعٍ جديدة أبهرت المعنيين بالسيارات، و أصبحت مصر من أهم الدول في تصدير السيارات فائقة الصنع.. سنواتٍ قليلة تغيرت فيها أشياء كثيرة.
قال بثقةٍ يسبقها التواضع في الحديث وهو يشير للشاشة:
” لازم الأول يكون عندنا خلفية عن بيانات السوق كله، لأن المشروع المرة دي ضخم و هيستهلك مننا كتير، فلازم نكون عاملين حسابنا لكل شيء، و عارفين بيانات الفئة المستهدفة من خلال الاستطلاعات، والاستبيانات، و الحملات الإعلانية، و ده ها يتوزع على كل خمس مهندسين فيكم كل فريق يبحث في حاجة معينة ”
ثُم استدار ناحية الشاشة و أشار لنموذج لسيارة من المفترض صناعتها على أرض الواقع، و تابع:
” عندنا النموذج ده ها يتكلف كتير لتنفيذه على أرض الواقع، بس هل الربح بتاعه هيكون كافي لتغطية حاجة الشركة و الافرع بتاعتها ؟
المفروض ده هيتعرف بعد تقدير الحجم الكلي للطلب من خلال المعلومات الموجودة عن سلوك الفئة المستهدفة الشرائية، ودخل الأفراد، و الاستقرار الاقتصادي و السياسي، بس إحنا هنعمل حسبة أولية و نحُط الحسابات بتاعتنا لكل خطوة هتحصل، و حابب أسمع اقتراحاتكم عن الموضوع ده ”
تحدث مهندس يدلي برأيه قائلًا:
” والله يا باشمهندس كلامك في السليم، بس أنا شايف إن إحنا قبل كل شيء لازم نحط في عين الاعتبار المتنافسين لشركتنا، و نعرف نقاط ضعفهم اللي هتساعدنا نحقق نجاح المشروع بتاعنا ”
أومأ البعض برأسه يؤكد على صحة قوله، بينما المهندس مرتضى ظل جالسًا فقط يتابع ” بدر” و ينصت له باهتمامٍ، فقد أعجبه فكرة مشروعه الجديد كثيرًا.. رد بدر بموافقة أيضًا:
” و أنا اتفق مع كلامك يا باشمهندس، دي فعلًا أهم نقطة لازم تتحط في المقام الأول، و بما إن النموذج بتاعنا هيكون ذاتي القيادة بنظام فائق عن النموذج السابق، فلابد تكون الجهود المبذولة مننا تهدف لإنتاج طرازات مبتكرة تلبي احتياجات المستخدمين وتحقق متطلبات السلامة والكفاءة، عشان كده محتاجين فريق نكلفه يقوم بمهمة استشارة الناس في عربية من النوع ده تكون جديدة في السوق، يعني العربيات ذاتية القيادة موجودة، لكن هندخل عليها تطويرات تثير جذب المُشتري ”
و انتهى الاجتماع، فقام بدر للاتصال على شقيقه بادئًا المكالمة بتحية الاسلام كعادته:
” السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، حبيب أخوك عامل إيه ؟ و زوجتك و بنتك أخبارهم إيه ؟ معلش والله كُنت في اجتماع معرفتش أرد عليك ”
” وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، إحنا الحمدلله تمام، إحنا هنا في المنصورة على فكرة، زوجة كريم كانت بتولد و دخلت في غيبوبة بعد الولادة للأسف، و أنا هنا أهو واقف مع كريم ”
قالها سيف و عينيه ترتكز على كريم الذي تفطَّرت قدميه من كثرة الوقوف طوال اليوم بجانب الغرفة، فجلس القرفصاء بجانبها و احنى رأسه يغمض عينيه بحُزنٍ وخيم خيَّم عليه بالكامل، رد
” بدر ” بدهشة:
” لا والله ! لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ربنا يقومها بالسلامة، طيب و كريم أخباره إيه ؟ ”
أجاب سيف بأسى على حاله:
” كريم مش كويس خالص يا بدر، ساكت و شارد طول الوقت زي ما يكون تايه أو ضايع في عالم لوحده، صعبان عليا أوي و مفيش في ايدي حاجة أعملها له ”
” طيب أنا جاي ”
” مش مسموح بالزيارة، أصلًا أنا دخلت بالعافية و ملوش لزوم تيجي هو كده كده مش عاوز يكلم حد ”
تنهّد بدر بأسفٍ عليه و قال قبل أن يغلق المكالمة:
” طيب أنا هتصل عليه، و أنت حاول تخرجه من الحالة دي.. متسيبوش كده ”
” حاضر يا بدر، مع السلامة ”
أغلق بدر المكالمة مع شقيقه، و طلب كريم فلم يرد الأخير و ظل هاتفه بجيبه يرن أكثر من مرَّة دون لا مبالاة منه و كأنه فقد التأثر و الاستجابة لأي مثير حوله.
زفر بدر بضيقٍ و حُزنٍ عليه ليُتمتم:
” يارب عِينه و قومها له بالسلامة ”
في تلك اللحظة دلف عصام لمكتبه بعدما سمح له بدر بالدخول، ليقول هو بأدبٍ يُملي عليه مواعيد الاجتماعات:
” باشمهندس حضرتك عندك اجتماع في فرع اسكندرية بكرة إن شاء الله ”
أومأ بدر باسمًا:
” ايوه يا عصام جزاك الله خيرًا ”
” و إياك، ممكن أطلب من حضرتك طلب ؟ ”
قالها عصام في تردد، مما اعاره بدر اهتمامه، فأردف:
” حور بنتي عندها سخنية و كنت عاوز أخذ إذن من حضرتك أروح أكشف عليها دلوقت ”
أومأ له بدر موافقة يبدي بها أسفُه:
” أكيد يا عصام اتفضل، ربنا يشفيها و يطمنك عليها يا حبيبى.. طيب عارف دكتور كويس ولا أشوف لك ؟ ”
” لأ كتر خيرك، زوجتي حجزت عند دكتور معروف بيقولوا شاطر ”
” ربنا يكتب الشفاء على ايده و يطمنك عليها ”
” يارب، استأذن أنا بقى.. سلام عليكم ”
” وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ”
التفت بدر تجاه حاسوبه ينجز بعض الأعمال من خلاله، و حالما انتهى.. أنجز بعض الأعمال الورقية خاصة بجدول المبيعات الذي أحضره له مسؤول المبيعات، ثُم نهض مُستعدًا للعودة لمنزله، فقد اشتاق لمهجة فؤاده و ابنه الحنون مثله.
أما في منزله، وقفت ” عائشة ” تُحَضِّر طعام الغداء، فجاء ” سُليمان ” ابنها الذي أتم عامه الثالث، هذا الطفل الحنون للغاية ورث الشعر الجميل عن والده و بشرته السمراء، و العينان البنية الواسعة و الأنف الصغير من والدته.. تمسك برداء عائشة و شدَّها منه برِقَّةٍ قائلًا ببراءة الأطفال:
” عائش تعالي أنتِ تعبانة أوفه ”
سُليمان يقلد والده في كل شيء، و يتعمد بدر اظهار احترامه و حنانه البالغ بزوجته و والدته أمامه؛ حتى يتعلم منه العطف و الرحمة و الاحترام، فعندما يراه يُقبِّل عائشة من جبينها، يأتِ هو و يفعل مثله، و عندما يلاحظه يهتم بها و يدلِّلُها، يفعل مثله، و أكثر شيء يقلده هو مناداته لأمه بعائش، يُناديها عائش أكثر من ماما..
انحنت عائشة عليه و حملته، لتقلب الدجاجة في الشوربة، ثُم غطت عليها و لثمت قُبلة على خده قائلة:
” عيون عائش، بابا زمانه جاي و بيجي تعبان عاوزين نحضر له الأكل.. إيه رأيك تساعد ماما ؟ ”
أومأ و بادلها القُبلة على خدها ليقول بطاعة:
” حاضر ”
” يحضر لك الخير كله يا قلب ماما ”
أنزلته و قالت بحنان:
” خد يلا المعالق دي طلعها و صحي تيتا فوفه ”
أصرَّت عائشة على مكوث ” مفيدة” معهم بالشقة بدلًا من مكوثها طوال النهار بشقتها في الطابق الأول، فصارت تقضي النهار معهم و عند المبيت تُصِرُّ هي على البيات في فراشها بشقتها، و لأنها غفت على نفسها منذ ساعتين، فقامت عائشة بايقاظها من على الأريكة بالصالة، و جعلتها تنام بأريحية في إحدى الغرف.
اتجه نحوها حفيدها يهزها من كتفها بحذرٍ:
” تيتا فوفه.. يلا ناكل مم، أبتاه جاي ”
عودَّهُ بدر على مناداته بأبتاه بدلًا من بابا، و كان الصغير في استجابة مطيعة لوالده لكل ما يُمليه عليه.. لم تستيقظ جدته، فأعاد سليمان الهمس:
” تيتا أبتاه جاي ”
تحركت مفيدة في نومتها و تقلبت لتأخذ سليمان في حضنها متمتمة بنعاسٍ:
” نام عشان أجيب لك حاجة حلوة ”
حاول التملُّص من بين ذراعيها برفضٍ:
” لأ، أنا بساعد عائش ”
أحكمت لف ذراعيها عليه، فخاف سليمان و أغمض عينيه رغمًا عنه لينام معها، مما جاءت عائشة حينما تأخر طفلها، و وجدته يجاهد في النوم و جفونه تتحرك بسرعة دلالة على التصنع في النوم.. ضحكت هي و قالت بقلة حيلة:
” هي تيتا نيمتك غصب عنك.. طب تعالى تعالى متخافش ”
فتح عينيه عندما سمع صوت أمه و تبسم ضاحكًا كأنه وجد ملجؤه أخيرًا، فنهض يرتمي في حضنها قائلًا:
” تيتا فوفه عايزاني أنام ”
” لا يا حبيبي بابا زمانه جاي إن شاء الله، أنا هصحي تيتا ”
قالتها و أيقظت حماتها حتى نهضت الأخيرة بتكاسل تقول:
” هو بدر جه ؟ ”
” زمانه على وصول بإذن الله، يلا قومي صحصحي كده أنا هغرف الأكل أهو ”
و بعد دقائق رن جرس الشقة، فأسرع سليمان بالركض تجاه الباب، و عندما لم يستطع فتحه ككل مرة، استدعى والدته فجاءت تبادل قلقه بابتسامة جميلة و ربتت على شعره الطويل قائلة:
” لما تكبر شوية إن شاء الله، أنت اللي ها تفتح لبابا بعد كده ”
فتحت له الباب، و دلف بدر بابتسامة مشتاقة لها فبادلته الابتسامة بقولها:
” حمد الله على السلامة ”
رد وهو يشدَّها برفقٍ نحوه يضمها إليه:
” السلامة هي إن أشوف عيونك يا عائش ”
ثُم انحنى على ابنه يحمله و يُقبِّله:
” اوبح حبيب بابا.. وحشت أبوك يا بطل.. ها احكي لي.. عملت إيه بقى طول النهار ؟ ”
جلس به على الأريكة ليستمع لتصريحات سليمان التي لا يمل منها، فقالت عائشة بحنان وهي تنحني و تنزع عنه جواربه:
” قوم الأول يا حبيبي غير هدومك عشان نتغدى و بعدين ارغوا براحتكم ”
بعدما نزعت عنه جواربه، جذبها برقة من ذراعها يرفعها له و أجلسها بجانبه، ثُم لثم يديها تقديرًا لفعلتها و جبينها ليقول بابتسامة عاشقة لها لم تتغير أبدًا:
” ربنا ما يحرمنيش منك أبدًا يا أجمل النعم و أحبها لقلبي ”
ابتسم سليمان تلقائيًا و قال وهو يميل ليضع قُبلة على يد والدته:
” ربنا ما يحرمنيش منك أبدًا ”
اتسعت هي ابتسامتها و أخذته من والده لتضمه لصدرها و تُقبِّله بحُبٍ بالغ قائلة:
” ولا يحرمني منك يا نور عيوني و قلبي ”
أما ” بدر” نهض ليبدل ملابسه، و قبل الاتجاه لغرفتهم.. وقعت عينيه على والدته تنهض من الفراش، فاتجه نحوها و انحنى يُقبِّل يدها و جبينها، ثُم جلس بجانبها يتساءل:
” عامله إيه يا ست الكل ؟ ”
” الحمدلله يا حبيبي، أنت عامل إيه في شغلك؟ ”
” الحمدلله الأمور ماشية تمام الحمدلله ”
ردت وهي تربت على فخذه:
” الحمدلله، طيب يلا يا حبيبي روح غير هدومك عشان تتغدى ”
نهض يغير ملابسه، بينما عائشة كانت قد جهزت طاولة الطعام، و اتجهت لغرفتهما تقف خلفه و تحتضنه، فاستدار لها يقابلها بابتسامة دافئة، ثُم تلاشت ابتسامته قليلًا و أردف:
” سيف و مراته هيجوا على بالليل إن شاء الله عشان يباتوا في شقتهم ”
هتفت بدهشة سارَّة:
” بجد ! ده سليمان هيفرح أوي، بيحب يلعب مع فيروزه ”
حالما سمع سليمان اسم ابنة عمه، هتف في مرحٍ و سعادةٍ منه:
” فريوزه جاية ! هيـه فريوزه جاية ”
سليمان لا يستطيع نطق فيروزه فينطقها فريوزه، مما أخذا والديه يضحكان عليه بخفةٍ و يغمرانه بالقبلات الحنونة، ليقول بدر:
” أحلى فريوزه من أحلى سُليمان ”
مسَّدت عائشة على شعره بحنان و أنزلته من والده قائلة وهي تضربه على مؤخرته برقة:
” روح عند تيتا عشان هتكلم مع بابا في موضوع يخصنا و جايين ”
ضحك ببراءة من مداعبة والدته له و هرول راكضًا للخارج:
” حاضر يا عائش ”
التفتت عائشة لبدر تطوق رقبته بدلالٍ و تتساءل:
” حاسة إنك مش كويس، في حاجة مضايقاك.. احكيلي مالك ”
تنهّد بهدوءٍ و أردف بأسفٍ:
” زوجة كريم بعد ما ولدت دخلت غيبوبة ”
أنزلت عائشة يدها من حول رقبته، و وضعتها على فمها بشهقةٍ مندهشةٍ و عينان متسعتان من الصدمة هاتفة:
” رميسـاء ! دخلت غيبوبة ! ازاي و امتى ؟!
مين قالك ؟ أنا مكلماها من يومين قالت هتولد الأسبوع الجاي ! ”
برم شفتيه و رفع كتفه بضيقٍ يقول:
” أكيد الطلق جالها فجأة، سيف مكلمني وأنا في الشغل.. مراته راحت لها المستشفى عشان كده هيجوا يبيتوا هنا.. قلقان على كريم يا عائش ”
أدمعت عيناها و همست بخوفٍ عليها:
” يارب استر.. طيب يلا نروحلهم ”
” نروح فين دي في العناية المركزة، يعني مينفعش يبقى فيه تكدس هناك أصلًا.. ادعي لها بس و إن شاء الله الأمور تبقى كويسة، ربنا يعين كريم ”
” يارب.. يارب يقومك بالسلامة يا رُميساء.. حبيبتي قلبي وجعني عليها أوي، خلفت التلات عيال ورا بعض مرتاحتش، يارب طمنا عليها يارب”
قالت كلماتها و أخذت هاتفها تحادث روان، فأخبرتها الأخيرة أن الوضع ما زال غير مطمئن و أخذت تبكي، فظلت عائشة معها تحدثها حتى استطاعت تهدئتها، و تابعت قبل اغلاقها للمكالمة:
” بالله عليكِ أول إما تفوق كلميني على طول عاوزة اطمن عليها، أنا متفائلة خير بإذن الله هتبقى كويسة و تكون غيبوبة حمل مؤقتة، رُميساء أصلا مكنتش بتاكل في الولد ده، وولدت طبيعي و الولادة الطبيعية دي بتاخد جهد فظيع، فعشان كده حبيبتي مقدرتش تستحمل، ربنا يشفيها و يقومها بالسلامة يارب ”
” يارب يا عائشة يارب ”
اغلقت عائشة المكالمة بحزنٍ تجلى عليها و حكت لحماتها ما حدث، فأخذت تطمئنهم بقولها:
” هتطلع غيبوبة حمل مؤقتة إن شاء الله، أصل طالما معندهاش لا السكر ولا الضغط، فا مفيش مضاعفات تخليها تدخل في غيبوبة طويلة، إن شاء الله هتفوق و تبقى زي الفل ”
هتف سليمان بعفوي، وهو يضم كفيه و يرفعهما يدعو لها في حركة بريئة و تلقائية، جعلتهم يثنون عليه بابتسامة محفزة له:
” يارب اشفيها و خليها تخف عشان ألعب مع مراد و إياد.. يارب طنط ساء تخف ”
ابتسمت عائشة بخفةٍ، فابنها يجد عائق في نطق الأسماء الطويلة، و لكن عند تكرارها أمامه ينطقها بشكلها الصحيح، عدا فيروزه ابنة عمه التي يخفق في نطق اسمها في كل مرة يلعب معها.
شرعوا في تناول طعامهم، فأحست عائشة بحاجتها للتقيؤ، مما نهضت سريعًا و ركضت تجاه الحمَّام تستفرغ، فنهض بدر خلفها و ظل يربت و يمسد على ظهرها برفقٍ، بينما هي تستفرغ.. و هتف سليمان بخوف على والدته بعدما ركض وراءهما و دلف معهما للحمَّام:
” أبتاه، أنا خايف ”
بعدما انتهت عائشة، غسل لها بدر وجهها، و أخذها لخارج الحمَّام؛ كيلا يتحدثان بداخله أمام الصغير وهو يريد أن يعلمه كراهية الحديث داخل بيت الراحة إلا إذا وجبت الضرورة، كتحذير من حدوث شيء سيئ مثلًا.
ابتسم له والده ليطمئنه قائلًا:
” متخافش يا حبيبي، ماما تعبانة بس شوية ”
وتابع وهو يُمسِّد على شعره:
” حبيب أبوك مينفعش نتكلم في الحمام، عشان ربنا عز وجل أمرنا بكده، و إحنا مسلمين لازم نطيعه ”
سليمان ما زال صغيرًا على أن يحدثه والده عن الكراهية و الحرمانية بالتفصيل، فيكتفي بزرع كراهية ما حرمه الله في قلبه و تنفيذ ما أمرنا فعله دون جدال، فأوامر الدين لا جدال فيها و إنما نفهم فقط لماذا أمرنا الله بذلك، و هذا الطفل صاحب الثلاث سنوات ما زال صغيرًا على فهم أمور الدين؛ لذلك يكتفي والده بجعله يحترم أوامر الله و تطبيقها.
أومأ سليمان بطاعة:
” حاضر يا أبتاه، أنا بحب ربنا و مش هزعله خالص خالص ”
” و ربنا بيحبك يا سُليمان ”
ثم استدار لعائشة يتفحص وجهها بقلقٍ حينما استندت بضعف عليه، و قالت بتعبٍ بدا عليها:
” بدر، أنا بقالي أسبوع شكه في حاجة و جبت اختبار حمل، فلو سمحت ممكن تروح إما اعمله.؟”
تهلل وجهه و اتسعت ابتسامته يقول:
” حامل ! ”
” بقولك شكه، لسه هتأكد ”
أومأ بتفهم و أخذ سليمان من يده، فسحب يده برفق و خوف على أمه و أبى الذهاب مع والده هاتفًا:
” أنا خايف على ماما ”
جلست عائشة القرفصاء أمام طفلها و احتوت وجهه الصغير بين كفيها لتقول بابتسامة مداعبة:
” مين حبيب ماما اللي بيسمع الكلام ؟ ”
” ليمو ”
” ممكن ليمو حبيب ماما يسمع كلام بابا و يروح معاه ؟ ”
” أنا خايف عليكِ يا عائش ”
” يا عيون عائش متخافش، ماما كويسة يا حبيبي.. إن شاء الله أجيب لك أخ أو أخت زي فيروزه تلعب معاها ”
صفق بيده و اتضح المرح عليه ليهتف:
” بس.. بس شبه فريوزه ماشي يا ماما ؟ ”
” إن شاء الله يا روح ماما.. ”
قالتها و لثمت قُبلة على أنفه الصغير، ليذهب برفقة والده، فألقى بدر نظرة أخيرة على عائشة و همس:
” بنت المرة دي إن شاء الله ”
ابتسمت له و دلفت للحمَّام لتقوم بعمل الاختبار، و بعد دقائق خرجت و بيدها الاختبار تبتسم ضاحكة بخفة:
” أنا حامل ! ”
تعالى صوتها وهي تُنادي عليه:
” بدر أنا حامل ”
أتى مسرعًا ليأخذ الاختبار منها يدقق النظر فيه بتمعن و فرحة طغت عليه هاتفًا:
” هيبقى لك أخ أو أخت يا سُليمان إن شاء الله ”
ما إن سمع سليمان ذلك، ظل يقفز بمرحٍ في هتاف مماثل لوالده:
” هيـه هيبقى عندي فريوزه كمان هيـه ”
بينما مفيدة هتفت من الصالة بنبرة ضاحكة و هي تصفق بيديها مما هاج سليمان معها و أخذ يفعل مثلها:
” والله و عملوها الرجالة و رفعوا راس مصر بلدنا ”
نظرت عائشة لبدر بدهشة و حرج، ثم انفجرت في الضحك وهي تميل برأسها على كتفه وهو يسندها قائلًا لوالدته بلومٍ ضاحكًا رغمًا عنه:
” رجالة إيه اللي عملوها ! إيه يا أمي بس اللي بتقوليه ده ! ”
استوعبت مفيدة ما هتفت به أمام الصغير، فتراجعت قائلة:
” أنا قصدي إن الأهلي دخل جول، مش برضو سيف أخوك بيلعب في الأهلي ؟ ”
ظل سليمان يقفز وهو يردد:
” عمو سيف جايب فريوزه تلعب معايا.. ماما جيب لسليمان فيروزه كمان ”
أما في المنزل المقابل لهما، في الطابق السفلي لمنزل مصطفى الخياط والد زياد و نورا.. يجلس الجد مصطفى يلعب مع أحفاده التوأم بالقطار تحت نظرات السعادة من زياد الذي طوق كتفي هاجر في حنان، فأراحت رأسها عليه و مسحت على بطنها بتعبٍ قائلة:
” البنت شكلها هتطلع شقية زي كِنان ”
” المهم تيجي بالسلامة يا وردتي و أنتِ تولدي و تقومي بالسلامة ”
” يارب يا حبيبي ”
تدخل كِنان ذلك الطفل صاحب الأربع سنوات و شهرين، يقول بتهديد لوالده:
” قولت لك متقولهاش يا وردتي تاني، هي وردتي أنا بس ”
ردت كيان تنهره بلُطف:
” كده عيب، اتكلم مع بابا بأدب ”
رد على شقيقته بغضب:
” لو اتكلمتِ تاني هضربك ”
هذا الطفل ” كِنان” مصاب بفرط الحركة و لديه ميل للسلوك العدواني، رغم عدم التفرقة في المعاملة بينه و بين أخته، و لكن لتدليل والديه و جديه الزائد له؛ جعلوه يتصرف على هذا النحو، فكل طلباته تُنفذ كما يريد، و أحيانًا يتغاضى والده عن تصرفاته حينما يحدثه بقلة حياء..
رمقه زياد بعين التحذير ليقول بوعيدٍ له:
” قولت لك قبل كده تتكلم بأسلوب كويس يا كِنان و أنت مسمعتش الكلام، عشان كده هحرمك من المصروف لمدة أسبوع و مفيش لعب.. هتيجي من الحضانة تعمل الواجب و تاكل و تفضل في أوضتك لحد ما يجي ميعاد نومك ”
توارى كنان خلف جده بخوف من والده قائلًا:
” جدو مش ها يسمح لك تعملي حاجة ”
قالت هاجر بغضب خفيف منه:
” ماما زعلانة منك يا كنان ”
نهض زياد، فركض كنان يهرب منه بينما والده لحق به و امسكه ليحمله بحنان قائلًا:
” احكي لبابا يا حبيبي إيه اللي مزعلك ؟ ليه بتكلم بابا حبيبك بالاسلوب ده ؟ مش إحنا اتفقنا نكون مؤدبين و نتكلم بأسلوب محترم و منزعلش حد منا ؟ ”
أومأ كنان بندم ظهر عليه، فتابع والده حديثه بلينٍ:
” طيب ليه يا حبيبي مش بتسمع الكلام ؟ حد زعلك في حاجة ؟ ليه بتكلم أختك حبيبتك كده ؟ مش أنا قولت لك هي مسؤولة منك و متزعلهاش أبدًا ! ”
حوار زياد السلس و الهادئ دون ترهيب مع ابنه، جعله يقول:
” عشان أنت يا بابا بتلعب مع كيان اكتر مني و كل شوية تقول لماما يا وردتي، و مش بتقولي زيها ”
قهقه والده و جلس ليجلسه على فخذه مردفًا:
” أنت راجل زي بابا مينفعش أقولك يا وردتي، وبعدين يا حبيبي أنا بحبك زي كيان بالضبط، بس إحنا رجالة و ماما و كيان مسؤولين مننا لازم ندلعهم و نعاملهم كويس عشان نثبت لهم إن إحنا أحسن من أي حد.. طب أنت عارف إن بابا بيحبك قد الدنيا دي كلها ! أنت ابني حبيبي الراجل المحترم اللي بيسمع كلام أبوه و مش بيزعل أخته منه و لا إيه يا كنان باشا ؟! ”
أومأ كنان بطاعة لوالده و طبع قبلة على خده باعتذار:
” أنا آسف يا بابا ”
” خلاص أنا مش زعلان منك بس بشرط، توعدني تسمع الكلام، ماشي ؟ ”
” حاضر ”
لثم زياد قبلة حنونة على خد كنان، ثم أنزله ليعود للعب، فاتجه كنان ناحية كيان أخته و قبَّلها من خدها قائلًا:
” أنا آسف يا كوكي.. متزعليش مني.. هجيب لك حاجة حلوة بس اكتبي بدالي الواجب ”
تبادل زياد و هاجر النظرات بضحكة مكتومة، و بقلة حيلة همس زياد:
” دكتور أطفال صاحبي حكيت له على سلوك كنان، قالي علمه رياضة يخرج فيها نشاطه المفرط، و افضل دايما أعيد و أزيد عليه إنه يتعامل كويس مع الناس عشان السلوك العدواني ده ميتطورش، و أنا جايبه النهاردة من الحضانة المُدرسة اشتكت لي إنه مبيسمعش الكلام و لو حد زعله من صحابه بيضربه من غير خوف من الميس بتاعته حتى لو واقفة قدامه.. بتقول إنه عنده سرعة بديهة و ذكي جدًا بس مبيحبش يشارك معاهم في الواجب اللي بيحلوه في الحصة، بيحب يجاوب شفوي اكتر.. ربنا يصلح حاله، هاخده بكرة إن شاء الله و أروح أقدم له في الكاراتيه أو الكونغ فو، صاحبي بيقول إن واحدة منهم كفيلة تضبط سلوكه لو استمر فيها إن شاء الله ”
ردت هاجر وهي تتابع طفليها في اللعب:
” ربنا يهديه يارب و يجعلهم ذرية صالحة ”
استدار كنان يتساءل بشقاوة نبعت في عينيه الخضراء الشبيهة بعينين خاله:
” هي فيروزه بنت خالو سيف مش هتيجي عندنا بقى ؟ ”
أجاب والده باسمًا:
” هبقى أكلم خالو و أقوله يجيبها و يجوا إن شاء الله ”
هتفت كيان برقةٍ:
” خلي خالو سيف يجيبها بكرة يا بابا عشان ألعب معاها ”
وكزها شقيقها في كتفها هاتفًا:
” لأ.. فيروزه هتلعب معايا أنا بس ”
صاحت هاجر ترمقه بتحذير لطيف:
” و بعدين ! اعتذر لأختك ”
” أنا آسف يا كوكي متزعليش”
قالها، ثم اقترب منها و همس في أذنها همس وصل لجده فأخذ يضرب كف بكف ويضحك باستسلام لشقاوته:
” بس فيروزه هتلعب معايا أنا و بس ”
.. على الناحية الأخرى بالمشفى المحجوز بها رُميساء.. مرّت ساعات اليوم وهو ما زال بجانب الغرفة ينظر بين الحين و الآخر بترقب لها من خلف الزجاج، و عندما رأته روان هكذا؛ استدعت سيف و همست له:
” خد ودي له ابنه خليه يشيله ويقعد بيه في جنب يمكن يلهيه شوية بدل ما هيغمى عليه هو كمان من حالته دي ”
أنزل سيف ابنته من على كتفه، و أخذ منها الرضيع في حذر ليتوجه به نحو والده قائلًا:
” كريم.. مش عاوز تشوف ابنك ؟ ”
لم يرفع حتى كريم وجهه له، فادعى سيف الكذب وقال ليثير الفضول عنده و يشتت انتباهه:
” ده حتى مراتي بتقول إنه توأم مراتك ”
بدأ كريم يستجيب له أخيرًا، و حرك رأسه تجاه ابنه النائم بين ذراعي سيف، فأخذه منه و ضمه له هامسًا بدموع ظهرت أخيرًا:
” ماما كويسة.. كويسة متخافش.. متخافش يا كريم، فراشتك كويسة هي بس بتدلع عليك ”
قال كلماته الأخيرة، و كأنه يواسي نفسه بها و يحثها على الصمود، فحبس دموعه و لثم جبين ابنه بحذرٍ، ثم أعطاه لسيف قائلًا بجمود:
” خده و روح ”
” طيب تعال اغسل وشك و هجيب لك عصير تشربه يسند طولك ”
رد بصرامة وهو يدير ظهره له:
” روح يا سيف قولتلك ”
عاد سيف بالوليد لروان، و انحنى ليحمل ابنته قائلًا:
” مفيش فايدة، كريم دماغه ناشفة و مش ها يتحرك من مكانه غير إما مراته تقوم بالسلامة إن شاء الله ”
تنهّدت روان بدموع هامسة:
” الله المستعان، يارب طمنا عليها يارب ”
مرت ساعات أخرى، و غفى سيف مكانه و ابنته نامت على كتفه، فلم تجد روان مجال للمكوث، فأيقظت زوجها و استأذنت للذهاب، أما كريم لم يغمض له جفن و ظل واقفًا بثبات بجانب الغرفة يشعر بيُتمٍ و ضياعٍ لم يشعر بهما من قبل.
في منتصف اليوم الثاني و بعد مرور ستة و ثلاثون ساعة على رُميساء في غرفة العناية المركزة، كانوا الأطباء معها بالداخل يتفحصوا حالتها، و إذ بالطبيب يلاحظ تحرك جفونها و محاولة فتحهم و مع تفحص ضربات القلب، وجد أنها عادت للانتظام و لم يعد بحاجتها للتنفس صناعيًا.. فتحت جفونها و اتضحت الرؤية أمامها رويدا رويدا، فتهلل وجه الطبيب و استدار للطبيبة الأخرى قائلًا:
” الحمدلله، الحالة فاقت ”
قاموا بفحص شامل أخير لها، و بعد استقرار حالتها.. فُتحت غرفة العناية و خرجت رُميساء على الترولي بواسطة الممرضات تحت أعين عائلتها المندهشة و كريم الذي أخذ يستوعب في بطءٍ مرورها من أمامه مستيقظة..
خرج الطبيب و قبل الادلاء بكلمة، انهالت الأسئلة عليه من والدها و والده:
” هي فاقت يا دكتور ؟ بقت كويسة خلاص الحمدلله ؟! ”
أومأ بابتسامة مطمئنة لهما:
” الحمدلله، بس ها تتحط يوم كمان تحت المراقبة، الحمدلله غيبوبة مؤقتة ”
اتجه رياض يربت على كتف كريم بنبرة فرحة:
” مراتك فاقت يا كريم، الحمدلله الدكتور طمنا يابني.. ادخل شوفها ”
بدأت قدميه تسوقانه تجاه الغرفة دون ابداء ردة فعل واحدة، فهو ما زال يلوم نفسه أنه السبب، بينما في الداخل همست فراشتنا بتعب تتساءل عنه:
” حاسة إن الاوضه بتلف بيا.. هو كريم فين ؟ ”
تزامن سؤالها مع ظهوره بطوله و هيئته الراسخة أمامها، يتردد في الاقتراب منها و عينيه بدأت الدموع تتجمع فيهما، بينما هي ابتسمت له بوهنٍ و فتحت له ذراعيها بتعبٍ بعدما اطمأنت على طفلها، و طلبت منهم الخروج من الغرفة و تركها مع زوجها.. طفلها و رجُلها و زوجها تعرفه أكثر من أي أحد، تدرك أنه تصنع الجمود و الصلابة أمامهم و بداخله بركان هائل من الخوف و الحزن على وشك الانفجار في أي لحظة، و لن ينفجر إلا بين ذراعيها.. حينما فتحت له ذراعيها؛ خرج صوته في البكاء أخيرًا و أبدى ردة فعل مُبكية، فأقبل يرمي بجسده بحذرٍ بينهما، و انفجر باكيًا بكاء رجولي مُوحش بشهقاتٍ متتاليةٍ، كأنها مسجونة منذ زمنٍ و خرجت من سجنها أخيرًا..
همس بصوتٍ مكتومٍ مبحوحٍ من بين بكائه:
” رُميساء ”
” طفلي ”
همست بها وهي تمسح و تُمسِّد على ظهره بحنانٍ ليهدئ، و تابعت وهي تمسح على شعره:
” رُميساء هنا، فراشتك هنا.. متعيطش يا كيمو، أنا جنبك و معاك يا حبيبي ”
” متسبنيش تاني.. اوعي تسيبيني تاني يا فراشتي ”
قالها و ظل يبكي بين ذراعيها و هي تربت على ظهره الذي يهتز بارتجافٍ لبكائه المفرط، و بعد دقائق نجحت في إعادته لتوازنه، فابتعد قليلًا عنها و مسحت هي له دموعه برِقَّةٍ ليقول بنبرة منكسرة:
” كنت ضايع من غيرك، مفيش خلفة تاني.. مش عاوز عيال تاني، أنا عاوزك أنتِ و بس، معنديش أي استعداد إني أخسرك، أنا من غيرك أموت والله ”
ابتسمت هي بدموعٍ تلك المرة و همست:
” بعيد الشر عليك، ربنا يبارك لي في عمرك يا كيمو..”
عاد لاحتضانها، فهمست في أذنه بمداعبة:
” بيقولوا إن معتصم كله أنا ”
رفع وجهه ينظر لعينيها بنظراتٍ عميقة، ثُم لثم قبلة مشتاقة على جبينها و قال:
” ده يا بخت معتصم ”
بعدما بدأت حالتها تستقر قليلًا، أخبرها زوجها عن مجيء سيف و زوجته، فاتسعت ابتسامتها قائلة:
” هات التليفون اتصل عليها، أنا عارفة روان، مش ها يهدى لها بال غير إما تطمن عليا ”
فلنتركهم في سعادة هنا، و نذهب في جولة بالطائرة لدولة تركيا نرى ماذا يفعل إبراهيم مع خطيبته..
لم يحب تلك الفتاة و اضطر لخطبتها لنيل رضا والده، برغم أنه أخبرها قبل الخطبة أنه خالِ المشاعر ولا يوجد مشاعر حُب لها بداخله، و لكنها تغاضت عن ذلك ووافقت لأجل ثروة والده الطائلة.
لم يستطِع إبراهيم إخراج ملك من ذاكرته، بصرف النظر على اختياره الصائب في الابتعاد عنها عندما بلغت البلوغ الشرعي و ارتدت الحجاب بفضل تشجيعه.. أراد عدم تعلقها به و فضل البُعد حفاظًا عليها و مراعاة لحدود الله، برغم طيش إبراهيم أحيانًا، لكنه شاب متفهم و مُراعي أغلب الأوقات، و ما فعله هو الصواب، فعندما تركها لم يكن متأكد من مشاعره تجاهها و كانت هي ما زالت صغيرة بعمر الخامسة عشر، حتى لو كان يحبها حينها لن يستطيع طلب الزواج منها، و لكن تعلقها المرضي به لم يعد تعلق مرضي، بل اتضح فيما بعد أنها أصبحت تحبه حقًا ولا تفكر بأحدٍ غيره، فهو الوحيد الذي يفهمها منذ طفولتها و الوحيد الذي يستطيع التأثير عليها في أي شيء.
تأكد إبراهيم من مشاعره تجاه ملك و أدرك أنها لم تعد في نظره الطفلة الصغيرة، نعم ستظل طفلته و لكنها الآن فتاة ناضجة و مشاعره تجاهها هي مشاعر حُب حقيقية و ليس حُب أخوي.
تحجج بزيارة خطيبته ليخبرها بالمستجد و الجديد في أمرهما، فقال بعدما احتسى كوب القهوة:
” فاطمة، لا أستطيع الاستمرار في تلك العلاقة، اعتذر ”
تأملته للحظات تستوعب ما قاله، ثُم تحولت نظراتها للسخرية، لتقول:
” أنت عاشق.. لا تنكر، هناك فتاة أخرى في حياتك، أليس كذلك ؟ ”
لطالما كان إبراهيم شارد الذهن و التفكير في “ملك” في الفترة الأخيرة، و شروده هذا أظهر لمعة عشق في عينيه سهل على جنسنا معرفتها، غير أنه يطمئن عليها دائمًا من خلال أبويها، فوجد نفسه يغرق في بحر العشق و الهوى، يغرق في حُب ربانزل خاصته في حُب ” ملك ” صاحبة الشعر الذهبي الطويل و الملامح الدافئة، التي و رغم ابتعاده عنها استطاعت جذبه إليها مرة ثانية، و لكن تلك المرة ذهب عاشقًا.
تنهّد بهروبٍ و جاب بعينيه المكان، ثم حك رقبته و قال بادعاء:
” غير صحيح.. أنا.. أنا فقط لا أشعر بالارتياح، و أعتقد أنك أيضًا لا تملكين مشاعر تجاهي، أليس كذلك فاطمة ؟ ”
سؤاله صَحَبَ ابتسامة خافتة ساخرة، فردت وهي تشيح بعينيها عنه:
” أنت بالفعل لا تعنيني في شيء، و لكن اخبرني.. من تلك الفتاة التي استطاعت سلب عقل و قلب إبراهيم إيمير ؟! ”
إبراهيم في الآوِنَة الأخيرة كان يبذل كل جهده في العمل في محاولة بائسة منه للهروب من التفكير في ملك، و لم يجدِ ذلك نفعًا فلا أحد يستطيع الهرب من صوت قلبه، و لكن جهده الجهيد ترك بصمته في سوق العمل، فاشتهر بين رجال الأعمال الشباب أنه أمهرهم و أفضلهم، بالاضافة لحرصه الدائم على ممارسة الرياضة، لقد اتخذها وسيلة أيضًا للهرب من ذلك الأمر و جاءت نتائجه بالفشل، لكنه ترك تأثيرًا على جسده، و لتكاثف الأعين عليه و خوف والده.. فهو ابنه الأقرب و المحبب لقلبه، قرر ” إيمير بك ” احضار رجال أقوياء يكونوا حُراس لابنه أينما ذهب، فعندما يذهب لمكانٍ ما؛ يتبعونه و أسلحتهم في جيوبهم لا تفارقهم، و ذلك بسبب عمل والده في الأسلحة فجعل أولاده محط أنظار جميع المتنافسين بالمجال.
قرر البوح أخيرًا بمشاعره الكامنة بقلبه، و لعلمه بأن ابنة خاله تعرف ملك جيدًا منذ أن كانت صغيرة و تأتِ بصحبة قُصي أو مع والدها، فقال بثباتٍ غير آبهٍ لأي شيءٍ:
” نعم أنا عاشق، عاشقٌ لملك ابنة العم مجاهد، و سوف أتزوجها ”
اتسعت عيناها تهتف بصدمة:
” ملك ! مريضة التوحد ! إنها مجرد فتاة بائسة ولا أمل منها في الشفاء، أيضًا الفارق العمري بينكما كبير ! هل ستتزوج من تلك ؟! ”
ضيق إبراهيم ما بين عينيه يرمقها بغيظٍ و غضبٍ من تحدثها على صغيرته هكذا، فاتجه نحوها و مال عليها يرفع اصبع التحذير و التهديد في وجهها هاتفًا:
” أنتِ المريضة و ليست هي، أنا أحذرك فاطمة، إذا لسانك القذر هذا جاء باسم ملك و نطق به بالسوء أو حتى بالخير؛ سأقطعه لكِ..
أقسم بالله لن أدعكِ تهنئين بالحياة ثانية واحدة.. إلا ملك.. سمعتِ ؟! ”
أومأت في خوفٍ من تهديده دون التعقيب بشيء، فلأول مرة تجد إبراهيم بهذا الوجه الصارم الجديد، بينما هو ألقى بخاتم الخطبة في اهمالٍ أمامها، ثُم تركها و خرج ليخبر أباه بأنه سيسافر لمصر للزواج من ملك شاؤوا أم أبوا.
نترك تركيا و إبراهيم بعشقه الواضح لملك، و نسافر بطائرتنا الخاصة للدولة الطاغية ” امريكا” هناك حيث يقبع “قُصي”، عفوًا العالِم الدكتور
” قُصي الخياط “، لذكائه و جهده الذي بذله في تطبيق اختراعه و توصيله لكل العلماء في وكالة ناسا الفضائية، حصل على شهادة الدكتوراة بالدراسات التي اجتهد فيها، و باثبات صحة اختراعه الذي سيفيد امريكا و اسرائيل و دول الاتحاد الاوروبي فقط كما أخبرهم هو؛ مُنح درجة العلمية فأصبح مثله مثل أي عالم في الوكالة، و لكن لن تثبت درجة العلمية له؛ إلا بتطبيق اختراعه و نجاحه فعليًا.
الاختراع الذي قدمه قُصي لوزارة البحث العلمي كان عبارة عن حماية طبقة الاوزون و دعم الثقب الموجود بها، هذا الاختراع لم يسبق لعالِم و أن صدره أو طبقه، كان ذلك جديدًا و مدهشًا للعلماء الآخرين، فوافقوا بالطبع على انضمام هذا المخترع الصغير لهم، و حينها كان بأواخر الثالثة و العشرون، أما الآن فهو على مشارف اتمام الثامنة و العشرون، لم يتغير به شيء سوى أسلوبه مع “منة ” و ارتدائه لنظارة طبية لضعف نظره؛ لكثرة التدقيق في الأبحاث و ما يخص المعمل و غيره.. ما زال شابًا يافعًا جميل الوجه قوي البنية، و لكنه لم يعد متكبرًا ولا مغترًا بنفسه، أصبح أكثر نُضجًا أكثر عقلانيةً أكثر هدوءً عن ذي قبل، و ازداد حُبه و تدليله لمنة أيضًا.
الجميع ينادونها ” منة”، عدا والدتها و هو، لقد فضل تسميتها برحمة للأبد؛ لأنها كما أقر هو سابقًا جاءت رحمةً له و به من آثام قلبه و عقله.
اختراع ” قُصي ” جاء كطوق النجاة في رقبة امريكا، فمعنى أنهم سيجدوا حلًا لثُقب الأوزون، أنهم سيزدادون قوة و تحكمًا في العالم، و لا يعلمون ما يخطط له عقل قُصي الماكر.
في الواقع، لا يوجد ثُقب حقيقي، ولكن تركيزات جزيئات الأوزون تنخفض بشكل حاد في المنطقة، مما يؤدي في الأساس إلى “ترقق” طبقة الأوزون.
و بما أننا نعرف أن طبقة الأوزون عبارة عن درع رقيق من الغاز في الغلاف الجوي للأرض يحمي الكوكب، ويمتص أشعة الشمس فوق البنفسجية ويساعد في الحفاظ على جميع أشكال الحياة على الكوكب، لكن الذي يجهله معظمنا أن طبقة الأوزون ليست محصنة ضد الأنشطة البشرية الضارة، وقد دمرت طبقة الأوزون مجموعة من غازات الدفيئة البشرية المنشأ والمعروفة باسم المواد المستنفدة للأوزون، بما في ذلك مركبات الكلوروفلوروكربون التي يمكن العثور عليها في المنتجات اليومية مثل مكيفات الهواء والثلاجات وعلب الأيروسول.
و تم ايجاد حلًا للحفاظ على طبقة الأوزون عن طريق اتفاقية تم عقدها، فيعتبر بروتوكول مونتريال الذي تم اعتماده في عام 1987 ودخل حيز التنفيذ في عام 1989 أحد أكثر المعاهدات البيئية نجاحًا في العالم، و لكن جهوده بدأت تقل و تخفق في حفظ الطبقة، فجاء قُصي باختراعٍ يوفر العناء و الجهود على العالم من أضرار و مخاطر ثُقب الأوزون، فالبحث الذي قدمه يحتوي على عدة عناصر من الطبيعة يتم دمجها بشكل معين لتنتج عنصر قوي فيتفاعل مع طبقة الأوزون و يبدأ في بث درع الأمان لها كأنه غلاف آخر يحيطها و يحميها، و يتم اطلاقه كما يطلق القمر الصناعي و يستغرق ذلك لتطبيقه بعد اطلاقه، حوالي الثلاث سنوات، و في خلال الثلاث سنوات يتم متابعته و رصد تحركاته و هو يندمج ببطء شديد مع الغلاف و يبدأ في فرض نفسه عليه، و ما أعجب و أدهش دول الغرب كثيرًا، أن هذا التفاعل القوي سيكتفي بحماية الغلاف المحيط على الدول الغربية فقط التي يتم تحديدها، و لن تستفيد الدول العربية منه، و المعضلة الأكبر.. أن إسرائيل لن تستفيد وحدها من ذلك، الفلسطينيون أيضًا سيستفيدون من ذلك الغلاف الذي سيحميهم من الأشعة فوق البنفسجية الضارة، لوجود هؤلاء الخنازير البرية على أرض فلسطين يشاركونهم خيراتها، فقام قُصي بتعديل بسيط عليه بعد تفكير و تعب دام لأشهر، فأصبح الغلاف يحيط و يحمي الأراضي التي يقيم عليها القوم الحثالة فقط.
و الآن هو يقف في المختبر العلمي الضخم يتابع من خلف الشاشات الكبيرة التي تشبه عدسة التلسكوب المقراب الفضائي، و هو مقراب يحمله قمر صناعي في الفضاء و ينقل لهم ما يحدث خطوة بخطوة.
وقف يتابع من خلف نظارته بابتسامة خافتة وسط عشرات العلماء المعنيين بالأمر، و كان هو أصغرهم سنًا و أذكاهم عقلًا، فوضع يده في جيب البالطو الطبي خاصته و اليد الأخرى تعدل من نظارته في ابتسامة ساخرة حاول كبحها، بينما أحد العلماء بجانبه التفت له يقول باعتزازٍ:
” أحسنت صنعًا، لقد فكرنا كثيرًا في ابتكار اختراعٍ كهذا و باءت جهودنا بالفشل، و لكنني لم أكن أعرف أن السر كله يكمن في عنصر اليورانيوم ”
رد قُصي دون الالتفات له:
” لكلٍ منا سره الخاص، و هذا كان سري ”
وبعد ساعاتٍ لاحظ العلماء أن تفاعل العناصر مع طبقة الأوزون لم يستهدف فقط الدول الغربية التي تم تحديدها، بل بدأ المقراب يسلك و يرصد طريقًا آخر متفرع للدول العربية، أولهم فلسطين، حتى لا يتم التشكيك به، أضاف عنصر اليورانيوم باحترافية و بطريقة ما تجعله يتفكك من بعضه و ينثر جزئياته في اتجاهٍ آخر مصطحبًا معه بقية العناصر، و جعل فلسطين هي أول دول يتم حماية غلافها؛ حتى يظنوا هم أنه عن طريق الخطأ لوجود الصهاينة مع الفلسطينين على أرضٍ واحدة، و أن العناصر لم تستوعب الأمر المعطي لها، فأخذت بالتفكك و حماية الغلاف المحيط بفلسطين بالكامل أولها غزة.
همس قُصي لنفسه وهو يتابع اختراعه يتم تحقيقه كما خطط و رسم له:
” ده اللي أقدر أقدمه لفلسطين، يارب اقبله عمل صالح مني ”
في حينٍ أن أحد العلماء سأله باستغرابٍ تام:
” مالذي حدث ؟! ألم تتحمل العناصر بقائها في اتجاهٍ واحد ؟! ”
رد هو ببراءة مزيفة يبحث معهم عن السبب:
” لا أعلم، لقد قمت بكل شيء على الوجهة الصحيحة في المختبر أمامكم منذ ثلاث سنوات، من المفترض أن يعمل بالشكل الصحيح و بالأوامر التي أردناها نحن ! حقًا لا أعلم مالذي حدث ! ”
أعطى عالم آخر الأوامر للمساعدين على شاشات التلسكوب:
” حاولوا ترجيع المرصد و استرجاعه.. هيا، يجب علينا منعه قبل حماية الغلاف بالكامل ”
استدار قُصي لهم هو أيضًا يصيح فيهم بغضبٍ مصطنع و حماسٍ حقيقي لما سيحدث:
” قوموا بتعطيله الآن ”
ثُم همس لنفسه:
” إذا استطعتم ”
وبعد ساعات من المحاولة و الاخفاق، اختفى المرصد الذي يرصد لهم ما يحدث من أمام الشاشات بغتةً، فبرم قُصي شفتيه و ضرب بيده على الحائط بجانبه هاتفًا بحركة تجعلهم لا يشكون فيه بتاتًا:
” كدت أن أصل للهدف، لا أعلم لماذا تنتصر فلسطين دائمًا ! ”
همس عالم آخر بجانبه، و لكنه أبدى إعجابه بما حدث:
” يبدو أنهم بالفعل أصحاب الأرض و أن الله معهم ! ”
رد قُصي بحزنٍ مصطنع بمهارة:
” أعتقد ذلك أيضًا ”
قام ذلك العالم برسم الصليب عليه، و قال:
” الرب يحمينا ”
هتف العالِم المسؤول عن اطلاق المقراب:
” حسنًا، سنكتفي بذلك اليوم لحين عودة المقراب على الشاشات ”
يسكن قُصي في منزل كبير راقي أشبه بالفيلا، في العاصمة واشنطن بالقرب من موقع الوكالة، خرج ليقود سيارته عائدًا لمنزله، بينما في المنزل كانت
” منة ” تقوم بعمل اختبار الحمل لها، و اكتشفت أنها حامل بعد ثلاث سنوات و نصف من زواجها الحقيقي بأزرق العينين.
قبل ثلاث سنوات و نصف و نيل قُصي عقوبته منها، قرر عدم السفر للوكالة و الاقلاع عن اختراعه، و تكريس حياته للاهتمام بها فقط، و لكن منة أصرَّت على تحقيق طموحه و مساندة الدول العربية خاصةً فلسطين، فوافق بشرط ألا يحدث حمل خلال تطبيق الاختراع؛ حتى إذا كشفت امريكا خدعته يستطيعان الهرب منهم، فهو يدري جيدًا أنه لو انكشف أمره، سيقتلون أعز شخص على قلبه، ثم يدبرون له حادثة اغتيال كسابقيه من العلماء، و لا يريد أن يفقد شخصين.. منة و الطفل، لقد عزمت هي على التضحية بأنفسهما من أجل البلاد، و لم تضع في الحسبان احتمالية حملها، حتى أنها لم تعد تأخذ حبوب منع الحمل منذ عام، فقد أرادت بعاطفة الأمومة و الغريزة بداخلها، انجاب طفل من قُصي، و تركت الأمر لله.
الآن هي تقف في الحمَّام بارتباكِ و خوفٍ من ردة فعله عندما يعلم.. وصل لها صوت مزلاج الباب وهو يُفتح، فوقع الاختبار منها بتوتر مما انحنت سريعًا و أحضرته، ثم قامت بإخفائه بالخزانة الصغيرة المعلقة فوق المرحاض، و غسلت وجهها بهدوءٍ تحاول كبح قلقها وخوفها منه أمامه، ليأتيها صوت يُناديها بحُبٍ:
” رحمتي.. ”
خرجت من الحمَّام بعدما جففت وجهها، فاقترب منها يحملها و يرفعها ليضمها له بحنانٍ و اشتياقٍ بالغ، فهو لم يراها منذ يومين:
” كأنهم سنتين مش بس يومين، و حشتِ قلبي و روحي يا روحي ”
ظلت صامتة بين ذراعيه للحظات، فأبتعدت بعدما شعرت بأنه سيكشفها من شدة توترها، و همست:
” و أنت كمان وحشتني، طمني عملت إيه ؟ ”
تأملها بقراءة سريعة لتعابير وجهها، فتجاهل سؤالها و تساءل هو:
” فيكِ إيه يا حبيبتي ؟ مالك ؟! ”
تحررت من بين ذراعيه، و قالت بعدما ولت له ظهرها و اتجهت للمطبخ:
” هحضر لك الأكل، زمانك جعان، و أنا كمان جعانة.. مبعرفش آكل و أنت مش معايا ”
اتجه خلفها دون ردٍ، و أدارها لتكون في وجهته، ثُم أعاد سؤاله:
” مالك ؟ ”
نزعت عنه نظاراته و ملَّست على خصلات شعره برِقَّةٍ هامسة:
” أصلك غايب عني بقالك يومين و وحشتني أوي”
رفعها من خصرها بخفة يُجلسها طاولة المطبخ، و أردف غامزًا:
” ما خلاص أنا قدامك أهو، إيه رأيك بعد الغدا نلعب تنس ؟ ملعبناش مع بعض من زمان.. بصراحة بقى أنا جاي فرحان، أول خطوة في الاختراع نجحت الحمدلله.. و العناصر انتشرت في طبقة الغلاف اللي على فلسطين بالكامل، إن شاء الله قريب مصر و باقي الدول ”
كلامه هذا جعلها في كامل خوفها و قلقها، و ندمت أنها تركت نفسها بدون موانع حمل، فمعنى نجاح الاختراع أن امريكا لن تترك قُصي في شأنه إلا عندما تكتشف خدعته، و إذا اكتشفت خدعته سيتم قتلهما.. و لكنها سعدت جدًا عندما علمت بحملها، لقد أحبت الطفل لأنه منه، أحبته قبل حتى أن يبدأ بالتكوين بداخلها.
أدمعت عيناها رغمًا عنها و ألقت بنفسها على صدره، تعانقه بألمٍ مكتوم هامسة:
” أنا بحبك يا قُصي، بحبك أوي ”
فعلتها تلك أقلقته عليها أكثر، فأبعدها عنه برفقٍ و تساءل بخوفٍ وهو يمسح دموعها بحنانٍ:
” و أنا كمان بحبك يا رحمة، بس بتعيطي ليه يا حبيبتي.. في إيه بس ؟ ”
قالت بصدقٍ و بهروبٍ في نفس الوقت:
” خايفة، خايفة عليك يا قُصي، معنى إن الاختراع نجح.. إنه.. ”
قاطعها قبل أن تكمل جملتها بوضع اصبعه على شفتيها قائلًا بثقة:
” شش.. متخافيش، أنا مخطط لكل حاجة، إن شاء الله هنكون هربنا برا البلد قبل ما يعرفوا الحقيقة ”
أومأت باستسلامٍ له، و نزلت من الطاولة لتجهز الطعام و ساعدها في ذلك، و حالما انتهت جلسا يتناولان طعامهما، فلاحظ شرودها و لعبها بالشوكة في الطبق بملل.. تساءل بتفحص لوجهها:
” رحمة.. من امتى و إحنا بنخبي حاجة على بعض ! ممكن أعرف فيه إيه بالضبط ؟! ”
صمت لدقيقة تحاول تجميع الكلام في رأسها، فتنهدت بخوفٍ منه و قالت وهي تنظر للطبق بهروب من نظراته المصوبة عليها:
” أنا.. أنا حامل ”
توقف به الزمن لدقائق يحاول استيعاب ما قالته تدريجيًا، بينما هي شرعت تأكل طعامها بشراهة غير معتادة عليها.
أعاد أكل طعامه دون الرد بحرفٍ واحد فزاد ذلك من خوفها منه، و أخذ يأكل الطعام و يُلوِّكَه في فمه بهدوءٍ مريب، وهو يختلس النظرات عليها بين الحين و الآخر، فقالت هي بارتباكٍ تحثه على ابداء أي ردة فعل:
” قُصي بقولك أنا حامل ”
ظل دقائق أخرى صامتًا، ثُم بدأ يغرس الشوكة في الطعام بقسوة، و رفع بصره تجاهها بنظرة نارية تبعها بقوله الصارم:
” ينزل “

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية يناديها عائش)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *