روايات

رواية حصب جهنم الفصل الخامس 5 بقلم نرمينا راضي

رواية حصب جهنم الفصل الخامس 5 بقلم نرمينا راضي

رواية حصب جهنم البارت الخامس

رواية حصب جهنم الجزء الخامس

حصب جهنم
حصب جهنم

رواية حصب جهنم الحلقة الخامسة

– هناك لحظة في حياة كل فرد يجب علينا فيها اختيار الفرار أو المقاومة.
– بوكوفسكي.
~~~~~~~~~~~~~~~~
عوالمٌ خفية تتأرجح بين قُوى الخير و الشر، تعلو فيه راية القسوة تارة، و راية اللين تارة.. عوالمٌ تحكمها الجريمة و الغموض، التشويق و الألغاز، منها المستور و منها المتجلي في هالة النور، و منها من ينال بقسوته المفاز.
ليس دائمًا النصر من حق الحق !، نحن لسنا في الآخرة لينتصر الحق، إنما هي دنيا.. العدل فيها لا ينتصر دائمًا.
فمن لا يستطيع نيل مطلبه بالسلاسة، يمد أنيابه و يسلبها بالقوة، القوة التي تأخذ منحنيات القسوة غالبًا.. غالبًا تكمن القوة في القسوة، فيعترف المرء فخورًا « تكمن قُوتي في قسوتي».
دقائق معدودة من التردد انتابت قلب «روزالين» حيال ما سمعته.. تنهدت مغلقة عينيها تُفكر فيما يتوجب عليها فعله الآن، أتمنع و تعيق مخطط
« سوزانا»، أم تدعها تفعل ما تشاء و تضع يدها في الماء البارد كأنها لم تسمع شيء ؟
مسحت على شعرها وهي ما زالت تُفكر فيما تنوي فعله، مُتذكرة في تلك اللحظة ماهيتها الأصلية.. هي مسلمة من أصل عربي، يجب أن تهب لنصرة أختها المسلمة، هذا ما علمنا إياه ديننا الحنيف.. الوقوف مكتوفي الأيدي ليست من شيم المسلمين، رؤية أخيك يهان و يعذب و يخطط لقتله، لم نسمع به من قبل في إسلامنا و عروبتنا !
الكفار ينصرون بعضهم بعضًا، فماذا عنا ؟!
منذ أن وطئت قدميّ « أسماء» الولايات المتحدة، تعرفت على « إليزابيث» صدفةً و كانت حينها قد أسلمت منذ عام و لم تكن قد تزوجت بعد من الداعية « لُقمان»، كانت
« آسية» تأخذها معها للاستماع للمحاضرات الدينية التي يلقيها الداعية، و لم تطل الصداقة بينهما كثيرًا؛ لخوف « أسماء» الكبير من معرفة أشقائها مكانها.. همسٌ ما تردد في صدرها و أخبرها أن تمضي قدمًا وحدها في تلك البلاد الغريبة دون تكوين صداقات مع أحد.
إذًا الوحيدة التي تعرف حقيقتها هي « آسية»، أما «سوزانا» كانت صديقة الأخيرة في الجامعة.. لا تتبع أي دين، فقط تعيش في الحياة من أجل اللهو و المتعة و جنيّ المال بما تفعله، و قد تعرفت عليها « روزالين» في إحدى الأماكن التي كانت تبحث فيها عن عملٍ و إقامة لها.. ساعدها الذي قام بتهريبها في تغيير اسمها بهوية شخصية لا تتبع أي دين، ما تفعله
« أسماء» في حق نفسها هو إثمٌ و ذنبٌ عظيم، ليس كل فتاةٍ أُجبرت على الزواج من شخصٍ لا تريده، أن تفعل ذلك و تنسلخ من ديانتها و هويتها !
لا حبّذا ظُلم الأنفُس.
قررت « روزالين» تكوين صداقة مع « سوزانا»؛ لتمحي أي شكوك حولها، و لقدرتها على تحدث الانجليزية بطلاقة، ساعدها ذلك على مواجهة الصعوبات و الاستمرار في كذبتها بشكل سلس.
اتخذت قرارها أخيرًا بحماية « آسية» من شر
« سوزانا»، رغم أن الأخيرة لم تعرف علاقة الاثنتان ببعضهما، و « روزالين» لا تعرف أي شيءٍ البتة عن « آسية» إلا من حديث سوزانا المستمر عنها و عن « لقمان»، هذا ما تظنه
« سوزانا» تلك الفتاة الساذجة، التي لا تفكر في أي خطوة تقوم بها قبل اتخاذها.
قبل أن يستدير الرجل للمغادرة الذي قامت هي بتأجيره لقتل « آسية»، انقضت عليهما
« روزالين» بغتةً، و قامت بدفعه في الحائط مستخدمة قبضة يديها القوية أثر الحمية الغذائية الصحية التي تتبعها، و أخرجت
« سكينًا» يُفتح و يغلق بسهولة، لا تخرج بدونه بسبب قطاع الطرق الليلية، ثُم وجهت نصل السكين ناحية رقبته هامسةً له بتحذيرٍ تحت أعين الحضور في المرحاض و أمامه:
” افعلها و سأشق بطنك نصفين، نصف أدهسه، و نصف أقوم بتقطيعه ثُم أُلقيه للكلاب الضالة ”
هتفت « سوزانا» بدهشةٍ من رد فعل
« روزالين» الغريب بالنسبة لها:
” روزي.. ماذا تفعلين ؟ هل جُننتِ ؟! ”
” لا، بل أنتِ التي أصابك الجنون « سوزانا» ! ”
ثُم ضغطت بنصل السكين على رقبة الرجل، و الأخير يرتعد خوفًا منها، و صاحت بدون سابق إنذار:
” أعطني المال، و اغرب عن وجهي.. هيـا ”
أعطى لها المال الذي دفعته له «سوزانا»، فاستطردت قولها بتحذيرٍ واضحٍ:
” امحي من ذاكرتك ما أمرتك به « سوزانا»، و إلا استيقظت وجدت نفسك في الجحيم ”
أومأ بضعفٍ منه، فأنزلت السكين من على رقبته، و ركلته في مؤخرته وهو يحاول الفرار منها، فتعثر و سقط، ثم نهض يفر هاربًا منها، بينما هي صاحت أمام الجميع:
” الويل لك أيها النذل المختل إذا رأيتك مرةً ثانية.. و أنتم ماذا تنتظرون ؟! اغربوا عن وجهي جميعًا ”
و استدارت لصديقتها التي تملك منها الاندهاش و الصدمة بالكامل، و صرخت عليها:
” اللعنة « سوزانا» ! ماذا كُنتِ تنوين فعله بحق الجحيم ؟! ”
قول « بحق الجحيم» لا يجوز شرعًا، و إنما تقال من قبل غير المسلمين، و « روزالين» كانت تتعمد قولها في البداية لتسهل على نفسها الاندماج مع الغرب، حتى باتت ملازمة للسانها.. ردت « سوزانا» بغضبٍ هي الأخرى:
” أفعل اللازم لأتخلص من تلك العاهرة إليزابيث، و لكن ما شأنك أنتِ « روزالين » ؟! ”
توترت للحظة، و أجابت بادعاءٍ:
” خِفتُ عليكِ أيتها الساذجة الغبية، ماذا سيحدث لو أن هذا الوغد الأبله استطاعت الشرطة القبض عليه ؟ كنت سأخسرك للأبد
« سوزانا»، أنتِ تعلمين أنني ليس لدي أحدٌ غيرك.. أنتِ أكثر من كونك صديقتي، ما تفعلينه سيؤدي بك خلف القضبان الحديدية.. عليكِ نسيان « جورج» للأبد، يوجد رجالٌ كثيرون غيره، لماذا هو بالتحديد ؟! ”
” لأنني أحبه « روزي»، حاولت نسيانه أكثر من مرة، حاولت.. و لم أستطِع، منذ أن كنا في المدرسة الثانوية معًا، رسمنا أحلامنا و مستقبلنا سويًا، و لكنه غدر بي.. وثقت به و غدر بي، من أجل ماذا ! من أجل الإسلام « روزالين»، لن أدعه ينعم بالعيش مع تلك الساقطة اللعينة، سترين « روزي»، سترين ما سأفعله بهما ”
قالت كلماتها الأخيرة بحقدٍ دفينٍ تجلى ليغزو ملامحها الجميلة فتشوهت بالغِل و الكراهية، ثُم أخذت تبكي في حُرقةٍ، فضمتها « روزالين» لصدرها، و أخذت تربت عليها بقولها اللين:
” صه، اهدئي سوزانا.. كل شيء سيكون على ما يرام، لا تدعِ قوتك تكمن في قسوتك، أنتِ لستِ قاسية سوزانا، أنتِ نقية القلب، لا تلوثيه بالانتقام، لا تفعلي ذلك عزيزتي ”
ابتعدت عنها و أخذت تضرب على قلبها وهي تصيح في بُكاءٍ مستمر:
” و ماذا عن قلبي روزالين ؟! و ماذا عن حُلمي الضائع ؟! و ماذا عني ؟! لن تفهمين شعوري، لن تفهمين ما أشعر به لأنك لم تعشقِ من قلبك روزالين، أنتِ لن تفهمين شعوري أبدًا ”
تنهّدت « روزالين» بحزنٍ، فهي بالفعل لم يسبق لها و أن وقعت في العشق و الهوى، و لكنها معذبة أيضًا بالاشتياق، نار الشوق لأشقائها تحرق كبدها كل يوم، و هذا أيضًا شعورٌ لن تستطيع البوح به لأحد، سيبقى في قلبها نارٌ كمد مكتومة بداخلها لحين ميسرة.
قالت بهدوءٍ وهي تتقدم لتمسح لها دموعها باسمةً:
” أعلم شعورك جيدًا سوزانا، رغم أنني لم أعش ذلك الشعور الذي يحرقكِ أنتِ، و لكنني أشعر بكِ، لأنني أُحبك يا صديقتي.. الصديق يشعر بكل ما يشعر به صديقه ”
تنهّدت بنظراتٍ حائرةٍ تتساءل:
” ماذا أفعل الآن روزي ؟ كيف أستطيع نسيانه، كيف ؟! ”
” الحُب يُنسى بِحُبِّ آخر، عليكِ ممارسة حياتك بشكلٍ طبيعي حتى يأتِ ذلك الفارس الشجاع بجواده الأبيض ”
قالتها ضاحكةً، و أكملت وهي تأخذها للمغادرة:
” ما رأيك بأكل المثلجات و الاستمتاع بالنصب على الأغنياء الحمقى ؟ ”
نظرت لها باستفسارٍ متسائلة:
” كيف ذلك ؟ ”
ضحكت « روزالين» بصخبٍ وهي تخرج علبة سجائرها، تشعل واحدة و تعطيها مثلها:
” أحد العائلات الغنية طلبوا مني الذهاب للقصر التابع لهم لمعرفة ماذا يدور في مستقبلهم الآن”
نفثت دخان سيجارتها و ظلت تضحك بسخريةً عليهم، قائلة:
” هؤلاء الأغنياء الحمقى يصدقون أي شيء يقال لهم بشكل مثير.. لا تدرين هل لأنهم يريدون الانفاق ببذخ، أم لأنهم بالفعل يؤمنون بالتنجيم ؟ ”
” ليس من شأنك، المهم أنكِ ستجني الكثير من المال.. هل أعرف تلك العائلة ؟ أظن أنني أعرف الكثير من فتيان العائلات الغنية المدللون ”
هزت « روزالين» كتفها بلا مبالاةٍ تقول:
” لا أعتقد أنكِ تعرفينهم، هُم من ولاية أخرى غير تلك.. هل سمعتِ عن قصر القيصر ؟ ”
شهقت « سوزانا» بإعجابٍ:
” يا إلهي ! القيصر ! ذاك الرجل صاحب الشعر الثلجي ! إنه وسيم للغاية، رأيته في التلفاز يتحدث عن مخططات العائلة لزيادة الربح الاقتصادي و التجارة ما بين البلاد، إنه فاحش الثراء ! اللعنة روزالين.. ستحصلين على الكثير من المال ”
هتفت بالجملة الأخيرة بابتسامة واسعة، تلتها بقولها:
” سأذهب معكِ ”
رمقتها « روزالين» بعين التنبيه قائلة:
” لا تحلمين بما يدور في رأسك سوزانا، إنه مجرد عمل، و ليس مقابلة غرامية ”
” حسنًا، أنا لم أقل شيء.. سأذهب معكِ كمساعدتك في العمل فقط.. صدقيني سأكون مهذبة ”
” سنرى ذلك ”
…..
في ( إمبراطورية القيصر) كما يُطلق عليها هو، حينما انتهى ذلك الكوري « يونغ» من تصويب السكاكين على الخشبة المقيدة عليها الفتاة، ألقى آخر سكين من يده وهو يرجع خصلات شعره السوداء المتناثرة على جبهته أثر القفز بمرح يمينًا و يسارًا، ثُم اتجه يفك قيدها وهو يفترس جسدها بنظراته قائلًا:
” أليس من حقي مكافأة على عدم إصابتك ؟ ”
استنجدت بنظراتها « القيصر» فتبسم ساخرًا بعدم اهتمام:
” لستِ نوعه المفضل، لكنه يريدك الآن.. ماذا عساي أفعل ؟ ”
” أرجوك سيدي، اتركني أذهب ”
قالتها بدموعٍ تجمعت سريعًا تترجى الاثنان بعدم مساسها بشيءٍ، فقال « يونغ» وهو يتحسس جسدها عن قُربٍ:
” ستشكرينني فيما بعد، لو تركتك أيتها الغبية، ستأخذك «صوفيا» للغرفة الحمراء، ألم تسمعي أصوات الصراخ بالداخل ؟
أما أنا رحيمٌ للغاية، لن أقوم بفعل شيء دون إرادتك.. ”
فكرت لثوانٍ في مصيرها معهم، بينما « يونغ» يلعق شفتيه بنظرة خبيثة، و من خلفه
« القيصر» يبتسم بمكرٍ، فقالت الفتاة باستسلامٍ أمام نظرات الكوري الثاقبة:
” حسنًا، ما.. ماذا تريدني أن أفعل ؟ ”
تفحصها ثانيةً من رأسها لأخمص قديمها، ثُم جذبها نحوه هامسًا:
” لن تفعلي، أنا من سيفعل ”
” هنيئًا لك أيها السافل ”
صاح بها القيصر وهو يسكب كأسًا له، و في تلك اللحظة خرجت والدته « صوفيا» تُنبههما بالاستعداد لاستلام شحنة البويضات، ثُم تابعت بتوضيح:
” سفينة الشحن يقودها الكابتن أنور المصري، عليكما التهيؤ لاستقباله استقبال حسن على أكمل وجه، هذا الرجل يهم شكري المنزلاوي ”
تساءل القيصر باستفسارٍ:
” وماذا عن ذانِك الشابان أمي
« باشا و قابيل» ألن يَأْتِيَا هما بالشُحنة مثل كل مرة ؟ ”
” لا، المرأة زينات اعتذرت عنهما، قالت أنهما لديهما عملٌ آخر يقومان به، لذا سيأتي رجلٌ من رجال شكري، و الأرجح كما قال هو سيرسل قريبه كابتن السفينة المدعو أنور، المهم أن تكونا على أتم الاستعداد ”
” حسنًا، لا عليكِ سيدتي.. سنفعل المطلوب ”
قالها « يونغ» وهو مستمر فيما يفعله بوقاحة، و الفتاة في صمتٍ تام من شدة خوفها، قبل أن تستدير « صوفيا» و تغادر، قالت بنبرة حماسية:
” غدًا ستأتي فتاةٌ تدعى « روزالين» تلك الفتاة لها صيتٌ واسع في قراءة الطالع، إياكما و الاقتراب منها، أنت بالأخص «قيصر» تعلم مدى شغفي بتلك الأشياء، أريد معرفة ماذا سيحدث في مستقبلنا، إذا جاءت الفتاة في أي وقت.. أخبراني ”
زفر القيصر بضيقٍ قائلًا:
” أمي.. ألا تملين من تلك الخرافات ! نحن نصنع مستقبلنا بأيدينا، لا تصدقي هؤلاء المحتالين ”
” لا تدخل فيما لا يعنيك قيصر، أنت قم بما أُمليه عليك فقط ”
بعد قولها، التفتت لـ « دانيال» المساعد لها، و تحدث بصرامة:
” تخلص من الجثث الثلاث ”
أومأ في طاعة و هرع يفعل ما كُلف به، بينما
« يونغ» أخذ الفتاة ليصعد بها في الجناح المخصص له في قصر « صوفيا»، و قبل أن يتحرك استدار لصديقه قائلًا:
” سأختفي لارتاح قليلًا، حالما أنتهي منها سأرسلها إليك ”
رد القيصر ساخرًا:
” ليست نوعي، تخلص منها بطريقتك ”
اختفى « يونغ» بالفتاة داخل جناحه، و اتجه القيصر للجناح الخاص به يرتاح من عناء اليوم هو الآخر، لكنه سمع صوت عواء ذئبه « زيوس»
يطلق عواء يليه الآخر دون توقف، فاتجه بخطوات مسرعة و قلقة عليه نحو بيته الخشبي الذي صُنع خصيصًا له، ليجد واحد من رجاله المقربين له و الذي لازمه منذ أن كان في مقتبل العشرين، و يدعى « جيمس».. يقف أمام الذئب يقوم باستفزازه بمختلف الطرق.. « جيمس» لديه من الغباء ما يكفي لفقع مرارة « القيصر» و لكنه بقي معه لوفائه و إخلاصه في جميع المهمات التي وُكل بها.
لم يكف ذلك الأحمق ” جيمس ” عن استفزاز
” زيوس ” عدة مرات.. حينما وصل القيصر، كان يولِ له ظهره ويقوم بهز مؤخرته النحيفة وهو يصدر الضحكات الغبية، و يجد هذا مُسليًا كثيرًا، بينما «زيوس» راح يعوي في هستيرية و يتحرك في كل الاتجاهات بجنون يود قطع الحبل بكل قوة.. جاء « القيصر» على صوت عواء أعز أصدقاءه تتساءل عينيه في حيرة عما يفعله ” جيمس ” بمرح..
صرخ القيصر في استياء:
” جيمس.. كُف عن هز مؤخرتك مثل بائعات الهوى.. غبي ”
التفت له جيمس بابتسامة بلهاء هاتفًا:
” سيدي عليك أن تجرب ذلك.. إنه شعورٌ جميلٌ حقًا ”
و أعاد الكرَّة، فاتجه نحو القيصر و جذبه من ملابسه يلقي به بعيدًا عن صديقه، ليصيح عليه:
” لا تفقدني صوابي.. اغرب عن وجهي الآن ”
نهض جيمس وهو يبتعد عن غضب القيصر، هامسًا بطاعة:
” حسنًا سيدي لا تغضب، و لكن عليك تجريب ذلك، إنه ممتع حقًا ”
جلس القيصر القرفصاء وهو يتنهد و يداعب رأس ذئبه قائلًا له:
” ابقى هادئًا زيوس، أنا بجانبك صديقي.. ما رأيك في وجبة نسائية شهية غدًا ؟
ما رأيك أن نقضي على تلك الفتاة التي تَدَّعي معرفة المستقبل حتى تكف أمي عن تصديق الخرافات اللعينة ؟ ”
وضع قُبلة على رأسه مُتابعًا قبل أن يتركه و يعود للداخل:
” غدًا مليء بالأعمال الشاقة، ارتاح صديقي.. لديك مهمة لذيذة في الغد.. عمت مساءً زيوس ”
….
في منزل القحطاني، لقد مرّ يومًا بأكمله على
« رغدة» وهي على وضعيتها التي تركها بها شقيقها « فيصل»، كان يحضر لها الطعام و يفك وثاقها ليُرغمها على الأكل تحت توسلاتها الكثيرة، ثُم يعيد تقييدها و يغلق عليها الباب غير آبهًا بما تُعانيه هي.
لم يخبر أخيه الأكبر « عز الدين» بالأمر.. قرر أولًا البحث عن « آسر» و حالما سيجده سيفجر المفاجأة القاتلة لشقيقه، أما « صخر» لم يستطِع الصمود أكثر أمام معاناة أخته الصغرى، فاتجه إليها بحذرٍ مُنتهزًا فرصة عدم تواجد أيًا من أخويه، و دلف عندها يفك وثاقها قائلًا بحنانٍ:
” رغدة.. قيّمي، أنا جاي أهربج.. لا تخافي، دامني جنبج ”
لم تكن في يقظة بعد، فقد غفت رغمًا عنها من كثرة البكاء و التعب، أخذ يهزها برفقٍ حتى فاقت، و انتابتها نوبة من الفزع و البكاء، فبدأت في النحيب وهي تصيح:
” أنا ما سوّيت شي.. ما لي ذنب، أحلف لكم ما لي ذنب.. سامحوني.. و الله هو اللي غدر فيني”
احتوى شقيقها « صخر» وجهها، و ضمها لصدره يربت على ظهرها بعدما فك وثاقها، و أخذ بتهدئتها، بينما هي ظلت تردد:
” سامحوني.. كنت أتمنى يحبني، سامحوني.. أنا غلطت واقولها، لكن.. لكن أنتم سرقتوا عمري.. زوجتوني وأنا صغيرة، ما لحقت أعيش.. حبيت آسر عشان كنت بحاجة حب يا صخر، والله ما نويت أذللكم.. ياريت أموت يا صخر.. يا ريت يا خوي أرحل من الدنيا ”
ما كان منه إلا أن يضع قُبلة عميقة على جبينها، و يشدد من ضمها له، مردفًا بنبرة حزينة:
” الله كريم يا رغدة، ربك بيعوض و بيسامح.. حتعيشي عمرك اللي فات و حترجعي تضحكي من جديد.. حتحبي تاني بس راجل يليق فيكِ يا غالية.. ما تغيمي، أنا هاخد حقك من آسر قبل فيصل و هكتم على كل شي.. شرفك في رقبتي يا رغدة، ما تخافي ”
” عز الدين لو سمع مش هيسامح.. هيذبحني يا صخر، وأمي و أبوي مش هيرضون عليا.. فيصل ما له رادع.. هيخبر عز باللي حصل، وعز هيذبحني و هيذبحك لو ما كشفتش اللي حصل.. روح يا خوي، امشي و اتركني، روح قبل ما يشوفوك ويبقى مصيرك بحال مصيري”
قالتها و احتضنته أكثر، كأنها تخبره بعناقها القوي له ألا يذهب و يتركها تصارع القدر وحدها، وهو أبدى تفهمه للموقف و لحاجتها الشديدة له عكس كلامها، فساعدها على النهوض و مسح دموعها قائلًا بنبرة هادئة يحاول طمئنتها:
” لا تهتمي، أنا داير حساب لكل شي.. فيصل اتركيه عليّ.. هوديكِ عند خلق طيبين ما يصير زعل معاهم لحد ما ألقي آسر، و اخد حقك منه و هوري عز باللي يرضيه ”
تساءلت بخوفٍ ازداد و تسلل أكثر لقلبها و جسدها:
” طيب لو عز وفيصل ما رضيوش يفهموا.. ايش اللي بيصير لنا يا خوي ؟ ”
” ما بيصير لنا إلا المكتوب، ما تغيمي ”
قالها، و أخذ بيدها في رفقٍ و حنانٍ منه، ثُم بعدما تأكد من أمن الطريق لخارج المنزل، اصطحبها بعد أن أحضرت هي بعض من ملابسها و وضعت وشاح الرأس على شعرها، ثُم ركبت بجانبه سيارته التي يستعملها حينما يبتعد عن حدود القبيلة خارج سيناء، و التفت لها أثناء قيادته السيارة بسرعةٍ قبل اكتشاف أمرهما:
” حتى لو كان الثمن روحي، ما أقدر أضحي فيكِ.. أنا بوقت غارة أسماء ما قدرت أسوي شي، كنت وقتها جويهل.. دلوقتي ما أكرر الماضي، ما أضحي فيكِ يا غالية ”
التزمت الصمت و البكاء على حظها دون لفظ كلمة، تعلم أن شقيقها « صخر» صاحب الثامنة و العشرون عامًا يمتلك قلبًا نقيًا و طيبًا لا يُلوث بسهولة، و أن عاطفته هي التي تغلبه و تحركه أغلب الأوقات.. أرادت التخفيف عنه فتساءلت بحنانٍ في صوتها:
” امتى هتسافر تطلب آلاء للكف ؟ ”
تنهد في صمتٍ و اكتفى بابتسامة حزينة، فكيف ستسير الأمور على النحو المراد بعد أن كُشفت الأسرار، حتى لو كُشفت بينه و بين نفسه، كيف سيتزوج من شقيقة المعتدي على أخته ؟
في البداية كان الأمر جريمة قتل هو هرب منها و قامت القبيلة بإخفائه عندها، أما الآن توسعت الحادثة، و لم يصبح « آسر» مدان بالقتل فقط، بل بالاغتصاب أيضًا !
كيف سيجمع بين مراد قلبه و الانتقام لأخته ؟!
حامت الأسئلة حول عقله، و لم يستطِع الإجابة، فاستطردت « رغدة » حديثها وهي تربت على فخذ أخيها بدعمٍ له:
” خلاص يا خوي، انسى اللي حصل.. روح خبّر آلاء بحُبك.. ما تخسر حُبك بسبب غبايتي يا صخر ”
ربت على يدها بإيماءة رأس يقول:
” سَكتي الموضوع، أنتِ دلوقتي أهم من كل شي ”
.. على ناحية أخرى في أحد مناجم الفيروز الشهيرة بسيناء، يقف « عز الدين» كالأسد شامخًا يتابع العاملون بالمنجم وهم يعملون مثل خلية النحل تمامًا، بينما هو يتابعهم بعينيه فقط، أما رأسه يعج بالكثير من الهموم و التساؤلات عن أشياء متعددة منها ما يخص العمل و منها عما إذا كانت « أسماء» على قيد الحياة أم فارقتها، و إذا كانت على قيد الحياة، فماذا تفعل و أين تعيش.. في وسط كل تلك المشاغل، تذكر شغف أقرب أصدقاءه بصناعة الحلي و المجوهرات من الأحجار الكريمة، فقام بالاتصال عليه، ليس من أجل الأحجار فقط، و إنما للمجيء و التسامر معه أمام إبريق من الشاي وهو يغلي ببطءٍ على الفحم، فتلك عادته التي يحب فعلها حينما يجلس و يتحدث معه عما يؤرق صدره..
آتاه الرد بعد دقائق من شخص لا يحب الكلام الكثير، ولا حتى يحب حديث الهواتف:
” ايوه ”
فلتت ضحكة من « عز الدين» على عادة صديقه التي بقيت ملازمة له دائمًا، و قال:
” هو الكلام بياكل منك لو تتكلم كحال الخلق ؟ على كل حال جايبلك حجر فيروز وايد حلو.. تعال خدها، و ريّح عندي يومين بالجبل.. من وقت بعيد ما جلسنا مع بعض جلسة أُنس ”
رد صديقه بنبرته العميقة:
” جاي، بكرة ”
و أغلق الأخير الهاتف، ليوزع بصره على إخوانه الثلاثة، قائلًا لهم بصرامة:
” يعني سلطان يختفي من وسطكم و أنتم ولا هنا ! متعرفوش غير الصبح ! ”
هتفت « زينات» التي بدأت تنتحب و تتوعد لحراس الفيلا:
” هو عوض مفيش غيره يا باشا اللي عمل كده، ياريتني قولت لكم خلصوا عليه قبل ما تيجوا.. أنا هكلم الظابط محمود يجي يشوف صرفة معاه ”
أشار لها « باشا» بيده يوقفها بتحذير عما تفعله، ثُم قال وهو يستدير و يتجه للخارج:
” متعمليش حاجة غير لما أقولك ”
رغم أن « زينات» تعتبر ولي أمر لهم، لكن تبقى كلمة « باشا الباشوات» هي الأقوى بينهم، دائمًا نظرته تجاه الأمور تكون صائبة، لا يتعامل بعجلة مثل قابيل، ولا يتردد في فعل شيء أراده مثل وسيم، ولا ينساق خلف النساء مثل سلطان، ولا تسبقه عاطفته مثل كرم.. لكن حدسه لا يخيب أبدًا.
أسرع « قابيل» يوازيه في السير و يسأله بقلب وجل على « سلطان»:
” تفتكر عوض اللي خطفه فعلًا ؟ ”
نظرة « باشا» له كأنها تخبره أن يكف عن السذاجة، أردف وهو يركب السيارة:
” زينات عايزة تتخلص من عوض وخلاص عشان كده جابتها فيه أول واحد ”
” تقصد إيه ؟ ”
” أقصد أقول ياللي كنت فاكرك بتفهمها وهي طايرة، إن سلطان أخوك متخطفش، و هيتخطف ازاي و الفيلا مترشقة كاميرات مراقبة في كل حتة، ده غير كلاب الحراسة و الحراس نفسهم.. إيه ؟ كل دول ما خدوش بالهم ؟ فكك من زينات عشان شكلها بدأت تخرف ”
قالها « باشا» مُحركًا عجلة القيادة ناحية الأماكن التي يحب « سلطان» السهر فيها، و تساءل « وسيم» وهو ينثر المعقم على بنطال
« كرم» لينام على فخذيه، فقد أيقظتهم زينات باكرًا، و لم يكتفِ من النوم بعد:
” وهي المعلمة ممكن تضحي بأي حد فينا عشان توصل للي عايزاه ؟ ”
لم يرد «باشا» فعندما يقول عدة جُمل وراء بعضها، يلزم الصمت طيلة اليوم، أو لا يتحدث إلا بكلمة.. رد « قابيل» ضاحكًا:
” لا متخافش، هي متقدرش تستغنى عننا، بس لو فضلت تشمشم في كل حاجة كده، هتضحي بيك أنت أول واحد ”
أخذ « وسيم» الأمر على محمل الجد ليسألهم:
” ولو فعلًا ده حصل و فكرت تضحي بيا، أنتم هتسيبوني ؟ ”
” على جثتي ”
هتف بها باشا، و رد قابيل:
” ده بعينها ”
بينما كرم أردف بصدقٍ:
” حد يقدر يستغنى عن روحه يا أهبل ؟ ”
ضربه وسيم بخفة على شعره الأشقر، يقول بمزاح:
” و لازمتها إيه أهبل دي ! ياض احترمني أنا أكبر منك بخمسة سنين و نص ”
الخمسة شباب ليسوا إخوة، لكنهم يتعاملون فيما بينهم معاملة الأخوة الحقيقيون و أكثر، لا أحد يستطيع التفرقة بينهم ولا حتى « زينات»، و رغم أنهم يعلمون مدى جشعها و حبها الشديد للمال، لكنهم لا يستطيعون الابتعاد عنها، فقد انتشلتهم من الشارع و قامت بتربيتهم، وهذا يكفي ليكنون لها كامل الولاء و الطاعة.
غفا «وسيم» على فخذيّ «كرم»، و مال الأخير برأسه على النافذة فقد سيطر عليه النعاس أيضًا، بينما « قابيل» انتهز فرصة نومهما، و قال بهمسٍ لأخيه الأكبر:
” جبت لك صيده جديدة، بس إيه.. حلاوة، ها تعجبك أوي، أنا بنفسي روحت اتقست و اطمنت، ابن الـ * طالب سعر في العالي، قلت إيه.. ؟ ”
حينما أخبره « قابيل» بذلك، بدأت عينيه تلمعان باشتياقٍ كاشتياق الوطواط للدماء، و قال بموافقة سريعة:
” هي دي فيها كلام ! اتفق معاه على أي سعر هو عاوزه، و اديله ميعاد بالليل ”
أومأ قابيل و أرسل للرجل عبر تطبيق الواتساب، لأن « باشا» لا يحمل هواتف ذكية معه أو لا يحبها من الأساس، فقط يكتفي بالهاتف الصغير الذي يعمل بالأزرار، و أيضًا لأن قابيل ذو شخصية اجتماعية أكثر من « باشا» و لديه معارف أكثر منه؛ لذلك يتولى هو مسئولية اشباع رغبات أخيه.
وصلوا لأول ( كباريه ) منذ دخولهم شارع الهرم، الشارع المفضل لدى أخيهم « سلطان»، ترجل قابيل، ثم باشا بعد أن اطمئن الأخير على
« كرم» الأقرب لقلبه، ثُم « وسيم » الذي لا يقل مقدار حُبه له عن كرم، ولكن كرم قد تولى باشا رعايته هو و قابيل منذ أن تركته أمه و انتحرت.
دلف « قابيل» للكباريه الذي لا يعمل بالنهار كما يعمل بالليل، و جاء صاحبه يرحب به بحفاوة، فوجه قابيل معروف هنا أكثر من باشا، تساءل الأخير بنظرة باردة:
” سلطان جه هنا بالليل ؟ ”
رد صاحب الكباريه بصدق:
” سلطان بقالو يومين ما بيجيش ”
” متأكد ؟ ”
تساءل بها قابيل، فَرد الرجل يؤكد قوله:
” لو جه أنا هخبي ليه ؟ سلطان أنا فعلًا مشفتوش بقالي يومين، حتى استغربت عشان دي مش عادته ”
غادر الاثنان نحو آخر، و نفس الأسئلة ألقيت على صاحبه، و كانت الإجابة بأنه لم يأتِ و لم يره أحد من الزبائن.
عادا للسيارة يتأفف كل منهما بضجرٍ، ليقول قابيل بقلقٍ حقيقي:
” هيكون راح فين بس الواد ده، أنا بدأت أقلق”
” سلطان مطلعش من الفيلا أصلًا ”
” يعني إيه ؟! ”
” يعني حاسس إن إحنا بندور على الفاضي ”
” طب ياريت يكون فعلًا مطلعش من الفيلا، أهو يبقى اطمنا عليه ”
توقفت السيارة أمام كباريه آخر، و تلك المرة ذهب معهما «كرم» بعدما استفاق من نومه، أخذ يفرك عينيه و كاد أن يقع لولا أن لحق به
« باشا» هاتفًا بخوف عليه:
” يا تفتح و أنت ماشي يا تروح تقعد جنب أخوك ”
” لا هاجي معاكم.. وسيم زهقني، كل شوية يقوم يشمني وينام تاني، مع إني والله نضيف زيه بالضبط، بس هو مقتنع إننا كلنا معفنين ”
ابتسم باشا بخفة، عادة ينجح كرم في إضحاكه، بينما قابيل قال:
” الواد وسيم عاوزين نوديه لدكتور شاطر يخلصه من الحالة الهباب اللي هو فيها دي، الواد كمان شوية هيمشي يشم الناس في الشارع ”
دخلوا الكباريه، و سأل باشا بصوته الأجش صاحبه:
” سلطان آخر مرة جه هنا كان امتى ؟ ”
رمقه الرجل ببرود ليقول:
” سلطان مين، و أنتم مين ؟ يلا يا حبيبي أنت وهو شوفوا أنتم رايحين فين ”
رد « كرم» ببرود مماثل له:
” لا حيلك.. هتسلك معانا هنسلك معاك غير كدا
Your mother without hair
باستهزاء تأمله الرجل ليقول:
” لو كررت كلامي هدفنكم مكانكم ”
” اتكلم كويس طيب ”
قالها قابيل وهو يضرب بظهر يده صدر الرجل، فهتف الأخير مستدعيًا الأمن:
” أنت بتمد إيدك عليا يا * ! ”
” أنت عندك حق، أنا فعلًا * و * دلوقت ”
رد بها « قابيل» في سخرية، ثُم ركل الرجل في منتصف بطنه، و انهال عليه باللكمات وهو يستغيث من تحته، في حين أن رجال الأمن قد أتوا سريعًا، فاستدار لهم « قابيل» بعدما كسر ذراع الرجل، و بدأ مع أخويه موجة من الضرب العنيف للخمسة المسؤولين عن الأمن..
قفز « كرم» على كتفيّ أحد الرجال بمساعدة
« باشا»، ثُم أدار رقبة الرجل لليمين و لليسار حتى صدرت أصوات فرقعة عظام الرقبة، فأصابه بكسر فيها، و قفز على الأرض بعدما وقع الرجل بوهنٍ خلفه لا يقوى على الحراك، و بينما يقف كرم مفتخرًا بأدائه، جاء رجل من خلفه يحمل منضدة صغيرة لينزل بها على رأس كرم، و قبل أن تمسسه.. لحق به « قابيل» و دفعه بعيدًا، ثُم ضم قدميه و ركل المنضدة في صدر الرجل ليأخذها و يقع، أما « باشا» ظل يضرب ثلاثة وحده دون تعب أو كلل، حتى جاءه قابيل يساعده في القضاء عليهم، و كرم كانت الضربة القاضية التي تعود لباشا من نصيبه تلك المرة، فقد أمسك له أخويه أحد الرجال، بينما هو قفز على منكبي الرجل و كسر الرقبة الثانية، و تركوا الرجال كومة عظام هشة تقاوم البقاء على قيد الحياة.
في تلك اللحظة، دلف وسيم ليجد هذا المشهد أمامه، فعود أدراجه ثانيةً وهو يدندن بمظهر كوميدي:
” أنا رايح فين.. أنا راجع تاني ”
صاح قابيل مُناديًا عليه بسخرية:
” خد ياض يا جبان ”
رد وهو يفر هاربًا تجاه السيارة:
” نسيت المعقم بتاعي، بالسلامة أنتم بقى دلوقت ”
قفز للسيارة سريعًا، و جاؤوا هُم للبحث في مكانٍ آخر، و أثناء قيادة « باشا» ناحية الكباريه الأخير، جاءهم اتصال على هاتف قابيل من زينات، تقول بنبرة استياء واضحة:
” تعالى أنت و إخواتك يا قابيل.. زفت سلطان هنا.. طلع كان نايم تحت السرير ”
أنزل قابيل الهاتف في دهشةٍ و أخذ يتبادل النظرات مع باشا الذي بالكاد كتم الضحك بصعوبة، بينما « وسيم» هتف في تعصبٍ يتوعده:
” عليا الحرام ** ما هحله النهاردة ”
بينما « كرم» ضغط على أسنانه في غيظٍ يقول:
” ده ماما لو جلدته هيبقى معاها حق ”
نظروا له ثلاثتهم في صمتٍ، بينما هو انتبه لما قاله، فأردف مُصححًا سريعًا:
” قصدي المعلمة “

ودَّ « كرم» الفتى صاحب العشرون ربيعًا، أن يُنادي « زينات» بـ « ماما»، و بالفعل كان يظنها أمه منذ أن كان صغيرًا لا يعرف سبب وجوده بالحياة، و لكنها لا تُحب ذلك اللقب ولا تُحب أن تصبح أُمًا، و كان ذلك سببًا واضحًا في تخليها عن الرحم و إزالته.
في كل مرةٍ كان يُناديها بماما، كانت تقوم بتوبيخه و تخبره ألا ينطقه ثانيةً، حتى كَبُر و أصبح يافعًا مثل إخوانه و أدرك أنه ليس لديه أم أو أب، عرف أنه جاء من ماء الزنا مثله مثل إخوانه، وهو كل مطلبه في الحياة، أن تصبح له عائلة حقيقية أصولها أب و أم مثل أي اثنين تزوجا بما يرضي الله، و لكن.. أحيانًا تُرغمنا الحياة على أشياء لم نُردها وليس لنا دخل بها، و أنت مجبر على تقبلها و العيش معها.
يبدو أن العاطفة تغلب دائمًا على طبع الفتى الأشقر، فذلَّ لسانه و نسي حقيقته و قال
« ماما» ! الاسم الذي يُسهل على أي شخص قوله، يُصعب عليه هو نطقه، و إذا فعلها يتراجع سريعًا و يعتذر مُتأسفًا عما بدا منه.
” شوف ياض يا كرملة، أنت شكلك صعبت عليا، فهضطر أحضنك بس هعقمك الأول ”
قالها « وسيم» في محاولة منه للتخفيف عن حزن أخيه الصغير، الذي يشعر بالغيرة كلما رأى أسرة طبيعية أفرادها يبدو عليهم السعادة، فتبسم « كرم» بخفةٍ رغمًا عنه، و بالفعل قام
« وسيم» بتعقيم جاكيت كرم، ثم أخذه ليعانقه وهو يربت على رأسه قائلًا:
” اعتبر نفسك اتولدت لقيت أهلك ماتوا، عادي يا عم.. بتحصل كتير، و بعدين أنت معاك أربع إخوات يسدوا عين الشمس و بيحبوك، عاوز إيه تاني ؟ ده الأخوات دلوقت بقوا ياكلوا و ينهشوا في لحم بعض، أما إحنا هنفضل مع بعض دايمًا و محدش هيقدر يفرق بينا ”
قالها و أخذ يشم شعره، فابتعد شاهقًا بدهشة:
” و أنا أقول ريحة شعرك حلوة منين.. حطيت من الكريم بتاعي ؟! ”
تناسى « كرم» حزنه، و أومأ بضحكة صغيرة، فصاح وسيم بغضب:
” يعني لمست علبة الكريم بدون إذني ؟ و بتضحك ! ده أنت ليلتك مش فايته النهاردة ”
هَمَّ بضربه، فأوقفه « باشا» بنظرة جانبية هاتفًا بتحذير:
” ايدك ما تتمدش عليه ”
اعتدل « وسيم» مكانه، و رد بإيماءة تدل على غضبه:
” تمام، يعني عادي ياخد حاجة مش بتاعته و أنت تدافع له ! مهو أصل القرد في عين أمه غزال ”
” وســيم ”
صاح به « باشا»، فسكت هو و لزم الصمت بغضبٍ بدا عليه، مما أحس « باشا» بإهانته له، و تدخل « قابيل» يفض الغضب بينهم:
” ما خلاص ياض يا وسيم، ولا أنت عشان وسيم بحق هتفرد وسامتك علينا ؟ ولا تكونش ياض وسامتك مقوية قلبك ! على العموم متزعلش، باشا مبيحبش يشوفكم بتتخانقوا مع بعض، خصوصًا إن أنتم كلكم معزتكم من بعض، مفيش حد فيكم أغلى من التاني على باشا.. افرد وشك ده بدل ما أفردهولك ”
ظل صامتًا يفكر في علبة الكريم وهو قد ابتاعها جديدًا، يحب أشياءه كثيرًا ولا يُحب أن يعبث بها أحد، و يخاف أكثر إذا لمسها أي شخص لا يعرف مقدار نظافته، حتى لو يعرف لن يدع أحد يمس أغراضه بأي شكلٍ كان.
التفت له « باشا» بنبرة لينة يقول:
” حقك عليا، هجيب لك واحد تاني ”
” مش عاوز ”
هتف بها في اعتراضٍ، وهو يمطّ شفتيه و يشيح بوجهه تجاه النافذة، بينما « كرم» اقترب منه و رفع يديه يقول بمداعبة:
” عقمني قبل ما أحضنك أنا المرة دي.. أنا آسف والله، مكنش ينفع ألمس حاجتك قبل ما أخد إذنك، بس كنا مستعجلين الصبح و بصراحة الكريم بتاعك ريحته حلوة أوي.. ابقى قول لي اسم المكان اللي اشتريت منه عشان اجيب أخوه ”
رمقه « وسيم» ببرودٍ ليقول:
” و كمان عاوز تقلدني ”
” انجز.. ها تحضني ولا أحضن نفسي ؟ ”
” لا تعالى و على إيه.. يقولوا الواد كان نفسه يتحضن ! ”
قام بنثر الكحول ثانيةً عليه قبل أن يعانقه، بينما باشا و قابيل تبادلا نظرات قلة الحيلة، ليقول الأخير زافرًا بضيق وهو يلقي نظرة على وسيم:
” معايا حق نوديه لدكتور ولا لأ ؟ ”
ابتعد وسيم عن كرم، وهتف سريعًا باعتراضٍ قاطع:
” الدكتور ده أنت اللي تروح له مش أنا، مقهورين من نضافتي.. يا أبو غل يا عدو الفرحة أنت وهو ”
” بذمتك أنت مبسوط من نفسك ؟ ”
” آه مبسوط، خليك أنت في حالك يا بتاع زينات ”
” ولاه ! اظبط ”
هتف بها « قابيل» بنبرة استياء لاحظها
« باشا» فأدرك في داخله بأنه مجبور على ما يفعله مع « زينات» رغم أن قابيل يفعل ما يحلو له، لكن بالأخص مع تلك المرأة الشيطانية لا يستطيع رفض لها طلب، ينساق وراءها و كأنها ولي نعمته.
تحدث « كرم» مُتخذًا الحديث لمجرى آخر:
” شحنة البويضات اللي طلعت من يومين المفترض إنها على وصول ليهم بكرة، و بما إن أنور اللي طلع بيها، فأنتم هتيجوا معايا أنا و وسيم للشركة نستقبل الفوج الجديد من البنات اللي قدرت اجمعهم في خلال الأيام اللي فاتت.. المعلمة قالت لي اتولى أنا استقبالهم المرة دي، بس أنا خايف اعك بالكلام غصب عني و اكشف الليلة، عشان كده أنتم الاتنين لازم تبقوا موجودين.. وسيم مش هيعرف يسد لوحده، و سلطان ممكن يعتدي عليهم.. ممكن إيه ! ده أكيد، ها قولتوا إيه ؟ ”
لزم الاثنان الصمت، و لم يعرب واحد منهما عما يدور بداخله، و كأن الاثنان بداخلهما بركانٌ من الأسرار آيل للانفجار في أية لحظة.
عندما لاحظ « وسيم» شرود أخويه الكبار، أشار لكرم بأن يلزم الصمت هو الآخر لحين الوصول و الحديث جماعي في الأمر.
فهذا هو « باشا» يقود السيارة بانتباهٍ للطريق، و ذهنه شارد كل الشرود في الغنيمة الثمينة التي سيحصل عليها مساءً، يجد ما يفعله ألذ شيء يقوم به في يومه، و إذا مرت عدة أيام دون صيدٍ جديدٍ، يظل عابس الوجه و يتعكر صفو مزاجه طوال اليوم، و ليس هذا سره الوحيد، بل لديه أسرارٌ أخرى لا يعرف أحدًا عنها شيء، ولا حتى بنك أسراره « قابيل».
و هذا هو صاحب العينين الرماديتين الذي يصغر الأكبر بعام، غارقًا في بحرٍ من الأفكار، بحر أمواجه متضاربة عالية تأخذ بأسئلته و تضربها في أجوبته، فيجد نفسه في نهاية المطاف دون ردٍ منطقي على ما يدور بداخله.
أفكاره مشتتة منذ شهرين.. منذ انفصاله عن الفتاة الوحيدة التي رضخ لها قلبه العنيد، أحبها قبل أن تعرف حتى هي ذلك، أحبها و وشم اسمها على قلبه.. تمامًا موضع حرقه بالنار قبل بلوغه، الوشم الذي يخفي الحرق و في نفس الوقت تبغضه « زينات» كثيرًا كلما أخذته لارتكاب الفاحشة، لم يفكر « قابيل» ولا مرة في التخلص من الوشم، أما « زينات» فشلت جميع محاولاتها في جعله يتخلص منه حتى لو تسبب له بالألم الكثير، لا تُبالي.
عندما رآها أكثر من مرة في قصر والدها، لم يقدر على غض طرفه عنها.. كل شيءٍ بها بدا بالنسبة له مثالي للغاية، بدءً من ملامحها التي توحي بأنها نشأت بالخطأ في تلك العائلة السيئة، لعينيها السوداوين اللتين يظهر فيهما الحنين للسنوات الأولى من عمرها، الحنين للمرح و الطفولة، و البراءة.
حتى أنه أحب مهنتها التي تمناها منذ صغره، كان يتمنى أن يصبح محقق جنائي، و لكن
« زينات» ليست مصباح علاء الدين لتحقق له أمنياته، العمل تحت طوعها هو أهم من كل شيء.
و ذات يوم كانت شمسه دافئة جميلة، اعترف لها « قابيل» بحبه المستتر في ثنايا قلبه، و لأنها لا تستطيع التحكم في قلبها أمام أجواء الحُب، اعترفت له أيضًا بمشاعرها المتبادلة تجاهه، و لم يعرف أحدًا بقصة الحُب المشتعلة بين الاثنين سوى إخوانه و ابنة عمتها الطبيبة الشرعية، حتى جاء الأمر النافذ و علمت
« زينات» بالأمر من خلال رجال المراقبة الذين وضعتهم لحفظ رجالها الخمسة، و صدر القرار بقتل فتاته إذا لم يبتعد عنها.. هددته بأنها ستفعل بها كما فعلت بفتاة « باشا»، و لن يهمها عائلتها أو الأعمال المتصلة بينهم، المهم ألا يضعف أحد من الشباب أمام الحُب، فما كان من
« قابيل» إلا أن ينفصل عنها و يخبرها بأنها كانت مجرد نزوة ولن يتزوج ولا حتى يفكر بالارتباط.. بدون إرادته كسر قلبها، و بقيت لهذا اليوم تعيش على ذكراه و تحن له.
مرت أيام و قرر أن يتحدى زينات لأجلها، فأسرعت هي و أعلنت ارتباطها من ابن عمها لعدة أيام بالاتفاق معه، فقط لترد له الصاع صاعين، فظن أنها بالفعل كانت على علاقة به، فأبدى كرهه الحقيقي لها، و ندمَ أشد ندم على البوح بِحُبِه، و انتصرت « زينات» !.
زفر بضيق من نفسه كلما أخذته الذكريات للماضي، الماضي الذي يبقى ملازمًا لصاحبه طوال حياته، و لن يستطيع الفرار منه مهما حاول.
كم اشتاق لها، اشتاق لها و لقلبها الحنون و دفء صوتها، و لكن.. ما باليد حيلة، يجب أن تكون قسوته هي قوته، و إلا ستدهسه الحياة و تصفعه مرارًا دون رحمة.
صمتٌ تام خيم على الأربعة طوال الطريق، و ها هم قد وصلوا أخيرًا.
أثناء ترجل « قابيل» من السيارة، جاءه اتصال هاتفي من رقم مجهول.. تهيئ للرد ليتفاجئ بنبرة صوتٍ لم يسمعها منذ أكثر من شهرين، ظل صامتًا حتى بدأت هي الكلام بتنهيدة طويلة:
” محتاجة لك ضروري يا قابيل ”
لم تقل من هي، ما زالت تُؤمن أنه لم ينسَ صوتها الدافئ.. رد هو ببرود تعمد إظهاره:
” عايزة إيه ؟ ”
” هستناك في كافيه و هبعتلك اللوكيشن على الواتس، بس ضروري تيجي أرجوك ”
” عايزاني امتى ؟ ”
” فاضي بعد ساعتين ؟ ”
” افضى لك، سلام ”
قالها بحزنٍ من نفسه لعدم استطاعته صدها، ثم أغلق الهاتف، و تابع خطواته لداخل الفيل خلف إخوانه، فلاحظ « باشا» تغير ملامحه للعبوس، لذا تساءل بِشكٍ:
” فاطمة ؟ ”
” عرفت منين ؟! ”
رد «باشا» ساخرًا:
” العاشق تفضحه عيناه ”
قال هو بادعاءٍ مُصطنعًا عدم الاكتراث:
” لا عاشق ولا نيلة، ده جنس ناخد منهم اللي يكيفنا و نرميه، و بعدين إحنا الحُب للي زينا كبيرة من الكبائر، أنت عاوز زينات تقيم علينا الحد ولا إيه ؟ كفاية اللي حصلك زمان ولا نسيت ؟ ”
” نسيت و قفل على السيرة الزفرة دي ”
هتف بها « باشا» في غضبٍ لفح وجهه حين ذَكره « قابيل» بالماضي، بينما الأخير اعتذر عن حماقته:
” متزعلش، بس أنا دمي محروق.. جاية بعد كل ده تتصل بيا ليه تاني.. معرفش، عامةً أنا هروح أشوفها عايزة إيه و أنبه عليها متكلمنيش تاني”
رد « باشا» مُتفهمًا لحالة التشتت و الحيرة التي يمر بها الآن:
” اقفل الباب ده نهائي يا قابيل ”
” رأيك أروح لها ؟ ”
” لأ ”
” لأ و بس ؟ طب كمل الجملة لآخرها، اجلدني بكلمتين طيب يمكن أحس على دمي و مروحش ! ”
رمقه باشا بطرف عينيه قائلًا له بجمودٍ:
” أنت عارف هتتصرف ازاي، اللي بينا و بين عيلة المنزلاوي شغل، غير كده تتقفل كل الأبواب ”
أومأ دون ابداء أي ردة فعل، و بداخله وابل هائل من الحنين إليها يعكس شخصيته اللا مبالية بأي مما يحدث حوله.
أما في الداخل، دلف « باش» ليجد سلطان يتم التحليق عليه من قبل وسيم وكرم، وهو مثل الدجاجة الهاربة من عشها يقفز هنا و هناك، حتى ركض دون انتباه و اصطدم بكبيرهم، الذي تأمله بصمتٍ، فصرخ « سلطان» شاهقًا بفزع عندما وجد نفسه واقفًا بين باشا و قابيل، و الاثنان ينظران له ببرودة في مشهد هزلي فاضح بمعنى الكلمة، فقد كان يجري بسرواله الداخلي.. هتف وهو يحاول الفرار ثانيةً:
” كلكم عليا ولا إيه ! حد قال لكم تروحوا تدوروا عليا ؟ واحد صحى لقى نفسه تحت السرير، إيه.. الدنيا اتهدت ! وبعدين أنا الأحلام بتيجي لي مترتبة و أنا تحت المرتبة ”
و التفت لزينات التي تستشيط منه غضبًا، ليتابع ببرود أكثر:
” عارفة بقى يا زُوز بعيد عنك كده يختي الشر برا و بعيد، لو في يوم حلمت حلم مش مترتب، عارفة بيحصل لي إيه ؟ بضطر أعيد النوم من أول وجديد عشان يجي لي طوابير ورا بعضه.. آه مهو أصل النظام في الصحة أهم من دوا الكحه ”
و استدار لباشا الذي يرمقه بعدم فهم لما يقول، و تابع على نفس النمط:
” في مرة حلمت إن فيه إزازة بيرة مشبرة بتجري ورايا.. بعدها بقى على طول جات بطيخة قرعة مقسومة نصين من غير بذر، كل نص يجري لوحده و البذر وراه، هو يجري و البذر يجري هو يجري و الـ… هي الساعة كام دلوقت ؟ ”
” لأ، شوفوا لكم صرفة معاه.. ميت مرة أقوله ميتقلش في الشرب، مفيش فايدة.. بقرة و مربوط في ساقية بتلف حواليها من غير ما تعرف هي بتلف ليه ”
” هو حد قالك لفي حواليها يا زُوز ! ”
رد بها « سُلطان» دون وعي منه، فنظرت له بدهشة، بينما كرم و وسيم كتمان الضحك على مظهرها المصدوم من رده، و اتجه « قابيل» سريعًا يهدئ من غضبها قبل أن تنفجر فيهم:
” معلش يا معلمة، حقك عليا.. ده سكران، حد ياخد على كلام واحد سُكري ! ”
” أنا سُكري يا بتاع زينات بير السلم ! ”
هتف بها ثانيةً وهو مشغول بِعضّ يده على شكل ساعة، ثم ظل يدقق النظر فيها، و رفع وجهه بابتسامة بلهاء لهم جميعًا ليقول:
“لقيت الساعة مش شغالة، عضعضت الحجارة”
صدحت ضحكة عالية من « كرم» بتلقائية، تلاه في الضحك « وسيم» الذي لم يستطع تمالك نفسه على شكل المعلمة، و تدخل « باشا» ينقذ الموقف وهو يوجه نظرات التحذير للاثنان اللذان سقطا أرضًا من كثرة الضحك:
” اخرس أنت و هو.. سلطان اطلع اغسل وشك و اجهز عشان رايحين الشركة ”
ردت « زينات» باعتراضٍ على أخذ هذا البلاء معهم:
” سيب سلطان معايا يا باشا ”
هَبَّ « سلطان» واقفًا يحتضن جسده، و بصرامة مزيفة قال:
” معاكِ فين ! لا.. أنا مقدرش أخون فادية فتلة، معاكِ قابيل، بيلعب حديد و بياكل سبانخ كتير، أنا لسه في عز شبابي يا ولية يا مفترية.. عايزة مني إيه.. خلصتِ على الأخضر و الياس ”
” سُلــطان.. فوق لنفسك، امشي غور اغسل وشك.. كـرم، خده اغسله وشه بدل ما أوريه الوش التاني ”
” هتتحولي لأفعى يعني ولا إيه ! ”
حاول « كرم» كتم الضحك بصعوبة وهو يأخذه و يتجه به للحمَّام، فتوقف سلطان فجأة و همس في أذن كرم:
” شيلني عشان فاتح قيصري ”
” أنت لما تفوق و تعرف اللي بتقوله ده، هتكره نفسك ”
جاء « وسيم» من خلفهما يقول ضاحكًا:
” وهو امتى فاق ! ”
” على رأيك، ده عايزني اشيله ”
” اخص على الرجالة اخص، خسارة فيه العضلات اللي مربيها على الفاضي دي ”
رد عليه « سلطان» وهو يترنح بِضعف:
” خليك في نفسك يا أكرت ”
هتف « وسيم » وهو يتحسس شعره الكيرلي بصدمة:
” أكرت ! أنا أكرت ؟! ”
أخذ الجدال بين الثلاثة وقته، و بعدما اغتسل سلطان و رد له وعيه الذي سُلب بواسطة الحشيش الأفغاني، هبط لأسفل ليجد المعلمة تجتمع بأخويه الكبار في غرفة الاجتماعات، فَدلف عندهم و تساءل:
” الكلام على إيه ؟ ”
” حمدالله على السلامة يا أبو السلاطين ”
قالها « قابيل» بنبرة مزحٍ، فَرد هو بعفوية:
” كُنت بولد ولا إيه ؟ ”
رد « زينات » بغيظٍ منه و خوفٍ عليه في آنٍ واحد من ضياع الخمر و الحشيش لعقله، فاتجهت نحوه و قرصته من أذنه:
” عارف لو تقلت في الشُرب تاني هعمل فيك إيه ؟ ”
” غصب عني والله يا معلمة، فادية فتلة هي السبب ”
” مين فادية فتلة اللي ماسكها لنا ليل نهار دي ؟! ”
تدخل « باشا» حتى لا تأخذ الأمر على محمل الجد:
” اعتبري نفسك مسمعتيش حاجة، أنتِ مش تايهة عن سلطان ”
أومأت بتفهم و تنهدت قبل أن تبدأ شرحها للموضوع المحوري، و جاءا وسيم و كرم يجلسان على المقاعد المتبقية، ثُم تهيأت و أشارت ناحية شاشة العرض المستخدمة في المستهدف من مشاريعها:
” قبل كل شيء لازم تعرفوا إن إحنا دلوقت في حرب عالمية تالتة، ها تقولوا لي ازاي حرب و مفيش غير كام دولة اللي فيها الحرب و الباقي مستقر، هقولك الحرب العالمية التالتة مش حرب بالأسلحة و الصواريخ.. الحرب اللي دايرة دلوقت من الدول العظمى على دول الشرق الأوسط، هي حرب اقتصادية و ثقافية فكرية.. أظن أنا علمتكم كل حاجة عن الموضوع ده، بس برضو هعيد شرحه بشكل أوسع عشان شغلنا كله اللي جاي، الهدف منه جني المحصول.. إحنا زرعنا البذور و حطينا السماد باقي نحصده، بمعنى.. في وسط كل اللي بيحصل ده و الدولة دي عاوزة تهبش من دي و دي عاوزة تسيطر على اقتصاد دي، يجي بقى دورك و تنتهز كل اللي بيحصل ده بطريقة ذكية، يعني إيه برضو ؟.. الذكاء الاصطناعي اللي اتطور بشكل يخوف دلوقتي لو ما استغلناش التطوير بتاعه في المكاسب المادية، يبقى إحنا كده مطولناش حاجة من الحرب دي.. الحرب دي اللي يقدر فيها يستغل التاني بأكبر قدر ممكن هو الكسبان.. ”
أنهت كلامها وهي تقوم بتكبير الصورة على الدول العظمي، ثُم تابعت بنظراتٍ تنم عن الدهاء:
” دلوقتي أنا لما أجيب ممثل عربي مشهور أوي و ناس كتير بينساقوا وراه من غير تردد، و أقول للممثل ده أنا هديك فلوس متحلمش بيها بس عاوز منك كذا و كذا و كذا، وهو طلع نفذه بالحرف الواحد و اديته الفلوس اللي مكنش يحلم بيها، خليته ملياردير.. كده أنا ممكن أكون بالنسبة لكم خسرت و مستفادتش حاجة !
بس لو حسبناها صح، هنلاقي إن أنا الكسبانة في الآخر.. كسبت إن خليت شباب العرب الطايشين و المضحوك عليهم يقلدوه و يمشوا وراه، و بكده أكون لهيتهم عن هويتهم العربية و مبدأهم الأساسي، و في وسط ما هما ماشيين وراه زي العُمي، جيت أنا و اشتغلت على حاجات تانية من غير ما ياخدوا بالهم و واحدة واحدة يبصوا يلاقوا نفسهم كلهم في ايدي و أنا اللي بشكلهم و ألعب بيهم زي العرايس اللعبة، دي بقى اسمها الحرب الفكرية الثقافية.. ابوظ فكرهم و ثقافتهم من غير أي دمار و أسلحة، يبقى الدمار الحقيقي في نفسهم و دينهم و عروبتهم.. أهو ده بقى اللي شغالة عليه الدول العظمي.. اللي يقدر يفلت من الليلة دي كلها، الجماعة بتوع قال الله و قال الرسول، و بما إن إحنا شغلنا مع «صوفيا الامريكية» اتوسع، فإحنا لازم نسعى نأمن نفسنا، عشان نار الحرب لو هبت مش هترحم حد، حتى الغني ها يتلط.. كبير و صغير، فاللي بنعمله ده هيقدر يحمينا لفترة أطول.. نحط ايدينا في ايد الغرب و في نفس الوقت نستفيد منهم ”
” قصدك إن تجارة البويضات هي اللي بتحمينا دلوقت ؟ ”
تساءل بها « قابيل» فردت بنفي:
” مش تجارة البويضات اللي بتحمينا.. البنات نفسهم المضحوك عليهم كل إما عددهم يزيد إحنا بنبقى في الأمان اكتر.. في الأول زي المرات اللي فاتت كذا بنت هتعارض و تقول لأ حرام و بتاع، بس لما الفلوس تزغلل عينيهم و ناكل بعقلهم حلاوة بكلمتين مترتبين صح، هيوافقوا وهما مغمضين، و فكرة الحرام هتتشال من دماغهم، و هما بنفسهم هيجروا بنات تانية معاهم، و بنات تجيب بنات وهما مقتنعين تمامًا إن اللي بيعملوه ده صح، الفكرة كلها في الطريقة اللي هنضحك عليهم بيها و شوية الفلوس اللي تترمي قدامهم، بالضبط زي ما بيتعمل ما المشاهير.. اعمل كذا و هنزودك فلوس وهما سمعًا و طاعة، الحرب الثقافية دي لو استغليناها صح، هنطلع منها بمكسب كبير أوي ”
تساءل « سلطان» تلك المرة و يبدو أنه انتبه جيدًا لكلام زينات:
” طب و الحرب الاقتصادية إحنا هنستفاد منها إيه ؟ ”
” كل إما تطبل لدولة معينة كل إما تتفادى الحرب دي ”
هتف بها « باشا» بابتسامة ساخرة، فأومأت زينات تؤكد على حدسه البديهي:
” بالضبط، زي ما قال باشا، عشان كده إحنا بنطبل للدولة اللي مسيطرة دلوقت مؤقتًا.. أمريكا، و كل إما نلاقي دولة بتفرض قيود على الاستثمارات مع دولة معينة، نروح نطبل للدولة الأقوى.. يعني التجارة بتاعتنا مع الأجانب دلوقت هتفيدنا جدًا لو حصل تلاعب في العملة، أو فرضوا رسوم جمركية عالية على السلع اللي مصر بتستوردها، نكون إحنا في السليم ”
السؤال الأخير من نصيب الأشقر، تساءل:
” ليه قولتي مؤقتًا ؟! ”
” عشان الحرب الاقتصادية حرب حساسة زي خناقة بالضبط بين أفراد عيلة على الورث، نهايتها التدهور.. العلاقات الدبلوماسية ممكن تدمر، فلو حصل الكلام ده مع مصر و أي دولة، نطلع إحنا في الحتة الأمان، و ساعتها لو حصل هاخدكم و نسافر للبلد اللي هتبقى مسيطرة وقتها، عشان كده لازم نبدأ نستثمر في كل دولة، و نوسع تجارة البويضات لتجارة عالمية، يبقى صيتنا مسموع في كل مكان و مش معروف، عشان لو اللعبة اتكشفت؛ المبنى هيتهد فوق راسنا ”
رد « سلطان» بجرأة اعتاد عليها:
“ما إحنا بنملى جيوب الأكابر كل شوية، لو اتهد هيتهد فوقينا كلنا.. مفيش خيار ولا فقوس، اللي يقبل الرشوة يبقى دخل معانا في اللعبة، ولا إيه يا رجالة ؟! ”
ردوا الثلاثة يوافقونه الرأي، عدا « باشا» الذي نهض بملل يقول:
” طيب أنا محتاج أروح أرتاح شوية ”
هتف « كرم» سريعًا يتشبث به ليجعله يجلس:
” أنت هتمشي و مين هيجي معايا الشركة ؟ ”
أشارت زينات برأسها لباشا ليرحل، ثم قالت بهدوءٍ تشرح الوضع لكرم:
” أنا عايزاك يا كرم أنت تبقى الوجه الجديد اللي ها يقابل البنات، المرة دي أنت اللي هتتولى كل حاجة، و وسيم و سلطان هيساعدوك طبعًا، بس أنت كبرت ولازم تتعلم تشيل مسؤولية زي اخواتك، الكلام من ورا الشاشات كان زمان، دلوقت أنت ليك وضع مختلف.. حلو و شيك و بتكلم لغات بغبغان و فوق ده كله شبه الأجانب، يعني ما حدش هيشك فيك لما تمثل إنك خبير أجنبي في التبرع بالبويضات.. كده هتسهل على سلطان يمضي البنات على ورق التبرع من غير ما ياخدوا بالهم، و وسيم يقف معاهم في اوضه التبرع، و طبعًا أنا باعته لكم أحسن الدكاترة اللي هياخدوا البويضات من المتبرعين يحطوها في أجهزة الحفظ، يعني كل حاجة هتمشي في السليم لو سمعتوا كلامي.. عاوزة الأمور تمشي بكل جدية، الموضوع ده بالذات لا يحتمل الهزار فيه، أي غلطة هيحصل خلل في الخطة كلها.. سامعين ؟ ”
” تمام يا معلمة ”
قالوها الثلاثة في طاعة، بينما « قابيل» احتج بالمغادرة لأجل رؤية فتاته، فقال بادعاء:
” طيب، همشي أنا دلوقتي، ورايا مشوار على السريع كدا هقضيه و اجي ”
” مشوار إيه ؟ ”
تساءلت بفضول، فقال بلا مبالاة:
” عادي، كنت موصي ديلر على فرش حشيش.. رايح اجيبه ”
أومأت بتفهم و تركته يذهب، و استدارت للثلاث شباب تعيد عليهم بانتباه ما سيفعلونه.
…..
في مكانٍ آخر، تحديدًا في مقهى راقي.. جلست به المحققة « فاطمة» تنتظر قدوم قابيل على أحر من الجمر، لقد انتهت من عملها اليوم و لم تقفل القضية بعد.. البحث عن المشتبه بهم ما زال جارٍ، الشكوك من المحققين تفوح في كل مكان، فعندما عرفوا بالتعاون مع الطب الشرعي أن الكيروسين التي حرقت به المجني عليها يحتوي على أثار طعام متبقية، أدركوا على الفور أن الجريمة لها علاقة بالمطعم القريب من الصندوق الذي وجدوها بداخله، و تم القبض على صاحبه و العاملون به، الذين أنكروا جميعهم التهمة المنسوبة إليهم، و أكدت الأدلة على براءتهم بالفعل، و ما زالت الجريمة قيد البحث و الغموض.
لجأت « فاطمة» إلى حبيبها السابق كما تقر هي، لمعرفتها على سبيل اليقين بأنه بمقدوره المساعدة، فهو يعرف مجرمون كثيرون يمكنهم الموافقة على الاعتراف بالجريمة في مقابل أي أموال يطلبونها لعائلاتهم كنوع من أنواع التضحية في سبيلهم.
برغم أن « فاطمة» تعرف بميول « قابيل» الإجرامية، لكنها لم تقدر على نزع حبها له من قلبها، كما يقولون الحُب أعمى، و غبي أيضًا إذا كان بهذا الشكل.
دقيقة تلو الأخرى، وهي جالسة نفس جلستها تكاد تقضم أظافرها من التوتر، لقد مرّ على آخر مرةٍ رأته فيه قرابة الشهرين.. لَفَّت وجهها تجاه نافذة المقهى تُتابع بملامح متوترة أي سيارة تقف بالقرب منها، تَتَرَقَّبَ مجيئه في أية لحظة، و في نفس الوقت هرعت الهواجس الخفية لعقلها تُخبرها أن تنهض و تختفي توًا قبل وصوله.. ليست خائفة منه، و لكن خوفها الأكبر أن تضعف أمامه و تُظهر حُبها الكامن له، و هي قد أقسمت مُسبقًا أنها لم تعد تُحبه و لم يعد لها شيئًا، و لكن وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ.. لا مفرّ من الحقيقة إذا كشفت العينين عما يُخفيه القلب الأحمق، حتى العقل بقوته لم يستطِع ردعه !
في الحقيقة برغم الوعود التي أخذتها على نفسها و العهود التي قطعتها لقلبها بالتوقف عن التفكير فيه.. أخفقت و فشلت جميعًا، و لم ينقص ذلك من عشقها له كما لا ينقص البحر إذا غُمست فيه الإبرة، و بقي في صدرها سرّا دفينًا.
ها قد وصل، و مع وصوله و خطواته الثابتة تجاه المقهى، وصل معه الارتباك مُتخذًا وضعيته بجانب التوتر، و أخذت هي في عضَّ بَنان النَّدم على ما ارتكبته في حق نفسها.
تنهّدت تلوم نفسها بهمسٍ خفيّ:
” ياريتني سمعت كلامك يا آلاء ”
نظرت له نظرة جانبية سريعة، ثُم خفضت رأسها ترشف القليل من العصير علّه يُهدئ من توترها، بينما هوَ تفحصها سريعًا بنظراته الماكرة التي لا تخلو من الغدر و اللؤم، و جلس في مقابلها قائلًا بنبرة يشوبها السخرية:
” والله ليكِ شوقة يا.. يا حضرة المحقق كونان ”
ختم جُملته بضحكة استهزاء تبعها بقوله، وهو يشعل سيجارة غير آبهًا بملامحها التي تحولت للغضب:
” سمعت إنك ها تتخطبي.. مبروك مُقدمًا، يا ريت أبقى من المعازيم عشان أجيب الرجالة و نيجي نعملك نمرة حلوة ”
زفرت بضيقٍ، و بدأت تستاء من دخان السيجارة فقالت بنبرة بدت صارمة قليلًا:
” ممكن تطفي السيجارة بعد إذنك ؟ ”
” آه.. سوري، نسيت إنك بطلتيها ”
هتف بها في تَهكُّمٍ وهو يطفئ المتبقي منها، و في لحظةٍ تحولت ملامحه للجمود، مُتسائلًا:
” خير ؟ و أقطع دراعي لو كان خير ”
تنهدت باستسلامٍ للأمر الواقع، و بَلَّلَت شفتيها استعدادًا لقولها، بينما هو في تلك اللحظة أخذ يدرس لغة جسدها و تعابير وجهها.. قالت بهدوءٍ بدا مُزيف:
” قابيل.. أنا محتاجة لك ”
تأملها للحظات بغيرةٍ نجح في إخفائها، و تساءل:
” ميشغلنيش مين صاحب النصيب، بس ها تتجوزي امتى ؟ ”
تناست ما قد جاءت لأجله، و ردّت بتوضيح:
” مين قالك الكلام ده ! هو فعلًا كان فيه حد و أنا رفضت، و موضوع الجواز نفسه أنا رفضاه ”
” رفضاه مؤقتًا ولا ؟ ”
أَشاحَت بِوَجْهِهِا تُجيب في خجلٍ بدا في صوتها:
” مؤقتًا، بس.. بس مش ده الموضوع اللي أنا عايزاك فيه ”
ثُم نظرت له باستعطافٍ دون إرادتها، و قالت:
” قابيل، بصرف النظر عن أي حاجة حصلت بينا و اللي أصلًا زينات كانت السبب فيها، أنا ملقيتش غيرك يقدر يساعدني في المصيبة دي.. هي مصيبة بمعنى الكلمة ”
سكتت تُطلق تنهيدة طويلة أسفرت عن بالغ خوفها من القادم، ثُم تابعت وهي تبادله النظرات المطولة:
” في قضية قـتل حصلت جنبنا و أنا و آلاء شغالين عليها، أثناء تواجدي في مسرح الجريمة.. لقيت انسيال فضة، الانسيال ده يبقى.. يبقى.. ”
أكمل هو بنبرة خشنة تَنُمّ عن نظرته الباردة:
” يبقى بتاع آدم مش كده ؟ ”
أومأت في صمتٍ و عينيها قد أَرْسَلَتَا نظراتٍ متوسلة تترجاه للمساعدة، فَهَبّ واقفًا باعتراضٍ هاتفًا:
” طالما الحوار يخص الـ * أنا برا عنه ”
” عشان خاطري ”
قالتها وهي تنهض وراءه تتمسك بيده، فَشَدَّ يده منها و رمقها بغيظٍ مُردفًا:
” كان فيه و خلص يا فاطمة، خاطرك بح من زمان ”
تركته يرحل بقلة حيلة منها، أما هو ركب سيارته وهو يزفر بضيق من نفسه على معاملته الجافة معها، ولكن إذا تصرف عكس ذلك؛ ستفتح أبواب الجحيم و ستتخلص منها
« زينات» دون مراعاةٍ لمشاعره، و بالطبع لن يدع الأمر يصل لخسارتها الأبدية.
جلست مكانها تخفي وجهها بين يديها، و تتأفف بضجر تندب حظها و تلوم نفسه على اللجوء إليه.
….
في إحدى غرف فيلا مجدي الرماح الراقية صديق عائلة المنزلاوي، تجلس « ميار» المصابة بمرض الارتكاريا نتيجة الضغط النفسي الذي تتعرض له دائمًا من زوجها المتكبر « أحمد»..
تأملت وجهها الشاحب في المرآة وهي تمشط شعرها الذي تساقط نصفه بسبب حالتها النفسية السيئة، حتى العلاج لم يجدِ نفعًا معه.
تبسمت بحسرة محدثة ذاتها:
” كان فيها إيه يعني لو كان قدري وقف في صفي و عيشت حياة سعيدة مع الشخص الوحيد اللي حبيته ؟ ليه دايمًا القصص اللي بتبدأ بحُب بتنتهي بجرح و وجع ؟! ”
انتهت من تمشيط شعرها، و عاودت الاتصال به للمرة الثالثة، فأجاب تلك المرة بصراخ عليها:
” هو أنتِ ما بتفهميش ؟! أنتِ مش اتصلتِ مرتين و أنا متنيلتش مردتش، بترني تاني ليه يا غبية ؟! أنتِ عارفة إني في الشغل، عايزة مني إيه ! ”
ردت بشجاعة و بمحاولة منها لكتم دموعها:
” هكون بتصل ليه يعني ؟ بشوفك هتيجي امتى عشان أقولهم يحضروا الغدا ”
” هتأخر برا النهاردة.. ما تتصليش عليا تاني، مش فاضي.. غبية ”
أغلق في وجهها المكالمة، و وضع الهاتف بغضب بجانبه على الكومود، ثم استدار لتلك النائمة بجانبه شبه عارية، و قال باسمًا:
” فكك منها، دي بت هبلة.. أنتِ برقبتها يا حبيبتي ”
ردت الفتاة بجانبه و التى تدعى « مايسة» وهى صديقة « ميار»:
” طلقها بقل يا أحمد، أنت مستحملها على إيه ؟ ”
أقرب صديقاتها، و تزوجها « أحمد» زواج عرفي منذ ستة أشهر، طوال تلك المدة لم تشعر « ميار» بأي شك يتخلل قلبها تجاهه.
قال وهو يداعب ذقنها بِرقة:
” مينفعش اطلقها دلوقتي يا حبيبتي، بين أبويا و عمها مشاريع كتير.. و بعدين أنتِ زعلانة ليه ؟ منا بسيب شغلي و اجي اقضي اليوم كله معاكِ ”
” مش قادرة اتخيل إن أنت آخر الليل بتنام في حضنها.. أنا بغير أوي يا أحمد، مش قادرة استحمل كل اللي بيحصل ده ”
اقترب منها يتوق كتفيها بحنان، و أردف:
” معلش يا روح قلبي.. استحملي بس لحد ما الشغل اللي بين ابويا و بينهم يخلص، و ساعتها اطلقها بالتلاتة و افضى لك بقى يا بت، هعملك كل اللي أنتِ عايزاة يا مايسة، بس اصبري عليا لو بتحبيني بجد ”
تنهدت بابتسامة صفراء قائلة:
” مهو عشان بحبك يا أحمد هصبر عليك، إن مكنتش اصبر عليك هصبر على مين يعني، هو أنا ليا غيرك ”
….
أمام قصر المنزلاوي بقليل.. اصطدمت سيارة
« جبريل» وهو عائد مباراة للسلة كان يشاهدها فقط لم يلعب بها، بسيارة أخرى فارهة، فقط اصطدام خفيف لم ينتج عنه أي سلبيات..
بدا على سائق السيارة الأخرى الاستياء، فترجل من سيارته يتفحصها، و كذلك فعل « جبريل»، حينما وقعت عينيه على صاحب السيارة، وقف لثوانٍ في دهشة يتأمله، حتى انتبه له الآخر و تحدث بابتسامة جذابة مثله:
” ولا يهمك، حصل خير الحمدلله ”
تحدث « جبريل» بالاشارة يعرب عن مدى حبه له و عن إعجابه الكثير به، فاتسعت ابتسامة الآخر و فهم أنه أبكم، مما قرب المسافة بينهما و مد يده يصافحه بتواضع قائلًا:
” أيوه أنا كابتن سيف هُس هُس ”
جاءا أطفاله الاثنين من خلفه يبتسمان في عفوية، فأشار لهما لاعب كرة القدم المحترف و قال:
” دول عيالي، فيروزه و مصعب ”
أومأ « جبريل» باسمًا بصفاءٍ، و عاد لسيارته سريعًا يأخذ بعض الحلوى التي يضعها معه دائمًا كالنعناع و ما شابه، ثم أعطاها للصغيرين و ربت على رأسهما بحنوٍ، ليلتفت لوالدهما و يقول بلغته:
” أنا معجب كبير أوي بحضرتك، حضرتك ساكن في الشيخ زايد برضو ؟ ”
فهم اللاعب القليل من الإشارة، و أجاب بيديه و لسانه يحاول شرح الأمر له، فلم يكن يعلم أن
« جبريل» أبكم فقط وليس أصم:
” أنا الفيلا بتاعتي قريبة من هنا، بس مش مقيم دائم هنا، يعني كل فين و فين على ما باجي مصر زيارة ”
أشار له جبريل ناحية القصر الفخم، ففهم الكابتن « سيف» أنه يسكن هنا، قال باسمًا:
” ده إحنا طلعنا جيران من زمان أهو ! على العموم يا سيدي تشرفت بمعرفتك.. اسم المحترم إيه بقى ؟ ”
شرح له جبريل اسمه عدة مرات، و لكن سيف لم يفهم، فاضطر لاحضار قلم و كتابته، مما ضحك سيف و أردف:
” عاشت الأسامي يا جبريل.. ما تؤاخذنيش بقى أنا اللي غلطان إني مفهمتش من الأول ”
فهم « جبريل» أنه يعامله بلطف، فاتسعت ابتسامته الجميلة و دعاه لضيافته بالقصر، لكن الأخير رفض و صافحه للمغادرة.
بداخل القصر، لم تجد « عايدة» والدة فاطمة ما تفعله هي و شقيقتها الصغرى « أمينة»، فبعدما تنتهي من توبيخ الموظفين و الطباخين في القصر كالعادة، تجلس هي و أمينة ليأخذهما الحديث على أعراض الناس بالأخص على
« ماجدة» فقد اتهمتها « أمينة» أنها تذهب لمقابلة الرجال في الحسين و بيع شرفها لهم، و خافت « ماجدة» إخبار ابنها جبريل؛ حتى لا يتهور و يفعل شيء يؤدي به خلف السجن.
أخذت « ماجدة» في إعداد الطعام لولديها، فقد تعودا على الأكل من يديها.. جاءت « أمينة » من خلفها، تعبث في شعرها بدلال و استفزاز قائلة:
” لايق عليكِ دور الخدامة يا ماجدة، مش عارفة أخويا الله يرحمه كان بيفكر في إيه يوم ما اتعمى و اتجوزك ”
لم تُجِب ماجدة بحرف، فصاحت أمينة تستدعي أختها الكبيرة بافتراء و ادعاء:
” أنتِ كمان بتردي عليا يا لمامة الشوارع ! عايدة.. يا عـايدة، تعالي شوفي أختك بتتهان في قصر أبوكِ، عيشنا و شوفنا البيئة بيقلوا أدبهم علينا.. اوه ماي جاد.. اللي بيحصل ده سو باد بجد ”
نظرت لها « ماجدة» بضعف قائلة:
” ينقطع لساني لو كنت قولت عليكِ حاجة وحشة في حقك يا أمينة ”
” هو أنتِ تقدري ! ده أنتِ يوم ما تفكري بس هجيب راسك تحت رجليا ”
قالتها بخفوتٍ، ثُم تعالى صوتها:
” أنا أمينة دلوعة العيلة أتهان من واحدة زي دي ! مش كفاية ابنك اللي جاب لبابي الشلل، كمان قاعدين على نفسنا عاوزين تورثونا بالحيا ! لأ ياريت عيالك نافعين أوي ولا يشرفوا، ده واحد أخرس و التاني معوق و التالتة مبتخلفش.. جوازتك كانت شؤم علينا ”
جاءت « عايدة» هي الأخرى تنضم في توبيخ ماجدة التي اكتفت بالبكاء في صمت:
” مين مزعلك بس يا أمينة ؟ إيه يا ماجدة ! مش كفاية شايلينك أنتِ و عيالك على كفوف الراحة، كمان بتقلي أدبك على ستك أمينة، أما أنتِ ست قليلة الأصل بصحيح ”
لم تستطع « ماجدة» الصمود أمامهما، فتركت لهما المطبخ بأكمله، و عادت تجلس و تبكي في غرفتها كعادتها في صمت خوفًا من رؤية جبريل لها على تلك الحالة البائسة.
أقبل عليها ابنها صاحب متلازمة داون الجميل
« مهند» و بحنانه و براءته النقية، ظل يحتضن أمه و يبث قبلاته عليها دون أن يسألها ما بها، استطاع تهدئتها بحنانه البالغ..
طفلٌ نقي جميل ليس بكامل عقله، علم أصحاب العقول معنى الحنان و الحُب.
لم يكن الرجال بالقصر، لقد ذهبوا جميعًا لأعمالهم الغير مشروعة، بينما « إيمان» راقصة الباليه الرقيقة، أخذت تتدرب على رقصة أخرى من رقصات عرضها المسرحي في تلك الصالة الواسعة بالقصر الذي أعدها لها والدها، صالة مليئة بالمرايا تستطيع إيمان من خلالها متابعة حركاتها بسهولة.
من كثرة تدريبها الشاق طوال اليوم، شعرت بالدوار أكثر من مرة و لم تكف عن التمرين، بدأ جسدها يترنح يمين و يسار، فتعود للتماسك و مواصلة التمرين، بينما « إسراء» التي تحرص على حضور كل تدريباتها من باب التشجيع، عندما وجدتها هكذا، ذهبت لتعد لها كوب من العصير و بعض شطائر الجبن اللذيذة.
في تلك اللحظات التي تتدرب فيها « إيمان» و ترقص بخفة الفراشة، انتبه لها « جبريل» وهو باتجاهه داخل القصر، فوقف تلقائيًا أمام زجاج الغرفة، يتابعها بابتسامة عاشقة خافتة نمت جانب شفتيه الصغيرتين، فلاحظت هي وقوفه بالخارج يتابعها بتأمل شديد.. بادلته الابتسامة و أشارت لها بأن يأتِ، فهي معهود عنها أنها تعاملهم جميعًا مثل أشقائها ولا تهتم بالحب و مسمياته..
دلف « جبريل» للغرفة يخفض بصره بخجل، ثم يعيد النظر إليها و يطيل التأمل بحُب اتضح في عينيه البنية.. توقفت هي و تساءلت بتعب بدا عليها:
” إيه رأيك ؟ تفتكر هقدم العرض أحسن من كدا ؟ ”
تحدث بالاشارة و كأن قلبه و عينيه هما المتحدثان:
” هتقدميه أحسن من أي مرة قدمتيه فيها قبل كده ”
استطاعت فهمه بسهولة، فقد نشأ في القصر سويًا، قالت وهي تعود للرقص:
” ليه مش بتحضر عروضي يا جبريل ؟ ”
” عايزاني أحضرها ؟ ”
أومأت و بدأت تتمايل أثر الدوار، فأشار لعينيه قاصدًا:
” من عينيه الاتنين ”
تلاشت ابتسامته سريعًا عندما وجدها تتمايل أكثر، و قبل أن تسقط.. لحق بها و حملها بخفة بين ذراعيه مُتجهًا بها للداخل سريعًا، قابلته
« إسراء» و استشاطت غضبًا و غيرةً و غيظًا من رؤيتهما هكذا، و من اقتراب جبريل الشديد منها بهذا الشكل، فصرخت عليها وهي تأخذ إيمان منه:
” أنت بأي حق تمد ايدك عليها ؟ بأي حق تلمسها و تشيلها ؟ أنت مجنون ؟ لو لمستها أو قربت منها تاني هقول لاونكل شكري ”
ألقى على « إيمان» نظرة سريعة بقلق، ثم نظر لإسراء بضيق، فهو لا يستطيع التفاهم معها ولا يعرف لِمَ كل هذا الاهتمام الزائد عن حده بإيمان.
.. في صالة رياضية أخرى لممارسة التمارين الشاقة، تكيل « آلاء» اللكمات بقسوة لكمة تليها أختها في هذا الكيس الممتلئ أمامها، و ذهنها شارد تمامًا في الجريمة التي أكلت رؤوسهم من التفكير جميعًا.
لا تستطيع التفكير جيدًا، إلا بممارسة التمارين الشاقة.. توقفت تلهث بصعوبة و تأخذ أنفاسها وهي تجفف كتفيها بالمنشفة، ثم قامت بفرقعة رقبتها يمينًا و يسارًا وهي تفكر في الأحداث بهدوء.
منذ ساعتين، تقابلت مع ابن خالها « آدم»، رأت السوار في معصمه.. ذلك السوار الذي أقسمت فاطمة أنه عائد لآدم، نفس السوار الذي وجدته في مكان الحادثة !
شككت آلاء في الأمر، و ظنت في البداية أنه لحق نفسه بشراء غيره سريعًا حتى يخفي جريمته، لكن عندما هرعت لكاميرات المراقبة في القصر ليلة وقوع الجريمة و عند عودتهما، وجدت السوار في يده، و قد نزعه أثناء تناول الغداء معهم بعفوية لم يقصدها !
إذًا «آدم» لم يسقط السوار من يده من الأساس، و السوار الذي بحوزة «فاطمة»، هو طبق الأصل من سوار آدم..
تعقدت الجريمة أكثر، لِمَ لا يكون كل ذلك مقصودًا فقط للايقاع بآدم، ابن شكري المنزلاوي و أكبر رجال العائلة الذي يحق له التصرف في ثروتها !
رجعت بها الذاكرة للوراء، فتذكرت يوم شجار العائلة على الميراث، و كيف أن الجميع يريد كل منهم التخلص من الآخر.
إذًا هل يعقل أن « آدم و عثمان» ليس لهما علاقة بالجريمة، و لكن أحدا ما يريد الايقاع بواحد منهما بالأخص آدم ؟!
و لكن كيف ليس لهما علاقة، وهما كانا في كامل ارتباكهما و خوفهما عندما فتح « شكري» الحديث عن الجريمة أمامها ؟
هل حقًا اشتركا في الجريمة، لكن لم يقتلان المرأة ! ربما يكونان هما المغتصبيّن و ليسا القاتلين !
ربما.. لِمَ لا، كل شيء بات جائزًا في تلك الجريمة المعقدة.
تنهدت بعمقٍ و جلست تفكر محدثة نفسها:
” طنط ماجدة بعيالها نفسهم يمشوا من القصر أصلًا و مستحيل يعملوا كده، جبريل يعتبر الكويس في البيت ده، و ماما و خالتو أمينة لسان على الفاضي، أقل حاجة يخافوا منها و أكيد ماما مش هتودي عثمان أخويا في داهية يعني.. خالو جابر ملوش غير في السرقة، إيمان و هبلة، إسراء آخرها في الجمارك.. أدهم ابن خالي القنوات المنافقة واخداه ليل نهار و مستحيل يودي نفسه في داهية أو يؤذي أخوه..
عمو جعفر و عمو مجدي ليهم مصالح معانا استحالة يفكروا يؤذوا حد مننا دلوقت.. كده فاضل مين ! زينات ! دي و عيالها برضو ملهمش مصلحة يلبسوا آدم قضية.. و اشمعنا آدم بالذات، ما عثمان كان معاه، اشمعنا الانسيال بتاعه اللي لقوا اخوه في الجريمة !
اوف.. أنا تعبت من التفكير ”
نهضت لتستعد لموجة ملاكمة مرة أخرى، غير منتبهة تمامًا لهذا الذي يتجسس عليها في الخفاء.

يتبع…..

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية حصب جهنم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *