روايات

رواية يناديها عائش الفصل الثاني والثمانون 82 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش الفصل الثاني والثمانون 82 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش البارت الثاني والثمانون

رواية يناديها عائش الجزء الثاني والثمانون

يناديها عائش

رواية يناديها عائش الحلقة الثانية والثمانون

اللهم إن الحزن قد فتت أكباد أهل غزة ومزق الهم أرواحهم، اللهم عجل بالفرج لهم و لجميع المسلمين في البلدان..
_________________
‏بالفعلِ لا بالقولِ تَعرِفُ وُدَّهمْ
‏ والفعلُ يكشفُ مُضمَرَ الأعماق . لقائلها.
~~~~~~~~~~~~
في بيت الجدة ” إخلاص ” التي سبقت أسرتها للدار الآخرة.. تجلس عائشة على الأريكة التي اعتادت جدتها الجلوس عليها لتقرأ في كتاب الله، و ” زين” استولى على فراش جدته، فاتجه ليتسطح عليه و عيناه الشاردة تحكي المآسي التي تداهم قلبه في صمت.. أما ” مفيدة” ظلت قابعة مكانها برفقة عائشة لحين عودة ولديها من السفر..
صوت طرقات على الباب أفاقت لها ” عائشة ” فنهضت سريعًا بقلب مترقب يخبرها أن الطارق “بـدر” و قبل أن تفتح له.. سبقتها مفيدة فكانت الأقرب للباب، و فتحت و دموع الفرحة تتجمع في عينيها رويدًا، متخيلة رؤية ” سيف الإسلام” وهو واقف على قدميه..
وقفت عائشة بجانبها؛ استعدادًا لمقابلة زوجها، و دلف ” بدر” يلقي التحية بابتسامة صغيرة تأدبًا للموقف و من بعده يدخل ” سيف” بَاسِم الثَّغر وَضَّاح المُحَيّا، ينحني ليعانق والدته القصيرة مقارنةً بقامته الطويلة مثل أخيه..
قال مبتسمًا بدموع:
” أنا بقيت بمشي يا ماما ”
” الحمدلله يا حبيبي.. الحمدلله يا ابني ”
قالتها الأم، وهي تربت على ظهره بحنان بالغ، ثم ابتعدت قليلًا تطالعه باشتياق من رأسه لأخمص قدميه، و قالت:
” ربنا يحفظك من كل سوء، و يبارك لي فيك أنت و أخواتك و كل عيال المسلمين يارب ”
” آمين ”
قالها الأخوان و عائشة التي ما إن رأت ” بدر” دست رأسها في منتصف صدره و احتضنته بقوة هامسة له بشوق و توق:
” كأنك بعدت عني سنين مش كام يوم.. ”
ابتعدت تتأمل ملامحه الرجولية السمراء بابتسامة العاشق الولهان، و تابعت الهمس:
” الفراق طلع صعب أوي يا بدر.. خصوصًا لو حد أنت بتحبه أوي و متعلق بيه، تيته راحت و خدت حتة من قلبي.. أنا قلبي بينزف بُكىٰ، بس بصعوبة تحكمت في مشاعري عشان أخويا زين.. زين صعبان عليا أوي يا بدر، هو أكتر حد اتوجع من فراق تيته.. حبيبي كانت هي الونس بتاعه ”
” و إحنا روحنا فين يا عائش.. إحنا كمان عائلته و مش ها نسيبه لوحده، و ربنا عوضه بأخت مفيش حد في حنيتها.. و أنا اوعدك إن أكون خير الأخ ليه ”
عادت تتوسط صدره بأريحية، فوضع قُبلة حنونة على رأسها ثم سألها عن ” زين” فأخبرته بتواجده في غرفة جدتهما طوال اليوم..
كان سيف منشغل في الحديث مع والدته بينما عائشة تستقبل زوجها، و عندما انتهى التفت لعائشة قائلًا بأسف:
” البقاء لله يا عائشة.. جدتك في مكان أحسن بإذن الله ”
هزت رأسها مبتسمة:
” يارب.. حمد الله على سلامتك ”
” الله يسلمك.. شوفي بقيت بعرف أقف على رجلي ازاي ”
قالها بلهجة بدت طفولية ما زالت تحتفظ ببراءة السنوات الأولى، فضحكت عائشة و أردفت:
” ربنا يتمم شفاك على خير، حافظ بقى على جلسات العلاج الطبيعي و بلاش تضغط عليها غير لما تخف خالص ”
هتف في حماس:
” لأ.. أنا بقيت بعرف أمشي و أجري كويس، يعني حالتي كويسة جدًا ”
تدخلت والدته لتقول بحذر:
” لازم تاخد بالك يا ابني.. إحنا في غنى عن أي حاجة لا سمح الله.. أعمل زي ما مرات أخوك قالت لك و التزم بالعلاج لحد ما تخف خالص إن شاء الله ”
” حاضر يا ماما.. بس هو أسبوع كمان بالكتير و أبقى أحسن من الأول كمان ”
” إن شاء الله يا حبيبي ”
” طيب هروح أنا عشان أحضر لكم الغدا ”
قالتها عائشة في ودٍ، و هي تتجه للمطبخ و بالطبع لم تتركها حماتها..
لقد ساعدتهما ” أم رحيم ” في إعداد الطعام و غادرت لبيتها.. لم يتطلب إعداد الطعام لخمس أفراد ثلاثة نساء، و لكن كان الحُزن ثقيل على قلب عائشة، فوقفت فقط تساعد بأي شيء خفيف، و أعدت ( أم رحيم) صينية أرز في الفرن بالسمن البلدي اللذيذ و اللبن.. كانت ستصبح حماة
“عائشة” لولا ستر الله و مجيء ” هلال الشباب ” في الوقت المناسب، و إني من أعماق قلبي أقول لو كانت تلك المرأة حماة عائشة؛ ستكون أطيب حماة.. يكفي أنها تطبخ الطعام بالسمن البلدي، و هذا ألذ ما في الموضوع كله.
أما ” مفيدة” أعدت صينية فراخ بالبطاطس
( أكاد أشم رائحتها الشهية من هُنا).. تلك الوجبة المفضلة لدى ” بدر ” و لدي.
توجه ” بدر” لغرفة الجدة لمجالسة ” زين ” و التخفيف عنه قليلًا.
كان ” زين” مُستلقيًا على فراشها، و يداه اليسرى على بطنه و اليُمنى و ضعها على رأسه بالمقلوب، أي على ظهرها.. كانت تلك نومته الطبيعية، فقد غفا و نامَ نومَةً خَفيفة من كثرة التفكير و الارهاق..
وقف ” بدر” يتأمل تلك النومةً المشابهة لنومة عائشة كثيرًا..
لم يكن ” زين” كثير الشبه بملامح عائشة، فقد ورث ملامحه عن والده، عدا العينان.. تلك العينان البنية و الرموش الكثيفة تعود لأخته غير الشقيقة
” عائش” أما بشرته الحنطية التي تميل للبني الفاتح، فقد ورثها عن جميع المصريين..
ثلاث أرباع المصريين يمتلكون تلك البشرة التي اكتسبوها من جميلة الجميلات ” الشمس” فيولد المرء مننا أبيض كبياض سنووايت، و عند البلوغ تبدأ الشمس في مغازلة بشرته و تترك أثار التصبغات اللونية عليها، فيصبح وجهه أسمر اللون و باقي جسده أبيض طوال فصل الصيف، و كذلك الحال في ( السعودية) الشمس هناك حارقة أكثر مما تظن.. تجعل المرء كأنه مزيج مُبهر من ( عنتر و عبلة) ليست
( عبلة كامل) و لكن ” عبلة ” الحسناء حبيبة عنتر.. و الله لا أعلم ما شكلها، و لكن جميع الروايات تحكي أنها كانت إمرأة فائقة الجمال..
ما علينا..
أما في الشتاء ينسلخ من شخصية ” بكار” و يعود لشخصية ” سنووايت ” و لا داعٍ للتركيز في تلك الجزئية، فلا أنت ستفهمني و لا أنا أفهم لماذا كتبت ذلك، ربما لأن بيني و بين الشمس علاقة عكسية.. لا يهم، دعنا نكمل..
أكثر ما يُميز هذا الشاب مليح القسمات، تلك اللِّحْيَةُ التي فِيهَا جَمَالًا كَامِلًا.. ليست بالطويلة و لا بالقصيرة، و لكن سُبحان الله أضافت لوجهه جاذبية خاصة.
ابتسم بدر ملء فمه مُتحدثًا في خفوت
” كأن عائش هي اللي نايمة.. ”
(بالطبع لا يقصد أن عائشة تمتلك لحية أيضًا، و إنما قصد نومته المشابهة لها..)
أخذ يهزه برفق و يهمس باسمًا:
” زين.. زين أنا بدر ”
تململ ” زين” و فتح عينيه البنية لتتضح صورة ذلك الأسمر البَشّ أمامه، فنهض وهو يحك شعره الناعم بنعاس ثم مد يده باسمًا
” حمد الله على سلامتك يا بدر ”
صافحه بدر، و شده إليه يحتضنه بلُطف مثلما يتعامل مع شقيقه سيف، ثم جلسا ليقول و يده تمسد على شعر ” زين” الثقيل بحنان كأنه يداعب طفل..
” ياريت تعتبرني أخوك الكبير مش مجرد زوج أختك و بس.. أنا عاوزك تاخدني كصاحب و أخ ليك.. ممكن ؟ ”
أخفض ” زين ” بصره بخجل و احمرت أذنيه كعادته عندما يشعر بالاحراج و الخجل، وعلم على الفور أن ” عائشة” هي من طلبت من بدر فعل ذلك، تساءل في عفوية غير قاصدًا لكلامه:
” بتشفق عليا ! ”
رمقه بدر مُتعجبًا و قد قوص حاجبه مُردفًا:
” ليه بتقول كده ! ما يجيش معاك إني بعتبرك أخويا ؟ ”
” أصل أول مرة حد يهتم بيا معنويًا ”
قالها بتعبير أسى تجلى واضحًا عليه، لقد عانى منذ طفولته من المعاملة الجافة.. لم يهتم به أحد عاطفيًا، فتعود على اظهار الملامح الجامدة دائمًا، و التي تأتي عكس شخصيته الداخلية تمامًا، بداخل ذلك الشاب التعيس.. شاب اجتماعي و مرح، و لكن الأيام لم تسعف على اظهار ما بداخله.
أنصت بدر إليه باهتمام، بينما هو يتابع بنبرة حزينة..
” أقول لك على حاجة يا بدر.. أنا عمري ما حسيت بمشاعر الحنية غير مع تيته الله يرحمها.. أنت عارف بموضوع والدتي أكيد، و إنها مشيت و أنا لسه بتعلم أقول بابا و ماما.. جدتي والدة بابا الله يرحمه كانت كبيرة في السن يدوب تأكلني و تقعدني معاها.. أنا وهي كنا محتاجين اللي يهتم بينا.. بابا طول الوقت كان مشغول بالمرضى بتوعه و العيادة و أنت عارف بقى شغل الدكاترة.. لما عرف إن ماما على علاقة بواحد تاني اللي هو يبقى عمو محمود والد عائشة الله يرحمه.. تعب جدًا لأنه كان غصب عنه لسه بيحب ماما.. المهم خدني و سافرنا السعودية.. دراستي بقى و شغلي وحياتي كانت كلها في الغُربة.. طول فترة حياتي اللي فاتت معرفتش أكون صداقات ولا علاقات اجتماعية زي باقي الناس.. كانت مجرد علاقات سطحية، بس مقدرتش أعمل صاحب واحد حقيقي ولا حتى أحب.. بابا طول الوقت في الشغل وأنا يا في المدرسة يا في البيت مع المُربية، و كانت تعاملها صعب معايا.. كانت بتضربني كتير و قولت لبابا كذا مرة لكنه رفض يغيرها بحجة إنها تعودت علينا خلاص.. كانت أفريقية و في غُربة هي كمان عشان أكل العيش، و اترجت بابا كتير عشان يسيبها في البيت.. كنت طول الوقت بتعمد أغيب برا البيت يا في دروس يا بلعب عشان أهرب من تعنيفها ليا.. لحد ما كبرت و طردتها أنا بنفسي و بقيت أهتم بالبيت من أكل و تنظيف و أخد بالي من مذاكرتي..
مشاعر الطفولة البريئة و النقية اللي أي طفل بيمر بيها أنا محسيتهاش.. غصب عني البيئة اللي عيشت فيها ربت جوايا الشخصية الانطوائية و الملامح الجامدة الخالية من أي تعابير و أي مشاعر.. رغم إن جوايا كتير بس تعودت يفضل جوايا و بصعوبة لما بيطلع.. لما مات بابا وجيت لبيت تيته عوضتني في مدة قليلة جدًا عن سنين عجاف عيشتها.. بقيت أخرج مشاعري واحدة واحدة، بس لما ماتت خدت معاها كُل حاجة..
حاسس إني تايه من غيرها ”
ربت ” بدر” على كتفه و ضغطه ضغطةً خفيفة كأنه يمده بالقوة، و قال:
” أنك تتحمل كل ده و لسه فيك نفس للحياة، ده معناه إنك إنسان قوي على فكرة.. من كلامك يُعتبر إن الوحش اللي مريت بيه أكتر من الحلو، يعني صبرت من و أنت طفل على اللي مريت بيه.. فأنت كده جزاك عند الله كبير.. هي ضاقت، و لكن تذكر أنها ضاقت و لما استحكمت حلقاتها فُرجت، و بإذن الله قدامك مستقبل مُشرق بالجبر و الخير.. ربنا ها يجبر بخاطرك و ها تنول خير الجزاء على تحملك و صبرك.. أنت و قصتك مصدر أمل لأي حد يأس من الحياة، أصل المؤمن القوي طول ما فيه نفس لازم يعافر و يقاوم و ما يخليش أي حاجة تقف قصاده و تهزمه.. أوعى تيأس يا زين.. أنا جه عليا وقت و كُنت فقدت أملي في كُل حاجة بس لما فوقت زعلت من نفسي أوي إن استسلمت في لحظة ضعف.. مش غلط إنك تكون بحاجة للانعزال عن الناس و الاكتفاء الذاتي لكام يوم تسترجع فيهم قوتك و نفسك، بس أوعى الكام يوم دول يبقوا كام أسبوع و توصل لشهر.. عشان ساعتها هتبقى دخلت في مرحلة الاكتئاب و دي أسوأ مرحلة ممكن الواحد يوصل لها، ممكن جدًا تخرج منها بس ها تخرج منها و أنت هلكان نفسيًا و جسديًا.. أنت شاب كويس جدًا يا زين، بس لازم تاخد بالك من دوامات الدُنيا عشان لما بتيجي و أنت على غفلة مش بتروح غير وهي واخده حاجة منك صعب تعرف ترجعها زي الأول تاني.. فهمتني ؟ ”
أومأ في ابتسامة رضا، ثم أردف آسفًا
” بعتذر منك عشان قولت لك أنت بتشفق عليا ”
بادله بدر الابتسامة الصافية..
” أنا عارف إنك ما تقصدش، بس على فكرة عائش ما طلبتش مني أجي أقعد و أتكلم معاك.. هي بس قالت لي إنها خايفة عليك ”
تنهد بارتياح قليلًا قبل أن يقول
” لما عرفت إن ليا أخت كنت مبسوط أوي، و في نفس الوقت خفت تقابلني بمشاعر جفا.. و ده حقها.. يعني إحنا منعرفش بعض طول السنين اللي فاتت دي.. الله يسامحها ماما.. بس عائشة طلعت بنت حنينة جدًا و فرحت أوي لما عرفت إن لها أخ.. تقدر تقول كده إحنا كُنا محتاجين لبعض ”
لثوانِ شعر ” بدر” بالغيرة لا إراديًا، و لكنه سريعًا نفض تلك المشاعر و هتف مؤكدًا:
” عائش من أجمل النعم اللي ربنا رزقني بيها، و أنت بقى ليك أخوات مش أخت واحدة.. عائشة و أنا و سيف و لسه باقي الشباب ها عرفك عليهم أكتر.. أنت آه قابلتهم لما جيت تسلم عليا قبل السفر بس لما تعرفهم عن قُرب ها تحبهم جدًا.. و هما كمان ها يعتبروا أنك أخوهم و جزء من عائلة الخياط ”
أحس ” زين ” بأنه بحاجة للفضفضة و التعبير عما بداخله، و فرح قلبه عندما شعر باهتمام بدر تجاهه و طريقته الحنونة في الانصات له، كأنه يحثه على الحديث أكثر و أكثر، فتابع كلامه الذي يشرح مدى معاناته..
” أنا ليا اتنين عمامي و عمتي أخوات بابا بس ما يعرفوش عني حاجة.. أو هم أصلا مش عاوزين يعرفوا.. مش في دماغهم يعني.. عمي في الكويت مع مراته و عياله و عمتي متزوجة في بورسعيد و مشغولة بحياتها مع زوجها و أولادها.. و عمي التالت مش شقيقهم.. يعني زيي أنا و عائشة، هو الوحيد اللي بيسأل عليا على فكرة بس مش كتير يعني؛ لأنه عنده شركات خاصة باستيراد و تصدير السيارات و شغله مش بيخليه فاضي، حتى ميعرفش إن تيته توفت..
تقدر تقول الاتصالات بيني و بين أعمامي خفيفة أوي.. و جدتي والدة بابا توفت من خمس سنين، بابا بعتلها تحج و خلصت و قالت عاوزه أرجع لبيتي، الله يرحمها كانت دقة قديمة بتحب بيتها و قليل لما تطلع منه.. تخيل بقى إن أعمامي دخلوها دار رعاية عشان محدش فاضي يهتم بيها و كل إما يجيبوا لها جليسة تراعيها، تتخانق معاها و تطفشها عشان عاوزه عيالها هما اللي يهتموا بيها.. هي كانت بتنسى كتير، الزهايمر جالها في سنواتها الأخيرة.. عاوز أقول لك إن أمهم و تخلوا عنها عشان مش فاضيين، ما بالك بابن أخوهم.. تفتكر هيسألوا فيه !
ولا حد بيعبرني.. أنا اللي بتصل أسأل عليهم..
يلا بقى الدنيا تلاهِ ”
قال آخر جُملة بشيء من الاستسلام لواقع الحياة المؤلم، و كأن أعاصير الحياة أجبرت الناس على نسيان صلة الرحم..
ماذا سيحدث لك لو قمت بالاتصال على أقاربك للاطمئنان عليهم و نيل الثواب !
هل سيقوم الرصيد برفع دعوة طلاق ضدك ؟
أم تخاف على كرامتك أن تنجرح و يقولون
” يتصل ليعلم أخبارنا لا للسؤال عنا ! ”
منذ أن صنعت الهواتف و الأقدام خفت عند أبواب الأقارب، كُنا في الماضي نفرح عند زيارة أحد الأهالي لنا، و كنا نتبادل الزيارات معهم كأن الأيام كلها عيد.. ماذا حدث !
كانت الأُسر يدًا واحدةً في أيامها اليسيرة و العسيرة.. تجد جميع أفراد العائلة يجتمعون عند حدوث مكروه لأحد أبنائها، أو عند حدوث خبر سار، و لكن الآن مع تطور التكنولوجيا التي لا أستطيع الجزم بأنها السبب في قطع صلة الرحم؛ لأنها بدورها سلاح ذو حدين.. أصبح السبب الرئيسي يكمن في أنفسنا.. لن يكون من العدل إلقاء التهم كلها على الهاتف و أساليب التواصل الاجتماعي الأخرى كالواتساب و غيره..
نعم تقصر المسافات و توفر علينا معاناة وسائل المواصلات مع ارتفاع أسعار ( الأجرة) و لكن ماذا سيحدث لو أحييت صلة الرحم بينك و بين قريبك الذي لا يبعد عن بيتك سوى مواصلة واحدة صغيرة !
هل سينقص من أعماركم لو تبادلتم الزيارات بدلا من الرسائل التي تكون عبارة عن ثلاث أو أربع رسائل محتواها باللغة الدارجة المصرية
( عامل إيه.. الحمدلله.. و أنت عامل إيه.. الحمدلله.. و كفى الله المؤمنين ! )
إذا كانت حالتك لا تسمح بالزيارات.. قُم بالاتصالات.. المهم ألا تنسى ” صلة الرحم”
يكفى لو كان بالقاء التحية و أنت مارٌ عليهم،
أما إذا كنت ممن لا يهتمون بالموضوع من أساسه، و كنت قاطع للرحم عن عمد و بإرادتك؛ فقد خسرت الجنة..
عن جبير بن مطعم أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صل الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ. متفق عليه.
أما إذا كانوا هؤلاء الأقارب يكنون لك الأذى و الضرر، فاهجرهم هجرًا جميلا و ادع لهم بالهداية.. أما عن كفارة قطع صلة الرحم، فهو بالرجوع إلى الله سبحانه و تعالى، و الاستغفار من هذا الذنب و عدم تكراره، و معاشرة أقاربك و أهلك بالحسنى قدر المستطاع.
بعد أن سمعه ” بدر” تبدلت ملامحه للأسف و الحُزن عليه، و شرد بعقله للحظات يفكر فيما باح به ” زين ” لقد كان أعمامه قاطعين للرحم أيضًا ذات يوم فيما بينهم؛ بسبب ما فعله الشقيق الأصغر ” محمود” فبدلا من تقديم النصائح له و الوقوف بجانبه لإرشاده للصواب، تخلو عنه و قاطعوه و تركوه يموج في دروب الحياة وحده.. رغم أن وصية جدهم لهم أن يهتموا به و يراعوه حق رعاية؛ لأنه عديم الخبرات و من السهل خداعه، حتى أنه عندما انتقل لدار الحق.. مات و أخوته على خصام معه.
تنهد بضيق شعر به يخنق رئتيه.. ثم استرد أنفاسه ببطء، و قال:
” ‏اللهم إنَّ ذُنوبنا لم تكن استهانةً بحقك ولا جهلًا واستخفافًا بوعيدِك، وإنما من غلبةِ الهوى وضعف القوى، نستغفِرك ربنا حتى ترضى و نتوب إليك فاغفر لنا و اعفُ عنَّا ”
دعا ” بدر ” بتلك الكلمات التي يدعوها و يرددها كثيرًا، عندما تعصف به مشاق الحياة أو تأخذه الذكريات للوراء.. سمع كلمة ” آمين” من زين تزامُنًا مع دخول ” سيف” عليهما الغرفة بعد طرقه الباب في لُطف..
” عاوز أقعد معاكم، ممكن ؟ ”
” طبعًا يا حبيب أخوك.. تعالى ”
قالها بدر باسمًا بحُب لشقيقه.. بينما ” زين” اختلس النظرات عليهما بحسدٍ لم يقصده، و إنما قال في نفسه من طريقة تعامل الأخوين معًا
” ما شاء الله، ربنا يديم المحبة بينكم ”
جاء ” سيف” ليجلس معهما قائلًا في مزاح
” لقيت القعدة مطولة، فحسيت بالغيرة قولت اجي أضايقكم ”
ضحك ” بدر” عابثًا في شعر أخيه يبادله المشاكسة، و شاركهما ” زين ” الضحك بأعين بدت حزينة لمن يُحدق النظر فيهما، فقد تمنى لو أنه و عائشة كانا معًا منذ الصغر و لم تفرق بينهما تلك الظروف العصيبة.
وجه ” سيف ” حديثه المرح لزين؛ قاصدًا التخفيف من حُزنه، فهو لا يعلم شيئًا عنه أو عما عاشه بعد..
” شوف يا زين، إحنا آه مش صُحاب و ما نعرفش لسه حاجة عن بعض، و ما حدش فينا دخل حياة التاني ولا عاش اللي عاشه عشان يعرف هو مر بإيه و بيفكر بإيه، و كل اللي أعرفه دلوقت إنك زعلان على وفاة جدتك.. يمكن يكون حُزنك ده تراكمات بسبب حاجات تانية و كل جه مع بعضه.. الله أعلم بس اللي أقدر أقدمه ليك في الوقت ده.. الصداقة، أنا بعرض عليك نبقى صحاب أو بمعنى أصح أخوات.. قُلت إيه يا باشا ؟ ”
تبسم ” زين ” و أجاب باستسلام يشوبه الدعابة
” مقدرش أعترض هو أنا أطول ”
” لا متقلقش.. أنت طويل و شكلك طولي.. قوم كده نقيس ”
قال جملته الأخيرة مُتحدثًا بجدية و على وجهه المشرق علامات الحماس، مما ضحك ” بدر” وهو يتأمله هاتفًا..
” أنا عارف إن وحشتك أيام الشقاوة ”
” أنا ما صدقت إن صحتي ردت لي، أنا رايح ألعب كرة مع الفريق بعد بُكرة إن شاء الله ”
رمقه ” بدر” بدهشة و أردف بتعصب واضح في نبرة صوته
” كرة إيه اللي رايح تلعبها دي و أنت لسه ما خلصتش جلسات العلاج الطبيعي !
أنت ها تستعبط !! ”
رد على أخيه ببراءة يحاول استعطافه
” يا بدر ما أنا بقيت كويس أهو الحمدلله، و بعدين أنا وحشني لعب الكرة أوي.. أنت عارف إن دي هوايتي المفضلة، و ها روح الجامعة الأسبوع الجاي و مش ها بقى فاضي خالص.. عشان خاطري سيبني ألعب ”
هز بدر رأسه بنفي وهو ينظر لأخيه بتحذير.. تلك النظرة التي تجعله يكف عن الالحاح.. قال بخوف حقيقي عليه..
” مش مستعد أشوفك تعبان تاني.. بالله عليك التزم بكلام الدكاترة، و لما تخلص العلاج بإذن الله أبقى العب براحتك.. تمام يا سيف؟ ”
أومأ في طاعة رغمًا عنه..
” تمام يا بدر.. اللي تشوفه ”
بينما ذلك الحوار يدور بينهما.. أخذ ” زين ” يتابعهما بنظرات مليئة بالشفقة على نفسه، يتمنى من صميم قلبه لو أنه مكان ” سيف” و لديه أخ يخاف عليه هكذا.. كان ” بدر” ذكي كفاية ليشعر بما يحسه ” زين ” فقد قرأ الاشتياق لشعور الحُب و الخوف بين الأخوة في عينيه..
انتقل ” بدر” الرجل الأكبر سنًا بينهما، لحديثه مع ” زين ” قائلًا بمشاعر أخوة أراد ايصالها له دون أي تزييف بها..
” و أنت تفوق من حالة الحُزن اللي أنت فيها دي، و تجهز الـ cv بتاعك عشان شوفت لك شُغل ”
” كُنت مجهزه أصلًا، بس نفسي اتسدت والله بعد وفاة تيته الله يرحمها.. حاسس إنها لسه موجودة معايا في الأوضه.. حاسس إنها سمعاني و حاسة بيا دلوقت ”
” طيب أنت عاوزها تشوفك في الحالة دي يعني؟ ”
قالها ” سيف ” قاصدًا التهوين عليه، فهز ” زين ” أكتافه بعجز و أردف:
” دي لسه ميته فجر امبارح، يعني أنا أصلًا بحاول استوعب أنها مبقتش موجودة ”
رَبَّتَ ” بدر” على كتف ” زين ” بمواساة، و قال وهو ينهض من مكانه:
” حقك تحزن عليها، بس أنا عاوزك أقوى من كده.. أنا شايف فيك شاب قوي مرح عنده حس الفكاهة و حُب للحياة، أنت لسه قدامك مستقبل طويل بإذن الله.. لازم تبقى مستعد لمواجهة أي عقبة فيه يا حبيبي.. عاوزك زين يا زين ”
قال جُملته المرحة الأخيرة وهو يغمز له قاصدًا المداعبة، مما انفرجتْ شفتاه عن ثناياه ضاحِكًا دون صوت، و قال:
” و أنا بجد اعتبرت أنك أخويا و صاحبي، و عاوزك جنبي دايمًا ”
” أنا جنبك يا حبيبي دايمًا إن شاء الله ”
هتف ذلك المشاكس ” سيف الاسلام ” وهو يتابعهما بعيناه الخضراوان التي تنتضج من الغيرة
” أنا هنا على فكرة ”
صفعه أخيه بلُطف على رقبته ضاحكًا..
” و أنا هناك عند مراتي ”
تركهما و خرج مُتجهًا لزوجته في المطبخ؛ فقد اشتاق لمُهجة فؤاده كثيرًا، و لكن الفاجعة التي تَمُرّ بها ” عائشة ” لم تسعفه على التعبير عن مدى شوقه لها..
دلف للمطبخ و تلك الرائحة الشهية تداعب أنفه.. همس في خفوت و عصافير بطنه بدأت بالزقزقة..
” الله.. إيه الجمال ده ”
تبسمت والدته عن طيب قلب عندما لمحته يدخل عندهما.. فهمت ” مفيدة” في الحال أن ابنها البِكري يشتاق لصغيرته كثيرًا، فتركتهما سويًا و خرجت مُصطنعة الذهاب لترتيب طاولة الغداء.. جاء ذلك العندليب من خلف ” عائشة ”
يطوق خصرها بحنان و يشدها عليه، هامسًا بتَلَهُّف و نُزُوع..
” والله إن الفؤاد اشتاق لمُهجته ”
تبسمت في هدوء، و أطفأت النار على صينية الأرز التي عبقت رائحتها المكان مُعلنةً نضوجها الكامل.. لفت جسدها في مواجهته لتقول في دموع لم تتركها منذ رحيل الجدة..
” مش عارفة أمثل إني كويسة من غيرها يا بدر.. قلبي واجعني أوي.. كانت واقفة مكاني قبل ما تموت بساعات عشان تعملنا كيكة، كانت حنينه علينا أوي يا بدر، عرفت في مدة قليلة تعوضنا عن حنان الأب و الأم اللي أنا ولا أخويا عيشناه.. صوتها وهي بتقرأ القرآن مش بيطلع من وداني، في المدة القصيرة دي اتعلمت منها حاجات كتير أوي.. حاسة إن روحي راحت مني في بُعدها عني.. الابتلاء شديد عليا أوي يا بدر.. بس كُلنا لله راجعون، ربنا يرحمها و يصبرنا ”
تنهد ” بدر” بحُزن على حالتها، فقد باءت محاولاته لتهدئتها بالفشل.. كان غرضه من التغزل بها و ضمها إليه؛ التخفيف من حُزنها قليلًا..
فضل الصمت و الاستماع لها، فتابعت باكية تلك المرة..
” خالو عاطف و إحنا في العزاء بيقولي أنا و زين إنهم ها يبيعوا البيت عشان الميراث يتقسم و جايين بكرة بالليل عشان يتكلموا في الموضوع ده.. عاوزين يبيعوا بيت تيته يا بدر.. عاوزين يحرمونا من ذكرياتنا معاها، لأ و جايين يتكلموا في ورث و أمهم لسه ميته يدوب مكملتش ساعات مدفونة.. إيه الجحود ده ! حتى خالتو جميلة اللي في السعودية نازلة مصر عشان الموضوع ده، عشان كده جايين بُكرة لما يلموا بعضهم و يجهزوا ورق البيع.. أنا و زين مش ها نبيع حقنا يا بدر.. محدش فكر حتى في المسكين اللي جوا ده ها يعيش فين.. ملوش حد يقف جنبه، باع كل حاجة تخصه في السعودية و كان جاي يتزوج و يستقر مع تيته.. دلوقت هو لوحده، أكيد مش ها يسيبوه في حاله.. ها نعمل إيه يا بدر ؟!.. أنا خايفة أوي، ها نعمل إيه ؟ ”
زفر ” بدر” بضيق من حالة التوتر و الخوف التي انتابت جسدها و شعر هو به، مما دعاه ذلك لضمها إليه برفقٍ و لين، ثم قال بهدوء..
” أنا معاكِ يا حبيبتي.. اهدي يا ماما، مش ها يحصل غير اللي أنتِ و أخوكِ عاوزينه إن شاء الله، رغم إن مليش أتدخل في الموضوع ده بالذات عشان ها يقولوا أنت مالك، بس طالما الموضوع يخصك يبقى يخصني، و أنا وعدتك قبل كده طول ما أنا عايش مفيش أي مخلوق ها يزعلك، لو فيها موتي يا عائشة.. ها جيب لك حقك، متخافيش.. ”
” تيته كان نفسها البيت يفضل مفتوح لتحفيظ القرآن مجانًا، و أنا لازم أحقق لها اللي كان نفسها فيه، و الدور ده زين يقعد فيه.. صح كده ! ”
نظر لها للحظات يتنفس بهدوء، يحاول أن يجد حل يرضيها و في نفس الوقت يتم تطبيق شرع الله في الميراث بالعدل.. قال وهو يحيط وجهها بكفيه اللينين عليه:
” هو ما فيش غير حل واحد ”
تساءلت في لهفةً:
” إيه هو ؟ ”
” نشتري البيت و ياخدوا حقهم ”
رفَّت عيناها و تحرَّكت جفونُها حركاتٍ لا إراديّة؛ في محاولة منها لاستيعاب ما قاله.. تساءلت في استنكار:
” نشتري البيت ! منين ؟ أنت عارف البيت ده يساوي كام ! مستحيل نقدر نشتريه ”
” لا مش مستحيل ”
كادت أن تفقد صوابها و هي تتساءل بدهشة
” طيب ازاي فهمني ! ”
” في مشروع باسمي مَقدمه في الشركة بتاعت باشمهندس مُرتضى، لو نجح بإذن الله ها ينقل مصر في حتة تانية، ها نبقى أول دولة تصنع و تصدر عربيات لها خاصية الطيران، و ها يبقى نسبتي من الأرباح خمسة مليون دولار.. أنتِ متخيلة الرقم ! لأن أنا صاحب الفكرة و اللي ها صمم المجسم بايدي و المشروع كله تحت إدارتي، عشان كده لو نجح بإذن الله و أنا عندي حُسن ظن كبير في ربنا، ها تبقى ليا أكبر نسبة من الأرباح.. ده غير منصب المدير التنفيذي لشركات
” العبد ” اللي ها يبقى من نصيبي، و ساعتها أحلامك كلها ها تتحقق يا عائش، ها تطلبي و أنا أنفذ.. إن شاء الله يتم على خير بس ”
” أنا.. أنا مش عارفة استوعب ! ”
قالتها بدهشة شديدة أبى عقلها بل و رفض بشدة استيعاب ما قاله ” بدر ”
” ماذا يعني ذلك ؟ هل سيصبحون من ذوِي الأشخاص الـ ( ملتي مليونير ) !
” أنت بتهزر صح ! ”
سحب نفسًا عميق و أخرجه بهدوء، ليردف وهو ينظر في عيناها بثبات:
” الإنسان لو استخدم عقله صح يقدر يعمل اللي هو عاوزه.. الفكرة كانت في دماغي من زمان بس مكنش عندي المقدرة أعملها، ولا لقيت حد يتبناها.. الحمد لله الذي أنعم عليّ و أكرمني..
(الشّيخ صالح العُصيمي) جزاه الله كل خير، قال
“إنَّ للرِّزق همًّا، وإنَّ للهمِّ ربًّا، وإنَّ للربِّ بابًا، فقفوا على باب ربِّكم، وادعوه أن يُفرِّج همَّكم، ويُطيِّب رزقكم، وأبشروا؛ فإنَّ الرَّبَّ كريمٌ، وعطاءَه عظيمٌ؛ فمن دعاه أعطاه، ومن استزاده حباه”
و أنا اجتهدت و تعبت و توكلت على الله، فرزقني الله من حيث لا احتسب.. الحمد و الشُكر لله ”
ظلت تنظر له نظرات بلهاء و دهشة ارتسمت على وجهها بالكامل، ففتحت فمها تحاول أن تنطق لم تستطيع لعدم قدرتها على التقبل أو الاستيعاب..
زفرت الهواء بهدوء تنظر له باستغراب تارة و بتعجب تارةً أخرى، أما هو لوح بيده في الهواء أمام عينيها ليقطع شرودها، هاتفًا بنبرة على وشك الضحك:
” كل دي صدمة ! إيه يا بنتي..؟ ”
” أنا.. أنا آسفة، أنا بس ما نمتش من امبارح و دماغي لفة شوية.. بحاول استوعب كل حاجة بتحصل قدامي براحة، بس.. بس أنت ما قولتش يعني على المشروع ده ”
” دي كانت مفاجأة محضرها لكِ، و بصراحة مكنش ينفع أقول عليها دلوقت غير لما تحصل، بس أنا متفائل خير.. أنا قولت بس أخرجك من التوتر و الحُزن اللي أنتِ فيه ”
” ربنا يوفقك و يتمم مشروعك على خير يارب ”
قالتها بابتسامة واسعة، ثم شرعت في توزيع الطعام في الصحون، و هي تتابع القول بلهجة أقل حُزنًا..
” لو فعلًا اشترينا البيت ده، ها أحقق أمنية تيته ”
” و أنا إن شاء الله ها أحقق كُل أمانيكِ ”
قالها وهو ينحني ليلثم قُبلة رقيقة على خدها، ثم أخذ منها الصحون على صينية متوسطة الحجم، ليوزعها على المنضدة..
كان ” زين و سيف ” قد تعرفا على بعضهما البعض في تلك المدة القصيرة التي تركهما بدر فيها.. بالطبع لم يترك ” سيف الاسلام ” تلك المدة تَمُرّ هباءً دون أن يجعل ” زين ” يحكي له عن نفسه و حياته التي عاشها في السعودية، و وجد زين السكينة و الراحة مع سيف، فحكي له ما ود معرفته باختصار، و اتفق الشابان على لعب الكرة سويًا بعد أسبوعين عندما يستعيد ” سيف” قوة قدميه بالكامل.
” يلا يا ولاد عشان تاكلوا ”
جملة صاحت بها ” مفيدة ” بحنان قاصدة
” الشابان “.. بعد لحظات جاءا ليجلس كُل منهما بجانب الآخر، و كأنهما يعرفان بعضهما منذ سنوات وليس منذ ساعات !
هكذا هم الشباب.. تجدهم يرون بعضهم البعض في الأعراس لأول مرة، و يصعدون للرقص سويًا كأنهم تربوا مع بعضهم منذ الصِغر.. !
جلست” عائشة ” يمين زوجها و على يمينها هيَ جلست حماتها، ليبدوأ طعامهم الخمسة بعد ذِكر اسم الله عليه..
كانت عائشة تعبث في طعامها بُحزن.. تتذكر جدتها وهي تجلس معها على نفس الطاولة، و كذلك ” زين ” الذي وجد الطعام لذيذًا، و لكن شعور الاشتياق الذي يُداهمه لجدته؛ جعله يأكل بتباطؤ شديد كأن الطعام لا يعجبه البتة..
” تحبي أعمل فيكِ زي ما كُنتِ صغيرة و أكلك بالعافية ؟ ”
قالها ” بدر” وهو يشير لـ ” ورك الفرخة المحمر في الفرن “..
” أنا عارف إنك بتحبي الورك خصوصًا لو في الفرن.. يلا كُلي عشان خاطري ”
أومأت بابتسامة صغيرة، و بدأت تأكل في فتور غير آبهة لمذاق الطعام الرائع، أما ” سيف” قد انتبه أيضًا لعبث ” زين” في طبقه بحُزن، فقال وهو يقسم له ما نابه من الفراخ لجزئين:
” كُل يا هندسة.. ولا تحب أفصص لك و أقولك هم يا جمل ! ”
ارتسمت ابتسامة فكاهية على وجوههم عقب قول ” سيف ” تدخلت مُفيدة لتتساءل في عفوية:
” أنت مُهندس يا زين ؟ ”
رد وهو يومئ مُبتسمًا..
” مُهندس مدني ”
” ما شاء الله، ربنا يوفقك يابني و يوفق عيالنا.. كده عندنا تلاته مهندسين”
رد ” بدر ” مُصححًا:
” أنا لسه مبقتش مهندس رسمي، إن شاء الله الدنيا تتيسر بس و ها اقدم ورقي في الكلية ”
” ها تكمل تعليمك بجد ؟ ”
تساءلت عائشة بأعين تنظر له بالفخر، فأجاب باسمًا:
” ايوه إن شاء الله.. ده كان هدفي من زمان.. ها اتعلم بجانب الشُغل و أخد شهادة الهندسة ”
هتفت ” مُفيدة ” مُتعجبة:
” بس أعتقد أنت مش محتاج الشهادة، أنت اتعلمت بنفسك و شاطر في شغلك ما شاء الله ”
” ده ما يمنعش إن الشهادة مهمة يا ماما.. أنا بعافر إني أحقق كُل أهدافي بإذن الله.. ايوه بقى عندي تلاتة و تلاتين سنة، بس ها أكمل تعليمي من أول أولى هندسة ”
” ربنا يوفقك يابني و ييسر لك الطريق ”
” آمـين ”
” ماما.. زين شبه مين ؟ ”
تساءل بها صاحبنا البشوش قريب الأوروبيين من ناحية الملامح، فقالت والدته ضاحكة باحراج
” يوه جتك إيه يا سيف.. اتلم يا ولاه ”
” والله تقولي ”
ألح عليها سيف في حماس من إجابة والدته، و لكنها شعرت بالاحراج لما ستقوله لأن ” زين ” يشبه أحد الممثلون الهنود كثيرًا، أو كما يقولون في التعبير الدارج ” فوله و اتقسمت نصين ”
ولأن مُفيدة تقوم بمتابعة مسلسل هندي أكاد أجزم أن جميع مسلسلاتهم تصيب المرء بفقع المرارة، فتجد الممثل يطير من على بعد كيلو مترات لينقذ عشيقته بعد أن دهستها السيارة عدة مرات دون أن يصيبها خدش واحد !
عجبي لهم أيّما عجب !
وشعرت ” مفيدة ” بالخجل لمتابعتها لهم.. قالت وهي تنظر لسيف بتحذير فيما معناه
( ده أنا ها طلع عين أمك، أصبر عليا إما نروح )
تساءل أكبر الشباب باستغراب مما يحدث بين شقيقه المشاكس و والدته:
” هو في إيه ؟! ”
ضحكت ” عائشة ” ضحكة الحمامة، وهي الضحكة التي تحدث عند حدوث موقف مضحك مع محاولة طبق الفم وعدم فتح الشفاه لحبس الضحكة وعدم خروج صوتها، مما يتسبب في خروج صوت ضخم شبيه بصوت الحمام، و أدى ذلك لانفجار ” زين و سيف ” سويًا ضحكًا على هيئتها وهي تحاول جاهدة ألا تضحك؛ احترامًا لحالة الحُزن التي تتعايش معها..
لقد فهمت عائشة ما يلمح إليه ” سيف” لأن حماتها تجد متعة غريبة في متابعة ذلك المسلسل، فكانت تجلس معها أحيانًا تتابعه بملل و كذلك سيف عندما يذهب للجلوس مع والدته، يجدها تتابع بشغف التصوير البطيء لردة فعل كل ممثل عندما تأتي الكاميرا عليه، فكان من السهل على الاثنين معرفة ذاك الممثل الذي قصده ” سيف” توًا..
” على فكرة ما ينفعش كده على الأكل ”
قالتها مفيدة بصرامة مصطنعة لسيف، فقال ببراءة..
” قال يعني أنتم بتاكلوا ! الأكل زي ما هو.. ”
تساءل بدر بفضول تلك المرة:
” أنتم بتضحكوا على إيه نفسي أفهم ! ”
” أصل أمك مكسوفة تقول إنها بتتابع مسلسلات هندي فقع مرارة دوت كوم ”
ضحك ” بدر ” بخفة عليه و التفت لوالدته في همس :
” زين بقى شبه مين ؟ ”
” بارون سوبتي.. ارتحتوا ! ”
قالتها بـتعابير بدت مضحكة لهم.. لم يعجبه سيف ذكر الاسم الحقيقي للمثل، فهتف بمجاكرة:
” ملكيش حل أنتِ يا ماما.. بتقولي اسمه الحقيقي عشان محدش يعرفه ! طب إيه رأيك بقى إحنا ها نعمل اضراب لو مقولتيش اسمه في المسلسل..”
نهضت و أخذت الأطباق من أمامه قائلة وهو تضربه بخفة على كتفه..
” شكلك مش جعان.. قوم بقى عشان أخواتك ياكلوا ”
” لا خلاص والله أنا آسف.. أنا جاي على لحم بطني أصلًا ”
صاح بها، وهو يأخذ الأطباق من يديها مُعربًا عن أسفه المصطنع، فعاد الهدوء للطاولة ثانيةً و علامات الضحك لا زالت واضحة في أعينهم جميعًا، حتى شرعوا في أكل طعامهم تلك المرة بأدب و بجدية، بعد أن انتبه ” بدر” لحالة الفوضى التي أحدثها شقيقه المشاغب أثناء تناول الطعام، فأردف بملامح جادة:
” كفاية كلام و هزار على الأكل.. الأكل ليه آدابه و لازم نلتزم بيها.. فاهم يا سيف ؟ ”
أومأ ” سيف ” في طاعة:
” أنا آسف ”
” بس أنا أعرف إنه مش حرام نتكلم على الأكل ”
قالها ” زين ” بهدوء ليس لأنه أحب مزاح سيف، و لكن لمعرفة إذا كان ذلك صحيح بالفعل أما لبَّس عليه الحقائق.
أجاب ” بدر ” في توضيح:
” هو لا حرج في الكلام أثناء تناول الطعام، ولكن لا ينبغي الإكثار من ذلك.. التمادي في الهزار و الضحك على الأكل ده عيب..
الحقيقة ليس في السنة النبوية ما يدل على منع الكلام أثناء الطعام، وما شاع على بعض الألسنة من ذلك فهو ليس له أصل، لكن يُفضل احترام الأكل و ما تتكلمش و الأكل داخل فمك أو تترك طعامك و تقعد تهزر.. ده اللي أقصده.. كل حاجة ليها حدود و الأحسن لنا نبقى عارفين حدودنا فين.. فهمتوني ؟ ”
أومأ جميعهم بتفهم، أما والدته قالت باسمة:
” ربنا يبارك فيك يا ابني ”
” و يهديني عشان أنا نسيت نفسي و قعدت أهَزر برضو ”
كان عقرب الساعة قد قارب على موعد صلاة العشاء، فصار طعام الغداء هو نفسه طعام العشاء؛ بسبب وصول ” بدر و سيف ” لبيت الجدة بعد العصر، و انشغالهم في الحديث مع بعضهم بالاضافة للمدة التي تم طهي الطعام فيها، و حالة الحُزن التي كست قلب عائشة و أخيها فجعلتهم في تباطؤ و تِيه عند فعل أي شيء.. كُل ذلك قد جعل الوقت ينقضي عليهم سريعًا، و برغم أنهم في أيام عزاء الآن و بعض الناس بعد دفن موتاهم يضربون عن الطعام و يدخلون في حالة حُزن و عويل، إلا أن “عائشة و زين” على دراية تامة بأن كل ذلك مُحرم و بدعة.. الاضراب عن الطعام و الاعتكاف في غرفهم للبكاء و ما شابه؛ لذلك أعدوا طعامهم و صلوا صلواتهم في وقتها، و ذلك لا يمنع شعورهما بالحُزن على فقدان جدتهما و الاشتياق لها.
انتهوا من طعامهم، و لم يأكل زين ولا أخته جيدًا فالحُزن له تأثيره أيضًا على المعدة، و لكنهم أكلوا بقدر استطاعتهم.. أما ” بدر و سيف ” كانا جَائِعَان بسبب سفرهم المرهق، و عدم أكلهم لشيء منذ وجبة الافطار صباحًا، بينما والدتهما أكلت بضع لُقيمات لتأخذ دواء السكري الخاص بها لا أكثر.
ظلت ” عائشة ” جالسة على الطاولة حتى ينتهي زوجها من طعامه؛ احترامًا له.. أمرها بأن تنهض و تغتسل ولا تنشغل به، و بالفعل كانت بحاجة للمكوث وحدها.. نهضت باتجاه المرحاض و اغتسلت و تهيأت لصلاة العشاء، فأخذت المصحف و دلفت للجلوس و القراءة في غرفة جدتها حتى يؤذن مؤذنًا لصلاة العشاء.
بعدما انتهى الشقيقان من تناول الطعام..
حمدا الله، و طلب بدر من سيف أن ينظف الطاولة، بينما هو و زين حملا الصحون للمطبخ، و غسلها بدر رغمًا عن والدته و عائشة التي جاءت تلح عليه بأن يتركها و يخرج، و لكنه صمم على تنظيف المطبخ بنفسه..
استعد الرجال الثلاثة لصلاة العشاء في المسجد المجاور للبيت، و كذلك فعلت مُفيدة و عائشة و أديا الصلاة في البيت..
بكت عائشة كثيرًا عند السجود مُتذكرة جدتها و أخذت تدعو لها بالرحمة و المغفرة، أما ” زين ” لم تفارق الدموع عينيه أثناء الصلاة و ظل يردد في سجوده أن تدخل جدته الجنة و يغفر الله لكل أموات المسلمين.
بعد تأدية الفريضة، عادوا ثلاثتهم للبيت و زين يتمتم بغضب بعد لقاءه مع خاله منذ دقائق و ابنه ” عصام “..
” يعني إيه أمي مكنش لها نصيب في البيت ! عاوزين ياكلوا علينا بيت جدتي ؟ أنا ما يهمنيش الورث ولا الفلوس و الكلام الفارغ ده.. أنا كل اللي يهمني البيت ده يفضل مفتوح لعمل الخير، و لا عاوزني أسيبه لابنه الشمام يقلبه شبكة *****!”
نظر له ” سيف ” في صمت، لقد اكتشف طبع آخر من طباع ” زين ” وهو أنه عند الغضب يصبح حاد الطباع ولا يستطيع أحد تهدئته حتى يهدئ هو بنفسه..
قال ” بدر ” في هدوء لتهدئة ” زين ” فقد كاد أن يشتبك مع خاله و يبرح ابنه ضربًا على مرأى و مسمع من أهل تلك القرية ذات البيوت المتقاربة..
” اهدى بس كده و كل حاجة ها تتحل بإذن الله.. هو ممكن يكون بيستفزك بالكلام عشان تغلط، فأنا عاوزك تمسك أعصابك و تكظم غيظك منهم لحد ما اظبط أنا الأمور معاهم بُكرة إن شاء الله ”
” يمين بالله يا بدر لو عصام نفذ اللي في دماغه و جاب صحابه البيت زي ما بيقول كده، لأكون مكسر عضمه في لحمهُ، ها اخليه يعيش طول عُمره بعاهة.. الحق حق و معنديش تفاهم فيه ”
” قولت لك اهدى عشان محدش يركبك الغلط ”
زفر ” زين ” بغضب و بتعصب، ثم دلف للبيت تحت نظرات عائشة المستغربة من عبوس وجهه، و جلس بجانبها على الأريكة ليبدأ في هز قدمه بتوتر و الجز على أسنانه بغيظ.. و تلك عادة أخرى من عاداته تلازمه عند الغضب أو التوتر..
تساءلت وهي تلتفت بكامل جسدها له تتفحصه بأعين خائفة عليه:
” زين.. في إيه ؟ ”
حكي لها ما حدث بعد خروجهم من المسجد، فهتفت هي الأخرى غاضبة:
” هما كمان عاوزين ياكلوا حقنا ؟ عيني عينك كده ! ده إيه البجاحة دي ؟؟ ”
” ممكن نهدى خالص كده و تسيبوني اتصرف ؟ ”
قالها بدر بنبرة أمر تلك المرة، فنظر له زين في صمت نظرات تدل على الموافقة ولكن بداخل شُعلة من الغضب، أما عائشة عادت للبكاء قائلة:
” أنا مش قادرة استوعب إن في ناس قلبها جاحد كده.. طيب حتى يستنوا لما أيام العزاء تعدي !
دي أمهم مش واحدة غريبة ! ”
” الدنيا زي ما فيها الحلو.. فيها الوحش، و الوحش إحنا خدناه في أهلنا يا عائشة ”
قالها ” زين ” وهو يحاول كبح جماح غضبه منهم، و التفكير بعقلانية كما قال زوج أخته.
بعد دقائق من الهدوء و الصمت الذي عمّ بينهم.. صوت تكّة المفتاح في الباب يصل لمسامعهم.. يدخل ” عصام ” ذلك الشاب الثمل صاحب الثلاثة و عشرون عامًا، لولا تعاطيه للمخدرات لـَقُلنا أنه شقيق عائشة و زين؛ بسبب ملامحه القريبة جدًا من خالته ” ناهد “.. دلف وهو يمشي سِكِّير مُتَرَنِّح مُتمايلًا من جَنْب إلى جَنْب، و يحك أنفه المحمر كل ثانية، لادمان الهيروين و الكوكايين اللذان جعلا منه شخص مُتَعب دائمًا و ضعيف البُنية..
نهضوا جميعًا بدهشة من دخوله و وجوده يتأملهم بلا مبالاة كأنه في عالم آخر يظنهم دجاج مشوي يتراقص على سيخ الشواء.. تركهم واقفون ينظرون لهم بدهشة و قبل أن يصب” زين ” غضبه عليه.. ولَ له ظهره وهو يخرج له لسانه، ثم اتجه ناحية الدرج المؤدي لأسفل البيت.. آتاهم بعد لحظات صوت نقنقة الدجاج و بطبطة البط، كأنه يتعارك معهم..
تحركت عائشة خطوة من مكانها وهي تقول بدهشة و قلق:
” أنا هروح أشوف في إيه ”
” لأ.. ما تتحركيش من جنبي ”
قالها ” بدر ” بنبرة حادة من تصرف ” عصام الأخرق ” جاذبًا إياها ليوقفها خلفه خوفًا عليها من تهور ذلك المجنون..
بعد دقائق من عدم استيعاب الجميع لما يحدث، جاء ” عصام ” وهو يحمل في حِجر التيشيرت الذي يرتديه أكثر من عشر بيضات، و يمر من أمامهم وهو يرمقهم نظرات كلها برود تجعل الهادئ يفقد صوابه و يلقنه درسًا لا ينساه؛ ثُم قال في عدم تماسك لذاته و رخاوة في القول.. يجعله يشبه سلوك الشاب الذي يتشبه بالنساء..
” ده بيضي.. محتش ها ياخته ”
” بيـضك !! ”
هتف بها ” سيف ” بغرابة شديدة من ذلك المعتوه، و تابعه ” زين” القول بغرابة لابتلاعه بعض الأحرف..
” محتش ! و ها ياخته ؟! ”
أشار له ” سيف” بعدم استيعاب لما يحدث أمامه، و صاح في تساؤل عجيب:
” مين ده !!! ”
” اطلع برا يا متخلف أنت ”
صاحت بها عائشة في تعصب، مما نظر لها
” عصام ” بعدم اكتراث و قال:
” بس يا وحشة ”
تبادلت عائشة و بدر النظرات بدهشة، قال الأخير بنفس صدمة البقية:
” ما أنت كنت بتتكلم كويس المرة اللي فاتت ! إيه اللي حصل للسانك ؟ ولا ده صنف جديد من البلاوي اللي بتشربها بيزود هرمون الاستروجين عندك ؟! ”
تأمله ” عصام ” للحظات يحاول التعرف على ملامحه من جديد رغم أنه يعرفه منذ آخر مرة تقابلا و لصق “بدر” وجهه في طبق الملوخية، ولكن يبدو أن حالة السَّكَرُ التي تملكت منه كانت شديدة و جعلته يتوه بين الأشخاص..
خاف ” عصام ” من نظرات “بدر” الساخطة و المُسلطة تجاهه، فاحتضن البيض وقبل أن يفر هاربًا منهم، التفت لصاحب العينان التي تشبه
الأحجار الكريمة الزمردية و التي كانت كُلها دهشة مصحوبة بالضحك عليه، و قال بثقة:
” بص قدامك يا غيورة ”
” غيـورة !! ”
ثم استدار ” سيف ” لشقيقه يرمقه بصدمة ضاحكًا بقلة حيلة و يشير لنفسه:
” ده بيقولي أنا يا غيورة ! مين ده !!! ”
” اللي بيحصل ده كوم، و البلوة دي كوم تاني خالص ”
قالتها ” عائشة ” بقلة حيلة و عادت للجلوس مكانها، أما ” زين ” صاح في إهتياج عصبي..
” كنتم سبوني أساوي وشه بالأرض ”
سمعوا صوت ارتطام أمام الباب، فخرجوا ليروا “عصام” قد سقط ربما تعثر في شيء و وقع على البيض كله الذي كان بحوزته..
استدار لينظر لهم ضاحكًا بنظرات حَمَاقَة و غَبَاوَة، ليقول:
” ما فيش كتاكيت، كله صَفَار ”
” ده أنا ها اعمل منك بسطرمة دلوقت ”
هتف بها ” زين ” وقد وصل لذروة غضبه، ليشده بصرامة من ملابسه حتى يجعله يقف، و أمره بأن ينظف ما فعله صارخًا فيه:
” ريحة الزفارة دي لو مراحتش ها اقتلك.. سامع ولا لأ يا شمام ؟ ”
تلك المرة أومأ ” عصام “في خوف حقيقي من
” زين ” و راح ينظف ما فعله بالفعل بالماء و الخل و الصابون، الذي جاء بهم ” زين ” من المطبخ ليلقي بهم أمامه بلهجة صارمة:
” لو سيبت أثر ليهم قدام الباب ها ادفنك مكانك”
” ها اتنفس ازاي لما تتفني ؟ ”
همس بها ” عصام ” في خوف مضحك، جعل المشهد هزلي للغاية..
ردد ” زين ” آخر كلمة قالها عصام وهو يرمقه في اشمئزاز
” تتفني ! ادعي عليك بس بإيه و أنت فيك كُل العِبر.. ”
أما في الداخل كاد ” سيف” يفقد الوعي من شدة الضحك على ما حدث..
” مين ده !!! ”
” ما خلاص بقى يا واد يا سيف.. أنت علقت؟ ”
قالتها مُفيدة بعين التحذير، فَلزم الصمت و عيناه لا زالت تضحكان..
أردف ” بدر” في جدية:
” الواد ده صعبان عليا ”
ردت “عائشة” في تعجب:
” صعبان عليك ! ”
أومأ مُتابعـًا:
” جدتك الله يرحمها قالت إن خالك عاطف و مراته مشغولين بالتجارة و شايلين ايديهم منه، سايبينه طايح كده في الشوارع.. شاطرين بس لما يدخل السجن يجيبوا له أشطر محامي و يخرج منها كل مرة، عشان يرجع للشم و القرف..
الذنب ذنب أبوه و أمه مش ذنبه، أنا كنت واعد جدتك إن ادخله مصحة يتعالج، لأن بصراحة مستخسره في السكة اللي ماشي فيها، الواد شكله طيب و غلبان و مغلوب على أمره.. محتاج اللي يمد له ايد العون مرة و اتنين و تلاتة.. رحلة علاجه من جميع النواحي ها تبقى طويلة و صعبة و عاوزه صبر، و أنا إن شاء الله ها اتبنى الموضوع ده و مش ها اسيبه للطريق اللي ماشي فيه.. ”
” أنت بتهزر صح ؟ ”
قالها ” زين ” بعدم استيعاب لما يقوله بدر، فأردف بنفي:
” أنا مش بهزر في أي قرار باخده.. ابن خالك محتاج اللي يقف جنبه و يساعده يا زين، و ها يكون الأجر و الثواب لنا لو ساعدناه ”
فكر ” زين ” للحظات و قال باستسلام:
” رغم إني مش طايقه بس أنت عندك حق ”
لقد انقضى اليوم بجميع أحداثه سريعًا.. بيت الجدة ” إخلاص ” مكون من طابقين، كل طابق به أربع غرف للنوم.. غرفة الجدة كانت من نصيب
” زين ” للمبيت فيها؛ لأنه لا يحب النوم بجانب أحد و أيضًا خاف ” سيف ” النوم بجانبه على فراشها و قد صمم “زين” أن يمكث الليل كله في غرفة جدته.. و لا أعلم لما شَعَر ” سيف ” بالرهبة عندما عرض على زين مشاركته في النوم و أخبره أنه سينام على فراش جدته، ربما لأن ” سيف ” مثل الكثيرون اللذين يخافون النوم على فراش الميت بعد موته بأيام؛ ظنًا منهم أن روحه ما زالت تسكن الغرفة، و لا أعلم أيضًا إذا كان هذا الكلام صحيح أم لا..
الغرفة الثالثة تسطح فيها سيف بجانب والدته، رغم أنه كَبُرَ على النوم بجانب أمه، و لكن الحقيقة هو خاف النوم وحده في ذلك البيت الغريب عنه.
( أين أنتِ يا روان الآن، سَـتتزوجين طفل في جسد رَجُلٌ ..)
اليوم الثاني.. مرت ساعات الليل دون أن يشعر بها أحد، لقد كانوا جميعًا مُتَعبين.. قرابة الفجر استيقظ ” بدر ” تلقائيًا، و كأنه من كثرة المواظبة على فريضة الفجر، أصبح يستيقظ تلقائيًا قبلها بنصف ساعة..
أخذ يتأمل تلك النائمة على ذراعه و التعب يبدو جَليًا عليها.. أزاح شعرها الغجري عن نصف وجهها، ثُم مرر أنامله يداعب خدها بـِرِقَّة، فلم تنجح تلك المحاولة اللطيفة في إيقاظها مما استدعاه ذلك بأن يعلو صوته نسبيًا وهو يُناديـها عائـش..
بدأت جفونها ترف مُعلنة الاستجابة، لتفتح عينيها و تُقابل ابتسامته العذبة و المليئة بالصَبْوَة تجاهها..
” اوعى يكون صلاة الفجر فاتتنا ؟ ”
قالتها بخوف صادق لأول مرة يستشعره ” بدر” في نظراتها و يَلمسه في نبرات صوتها.. لقد تغيرت ” عائشة ” المتمردة كُليًا، ملابسها أصبحت تناسب ديننا الحنيف تمامًا.. ملابس فضفاضة لا تشف ولا تصف، و المواظبة على تأدية الفرائض في وقتها بات أهم الأمور لديها، و أيضًا لم يخلو يومها من قراءة ولو سورة واحدة من القرآن، المهم أن تحافظ على عدم هجر القرآن و تقرأه يوميًا، أصبحت فتاتنا الشرسة و العنيدة أكثر اتزانًا و هدوء و نُضجًا، و الله يهدي من يشاء من عباده..
” لا يا مُهجتي.. باقي أقل من نصف ساعة على الآذان.. بس صحيتك عشان تفوقي و ما تصليش و أنتِ بتنامي على نفسك ”
” جزاك الله خيرًا يا حبيبي ”
قالتها وهي تستند برأسها على كتفه و تحاول فتح عينيها و الكف عن التثاؤب، أما هو أعجبه كثيرًا مناداته بـ ” حبيبي ” فقال بنبرة مَسَرَّة:
” قطعنا شوط كبير أوي عشان تقولي لي يا حبيبي ”
” قرأت عبارة بتقول، و ما الحبُّ إلَّا للذينَ تمكَّنوا
من القلبِ، و أنت تمكنت بـِحُبك من قلبي يا بدر”
نهضت و أضاءت نور الغرفة، لتقول وهي تتأمله قبل أن ترتدي اسدال الصلاة و تحكم غطاء شعرها بغرض الستر من ” سيف “..
” انهارده يوم طويل، ربنا يعيننا ”
” آمين ”
و قبل أن تخرج تذكرت أنها انتبهت لشيء مهم للغاية لديها، استدارت ثانيةً بأعين متسعة من الصدمة:
” أنت قصيت شعرك ؟! ”
” أنتِ لسه واخده بالك ؟ ”
” من كُتر التعب مخدتش بالي منه فعلًا.. إيه اللي خلاك تعمل كده ؟؟ ”
قالت الجملة الأخيرة كأنه قد ارتكب جُرم لا يمكن مغفرته، و اقتربت منه تنظر له بغضب:
” ده مكنش اتفاقنا ”
نهض و اقترب منها ضاحكًا:
” حسستيني إن أنا ارتكبت ذنب عظيم.. أنا زهقت منه بجد و كان بيضايقني في الفترة الأخيرة، تحبي اسيبه يطول تاني ؟ ”
تأملت شعره للحظات فازدادت اعجابًا به، و قالت بابتسامة راضية:
” أنت حلو و عاجبني في كُل حالاتك، و عجبني شكلك الجديد.. خلاص خليك كده ”
رد مُداعبًا مُقدمة أنفها الصغير:
” أنا أعجب الباشا خلي بالك ”
” آه طبعًا.. اومال ”
قالتها ضاحكة في خفة، ثم خرجا ليوقظ البقية، و كما صلوا العشاء في المسجد.. كذلك كان الفجر.
الساعة الثانية بعد الظُهر.. كان ” بدر” معه اتصال هاتفي من ” المهندس مرتضى ” يخبره بأحدث الأخبار في الشركة، ليست أخبار العاملون و لكن أخبار العمل نفسه و كيف يسير..
انهى اتصاله، ثُم طلب من شقيقه و والدته أن يذهبوا للبيت بينما هو سيظل مع زوجته و أخوها لانهاء بعض الأمور الخاصة بهما..
هتف ” سيف ” في نفي و تردد:
” أنا عاوز أفضل معاك ”
” ها تقعد تعمل إيه يا سيف ؟ روح أنت عشان ميعاد جلستك مع دكتور العلاج الطبيعي انهارده الساعة سبعة، أنا كلمت دكتور كويس و حجزت لك عنده و ماما عارفه العنوان، و برضو عشان تستعد للكلية ”
” خلاص اللي تشوفه ”
” مش اللي اشوفه.. اللي في مصلحتك يتعمل ”
ثُم استدار لـ “زين” و قال:
” اعمل حسابك لما موضوع الورث ده يخلص، ها تيجي معايا للباشمهندس مُرتضى، كلمته عليك و قال إنه عنده شغل ليك في شركة خاصة بصاحبه، ها تمسك موقع كامل في مدينة العالمين إن شاء الله ”
” باشمهندس مُرتضى ! ”
قالها ” زين ” في تفكير كأنه سمع هذا الاسم من قبل.. أردف:
” أنا عمي الغير شقيق لأعمامي اللي كلمتك عنه ده.. اسمه مُرتضى و صاحب شركات استيراد سيارات عالمية ”
” مُرتضى العبد ! ”
أومأ ” زين ” في دهشة و هتف:
” ايوه أنا من عائلة زين العبد ! زين عبد الهادي زين العبد، معقول يبقى تشابه اسماء ؟ ”
” ثوانِ “..
نطق بها ” بدر” في دهشة هو الآخر، ليخرج و يُحادث المهندس مُرتضى، و بعد دقائق من تبادل أطراف الحديث.. صدق قول ” زين ” و بالفعل مُرتضى هو عمه الغير شقيق لوالده..
هتف ” بدر ” ضاحكًا في استيعاب بطيء:
” الدنيا دي صغيرة أوي ”
قبل أن يُغادر سيف و والدته.. جاءت صوت طرقات الباب؛ فظنوا أنه ربما أحد الأهالي لم يحضر العزاء و جاء لتأدية الواجب..
فتح ” سيف الاسلام ” الباب لأنه كان الأقرب منه، استعدادًا للمغادرة مع والدته، و لكن الشخص الذي فتح له و وقعت عينيه عليه في اندهاش.. كان
” روان “..
تبادلا النظرات بدهشة من لقائهما الغير مُرتب بالمرة، حتى خجلت ” روان ” من نظراته الثاقبة تجاهها أمام أهله، و اتجهت بعينيها تبحث عن عائشة التي كانت واقفة بالقُرب منها، و لكن لشدة توترها عندما رأت ” سيف ” لم تنتبه لها..
ابتلع ” سيف ” ريقه بارتباك طفيف هو الآخر، و أدار وجهه عندما وجد عائشة تصطحبها للغرفة..
تفهم ” زين ” الأمر في الحال و عرف أنه معجب بها، بل تخطى مرحلة الاعجاب بمراحل..
قال مُداعبًا:
” الله يسهله ”
” يسهل لمين ؟ أنا اللي بحبها.. قول الله يسهل لي أنا.. عشان أروح أتزوجها، و ها أكلك جاتو في الفرح إن شاء الله.. ما تقلقش ”
ضحك ” زين ” على هيئته التي صارت متوترة للغاية من وجودها، و محاولة ” سيف ” الفاشلة في تقديم الماء لها داخل الغرفة فمنعه ” بدر ” بتحذير بدا مُضحكًا لزين و مُفيدة:
” اهدى يا دكتور يا محترم.. اهدى بدل ما تفضحنا ”
” ربنا يوقف حالها في الزواج من أي حد غيري.. يارب تبقى من نصيبي أنا بس ”
دعا بها ” سيف ” من صميم قلبه، فسحبته والدته بضحك على شكله قبل أن يتهور ثانيةً، و غادروا البيت.
بداخل الغرفة، احتضنت ” روان ” ” عائشة ” بطيب قلب و قالت في مواساة لصديقتها:
” ربنا يهون عليكِ يا عائشة، الله يرحمها يا حبيبتي و يسكنها فسيح جناته ”
” آمين ”
قالتها “عائشة” و قد أدمعت عيناها ثانيةً، فمسحت لها ” روان ” دموعها، و أردفت:
” أنا آسفة إني جيت متأخر، بس مرات بابا ولدت و كانت تعبانة فكنت معاها، و لما اتصلت بيكِ بالصدفة و عرفت بوفاة جدتك زعلت أوي والله.. كُنتِ بتقولي لي إنك بتحبيها جدًا.. ادعيلها يا عائشة.. دعواتك ها توصل لها يا حبيبتي ”
أومأت عائشة في صمت، فتابعت روان بنبرة خجولة:
” أنا آسفة إني بقول لك كده دلوقت و أنتِ في الحالة دي، بس أنا فرحت أوي لما شُفت سيف واقف على رجله ”
نظرت لها عائشة باسمة:
” ربنا يجمعكم مع بعض في الحلال يارب ”
” آمين ”
دعت بها روان مبتسمة في شرود، وهي تتذكر نظراته لها منذ قليل.. جلست معها لساعة أخرى و استأذنت للانصراف، فهي الآن في السنة الدراسية الأولى من كلية تربية طفولة و هذا أول أسبوع للحضور، و غدًا ستستيقظ باكرًا للمحاضرات و بعد انتهاء محاضراتها تذهب لافتتاح الحضانة الخاصة بها.
طلب ” بدر” من ” زياد ” عبر الهاتف أن يحضر معهم أثناء الحديث عن الميراث و يجلب معه وصلات أمانة.. مرت نصف ساعة أخرى، كان
” زين” في باحة البيت يمارس رياضة
” نط الحبل ” تلك عادة أخرى من عاداته عندما يشعر بالتوتر أو الخوف من حدوث أمر ما، يبدأ في ممارسة تلك الرياضة..
بدأ العرق بفعل كثرة الحركة.. يتجمع على منكبيه العريضين، و ينهال من وجهه حتى شعر بالتعب و جلس يستريح..
كانت عائشة تتابعه من الشرفة بحُزن قائلة لزوجها
” زين مش كويس ”
” خليه يطلع همه في الرياضة، كده أحسن له ”
استعاد ” زين ” هدوئه و اتجه ( للحمام) لأخذ دش دافئًا يساعده على الراحة، و بعد مرور ساعة أخرى.. طرقات على الباب ثانيةً، فتح ” بدر ”
ليجد ” أم رحيم و رحيم نفسه ” يقفان بابتسامة صغيرة، لتقول المرأة..
” جايه اطمن على عائشة و زين ”
” اتفضلي يا أمي ”
قالها ” بدر ” في أدب، و يبدو أن السيدة لم تتعرف عليه.. كان زميل ابنها في الثانوية العامة، و لكن للزمن تأثيره على الملامح أيضًا..
ارتدى ” رحيم ” حمالة للذراع بسبب اصابته بالرصاص في ذراعه و عدم تعافيه من الاصابة بعد.. صافح ” بدر ” في استغراب شديد و تساءل:
” بدر ! أنت كنت تعرف الحاجة إخلاص الله يرحمها ؟ ”
” جدة مراتي ”
اتسعت حدقة عينه و هتف:
” عائشة تبقى مراتك ؟! ”
عبس وجه ” بدر ” و قال بغيرة:
” و أنت أصلًا تعرف مراتي منين ؟؟ ”
خرجت ” عائشة” على الحديث المتبادل في الصالة.. وقعت عين ” رحيم ” عليها و تذكر ما حدث عندما وقعت في البحر و قفز وراءها لينقذها.. رفض أن يتحدث أكثر من ذلك، فهو يعرف طباع صديقه القديم جيدًا و يعرف مدى غيرته على نساء بيته.. حمحم باحراج وهو يدير بصره عنها:
” معرفهاش.. بس جدتها الله يرحمها كانت صاحبة أمي و لما كانت في المستشفى أنا كنت معاهم، لكن صدقني مراتك أصلًا مدتنيش فرصة أتكلم معاها ”
نظر لعائشة نظرة رضّا، ثم نظر لرحيم و قال بهدوء:
” تمام.. ما تجيبش بقى اسمها على لسانك تاني ”
أومأ في احترام، و أمر ” بدر ” زوجته بأن تظل في الغرفة مع أم رحيم ولا تخرج منها حتى يحضروا أهلها لتوزيع الميراث و يرحلوا..
قصّ ” بدر ” على ” رحيم ” ما حدث من أبناء الجدة ” إخلاص ” و طلب منه أن يبقى معهم أثناء تقسيم الحقوق؛ لأنه ضابط و سيكون له الاحترام و الخوف الأكبر إذا فكر أحدًا فيهم بالتمادي..
من خلال جلوسهم سويًا، تعرف زين و رحيم على بعضهما، و حكي ” رحيم ” عما حدث معه في مهمتهم خارج البلاد.. دون أن يذكر التفاصيل أو الأشخاص لأن ذلك يعتبر خاص بالكتيبة فقط..
جاءت الساعة الموعودة لتقسيم الميراث، و كانوا الحضور هُم ( عاطف خال عائشة و زوجته و جميلة خالتها و زوجها و اثنين من كبار القرية)
جاء ” زياد ” ومعه الأوراق كما طلب ” بدر “..
صافح” رحيم ” زياد بحرارة لأنه لم يراه منذ فترة طويلة بسبب دوامات و مشاغل الحياة..
طوال الجلسة لم يتحدث عاطف إلا بجملتين هما
( ناهد أمكم جاب لنا العار.. ملهاش ورث عندنا)
تاركًا لزوجته التحدث بلسانها السليط دون أن تأبه للرجال في المجلس، مما استفز ذلك ” زين ” كثيرًا، الذي أخذ يتابعهم بنظرات نارية يود لو يهشم رؤوسهم جميعًا.. نفذ صبره فصاح بغيظ:
” ممكن لو سمحتِ ما تتدخليش ؟ ”
ردت المرأة بقلة حياء:
” أنت مش معترف بيك وسطنا أصلًا.. ياريت أنت اللي تنقطنا بسكاتك ”
لاحظ ” رحيم ” قبضة يد ” زين ” التي كورها بـغِل سرى في عروقه سريان الدم، فوضع يده عليها وضعية ذات مغزى بمعنى أن يهدأ قليلًا..
هتف عاطف بجملة ثالثة أفقدت ” زين ” المتبقي من هدوئه:
” طالع قليل الأدب زي أمك ”
نهض ” زين ” من مكانه و همّ بالتعدي على خاله بالضرب، و لكن كانت يد ” بدر ” سريعة فجذبه من خصره و أخذه ” زياد ” للخارج مُحاولًا تهدئته.. هتف ” زين ” بعصبية بالغة وهو يخرج رغمًا عنه:
” ما بلاش أنت تتكلم عن الأدب يا هُزق يا جوز الست ”
كتم ” زياد ” فمه قبل أن يهتف بعبارات شتائم أخرى، أما ” عاطف ” أحس بإهانة كرامته الغير موجودة عنده من الأساس، و قبل أن ينهض للعِراك.. قال ” رحيم ” بنبرة حاسمة:
” عم عاطف.. إحنا جايين نحل الأمور مش عاوزين شوشرة.. ياريت تخلي المدام تروح أحسن ”
كادت أن تدخل ” جميلة ” في النقاش الحاد هي الأخرى، فقال ” بدر ” بصوت عالٍ نسبيًا أسكت الجميع:
” ها اشتري نصيب كل واحد فيكم في البيت بزيادة خمسين ألف جنية، وصلات الأمانة موجودة لحد ما الفلوس توصل لكم.. توصل الفلوس استلم وصل الأمانة.. و ها تمضوا على محضر و اقرار عدم تعرض للمالكين
” عائشة و زين ” ها.. تمام كده ؟! ”
وصل لعائشة كل ما حدث في الخارج و كانت على علم بقرار ” بدر ” الذي تفاجأ له
” زين و زياد و رحيم ” سؤال واحد دار في رؤوسهم (من أين سيأتي بدر بالمال ؟)..
تبادل عاطف و جميلة النظرات، و سال لعابهم لهذا المبلغ المضاف إليه خمسون ألف جُنيهًا، و بالطبع وافقوا في الحال و تم امضاء تلك الصفقة على أمل أن يتم تسليم حصة الميراث بعد شهرين..
بعد أن هدأت الأوضاع و غادروا، تساءل ” زين” بعدم فهم لقرار ” بدر ” فأخبره بما يخطط له.
عادت الأمور للهدوء في منزل الجدة و استأذن رحيم و والدته للمغادرة، أما ” زياد” فجر مفاجأة لـ ” بدر ” جعلته يبتسم ملء شدقيه..
” إن شاء الله هتبقى خال رسمي في أقل من خمس شهور لولد و بنت طالعين لأبوهم و أمهم بإذن الله ”
” ولد و بنت ! ”
” هاجر حامل في توأم، بس لما عرفنا خبينا الموضوع لحد ما نعرف نوع الجنس و نقول لكم مرة واحدة.. ”
عقب قوله، انهالت عليه المباركة من زين و عائشة، و عانقه ” بدر ” وهو يغمز لعائشة..
” عُقبالنا يا مُهجتي ”
____
في الحارة التابعة لعائلة الخياط.. ينام ” قُصي ”
بعمق في غرفته بعد انتهائه من تلك المهمة التي استنفذت قواه و طاقته..
في الأشهر الماضية المرهقة التي تعايش معها
” قُصي ” كان قد تغير جسده و أسلوبه.. أصبح شكله يسبق سنه بسبب التمارين الشاقة التي أداها طوال فترة التدريب على يد صاحبنا السوري ” إياد” و الذي مكث مع أقاربه في
” مرسى مطروح ” بعد انتهاء المُهمة.. برزت عروق جسده و تضخمت عضلات بطنه حتى ظهرت له ما يسمونه بالـ ( Six pack)، و نمى شعره ليصل لآخر رقبته مع تلك الغُرّة التي تناسب على جبهته و تتشابه مع سكان أقصى شرق آسيا، كان قد قصها له ” إياد ” للتمويه لا أكثر، و لكنه وجد نفسه يتشبه بالفتيات فرفعها بطوق معدني للشعر، حتى تنمو مع باقي شعره و ينزع ذلك الطوق الذي لم يعجبه أيضًا و جعله يشبه الشباب
” السيس “.. لقد نضج الفتى الكوميدي عقليًا و أصبح يفكر بحكمة و بهدوء عن ذي قبل، حتى أصبح إلقائه للدعابة قليل، و لكن شيء واحد يؤلم قلبه بشدة.. يجعله في أوج حزنه و الاشمئزاز من نفسه، كلما تذكر أنه نشأ مع ( اليهود) و أصله من والدته يعود لليهود..
عندما وصل للبيت مع والده، رحب به الجميع بحفاوة و قابلهم بنفس الترحاب و كتم شعوره بالحزن داخل قلبه، هذا هو” قُصي ” لا يجعل أحد يشعر بمعاناته و يكتم مشاعر الحزن بداخله، حتى ظنوا أنه لا يعرف معنى الحُزن و الغمِ..
نهض بعد أن أخذ قسطًا وفيرًا من النوم، ليحضر ذلك المؤتمر الذي جُهز لتكريم أرواح الشهداء اللذين ماتوا في الكتيبة ( نيرة و ضابطين آخرين)
ارتدى بذلة سوداء تلائم أناقتها مع جماله الفائق الذي حباه الله به.. لا يحب ” قُصي ” ارتداء الازياء الرسمية، و إنما يفضل الملابس الكاجوال، و لكن كان ذلك بأمر من منسق المؤتمر و خاله اللواء ” عزمي “.. حضر والده معه المؤتمر و كذلك” أُبَيِّ ” الذي كان فخورًا بشقيقه كثيرًا..
و هُناك تقابلوا مع بقية أفراد الكتيبة ( الضابط كريم و أخوه رحيم الذي لم يعلم بعد بالصلة بينهما، و المرح أصغر أفراد الكتيبة إبراهيم و الذي يصغر قُصي بضعة أشهر، و أيضًا الطبيبة شمس قد حضرت.. عدا بالطبع ” منة الله ”
.. لعبت منة مباراة التنس وهي لا زالت تعاني من اصابة قدمها في المهمة، و ها هي الآن تصب كامل غضبها على كيس الملاكمة الطويل أمامها كلما تذكرت ما فعله بها ( والدها) أقسمت في نفسها أنها عندما تعثر عليه ستنتقم منه بعد أن علمت بإدعاء ” آسر ” أنه يعرف مكانه..
” آسر ” الآن تم احتجازه في المشفى؛ بسبب كسر ” منة ” لأنفه بقبضة مميتة عندما علمت بكذبته..
ظلت تكيل اللكمات لكيس الملاكمة تارة بقبضة يدها و تارة بقدمها، دون الاكتراث للدم الذي انساب بغزارة من القدم المجروحة بعد أن كانت قد شُفيت قليلًا و شهدته صالة الرياضة، تلك الصالة المكتوبة باسمها و الذي أعطاها لها ” زوج والدتها ” عندما أحرزت أهدافًا رائعة في أول بطولة لها في رياضة المبارزة بالسيف.. منذ ثلاثة أعوام، أي عندما كانت بعمر الثامنة عشر.. الرياضة أهم عندها من التعليم بكثير؛ لذلك لم تكمل تعليمها أو لا تحب أن يفرض عليها أحدًا شيء، فلم تستكمل دراستها و خرجت بعد الانتهاء من المرحلة الاعدادية؛ رغم ذلك تمتلك قدر كافِ من الذكاء لا بأس به..
انتهى المؤتمر و انتهى تكريم جميع أفراد الكتيبة للمرة الثانية، و بالنسبة لدرع الفخر الخاص بـ
” منة ” تم إرساله اليها مع أختها..
انتهى المؤتمر و انتهى تكريم جميع أفراد الكتيبة للمرة الثانية، و بالنسبة لدرع الفخر الخاص بـ
” منة ” تم إرساله اليها مع أختها..
اقترب ” عزمي ” من ” قُصي ” بدموع الفخر.. حاملًا في يده الصناعية و التي أصبح يرتديها بعد بتر يده في المهمة ( علبة هدايا متوسطة الحجم)
تحتوي على ساعة ” رولكس ” تلك الماركة الرائعة و الرائدة في عالم الساعات.. اعطاها لابن أخته وهو يقول باسمًا:
” كان نفسي من زمان أقول لك الحقيقة، بس مكنش ينفع.. كان نفسي أقول لك إني بعتبرك ابني مش ابن أختي.. أنا فخور بيك يا قُصي.. ياريت تقبل الهدية دي مني بمناسبة إني فخور بيك ”
” خالو ”
قالها “قُصي” بدموع وهو يعانقه، بينما ” كريم ” مد يده يعبث في شعره قائلًا في مرح:
” الواد الصغير اللي كان بيركب على كتفي و يقولي اجري بيا يا كرملة.. كبر و بقى بغل ”
” Bunu söyleme”
قالها ” إبراهيم ” بلغته الأم التركية، فهو في الحقيقة تركي الأصل و ليس من أصول بريطانية كما ذكرنا سابقًا، كان ذلك فقط لتمويه عصابة
” كارمن ” أما ” إبراهيم ” وُلد و نشأ و تربى في تركيا لأب تركي مسلم ” إيمير إبراهيم ”
ذو صيت واسع بين رجال الأعمال و أم مسلمة من أب مصري و أم تركية، فكان يزور أقارب والدته في مصر كثيرًا و أحب لغتهم و طعامهم و أصبح يقلدهم في بعض الأمور..
الكتيبة التي شكل ” عزمي ” أفرادها كانوا من مختلف الجنسيات و لكن بداخلهم يجري الدم المصري.. و إبراهيم و قُصي صداقتهم ممتدة منذ أن كان ” مُجاهد ” يعيش بأبنائه لمدة خمس سنوات في ” اسطنبول “..
صفع ” كريم ” بخفة ” إبراهيم ” على رقبته وهو يقول:
” ولاه أنت هربان من حواري بولاق، انزل بالترجمة ”
رد قُصي ضاحكًا:
” بيقولك ما تقولش عليا إن أنا بغل ”
” طب إيه رأيك يا إبراهيم يا للي هربان من حواري بولاق أنت.. أنك أنت كمان بغل ”
قالها كريم قاصدًا المجاكرة معه، فشهق إبراهيم بدهشة مزيفة:
” ده أنا لا أي أي ولا زي زي ”
” ايوه كده.. ارجع لروح الشبح اللي جواك ”
هتف بها ” رحيم ” تلك المرة ضاحكًا.. رد إبراهيم بلكنته التي لا يعرفها أحد غير أصحاب الأعين الزرقاء و والدهما..
” صالاك ” بمعنى ” أحمق ” saLak
دفعه ” أُبَيِّ ” في ظهره بخفة هامسًا:
” عيب كده ”
تركهم ” رحيم ” عندما انتبه لصاحبة وجه الدمية ” شمس ” تقف بعيدًا بدموع تجمعت في عيناها..
تساءل بقلق عليها:
” أنتِ كويسة ؟ ”
” الحمدلله.. افتكرت بس البراء ”
” لسه بتحبيه ؟ ”
تأملت نظرات الفضول في عينيه و ردت بصدق
” كرهت نفسي عشان حبيته ”
” و أنا بحب نفسك عشان نفسك ما ينفعش تتكره.. حبيتك قبله بس كتمت مشاعري تجاهك جوايا عشان مخونش صاحبي، صاحبي اللي خاننا
كُلِنا ”
رمشت للحظات بدهشة من اعترافه، فتابع بنظرات اتضح فيها مشاعر الحُب تجاهها..
” تتجوزيني يا شمس ؟ ”
ابتلعت ريقها بتوتر، و جابت المكان بنظراتها الحائرة.. عندما لاحظ خجلها و صمتها، أردف:
” فكري كويس و ها استنى منك جواب.. اوعدك إني أعوضك عن كل لحظة حُزن عشتيها ”
ابتسمت في رقة و أومأت بموافقة في صمت..
انتهى لقاء الجميع في قاعة التكريم و غادروا لبيوتهم، و عاد ” إبراهيم ” للبقاء مع ” قُصي ” استعدادًا لحضور كتب كتاب ” أُبَيِّ و نورا ” الذي تم تأجيله لشهر بسبب وفاة جدة عائشة..
مكوث إبراهيم مع قُصي و أُبَيِّ قبل كتب الكتاب بشهر، ليس لحضور تلك المناسبة فقط، و إنما لتغيير الجو و التسكع سويًا كما كانوا يفعلون في تركيا، فقد اشتاق الفَتَيَانِ لتلك الأجواء المشاكسة كثيرًا..
مرّ ” قُصي ” على بيت ” سيف ” للترحيب بعودته لعافيته، فقد اشتاق له أيضًا و للحديث معه..
انتظره ” إبراهيم ” في الأسفل، و ذهب أُبَيِّ و والده للبيت..
صعد ” قُصي ” في حماس للقاء سيف، و عندما فتح له الباب.. تلاقت أعينهما للحظات، كان ينظر له ” سيف ” بعتاب و غضب منه، أما قُصي تفهم ما سر تلك النظرات و أسرع بالقول:
” حمد الله على سلامتك يا صاحبي.. أنا عارف إنك زعلان مني بسبب بُعدي عنك في شهور الاجازة و زمانك بتقول إني مستاهلش أكون صاحبك و أنا بياع و وحش.. بس صدقني يا سيف في حاجات صعب اشرحها لك.. اللي أنا عاوزك تعرفه إنك وحشتني أوي يا صاحبي، و إني بعتذر لك على البُعد ده، بس والله غصب عني ”
لم يتأثر ” سيف ” بما قاله، و أردف بنبرة فتور، رغم أن قلبه يعكس ذلك لحُبه الشديد لابن عمه..
” ملكش دعوة بيا تاني يا سيف.. أنت في حالك و أنا في حالي ”
امتلأت عين قُصي بالدموع سريعًا، و هذه أكثر صفة يكرهها فيه.. أنه عندما يحزن بشدة تدمع عيناه و يبكي أمام أي أحد..
قال بصوت مُتهدِّج:
” أنا آسف.. حقك عليا ”
رد ” سيف ” بقسوة لم يعهدها هوَ منه:
” امشي يا قُصي.. روح لصحابك اللي كنت معاهم ”
” أنت كُل صحابي ”
” و أنا مش عاوز أعرفك تاني ”
قالها ثم أغلق الباب في وجهه، تاركًا ” قُصي ” ينظر للفراغ بصدمة و بحُرْقَة لم تكن في الحسبان، حتى مرت الدقائق عليه هكذا يطالع الباب أمامه بعدم استيعاب و بـِغُصَّة أصابت حلقه.. أرسلت عينيه دموعًا في صمت على وجهه، ثم استدار ليهبط من الدرج بانكسار لم يشعر به هكذا من قبل..
قبل خروجه من بوابة المنزل الحديدية، هرع وراءه ” سيف ” بعد استيعابه لقسوته على ابنه عمه، و لكن رغمًا عنه قال ذلك كنوع من أنواع العتاب القاسي..
شده سيف نحوه قبل أن يغادر، و احتضنه بقوة قائلًا بصدق:
” أنت مش صاحبي ولا أخويا أنت نصي التاني، و أنا مقدرش أعيش بنُص”
عندما سمع قُصي قوله، شدد من عناقه و قال ضاحكًا بسعادة:
” منا عارف ”
” بس أنت احلويت كده ليه ؟ و ايه البدلة دي ! من امتى و أنت بتلبس بدل ؟ رايح تخطب ولا ايه ؟! ”
” أنا طول عمري واد شيك و حليوه.. استنى أعرفك على إبراهيم التركي ”
” مين إبراهيم التركي ! ”
استدعى قُصي صديقه الآخر ليكتمل ثلاثي أضواء المسرح المرح.. هتف سيف في غيرة وهو يتفحصه:
” اللهم صلِّ على النبي، ده أنت بقى ليك صحاب غيري ! ”
وضع إبراهيم يده بعفوية تلقائيًا على قلبه عندما ذكر سيف الصلاة على رسول الله، و قال في مرح
” بس أنت ها تفضل برضو الصاحب الأول ليه.. يا شبيه أحمد عز أنت ”
أشار سيف لنفسه بفخر:
” أنا مليش شبه، أنا موديل مصر الأول ”
ضحكا الاثنان عليه و تعرفا على بعضهما، ليصبحوا الثلاثة خطر على أهل الحارة من فرط شقاوتهم..
… تَمرّ أيام أخرى في هدوء على الجميع، و أتى يوم الجمعة الذي خصصه ” بدر ” لاعطاء الدروس الدينية لصبية الحارة كما كان يفعل سابقًا..
كان الدرس بعد صلاة المغرب.. تكأكأ الأولاد حوله مستمعين باهتمام لدرس اليوم.. ابتسم لهم
” بدر ” في حنان و شرع يتحدث:
​​​​​​خرجَ المسلمون يومًا لقتال الروم، فلما التقى الجيشان خرجَ فارس من جيش الروم يطلب المبارزة، فخرج له رجل مُلثَّم من جيش المسلمين فبارزه حتى قتله..
ثم خرج فارس آخر من جيش الروم يطلب المبارزة، فخرج إليه نفس الرجل الملثم من جيش المسلمين فبارزه حتى قتله..
ثم خرج فارس ثالث من جيش الروم يطلب المبارزة، فخرج إليه نفس الرجل الملثم من جيش المسلمين فبارزه حتى قتله !
فاجتمع عليه المسلمون يريدون أن يعرفوا من هو، وهو يمسك بلثامه خشية أن يعرفه أحد، فقام رجل يُقال له أبو عمر و نزعَ اللثام عن وجهه فإذا هو عبد الله بن المبارك !
فقال لأبي عمر: ما حسبتكَ ممن يُشنِّعْ علينا يا أبا عمر !
أراد عبد الله بن المبارك أن يكون جهاده خبيئة بينه وبين الله تعالى، لا يدري بها أحد من خلقه، واعتبرَ أن كشف وجهه من قبل أبي عمر فضيحة له…
إلى هذا الحد بلغَ به الإخلاص !، أن يخفي وجهه في موضع لا تُخفى فيه الوجوه مخافة أن يرى الناس حسن صنيعه فيثنوا عليه وهو يريد أن يبقى جهاده في سبيل الله سرًا بينه وبين الله !
قال النبيُّ صل الله عليه وسلم مرةً لأصحابه: من استطاع منكم أن يكون له خبءٌ من عملٍ صالحٍ فليفعل..
يعني إيه بقى يا حبايبي الخبيئة الصالحة ؟
قال صبي باسمًا:
” يعني أعمل حسنة بيني و بين ربنا ”
” أحسنت، بارك الله فيك و فيكم جميعًا ”
ثم تابع التوضيح..
الخبيئة الصالحة هي عبادة تفعلها ولا تُطلع عليها أحدًا من الخلق تُبقيها لكَ ذُخرًا إلى يوم تُبلى فيه السرائر..
الخبيئة الصالحة هي صدقة تضعها في يد فقير دون تصوير أو توثيق، تخفيها حتى عن امرأتك..
الخبيئة الصالحة هي ركعات تصليها في جوف الليل وأهل بيتك نيام، تتسحّبُ من فراشك كي لا يشعر بكَ أحد..
الخبيئة الصالحة هي ورد من القرآن تلزمه دائمًا لا تتباهى به ولا يدري عنه أحد..
الخبيئة الصالحة هي أذكار و تسابيح واستغفار بينك وبين الله وأنت تذاكر دروسك أو تلعب أو تساعد والدك في عمله..
الخبيئة الصالحة هي دمعة تنزل من عينك حين تقرأ آيةً عن عذاب النار، فتمسحها بيدك كي لا يراها أحد
أكثروا من الخبايا فإنَّ الله يحبها..
انهى معهم الدرس، و أجاب على أسئلتهم الفضوليه.. حتى قارب الوقت على آذان العشاء..
بجانب عمل ” بدر ” الجاد على مشروعه و انتهاز فرصة ابعاد ” سامح ” لفرع آخر، كان لا يترك يوم الجمعة يمر دون القاء الدروس و تحفيظ القرآن لأولاد القرية.. و أيضًا لم ينفك ذلك الأمر الذي يخصه علاقته مع حبيبته عائشة يتركه يرتاح من التفكير فيه.. وهو أنه لا يزال يعيشان كالأخوة و هذا الأمر لابد من وضع حد له، و لكن كيف سيطلب منها ذلك وهو لم ينفذ جدول المخططات الذي رسمه و الذي من ضمنه إقامة شقة و زفاف لها مثلها كمثل أي فتاة.. !
جميع العائلة الآن يستعدون لأهم حدث في نهاية الشهر، وهو زواج البكري لمُجاهد و الابنة الوحيدة لأخيه مُصطفى..
و ها هو ” سيف ” يقف على عتبة بيت ” روان ”
يهمس في عشق و يستعد للصعود و لقاء والدها دون علم شقيقه الأكبر و عائلته..
” رواني.. عشقي و غرامي ”
….

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية يناديها عائش)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *