روايات

رواية صرخات أنثى الفصل الخامس والتسعون 95 بقلم آية محمد رفعت

رواية صرخات أنثى الفصل الخامس والتسعون 95 بقلم آية محمد رفعت

رواية صرخات أنثى البارت الخامس والتسعون

رواية صرخات أنثى الجزء الخامس والتسعون

صرخات أنثى
صرخات أنثى

رواية صرخات أنثى الحلقة الخامسة والتسعون

صدمة الخبر، وصعوبة تقبله، جعل كل المشاعر تتكاتف عليه لتجعله عجوزًا يتحرك بصعوبة، يطول به الطريق فيستغل الحزن والقهر الأمر ليقضوا عليه بكل ما أمتلكوا من أسلحة، وأخيرًا انتهت رحلة معاناته القصيرة بالنسبة للقادم، حينما وصل السائق لمكان الحادث، حيث يجتمع فيه الجوكر وفريفه، وعدد مهول من الصحافيين.
فرق “علي” جمعهم، ومر من بينهم، يركض ودموعه تتحجر بعينيه، آبية الانسدال، يصبر ذاته أن كل ذلك زائف، لا يمت للحقيقة بصلة، أخيه قويًا، شامخًا، لن يستطيع أحدٌ كسره، أخيه حيًا، يقسم أنه حينما ينتهي من العبور من تلك التكتلات البشرية، سيراه يجلس هناك بانتظاره، يطمئنه ويعتذر له عن القلق والفزع الذي تسبب له به.
تحطمت كل آماله فور أن بات بمحل الحادث، وأول ما ألتقطت عينيه، كان جمال الجالس أرضًا، يبكي كالصغير، ويدفع من حوله رجال الاسعاف، بعد أن أجبر السيارة على العودة به من منتصف طريق المشفى، فور ان استرد وعيه.
سحب “علي” نفسًا طويلًا استمده من خبرة تعامله كطبيبٍ نفسي، وبداخله كل الصبر الذي يمهد له أن القادم سيكون لصالحه هو ، لن تخيب آماله أبدًا.
إتجه بخطواتٍ بطيئة، وانحنى تجاه جمال، يستند على ركبتيه، فرفع جمال وجهه عن محيط يديه، يتطلع لمن يلامسه، انهمرت دموعه كالامطار الجارية وردد ببكاءٍ:
_علي!
وتابع بما قضي به عليه:
_عُمران مات يا علي، قتلوه قدام عنيا ومقدرتش أعمله حاجة!
انسكبت دمعة من عين واحدة والآخر مازال الدمع يتحجر فيها، بينما يقابله بقوته:
_قوم أقف على حيلك يا جمال، أخويا مش ضعيف عشان يقدر عليه شوية أوسـ** زي دول.
وانتصب بعوده يشير إليه بصرامة:
_قوم خلي الدكاترة تعالجك حالًا، عُمران هيعمل مشكلة لو شافك بالشكل ده.
تعالت شهقات بكائه، ومال يستند على ذراعيه مجددًا وهو يهمس بصوته الجريح:
_لآخر لحظة في حياته بيختارلي الحياة وبيواجه هو موته! أنا قولتله معاك للموت بس هو كعادته مهمهوش كلامي.
ابتعد علي عنه وهو يحاول ألا ينصاع لما يقوله، بداخله يردد باستماتة
«مش صح، جمال ممكن يكون إتأثر بالحادثة، عُمران عايش!»
تركه وركض بكل قوته للجسر، حيث يوجد “مراد” وفريقه، ولدهشته كان آدهم أيضًا يقف برفقتهم، اعترضت الشرطة مروره للحاجز المصرح عليه ممنوع الاقتراب، ولكن الجوكر أشار لهم بتركه، فتابع طريقه إليه ورماديته تتلصص على المكان باحثًا عن أخيه، فشملت الدماء التي تغرق منتصف الجسر الغير مكتمل.
وخز قلبه بسكينٍ حاد، جعل أنفاسه ثقيلة كثقل حجرًا جاسمًا فوقه، تباطئت خطاه ومال بجسده لسور الجسر الحديدي من جواره، اندفع مراد يحاول مساندته، ولكنه دفعه وبصره مازال مسلط على الدماء، بداخله وجعًا، ويقينًا بأنه لأخيه!!
نزع بصره عن بقعة الدماء الكبيرة، وسلطها على الونش الضخم الذي ينتزع سيارة أخيه من المياه في تلك اللحظة، سيارته الرياضية الحديثة، التي لن يتوه عنها علي أبدًا، لطالما كان كل شيء يخص أخيه مميزًا، والآن قد خدمه الامر بالتعرف على ما يخصه.
وضع “مراد” كفه على كتف “علي”، يحاول مُآزرته، بينما يستعيد علي جزء من وعيه، ويميل إليه بنظرة واعية، وبسؤالٍ منكسر:
_أخويا فين؟؟؟
تفهم حالته التي تبدو منذ لحظة ظهوره بموقع الحادث، ولأول مرة تختزل الكلمات على لسان الجوكر، فربت على كتف علي وهو يخبره بأسفٍ:
_السباحين لسه بيدور عليه، خليك قوي يا علي.
ارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتيه، رغم انهمار دموعه دون ارادة منه:
_أخليني قوي!! أي قوة دي اللي عايزني أكون بيها وأنا بستنى حتة من قلبي تخرجلي على نقالة يا حضرة الظابط!! أي قوة هقدر أتمسك بيها وابني وروحي بينازع تحت المية!!
وألقنه نظرة غائرة جعلت مراد القوي يلتمع الدمع بعينيه، بينما الاخر يشير له على الدماء:
_كان بيحاول يخدم شباب بلده، في الآخر ده يكون جزاته؟؟ رد عليا ده التمن اللي المفروض يدفعه!!
تحرك آدهم عن محله وهو يزيح دموعه التي تدفقت منذ لحظة علمه بما حدث، لقد مرت الساعات عليه ولم يتوقف عن الدعاء، يتمنى من كل قلبه أن يخرج سالمًا من المياه بالرغم من صراحة السباحين والفريق من أمامه، كونه فردًا منهم، آزاح دموعه، وبصوتٍ متحشرج هتف:
_علي أنا متفاهم حالتك كويس، من فضلك حاول تهدى وتتماسك، إن شاء الله هنلاقيه وهيكون كويس!
استدار يتطلع تجاهه، رؤية وجهه الحزين، وعينيه المتورمة من البكاء كانت تكذب كل حرفًا يتفوه به، تدفقت دموع “علي” بانهيارٍ، لحق نبرته المتقطعة:
_أهدى إزاي يا آدهم!! أنا موت ابويا مكسرنيش، نظرة الخوف في عين عُمران هي اللي قوتني، كنت بقوتي عشان أسند ضعفه، مسكت ايده عشان أعدي بيه، وسحب هو كفه مني من نص الطريق!! قولي أي قوة هقدر أكمل بيها من غيره!!
خرج إثنان من السباحين، يقترب إحدهما من الجوكر، الذي ابتعد عن آدهم وعلي، استمع بوضوح لما أخبره به المجموعة الاخيرة، وهز رأسه بآليةٍ تامة، وحينما استدار ليعود إلى محل “علي”، وجده يقف خلفه، يتطلع له وهو يحول ان يتمسك بقوة هادرة عنه:
_قالولك أيه؟
تنهد” مراد” بحزنٍ، وقال:
_أكتر من ست سباحين نزلوا على تلات مجموعات، دوروا في كل مكان وللأسف مالوش أي آثر.
ابتلع غصته المؤلمة، وتمسك بقوته الواهية:
_وده معناه أيه؟
قدر مراد حالته، بل ازداد شفقة عليه، بينما يجيبه:
_عمق المية هنا كبير، جايز مش قادرين يوصلوله، وجايز يكون المية حدفته لمكان أبعد من هنا، ولو ده حصل ففي خلال تلات أيام هيآآ..
ابتلع باقي جملته بمنتهى الآسف والحزن، بينما يراقبه “علي” ودموعه لا تتوقف، بل رد وقال ببسمة شملت ألم عتيق:
_وانا مش هستنى تلات أيام عشان أدفن أخويا.
واستطرد وهو يزيح دموعه:
_ثروتي كلها هسخرها لأي سباح شاطر يقدر يطلع أخويا من هنا، حتى لو اضطريت أنزل بنفسي.
وتركه واتجه جانبًا جاذبًا هاتفه، يطلب شركة سباحة ماهرة، ساند أحد الضباط آدهم لمحل وقوف علي، استمع لنص المكالمة وهو يحاول ان يحجب صوت بكائه، وانتظر حينما انتهى ثم حرر صوته:
_علي، مفيش أمهر من الفريق اللي نزل، مراد باشا هيكلف مجموعة تانية هتوصل الفجر هنا، يمكن يقدروا يلاقوه.
وأضاف ببكاء تحرر رغمًا عنه:
_لو كنت ببصري كنت نزلت بنفسي ودورت عليه، بس انت عارف إني فرحان انهم مش لاقينه، يمكن يكون حي!
اقترب منهما مراد، وقال ليبث الأمل بقلب علي:
_إحنا ماشين ورا كل الاحتمالات، فريقنا بيدور بكل مكان، واي دليل صغير هيأكدلنا إنه عايش هنمشي وراه.
استدار إليهما علي، فظهرت عينيه الحمراء بوضوحٍ، تطلع تجاه الجوكر وقال برجاءٍ حطم قلبهما:
_أنا عايز أخويا يا مراد، لو حي رجعهولي، ولو ميت عايز أكرم مثواه.
قالها وجسده ينتفض بشكلٍ جعل من حوله يرتاب لأمره، فسانده مراد وهو يتساءل بفزع:
_مالك يا علي؟
أبعده برفقٍ، وهو يخبره:
_أنا كويس.
وتركهما ودنى لآخر الجسر، حيث بقعة الدماء المنسكبة، راقبها بقلبٍ مكلوم، وبكائه يتحرر بعيدًا عن مسمع الجميع، بينما يردد بصوتٍ ضعيف:
_ليه تعمل فيا كده يا عُمران؟ هان عليك أخوك!!
تدفقت دموعه كالبركان الساخن، بينما يهتف مستنكرًا فعلته الاخيرة:
_كنت حاسس وبتودعني!! يا ريتني ما خليتك تمشي ولا تسافر، يا رتني كنت بدالك يا حبيبي!
وفجأة سقط أرضًا على ركبتيه ويده تلامس دماء أخيه وقد حرر ما احتبس داخله وهو يصرخ بجنون:
_عُمـران!!
رفع كفه الممتلئ بالدماء يقربه منه وهو يتآوه بصوت مزق القلوب، وفجأة سكنت حركته حينما خر فاقدًا للوعي جوار بركة الدماء، والجميع يهرول من خلفه إليه!!!
*******
طرق على الباب بيديه معًا، ودموعه تغرق وجهه، بينما عقله يصدق ما استمع إليه، مال يستند على ذراعه، وصوت بكائه يتحرر بشهقاتٍ خافتة.
هرول “سيف” لباب شقته، وهو يرتدي تيشرت منامته بقلقٍ، من هواية الطارق بذلك الوقت المتأخر من الليل، فتح الباب ليتفاجئ بآيوب ينحني على الحائط ودموعه تتساقط بانهيارٍ، جعله يهرع إليه فزعًا:
_آيـــــــوب!!!!
التقطت آذنيه نداء رفيقه، فهرول إليه يهتف دون ترتيب:
_انا عايز دكتور يوسف يا سيف، مش عارف اوصله نهائي!
فزع لهيئته وبكائه الشديد، فصاح متلهفًا:
_مالك يا آيوب، وعايز يوسف في ايه؟
رد عليه وقد انهال بالبكاء كالصغير:
_الفيسبوك مقلوب كله على عُمران، بيقولوا إنه عمل حادثة ومات! انا مش مصدق الكلام ده، بس عدم رد دكتور علي وجمال عليا، مأكدلي إن عمران مش كويس، شوفلي دكتور يوسف يطمني بالله عليك.
اتسعت مُقلتي “سيف” بصدمةٍ، بل نطق بعزيمة:
_ده خبر فيك، عُمران محصلوش حاجة، إنت عارف آن الناس ما بتصدق تعمل التريندات دي عشان تلم لايكات وريتش عالي.
بكى بصوتٍ مزق قلب رفيقه، وهتف إليه:
_ريتش أيه يا سيف، الدنيا مقلوبة! يونس وإيثان معايا تحت ومعاهم موقع الحادث في آسيوط، احنا هنطلع على هناك وهنطمن بنفسنا.
أوقفه سيف وقد انهمرت دموعه رغمًا عنه، ذاك الطاووس الذي تفنن بجعله رجلًا يعلم كيف يسترد حقه، بل وجعله رقيق المعامله مع زوجته في حين أنه يمتلك قوة أخذان الحق من عين صاحبه، أمسك كفه وقال بتوترٍ:
_انا جاي معاك يا آيوب، هغير هدومي وجاي.
وعاد يشدد عليه بارتباك:
_بلاش تقول ليوسف حاجه، أخويا هيموت لو عرف!
اكتفى بايماءة من رأسه، وجلس على الدرج يبكي كالطفل الصغير وأخر جملة قالها عُمران تتردد إليه
«_وأنا عمري ما أستغنى عنك يا آيوب، أوعدك المرة الجاية هتكون معايا.»
سحب سيف ثيابه بعشوائية، وعينيه تغرقها الدموع، فاذا بزوجته تجذب مئزرها وتنهض إليه متسائلة بقلق:
_مين اللي على الباب يا سيف؟ وإنت بتلبس ورايح فين؟
أجابها وهو يغلق قميصه:
_ده آيوب يا زينب، بيقول ان عُمران عمل حادثة على الطريق، ربنا يستر!
جحظت عينيها في صدمةٍ، ووجعًا اعتصر قلبها، ذلك الشاب المهذب لم ترى منه الا كل خيرًا، لما يطالعها يومًا بنظرة متدنية، بل لاقت منه كل احترامًا، لم تنسى يوم دفاعه عنها قبالة يمان اللعين.
افاقت من شرودها على خروج سيف من الغرفة، هرولت من خلفه تتمسك بذراعه، فتفقد باب الشقة وهمس لها:
_ارجعي أوضتك يا زينب، آيوب بره مينفعش يشوفك بالشكل ده!
تراجعت للخلف وهي تخبره:
_انا هروح لفاطيما.
رد عليها بعجلة:
_تروحي فين الوقت متاخر!!
أخبرته برجاءٍ:
_هخلي عم سعيد يوصلني، ما أنا بكلمه وبركب معاه في أي مشوار.
أومأ برأسه على مضضٍ، وخرج يبحث عن آيوب، فوجده يجلس أرضًا، وما كاد بالاشارة له، حتى تفاجئ بيوسف يخرج من شقته!
اقترب إليهما “يوسف” بدهشةٍ، أوحت له حينما تساءل:
_سيف!
ارتعب من رؤيته، ووقف قبالة آيوب الباكي، يمنع يوسف من رؤيته، وبعدما تفحص ملامحه الهادئة تيقن عدم معرفته بالامر، فسأله بهدوءٍ يجاهد إليه بصعوبة:
_يوسف! إنت رايح فين دلوقتي؟
حاول الوصول بنظراته لآيوب القابع من خلف سيف بشكٍ من أمرهما، بينما يجيب:
_جالي مكالمة من المركز، في حالة ولادة مستعجلة.
هز سيف رأسه، وعينيه تتخفى عن آعين اخيه، فما أن قبض عليه حتى رأى آثار الدموع بوضوحٍ، فدفعه عن آيوب ورأى حالته أبشع من أخيه!
وزع نظراته بينهما، وتساؤل في ريبة:
_في أيه؟!! انتوا اتخانقتوا تاني ولا أيه؟؟؟؟
كان أكثر ما يخشاه في تلك اللحظة هو أخيه، فجاهد ليجيبه باتزان:
_أنا غلطت في حق آيوب ، انزل انت المركز ومتقلقش أنا بحاول أصالحه.
استشف كذبه النابع من عينيه، الاحمق يظن أن كذبته ستمر على أخيه!
قطع الحديث المتبادل صوت إيثان الباكي:
_وصلت لحاجة يا آيوب!
اتجهت آعين يوسف لإيثان الواقف على الدرج، بينما عاد ببصره نحو أخيه الذي انهمرت دموعه تفضح أمره، فصاح بقلقٍ متضاعف:
_قولولي في أيــــــــه؟؟؟
واستدار تجاه الاخير مرددًا:
_قولي انت يا إيثان!
أزاح إيثان دموعه التي أغرقت وجهه، وقال بصعوبة:
_الخواجة عمل حادثة كبيرة على طريق آسيوط يا دكتور.
عبس بعينيه بدهشة يحاول التشكك بأمرها:
_الخواجة مين!!
وردد بصدمة، كادت بأن تسقطه بمحله:
_إنت تقصد عُمــــــــران!!!!
*******
فتح عينيه ودموعه تنزف، كان فاقد للوعي ولكن عقله لم يتوقف عن التفكير لثانية، كان يشعر بكل شيء حوله، المحقن الذي يندس بوريده، صوت بكاء آدهم، أصوات الفريق الملتف من حوله.
سحب بصره المسلط اعلى سقف سيارة الاسعاف الموضوع بها، والتي لم تتحرك من محل الواقعه، بعد ان تأكد فريق تمريض السيارة بأنه لا داعي لنقله للمشفى، وأكدوا بأنه سيسترد وعيه خلال عشرة دقائق.
ترك علي السيارة وهبط يتأمل المكان، حتى عثر على مراد، فاتجه إليه، سبق الجوكر حديثه حينما قال:
_بقيت أحسن دلوقتي؟
تغاضى عن سؤاله، وسأله بثباتٍ مخيف:
_وصلتوا لحاجة؟
هز رأسه في آسفٍ وقال:
_لسه يا علي، إن شاء الله يكون نجى منها ونقدر نوصله.
هبط آدهم من السيارة خلفه، فاستمع لحوارهما، بينما يرمش “علي” بأهدابه مطولًا، وتعلق بزرقة عين مراد ليلقط أي إشارة كاذبة باجابته على سؤال طرحه بقوة رجلًا:
_في أمل إنه يكون عايش بوقوعه من مكان زي ده!
خشى آدهم من آجابة الجوكر، فتدخل قائلًا:
_علي آآ.
قاطعه علي بحزمٍ:
_آدهم من فضلك!
وعاد يتطلع لمراد هادرًا:
_منتظر اجابتك يا مراد وبمنتهى المصدقية.
تنهد بحزنٍ غام بمُقلتيه، واجابه بصدقٍ وبتحليله الدقيق:
_المكان عميق بس فرصة نجاته معقولة منها ده لو كان سليم يا علي، صاحبه اللي كان معاه بيأكد إنهم ضربوه بسكينة قبل ما يرموه، يعني ده ممكن يقلل نسبة نجاته، وبالنهاية محدش فينا يقدر يتوقع المكتوب، لو ربنا كاتبله النجاة هينجى منها حتى كانت فرصته بالنجاة واحد في المية.
تهدل رأسه فوق أكتافه، بينما يتعمق الجرح داخل صدره بشراسةٍ، ترك العنان لدموعه بينما يشد آدهم من ذراعه هادرًا بتأثرٍ وقد بح صوته:
_عندي أمل إنها مش نهايته، عُمران قوي وهيعدي منها بإذن الله.
مال على ذراعه، وردد بخفوتٍ تام:
_أنا أكتر واحد بيتمنى إنه يكون حي يا آدهم، أنا مش عايز غير إني أضمه في حضني حتى لو كانت للمرة الاخيرة.
وتابع وآدهم يشعر بدموعه الساخنه تغرق قميصه:
_ أنا أول مرة أحس إن قلبي مطعون وبينزف، حاسس إني عايز أضغط على السكينة عشان تريحني من عذابي بدل ما هي متشعلقة في قلبي وسايباني بعاني.
وأضاف وهو يرفع رأسه إليه، شاكيًا:
_أنا مش هقدر أواجه فريدة هانم، ولا شمس ولا مايا!!!!
عند نطق إسمها، صاح بصدمة:
_مايا!! مايا هتموت لو عرفت! لأ مش لازم تعرف، لو جرالها حاجة هتحرم من أخر شيء من ريحة أخويا، ابنه!!
وكأن ذاكرته تتجدد بكل العثرات القادمة، فانهمر ببكاء مزق قلب آدهم، وهو يصيح بانكسار:
_ده ملحقش يفرح بابنه ويشيله بين ايديه!! يا وجع قلبي العمر كله عليك يا حبيب قلب أخوك! يا ريت بايدي الاختيار كنت فديتك بروحي!
جلس على الحجارة من خلفه، وهو يحاول السيطرة على ذاته، فاذا بسيارة إيثان تصطف جوار الازدحام، وسيارة سيف من خلفها، حيث يجلس يوسف جواره عاجزًا حتى عن الحركة.
اندفع آيوب من بين الزحام، قاصدًا علي وأخيه، وما أن وصل إليه حتى ردد ببكاء:
_الاخبار اللي نزلت دي صحيحة يا آدهم؟؟ عُمران جراله أيه؟؟
حاول آدهم تهدئة أخيه ويونس وإيثان يحاولان السيطرة عليه، ولكنه كان ينهار بصوتٍ زاد من آنين علي، فقرر الابتعاد عن المحيط، لا يحتمل بكائه، فاذا به يقف وجهًا لوجه أمام يوسف، الذي يطالعه بعينين دامعتين، تأبي تصديق تلك الاشاعة، وبمنتهى الاتزان قال:
_أنا مصدقتش ولا حرف من اللي قريته، قولي حالًا الوقح فين عشان أربيه على الرعب اللي سببه لآيوب وسيف ده؟
تحررت دمعة عن عيني علي، ذاك الرجل الذي عهد عنه الصبر ونبل الاخلاق، يتهاوى خلف أحزانه لمرته الاولى، رؤية يوسف لدموعه، جعلته يثق إنها لم تكن إشاعة، انتابه دوار عنيف، دفعه للخلف فاحتواه سيف الذي أمسك بدموعه بصعوبة، بينما يدفعه يوسف للخلف ويدنو من علي، يقبض على جاكيته الاسود يحركه بين يديه بعنف:
_علي إنت طول عمرك عاقل، أوعى تكون مشاركه في اللعبة دي، صدقني مش هكلمك تاني وهفسخ شراكتي معاك بالمركز، عُمران المرادي اتمادى أوي! أنا بسبب رعبي عليه سيبت المريضة مرمية بالمركز وجيت جري، مكنتش قادر أسوق أصلًا!
وتابع وهو يوزع نظرانه على المكان بأكمله؛
_فين جمال؟ هو كان معاه وهيقولي الحقيقة!
بكى علي وهو يرى عيني يوسف تكاد تختلجان من محلهما فور أن لمح جمال يجلس بزواية منعزلة، يضم جسده ويبكي بانهيار، شحب وجهه، بينما يخبره علي:
_ياريتها كانت لعبة، يا ريته كان بيمثل عليا، كنت هتهاون عن كل وجعي وهخده في حضني، والله ما كنت حتى هعاتبه! بس دي الحقيقة يا يوسف، عُمران كان بيودعنا كلنا من غير ما نحس بيه!
صرخ فيه بجنون وقد انهارت دموعه:
_لأ، لأ عُمران عايش، دي تخاريف..
ودفعه وهو يتجه لجمال، انحنى قبالته وهو يهزه بعنف هو الآخر:
_جمال عُمران فين؟ بالله عليك ترد عليا إنتوا عاملين فينا مقلب صح؟ دي حركة من حركاتك إنت وهو؟؟ بالله ترد عليا!
رؤيته إليه جعلته يرتمي على صدره يبكي بانهيارٍ، وهو يهتف بوجعٍ:
_قتلوه ورموه قدام عنيا يا يوسف! عُمران مات!
سقط به أرضًا بعد أن فقد توازنه كليًا، ودموعه تتساقط بينما يديه تضم جمال بوجعٍ، بقى سيف محله يتابع أخيه بألمٍ، يرى يوسف القوي تنهار حصونه للمرة الاولى، بينما من أمامه “علي الغرباوي” المثال الأول يينهم للرجل المثالي، المتزن، يبكي بوجعٍ أوجع قلبه، ومن يساره ينهار آيوب متعلقًا بآدهم أخيه، حتى يونس يحاول السيطرة عليه، وذاك المسيحي الذي جمعته صداقته به لمدة لا تتعدى الشهرين يبكي من قلبه، تأثر سيف كثيرًا ووجد ذاته يبكي مثلهم، وقد انقلب موقع الحادث لمشنة حزن، لأفضل الرجال، يبكون من قلبهم على شابًا زرع الفضول بقلوب المحيطين لمعرفة ماذا فعل هذا لينال حب هؤلاء؟
*****
أرشدها الخدم لغرفة شقيقتها، دقت دقتين، فاذا بها تفتح بابها والدموع تغرق عينيها، بينما تتمسك بيدها بهاتفها، تحاول التأكد من زوجها عن ذلك الخبر.
تأكدت فور ان رأت زينب قبالتها بوقتٍ متأخر، كذلك، اندثت بأحضانها وهي تبكي بقهرٍ، بينما تربت زينب عليها وهي تشاركها الدموع، بينما تردد فاطمة بانهيار:
_الخبر مطلعش كدب يا زينب، عُمران مات!
******
بجناح “فريدة”
كان تقلب بالتلفاز بمللٍ، لقد جفاها النوم منذ ساعة، فتركت الفراش لزوجها واتجهت للصالون الخاص بجناحها الواسع، جلست تقلب بالتلفاز، حتى وجدت ذلك الخبر الذي جزعها جزعًا، فقد كانت المذيعة تردد
«نحن في انتظار اي إشارات أو مستجدات قد تكشف مصير رجل الأعمال الشاب وسنوافيكم بالتفاصيل أولا بأول الأنظار الان متجهة إلى قوات البحث وإلى من تبقى من دائرته المقربة بحثا عن جثمان الفقيد، ولا تزال فرق البحث والإنقاذ تواصل عمليات التمشيط المكثفة في محيط الحادث الذي تعرض له رجل الأعمال الشاب عمران سالم الغرباوي خلال طريق عودته من مؤتمر صحافي أُقيم بأسيوط، وبحسب مصادر أمنية،تأكد لنا أنه تم فقدان السيطرة على السيارة، فسقطت من أعلى جسر قيد الإنشاء وسقط من ارتفاع شاهق في ظروف لا تزال غير واضحة،و لم توكد السلطات ما إذا كان الحادث ناتجا عن خلل فني أو عمل مدبر خاصة في ظل تصاعد التساولات حول توقيته الغامض وتزامنه مع توسع نشاط رجل الأعمال الراحل في السوق المصري ملابسات اختفاء عمران الغرباوي قيد التحقيق وسنوافيكم باي مستجدات حال ورودها ابقوا معنا»
نهضت عن الآريكة تبعد خصلاتها للخلف وهي تهتف بجنون:
_وفاة مين!! أيه الهبل ده؟ ازاي يتكلموا عن ابني بالشكل ده!! ده أنا هوديهم في داهية.
حررت الاتصال برقم عمران، كان يعطي رنينه دون أي اجابة منه، فابعدت الهاتف وهي تردد بقلق:
_مبيردش ليه!!! هشوف علي؟
اتصلت بعلي، فلم ياتيها أي رد، ألقت الهاتف من يدها وقد اعتصر قلبها بشعورٍ قبض روحها معه، استندت على الطاولة حينما شعرت بضعف بنيتها، وبشحوب تام نادت زوجها:
_أحمد!
كان يبعد عنها مسافة طويلة، فاذا بها تصرخ ببكاء:
_أحمـــــــــــــد!
انتفض بمنامته يبحث عنها، وجدها تنحني فوق الطاولة الزجاجية،واتفاسها تغدو بطيئة، صعق أحمد من رؤيتها بتلك الحالة، ظنها تقدم على موعد الولادة.
ساندها بكل قوته، وهو يهتف بقلقٍ:
_مالك يا حبيبتي، حاسة بأيه؟!
أستندت على ذراعيه، وشهقاتها تتحرر بآلام أمًا ذُبح فؤادها:
_ابني يا أحمد، ابني!!
زوى حاجبيه بعدم فهم، لقد أكد الطبيب بأنها تحمل بأنثى، أتعني علي! أم عُمران؟!!
مالت إليه تجذب الريموت المتحكم بالتلفاز، قلبت لقناة آخرى فاذا بالخبر يُعاد من جديد، تجهمت معالم أحمد غضبًا وصاح:
_خبر مزيف طبعًا كعادتهم مفيش وراهم غير كده، بس وحياتك عندي لأوكل محامي عندي يرفع عليهم قضية، هدفعهم تمن خضتك دي غالي أوي.
هزت رأسها ببكاء وهمست له:
_مبيردش عليا ولا علي كمان بيرد، قلبي مقبوض يا أحمد، ابني فيه حاجة!
وتعلقت بقميصه ، تترجاه بتوسلٍ:
_أنا عايزة أكلم عُمران، وحياة غلاوتي عندك هاتلي ابني!
ضمها إليه بألمٍ، وهو يؤكد لها:
_متخافيش يا فريدة، عُمران بالمؤتمر الصحفي وأكيد زمانه على رجوع، وعشان تتطمني أنا هكلمه.
وسحب هاتفها الملقي أرضًا يعيد الرنين مجددًا، مرة تلو الآخرى.
****
صمد هاتف عُمران أسفل المياه لجودة نوعه الباهظ، فإذا به ينير بالسيارة الموضوعه جوار الجسر، بعدما نجحوا بانتشالها، وها هو الشرطي يقدم الهاتف لعلي الذي حمله بأصابع مرتشعة، وقلبًا دامي لم يعد قابل حتى للنبض.
يرى بعينيه رقم والدته، وإسمها المدون بيد أخيه بالانجليزية «برنسس عيلة الغرباوي» ، انسدلت دمعاته وخانته، ابتعد عن الجمع يضع الهاتف نصب عينه وهاتفه جواره، كانت زوجته ترن على هاتفه، ووالدته على هاتف أخيه.
شدد على خصلاته وهو يبكي دون توقف، فاستمد نفسًا طويلًا ورفع رأسه للسماء هادرًا:
_قويني يا رب، أنا ماليش غيرك، قويني عشان أقدر أكون سند وعون ليهم من بعده!
أزاح دموعه وجذب هاتف أخيه، يحرر زر الاجابة فاءا بفريدة تناديه بلهفة الكون بأكمله:
_عُمـــــــــــران، حبيبي انت كويس يا روحي!! طمني عليك!
كبت شهقاته بصعوبة بالغة، وأجلى صوته الثابت:
_فريدة هانم.
رددت بخيبة أمل، ورعب اجتاحها:
_علي! أخوك فين يا علي؟ وأيه الاخبار المنتشرة دي؟!!!
ضم شفتيه معًا يحتجز بهما شهقاته، ورد باتزان:
_دي اشاعات فارغة، أنا هخليه يكلمك بس هو مشغول دلوقتي.
وقبل أن تطرح تكذيبًا لأقاويله، قال:
_أنا عايز اكلم عمي، محتاجه في حاجة من فضلك.
رددت بغضب:
_طمني على أخوك الأول وبعدين كلم أحمد!!
شعر، أحمد بوجود شيئًا ما، فجذب الهاتف منها وقال بمراوغة:
_ما خلاص يا فريدة الولد طمنك، ارتاحي إنتِ وأنا هكلمه وهرجعلك تاني.
وبالفعل التقط الهاتف وخرج بعيدًا للشرفة، يغلق السماعة الخارجية:
_معاك يا علي! الكلام اللي قولته مدخلش عليا!
وصل إليه صوت بكاء علي، فارتكن احمد على السور الحديدي وردد بصدمة:
_علي!! متكدبش عليا أخوك ماله؟؟؟
بكى كأنه يرى ذاته بأحضانه، كأنه يشعر بيديه تحاوطه، وبعجز قال:
_معرفش! الخبر اللي سمعتوه صح، و لحد اللحظة دي أنا وأصحابه قدام الجسر، ومش عارف أخويا عايش ولا ميت!
تساقطت دموع أحمد رغمًا عنه، وهمس بوجعٍ:
_حي يا علي، عمران ابني حي، أوعى تحط احتمالات تانية غير دي، أنا جايلك حالا.
_لأ أوعى يا عمي، عشان خاطري حاول تبعد ماما عن القصر، حاول تبعدها هي وشمس عشان مايا متعرفش حاجه أنا كلمت فاطمة وقولتلها تبعد الفون وتمنعها من التليفزيون لحد ما نلاقيه، بالله عليك خليك جنب أمي ملهاش غيرك دلوقتي، انا هبلغك لو جديد.
عاتبه ببكاء:
_مش هقدر أكون هنا وأسيبك لوحدك يا علي، أنا حاسس إني هتجنن ومش قادر أتقبل اللي بتقوله، ازاي عايزني أصدق إن ابني مات بالبساطة دي، لا عُمران عايش وهيعدي منها، ولو معملش كده هذله ليل نهار بالاوزان اللي بيتباهى إنه بيشلها.
واستطرد بابتسامة يتبعها وابل من الدموع:
_ده بيرفعني كأنه شايل ريشة، بتستهبل إنت!! ابني حي.
أبعد الهاتف عنه يكبت عن عمه بكائه الشديد، بينما ينشطر قلب أحمد لسماعه شهقات علي مهما حاول كبتها، فقال بانهيار:
_مش هتحمل أسمعك بتبكي يا علي، ولا عُمران هيتحمل يشوفك كده، ده بيستقوى بيك طول عمره، إنت شايفني أب ليك وهو شايفك أنت الأب، إجمد يا علي عشان خاطره هو يا حبيبي!
بكى وهدر بانكسار:
_آه من وجع قلبي عليه يا عمي، مش قادر اخد نفسي، حاسس أن روحي هي اللي بتنازع مش هو! إدعي ربنا يرده ليا، ضهري لو اتكسر بيه هعيش طول عمري محني!
آزاح أحمد دموعه حينما وجد فريدة تقترب منه، تحاول التلصص عليه، وقال ببسمة كاذبة:
_خلاص يا وقح مدام مشغول هنكلمك وقت تاني، أنا غلطان أساسًا إني خربت الليلة عليك، يلا من غير سلام.
اغلق الهاتف واستدار لفريدة يخبرها بايتسامة زائفة:
_شايفة ابنك بيتواقح عليا ازاي يا هانم، قولتلك ألف مرة دوسي شوية في تربيته.
قرأت كل ما أخفاه بعينيه، وبقوتها المخادعة أخبرته:
_عُمران جراله أيه يا أحمد؟ علي مكنش معاه وفجأة يرد على تليفونه!
أجابها وهو يلف ذراعه من حولها:
_مفيش يا حبيبتي، علي راحله على طول عشان يكون جنبه بالمؤتمر.
هتفت باستنكار:
_ومن امته علي بيحضر مؤتمرات لعمران؟!
واجهها بنظرة مخادعة وهدر إليها:._وبعدين يا فريدة تعبتيني معاكِ هو إنتِ آآ..
انفتح باب جناحها وهرولت شمس إليها تصرخ بجنون:
_مامــــــــي، عُمران!!!
ركضت إلى أحضانها تبكي بكاء هيستري، فتلاشت محاولات أحمد وباءت بالفشل، بينما تهتف شمس بانهيار:
_قريت الخبر من على النت، وآدهم مش موجود، لما كلمته عرفت انه هناك ومقدروش لسه يلاقوه!!!
مالت على كتف فريدة تبكي، بينما الاخيرة تتطلع للفراغ بصدمة.
ركض أحمد يغلق باب الجناح، وعاد لشمس يخبرها برجاء؛
_شمس عمران عايش صدقيني، اهدي عشان مايا، لو سمعتك هتموت فيها هي واللي في بطنها.
وأضاف ليتمكن منها:
_يرضيكي أخوكي يرجع ويتفاجئ بخير زي ده.
هزت رأسها بالنفي، بينما يتابع فريدة بنظرات قلق، حاصرها بجسده وقال بهدوء:
_فريدة كل ده كدب، عمران كويس وهيرجع.
مالت على كتفه تردد بهمس خافت:
_ابني!
وأغلقت عينيها تنصاع لغشاوة سوداء تقتحم عالمها، فاذا بزينب تطرق باب الجناح، لتطمئن على شمس، فقد رأتها وهي تهرول من سيارتها باكية، فعلمت بأنها علمت بالامر.
أسرعت اليهم تعاونهم على وضعها بالفراش، ثم انحتت تتفحص نبضها، وتبذل قصارى جهدها لتجعلها تستعيد وعيها.
*******
مازال أمر بقاء فاطيما برفقتها مريبًا لها، وبالاخص بوقتٍ كذلك، راقبتها وهي تصنع كوبان من العصير وتتجه إليها وهي تبتسم بصعوبة:
_وادي يا ستي أحلى كوبيتين عصير لأجمل مايا بالدنيا كلها.
راقبت ما بيدها، والتقطته ترتشفه بتلذذ:
_طعمه تحفة يا فاطيما، تسلميلي يا حبيبتي.
وأضافت بشك:
_بس غريبة انك تكوني صاحية في وقت زي ده، انتي بتنامي بدري يعني!
وضعت الكوب وراقبتها بارتباكٍ:
_مفيش أصل علي نزل المركز واتاخر برجوعه وأنا خايفة انام لوحدي، فأول ما لقيت نور أوضتك منور قولت أجي أسهر معاكي.
ابتسمت لها بحب:
_خير ما عملتي، كنت قاعدة زهقانه والله، وبرن على البشمهندس المحترم وكعادته مطنشني.
حزنت لاجلها وهتفت بثبات:
_معلشي يا حبيبتي هتلاقيه مشغول، ما أنتِ عارفة شغله صعب أد ايه.
هزت رأسها بخفة وقالت:
_هقوم أشوف موبيلي فين هرنله مرة تانية يمكن يرد.
انقبض قلب فاطيما، وخاصة بأنها تخفي هاتفها بجيب بيجامتها، فأوقفتها قائلة:
_على فكرة انا كنت بكلم علي من شوية وقالي ان عمران لسه بالمؤتمر، فأكيد مش هيقدر يرد عليكي، وبعدين أنتي من ساعة ما جتلك وانتي عايزة تتهربي من قعدتي بأي شكل، خلاص يا ستي هروح أنام بجناحي وانتي كلمي البشمهندس بتاعك براحتك، بس افتكري أنك بتطفشي اللي بيحبك وبتعبري اللي مش معبرك.
ضحكت على اسلوبها الغامض، وعادت تجلس محلها قائلة:
_أيه ده كله، إنتي فاكراني الدكتور علي وبتحاولي تلفيني يا فطيمة، اتطورتي أوي ما شاء الله.
ضحكت بصعوبة وهي تخبرها:
_لازم نتطور ولا نسيب الدوك يبص بره بقى؟
انهارت بنوبة من الضحك وقالت بسعادة:
_لا عندك حق، انتِ الظاهر شغلك مع عمران خليكي جريئة واديكي قوة أسد اللهم بارك.
وخز قلبها بقوة، وكادت ان تنفلت دموعها على شقيقًا لم تكتسبه يومًا، فكان هو أفضل شقيق وصديق لها، ولكنها وضعت كل حزنها جانبًا وسحبتها بمرحها حتى غفت جوارها على الفراش، بينما لم يزور النوم جفن فاطمة، التي انتزعت حياتها فور ان استمعت لصوت علي الباكي، تتمنى لو كانت جواره تشاركه حزنه وتضمه إليها!
******
الثامنة صباحًا.
أخر فريق سباحين يخرجوا من المياه، بفشلٍ جديد، ونهاية وضعت لكل تلك الجهود المبذولة.
انتفضت الساحة من الجمع، ولم يتبقى الا أصدقائه وشقيقه، يجلسون أرضًا ودموعهم لم تجف عن وجوههم، بينما يختزل كل ما بُذل بجملة تحررت لهم جميعًا:
_قعدتكم هنا ملهاش لزمة، للاسف مش قادرين نوصل لحاجة ومفيش قدامنا غير الصبر!!
*******
بعيدًا عن آسيوط، بإحدى قرى الصعيد، كانت المستشفيات الداخلية للقرى، تعج بعدد مهيب من الحضور، إنقلبت أجواء الصعيد رأسًا على عقب، بعد أن زاع انقلاب باص ضخمًا يحمل عدد من المعازيم لاحدى الافراح الشعبية، والذي كان يتمايل على الطريق العام انصياعًا للمهرجانات الشعبية، أثناء زف سيارة العروس، فاصطدمت سيارة العريس بالباص الضخم، وسقطوا معًا بالنعر محدثًا اصابات بالغة.
نتج عن الحادث بعيدًا عن وفاة العروسين، وفاة خمسة من المعازيم، وإصابة تسعة عشر فردًا، توزعت اعدادهم على المستسفيات الداخلية للقرى باصاباتٍ مآساوية.
ومن بين تلك المستسفيات، كانت مشفى بسيط ضمت ثمانية من الحالات المتعسرة، فركض أفراد التمريض لنجدة الحالات المستقبلة، والاستقبال في حالة فوضوية لعدم تعارفهم على أحدٌ من المصابين، فاذا بالممرضة تهدر للاخرى بحزن:
_طيب هنسجل بياناتهم ازاي دول؟ دول اغلبهم معمهش أوراق ولا بطايق!
اجابتها بشفقة وحزن:
_يعني مين هيهتم يأخد بطاقته وهو رايح الفرح يا سهير! لحد الآن في ٥حالات وفيات، رجلين وتلات ستات، وال٨ اللي اتحولوا المستشفى علينا، فيهم أربع حالات على التنفس وحالتهم شبه مستقرة، وفيهم واحد في العناية والتلاتة التانين مرمين في العمليات من ٦ الصبح.
وأضافت باستياء وحنق:
_ادى أخرة السنكحة والرقص بالعربيات على الرصيف، أقطع دراعي ان مكان السواق ده كان مبرشم، منه لله.
ردت الآخيرة بحزن:
_ربنا يلطف بينا يارب.
*****
أمام غرف العمليات.
خرجت الحالتين وانتقلت للعناية على الفور، وتبقى حالة وحيدة بداخل الغرفة، يجاهد الاطباء لانقاذه، وبصعوبة بالغة استقرت حالته نوعًا ما، فاذا بالطبيب ينزع كمامته ويرتكن على المقعد بتعبٍ شديد، وأشار للممرض الشاب:
_صابر جهز الحالة دي تدخل عناية مشددة، حالته احتمال تتدهور في أي وقت.
هز الشاب “صابر” رأسه في طاعة، وانحنى يجهز المريض من أمامه، فاذا بالطبيب الآخر يرنو إليه ويقول:.
_الحالة دي غريبة عن الحالات كلها يا دكتور ممدوح.
أجابه الطبيب باسترابة:
_مش فاهم!
رد عماد عليه:
_الحالات اللي جاتنا كلها كانت بتعاني من الغرق واصابات ناتجه من انقلاب الباص بتاع الفرح، لكن الحالة دي واخده طعنه بالكتف، والجرح العميق اللي في جنبه ده سببه اختراق شيء حاد، وكله كوم وإصابة رأسه دي كوم تاني، ده لو نفد منها هينفد بمعجزة.
انتاب الاخير الشك وقال:
_عندك حق يا عماد، بس ازاي اتعرض لطعنة وهو بالباص مع باقي المعازيم!
اجابه بحيرة:
_العلم لله، بس هو مش هيطول بحالته دي، أخره ٤٨ ساعة على الاجهزة.
رفع كتفيه وأجابه:
_العلم لله، هندخله العناية لحد ما أهله يتعرفوا عليه زي باقي الحالات.
دفع الممرض “صابر” الفراش، ونظرات الشفقة تغلف ذلك الشاب وخاصة بعد سماعه للحوار المتبادل، دفعه لغرف العناية، والتي يعمل بها بشكلٍ مستمر، نقله للفراش ووصل إليه الاجهزة، ثم وقف يطالعه بحزن، فإذا به يحاول فتح عينيه وصوت التآوهات تخرج عنه.
ابتسم صابر بفرحةٍ، وأسرع إليه يميل من فوقه:
_إنت كويس!!
أبصر عن رماديتاه الساحرة، يتطلع لمن يقابله بنظرةٍ لم تطول، ليغوص بعالمٍ أسود التهمه سريعًا، وصوت الاجهزة لا تنذر بالخير أبدًا.
ركض الطبيبان ممدوح وعماد إليه، يتفحصان أمره، وأعربى عما أصابه قائلان:
_دخل في غيبوبة، والله أعلم مؤقتة ولا دايمة!

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية صرخات أنثى)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *