رواية غير قابل للحب الفصل الثامن 8 بقلم منال سالم
رواية غير قابل للحب الفصل الثامن 8 بقلم منال سالم
رواية غير قابل للحب البارت الثامن
رواية غير قابل للحب الجزء الثامن
رواية غير قابل للحب الحلقة الثامنة
شئنا أم أبينا تضعنا الحياة في عدة اختبارات، قد نجتاز البعض منها، وقد نتعثر في البعض الآخر؛ لكن الأكثر صعوبة هي تلك الاختبارات التي تمتحن أغلى ما نملك، بل وتهدد بسلبه بلا ذرة تعاطف أو شفقة! ألقاني خاطفي عند قدمي “ريمون” بعد أن وجدت نفسي محتجزة في غرفة التعذيب هذه. كانت الأرض قاسية، فأصابت مرفقي بالآلم الشديد، رفعت رأسي في لأنظر نحو الأخير وهو يعاتب ذلك الوضـــيع:
-تمهل يا رجل، لا نريد إفســاد البضاعة.
انتفضت وأنا أرتعش حينما هدر به في هياجٍ:
-دعها لي، وأغرب.
هذا اللعين يريد الانفراد بي، وحتمًا إيذائي بشدة، ماذا أفعل وحدي معه؟ لستُ أملك من القوة الكافية ما يساعدني على صده ومواجهته، خاصة أنه ضخم الجثة، ومليء باللحم الثقيل، وفي أوج هيجانه. ارتاع تفكيري لمجرد توهم إقدامه على الاعتداء عليّ، تقلصت أحشائي، وانكمشت على نفسي. استنكر “ريمون” إقصائه متسائلاً في انزعاجٍ مطعم بالسخرية:
-ماذا؟ هل جرى شيئًا لعقلك؟ أم أن حبوب الهلوسة بدأ مفعولها مُبكرًا معك؟
رأيته يتقدم ناحيته كنوعٍ من التحدي، فما كان من خاطفي إلا أن أزاحه عن طريقه بقوةٍ وهو ما زال يصيح:
-ابتعد.
ركزت بصري نحو “ريمون” الذي ترنح في وقفته جراء الدفعة، وزحفت بحرصٍ بعيدًا عن هذا الهائج المجنون، لأسمع الأول يتساءل في استهجانٍ:
-ومن فوضك لهذه المهمة؟
من جديد شاهدته وهو يدفعه في غيظٍ نحو الباب مهددًا في خشونةٍ:
-قلت لك أخرج من هنا، وإلا جعلتك موضعها!
ما الذي يعنيه بموضعي؟ إنه لا ينوي أي خيرٍ على الإطلاق معي، اجتاحتني موجات جديدة متواترة من الخوف، واستحوذت على كامل بدني. أخذت أفتش بعيني عن مهرب لي، لمرة أخيرة نظرت ناحية “ريمون”، فتأملت وجهه وقد اشتعل غضبًا، ثم لوح بذراعه قائلاً وهو يسير صوب الباب:
-الكلمة الفصل للرئيس.
لم يكترث بما قال، وهتف فيه قبل أن يحول كامل نظراته الشهوانية نحوي:
-اذهب!
سلط نظراته الجائعة والمتأهبة لافتراسي على جسدي، ثم هدر وهو يبصق اللعاب من فمه:
-أنتِ لي يا عـــاهرة!
…………………………………………….
في الصغر، حين كنا لا نحمل همًا للغد، ويومنا يمضي بين اللهو والاستذكار، أذكر جيدًا عندما اعتدنا اللهو ولعب المطــادرة بين فريقين؛ أحدهما الأمن، والآخر الأشرار، كانت أصوات صرخاتنا الحماسية والمبتهجة تغطي على الشعور بالخسارة إن حدث وتم الإمساك بك. أما اليوم، فالمطــاردة تعني أنك واقع في مأزق كبير، لا خروج منه إلا بالموت! نظرات خاطفي المليئة بكل ما هو شرير جعلتني أفكر في الهروب، فاستدرت زاحفة على ركبتي وكفي لأفر منه، لعنت هذه اللحظة التي ارتديت فيها هذا الثوب، فهو لا يساعدني مُطلقًا على أي شيء سوى إعاقتي وإبطاء حركتي، وكأنه يقدم الدعم لهذه العُصبة.
صرخت بغتة في هلعٍ وقد شعرت بيده تقبض على قدمي لتُعيدني كليًا للخلف، حيث يقف. انخلع قلبي وانقبض بشكلٍ مفزع، فالتفت راكلة وجه خاطفي في عنفٍ بقدمي الطليقة، لحسن حظي كنت لا أزال ارتدي حذائي، فأحدث كعبه أثره الواضح عليه، ليهدر متأثرًا من الألم المفاجئ، وهو يطلق وابل من الشتائم اللعينة. لم أكف عن المقاومة، وركلته مرة ثانية فتمكنت من التحرر من قبضته، عندئذ استجمعت نفسي، واستندت على مرفقي لأنهض، ورُحت أركض ناحية الجانب الآخر، وبعيدًا عنه؛ لكنه استفاق من الضربة، واندفع ناحيتي، وألقى بثقل جسده الرخو عليّ لانطرح أرضًا وترتطم رأسي بقسوةٍ بالأرضية الصلبة، مما جعلني أخامر نوعًا من الدوار الشديد. منحه ذلك الأفضلية، فتمكن من الإمســاك بي، ، وحينئذ شرع يقول في وعيدٍ غاضب للغاية:
-سأجعلك تندمين!
صرخت في هلعٍ وأنا أحاول جاهدة إزاحته عني:
-النجدة.
دمدم في تلذذٍ مريض، وهو يلف ذراعي خلف ظهري ليقيدهما معًا بقبضته:
-لن ينفعك الصــراخ هنا.
أحسست بيده الأخرى تنهش في كتفي، كأنما يريد تشويهه، مجددًا صرخت من الألم، فراح يكركر ضاحكًا، لأجده بعد ذلك يردد بغلٍ متنامي فيه؛ كما لو كان يريد إحراقي بالتخيل قبل الشروع في تنفيذ ما ينتويه بالفعل:
-سأضع يدي في كل موضع من جسدك، لن تنالي رحمتي الليلة.
كان يجثو فوقي، يشل حركتي بالكامل بلحمه الثقيل، فانتفض كل ما في فزعًا، خاصة بواطني، حاولت صدّه؛ لكن لم أستطع من موضعي، عجزت عن دفعه، وبت في موقفٍ لا أحسد عليه، شعرت بشيءٍ قاسٍ يلتف حول عنقي، كان اللعين قد انتزع حزامه الجلدي، وراح يطوق به رقبتي ليخنقني، انحشرت أنفاسي وتقطعت، شدني منه بكل قسوةٍ وكره فتقوس ظهري من الألم العنيف، ليجتاحني المزيد من الألم، كما هربت الدماء من وجهي، قبل أن أشعر بانسحاب روحي فعليًا من حلقي من ضغطه غير الرحيم بي.
أزاح ثقله من على جسدي لينهض واقفًا وهو يسحبني كالبهيمة من الطوق الجلدي بعيدًا عن الباب، ركلني بساقه في جنبي فتألمت، كرر الركلة لأنكفأ على الجانب؛ لكني لم أسقط بسبب الطوق، ومع هذا حزت حوافه الجافة في رقبتي كأنها تنحرها، كنت أبدو كحيوانه الأسير وهو يزيد من الضغط والجذب والسحب هنا وهناك.
توقف في منتصف الحجرة، ثم أدار وجهي ناحيته، وحدجني بهذه النظرة المميتة قبل أن ينطق في حنقٍ:
-لن ينقذك أحد مني!
وضعت كلتا يدي على الطوق أحاول تحريكه، إبعاده عن مجرى الهواء المسدود، فالبكاد كنت أتنفس، وجدته يرفع يده للأعلى ليهوى بظهرها على جانب وجهي، صفعني بقساوةٍ كبيرة، وبكل ما يعتريه من غيظٍ مكبوت. لقد جعلت الصفعة رأسي يدور أكثر، حتمًا سيتورم وجهي، وتظهر هذه الكدمات عليه فيما بعد، وقبل أن أفيق أعطاني أخرى أوشكت أن تُغيب ذهني عن الوعي، ثم سحبني بشراسةٍ من الطوق نحو الطاولة المستطيلة، تلك التي كانت مقيدة إليها الفتاة المسكينة.
لم يمهلني الفرصة لإظهار أي مقاومة، وإن كانت محدودة، كان يقضي عليها بشدّهِ القوي للطوق ليجعلني أعاني أكثر، ثم أمالني على سطحها الخشبي ليلصقني بها، ثبت ظهري بيدٍ، ثم أرخى قبضته عن الطوق ليضغط بها على رأسي، كأنما يريد سحقها. اشتممتُ رائحة أنفاسه الكريهة عندما همس في أذني من بين أسنانه:
-لنرى كم من الوقت ستتحملين!
رفع رأسي قليلاً بقبضته ثم ضرب بها الكتلة الخشبية مرة، ثم الثانية، وفعل ذلك للمرة الثالثة ليفقدني الوعي عنوةً، تألمت بشدة، وتراخت أطرافي جراء ما يعتريني من عنفٍ لم أعد قادرة على مجابهته، انطفأت كامل مقاومتي، كما أوشكت على فقدان حياتي من قلة الأكسجين الذي يغذي رئتي، بالكاد كنت ألمحه وهو يحرك قبضتيه من فوقي ليقيد كل طرفٍ أملكه في جوانب الطاولة، ليضمن عدم فراري نهائيًا.
لم يكن من الصعب تخيل ما سيحدث معي لاحقًا؛ إنه على وشك الاعتداء عليّ، اغتيــال ما كنت احتفظ به لزوجي المستقبلي. عند الإتيان على ذكره تتابع على عقلي –وأنا في غمرة هذا الخطر الجسيم- عشرات الأسئلة، أليس من المفترض أن يكون متواجدًا لحمايتي؟ أم أنه تركني فريسة لمن لا يرحم؟ ولماذا يعتبر من أرباب القوة والسلطة والنفوذ وهو عاجز عن الدفاع عمن ستكون زوجته؟ بدا الأمر سخيفًا للغاية أن أفكر في لومه وأنا على شفا الجحيم.
حرر ذلك الحقير الطوق قليلاً حين لاحظ شحوب وجهي، واستدار لينظر في عيني الزائغتين وهو يكلمني في تشفٍ بأنفاسه الباعثة على النفور والشعور بالتقيؤ:
-أريد سماعك تصرخين.
كنت في حالةٍ من اللا وعي، صوته قريبًا مني؛ لكنه لا يصل لمسامعي بوضوح، شعرت بنسمات من الهواء البارد تضرب فجــأة في جسدي، عندها أدركت أنه ينزع عني ثوبي بتمزيقه إربًا .. على ما يبدو إنها النهاية لكل ما كان لطيفًا في حياتي السابقة!
……………………………………………
كم كنت أرجو لو كانت بي قوةٍ لئلا أمكنه مني بهذه السهولة! لكن ما باليد حيلة، أنا مقيدة من أطرافي إلى طاولة قاسية جافة، توخز نتوءاتها الخشنة جلدي، ويد خاطفي النــجسة تجوس على ردفي كتمهيدٍ مفزع لما هو قــادم مع وضيــع مثله. استنفر كامل جسدي في نفورٍ عظيم، ورفضٍ صريح للمساته الحقيرة المتجاوزة، ليشعرني أنه المتحكم في أمري، آخر ما توقعته أني قد أنجو من شره المستطير، استسلمت لمصيري المظلم، وفاضت الدموع من مقلتي وأنا انتحب بأنين متقطع كان كمعزوفةٍ ممتعة له، أخذ يردد عاليًا في انتشاءٍ هوسي:
-أريدك واعية لتذكري ذلك جيدًا.
يا ليته وضع لي المخدر فلا استشعر كل لحظةٍ تحطم فيها روحي قبل أن تُدك حصوني! لهث فوقي، ولطمت أنفاسه الكريهة وجهي وهو يسألني:
-بأي شيء أبدأ؟
بكيت رغمًا عني فقهقه ضاحكًا، وراح يفح بالقرب من وجهي:
-لنرفع الستار عن مخابئك.
ثم مسح بباطن يده على ذراعي قبل أن ينتقل لظهري، النجدة الإلهية جاءت إليّ في اللحظة الأخيرة قبل أن يشرع في ممارسة عنفه معي، عندما اقتحم “ريمون” غرفة التعـــذيب هذه، وهو يصيح مهللاً:
-توقف، لا تلمسها.
شعرت بيد خاطفي تجذب الطوق الجلدي المحاوط لعنقي ليميل رأسي للخلف عنوة، فانتشلني ذلك من دوامة الهذيان التي أغرق فيها، اخترق صوته الحــاد أذني وهو يحتج بشدة:
-لن يأخذها أي أحدٍ مني، هي عــاهرتي.
فهمت وسط سحب الضلالات المغيمة على عقلي أن هناك اعتراضًا على ما يفعله، وذلك من حسن حظي، أخيرًا وجدت من يكترث لأمري بعد أن فقدت الأمل كاملاً. سمعت “ريمون” يؤكد عليه:
-هذا ليس قراري، إنه من الرئيس “أليكسي”.
هنا انفجر خاطفي غضبًا فصرخ به وهو يرخي يده عن الطوق لأرتطم برأسي في قسوة بالسطح الخشبي:
-اللعنة، أنت تجرأت وأخبرته لتمنعها عني؟
صراخه المتواصل أزاح الغشاوات المضللة، فبدأت مداركي تعود للعمل بشكلٍ ما، تنبهت إلى “ريمون” وهو يتحدث إليه بشيءٍ جعل الريبة تسري في عقلي:
-إنها الطعم لإيقاع الرؤوس الكبيرة، وأي مساسٌ بها يعني تعقيد الأمور، وأظن أنه لن يعجبه رؤية ما تفعله بها.
تخشبت واقشعر بدني عندما وضع ذلك الحقير يده مجددًا على ظهري وهو يقول:
-أنا فقط أذكرها بمن الأقوى هنا.
ثم راح يخمش بأظافره جلدي في عنفٍ، قاصدًا حفر علامات عليه، لأصرخ من الألم الحاد، قبل أن يخفض يده نحو عجيزتي ويصفعني بقسوة كأنما يريد تذكيري بوضعي المهين، وبانكشاف ستري أمام الغرباء. أوقفه “ريمون” قبل أن يتمادى أكثر معي مهددًا:
-وماذا إن علم أحدهم بتصرفك؟
سمعته يضحك هازئًا:
-ومن سيعلم؟ سأخدرها.
اللعين الدنيء يفكر في إيذائي بشتى الطرق، وكأن في ذلك إشباع لنقصٍ لديه، وجدت عقلي يتساءل –رغم قيدي- كوسيلة دفاعية كيف أفلت من قبضته قبل أن ينفذ تهديده المخيف بي؟ انتصبت شعيرات جلدي هلعًا وهو يتابع:
-وسأجعلها كالحيوان الأليف.
ثم حفر بأظافره مرة ثانية ليضيف المزيد من العلامات على ظهري؛ لكن ما زاد من استنفاري وتلبكي في نفس الآن قول “ريمون” المريب:
-وهل سيقبل “رومير” بفعلتك؟ أتراه سيمرر الأمر دون رد؟ لا أظن ذلك، الاتفاق منذ البداية كان واضحًا.
عند التقاطي لاسم خالي، سطع ضوءٌ قوي في عقلي كأنما بدد ما يحجب عني رؤية الأمور بمنظورٍ أعمق، ازدحم رأسي بالمزيد من الأسئلة الحيرى، لماذا انتقل الحديث إليه الآن؟ ما الرابط بينه وبين هؤلاء الملاعين؟ وعن أي اتفاق يتحدث؟ مرة أخرى شعرت بانجذاب رأسي للخلف، وبضغطةٍ عنيفة على فكي بقبضة خاطفي الأخرى، ليتبعها قوله:
-لقد نجوت مني هذه المرة.
نهره “ريمون” بحزمٍ وهو يحررني من تحت قبضتيه:
-كف عن ذلك.
بصعوبةٍ نجح في إبعاده عني، وبدأ في حل قيود أطرافي، كنت على وشك الاستقامة واقفة، وتغطية مفاتني البارزة بقطع القماش الممزقة؛ لكن خاطفي عاد إلي ليقول في عنادٍ وهو يمسك بي من الطوق، مزيحًا عني ما كنت أمسك به لأحجب نظراته عما يخصني:
-لنبقيها مقيدة في أحد الأقفاص.
تلقائيًا اتجهت أنظاري نحو ما يتدلى من السقف من أقفاص حديدية معلقة، فارتجفت بشدة، أحقًا يريد هذا القــميء وضعي في واحدٍ منهم؟ أي بشر هؤلاء؟ أنا بالفعل وقعت في قعر الجحيم. وكأنه قرأ ما أفكر به، فألصق جسده بظهري ساحبًا الطوق للخلف ليميل رأسب، وتكلم في أذني بهسيسه الكريه:
-إنه يليق بك.
صرخت في هلعٍ:
-لا.
للحظات سريعة تصلبت في مكاني وتيبست من شدة الخوف، سرعان ما استجمعت بعضًا من مقاومتي المستهلكة، وحاولت دفعه، والابتعاد عن موضع الأقفاص وأنا أهتف في خوفٍ يفوق أي مرة:
-اتركني، دعني!
لكنه كان لي بالمرصــاد، طرحني أرضًا، وجثا فوق ظهري مثبتًا إياي بركبته، وهدر في “ريمون” يأمره:
-احضر لي القيود.
صرخت مرة ثانية بكل ما في من فزعٍ:
-لا، ابتعد عني…
كنت أتوسله وأنا انخرط في نوبة بكاءٍ هيسترية:
-أرجوك، دعني أذهب، أنا لم أفعل شيئًا
رأيت وجه “ريمون” متقلصًا، ومع ذلك لم يبدُ معارضًا لطلبه، فتحرك ناحية إحدى الزوايا يفتش بينها عن طلبه متجاهلاً صراخي المستغيث، ثم جاء وفي يده أصفادًا معدنية، ناوله إياها ليقوم خاطفي بلف ذراعي خلف ظهري وتقييدي مرة أخرى، لم يكتفِ بذلك، وقام بتقييد قدمي كذلك لأبدو كليًا فاقدة للحركة.
نهض عني، وتركني مُلقاة على الأرضية أبكي بحرقةٍ كشاهٍ تستعد للذبح على يد جزارها. رفعت وجهي لأنظر إلى خاطفي فكان في أوج استمتاعه، اقترب مني، وركلني في بطني بقدمه لينتشر ألمًا عظيمًا في هذا الجانب، قبل أن يستطرد قائلاً:
-أرجو أن تعجبك الإقامة لدينا.
لم أملك سوى الصراخ والبكاء، وهذان الأمران يمتعانه كثيرًا. رأيته ينحني ليحملني بذراعيه، قبل أن يُلقيني على كتفه وأنا مقيدة، ثم ســار بي نحو الأقفاص هادرًا بصيغة آمرة في “ريمون”:
-اخفض ذلك.
استجاب له الوضيــع الآخر، ونفذ أمره دون تعليق، لأجد خاطفي قد انتقى أصغرهم حجمًا ليضعني به، قاصدًا بذلك إيلامي بكل صورة تأتي على مخيلته، فلا أستطيع تمديد جسدي إن زاد إحساس أطرافي بالخدر والتنميل، ولا حتى أتنعم برفاهية الشعور بالراحة وأنا على ذلك الوضع المهين. وليكتمل مشهد تعذيبي، بعد أن أوصد القفص بقفله المعدني أحضر دلوًا به ماءً مثلجًا، قذفني بمحتوياته دفعة واحدة بكل قوة، فصرخت، وارتجفت، وسعلت، وبكيت. أوقفه “ريمون” قبل أن يكرر الفعلة مُبديًا انزعاجه:
-يكفي هذا.
رد عليه مستنكرًا في ضيقٍ وهو يهز القفص المتدلي بيده:
-ألست أنت من علمنا كيفية ترويض القطط البرية؟ لماذا لا تتركني أخوض التجربة؟
جاوبه “ريمون” بغموضٍ:
-أنت تعلم السبب، هيا الآن!
سدد لي خاطفي نظرة مميتة، متوعدة، مليئة بالكثير من الشر المهلك، قبل أن يدير القفص ليجعل وجهي قريبًا منه، ثم أخبرني بصوتٍ خفيض، كانت فيه أنفاسه الكريهة ذات تأثيرٍ قوي على معدتي:
-سأعود إليكِ، حين يرحل هذا الثقيل لأكمل ما بدأناه.
كلماته الواثقة جعلت البقايا المتبقية من صمودي تنهار كليًا، فبكيت في قهر العاجز الفاقد لكل شيء، قبل أن ينصرف عني دفع بكل قوة القفص ليرتجَّ بي، ويصيبني بالدوار، ازداد شعور الغثيان في معدتي المتعكرة، فلم أستطع مقاومة ذلك أيضًا، فرحتُ أفرغ ما فيها من سوائل حامضة ليتلطخ جسدي، وتصبح حالتي أسوأ عن ذي قبل.
……………………………………………………………..
المهانة، شعورٌ لا يمكن التعايش معه بسهولة، أو حتى نسيان تأثيره على النفس، وهذا ما كنت أمر به الآن! كل أنواع الإذلال، والقهر البشري قد تم إدخــاره لأجلي، حتمًا هذه الذكريات البشعة لن تمحى بسهولة من ذاكرتي، ستظل تبعاتها تطاردني -وإن انتهت- حتى آخر يومٍ في عمري. بعد مرور وقت لا بأس به من الوحدة، والعزلة، والشعور بالرهبة، عايشت فيها أسوأ الذكريات، وتألمت خلالها عشرات المرات، غريزيًا، وفطريًا لحت عليّ الرغبة بالتبول، بالطبع لم أكن لأنــال رفاهية استخدام الحمام كالبشر العاديين.
تماسكت قدر استطاعتي، وجاهدت لأصمد، لأمنع نفسي من شيء لا أحبه مُطلقًا، قاومت هذه الرغبة الطبيعية رغم الارتجافات المتزايدة على جسدي منزوع الثياب إلا من سترٍ ضئيل لا يكفي لتوليد شرارة حرارة واحدة، ظللت هكذا حتى خبت المقاومة، وأصبحت فاقدة للسيطرة على الصراخ المرتفع في نصفي السفلي. بكيت في خزيٍ مؤلم، أشد وطـأة على نفسي، وأنا أشعر بتدفق هذا السائل الدافئ من بين فخذي، ما كنت لأصمد أكثر من ذلك مهما حاولت!
تسرب السائل من جوانب القفص، ليسقط أرضًا، ويتجمع في بركة تُثبت إدانتي بالأمر، ما ضاعف من شعوري بالاستحقار والعــار قدوم خاطفي، كأنما كان يتحين الفرصة وينتظرها بترقبٍ شديد ليشهد على لحظة انهيار آدميتي. تأملني بنظرة متشفية وهو يقول:
-لا فارق بينك وبين الحيوان الآن.
أطبقت على جفني في حسرةٍ، ودموعي ما زالت تنساب على وجهي، تابع هذا الخسيس كلامه إلي، فأضــاف في نبرة جعلتني أفتح عيناي، وانتفض بقوةٍ:
-أنتِ ملطخة بقــذاراتك، وحان موعد تنظيفك.
كان قد جاء ومعه هذا الدلو، أفرغ الماء على جسدي لأرتجف في عنفٍ، وأنا أصرخ من بين بكائي المرير:
-كفى.
هز القفص بكلتا يديه بعد أن ترك الدلو، وهتف باسمًا بابتسامة شيطانية:
-“ريمون” ليس موجودًا لمنعي، رغم أن الحقير أخذ مفتاح القفل معه.
حاول تمرير يده من بين القضبان الحديدية ليلمس بها جسدي، كان يكرر ضاحكًا في هوسٍ يزيد من بكائي وهو ينتقل من موضع لآخر، ليثبت لي أنه قادرٌ على تعذيبي ليس فقط بدنيًا وإنما روحيًا. تحرك بعدئذ بعيدًا عني، لكن نظراته ظلت مرتكزة على وجهي وهو يخاطبني بغموضٍ كان ولا زال يدب الرعب في كل جوارحي:
-لنتسلى قليلاً.
ما نوع التسلية التي يتحدث عنها حقــير مثله؟ بالطبع ليست من النوع البريء المسالم، إنه يتفنن في تطبيق ما يعرفه من وســـائل تعــذيب عليّ، وربما قد يبتكر الجديد أيضًا. أجهشت ببكاء وعلا صوت نهنهاتي وأنا أراه يعبث في الأدوات الموجودة عند طاولة ما لم أكن قد رأيتها إلا عندما وقف بجوارها، لوح بكفه هاتفًا بتنهيدة بطيئة:
-ستكون ليلة طويلة لنمرح فيها معًا.
ليس لي مهرب أو منفذ، لذا صرخت وأنا يائسة للغاية:
-النجدة.
ضحك لمحاولتي الفاشلة، وعلق:
-الجميع مشغولٌ بالخارج، لن يسمعك أحد.
ارتفع صوت بكائي، فقــال وهو يرفع صاعقًا كهربيًا أمام نظراتي المرتاعة:
-أترين هذا؟ أظنه سيجعل جسدك يقفز ويرقص.
برزت عيناي في محجريهما مما رأيت، إنه يريد صعقي! لن أتحمل لسعات التيار الكهربي وأنا غارقة في الماء، وفي قمة ضعفي، سأموت بكل تأكيد! هدرت في صوتٍ مبحوحٍ فزعٍ:
-اغيثوني.
رأيته وهو يتقدم بتثاقلٍ ناحيتي مدندنًا بلحنٍ غريب جعل بدني يقشعر، وأطرافي تتجمد. وقف قبالتي يحدجني بهذه النظرة الجوفاء الخالية من الرحمة، ابتسم ابتسامة شريرة للغاية، ومرر الصاعق بين القضبان ليلامس به جانبي وهو يضغط على زر تشغيله، انتفض وارتجف كل موضع في جسدي بقوةٍ، وشعرت بعقلي ينمحق ويوشك على الانفجار من تأثيره الرهيب، وراحت أسناني تصطك وتضرب بعضها بعضًا في نفس القدر من الارتجــاف كأنها على وشك التحطم، بقيت على هذه الحالة لعدة ثوانٍ حتى توقف وأبعد الصاعق عني، حينئذ هلل في مرحٍ ونشوة قبل أن يهتف في حماسٍ:
-رائع، لنجرب مجددًا ……………………………………………… !!!
يتبع
- لقراءة الفصل التالي: اضغط هنا
- لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على (رواية غير قابل للحب)