رواية حصب جهنم الفصل السابع 7 بقلم نرمينا راضي
رواية حصب جهنم الفصل السابع 7 بقلم نرمينا راضي
رواية حصب جهنم البارت السابع
رواية حصب جهنم الجزء السابع

رواية حصب جهنم الحلقة السابعة
لن تسلم من الذكريات خاصةً لو كانت سوداوية.. تظل تحوم حولك كما يحوم النحل حول خليته، لا أنت تستطيع الانسلاخ منها، و لا هي ستتركك أبدًا.« نرمينا.»
~~~~~~~~~~~~~
لم يعد « باشا» في مقدوره السيطرة على نفسه في هذا الأمر بالتحديد، لقد سلب عقله كما تسلب المخدرات عقول أصحابها، و جعله أشبه بالروبوت يحركه كما يشاء، فعندما تشتعل شهوته و يدق ناقوس اللهفة و الاشتياق الجنوني لهذا الأمر؛ يُصبح كالمجنون لا يستطيع التحكم في نفسه، إلا بعدما يفرغ ما في جسده من شحنات كهربائية متراقصة على أوتار اللذة و الشهوة المفرطة.
و على أهلها جَنَت بَراقش، إن إدمان « باشا» إدمانًا مختلفًا فلم يكن إدمانًا للمخدرات، ولم يكن أيضًا إدمانًا لعادة من العادات السيئة، ولا هو إدمانٌ للسرقة، ولا هو إدمان كإدمان البحث عن النساء، بل إن الأمر وصل معه إلى إدمانٍ من نوعٍ مختلف يجعل الإنسان الطبيعي يشمئز من نفسه.. إن إدمان « باشا» تعدى الحدود بل وصل الأمر به إلى عدم اتعاظه من إدمانه لهذا الفعل المشين، رغم أنه ركب كل صعبٍ وذلولٍ للتخلص من تلك اللعنة الشهوانية، و لكن باءت المحاولات بالفشل الذريع في النهاية، و أصبح الأمر ما هو عليه الآن، حتى أنه لم يحقق أية مكاسب من ولعهُ بِسره المكنون، و أصبح على حافة الانهيار و التسبب في هلاك نفسه، و بما أن « قابيل» الوحيد الذي يعلم بهذا الوله الجنوني، فمن وجهة نظره أنه « باشا» لن يستطيع التخلي عن شغفه بالتأسُّد على الغنائم و الإعطاء في سبيل اللذة دون مقابل، حتى يشيب الغراب.
وصل « قابيل» و اتجه « باشا» يفتح له بِوَجهٍ
مُمْتعِضٌ دون أن يلفظ حتى حرفًا واحدًا، ليدخل « قابيل» و يبدأ في تهدئة غضبه المكبوت، و الذي يتضح من قراءته السريعة للغة جسده، أنه على وشك الانفجار في أية لحظة في دقائق يفقد فيها عقله بالكامل..
” ممكن تهدى الأول و افهمك الدنيا ؟ ”
رفع « باشا» كفه في وجهه يُسكته عن مواصلة التبرير، ليقول بنبرته الجادة العميقة:
” وعدتني و مطلعتش قد وعدك، يبقى تسكت و تسيبني اتصرف. ”
يعلم « قابيل» أن « باشا» عندما يفيض به الكيل، فلابد من شيئين.. الأول محاولة امتصاص غضبه حتى لا يفتك بمن أمامه كما يفتك النمر بطريدته، أو الصمت التام تاركًا إياه يكيل له التهم و التوبيخ كما يشاء حتى يهدأ تمامًا، و الحل الثاني هو الأمثل في التعامل مع تلك الكوبرا السامة الغاضبة، لأن الأول عادةً لا يجدِ نفعًا.
تابع « باشا» بنبرته الحادة:
” هات رقم الـ * ده ”
لم يستطع قابيل مواصلة السكوت؛ خوفًا على باشا من اقحام نفسه في جدالٍ مع الرجل قد يؤدي به لكشف المستور، فاعترض بهدوءٍ:
” مش دايمًا تقولي خيرها في غيرها ؟ خلاص ياعم اعتبرها مش من نصيبك.. أقولك على حاجة عشان ترتاح ؟ البضاعة مكنتش هتعجبك، الراجل اما بعتلي الصورة و دققت فيها حسيت بقرف، و أنت تحبها طازة ”
ما باح به « قابيل» أثر بالسلب على الآخر، فظل يرمقه بنظراتٍ جعلت «قابيل» بذات نفسه الشاب المعهود عنه اللا مبالاة و الصرامة في قمة توتره، يدرك أن أخيه ينغلق عقله و يأبى التفكير عندما يخص الأمر فريسة جديدة يَلتزُّ في لذةٍ فيها، هذا الأمر في غاية الأهمية لديه..
تاز «باشا» على أخيه بغلظة القول تَيْزًا، و نفث سُم كلماته:
” من امتى و أنت بتقرر نيابة عني ! ”
” عشان أنا عارف أنت بتحب إيه بالضبط، و صدقني مكنش هيعجبك الموضوع ”
” أنا اللي أقرر إذا كان يعجبني ولا لأ ”
رد بها وهو يصوب نظراته الساخطة عليه، فأخفض قابيل عينيه لموضع يده الصناعية، ليجده يطبق على كفه بقوةٍ، ففهم على الفور محاولة « باشا» الصعبة في كبح جام غضبه.. قال « قابيل» مُحاولاً تغيير مجرى الحديث:
” عايز اتكلم معاك في موضوع فاطمة ”
تجاهل « باشا» قوله، و اقترب منه حتى صار مواجهًا له الرأس بالرأس، ثم أطال النظر في عينيه الرمادية بحدةٍ متبوعة بهمسٍ كالعادة أشبه بالفحيح:
” آخر مرة تتصرف من دماغك في حاجة تخصني ”
لم يقل قابيل شيئًا و فضّل عدم المجاراة، مما تابع باشا تهديده:
” لو اتكرر اللي عملته هتخسرني يا قابيل.. اسامحك في أي حاجة إلا الحاجة اللي تخصني”
” أنا خايف عليك ”
” خاف على نفسك من غضبي ”
” أنا الوحيد اللي أدرى بخطر الموضوع ده عليك يا باشا، لازم تحط له حد ”
” الحد ده اعتبر اتحط، بس ليك أنت يا قابيل، لو اتعديت حدك معايا، عليا الحرام من * لتكون القاضية من نصيبك ”
لا مفر من الاستسلام أمام تلك الهيروشيما المخيفة، لذا أخذ قابيل أطراف الحديث لمنعطف اللين و الاستعطاف، فقال:
” صدقني كنت حاسس إنك مش هتبقى مبسوط عشان كدا متكلمتش مع الراجل كتير و قولت له يشوف حاجة أحسن في أقرب وقت ”
ابتسامة استخفاف بكلامه نمت جانب شفتيّ
« باشا»، و استدار يولي له ظهره ليعود و يجلس بأريحية على الشازلونج المريح خاصته، و قبل أن يستكمل شاي الكرك الذي بالكاد أصبح باردًا تأثرًا بالبرد القارس و لكنه لا يبالي، قال ساخرًا:
” كنت حاسس ! طب لما تحِس ابقى اديني حِس ”
اتجه قابيل يجلس على المقعد جانبه يحاول نيل رضاه، فقال:
” حقك عليا، بس و غلاوتك عندي أنا خايف عليك من كُتره.. باشا أنت اللي لاممنا كعيلة، زينات آه ربيتنا بس لمصلحتها كلنا عارفين كدا و مع ذلك منقدرش نتمرد عليها عشان اتربينا على ايديها فبقينا جزء منها، إنما أنت اللي واخد بالك مننا مش عشان مصلحتك عشان أنت بتحبنا فعلاً، و حسستنا إننا اخوات، فعشان الأخوة اللي بينا أنا مينفعش اشوفك بتغرق و اسيبك.. زي ما أنت بتخاف علينا من حقنا نخاف عليك، نفسك ليها عليك حق، و أنت مستهون بحقها عليك.. تفكيرك كله بقى تحت سيطرة الموضوع ده، لازم أنت اللي تسيطر على شهوتك قبل ما تخلص عليك ”
” مبتقولش الكلام ده لنفسك ليه ؟ أنا سايبك تعك مع زينات براحتك عشان دي إرادتك، رغم إنك اكتر واحد عُرضة للايدز و خد معاك سُلطان ”
قالها « باشا » بنبرة الاستياء كي يكف
« قابيل» عن فقرة الوعظ التي لا تروق له هو، فأردف الأخير مُتفهمًا لكلام أخيه:
” لا متقلقش بنعمل حسابنا، بس إحنا وضعنا مختلف.. أنت اللي يتخاف عليك مش إحنا يا باشا، و أنت عارف الكلام ده كويس، بس مُصرّ تنكره عشان تكمل فيه، أنت ما بتشوفش نفسك لما تتعصب بسبب الموضوع ده شكلك بيبقى عامل ازاي.. أنا مليش إني اعترض على حاجة مميزة عندك و بتحبها، بس حقي اعترض و أخاف على أخويا لو الموضوع زاد عن حده، و أنت زودتها يا باشا، أنا مش ضد اشباع رغبات الذات، أنا ضد الطريقة نفسها ”
زفر « باشا» بضيق، فبرغم خوف قابيل عليه الذي يدركه باشا بصدق، لكنه لا يحب أن يتدخل أحد في شؤونه ولا حتى يحب النصائح ولن يعمل بها، ولا يقبلها أيضًا، و لأنه يفضل الصمت و قلة الكلام دائمًا.. قال بنبرة تحذير:
” ارغي في اللي أنت جاي فيه يا تقوم تمشي ”
انصاع لطلبه أخيرًا، و تنهد بثقلٍ قبل أن يقول:
” قابلت فاطمة.. آدم جايب لهم مصيبة جديدة و عاوزين يطلعوه منها، فَجيالي أساعدها، مطولتش في القعدة معاها.. قمت مشيت بسرعة لما حسيت إني هضعف قدامها ”
سكت يتنهد ثانيةً وهو يستعيد ذكرياته معها قبل أن يفارقها بأمر من زينات:
” عيونها قالت إنها مشتاقة لي، و أنا قلبي فرح لما شافها.. برغم خوفي عليها من سم زينات يطولها، بس وحشتني و عايز أرجع لها ”
” يبقى حكمت عليها بالقتل ”
رد بها « باشا» يصارحه بما لا يستطيع هو الحديث فيه بصوتٍ عالٍ، فأجاب يومئ برأسه:
” عشان كدا كان لازم أبعد.. أنا مع زينات بجسمي، لكن روحي مع فاطمة ”
” لو فضلت معلق روحك بحاجة عمرك ما هتوصلها، هتضيع نفسك و محدش هيتعب غيرك ”
نظر له « قابيل» خلسةً يقرأ لغة جسده بينما « باشا» يقول ذلك، فعلم بل أدرك لحد اليقين أن أخيه لم ينسَ الماضي أبدًا، و ما زالت الذكرى السوداء تتخذ من عقله عُشًّا لها تقبع بداخله ولم تتزحزح عنه ولا مرة؛ لذلك لم يستطع ترك عادته الملعونة.. رغم تحفظّ قابيل على الحديث في ذلك الموضوع بالتحديد، لكن لسانه انزلق تلقائيًا و تساءل:
” لسه بتفكر في « سارة» ؟ ”
مجرد ما نطق « قابيل» اسمها، تحولت ملامح وجه « باشا» القاسية لأقسى بكثير مما كانت عليه.. تقوس حاجباه ليصبح أكثر عبوسًا، و ضغط على شفتيه يحاول كبح مشاعر الغضب و السلبية التي ظهرت عليه بشكلٍ أكبر عن ذي قبلٍ؛ كيلا يفقد أعصابه و يؤذي أخاه بضربةٍ قاضيةٍ صعبةٍ من يده الصناعية، بينما الأخير ندم أيمّا ندم على نطق اسم حبيبة « باشا» المقتولة، و تزحزح من مكانه قليلًا يحاول الابتعاد عن غضبه، فبرغم جسد « قابيل» القوي و مهاراته القتالية، لكن ذلك كله يتبعثر أمام غضب « باشا» المخيف.
” ليه ؟ ”
استطاع بجدارة التحكم في غضبه، و بهدوءٍ تام أثار القلق في قلب « قابيل» سأله قاصدًا لماذا ذكرت أكثر شيء يؤذي قلبي.. رد قابيل يلوم غبائه في نفسه:
” مقصدتش أفكرك باللي بيضايقك، كل قصدي إني أوصلك فكرة إن مش بالسهولة تنسى حد أنت حبيته، أنت بتطلب مني مفكرش في فاطمة، أنا فعلاً باين قدامكم إنها مش في دماغي ولا فارقة معايا أصلاً، بس اللي في القلب بيفضل في القلب يا باشا.. أنا عارف إنك موصلتش مع المرحومة لدرجة الحُب بس على الأقل منسيتهاش، و الدليل على كدا إنك مبتحبش تفتكر سيرتها، مع إنها لسه جواك متنستش، لو كانت اتنست مكنش مجرد ذِكر اسمها هيأثر فيك كدا.. أنت بتطلب مني معلقش روحي بفاطمة، و أنت أصلاً روحك متعلقة بذكريات عدا عليها تَمن سنين ! ”
لقد مرّ على مقتل « سارة» ثمانِ سنواتٍ بالفعل، حين وقع « باشا» في غرامها كان بعمر التاسعة عشر و هي تصغره بشهرين، كانت تعمل لدى
« زينات» أيضًا و لكنها ليست لقيطة مثلهم، بل هي ابنة أحد رجال زينات المقربون و الذي تم التخلص منه بعد مقتل ابنته، لم يكن عملها سوى طاهية طعام للأكل الصحي الخاص بزينات و أولادها الخمسة، عندما علمت زينات بأمرهما كان التحذير هو أول شيءٍ اتخذته في سبيل أن يبتعدا عن بعضهما، و لكن طيش الشباب في تلك المرحلة خاصةً عند « باشا» جعله يتمرد على قوانين « زينات» و أبى الابتعاد عن « سارة» الفتاة الحسناء طيبة القلب التي لم تؤذي أحدًا في حياتها، كل ذنبها أنها أحبت الشخص الخطأ، ظلا عامين كاملين تربطهما علاقة الحُب المحرمة دون الوصول للعلاقة الجسدية، كان حُبًا بالنظرات و الكلمات، و عدم سماع « باشا» لتحذيرات « زينات» جعلها في كامل غيظها و غضبها منه، خافت ألا تستطيع السيطرة عليه في الصغر، فيكبر و يعلن تمردًا عواقبه وخيمة عليها و على كيانها الاجرامي؛ لذلك قتلتها أمام عينيه بالرصاص الحي، قيدت ذراعيه بواسطة رجالها، ثُم جاءت بالفتاة الشابة و قتلتها أمامه في مشهدٍ لم ينساه « باشا» أبدًا، تفرقت دماء « سارة» أمامه وهو يصرخ بجنون محاولاً لحاقها، و بالفعل تركوه الرجال و لكن الوقت كان قد انقضى على انقاذ « سارة»، قصدت زينات قتلها أمامه لتعلمه درسًا قاسيًا سيظل محفورًا في ذاكرته للممات، وهو ألا يميل قلبه لأي فتاةٍ كانت، فقط مسموح له بممارسة الرذيلة كما يشاء، و لكن الحُب و التعلق لا.. استعجلت زينات بالتخلص من الفتاة حينما هددها
« باشا» بأنه سيتزوج من سارة و يترك العمل معها، جن جنونها عندما هددها بتركها، فكانت النتائج جسيمة.. نعم، كان حُبًا طائشًا و لم يكن قويًا، و لكن الإنسان بطبيعته لو سُلب منه شيء رغمًا عنه و بالقوة، سيظل يتذكره دائمًا، و
« باشا» لم ينساها لأنه يحبها، بل لأنها قُتلت بسببه و سُلبت منه رغمًا عنه، و هذا ما يؤرق صدره كثيرًا، و ما زال يحمل ذنب مقتلها لوقته هذا، بخلاف « قابيل» الذي لم يجرؤ على تحدي
« زينات» من أجل فاطمة.
تنهد « باشا» بضيقٍ لم يترك صدره منذ إخباره بأن الليلة ليست ليلته، و قال بصوتٍ أشبه بالهمس:
” الكلام زي الايد يا يطبطب يا يضرب، خد بالك من كلامك معايا بعد كده ”
أومأ « قابيل» و رد بنبرةٍ يشوبها الاعتذار:
” صدقني، ليلة بكرة ليلتك، و اللي أنت عايزه هيكون، بس و العشرة اللي بينا لو كنت شفت وجبة النهاردة كنت هتقرف منها، اتقل تاخد حاجة نضيفة ”
رمقه « باشا» بنظرةٍ قاطبةٍ يقول:
” أنت عارف قصدي على إيه، بلاش شغل اللف و الدوران بتاع النسوان ده، الموضوع اللي عدا عليه سنين، عدا و اندفن، لو اتفتح تاني يا قابيل، عليا الحرام من * لأكسحك ”
” ولما اتكسح مين يظبط لك ليلتك يا كوبرا ؟ ده أنا الذي و اللذين برضو ”
قالها « قابيل» بنبرةٍ مداعبةٍ قاصدًا المجاكرة مع أخيه العابس مُقطّب الوجه.
استجاب « باشا» لمجاكرة « قابيل» المرحة، و رد وهو ينهض بابتسامة خافتة، لاحظها الأخير على الفور، فنهض هو الآخر يحاول الهروب منه في مشهدٍ بدا مُضحكًا مصحوب بالمزاح الرجولي المشاغب بينهما:
” الكوبرا تعرف تعمل حاجات كتير أوي.. تحب تشوف ؟ ”
” لا يا عم وعلى إيه.. الطيب أحسن ”
قالها و أسرع بالهروب من قبضته، فقفز
« قابيل» بخطوة يسبقها ضحكة مرحة تجاه مجموعة من الورود المزروعة في حديقة المنزل، و التي تعد من أغلى الأشياء على قلب
« باشا» مثل شغفه بتربية الأفاعي تمامًا، مما انتبه الأخير لقدم أخيه قبل أن تهبط على الورود، و جذبه من ياقة قميصه الخلفية، ليصطدم ظهر قابيل بصدر باشا فيقع أرضًا وهو ما زال يضحك، و « باشا» يشاركه الضحك على مظهره بعفوية نابعة من قلبيهما و كأنهما يعيشان طفولتهما المتأخرة بالشغب و المزاح الخشن، فأحاط « باشا» رقبة قابيل وهو خلفه بذراعه، هامسًا له بتهديد مازح:
” قول حاجة واحدة تخليني اعفو عنك دلوقت”
من يشاهدهما يظن أن « باشا» يقوم بخنق
« قابيل»، و لكن في الحقيقة باشا منتبه جيدًا لما يفعله، فكانت إحاطة الذراع بالرقبة فيها مسافة بينهما منعًا للاختناق.
رد « قابيل» ضاحكًا:
” مش هاخد أي قرار يخصك غير إما أرجع لك، بس لو لقيته خطر عليك، هخلص من برا برا ”
و كأن كلامه استفز « باشا» أكثر، فَرد وهو يصطنع أنه يشدد من احتواء رقبته:
” اسحب كلامك ”
قصد أن يعتذر عما قاله ولا يكرره، فأصرّ قابيل على العناد بكلامٍ نابعٍ بصدق من قلبه:
” أنا عندي روحي تنسحب ولا أفرط فيك.. بكلمك بجد، أي حاجة لو لقيتها خطر عليك و أنت مصمم عليها، هبعدها عنك بأي طريقة.. كفاية اتولدنا منعرفش أهلنا.. معنديش استعداد أخسرك، أنت كل أهلي ”
برغم أن « باشا» أصيب بتبلد في المشاعر منذ مقتل « سارة»، و لم يعد يبدي مشاعره لأي أحد حتى إخوانه، لكنهم يجدون حبه لهم و خوفه عليهم في أفعاله، و بمهارة « قابيل» في قراءة لغة الجسد، فأدرك أن « باشا» سَعِدَ بكلامه دون إبداء أي ردة فعل تظهر على وجهه، و عرف قابيل ذلك من تخفيف « باشا» من لفّ ذراعه على رقبته.
أظهر « باشا» تجاهله لما قاله قابيل، فقال:
” برضو مش ده اللي يخليني اعفو عنك ”
اتسعت ابتسامة « قابيل» المصحوبة بضحكة سخيفة تلاها بقوله:
” ده الباشا يؤمر.. خلاص يا عم ولا تزعل نفسك، بكرة أنا بنفسي هتكفل بكل حاجة و هتبقى ليلة تسطر أمجادها في تاريخ لياليك الملعلعة ”
” ملعلعة ! ”
” وعد مني لأخليك تتلعلع بكرة ”
” طب قوم بدل ما ألعلعك أنا ”
تركه ينهض، و في تلك اللحظة بدأت السحب الرمادية تتكاثف، لتعلن عن انفجار ما بها على هيئة رذاذٍ خفيفٍ، فرفع « باشا» بصره للسماء لتداعب قطرات المطر أنفه المستقيم، فأغلق عينيه لثوانٍ و زفر الهواء بهدوءٍ، و كأن المشهد بدا طرديًا بينه و بين السماء، هي تخرج ما فيها من ماءٍ ابتلعته سُحبِها من البخار المتصاعد، وهو يخرج المكتوم بداخله من آلامٍ تعايش معها وحده، ولم يُبدِ قساوتها لأحد، كلاهما يخرجان ما بهما من تعبئة صدرية ثقيلة، فتزداد هي في المطر المنهمر، مما يزداد هو طرديًا معها في زفيره الثقيل على قلبه.
رفع « قابيل» قلنسوة سُترته يحمي رأسه من المطر، بينما « باشا» كعادته يحب ارتداء قبعات الفيدورا الكلاسيكية، تجد الأمر غريبًا هذا لأنه رجلٌ يبدو عليه غرابة الأطوار، لكنه يجد كل شيء يفعله – بالنسبة له – رائع، شعره الأسود المختلط بخصلات بنية رائعة لم يشفع له ليكف عن ارتداء القبعات بدون سبب، هو يرتديها فقط لأنه يُحب فعل ذلك، و كل ما يُحبه يفعله، و كل ما يفعله يُحبه.
” مش عارف أنت بتحب الشتا على إيه ! هو ده فصل يتحب ؟ ”
” بالنسبة لك ”
” هو في أحلى من حلاوة الصيف و الرحرحة ؟ ”
” بالنسبة لك ”
” طب الحق غطي البانسيه بتاعك قبل ما يغرق و تقعد تندب ”
التفت له بابتسامة ساخرة يقول:
” الندب للنسوان يا * ”
” هعديهالك بمزاجي عشان بس أنت الكبير، رغم إني مبكبرش لحد، بس أنت غيرهم يا كبير ”
” مش بمزاجك يا *، بمزاجي أنا.. و بعدين يا جاهل ورد البانسيه ورد شتوي، يعني الحاجة الوحيدة اللي عايزة تتغطى دلوقت..* ”
” هو أنا جاي اتهزق ولا إيه ؟! ”
قالها وهو يتوارى تحت المجلس المغطي بمظلة في الحديقة، بينما « باشا» استدار له قائلًا:
” * ! أنت ها ترقد لي هنا ؟! ”
لم يسبق لأحد من إخوانه المكوث في منزله حتى المبيت، هو يفضل البيات وحده ولا يحب أن يتواجد أحدًا في منطقته الخاصة طويلاً، لذا اتجه ناحيته و جذبه من غطاء الرأس يوقفه و يدفع به تجاه البوابة بالتزامن مع لهجته الآمرة:
” رَوَّح ”
استدار له « قابيل» يستعطفه ليطيل الجلوس معه:
” مكملتش كلام عن فاطمة.. يمكن بعرف اتحكم في مشاعري زيك، بس « زينات» مبيستخباش عنها حاجة، لو عرفت بمقابلتي معاها تفتكر يكون رد فعلها إيه ؟ ”
” هتعقبلك ”
قالها بضحكة استخفافٍ خفيفة، لِيَرد « قابيل» يشاركه الرأي:
” و بعد ما تخلص تعقيب تخش على التشكيل.. إحنا اللي بيتهز لنا شنبات و يتعملنا ألف حساب، مش عارفين حتى نحب زي الخلق بينا و بين نفسنا ”
قال جملته الأخيرة بحسرةٍ يخفيها بداخله ولا يظهرها إلا لباشا.. الوحيد الذي يعرف خباياه، فَهتف « باشا» وهو يفرقع بأصابعه و يشير له تجاه سيارته:
” روَّح و ما تقعش بلسانك قدام اخواتك بالكلمتين دول عشان هيبقى شكلك هُزق ”
” أروح إيه، أنا هروح لهم الشركة أشوفهم هببوا إيه، رغم إن زينات عايزاهم يتصدروا للموضوع بنفسهم، بس أنت عارف التلاتة من غيرنا يحتاسوا ”
” خلي بالك منهم ”
” طب ما تيجي معايا ”
” مليش مزاج ”
هكذا انتهى الحوار بينهما، باستدارة « باشا» مُتجهًا للداخل، في حين أن « قابيل» مسح قطرات المطر عن وجهه زافرًا بمللٍ، ثُم اتجه هو الآخر ناحية سيارته يقتادها تجاه الشركة الوهمية للممارسة أعمالهم برسم الضلال و التكذيب على الفتيات أو أي أحد خارج نطاق التغطية في العموم.. خارج نطاق مملكة زينات و مهددين الطُرق الخمسة.
دلف « باشا» لداخل منزله الأشبه بمنازل الباشوات القديمة.. صوت « عبد الحليم حافظ»
ما زال يصدح من الجرامافون، و « باشا» يواصل الدندنة معه وهو يدلف لغرفة من غرف المنزل تحتوي على أعماله في تصنيع الحُليّ و الخواتم، و القلائد من الأحجار الكريمة، حتى أن صناعته الرائعة و الأنيقة امتدت لصناعة خناجر لها جراب مُرصّع أعلاه بحجر الفيروز المستخرج من مناجم « سيناء»، لا يصنع المجوهرات لشيء، بل إنه شغوفٌ بها؛ لذلك يصنعها بحُبٍ و استمتاعٍ، ثُم يحتفظ بها في خزانة بالغرفة زجاجية شفافة يستعرض من خلالها أعماله بفخرٍ لنفسه و افتخارٍ بنفسه.
جلس أمام مكتبه استعدادًا للعمل الذي يحبه، فأخرج سيجارة عادية في بادئ الأمر يشعلها، و لكنه تذكر أنها السيجارة الثالثة له على مدار اليوم، فوضعها في المطفأة الزجاجية أمامه..
هكذا علمتهم « زينات».. يفعلوا ما يشاؤون، و لكن بحذرٍ و بحدود، تريدهم أصحاء دائمًا لمصلحتها، بينما هُم اعتادوا الاعتناء بصحتهم، فأصبحت السجائر و المخدرات و الخمر المتناول بكميات محدودة لا تؤثر على الحمية الغذائية و التمارين الرياضية التي يتبعونها، عكس أخيهم « سلطان» الذي أفرط رغمًا عنهم في تناولها و تعاطيها؛ لذلك يظهر عليه ضعف بُنيته مقارنةً بهم، أما « وسيم و كرم» يعتبران الأفضل صحة بينهم، و مع ذلك تناول تلك الممنوعات و المحرمات حتى لو كانت بكميات بسيطة، فستؤثر على الجسد سلبيًا فيما بعد، هذا غير أنها مُحرمة شرعًا، فالله سبحانه و تعالى حرم على الإنسان كل ما يضره، و يظل الإنسان يفعلها برحابة صدرٍ، و في النهاية لا يخسر إلا ذاته.
خلع عنه قبعته، و مسح على شعره حتى تخللت أصابعه الخصلات الكثيرة و غاصت فيه، فأخذ يدلك فروة رأسه لدقائق تساعده على الشعور بالارتياح و الاسترخاء، استعدادًا للعمل بذهنٍ صافٍ و بأريحية تامة، ثُم بدأ في استكمال صناعة قلادة من اللؤلؤ، كان قد استخرجه من قاع البحر في آخر مرةٍ خرج فيها للغوص و البحث عن غنيمة من غنائمه المتنوعة التي يُحبها.
.. على ناحية أخرى، في الشركة التابعة للمعلمة
« زينات»..
الأخوة الثلاثة الآخرون في قمة التألق و الأناقة، وهذا المعهود عنهم عند ذهابهم للشركة، الواجهة و الوجهة الحسنة هما اللذان يستتر خلفهما النوايا الخبيثة، لذلك لابد من تحسين الشكل العام و المظهر الخارجي لهم.
الموظفون بالشركة الوهمية أي اللذين يعملون بالسر لدى « زينات» يمثلون الآن أنهم موظفون عاديون مثلهم مثل أي شركة، و لكن اليوم بالتحديد ستتقمص الشركة دور مكتب السفريات لالحاق العمالة المصرية بالخارج، و إيجاد وظيفة لمن هُم دون عمل.
نجح الفتى الأشقر « كرم» في استدراج الفتيات اللواتي يبحثنَّ عن عملٍ لسد احتياجات المعيشة، فيتم اعطاء موعد لهنَّ بالحضور في الشركة، ثُم عرض ملفات العمل عليهن و التي تحتوي على التبرع بالبويضات مقابل مائة ألف جنيهًا مصري، بالرغم أن البويضة الواحدة تساوي أكثر من ذلك بكثير، لكن هذا ما يتم اخباره لهن، و تجد الفتيات أنهن أمام أمر واقع مفروض عليهن لا محالة، لا مجال للهرب ولا مفر من براثن الشيطان إذا كان المرء ضعيف، و هُنَّ بالفعل ضعاف، مَن هُنَّ ليقفنَّ في وجه
« زينات» و الخمسة مهددين ؟!
تضطر الفتيات للموافقة تحت التهديد، فيقوم
« كرم» بعرض صور خادشة مزيفة لكل واحدة منهن، عِلمًا بأنهن من أُسر فقيرة أو أيتام أو ليس لهن حامي، أو كما يقول التعبير المصري الدارج « ملهمش ضهر يتسندوا عليه»، و الجهلاء من الناس كثيرون ليصدقون أمورًا كهذه.
بعد عرض الصور عليهنّ، يُصبنَّ الفتيات بالخوف الشديد على سمعتنّ، و لتهدئة الأمر و جعله أكثر اعتيادية، يقوم « وسيم» بمظهره الذي يوحي بالراحة و بحُسن لباقته، بشرح و توضيح الأمر لهنَّ بطريقةٍ أخرى تضمن حقوقهن و تجعلهن أقل خوفًا، و هذا ما يحدث الآن.
سبع فتيات ارتكبن خطأ كبير، وهو الوثوق في شخصٍ مجهولٍ عبر تطبيق غير معروف.. دائمًا لا تجني من الشوك العنب.
قبل التبرع، تخضع المتبرعات لفحوصات طبية واختبارات لتقييم صحتهن العامة، والتأكد من عدم وجود أمراض وراثية أو معدية، ثُم تأتي عملية التنشيط و الإخصاب، فيتم تنشيط المبايض لدى المتبرعة باستخدام أدوية الخصوبة، ثم يتم استخلاص البويضات من خلال إجراء جراحي بسيط، و تلك الخطوات المهمة لا تحدث في يومٍ أو اثنين، بل تمتد على مراحل لضمان سلامة كل شيء، و الفتيات اللواتي يجلسن في صالة الانتظار أمام مكتب
« وسيم»، يدخلن لمعرفة نوع العمل المعروض عليهن واحدة تليها الأخرى، و يبدأ هو باخبارهن بالأمر الحقيقي على طريقته.
دلفت الفتاة الأولى و التي تدعى « خلود» و بحوزتها ” السيرة الذاتية» الخاصة بها مع الهوية الشخصية، و فور أن وقعت عينيها على
« وسيم» الوسيم المبتسم ابتسامة صافية تعكس مضمر نواياه، أخفضت رأسها بخجلٍ من تحديقه فيها، ليس تحديقًا للمفاتن و إنما لقراءة لغة الجسد التي تعلم القليل منها من « قابيل»، و لكن الحقيقة فشل فيها.
أشار لها وسيم بالجلوس قائلًا:
” اتفضلي يا آنسة… ؟ ”
” خلود ”
قالتها، وهي تجلس بتوتر فيبدو أنها لأول مرة تقوم بالتقديم على عمل في شركة.
” آنسة برضو ولا إيه ؟ ”
نظرت له باستفهامٍ، فشعر بالبغاء من نفسه لسؤاله الغير موفق بالمرة، فالمطلوب للعمل فتيات عزاب، لذلك تفاجئت الفتاة خلود من سؤاله، مما تصنع المزاح، فقال وهو يلمس أنفه بتوتر، ثُم يحك ذقنه باحراجٍ:
” مالك اتخضيتِ كده ليه ؟ أنا بهزر معاكِ.. أخبارك إيه يا خلود ؟ ”
” تمام الحمدلله ”
أخذ منها الملف يقرأه في توتر انتابه، فتلك هي أول مرةٍ يقوم هو بعمل المقابلات الشخصية مع الضحايا، كان القائم على ذلك « قابيل».
أردف « وسيم» وهو يشم الملف بحركةٍ خرجت منه بتلقائية شديدة:
” هو الـ CV ده كان مركون في المطبخ ؟ ”
” نعم ! ”
انتبه لما يفعله، فوضع الملف سريعًا و أخذ ينثر الكحول على يديه ليقول:
” متاخديش في بالك، أنا.. أنا بس يعني عندي حساسية شوية من ريحة البطاطس ”
ضحكت هي رغمًا عنها و قالت:
” حضرتك بتقول إيه ! الـ Cv إيه اللي يدخله المطبخ ؟ ”
” اسألي نفسك أنتِ بتسأليني أنا ”
قالها ونهض ليخرج من الغرفة تاركًا إياها في دهشةٍ سيطرت عليها، فأخذت تردد لغرابة الموقف:
” ماله ده ! ”
بالخارج كان « كرم» يتولى مهمة شرح طبيعة العمل المزيف للفتيات الأخريات، بينما
« سلطان» يتحدث مع المدعوة « فادية» في هاتفه في جوٍ من الوقاحة و الجرأة في الحديث، و الضحك الصاخب، يبدو من هيئته أنه بدأ يميل لها و يحبها بالفعل، و تلك هي أول علاقة يستمر فيها لعدة أيام، لقد أحب
« سلطان» المرأة فادية و التي تكبره بإحدى عشر عامًا، أي أنها بعمر السادسة و الثلاثون، و تدير شقة دعارة في الخفاء، وهي بالأساس عاملة في صالون تجميل للسيدات، و لا أحد من إخوانه يعلم بتطور الأمور بينهما، و لا حتى زينات.
أنهى معها المكالمة، ثُم التفت خلفه ليجد
« وسيم» يقبل عليه في استياءٍ قائلًا:
” ادخل أنت كمل الانترڤيو، أنا قرفان ”
” قرفان ! حامل ولا إيه ؟ ”
” سلطان أنا ما بهزرش، الورق بتاع البنت ريحته بطاطس ”
قالها وهو يلوي شفتيه بامتعاضٍ، ثُم أخرج المعقم ثانيةً و ظل ينثر على يديه بالكامل، و يشم نفسه، ليتنهد بضيق و يقول:
” أنا عايز أروح.. عايز استحمى ”
رد « سلطان» بنفاذ صبرٍ منه:
” أنت زهقتنا في عيشتنا، وسيم اعقل.. هتسيب الشغل يضرب يقلب على دماغنا و تروح تستحمى ؟! ”
” دا على أساس إن أنا مجنون ! احترم نفسك و اتكلم معايا عدل عشان أنا على أخري و مش طايق نفسي و لا طايق حد ”
هتف بها بغضبٍ، لقد أنهكه وسواس النظافة القهري، و لم يعد يستطيع السيطرة على حالته.. كل ما يفعله رغمًا عنه، رغمًا عنه يجد نفسه يشمئز و يشعر بالقرف من كل شيءٍ حوله، حتى من نفسه.. لديه هاجس يخبره بأنه غير نظيفًا، و هناك احتمال كبير بإصابته بالأمراض لعدم نظافته و نظافة الأماكن و الأشخاص من حوله.
” خد بالك من نبرة صوتك، و ريَّح و استريَّح عشان ما أقلش منك يا وسيم ”
رد بها « سلطان» هو الآخر في غضبٍ و نسيا تواجدهما بالشركة، فهما أحيانًا يدخلان في شجارٍ أثناء غياب الأخوان الكبار عنهما.
جاء « كرم» سريعًا على مصدر الصوت، ليجد وسيم قد اقترب من سلطان ينظر في عينيه بتحدي و يقول:
” وريني يا * ”
” أهو أنت اللي * و ستين * ”
هتف بها الآخر و همّ برفع يده على أخاه، فتدخل كرم سريعًا يصيح فيهما:
” والله عيب عليكم اللي بتعملوه ده، ولا عشان قابيل و باشا مش هنا هتاكلوا في بعض ! العملية دي لو باظت.. المعلمة مش هتعديها لنا بسهولة، انجزوا خلونا نخلص ”
” ملكش معايا كلام تاني ”
قالها « وسيم» وهو يشير يوجه سبّابته بتحذيرٍ لسلطان، فَرد الأخير ساخرًا:
” قال يعني هنقص من غيرك.. يبقى أحسن ”
” مش هعديلك رفع ايدك عليا يا * ”
” طب عليا الحرام من * لو شتمت تاني لـ * يا وسيم.. يلا بقى وريني هتعمل إيه ”
تجاهل الاثنان وقوف « كرم» بينهما، و استدار
« وسيم» يرمق « سلطان» بغضبٍ أنساه كل شيء، و نزع جاكيت البذلة على أتم الاستعداد لاسترداد ماء وجهه الذي بعثره أخوه الأصغر منه سنًا، بينما الأخير فعل المِثل وهو يبتسم بسخرية مدركًا أن « وسيم» لن يقحم نفسه في عراك أكثر من دقيقة رغم خفة يده السريعة، و لكن ذلك الوسواس قضى على أشياء كثيرة جيدة فيه.
وزع « كرم» نظراته الغير مصدقة لما يقومان به، و قال باسْتياءٍ شديد من جَرّاء ذلك:
” أنتم مستوعبين أنتم بتعملوا إيه ؟! ”
” هو اللي بدأ ”
صاح بها « سلطان»، فَرد « وسيم»:
” حلو، و أنا برضو اللي هنهي ”
قال « كرم» محاولاً ايجاد حل لهما:
” صوتكم عالي و هنروح في داهية ”
قالا الاثنان في صوتٍ واحد دون النظر لكرم:
” اخرس”
ثُم عادا لنظرات التوعد لبعضهما، كل واحد يريد رد كرامته.. خطى « وسيم» خطواته السريعة الغاضبة تجاه « سلطان» و أثناء ذلك، اصطدمت ركبته بحافة المكتب المدببة، مما انحنى يتألم بشدةٍ، جعلت سلطان ينسى كل شيء، و يتجه نحوه بخوفٍ عليه يتفحص ركبته:
” وسيم ! شيل ايدك كدا أشوفها ”
رفع يده ليرفع له سلطان بنطاله يرى أثر الاصطدام، فاتضحت كدمة خفيفة لكنها سببت له ألم ظنا أن الركبة أصيبت بجرح، نهض سلطان وهو يمد له يده يساعده على النهوض بحنوٍ:
” رغم إنك اللي اتعصبت عليا الأول، بس ياعم أنا آسف متزعلش ”
نهض وسيم بمساعدته يقول مُتقبلًا اعتذاره:
” ولا يهمك.. أنا اللي آسف ”
” أنا اللي آسف لنفسي إني عبرتكم و جيت.. عليا الحرام أنتم تفقعوا مرارة بلد ”
هتف بها « كرم» و قد ضاق بهما ذرعًا، ثُم تركهما وقال قبل خروجه:
” كُتر الانتظار هيخلي البنات تحس إن فيه حاجة غلط.. انجزوا يا رجالة أبوس ايديكم، المعلمة مصدراني أنا في الوش ”
بينما في الخارج، قد بدا الانزعاج على الفتيات بالفعل، فاعتذر لهن « كرم»، و أردف بجدية:
” بعتذر لحضراتكم، كانت فيه مشكلة بس صغيرة في السيستم اللي بنسجل عليه بيانات التقديم.. ”
أما الاثنان الآخران اتفقا على تبديل الأدوار، فدلف سلطان لعمل المقابلة مع الفتاة المنتظرة بملل في المكتب، و ظل وسيم بجانب كرم.
لا يجد سلطان تمهيد المواضيع ذو أهمية، لذلك أردف يقول للمدعوة « خلود» بابتسامة ماكرة وهو يقرأ باهمالٍ السيرة الذاتية لها:
” بصي يا آنسة خوخه.. ”
” خلود بعد إذنك ”
ترك الأوراق من يده، و أخرج سيجارة من جيبه يشعلها و ينفث دخانها تحت نظرات الاستغراب منها، ثم قال:
” أنا أحب أدلع الجنس الناعم.. نخش في الموضوع علطول ؟ نخش فيه علطول.. مبدأيًا كدا أنتِ وقعتِ في المصيدة، و إحنا مش شركة توظيف، إحنا بنتاجر في البويضات، و سيادتك هتمضي على ورق دلوقت إنك موافقة تتبرعي بالحلويات بتاعتك عشان نبدأ اجراءات التحضير للعملية.. ها تحبي تشربي إيه يا خوخه هانم ؟ ”
تأملته الفتاة لدقيقة بعدم استيعاب و لدقيقة أخرى باستيعابٍ بطيء، ثُم هبّت واقفة بتعابير الاعتراض تقول بصرامة:
” نصابين ! ”
” تؤ تؤ.. مُهددين، يعني طالما دخلتي برجليكِ هنا، يبقى حياتك تحت التهديد.. أنتِ في خطر يا خوخه ”
قالها بابتسامة واسعة، و نهض يضع يديه في جيبه ليقف أمامها يبادل نظراتها الخائفة بنظراته الخبيثة، و استطرد تهديده:
” قدامك حل من الاتنين، يا تتنشر صور ليكِ و أنت كما ولدتك أمك ملط و في أوضاع ييي أوي و وريني بقى هتعيشي ازاي وسط الناس و أنتِ مفضوحة، مش هتستحملي وهما بيعاملوكِ باحتقار و هتنتحري أو تروحي تبلغي عننا و في الحالة التانية هنكون خدنا روحك قبل بس ما تفكري.. أما بقى يا خوخه يا حلوة يا مدوره الحل التاني إنك تمضي في مقابل مية ألف جنيه تشبرقي بيهم نفسك، و على فكرة أنتِ كدا بتساهمي في خير كبير.. فكري فيها كده هتلاقي نفسك بتتبرعي لواحدة نفسها تبقى أم و تكوني أنتِ سبب في سعادتها، و متقلقيش.. هي بويضة واحدة، ها.. تمضي ولا ؟ ”
ظل قلب الفتاة يخفق وهي في قمة خوفها تفكر في المأزق الذي وُضعت فيه، ولم تجد مفر من الموافقة، فوافقت على مضض وهي تبكي في صمت، بينما في الخارج.. إحدى الفتيات تدعى
« صفية» وفي الحقيقة لم تقع في فخ الأخوة مثل البقية، فهي تعمل صحفية مبتدئة و اصطنعت حاجتها للعمل بعدما زيفت هويتها و كل شيء خاص بها لكشف أعمال الشركة الموبوءة، و التي كانت على علم منذ أشهر بما يحدث فيها من بعض الأقاويل، و لكن لا أحد يستطيع ايجاد دليل واحد عليهم، فقررت هي المضي قدمًا للايقاع بهم.. في اعتقادها أنها يمكنها ذلك، ولم تدرِ المسكينة أنها أوقعت نفسها في أيدٍ سريعة القتل دون رحمة.
… في بلادٍ أخرى حيث يكثر فيها الشر و الفساد، بل هي منبع الفساد و أساسها، في ولاية من ولايات أمريكا التي يمكث بها
« الداعية لقمان»، تم اصدار الشائعات حوله بأنه تابع لجماعة إرهابية، و ترددت الأقاويل على اجتماع فئة من الضالين يريدون اغتياله، و لكنه لم يُبالِ بذلك و قرر استكمال جهاده في سبيل الله، و دعوة الغير مسلمين للإسلام الدين الحنيف السلمي.
بين الحين والآخر تأتي الأخبار المصورة بصور مؤلمة و يؤسف لها عن الاضطهاد الذي يواجهه المسلمون في بعض الدول، ومن ذلك ما جرى في ميانمار بورما سابقا من أعمال عنف وتقتيل وتهجير للآلاف من المسلمين العزل، وحرق البيوت وتخريب ممتلكاتهم، و مطاردتهم حتى خارج الحدود و لجوئهم لدول مجاورة.
على مدار أعوامٍ مديدة يتم اضطهاد المسلمين في عدة دولٍ دون وجهة حق، ولا أحد من المنظمات العالمية لحقوق الانسان يكلف نفسه بالتدخل و ايقاف تلك المهزلة التي تحدث في حق المسلمين الأبرياء.. منهم من يقتل وهو يعلم غيره الصلاة في المسجد، فيتم طعنه خمسون طعنة حتى الموت و تزهق روحه البريئة تتساءل لماذا يا أخي ؟ كنت أعلمك الصلاة، ماذا فعلت لملاقاة و نيل كل تلك الكراهية ؟ و منهم من يدعو للاسلام بسلامٍ فيتم اغتياله، و العَالم يولي ظهره ولا أحد يجيب.. صُمٌّ بُكمٌ عُميٌ فهم لا يفقهون ولا يعقلون ولا يمتلكون أدنى ضمير أو رأفة بالمسلمين أطفالًا و نساءً و شيوخًا، و رجالًا.. ناهيك عن الاعتداءات المستمرة على سكان غزة أو سوريا من قصفٍ مستمر و ترويعٍ لهم، و اغتصاب أراضيهم عنوة.
ومن مظاهر اضطهاد المسلمين تلك السياسة التي تتبعها وسائل الإعلام في بعض الدول التي تصور الإسلام بصورة غير حقيقية، وتشوه مبادئ الإسلام الحنيف، أو ما يطلق عليه في الغرب الإسلامفوبيا، فإذا وقع عمل إجرامي وكان أحد الأطراف يدين بالإسلام فإنه يطلق عليه صفة الإرهابي الإسلامي، حتى لو كان يحمل جنسية تلك الدولة، فالتركيز يكون على الديانة وليس الجنسية، أما إذا قام شخص بذلك الإجرام وينتمي إلى ديانة غير الإسلام فيقال إنه مختل عقليًا ولا تذكر ديانته.
أثناء القاء « لقمان» للدروس الدينية، جاء أحد الشباب من الحضور و الذي يحضر جميع الدروس و المناظرات باستمرار، و أعرب عن كامل إرادته في اشهار اسلامه بعدما تيقن أنه الدين الصحيح و بأن خير خلق الله سيدنا مُحمَّد صل الله عليه وسلم هو آخر الأنبياء و خاتم المرسلين.
ضجت القاعة بهمهمات السعادة التي اتضحت على وجوه المسلمين فيها، و تعالت التكبيرات، لينهض « لقمان» بابتسامة صافية سعيدة بإرادة الشاب القوية، و قال بنبرة فرِحة:
” ما شاء الله ما شاء الله.. ما اسمك أخي ؟ ”
” سام ”
” و من الآن ماذا تُحب أن أناديك ؟ ”
” طه، اسم من أسماء النبي مُحمَّد، و لي الفخر أن أحمله طيلة عمري ”
” ما شاء الله، حسنًا أخي « طه»، الدخول في الإسلام نعمة من أعظم النعم، وهو في حقيقته رجوع إلى الفطرة، و الدخول فيه أمره يسير ولا يحتاج إلى طقوس ولا أمور رسمية، كل ما عليه فعله هو قول الشهادتين باخلاص النية ”
أومأ الشاب باسمًا، فقال لقمان بلكنة الشاب أولاً:
” قل ورائي.. أشهد أن لا إله إلاّ الله و أشهد أن مَحمدًا عبده و رسوله ”
قالها الشاب، و عند النطق باللغة العربية، نطقها لقمان كلمة كلمة ليسهل عليه ترديدها وراءه..
” أشهدُ .. ”
” أشهدُ ”
” أنَّ ”
” أنَّ ”
حتى قالها الشاب طه كلها، و جذبه إليه لقمان يعانقه بحفاوة قائلًا:
” مرحبًا بك أخي طه في دين الإسلام ”
و في منزل « لقمان»، تجلس « آسية» تلعب بالصلصال مع طفلها « مُحمَّد»، حتى رنّ جرس المنزل، فظنت أنه زوجها، و قبل أن تفتح نظرت من عين الباب لتجد شقيقها « عبد الرحمن» يبدو عليه الهلع ويهمس من خلف الباب:
” آسية.. أبي علم بمكاني و استطاع الوصول إليّ، لقد أرسل أشخاصًا ملثمين لقتلي.. دعيني أدخل أرجوكِ ”
فتحت له الباب بخوفٍ عليه، فدلف سريعًا و أغلقه قائلًا:
” لم أجد ملجأ آخر غيرك أختي.. عَلِم بمحل سكني، تركت البيت برمته و جئت هربًا لعندك.. أعلم أنني أخطأت بالمجيء هنا، و لكنني لم أجد مكانًا آخر أذهب إليه، لا تقلقي لم يتبعني أحد.. تأكدت من ذلك، و حتى لو وصلوا إليّ لن يستطيعوا الاقتراب.. يعلمون أن منزل لقمان مرصع بكاميرات المراقبة. ”
تجاهلت « آسية» تبريره الكثير، و ضمته إليها تربت على ظهره بحنانٍ قائلة:
” اهدأ أخي.. أنا هُنا، لن أسمح بحدوث ذلك إن شاء الله، أخبرتك من البداية أن تأتي للعيش معنا ”
ابتعد يقول بأسفٍ:
” خفت عليكِ آسية، تعلمين أن أبي يريد قتلنا بعدما أشهرنا اسلامنا، و لكن بعد زواجك من لقمان، نفض فكرة قتلك من رأسه و اكتفى بأنكِ رحلتِ عن الدنيا بالنسبةً له، أما أنا فأرادني الرجوع عن الاسلام، و لكنني أبيت؛ لذلك يصرّ على التخلص مني. ”
أرادت التخفيف عنه و التهدئة من روعه، فقالت بابتسامة حنونة:
” حسنًا، لا عليك عبد الرحمن، اجلس و شارك ابن أختك اللعب، و سأقوم بصنع كوبين من القهوة لنا.. هل تود أكل بعض البسكويت المصنوع من الشوكولاتة ؟ ”
أومأ دون انتباهٍ، لا يستطيع التركيز في أي أمرٍ و باله مشغول بقرار والده الفظّ.. أخذ يلعب مع
الصغير، حتى اندمج معه في اللعب يُدَغِدغه بين الحين و الآخر و يغمره بالقبلات قائلًا له:
” ستصبح داعية قوي مثل والدك.. بارك الله في مُحمَّد الجميل.. هل تحب خالك ؟ ”
أومأ الصغير وهو يضحك من مداعبة خاله له، و في تلك الأثناء انقطعت الكهرباء في المنزل بالكامل، و صُدر صوت تكسير زجاج قوي، شهقت له « آسية» بفزع، فوضعت يدها على قلبها تردد اسم الله، و أضاءت ضوء الفلاش في هاتفها ليساعدها على النزول من الدَرج.. آتاه صوت اصطدام قوي ثانيةً، ثم صوت صرخة رجولية، و همسات تليها حشرجة خروج الروح من الجسد !
بدأ قلبها يخفق سريعًا تزامُنًا مع شعورها بسائل لزج تحت قدميها، صوبت الفلاش نحوه، لتصرخ بهلعٍ عند رؤيتها لِدمٍ غزير تحتها، ثُم وجهت الضوء الخفيف تجاه مسار الدم، فوقع الهاتف منها و ظلت تصرخ صرخات هستيرية بعدما رأت شقيقها مذبوح أمامها، أما ابنها مُحمَّد لا وجود له..!
.. في جهة مقابلة في نفس البلد الظالمة حيث أرض « القيصر» التي يمارس عليها كل أنواع الضرر للبشرية، كان القبطان « أنور المصري» قد وصل بشحنة البويضات و تم تحميل شحنة المخدرات.. استقبله القيصر و رجاله في الميناء، لذلك لم يكن متواجد بالقصر، بينما والدته
« صوفيا» تمارس الرذيلة مع مساعدها
« دانيال»، و الكوري « يونغ» في مقابلة خاصة مع أحد زعماء المافيا الايطالية داخل القصر، تركه « القيصر» لعقد صفقات جديدة، تجمع بين المافيا الكورية و الايطالية تكون في صالح
القيصر بدءً لاعلان السيطرة على العالم، و رغم كُره القيصر لليهود المعهود عنهم الغدر لقتلهم شقيقه الذي كان عَالمًا في وكالة ناسا و عندما أعلن اسلامه قتلوه، لكنه يحتاج إليهم في مد أطرافه لفرض سطو مسلح على من يعترض طريقه ولا يقسم بالولاء له، خاصةً المسلمون.
أثناء تبادل أطراف الحديث حول الصفقة، اشتد الحوار بين « يونغ» و أحد الرجال من الطرف الآخر الذي أطلق سبة مهينة له، فأخفض يونغ بصره يبتسم بسخرية و يهزها بخفة علامة على التوعد بداخله للرجل، ثُم أخرج مسدسه فجأة و فجر رأس الرجل برصاصة خرجت من الغضب و ألقت الرجل مصرعه على الفور، ليقول وهو يوزع بصره عليهم بحدة:
” أنا كيم يونغ.. ابن أعظم زعيمًا للمافيا الكورية، من يجرؤ و يتحداني يلقي حتفه على الفور.. هل من معترض ؟ ”
نهض رجل يصيح باعتراضٍ و يبدو أنه زعيمهم:
” هل جننت « يونغ» ! قتلت واحد من أفضل رجالي ”
أومأ يونغ بلا مبالاة:
” نعم.. هل تود اللحاق به ؟ ”
” يبدو أننا لسنا على وفاقٍ يونغ.. أخبر القيصر أن الاتفاق بيننا لن يتم بكل السُبل.. ”
قالها بغضبٍ، و أمر رجاله بحمل الجثة الهامدة للمغادرة من أرض القيصر.
بعد دقائق من خروج الرجال، ظهرت فتاتين أمام البوابة الضخمة.. التي على اليسار و تحمل حقيبة خلف ظهرها تقف في دقائق تأمُل لمنظر البوابة المهيب، في حياتها لم ترَ بوابات بتلك الضخامة إلا في أفلام هوليود.. فتاةٌ يبدو من ملامحها أنها عربية الأصل، فهي ذات شعر أسود طويل كصفات البدو الأصلية، منسدل على كتفيها وعلى حقيبتها، و العينين السوداوين الواسعتين اللتين تلمعان بنظرة الثقة و الشجاعة دليل على صفات العرب بها، بالإضافة للبشرة الحنطية التي تميل للون البني الفاتح، ملامح عربية أصيلة وهوية أجنبية مزيفة اجتمعا في « روزالين»، بخلاف صديقتها
« سوزانا» التي يتضح من ملامحها الشقراء أنها أعجمية الأصل.. الأخيرة ظلت تتأمل رجال الحراسة بابتسامة ساذجة وهي تلعب بخصلات شعرها الذهبي قاصدة لفت انتباههم، فلاحظتها
« روزالين» و وكزتها في كتفها هامسةً لها:
” ماذا تفعلين « سوزانا» ؟ كُفِ عن تلك الحركات الغبية، الرجال ينظرون إلينا و كأنهم يودون قتلنا ”
” هل رأيت ذلك الزنجي ذو العضلات القوية ؟
أود قضاء ليلة لعينة معه، هل أذهب و أبدي إعجابي به ؟ ”
” افعليها و سأقتلك بنفسي سوزانا ”
” اوه روزي.. أنتِ سريعة الغضب، أنا أمزح فقط ”
” غبية ”
قالتها روزالين بنفاذ صبرٍ منها، ثم اقتربت من أحد الرجال و قالت ببرودٍ:
” أنا روزالين قارئة الطالع، أخبر سيدتك بقدومي ”
” السيدة تنتظرك بالداخل، رافقيني ”
لم تنتبه « روزالين» لصاحب الشعر الثلجي الذي وصل للتو، و ظل قابعًا في سيارته يتفحصها من الخلف قائلًا للرجل بجانبه بسخرية:
” يبدو أنها المشعوذة.. الساقطة تمتلك جسدًا مثير للفتنة ! و من تلك الشقراء بجانبها ؟ ”
” لا أعلم سيدي، يبدو أنها صديقتها ”
” أوه هُوو، سيستمتع « زيوث» اليوم كثيرًا ”
اقتاد القيصر السيارة للداخل، ليصل إليهما يوازي الفتاتين في السير، هو بسيارته وهما سيرًا على الأقدام.. أنزل زجاج النافذة ليصدر صفيرًا عاليًا شهقت له « روزالين» و التفتت بدهشة جانبها، لتجد شاب مليح الوجه خبيث النظرات، تأملته لثوانٍ أقسمت في نفسها أنه هارب من أفلام الانمي، ثُم أدارت وجهها تقول لصديقتها:
” هل هذا الوقح هو القيصر ؟ ”
أومأت سوزانا وهي تتفحصه بنظراتٍ جائعةٍ لتقول:
” نعم، إنه هو..! الوسيم صاحب الشعر الثلجي الرائع ”
” كل الرجال رائعون في عينيك سوزانا، ذلك الأبله لا أجد به أي وسامة.. كفاكِ هراءً ”
” أنتِ فقط لديك عقدة من الرجال.. كم أتمنى أن أكون حبيبته ”
همست بها بنظراتٍ حالمةٍ، فقامت روزالين بتوبيخها هاتفة:
” جئنا للعمل سوزانا.. لا تفقديني أعصابي! ”
” حسنًا حسنًا، سألزم الصمت ”
” أتمنى ”
أما « القيصر» لم يعجبه أن الفتاة صاحبة الشعر الأسود لم تولِ له اهتمامًا، فأكمل القيادة للداخل، حتى وصل أمام بيت الذئب زيوث، فجاء مساعده « جيمس» يقول بابتسامة بلهاء:
” مرحبًا بعودتك سيدي، زيوث اشتاق لك كثيرًا.. يبدو أن لديك نفس شعوره، نعم.. الحيوانات تشعر ببعضها ”
” ماذا قلت ؟! ”
تراجع سريعًا خوفًا من تلك العينين الخضراوين اللتين نصبت تركيزها عليه بصرامة:
” لم.. لم أقصدك أنت سيدي، قصدت.. يونغ ”
كان « يونغ» قادمًا من خلفه، و حينما وصل له ما قاله جيمس، جذبه من ياقة ملابسه ثُم ركله في مؤخرته هاتفًا:
” لو لم تكن غبيًا، لكنت قتلتك منذ أول مرة رأيتك فيها أيها العاهر الغبي ”
تزامن حدوث ذلك مع اقتراب الفتاتين و مرورهما من أمامهما.. استوقفهما « يونغ» وهو يعيق طريقهما و يتفحص جسديهما بالأخص جسد « روزالين»، ليقول وهو يلعق شفتيه:
” جسدٌ يشبه الساعة الرملية المذهلة، ياللروعة! ”
ثم نظر للأخرى فوجدها تبادله نظرات الشغف، مما أثاره ذلك للضحك في استهزاء:
” شقراءٌ ساقطة لا بأس بها”
و أعاد تفحص روزالين فوجدها ترمقه باحتقار، تجاهل نظراتها و أردف:
” يا لهما من * رائعين ! ”
حينما قال ذلك بجرأة دُهشت لها، رفعت كفها و هوت به على خده بكل شجاعة، مما شهق جميع الواقفين من حُراس و عاملون و صديقتها، حتى القيصر توسعت عينيه بصدمة، لأول مرة يحدث ذلك أمامه.. هتف بحماسٍ كأنه يشجعهما على خوض نزالٍ داخل الحلبة:
” أوه هُوو.. فتاةٌ شقية.. اللعنة، أُحبُّ ذلك، هيا يونغ.. نِل منها ”
جز « يونغ» على أسنانه و رمقها بِشرٍ، جعل شجاعتها تذهب أدراج الرياح، فتقدم نحوها لترجع هي للخلف بخوفٍ و ارتباك من نظراته، ثم قالت في تلعثم:
” ابتعد.. لا تقترب مني، ألا تعلم من أنا ؟ أنا روزالين.. لي صيتٌ واسع في قراءة الطالع، السيدة تريدني و لن ترحمك لو فعلت لي شيئًا ”
نمت ابتسامة خافتة جانب شفتيه وهو يتأملها بغيظٍ، ثم جذبها نحوه بقسوةٍ اصطحبت معها التحرش باليدين.. ظل تصرخ و تحاول الابتعاد، بينما « سوزانا» وقفت بخوفٍ تنظر لهما، تود إغاثة صديقتها لكنها ليست شجاعة مثلها، أما
« القيصر» صعد يجلس على مقدمة سيارته يستمتع بمشاهدة ما يفعله صديقه و محاولة المسكينة في النجاة منها.. هتف القيصر لأحد العاملين:
” أحضر لي طبقًا كبيرًا من الفشار الحلو.. ”
و تابع بصوتٍ خافضٍ وهو يضحك باستمتاعٍ:
” يبدو أن الوجبة اللذيذة ذهبت لك صديقي يونغ، حظ أوفر في المرة القادمة زيوث ”
صرخت روزالين وهي تقاوم و تدافع عن نفسها:
” النجدة.. اللعنة عليك، ابتعد أيها الحقير السافل.. النجدة ”
تدخل « القيصر» يقول بحماسٍ كبير:
” لا لا.. لا تكتفي بذلك يونغ، مزق لتلك المشعوذة اللعينة جميع ثيابها ”
..
في أحد المناجم الخاصة بالمعادن الروحانية و الأحجار الكريمة، في شبه جزيرة سيناء حيث يقف
« عز الدين» في وسط العاملين في المنجم، هاتفًا بصوتٍ عالٍ ليقوموا بتحميل الأحجار سريعًا دون تباطؤ:
” حمّلوا الجلاميد عجل يا رجال ”
الجميع يعمل بجِد و جهد مبذول؛ خوفًا من غضب
« عز الدين»، فالمعروف و المعهود عنه حدته و شدته و قوته، و هيبته، فهو خليط من اجرام السلاح و التهريب عبر الحدود بالإضافة إلى معرفته بزعماء المافيا، و لديه من قسوة القلب ما يكفي لدرجة أنه عندما رأى « سويلم» العامل الذي يعمل عنده لسنواتٍ أثبت فيها جدارته، نائمًا من شدة التعب، اتجه إليه بخطواتٍ تحمل في طياتها غلظة الطباع، ثُم جذبه بغتةً من ملابسه يوقفه في حركةٍ شهق لها
« سويلم» بفزعٍ لم يتوقعه، و قبل أن يلفظ لسانه بأي حرفٍ يدافع به عن نفسه، دفعه « عز الدين» للجدار بقبضة يده القوية الممسكة بملابس الرجل، و صاح فيه بغضبٍ أصم أذنيه و جعله يخفض نظراته المتوترة مُستمعًا لوابل من التوبيخ و السباب:
” أنت حاسِب روحك في بيت أبوك هنِيـّـا جاي ترقد ؟ اللي يجينا يجينا لشقا.. و عشان ترقد زين
أنت مقطوع لك الساعات اللي شقيتها و هتشتغل ساعات زود ”
توسعت حدقتا سويلم من قراره الظالم، و حاول طلب العفو منه لتخفيف العقوبة عليه، فقاطعه عز الدين بنبرة حادة:
” ولا كلمة… شد حيلك يا سويلم، و يمين بالله أبدًا ما كان باطل، لو اتعادت السالفة عاد منك أو من أي راجل شغال هنيِا، هتلقوا سواد الليل في عز النهار ”
صمتٌ عمّ عليهم، لم يجرؤ أحدًا على الاعتراض، فعادوا للعمل بجهدٍ جهيد و صمت الألسنة سائد مخيم على الجبل فقط صوت المطارق تضرب في المنجم، أما « عز الدين» ظل واقفًا مكانه شامخًا كالأسد يتابعهم بعينيه اللتين تشبهان عينيّ الصقر في حدته و تركيزه، و لكن العقل شاردًا في أمرٍ آخر.
فقبل ثلاثة أيام كان رجال « عز الدين» على موعد مع عملية تهريب جديدة للأحجار الكريمة خارج الحدود لرجال العصابات الأكثر خطورة في أمريكا بولاية شيكاغو القائم على تمويل العصابات بها
« القيصر و والدته» بالإضافة لانضمام المافيا الكورية بزعامة « يونغ و والده و العاملون معهما»، و في نهاية العملية أعطى رجلٌ من رجال العصابات المتمثل في مرسال للمشرف على عملية التهريب بزعامة « عز الدين» صندوقًا يصل ليد عز دون أي محاولة لفتحه، و كان الصندوق عبارة عن رسالة من
الموساد الإسرائيلي في محتواها
« نريد أن نقابلك قريبًا» و خاتم من الأحجار الكريمة الذي صُنع خصيصًا لعز الدين من مناجم سيناء الثمينة.
لقد رأى الموساد في عز الدين رجل المستقبل في تحقيق أمانيهم بالاستيلاء على شبه جزيرة سيناء، لما له من صيت واسع في المنطقة من إجرام كبير و له كلمة مسموعة لدى شيوخ القبائل الأخرى، و بينما يقف « عز الدين» شارد الذهن يفكر في تلك الرسالة و الهدية التي يعود أصلها لمناجم سيناء العريقة، إذ يدخل عليه « فيصل» ينزل عن جواده و يصافح أخيه مُتسائلًا عن أحوال العمل.. قرر « عز الدين» اخباره بأمر الرسالة، فهو دائمًا يقوم باستشارته في الأمور المهمة؛ لامتلاك « فيصل» دهاءًا لا يقل عن دهاء عز.. قال الأخير بصوتٍ أجش:
” في موضوع مهم تعال نشرب الشاي و نتكلم فيه ”
ذهبا سويًا يجلسان في المجلس البدوي المقام أمام الجبل، و بدأ أحد العاملون عندهما يصنع شاي الحطب، فيقوم باشعال الحطب و وضع ابريق الشاي، بينما ينصت « فيصل» باهتمام لعز ليقول الأخير بنبرة السخرية:
” عيال الحرام فاكرينا لقمة طرية
سهل نتبلع في أي وقت.. يا عيب الشوم”
” مين يا ولد بوي.. قصر المنزلاوي ؟ ”
” لا.. دول تحت دراعنا، ولاد الحرام هما ولاد العم يا فيصل.. الموساد الإسرائيلي باعت مرسال عايزين يقابلوني، و أنا عارف السبب ”
صمت برهةً يبتسم باستهزاء، ثُم تابع:
” لا… دول تحت دراعنا، ولاد الحرام هما ولاد العم يا فيصل.. الموساد الإسرائيلي بعتت مرسال.. عايزين يقابلوني، وأنا بعرف ايش السالفة”
لمعت عينا فيصل و كاد أن يسيل لعابه، فهو شغوف بجمع المال و يدرك أن من وراء تلك المقايضة الثمينة سلطة وأموال لا متناهية، هذا ما يظنه، و بينما يتحدث عز مع فيصل عن هذا الأمر و عن غدر اليهود الصهاينة، فوجئ بأن فيصل مُرحب جدًا بتلك الفكرة، و لا مانع لديه من التعاون معهم.. المهم
« المال».
تساءل فيصل بنبرة يشوبها اللا مبالاة:
” و أنت ايش رأيك ؟ تبي تردهم ؟ ”
رمقه في دهشةٍ يقول:
” حديثك هذا بيقول إنك قابل و حاوي للتعاون مع عيال الحرام !”
سكت فيصل يفكر في الأمر برأسه دون البوح به، و لكن عز تفهم تعابير وجه أخيه، فقال بلهجة تحذير:
” انس اللي في راسك يا فيصل، أرضنا هي عرضنا و دمّنا.. أنا هاخد الجعبة و أروح للمخابرات، هما بيعرفوا كيف بيتصرفوا ”
أومأ « فيصل» في صمتٍ يعقبه خيانة تقبع في القلب، عكس « عز الدين» الذي يقوم بتهريب الأحجار التي تخص سيناء، و في نفس الوقت يرى أن التفريط في الأرض نفسها يساوي التفريط في الشرف و العرض.
كانا الاثنان خارج البيت طوال أمسٍ، و لم يدرِ فيصل بأن « صخر» قام بتهريب أختهم الصغرى، و لا حتى عز يعرف بالواقعة بأكملها.
بعدما اطمئن « صخر» على « رغدة» مع عائلة خارج القبيلة يعرفهم جيدًا و يثق فيهم، قام بالاتصال على أقرب صديقٍ لقلبه و الوحيد الذي يثق به ثقة عمياء و يرتاح بالحديث معه راحة تامة..« جبريل، الأبكم المتحدث»، طلب منه مقابلته في أقرب وقتٍ للحديث معه عن عدة أمور، و بالطبع وافق جبريل.. و ها هو « صخر» يقتاد سيارته عوضًا عن جواده عندما يصبح خارج سيناء.
..
قامت « منى» صديقة « هداية» بالاتصال عليها أكثر من مرة دون جدوى، و في آخر مرة وجدت الهاتف مغلقًا.
اتجهت تقول لوالديها بخوفٍ على صديقتها:
” هداية لسه ما بتردش.. دي مش عوايدها أنتم عارفين، هداية لما كانت بتتأخر في الرد كان بتبعت لي على الواتس أو بتتصل بعدها على طول.. تليفونها قفل دلوقت.. قلبي مش مطمن يا ماما، حاسة إن خالتها دي عملت لها حاجة”
تبادلا والديها النظرات بحزنٍ، و قال والدها:
” خلاص يا منى.. روحي البسي هنروح نطمن على هداية.. الراجل أبوها ده أنا مليش كلام معاه بس عشان خاطر البت و أمها الله يرحمها غاليين علينا، هنروح نطمن عليها هي و أختها إن شاء الله خير..”
هرعت منى لغرفتها ترتدي ملابس الخروج في عجلةٍ للاطمئنان على صديقتها، بينما في منزل
« والد هداية».. قامت « نادية» باخفاء ما تفعله من سحرٍ سفلي للناس سواء أكان ذلك للضرر، أو لمساعدة أشخاص يأتون إليها طالبين منها مساعدتها في إيذاء غيرهم بالسحر و الدجل، و تلك المرأة التي رسمت على ظهرها طلاسم، قد جاءت لطلب الحمل بعد سنواتٍ عجاف، فبدلًا من أن يتجهوا الناس للعبادة و التضرع لله، اتجهوا للسحر و الشعوذة و تسخير المردة من الجن الكافر لتحقيق مطالبهم، و بالطبع كل ذلك جهل و كُفر بالله عز وجل.
أنهت نادية ما تفعله سريعًا مع المرأة و أختها، ثم دفعا لها المال الكثير و غادرا، في حين أن
« أشرف» حاول فتح الباب على الصغيرة
« جنى» فوجد الباب مغلق بالمفتاح، و لم يأتِ في عقله أن يجرب مفاتيح الغرف الأخرى، بل قُذف في قلبه الرعب خوفًا من استيقاظ زوج والدته و يعلم بالأمر المخفي عنه لسنوات و الذي تضرر هو أيضًا منه، و وصل الأمر بنادية
لإصابة أختها « نوال» بسحر التفريق بينها و بين زوجها، حتى تستطيع هي الزواج منه.
عاد « أشرف» لوالدته في البدروم يقول بقلق:
” ماما.. الباب مقفول على جنى بالمفتاح ”
ردت بنظراتها المخيفة:
” خلاص سيبها دلوقت.. يومهم مش النهاردة، روح فوق هداية و هاتها لي أديها درس يمشيها على عجين متلغبطهوش “
يتبع…..
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية حصب جهنم)