روايات

 رواية وقبل أن تبصر عيناك الفصل الخامس والأربعون 45 بقلم مريم محمد غريب

 رواية وقبل أن تبصر عيناك الفصل الخامس والأربعون 45 بقلم مريم محمد غريب

رواية وقبل أن تبصر عيناك البارت الخامس والأربعون

رواية وقبل أن تبصر عيناك الجزء الخامس والأربعون

وقبل أن تبصر عيناك
وقبل أن تبصر عيناك

رواية وقبل أن تبصر عيناك الحلقة الخامسة والأربعون

_ إلى حيث تخاف ! _
تلك المحنة التي مرت بها، مؤكد كانت لها فوائد كما ألحقت بها قسمًا من المساوئ أبرزها أنها كانت ستفقد حياتها برمتها، لكن لحسن حظها هذا لم يحدث.. و قد نجت !
لم تكن ممتنة لنجاتها على يديه، أو لأجل إصلاح أيّ فساد بينهما، بل إن الحياة نفسها أمست تراها بنظرة مغايرة، و صارت تمنحها تقديرًا أكثر، ليس من أجل زوجها، إنما من أجلها هي
من أجل شخص “هانم” فقط …
تذكر نفس حفلة الاستقبال الشعبية الكبرى التي من قبل لإبنها، اليوم أقيمت لها أيضًا، يزيد عليها كم الحب و مشاعر الولاء التي أمطروها بها قاطني الحي من الكبير إلى الصغير، و كأن “هانم” ليست زوجة الزعيم فقط، إنما هي أم و أخت و إبنة
الجميع يحب “هانم”.. إلا الرجل الوحيد الذي أحبته …
°°°°°°°°°°°°°°°°°°
كم أحست بالحرج و هي ترتقي طوابق المنزل محمولةً على ذراعيه القويتين، و أمام أعين العائلة كلها، رغم اعتراضاتها، رغم أنها نطقت لأول مرة لكي تحتج على هذا فقط
إلا أنه لم يستمع إليها، و بتفاخر تجاهلها و فعل ما أراد، كانت مفاجأة لها لم تعلم عنها شيء _ إنتقالها إلى شقته _ محرابه المقدس، الذي لا يشاطره أحد به
إنها الآن تلج داخله، بل داخل غرفة النوم حتى، غرفة النوم التي عبقتها روائح الغراء و الدهانات الحديثة …
عبست مستغربة، فإذا بها تلقي نظرة تلقائية صوب الحائط الشهير.. كان قد ترمم بالكامل و عُلّقت فوقه صورة “كاميليا” ثانيةً
اختلجت أنفاس “هانم” حين وجدت نفسها تتموضع فوق الفراش الوثير بعد أن تخلّت عنها ذراعيّ “سالم”
متسلحة البقية الباقية من شجاعتها، تطلعت إليه بلمحة من التحدي و قالت بصوت متذبذب :
-أنا مارضتش أعمل مشاكل قصاد العيال و اخواتك. أمك عارفة نيتي و انت قبلها عرفت.. كلم اخواتي يجوا ياخدوني يا سالم. أنا عايزة أتطلق و ده آخر كلام
مسّد “سالم” صدغه مطلقّا زفرة مطوّلة، لم يجد لديه طاقة للمجادلة، لكن إكتفى بالقول دون حماسة :
-إيه رأيك نوفر النكد لوقت تاني يا هانم ؟ إنتي رجعتي بيتك بالسلامة. و معايا دلوقتي. جمبي و في سريري زي ما كنتي بتتمني دايمًا.. إتبسطي بقى يا أم العيال …
-إنت عمرك ما هاتبطل غباء !
كأن دلوًا من الثلج هوى فوق رأسه إثر عبارتها الباردة المهينة، و رمقها بعينين جاحظتين بالغضب …
-إنتي إتجننتي يا هانم ؟؟؟؟؟ .. صاح منفعلًا
-جتلك الجرأة تشتميني !!!!
إبتسمت ساخرة و ردت عليه :
-أنا مش بشتمك يا سالم. أنا بوصفك.. انت لسا مفكر نفسك أهم حاجة في الحياة ؟ على الأقل حياتي أنا. مابقاش ليك مكان فيها خلاص. إفهم.. خلاص
سالم برعونة : خلاص إيه يا مرى ؟ عليا أنا الكلام ده ؟
أومال مين إللي كان راقد في المستشفى و مقطع شرايينه ؟
أمي ؟!!!
قطبت جاجبيها في عبسة واهنة متحسّرة، لتقول بعد لحظة بنزقٍ و هي تلامس أحد رسغيها المصابين :
-ده كان أغبى تصرف عملته في حياتي. بعد جوازي منك يا سالم يا جزار.. طلقنــــي !!
-أنا لآخر لحظة عامل اعتبار إن لسا اعصابك تعبانة و خارجة من المستشفى.. سايبك تتكلمي براحتك و تفشي غلبك. لكن طلاق إيه إللي بتكلميني عنه.. أحسن لك تفوقي لنفسك بسرعة يا هانم
-سالم.. لو ماطلقتنيش هاكلم اخواتي يجوا ياخدوني !
-إخواتك ؟! .. علّق بتهكمٍ بَيّن
-هو إنتي متخيّلة حتى لو كلمتي اخواتك و جم حد فيهم يقدر يمد إيده و ياخدك ؟ إنتي على إسم سالم الجزار. أي حد يفكر ياخد حاجة عليها إسمي اقطعهاله.. و اخواتك عارفين كده كويس
دفعها اليأس و قلبها المجروح للقول بانفعالٍ :
-أنا ماعنتش طايقة العيشة معاك. لو عندك كرامة طلقني.. لو راجل بجد طلقني !
صمت “سالم” لبرهة تفاديًا لعنفٍ وشيك …
أرجع رأسه للخلف متنهدًا بعمق، ثم نظر لها من جديد.. تهاوى جالسًا إلى جوارها على طرف السرير
حاولت أن تبتعد عنه، لكنه قبض على معصمها و استبقاها بالقوة، ثم مد يده و أمسك بذقنها ليجتذب وجهها و يجعلها تتظر بعمق عينيه الحادتين، بينما يغتنم هو صوته الأكثر هدوءً و عذوبة و هو يقول :
-إسمعي يا هانم.. أنا و انتي. و الناس كلها عارفين أد إيه انتي كنتي ست جدعة. و صبرتي معايا و اتحملتي طول عمرك.. شايلتك المسؤولية. و فوق طاقتك. و كنتي أدها. كنتي أد كل حاجة. عارف إني جيت عليكي و جرحتك كتير. و انتي بردو استحملتي.. عشان بتحبيني. عارف إنك بتحبيني
-كنت ! .. نطقت بلهجة مرتجفة
تحداها : و لسا. لسا بتحبيني. مش هاتقدري تنكري أبدًا.. بس إنتي موجوعة مني. و عندك حق.. أنا كنت بشع معاكي. ماتخيلتش إن بأذيكي للدرجة دي. يمكن عشان ماعرفتكيش كويس حتى بعد العشرة دي كلها …
-عشرة ! .. سخرت منه
-عشرة إيه دي يا سالم ؟ قولتلك يتعدوا على صوابع الايد الكام مرة إللي إتقفل علينا باب واحد.. أنا ماعرفكش كويس يا سالم. ماعرفش غير إللي الناس كلها تعرفه. شوفت دي ؟
مرااااااتك. أم عيالك.. و ماتعرفش غير الظاهر للناس و بس …
و أسبلت عيناها مصدرة زفيرًا محترقًا، ثم قالت نائحة دون الهرب من أصابعه الممسكة بذقنها حتى اللحظة :
-إنت عايز توصل لإيه يا سالم ؟ معقول عايز تفهمني إن ضميرك بيأنبك يعني ؟ عايزني أسامحك. أوعدك إني مش هحاول أموت نفسي تاني ؟ و لا خايف لو سبتني أعمل كده تاني ؟.. بص لو أي حاجة من دي أطمن أنا آ ا …
-مش خايف من حاجة يا هانم ! .. قاطعها بتلويحة من عنقه
ركز عينيه بعينيها مجددًا و قال بلطفٍ غريب عليها :
-أنا جايلك برجليا بعد العمر ده كله. عايز نرجع تاني. نقرب لبعض.. منغير ما حد فينا يحاول يبعد. كفاية بعاد يا هانم
-لسا فاكر تفوق دلوقتي يا سالم ؟!! .. تمتمت بمرارةٍ
إنهمرت دموعها فجأة …
و رددت و كأنها تخاطب نفسها كالمعتاد غير واعية لوجوده أمامها :
-هو أنا لازم أفرفر قدامك عشان تحس بيا. لازم أموت يا سالم ؟
متأثرًا بمحنتها، رسم ابتسامة متقنة على ثغره ليروّح عنها، ثم ضمها إلى صدره و أغلق عليها بذراعيه و هو يهدهدها كطفلةٍ :
-مش هاتموتي يا هانم.. على الأقل أنا مش هاشوف اليوم ده. هشششش. بس خلاص… كل حاجة هاتبقى أحسن. صدقيني !
و كان ينظر إلى صورة “كاميليا” أثناء حديثه، كأنما يقدم لها هي الوعود، بل أنه في الحقيقة نذر
نذر “كاميليا” …
____________________
كانت السماء تسطع بزرقة مبهرة، بفستانها الشتوي ذي التنورة الجلدية، مشت إلى جانبه على إمتداد الساحل النيلي، حافظت على مسافة قدمين بينهما
و طوال الوقت منذ تقابلا لم تفه بكلمةٍ، فقط تسير على استحياءٍ، راسمة ابتسامة بلهاء على محياها المتوّرد خجلًا، و كان هذا يعجبه كثيرًا، كانت مسليّة
حتى تجرأ و أمسك برسغها فجأة، فانتفضت بعنف كما لو لدغها العقرب، ليهدئها في الحال دون أن يرفع يده عنها :
-إيه مالك إتخضيتي كده ليه ؟ أنا كنت هاقولك تعالي نقعد هناك في الكازينو ده بدل ما انتي واخدة السكة عمياني كده !
نظرت “سلمى” إلى “عاصم” بتوجسٍ و قالت مرتبكة :
-آ. أنا.. مش متعودة حد يلمسني كده. أبويا محرج عليا أسلم على إبن عمي بالإيد حتى !!
اومأ “عاصم” مبديًا تفهمه على الفور :
-أيوة طبعًا صح ..
و تركها بنفس اللحظة معاودًا إبقاء مسافةٍ بينهما، ثم قال بنبرة إعجاب :
-يسلم الراجل إللي رباكي على كده يا سلمى. جدعة.. إوعي تسمحي لحد يلمسك حتى لو أنا
عبست فوق نظراتها المضطربة و قالت و هي تنظر في كل الاتجاهات بلا هدفٍ :
-و على فكرة بردو أنا أول و آخر مرة أكدب و أطلع من البيت أقابل واحد.. أنا جيت بس أشوفك هاتقول إيه. إيه الموضوع المهم أوي إللي هايحدد علاقتنا !
-طيب ليه سخنتي عليا أوي كده.. إهدي. و لازمًا تعرفي إني إستحالة أكون سبب في أذاكي بأي شكل.. أنا زي ما قولتلك من أول يوم داخل البيت من بابه
-إزاي داخل البيت من بابه و انت نادهلي هنا ؟!
قابل نظرتها المشككة بابتسامته الجذابة و قال بوداعةٍ :
-بصراحة نادهلك عشان وحشتيني أوي و كنت هاتجنن و أشوفك.. لو ماكنتش شوفتك أكيد كان هايجرالي حاجة يا سلمى
تخضّبت وجنتيها بحمرة ملتهبة و هي تقول بتوترٍ :
-يا سلام ! و ده ليه يعني. أصلًا انت يدوب تعرفني و تعرف عني معلومات قليلة أوي
-بس كلها كانت كفاية و زيادة عشان أقع في غرامك. أنا حبيتك من أول نظرة و حلفت تكوني ليا.. سلمى السنة دي مش هاتعدي إلا و انتي مراتي و في بيتي بالمشيئة
-السنة دي ! .. تمتمت مبهورة
ليؤكد : أيوة.. كلها كام يوم و نيجي نطلبك من المعلم سالم. و الميزة المشتركة بين عيلتي و عيلتك إن مافيش إعتراف بفترات الخطوبة و لا التعارف.. في جواز علطول …
و لمح خصلة شعر تهدلت عبر حافة وشاح رأسها الرقيق
قطب حاجبيه و اقترب منها بلا تردد، بينما خفق قلبها بعنف و قد فاجأها، أغلقت عينيها و أدارت رأسها كما لو خشيت أن تتلقّى صفعة …
لكنه في الواقع أمسكها بجانبيٍ رأسها بحزمٍ و جعلها تتطلع إليه من جديد مغمغمًا بصرامة :
-إثبتي.. في خصلة باينة من شعرك… خلاص. دخلتها !
أجفلت حين لمست أنامله بشرتها الرطبة، لكنه ما لبث أن تركها و قد خلت لمسته العرضية من أيّ مشاعر محتملة، بيّد أنه لا ينفك يثبت لها حُسن نواياه …
-إبقي خلي بالك من نفسك دايمًا. مش عايز حد يلمح منك سنتي واحد !
ردت باستخفاف ينم عن عدم خبرة :
-كل الناس شافوني و شافوا شعري يوم فرح إخواتي. و انت كنت واحد منهم !!
أحست بجبينها يندي عندما رأت وجهه يتموّج بالغضب تدريجيًا، ثم سمعته يردد بحدة :
-حياتك منغيري حاجة. و لما دخلتها أكيد بقيت حاجة تانية خالص.. دلوقتي كفاية تعرفي إنك ملكي. و بعد الجواز أنا هاتكفل بالشرح.. عشان تتأكدي مية في المية و تفهمي كويس يعني بقيتي ملكي يا سلمى !
خائفة على نحوٍ غامض، حدقت به بصمتٍ دام للحظاتٍ، ثم قالت بتعجلٍ :
-طيب أنا لازم أرجع البيت دلوقتي
-إيه ! تمشي بسرعة كده ؟
إحنا ماكملناش ساعة على بعضها …
-أنا خرجت بالعافية أساسًا. قلت لستي على كتب مهمة لازم أشتريها للمذاكرة.. لولا كده ماكنتش عرفت أطلع من البيت
-طيب هاوصلك
-لأ طبعًا ! .. هتفت مذعورة
-ده أنا لو حد شافني معاك يبقى آخر يوم في عمري. أنا هارجع زي ما جيت.. بالمواصلات
تنهد مستسلمًا : ماشي. بس طول السكة تبقي معايا على التليفون.. لحد ما توصلي بالسلامة و أطمن عليكي !
____________________
ليس هناك ما هو أكثر بؤسًا من الشعور بالعجز …
أن تود أمرًا و لا تستطع حياله شيئًا، وقع المنع بالقدرية ريما لكان أهون، لكن حين يعجزك شخص منكَ.. أخاك.. أو… أختك !!!
بعد بضعة أشهر من اللقاء الأول
لم يغادر مطلقًا قرية العائلة العريقة، إختار أن يبقى معها بدوّار “النشار” على أن يرضخ لمطلبها و يعود مجددًا إلى مستنقع أبيه
كان في حيرة، مبلبل الفكر، و قد أفاده البُعد كثيرًا، رغم فؤاده المثقل و مشاعر المسؤولية و لوم الذات.. لكن فكرة أنه لم يترك ما يخصه بالعراء و أنهم جميعًا في أمان بغض الطرف عن أيّ إعتبارات
كلها أسباب أثلجت صدره قليلًا
الآن فقط لم يعد يهمه سوى إستعادة شقيقته، و إستعادتها حقًا أكبر تعقيد قد يخوضه بحياته كلها، لأنها ليست كأيّ فتاة عرفها.. و لها طبيعة غريبة يختبرها للمرة الأولى حرفيًا …
°°°°°°°°°°°°°°°°°°
أنسام ربيعية، و شمس الظهيرة الدافئة تظلل البيت العظيم، هناك بالتراث المفتوح جلس “رزق” يحتسي الشاي برفقة “النشار”.. بينما ناظريه لا يفارقان مستنسخة “كاميليا” !
أمه
هذه أخته.. شقيقته هناك… بعد أن سقت الورود خاصتها
ها هي بمنتصف الرقعة الخضراء الزاهية، تجلس و في حجرها الهررة الصغيرة، تطعمهم أيضًا و تسقيهم و تعطف عليهم
فما كان منه إلا إبداء العجب و الغمغمة لنفسه …
-لا حول و لا قوة إلا بالله.. يارب أعمل معاها إيه بس ؟!!
-إنت بتكلم نفسك يا رزق !
إلتفت “رزق” لينظر ناحية “النشار” …
مغمضًا جفناه بنسبة ثلاثون بالمئة ليبصر جيدًا في ضوء الشمس القوي، رد عليه :
-لا أبدًا. ماتشغلش بالك يا عمي.. أنا تمام
-أصلك مش عاجبني اليومين دول و خايف أحسن تكون زهقت مننا. ده انت مليت عليا البيت مع أختك.. بصراحة مش عايزكوا تمشوا خالص …
و ضحك بطيبة
ابتسم “رزق” مجاملًا و قال :
-كله بأذنه يا عمي. أكيد مكتوبلنا نمشي.. بس محتاجين شوية صبر. أنا آخر حاجة ممكن أعملها الغصب على نور في أي حاجة.. عاوزها تيجي معايا برضاها و يكون إختيارها
-هو زي ما قولتلك أبوك مش معارض. و قالي لو طلبتها أسيبها تمشي معاك.. أنا ماليش فيها. رغم إني ربيتها و تعتبر بنتي أنا. بس في أي وقت هانفذ كلمة أبوك يا رزق. وقت ما تقول تمشي. نور هاتمشي معاك …
تنهد “رزق” بثقلٍ مرسلًا نظرات موجعة صوب شقيقته :
-و لا مخلوق في الدنيا دي بقى يهمني أكتر من نور. و لا بقيت أعمل حساب لحد حتى لو كان سالم الجزار.. أصلًا أهم حاجة شغلاني إني أبعدها عنه. أبعدها خالص !!!
عقد “النشار” حاجبيه مفصحًا عما بصدره :
-يا رزق إنت محمّل أبوك الذنب كله. دي أول مرة أقولها لك.. بس كلمة حق. هو آه سالم غلطان. لكن إنت سبب كل ده
أدار “رزق” عنقه محملقًا فيه باستنكارٍ …
-أنا السبب ؟؟؟
-أيوة. أبوك عمل كل ده عشانك.. أنا ماشوفتش في حياتي كلها أب فضل عيّل واحد على عياله كلهم بالطريقة دي. انت لو كنت اتحرمت من أمك هو و ستك عوضوك أوي. لكن أختك المسكينة دي. و لا مليون حضن أب و أم يعوضوها حضن أبوها و أمها الحقيقيين… مشكلتك يا رزق إنك مش شايف غير جرحك و مش حاسس إلا بوجعك إنت و بس. جرب تحط نفسك مكان أبوك.. جرب تشوف الدنيا بعين كل إللي عايشها غيرك.. إنت مش لوحدك إللي اتحرقت بنارها. رغم كل حاجة عارف. عارف إن محدش بيحس بالنار دي ألا إللي إتكوى بيها !
-في ضيفة وصلت يا كبير !
حمد “رزق” الله لمجيئ الخفير الذي قاطع خطبة “النشار” بعبارته المنذرة …
تطلع إليه “النشار” متسائلًا بغرابة :
-ضيفة ! مين هي يا صميدة ؟!
-جالت جاية من مصر. من طرف سيدي سالم. جالت بت سيدي ناصر الجزار الله يرحمه …
-ليلة ! .. صاح “رزق” غير مصدقًا و هب واقفًا بلحظة
كان هذا آخر ما توقع حدوثه حقًا !!!
-قولك إيه يا رزق ؟!
ببطءٍ صوّب “رزق” ناظريه نحو “النشار”… و قال قالبًا عيناه بنمطٍ مخيف :
-خليك مطرحك إنت يا عمي.. أنا هاقابلها !
و عاود النظر للخفير …
-هي فين ؟
-جعدتها في المضافة جنابك
°°°°°°°°°°°°°°°°°°
عليها هي
فرضت مشاعر الشوق نفسها، لحظة أن رأته أمامها بشحمه و لحمه بعد كل هذه المدة، و إن كان في لباسٍ يشبه إلى حد كبير أبيه
لكنها لم تتحمل أكثر، و قطعت المسافة بينهما ركضًا هاتفة بلوعةٍ :
-ررررررررررررررزززززززززززق !
لكن رفضه المفاجئ صدمها و جمدها محلها قبل أن تصل إليه تمامًا
توقفت على بُعد خطوتين منه، و قد إنسحبت الدماء من وجهها المحاط بخصيلات شعرها الثائرة، سمعته يسألها بصوته الجاف باللحظة التالية :
-إيه إللي جابك هنا يا ليلة ؟
ترفع حاجب وسبغ سخرية على لهجتها و هي ترد عليه :
-بعد كل المدة دي منغير ما اشوفك و لا أسمع صوتك.. بتسألني السؤال ده يا رزق ؟ أنا مراتك و لا نسيت. و كان في إتفاق بينا قبل ما تمشي
-أنا مش فاكر غير إنك إتوّرطي في الاتفاق ده. و بغيابي كانت فرصتك تحلي نفسك منه.. تقومي تجيلي برجليكي ؟ عاوزة إيه ؟!!
ببرودٍ جاوبت : عايزة جوزي !
مدفوعًا بالغضب، إنتفض واضعًا يد على خاصرتها، و أخرى خلف عنقها.. جذبها بعنفٍ لصقه ثم دمدم أمام عيناها المفتوحتان على مصراعيهما بصوتٍ كالهسيس :
-إنتي أصلًا عملتي غلطة كبيرة أوي.. لما رجعتي على ذمتي تاني. و إدتلك فرصة ترجعي عن الغلط ده …
بقيت كصخرة بين ذراعيه و هي تهتف بقوة دون أن يرف لها جفن :
-و أنا مسؤولة عن إختياري.. مش عايزة أصلح الغلطة دي و عايزاك. معقول تكون هربان مني كل ده.. مش مصدقة !!
-طبعًا ماتصدقيش …
غمغم و هو ينفضها بعيدًا عنه
أخذت تستعيد أنفاسها، بينما يرتب أفكاره، ليقول بعد لحظة قصيرة بحزمٍ :
-أنا رميت كل حاجة ورا ضهري يوم مشيت. حتى إنتي.. مابقتش مهتم أنبش في ماضيكي. و لا مهتم بيكي شخصيًا.. إنتي حرة مني و لو عاوزاني أطلقك حالًا آ ا …
-إنت كداب ! .. قاطعته بهدوءٍ تُحسد عليه
-إنت هاتموت عليا أصلًا. و لو مش حاسس دلوقتي لأنك لسا متخدر.. الصدمات ماكانتش هينة عليك. و عارف ؟ أنا لحد قبل الليلة دي ماكنتش أتخيل إني ممكن أحبك. بس لحظة ما ضغطت بصباعك على الزناد. و كنت خلاص بتروح قدام عنينا كلنا.. لحظتها حسيت إن حياتي أنا إللي هاتنتهي بنهاية حياتك يا رزق !
مع تتمة كلماتها، صوّبت نحوه نظرة تحتمل أيّ شيء إلا الشجاعة.. و كأنها تجردت من كل دفاعاتها مرةً واحدة أمامه
مع ذلك رفض “رزق” أن يتأثر لمشاعرها، و واصل جلده مقتبسًا من خطبة “النشار” السالفة :
-محدش بيحس بالنار ألا إللي إتكوى بيها يا بنت عمي !
و سألها بفضول حقيقي :
-إنتي عرفتي مكاني إزاي ؟!
بصوتٍ أبح قالت و هي تدس يدها بحقيبتها لتستل محرمًا ورقيًا :
-أبوك.. سألت أبوك و عرفت منه
أبدى دهشة : أبويا عرفك مكاني ؟ لأ و كمان سابك تخرجي من الحي ببساطة كده !!!
أزالت قطرة من الدموع علقت بأهداب عينها اليُمنى، ثم نظرت إليه مباشرةً و قالت برفق :
-لما عرف إني جايالك سابني.. الحقيقة يا رزق ان سالم الجزار فعلا مستعد يعمل أي حاجة عشانك… عشانك إنت بس !
أطلق ضحكة قصيرة متهكمة …
لتعلن “ليلة” بعد لحظة صمت طويلة :
-رزق.. نوسا المفروض تتنقل المستشفى عشان تولد. أبوك مش راضي يطلعها من البيت. قال حالف إنها ماتخرجش. و إنك إنت بس إللي تقدر تخرجها.. مراتك و إبنك في خطر. لو ماجتش معايا هاتخسرهم للأبد.. زي ما خسرت كاميليا !
عاجزًا عن تحييد بصره الشاخص عنها …
ميّز “رزق” مقدار الهدوء حولهما، و صار رأسه أثقل، فقد المكان و الزمان معناه في هذه اللحظة.. و ربما عليه أن يضع رأسه بالماء الآن… قبل أن يتمكن وحش الخوف بداخله من تفجيرها بالأفكار السوداء
“نسمة”
و طفله
في خطر
“نسمة” و طفله في خطر !
يتبع…..
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على (رواية وقبل أن تبصر عيناك)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *