روايات

رواية سيد القصر الجنوبي الفصل الأول 1 بقلم رحاب ابراهيم حسن

رواية سيد القصر الجنوبي الفصل الأول 1 بقلم رحاب ابراهيم حسن

رواية سيد القصر الجنوبي البارت الأول

رواية سيد القصر الجنوبي الجزء الأول

رواية سيد القصر الجنوبي الحلقة الأولى

اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت ربي، وأنا عبدك لمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعاً، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله بيديك، والشر ليس إليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك.
صلِ على النبي 3مرات
لا حول ولا قوة إلا بالله 3مرات
**********
“مهما توارى الحُلم في عيني
وأرقني الأجل
مازلت ألمح في رماد العمر
شيئا من أمـَل ..
فغداً ستنبت في جبين الأفق
نجماتُ جديدة
وغداً ستورق في ليالي الحزن
أيامُ سعيدة ”
فاروق جويدة
الساعة الآن الخامسة فجرًا ..

 

 

وسيارة فاخرة تنهب الطريق سيرًا، طريق خالِ من المبان إلا القليل جدًا منها، وتبدو أيضا مبان مهجورة وكأن لا يسكنها سوى الأشباح!، ومن معالمه يوحى بأنه طريق إلى عالمٍ آخر!.
حتى خيوط الشروق وهي تمتد ببطء بالأفق البعيد، تضحى غريبة وغامضة غموضا يضفي رهبة بالقلوب، وتضيء وكأنها خيوط عنكبوتية ملتهبة بالنيران، وتزين صفحة السماء المظلمة…!
ارتجف جسدها وهي تقود سيارتها وتبتلع ريقها بتوتر وخوفاً شديد، وملمس بشرتها بارد كالثلج، حتى كادت أصابعها تتجمد على عجلة القيادة.
وهنا عزمت أن تتوقف عن السير وإلا ربما أنتهى بها الأمر بحادث مروع وهي متيبسة الأطراف هكذا!.
وشعرت بمجرد وقوف السيارة أن معجزة قد حدثت واستطاعت السيطرة بعض الشيء، ثم اخرجت هاتفها وأجرت اتصال على صديقةً لها، صديقتها التي كانت صاحبة الاقتراح أن تأت لهذا المجهول وتقضي خريفها بهذا المكان الموحش!!.
اللعنة على الاقتراحات التي اودت بها إلى هنا، هكذا تمتمت بخوف وغضب بآنٍ واحد وهي تضغط بثقل على زر الاتصال، ولكن اكتملت المأساة واكتشفت أن لا توجد تغطية كافية لإجراء اتصال هاتفي من الأساس! …فتنهدت بحنق وتساءلت:
_ أكمل هروب، ولا أرجع ويحصل اللي يحصل؟!.
رمت “جيهان”بعصبية هاتفها على المقعد بجانبها، ورمت رأسها ذو الشعر الأسود الطويل بأطرافه المصبوغة التي لا زالت على عهدها بذلك اللون الأشقر الجذاب على عجلة القيادة، وأشرورقت عينيها بالدموع قائلة:
_ أنا بكره نفسي، حتى الهروب بفشل فيه..؟!
وهنا انتبهت من جديد لذلك الصدى الذي يتردد بداخلها ليذكرها بسنواتها الماضية، وعذابها المحفور بداخل نفسها التعسة، وهروبها من كل شيء، هي هنا لتهرب من ذكريات تطاردها كالأشباح!.
ولن تقبل أن تفشل تلك التجربة أيضاً، يكفي شهورًا من الهروب من بلد لبلدًا آخر حتى تنسى، وتستطيع أن تتجاوز تلك التجربة المريرة التي لطخت عمرها بالألم والذكريات الموجعة.
هي هنا …
وحيدة تمامًا ..
ماذا تعني للعالم أن غابت أو حتى ماتت ..؟!
لن يفتقدها أحد …

 

 

واجهشت بالبكاء حتى دخلت بموجة عنيفة منه، وبدأت تضرب عجلة القيادة بعنف من الغضب المكبوت بداخلها، وبعدها اطلقت صرخة مدوية واستغلت ذلك الفراغ والسكون، كررت صراختها التي أرهقت أحبالها الصوتية، حتى أنها ما كانت ستدرك أثناء صراخها هذا أي صوتً آخر لسيارة تمر بجانبها.
ولكن حسنًا جدًا…
أقلًا استطاعت إطلاق سراح شيء من الغضب والحزن اللذان يغمران أعماقها.
وبعد عدة صرخات شعرت بألم رأس شديد ودموع تغرق وجهها، فأرتمت مرة أخرى على عجلة القيادة مغمضة العينان في حالة أعياء واضحة، ومر من الوقت القليل حتى انتبهت لخطوات قريبة منها، فرفعت رأسها وحملقت برعب للهيكل البشري الضخم الذي يقترب نحوها بحرص، واستطاع بسهولة فتح باب السيارة المجاور لها، ثم صوّب عيناه عليها بحدة وتساؤل صامت تطرحه عيناه بوضوح، عيناه التي كانت أكثر رعبًا من هذا المكان المجدب القاحل، ولحيته السوداء الطويلة التي تخفي تقريبًا معظم ملامحه وتماثل لون ردائه أيضاً، كل شيء فيه شارك في تلك الطلّة والهالة المخيفة المُلتفة حوله. .
ابتلعت جيهان ريقها الذي جف تقريبًا، وهي تنظر له برعب وتتسحب على مقعدها مبتعدة عنه وتتمتم بخوف، وقالت وخصلاتها الكثيفة ملتصقة بوجهها المتعرق:
_ أنت مين؟ وعايز إيه ..؟! أبعد عني وإلا هصرخ.
وكان من المضحك تهديده بتلك الكلمات الساذجة وهما تقريبًا في صحراء حيث لا أحد غيرهما، ولكنه ضيًق عيناه بحدة عليها وفهم انها لا تحتاج للمساعدة وإلا كانت استغلت فرصه ظهوره، رغم صراخها منذ قليل الذي جعله يقف بسيارته معتقدًا أن هناك كارثة تحدث! ..
الإناث كوارث هذا الكون!، مثل الأسلحة يصرخن بالمصائب وهن القتلة..!
هكذا كانت تتحدث عيناه وهو ينظر لها بسخرية وازدراء، ثم تركها وابتعد نحو سيارته دون أن يتلفظ بكلمة!، كأنه وجد إنها أقل من أن يتحاور معها..!
وضيقت جيهان عينيها بذهول قائلة بصوتً مضطرب:
_ مش معقول يكون اللي أنا فيه ده حقيقي!!، أنا حاسة كأني وقعت في عالم تاني ودنيا تانية غير اللي كنت عايشة فيها..!، أنـا فيــــن …؟!.

 

 

وقبل أن يدخل الغريب سيارته التفت ينظر وجهتها بنظرة ثاقبة، وأنتظر لحظات بنفاد صبر، كأنه يتأكد أنها لا تحتاج لأدنى مساعدة، ثم قرر المغادرة بسيارته لطريق مضاد لإتجاه طريقها، وذلك عندما وجدها ساكنة داخل سيارتها، واختفت سيارته تمامًا بعد دقائق، وتنفست جيهان الصعداء وبدأت تهدأ، ثم حركت سيارتها وسارت بالوجهة الأخرى، ومر تقريبًا نصف ساعة وهي تتفقد الطريق أمامها وبعض الأرقام المحفورة على الواح معدنية لتحديد الاتجاهات، وتوقفت عندما شعرت ببعض التعب والإرهاق، وللمرة الثانية شعرت بنقر خفيف على زجاج سيارتها، ففتحت عينيها بروع وقد ظنت أن حيوان مفترس هجم عليها، أو ربما الرجل المُخيف عاد من جديد، ولكن رأت فتاة ذات شعر أشقر ومعها شابان يقفان خلفها، فأخفضت الزجاج قليلّا لتستطيع التحدث معهم، فقالت الشقراء برجاء:
_ ممكن لو سمحتي توصلينا معاكي ..؟!
وتابعت الشقراء وهي تشير للشابان وتنظر لهما بنظرة غامضة:
_ كنا مع مجموعة صحابنا في رحلة، بس للأسف العربيات سابتنا ومشيت.
لم تكن جيهان بحالة تسمح لها بالتفكير، ويبدو أن الفتاة افترضت موافقتها من لحظات صمتها، وفتحت الباب الخلفي وجلست بإرياحية مستفزة!، ثم أشارت للشابان قائلة:
_ مروان هيسوق العربية بدالك، أنتي شكلك تعبانة ومش هتقدري تسوقي، يلا يا شباب.
شعرت جيهان من النظرات الثلاثة الغامضة لبعضهم ولها أن هناك شيء مريب يدبرون له، فقررت أن تتعامل بجرأة فهتفت بغيظ:
_ أنا موافقتش اوصلكم ؟! .. وبعدين أنتوا أزاي تدخلوا عربيتي من غير موافقتي؟!.
خيّم الصمت عليهم فجأة، حتى تسلل الثلاثة من السيارة بهدوء، فشعرت جيهان بوخزة ندم من موقفها، وكادت أن تعتذر لهم حتى جذبها على حين غرة أحد الشابان لخارج السيارة، والذي يدعى ” مروان”، وجرها جرًا بعنف شديد، ثم هوت يده بعدة صفعات على خديها جعلت أنفها وشفتيها ينزفان دمًا.
وقال الثالث وهو يخرج مسدسًا من حوزته ويشهره بوجهها:
_ العربية دي فخامة وتلزمني، بس الأول نخلص من البت دي ونرميها على الطريق، سيبها وأبعد أنت يا مروان.
ولكن مروان نظر لها نظرة مفترسة شهوانية، ثم ابتسم بخبث وقال وتبيّن انه يضمر شيء:
_ والبت دي برضه فخامة وتلزمني، سبيهالي أنا وروحوا انتوا خلصوا المصلحة وهحصلكم.
تحدثت الشقراء وهي تنظر للقائل بغليان، وأتضح من ثورتها إنها عشيقته، فبدأت تلفظه بالشتائم:
_ طول عمرك قــ..

 

 

وقطعت حديثها وهي تنظر له بأحتقار عندما أشار لها ثالثهما بالصمت، وكتمت سيل من السباب والشتائم، خصيصًا عندما حدجها مروان بنظرات تهديد وحذر، ومن شدة غيظها منه بصقت على الارض قبل أن تلتفت وتعود للسيارة مع الشاب الآخر، واخرجت حقائب جيهان ورمتها أرضاً بعصبية مفرطة، وذلك بعد أن فتشتها وأخذت منها كل شيء ثمين عدى بعض قطع الملابس التي تركتها بالحقائب، وبعدها ابتعدا الثنائي بالسيارة خلال دقائق قليلة، وجر مروان جيهان وهي تصرخ وتستغيث بين يديه، حتى دفعها على الأرض بقسوة، وراقبها باستمتاع وهي تتأوه المًا من السقوط، وتزحف للخلف مذعورة من نظراته لها وما عزم عليه، فقالت بتهديد وهي تبك وتشير له بسبابتها بتحذير:
_ أبعد عني وإلا هوديك في داهية..
ضحك عاليًا بمنتهى السخرية والإستهزاء من تهديدها الساذج، وقال وهو يقترب لها ويفك أزرار قميصه:
_ ده لو سيبتك عايشة بعد اللي هعمله، نقطة ضعفي الستات الحلوة، وأنتي مش بس حلوة، أنتي …
وقبل أن يقترب لها ويتابع حديثه ويفعل فعلته الشنعاء دفعت جيهان بوجهه حبات من رمل الطريق، جعلته يغمض عينيه بأنزعاج وهو يسبها بأفظع الشتائم ويفرك عينيه بألم، ونهضت وهي تقاوم بكل قوتها، ثم استغلت أختلال تركيزه وخطفت من جيبه مسدسه الخاص فجأة، وظلت تضرب به رأسه بعد ذلك حتى سقط مغشيًا عليه.
ونظرت بعدها جيهان لما بيدها في رعب وذهول، هل فعلت ذلك واستطاعت التغلّب على مجرم خطير كهذا؟!، ثم هبّت بالركض عندما وجدت المُلقى أرضًا بدأ يحرك يديه ويستفيق..
وما كانت تعرف كيف أتت تلك القوة على الركض وهي بهذه الحالة التي لا تُحسد عليها، ولكن بعد تقريبًا نصف ساعة أخرى كانت ابتعدت تمامًا عن ذلك المجرم الحقير، وقد خبأت المسدس بملابسها جيدًا، فهي لا تعرف ماذا ينتظرها بالدقائق التالية، ووقفت عندما لمحت على بُعد أمتار قليلة مبنى ضخم يشبه القصور القديمة التي قرأت عنها بالقصص الخيالية، يبدو مخيفا أيضًا!!
كل شيء بهذا المكان كأنه نموذج حي من أساطير الرعب التي كانت تسمع عنها!!.
وتباطئت في مشيتها وحينها بدأت أشعة الشمس تتوهج فوق رأسها.
وبعد أن استطاعت أخيرًا التقاط أنفاسها من الركض شعرت بأنفاس خلفها، فالتفتت بذعر لتجد ذلك الحقير قد سبقها مجددًا ولم تشعر به، ونظر لها بغضب شديد جعلها تصرخ عاليًا قبل أن يلطمها بصفعة موجعة، ثم باغتها بلكمة على رأسها جعلتها تفقد التوازن وتسقط بدوارًا شديد.
وارتعدت جيهان عندما فتحت عينيها قليلًا بإعياء ولمحت أعداد هائلة من كائنات صغيرة ظهرت فجأة وكأنها هبطت من الفضاء وتركض نحوها، ويرتدون زي كأنهم جيشاً بنسخ مكررة من البطل الكرتوني باتمان، وأقنعة مرعبة على رؤوسهم منسدلة حتى نهاية عنقهم، وتاهت بحالة من الإغماء بعد ذلك، وكانت تأكدت انها وقعت بعالم آخر، وعندما كانت تريد الهرب من مجرم خطير واستطاعت، أوقعها قدرها بين براثن كائنات لا تعرف من أي عالم ينتمون!
_ وراه

 

 

قال تلك الكلمة أحد الكائنات وأكثرهم طولًا بقليل من أقرانه، وكأنه قائدهم ويأمرهم بسرعة القبض على هذا المجرم الذي فرّ هاربًا، فأنقسم عدد الكائنات لنصفين، نصفّا لحق بالمجرم، والنصف الآخر التف حول المُلقاه أرضا ينظرون لها بنظرات ثاقبة بريئة، يتفحصونها بأعينهم في دقة وتعجب كأنها سقطت من كويكب آخر، وقال أحدهم بخوف وهو يخلع قناعه ويظهر وجه بشري وطفولي بريء جدًا:
_ هي ماتت ..؟!
وبعدها خلع مجموعة الأطفال أقنعتهم المخيفة، وتبيّن أن أعمارهم لا تتعدى عن الثانية عشر عاما ولا تقل عن الخمس سنوات، قال كبيرهم “شاندو” وهو يقترب من المغشى عليها ويتفحصها:
_ مش عارف، بس هي بتتنفس!، تبقى كده ماتت ولا هتموت لسه؟!
رد الطفل “بقلظ” ذو السبع سنوات وقال بتبرم:
_ الراجل شكله ضربها جامد، يضرب في لسانه لا يعرفش يشرب ولا يهضم.
ثم نظر لها الصبي المدعو بـ “شاندو” وابتسم بإعجاب قائلًا:
_ قمورة أوي، شعرها طويل وأسود في أصفر، ولابسة فستان فوشيا، كيكة لابسة فوشيا، تبقى فوشياكيكة.
ونهض شاندوا وأمر البقية أن يتبعوا أوامره وقال:
_ خدوها على جوا ..
سأله بقلظ بحيرة:
_ هناخدها على فين يا ريس شاندو ؟!
رد شاندو قائلًا بجدية وقد أعجبه تفخيم بقلظ له:
_ على أوضتي ..
قال الثلاثون صغيرًا في نفسا واحدًا بمزيج بين السخرية والتعجب:
_ فين أوضتك دي ؟!
فنطق الطفل بقلظ وهو يضحك:
_ أنت ليك أوضة لوحدك ؟! .. ده أحنا كل خمسة بيناموا في أوضة واحدة، فوق يا شاندو أنت فقير..!
اغتاظ شاندو منه وفكر قليلًا، ثم قال بتوجس وهو يشير بالحديث لشخصًا ما مجهولًا ليس موجود بينهم الآن:
_ ما هو ماينفعش غير أوضته، عارفين لو رجع فجأة ولقى الفوشياكيكة دي في أوضته هيعمل فينا إيه ؟! … هيخلي أيامنا أسوديكا، ده معقد وبيكره الحريم.
قال بقلظ بخوف:
_ والرجالة كمان والبشر كلهم والله، أنا متوتر يا عيال ..
لكمه طفلًا آخر بضحكة عالية يدعى ” عصفور” وهو في نفس عمر بقلظ وتمتم بين ضحكاته:
_ يا مثقف ! ..

 

 

 

وعندما لاحظوا الأطفال أن المُلقاة بدأت تستفيق بعض الشيء، قال شاندو بأمر لأقرانه:
_ هاتوا أي خشبة عريضة من جوا نشيلها عليها وندخلها.
اقترح الطفل بقلظ بتوتر:
_ بس أحنا صغيرين مش هنعرف نشيلها لوحدنا، نجرجرها لجوا احسن؟
ضربه شاندو على رقبته وقال بحزم :
_ أحنا رجالة ياض وهنشيلها…!
قال الطفل عصفور بضحكة مستفزة :
_ ما هي مش أكبر من الهم اللي شيلناه.
كشر بوجهه شاندو وتمتم ببعض السباب، فأرتفعت ضحكة عصفور أكثر وأستفز بضحكته الجميع، ثم أتيا طفلين بخشبة عريضة يجرانها جرًا، فضحك عصفور مرة أخرى وقال :
_ مش عارفين تجروا الخشبة فاضية، أومال هتشيلوا عليها الجثة دي أزاي يا ولاد المضحكة ؟!..
جره شاندو من ياقة ردائه وقال بعصبية وهو يهزه بين يده:
_ مش عايز أمد إيدي عليك!، غور من وشي عشان وشك ده بينرفزني وانت شبه البخاخة كده..!
قال عصفور وهو مقتطب الجبين اخيرًا:
_ لا هشيل معاكم.
هتف بقلظ بنرفزة:
_ يلا بقا قبل ما تفوق وتقوملنا !! …بس أنا متوتر.
وبعد صعوبة استطاعوا الثلاثون طفلًا أن يحملوها على اللوح العريض ويسيرون بها كأنهم يحملون نعشا لمتوفي ويسيرون في جنازة، فقال عصفور بضحكة عالية:
_ وحدوا الله، النعش بيجري يا عيال.
وخاف الأطفال وركضوا وهم يحملون جيهان على اللوح لمدخل القصر المهجور، حتى وصلوا للداخل لاهثين من الخوف، وسقط اللوح عليهم وافترش الأرض ثلاثون طفلًا وفوقهم لوحاً يحمل جسد جيهان الغائبة عن الوعي.
**********
وبالطريق المبتعد عن القصر عدة أمتار، استطاع الثلاثون طفلًا الآخرون حصر المجرم ودفع الرمل بوجهه ليشلوا حركته موقتً، ثم ضربه كبير الفريق والذي يدعى ” شامي” بحجارة كبيرة جعلته يفقد الوعي، وطفلًا آخر رماه بحجارة بين عينيه وذلك بواسطة شيء يشبه قوس الرماحة، ولكنها تقذف الحجارة بدلًا من الأقواس القاتلة.
والتف حوله فرقة الأطفال، ونظر له من بينهم طفلًا يدعى ” سواعي” بغيظ شديد وسأله شامي باستفسار بعد ملاحظته :
_ مالك يا سواعي؟!

 

 

رد سواعي وهو ينقض على الرجل المغيّب الوعي ويوسعه ضربًا بالصفعات على وجهه ويصيح بغيظ:
_الراجل ده شبه الراجل اللي ضربني في جاتا .. والله ما أنا سايبه.
وشاركه الاطفال في الضرب أنتماءًا لصديقهم المجني عليه، فأوقفهم شامي وقال للطفل سواعي بجدية:
_ خلاص هيفرفر في إيدك ياجدع، أحنا نكتفه في الشجرة دي قبل ما يفوق، ولما يوصل الزعامة هو هيتصرف معاه بمعرفته.
وافقه الأطفال على اقتراحه واستطاعوا بالفعل تقييد المجرم، ولكن بمجرد أن استفاق المجرم قليلًا وحرك جسده قليلًا ركضوا مبتعدين عنه وهما يرددون بخوف:
_ يا زعامــــة الحقنــــــا يا زعامـــــة.
***********
شقة في حي راقِ، فُتح بابها ودخلت الطبيبة النفسية “مروة” تجولت نظرتها بالمدخل الذي يؤدي للصالون وبقيّة الغرف المؤثثة بأفخم الاثاث الحديث، وبدأت تنادي:
_ جيهان … يا چي چي؟!
وكررت ندائها عدة مرات ولم يرد ندائها بالإجابة، ولكن لاحظت ورقة مطوية على منضدة بقرب نافذة كبيرة، فشعرت أنها ربما تكون رسالة متروكةً لها، فـ جيهان بالآونة الأخيرة أصبحت تفضل الرسائل الورقية المكتوبة بخط اليد عن الإلكترونية السريعة، حيث لا رد مباشر يردعها عن قراراتها المفاجأة، فأقتربت مروة وأخذت الورقة التي بعد أن فتحتها تأكدت من ظنها ثم قرأت فحواها:
_ حاولت يا مروة معرفتش، كل مكان بروحله ببقى عندي أمل أني هرتاح فيه وهقدر أبعد وأهرب وأنسى، في خمس شهور كنت سافرت بلاد كتير ، وروحت أماكن أكتر، جوا مصر وبراها، مقدرتش أقعد أكتر من يومين في كل مكان، المشكلة مش في الأماكن، المشكلة فيا أنا.
تنهدت مروة بضيق شديد وتابعت قراءة:
_ كنت قوية لما خدت قراري أبعد واتطلق، لكن بمجرد ما بقيت لوحدي من تاني ضعفت، أنا مش عايزة أبقى وحيدة من تاني، أنا مرعوبة من نفسي على نفسي، ضعفي وخوفي خلوني مريضة نفسية .. مش عارفة ليه حاسة أن دي نهايتي وآخر الرحلة، رحلة ماشوفتش فيها غير الدموع والوجع والخوف وطمع الناس فيا.
وضعت مروة الورقة في هدوء، رغم ما تشعر به من أحباط في خطة علاج مريضتها ” جيهان” .. مرضها في الحقيقة ليس مرضًا ملموسًا، ولكنه منتهى الأحتياج للحب والأمان، فهناك أشخاص لا يرضون بأشباه الحب الأربعون، يبحثون دائمًا وبدأب عن النسخة الاصلية التي هي بالأساس نادرة الوجود.
وقررت مروة تتبع سبيلها وكتبت لها بورقة أخذتها من حقيبتها سريعًا:
_ صديقتي العزيزة جيهان، كلنا نحتاج للحب والأمان، كلنا نهرب من بعض عثراتنا وأوجاعنا مثلما تفعلين، الهروب من الألم ليس بخطأ، ولكن الهروب من النفس يعني فداحة النهاية.

 

 

 

أعترفي بضعفك ووأجهي أزمتك بشجاعة، أنت تحتاجين أن تواجهي نفسك أولًا، ثم العالم، بثقة تامة أنكِ بخير بمفردك.
أنت تحتاجين لنفسك القوية أكثر من أحتياجك لكل شيء، ولأي شيء، تحتاجين لميثاق تصالح معك أنت ونفسك، حينها فقط ستونثين بوحدتك، وترين الحجم الحقيقي لاحتياجك للحب، من لم يجد الفة نفسه مع نفسه لن يجدها مع مخلوق آخر.
ولكني أشعر بحدسي أن هناك طوفان من الحب ينتظرك … وربما مع رحلة بحثك عن الحب … تجدين نفسك الحرة.
صديقتك المخلصة مروة …
وطويت مروة الورقة ووضعتها مع مثيلتها على المنضدة، ثم خرجت من الشقة التي كانت تمتلك أحد مفاتيحها لسهولة الدخول لمريضتها الفاتنة الحزينة” جيهان” ..
**********
فتحت جيهان عينيها ببطء وشعرت بثقل عظيم بجسدها عندما حاولت رفع يديها تتحسس وجهها البارد بشحوب، وارتفع منسوب الادرينالين وهي تنتفض بذعر عندما وقع نظرها على تلك الكائنات المحدقة بها وتملأ أرجاء الغرفة، حتى ما تركت مساحة لموضع قدم واحدة أضافية..!
غرفة ! … تردد صدى خطر بعقلها، وارتعبت حينما تذكرت أنها كانت بالطريق المجدب والآن هي بغرفة مغلقة مع تلك الكائنات الغريبة، ولكن مهلًا ..!
يا لساذجتها وغبائها التي تأخذ عليهما جائزة الأوسكار..!
فهؤلاء المحدقين فيها بتفحص وبراءة ما هم سوى مجموعة أطفال يرتدون زيًا غريبًا فقط، ولكنها من فرط الخوف كادت أن ترى الهرة الرضيعة ثعبان الكوبرا..!
ومن نسمات الهواء عاصفة ضبابية ستغطي الكرة الأرضية ويكون الهلاك..!
اعتدلت وبدأت معدلات قلبها في الأنتظام بعض الشيء، وقالت ببعض التوتر وهي تنظر لتلك العيون المحدقة بها بتعجب وكأنها دمية:
_ أنا جيت هنا أزاي ..؟!
ابتسم شاندو لها بإعجاب صبياني، وقال وكأنه المتحدث الرسمي عن أقرانه:
_ أنا اللي شيلتك يا قمر لحد هنا.
هم الطفلّ بقلظ بالتعديل وهو يقف أمامه كالجرو الصغير، وصاح بإعتراض في وجه شاندو:
_ شيلناها كلنا !!
ضحك الطفل عصفور وهو يتذكر تلك المأساة وقال:
_ شيلناكي على اللوح الخشب ووقعنا بيكي كلنا، موقف ما يشرفش ولا يتقال ولا يتسمع حتى..!
جر شاندو بغيظ الطفل عصفور من ملابسه حتى يطرده للخارج ولا يفضحهم اكثر من ذلك، فأعترض عصفور وهتف بتهديد وهو يحاول الخلاص من يد شاندو:
_ سيبني يا شانتو ! .. سيبني بقولك.
لكمه شاندو على كتفه بغيظ وصحح نطق اسمه قائلًا:

 

 

_ اسمي شاندو، وكلمة زيادة هطردك برا الفريق وهخليك قاعد احتياط مالكش لازمة يا تقاوي البلح أنت!.
ضيق عصفور عينيه بغيظ وقال وهو كالأرنب يتأرجح بيد شاندو:
_ ما انا لو قعدت احتياط هبقى في فاضي وهفضحكم عند الزعامة، والله هقوله كل حاجة حصلت النهاردة.
ترك شاندو الطفل عصفور بعد ذلك التهديد، الذي أتضح أنه بالفعل مخيفا ليجعل شاندو يتراجع ويلاطف بزيف الطفل الآخر قائلًا:
_ ياض بقولك أطلع بس شوية عشان نسيب الفوشياكيكة دي ترتاح شوية، شوف مرهقة وقمر أزاي!.
ولم تفهم جيهان على من يطلق هذا الاسم العجيب!، ومن الذي يسمونه بالـ “الزعامة” .. لم تستطع فهم ما يجري حولها، ولم تفهم كيف لصغار بأعمارهم يتحدثون مثل الكبار هكذا؟!، حتى أتى الدفعة الثانية من الأطفال وظلوا بخارج الغرفة المزدحمة، ولكن فردًا واحدًا منهم وكان أكبرهم عمرًا دخل الغرفة، وكان شامي الذي يبلغ من العمر ١٢عام، وقال له شاندو بجدية:
_ عملتوا إيه مع الراجل يا شامي ؟
رد شامي وهو ينظر لجيهان بابتسامة هادئة وقال:
_ كتفناه برا في النخلة وكله تحت السيطرة يا شاندو، المهم دلوقتي ننقلها عند البنات في القصر، مايصحش تفضل بينا هنا.
رد بقلظ بغيظ:
_ بس احنا صغيرين !!.
ضربه شاندو على رأسه وقال معترضاً:
_ احنا رجالة ياض! .
ثم وجه شاندو حديثه لشامي وقال بنرفزة:
_ ما تسيبها هنا ياجدع، ما تبقاش غتت يا شامي ده أنا حتى بحبك يا صاحبي!.
سألهما بقلظ بتعجب:
_ السؤال هنا، هما اللي في القصر دول بنات؟! .. محستش خالص!
ضيّق شامي عيناه للطفل بقلظ حتى ابتعد الأخير بتوجس والتصق بصديقه عصفور، فهمس له عصفور وقال بضحكة خافتة:
_ كل مرة بتتهزأ وتجيلي أنا بالذات!، ده احنا كده صحاب أوي بقا.
تدخل شامي بالحديث وقال لشاندو وهو يقصد شخصًا ما:
_ ماينفعش، أحنا وعدناه نسمع كلامه ونتربى صح ونبقى محترمين.
قال عصفور بابتسامة مستفزة:
_ واحنا بنوعده كان شانتو نايم !.
ضاق منه شاندو ولاح في عبوسه بوادر الغضب، فتجنبه مؤقتً وقال لصديقه شامي:
_ القصر مقفول على البنات، ولو صحينا عم مغاوري يفتحلنا الباب احتمال يتصل بيه ويقوله وهتبقى مصيبة، بس في نسخة من المفتاح مع البت أشهاد.
تحول وجه شامي من الهدوء للعصبية ودفع شاندو بانفعال وقال:
_ ماتقولش بت وما اسمهاش أشهاد..! … مش أنا غيرت اسمها وسميتها مديحة؟!… تبقى مديحة!.
تحسس شاندو موضع اللكمة المؤلمة على كتفه وقال بعبوس:
_ بنسى يا شامي!، ايدك تقيلة أوي يا جدع !.

 

 

اغتاظ بقلظ منهم وقال:
_ المهم هندخلها أزاي؟!، لازم نوصل للمفتاح ..
وتحدث شاندو باقتراح:
_ ولازم حد يسرق مفتاح عم مغاوري بتاع القصر عشان مايدخلش فجأة ويلاقي الفوشياكيكة دي، لحد ما نلاقي حل أو اتجوزها احسن.
هتف بقلظ بدهشة:
_ جواز؟!… بس احنا لسه صغيرين ؟!
ضربه شاندو بنرفزة مرة أخرى وقال:
_ قولتلك أحنا كبار ياض!!
قال شامي لفض العراك :
_ هروح أنادي على مديحة تحدفلي المفتاح، وحد فيكم يروح لعم مغاوري في أوضته يسرق المفتاح من غير ما يحس.
هتف الطفل عصفور على زميلًا له ثم قال لهم بتاكيد:
_ الحمد لله صاحبي حرامي، سواعي اللي بيعرف يسرق، مافيش حد احسن منه للمهمة دي، تعالى يا سواعـــــي، والله وبقا ليك لازمة يا صاحبي.
دخل الطفل سواعي وهو يأكل ساندوتش محشو بالجبن، فضمه عصفور بترحيب وفخر، ثم طرح عليه شاندو الأمر للمناقشة والبت فيه، فكان رد سواعي بإختصار:
_ موافق.
وهنا انتهت المداولة بين الأطفال، وذهب بعضهم لتنفيذ ما خططوا له، وانسحب البقية لأماكنهم بذلك المبنى المجاور للقصر، بينما ظلت جيهان تنظر للفراغ بدهشة مما يجري حولها، ولماذا الاطفال افترضوا بقائها..؟! ولماذا هم هنا بمفردهم في هذا المكان المخيف؟!
وقفت أمام عينيها عدة أسئلة لم تعرف لها إجابة، مهلًا ..فهي ما يهمها سوى سلامتها فقط.
وبجميع الأحوال لابد أنت تنتظر حتى يبتعد ذلك المجرم عن هنا وتستطيع ايجاد سيارتها المسروقة وحقائبها التي فقدت وتغادر بسلام.
********
بفيلا عائلة زايد ..
وقفت نوران بالردهة تراقب شيء، والخدم حولها ينتشرون بالمكان ويستعدون لحفل الزفاف الضخم لفارس العائلة الاول “زايد” ، واقتربت لأبنها هيثم الذي للتو أنتهى من مكالمة هاتفية يؤكد فيها على دعوة أحد المعارف، فقالت له باستغراب:
_ اللي يشوفك وأنت فرحان وبتعزم الناس وبتأكد كمان عليهم يقول أنه فرحك أنت !… أنت خلتني بعيد غصب عني ، بس أنا لحد دلوقتي مش فاهمة أنت ليه سيبته ينفذ كل حاجة كان بيحلم بيها ؟! ..المشروع الكبير وشركته الخاصة وكمان جوازه من فرحة !! ..
واضافت بسخرية:
_ مش مصدقة أنك مستني لما يتجوز وبعدين تنفذ خطتك!.
ابتسم هيثم بمكر وقال وهو يعرف أن أمه تستدرجه لتعرف منه ما يخطط له:
_ هتعرفي الليلة، أنا سيبته ده كله عشان الليلة هدمره وانتقم منه، اللي مستنيه النهاردة مش فرحة عمره زي ما هو فاكر ! … دي فضيحة هتدمرله حياته ومستقبله كله، مالقيتش أنسب من النهاردة عشان أنفذ خطتي، والكل حاضر ومعزوم وعلى عينك يا تاجر.
لم تطمئن نوران من حديث أبنها، بل قلقت لأنها تعرف زايد جيدًا، وتعرف أنه يخلف جميع التوقعات والأحداث.
**********

 

 

وقف زايد أمام مرآته مبتسما بمكر، بعدما أرسل رسالة هاتفية لزوجته ” فرحة” التي ستبدأ أولى أيامهما ولياليهما بدءً من اليوم … وبعد ساعاتٍ قليلة سيكون زفافهما، وبعد ذلك مشط شعره وابتسامته تتسع لأنه يعرف ردة فعلها مسبقاً من الحياء وأحمرار خديها من جرأة أحاديثه خاصةً بعد عقد القران، ففتح الباب فجأة شقيقه فادي وهو يهتف ويصيح بسعادة قائلًا:
_ أخيرًا هشوفك عريس وتدخل عش الزوجية يابرو ؟!، أنا مش مصدق نفسي.
التفت له زايد بقامته الطويلة ووقف أمام شقيقه مبتسما بسعادة واضحة، سعادة لا تزوره بالأيام والسنوات الماضية ولو لمرة واحدة، وقال بضحكة:
_ تخيل أني هتجوز خلاص وأنا مبسوط كمان بالقرار ده ؟! .. أنا عن نفسي مكنتش متخيل أن ده هيحصل !!.
ضمه فادي بمحبة صادقة وقال له:
_ أنت تستحق أحلى حاجة في الدنيا يا زايد، ومهما أعترضت أنت، بس أنا هفضل أتمنى أبقى زيك في كل حاجة.
وربت زايد على كتفه بلطف يبادله تلك اللحظات بالود والمحبة الخالصة،حتى غيّر فادي دفة الحديث عندما دمعت عيناه وقال بأهتمام وبعض القلق:
_ أنت متأكد أنك مش هتحتاج للعكاز عشان رجلك ؟ ..
أجاب زايد بصدق وقال:
_ للأسف الإصابة التاني اللي حصلت قللت نسبة نجاح العملية، بس النهاردة يوم فرحي ومش حابب استخدم العكاز ده، لكن أطمن انا تمام من غيره.
طمئن زايد شقيقه فادي، رغم أنه يعرف السر وراء تلك الإصابة المدبرة من تدابير زوجة أبيه وأبنها الحقود، ليضع أحدًا سائل بحذائه ذات يوم جعله يسقط ويتأذى أكثر ذلك الضلع المجبّر بعد الحادث، وآلت الأمور إلى تأجيل زفافه ثلاثة أشهر أضافية عن الموعد المحدد… ولكن مهلًا.
سيلقن ذلك الحقير درسًا يجعله يفكر مرارًا قبل أن يقف بطريقه مرةً أخرى، أما الآن فهو لا يرى سوى سعادته المنتظرة مع حبيبته، لا انتقام أو شر يجد مكان بقلبه وهو يملك هذا الشعور الفياض من السعادة.
**********
وبغرفة واسعة بالطابق العلوي من القصر، اغمضت الطفلة “أشهاد” عينيها التي لا تبصر بألم انتشر حتى برأسها، وعادت بظهرها على المقعد المتحرك لتجلس بإرياحية علها تشعر ببعض الهدوء، فقالت صديقتها “وصيفة” التي تماثلها بالعمر “١١ عام” وتحدثت بإستياء:
_ لسه برضه عيونك وجعاكي يا أشهاد ؟! … طب أعملك كمادات تاني يمكن الوجع يخف؟.
فتحت أشهاد عيناها الحمراوان وقالت :
_ لأ يا وصيفة ما تقوميش من جانبي، الكمادات مش بتريحني، يا رب بابا يلاقي القطرة بتاعت عنيا.
قالت بمزاح طفلة ثالثة تشاركهما ذات الغرفة وتدعى “رضا” :
_ بقيتي تقوليله بابا كده عادي ؟! .. ده احنا لسه عارفينه من كام شهر يابت يا أشهاد ؟!.
نظرت لها وصيفة بغيظ، بينما بكت ذات العينان الزرقاوان اللذان كان من قدرهما أن لا يبصرا ويران هذه الحياة القاسية إلا سنواتٍ قليلة من العمر، وزاد الأمر سوءً عندما تعرضت لحادث أفقدها الحركة تمامًا فقالت:
_ بس حن علينا ولمنا من الشارع، طبطب علينا واعتبرنا ولاده، ساب دنيته وعاش معانا هنا بيعلمنا وبيأكلنا ويشربنا، يبقى ليه ما أقولوش يا بابا ؟! ..
ضمتها صديقتها وصيفة برفق وقالت بعصبية للأخرى:
_ اتكتمي دلوقتي أنتي يا رضا، أنتي غبية في كلامك.

 

 

وقالت أشهاد ببكاء وكأنها استغلت تلك الفرصة لتبك:
_ ده أنا ما صدقت أقول يا بابا لحد.
قالت رضا بعصبية:
_ هو أنا عملت ايه عشان تعيطي، مكنتش كلمة دي ! ..
ورمتها وصيفة بنظرات نارية تتوعدها بالعقاب لاحقاً، ثم فجأة سمعوا صوت شامي ينادي بالخارج، فأنتبهت أشهاد وقالت بلهفة وهي تحرك عجلة مقعدها للڤراندة:
_ ده شامي، شامي بيندهلي ..!
وقلدتها رضا بسخرية وعادت لترتيب وتنظيف الغرفة، ولحقت وصيفة أشهاد بالڤراندة، حيث لمست أشهاد بأصابعها الرقيقة شديدة البياض سور الفراندة وقالت بابتسامة وهي تمسح دموعها:
_ أيوة يا شامي سمعتك .. عايز إيه ؟
انقطعت ابتسامة شامي عندما لمحها تمسح عينيها من الدموع وقال بحزن لأجلها وهو ينظر للأعلى:
_ أنتي بتعيطي ولا لسه عنيكي وجعاكي ؟! ..
هزت رأسها نفيًا وقالت:
_ لا متخافش عليا أنا بخير، كنت بتنادي ليه ..؟
نظر شامي لها بقلق حتى وكزه صديقه شاندو وقال :
_ يابني ما ترد أنت هتفضل متنح كده ؟! … هرد أنا.
وكاد أن يتحدث حتى وقفت وصيفة بجانب صديقتها أشهاد ونظرت له خصيصاً بغيظ، فتراجع شاندو وقال:
_ يا ستار يارب على البت دي، تشوفني كأنها شافت عفريت !.
فقال شامي بمرح:
_ ما أنت كل ما تشوفها تهزقها!! ..
و رد شاندو على نظرة وصيفة المغتاظة بنظرة ساخرة وقال:
_ احدفوا مفتاح بوابة القصر، عايزين ندخل ..
شهقت وصيفة من ما سمعته وقالت وهي تدفع فوق رأسه الشتائم:
_ وعايز تدخل ليه يا قليل الأدب يا سافل، أحنا بنات ولوحدنا تدخل تهبب ايه بقا و…
قاطعها شاندو بعصبية :
_ ما تتلمي يابت انتي أنا ساكتلك من زمان ! … مش تسمعي وتعرفي السبب بدل ما أنتي شبه الخرتيت كده !…. يا غولة!
تدخلت أشهاد وقالت لصديقتها:
_ أستني يا وصيفة نشوفهم عايزين إيه ؟

 

 

ضربت وصيفة الأرض بقدمها أعتراضّا على ما لفظه شاندو بوجهها، وعادت للغرفة وهي تركض، فأوضح شامي الأمر قائلًا:
_ معانا ضيفة، لقيناها مرمية على الطريق برا القصر والمزرعة وأنقذناها، وبما أنها واحدة ست فالأحسن تبقى معاكم أنتم..
قالت أشهاد بتأكيد:
_ أيوة صح يا شامي، أستنى هجيبلك المفتاح …
وحركت أشهاد مقعدها للداخل وقالت للفتاتان:
_ هاتوا مفتاح البوابة يابنات وعلى مسؤوليتي ..
وضعت وصيفة المفتاح بيد أشهاد وهي تنتفض من البكاء، فربتت أشهاد على يدها بحنان بعدما أخذت المفتاح وقالت:
_ ماتزعليش يا وصيفة، هو بيحب يغيظك بس، وأنتي كمان أول ما بتشوفيه بتزعقيله حتى لو ما اتكلمش! .. قط وفار!
قالت وصيفة وهي تجهش بالبكاء:
_ ما هو كل ما يكلمني يقولي يا غولة ؟! .. أنا غولة يا أشهاد ؟! … يعني أنا وحشة أوي كده ؟! ..
قالت أشهاد بصوت رقيق:
_ لأ ما تقوليش على نفسك كده، هحدفلهم المفتاح ورجعالك.
********
وبمجرد أن حصل شامي على مفتاح البوابة ركضا هو وشاندو نحو المبنى الآخر، وأتيا بـ جيهان التي ظلت جالسة على الفراش تنتظر، وأخذاها للقصر وهي تحاول الاستفسار ومعرفة ما يخططان له، حتى قال شاندو بجدية:
_ هتقعدي مع البنات في القصر لحد ما ترتاحي ونشوف هنعرف نوصلك لبيتك أزاي بالسلامة.
وتعجبت جيهان من التصرف الناضج والمسؤول لهذان الطفلان، وتبعتهما حتى فتح شامي بوابة القصر الضخمة، وظهر قصرًا مساحته من الداخل تبهر العين، ولكنه أصبح أطلال وبقايا، من حيث الأثاث البالي القديم، والجدران المتقشرة من الرطوبة، والإضاءة التالفة لمعظم المصابيح.
الاسم قصر، ولكنه في الحقيقة غير مناسب على الإطلاق للاستعمال الآدمي! .. فأشار لها شاندو وقال:
_ البنات فوق ..
وتتبعت جيهان خطواتهما، حتى دق شامي على أحد الأبواب واستقبل صوت أشهاد الناعم كالحرير، ثم فتحت رضا بتكشيرة مرسومة على وجهها دائمًا وقالت بغيظ:
_ الضيفة اللي تدخل بس ..!
رمقها شاندو بنظرة احتقار وقال :
_ عارفة يابت لو زعلتيها بلسانك الدبش ده ؟!
مش هتفضلي رضا … هخليكي أعتراض!.
وأخفت جيهان ابتسامتها ثم دخلت بخطوات مترددة، لتجد بأستقبالها أجمل طفلة رأتها حتى الآن، ولكن شعرت بغصة مريرة بحلقها عندما وجدتها طفلة قعيدة على مقعد متحرك، ومن توجهات عينيها شكت جيهان أنها أيضا كفيفة، فنظرت لشاندو باستفهام، فهز الآخر رأسه وأشار لعينيه دلالاة التأكيد، فابتلعت جيهان ريقها بألم حتى انتبهت لأشهاد وهي تقول بترحيب ولطف شديد:
_ اسمك إيه ؟ تعالي سلمي عليا ..
وسارت إليها جيهان مباشرةً، ولم تعرف لما ذكرتها تلك الطفلة الكفيفة والرائعة الجمال بالصغيرة ريميه، ودنت منها حتى لمست يدها بمصافحة، وقالت جيهان وهي تنظر لعينيها الزرقاوان الخلابتان رغم بعض الأحمرار الظاهر بوضوح فيهما:
_ اسمي جيهان، وأنتي اسمك إيه ؟.
نطقت أشهاد بصوتها الرقيق:
_ اسمك حلو، أنا اسمي أشهاد.
اعترض شامي وقال بغيظ:

 

 

_ لأ مديحة، اسمك مديحة يا أشهاد…!
أطرفت أشهاد عينيها بضيق طفولي منه وقالت:
_ لأ اسمي أشهاد ..
لم يعنفها شامي رغم أنه أراد ذلك، وترك الغرفة وذهب، حتى لحقه شاندو الذي كان ينظر لوصيفة باستفزاز ويكتم ضحكته، فابتسمت جيهان من حديثهم ورحب بها الفتاتان، حتى انغمست معهن بالحديث ولم تدرك كم مرّ من الوقت وهي تنتقل من حديث لآخر بتلقائية.
**********
وقف الطفل عصفور خارج غرفة الحارس العجوز” عم مغاوري” وهو يتصنت لأكتشاف أي حركة أو صوت تدل على يقظة الرجل المريض منذ أيام، حتى همس لنفسه بغرابة:
_ يا ترى سواعي راح فين طالما مش جوا ؟! …
فتح عصفور الباب ببطء شديد وراقب بحذر تنفس العجوز النائم في فراشه، ثم تسلل ببطء لداخل الغرفة، واقترب من الوسادة تحت رأس الرجل، ودس يده الصغيرة أسفلها ليبحث عن المفتاح، ولكنه لم يجد شيء!، فعبس بحيرة ثم اسرع يتخفى أسفل الفراش عندما ارتفع صوت تنفس العجوز بعض الشيء، وظن الصغير أنه سيستيقظ ويكشف أمره!.
ولكن حملق عصفور بصدمة عندما وجد صديفه ” سواعي ” نائمّا أسفل الفراش وبيده المفتاح وساندويتش لا زال بفمه، فهزه عصفور بغيظ وهمس:
_ أنت يا غبي اصحى !.
استيقظ سواعي متأففًا وقال:
_ عاوز إيه ؟!
اغتاظ منه عصفور ونظر له بحدة جعلت الطفل سواعي ينتبه أكثر ويقول بأسف:
_ معلش، اصل بعد ما سرقت المفتاح عم مغاوري صحي واستخبيت هنا، راسي تقلت فقلت أنام شوية.
وفي غمر مناقشتهم الخفيّة صدح صوت جرس الهاتف الارضي الملحق خصيصا بغرفة الحارس، واستيقظ الرجل بصعوبة نظرًا لصوت الهاتف المزعح، وقال الطرف الآخر عبر الهاتف بصوت بطبيعته حاد وخشن :
_ مضطر أقعد هنا كام يوم على ما أخلص كل حاجة والاقي علاج أشهاد وأرجع، والمصنع للأسف اتأخر في التسليم وقدامه كام يوم على ما يخلص لبس الولاد كله، خلي بالك من ولادي ياعم مغاوري لحد ما أرجع.
ووعده العجوز برعاية الصغار ومراقبتهم قدر المستطاع، ثم انتهى الأتصال والذي أكتشفا منه الصغيران المختبئين أن سيد هذا القصر أمامه عدة أيام حتى يعود، إذن هناك فرصة ذهبية لإستضافة الزائرة الحسناء بإرياحية دون خوف من الذي لا يقبل الغرباء بقصره.
**********

 

 

ومرً النهار بدقات بطيئة، حتى قارب قرص الشمس على المغيب، ووقف ذلك الضخم الوسيم المكسو بملابس سوداء أمام منفذ لبيع الادوية” صيدلية” وكانت آخر مكان يبحث فيه عن ذلك الدواء الصعب إيجاده، ودخل المكان بخطوات هادئة وقدم الروشته للفتاة العاملة وهو يسألها عن الدواء، فنظرت له الفتاة بغموض، ثم نظرت لزميلتها بنظرات بها خوف وشك، ووضعت ورقة الروشتة قائلة برفض دون حتى أن تبحث عن الدواء:
_ مش موجود ..
شعر ” أكرم” بشيء في نظراتها له، وأعتقد أنها لربما تعرفت عليه، بعدما كان من المشاهير ذات يوم والكبار والصغار يعرفونه، فأخذ الروشتة وتوجه للخروج، ولكنه انتبه لحديث الفتاة مع زميلتها وهي تقول بخوف:
_ مش ده اللي هربان والمباحث بتدور عليه ؟! ..
أجابت زميلتها قائلة بتوجس:
_ نفس المواصفات، بس وطي صوتك ليسمعنا!
وقف أكرم يضغط على نواجذه بغضب شديد، ثم استدار ونظر للفتاتان اللائي توجسا منه ومن نظراته المخيفة، ثم تمالك نفسه وتوجه خارجًا من المكان، وعزم أن يعود لقصره اليوم وليس بعد عدة أيام، ولكن ما أن خرج وتحرك بسيارته عائدًا لمنزله حتى توقف بعد دقائق مدهوشا، وذلك عندما وجد أزدحام وعربات شرطة وبعض الصحفيين يزحمون الطريق !…
وهنا ما كان عليه إلا أن يفر منهم هاربًا ويختبأ كي لا يتعرف أحدًا عليه، ويكشف حقيقته ومكانه السري الذي سيكون حديث المدينة بعد دقائق قليلة إذ أسدل الستار عليه.
وأنعطف أكرم بسيارته عائدًا للمدينة مؤقتا حتى ينفضّ هذا الازدحام، أو يجد طريقا آخر يصل منه للقصر، ولكن يقف أمامه عائق كبير، وهو أنه لابد أن يجد دواء الصغيرة أشهاد، ويبدو
أن رحلة البحث ستأخذ وقت أكثر من المتوقع، فقرر أكرم أن يقطع الوقت بالبحث عن الدواء، ثم يجد طريقة يعود بها للقصر.
*********
وبصالون التجميل الشهير..
وقفت الفراشة البيضاء بفستانها الأبيض تنتظر زوجها يأت ويصطحبها حتى قاعة الحفل، وتعقد السعادة موثقا معها أمام الجميع، ولكن هيهات.
الحياة ليست بها سعادة مطلقة أو دائمة، هناك شيء ينتظره شيء مضاد له دائمًا.
هذه لعبة الحياة منذ الأزل.
وكان آخر خطوات السعادة لهذا اليوم هو ظهور الفارس العاشق “زايد” ، بمظهره الفاتن الذي يخطف الأنفاس ، والذي أتى لعروسه وحملها أمام الجميع حتى سيارته الخاصة، كان مشهدًا لم تشهده فرحة سوى بالأفلام العاطفية.
كان كل شيء يؤكد أن اليوم أسعد لياليها، وبداية أيام العوض، حتى عندما قبّل يدها واسمعها كلمات حب عذبة جعلتها تتورد على توردها.
وعندما وصلا للفندق أخرجها حاملًا إياها على ذراعيه بنفس الطريقة التي أخذها بها من صالون التجميل، كانت محط أنظار وحسد من الكثيرات، وقبل أن تدخل الحفل كان من البديهي أن تدخل غرفة خصصت لها للأستعداد قبل الخروج للحفل.
والتف حول زايد فجأة مجموعة شباب من أصدقائه ومعارفه، بينما دخلت فرحة غرفتها بالفندق لتتأكد من مظهرها وأضافة بعض اللمسات البسيطة، وفجأة دخل الغرفة هيثم دون سابق أنذار، وأشار للفتاة المصففة لتخرج وتتركهما لبعض الوقت، واستدارت فرحة بابتسامة واسعة ظنا منها أنه زايد، فأقترب لها هيثم ببطء وبعينيه شرارات شيطانية بالأنتقام، ثم قال بهدوء مريب:
_ معايا حاجة لازم تشوفيها، وعشان ما تفتكريش أني قاصد أضايقك في يوم زي ده عايز أقولك أني أول مرة أشوفها النهاردة، فرصتي جاتلي لحد عندي.

 

 

أطبقت فرحة شفتيها بعصبية من وجوده هنا ومما يقوله، فهتفت به:
_ ما تحاولش!!… لأنك هتخسر، وأنا اللي عايزة أفكرك كام مرة حاولت تبعدني عن زايد وتوقع ما بينا! … بس عمري ما هصدقك مهما تقول.
ضحك هيثم بسخرية، ثم أخرج هاتفه وبحث قليلًا به ليوجهها لها وهو يعمل على فيديو قصير يظهر به زايد أصغر سنا بكثير من الآن، ويصرخ بقوة وهو مُقيد بفراش طبي ويصيح:
_ أنا اللي قتلتها ، ماتت قدامي ، انا اللي قتلتها.
وظل يردد ما يقوله ويصرخ به، ففغرت فرحة فاها بذهول وخطفت من هيثم الهاتف وهي تتمتم برفض مما تراه، حتى شعرت بدموع ساخنة على خديها من دموع وصراخ زايد بتلك الهيسترية، فقال هيثم بشماتة :
_ ده بقا فيديو وصلني بالصدفة، حبيب القلب كان في مصحة نفسية، بيتعالج من إيه يا ترى ؟! … بيتعالج من جريمة قتل بشعة ارتكبها … والضحية كانت مين ؟! …. كانت أمه ..!
حملقت فرحة فيه بذعر وشعرت أن الأرض تهتز تحت قدميها، حتى أكد لها هيثم وقال:
_ دي الحقيقة، ومستعد أثبتلك بأكتر من دليل، لو ما مشتيش دلوقتي وسيبتي الفرح هفضحه بالفيديو ده قدام الدنيا بحالها، مش هستنى لما يموتك أنتي كمان.
وتظاهر بمشاعر كاذبة لها:
_ يا فرحة أنا بعمل ده كله عشان خايف عليكي وبحبك، أنا لو مش بحبك كان زماني سيبتك ليه لحد ما تشوفي وشه الحقيقي بنفسك، لكن مقدرتش وجيتلك عشان أنقذك منه.
ابتلعت فرحة ريقها الجاف وهي ترتجف بعنف من هول الصدمة، ثم قالت له وأسعفها بقايا ذكائها وقالت:
_ استناني في عربيتك، هغير الفستان ده وأحصلك، عشر دقايق بالكتير.
قال هيثم بشك:
_ ولو ماجتيش؟!
أجابت بتأكيد وهي تتحدث بصعوبة:
_ اعمل اللي أنت عايزه بعد كده.
ولم يجد مانع في انتظارها بضع دقائق لعلها تكن صادقة، وعندما خرج انهارت فرحة على مقعد قريب وكتمت صرخاتها، ثم فكرت سريعًا ماذا تفعل؟!، كان لابد أن تتمالك وتعيد توازن تفكيرها الآن، فيبدو أنها أوقعت نفسها بجحر الأفاعي!.
فتحت باب غرفتها وركضت بعشوائية، حتى توجهت نحو فادي شقيق زايد عندما لمحته من بعيد يتوجه للحفل، وتوقف بذهول وهو يراها تهرع ناحيته بتلك الحالة! …
وقبل أن تناقش شيء معه قالت وهي تلهث وتبك:
_ هيثم قاعد في عربيته مستنيني، ارجوك يا فادي اعمل حاجة وابعده عن الفرح، هيثم عايز يفضح زايد وهيتسببله بفضيحة كبيرة لو ما مشيش دلوقتي وبعد من هنا…
كان ينظر لها فادي بصدمة، ولكن استخلص من حديثها المتقطع ما أكد توقعاته بحدوث شيء يدبره هيثم، فقال محاولًا أن يطمئنها وهي بتلك الحالة:
_ متخافيش أنا هروحله واتصرف معاه بطريقتي، مافيش حاجة هتحصل … أطمني.
واطمئنت فرحة بعض الشيء بعدما توجه فادي للخارج حيث سيارة هيثم، وعادت لغرفتها بجسد ثقيل كأنها اصبحت امرأة عجوز كهلة!.

 

 

المقطع الذي شاهدته يوضح زايد وهو يعترف بجريمته، جريمة بشعة لا يتصورها عقل! .. كيف ستمر الدقائق التالية لا تعرف!.
وهل تخلع عنها ذلك الرداء الأبيض وتهرب، أم تنتظر وتواجه الحقيقة بشجاعة مهما كانت؟!.
وبتلك اللحظة فتح زايد باب الغرفة وهو مبتسمًا ابتسامة واسعة تضيء وسامته الخاطفة، السعادة تغمر عيناه بوضوح، واقترب إليها بنظراته الهائمة حبًا وقال:
_ أنا بقيت مجنون بيكي، بتوحشيني لو بعدتي ثانية.
وانتفض قلبها بهلع من ذكر كلمة “مجنون” التي لم تكن محلها الآن، وعزمت أن تسايره كأنها العروس السعيدة، وستواجهه بالحقيقة بمجرد أن يصبحا بجناحهما بعد أنتهاء الحفل، لابد من المواجهة.
**********
بعد يوم عمل شاق وطويل بالمشفى وشعورها بالإرهاق الشديد، جلست الممرضة سمر بحديقة المشفى تستنشق الهواء، معها نصف ساعة تقريبًا استراحة وبعدها ستعود لشقتها الجديدة، التي حرصت على ابتعادها عن أي اصدقاء لها، حتى لا تعرض نفسها للسؤال والتعجب والظنون السوداء من صدمة طلاقها بعد شهرا واحد من زواجها!!
حتى عملها هنا بدأته منذ شهرين فقط، وتركت عملها القديم بمشفى الزيان.
تركت كل شيء، ولكن كانت تحن لشيء واحد لم تستطع التخلص منه، أو تجاوزه.
ابتلعت سمر تلك المرارة العالقة بحلقها، وحاولت أن تخرجها من تفكيرها والنسيان ولو مؤقتاً.
وتنهدت مرة أخرى بثقل شديد قابع على قلبها المتألم، ثم بعد لحظات غفت على مقعدها دون أن تشعر.
وبعد وقت فتحت عينيها عندما شعرت بشيء يلمس بشرتها، وكان معطف خريفي وضع على كتفيها.
نظرت للمعطف بغرابة ثم رفعت رأسها بعفوية حتى تجمدت!! وتمتمت بدهشة:
_أمجد!! … أقصد.. دكتور أمجد؟!

 

 

ابتسم لها أمجد وهو يتنهد بإرتياح شديد، كأنه وجد ضالته المفقودة بعد عقوم من البحث والتيه، وأجاب ببساطة:
_ هو..
ورغم دقات قلبها المغردة بالبهجة والاشتياق، ولكن وقفت وهي تعط له المعطف وتشكره، فرفض قائلًا:
_ خليه معاكي، ما أحنا زمايل هنا وهنشوف بعض كل يوم تقريبًا.
دهشت سمر للحظة، فهو ما كان يعمل بهذا المشفى!، ولم تستطع إطالة الحديث معه اكثر من ذلك والأستفسار الذي بالتأكيد سيطول شر?

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية سيد القصر الجنوبي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *