رواية غير قابل للحب الفصل الرابع والثلاثون 34 بقلم منال سالم
رواية غير قابل للحب الفصل الرابع والثلاثون 34 بقلم منال سالم
رواية غير قابل للحب البارت الرابع والثلاثون
رواية غير قابل للحب الجزء الرابع والثلاثون
رواية غير قابل للحب الحلقة الرابعة والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
حاولت أن أبعد عن نفسي سحب اليأس التي ظللت فوق روحي؛ لكني لم أفلح، ثما ما ينغص علي سَكِيني، فقد غمرتي كل مشاعر الانهزام والإحباط والرغبة في فعل اللا شيء، وما ساعد على تعزيز هذه المشاعر السلبية في نفسي هو الفراغ الكبير الذي حاوطني منذ غياب “فيجو” عني لأيام متعاقبة، في البداية مِلت لتصديق وجود خطب ما؛ لكن والده “مكسيم” أكد لي أن تنظيمهم في أوج نجاحاته، حينها تيقنت أنه يتجنب اللقاء بي ليضاعف هذا من شعوري بالنبذ والإقصاء. أذكر في نهار يومي الكئيب أن استيقظت من نومي، ولساني يردد:
-“فيجو”، أما زلت تكرهني؟
كنت مندهشة لكوني أتكلم خلال يقظتي القريبة، تمددت على ظهري محاولة استعادة سبب تلفظي بهذه العبارة. استعاد ذهني تفاصيل حلمي الأخير، حيث كنت أستجدي مشاعره لأعرف ماهية إحساسه ناحيتي، استنكرت حماقتي وتذللي السخيف إليه، ولكزت جبيني بظهر كفي معنفة نفسي:
-يا لكِ من غبية! حتى في أحلامك تتسولين الحب!
التقلبات المزاجية الحادة لم تكن من سماتي مؤخرًا، فتارة تجدني في قمة هدوئي وعدم مبالاتي، وتارة أخرى أتحول للنقيض وأطيح بمن حولي من فوران عصبيتي، تمنيت لو كانت والدتي إلى جواري ربما خففت عني هذه الأعباء التي تثقل روحي، وأعادت إلي سكوني واستكانتي.
لم أبدل ثياب نومي، فقط غسلت وجهي، وبسطت على كتفي شالًا، ثم خرجت إلى الشرفة لأنظر إلى الخضرة الممتدة أمامي بشرودٍ، نداء الخادمة من ورائي أخرجني من سرحاني المؤقت:
-سيدة “ريانا”.
بفتورٍ ظاهر علي أخبرتها دون أن أنظر تجاهها:
-لا أريد الإفطار، فقط أعدي لي كوبًا من القهوة.
حمحمت قائلة بتهذيبٍ:
-إنها شقيقتك…
خفق قلبي وانشرحت قسماتي، فهتفت في ابتهاج كبير:
-“آن”؟
أوضحت لي وهي تشير بيدها:
-على الهاتف.
خبت فرحتي قليلًا؛ لكني رددت أمرها في حماسٍ:
-اعطيني إياه.
ناولته لي وهي تقول:
-تفضلي، أتأمريني بشيء آخر؟
أشرت لها بالانصراف وأنا أوليها ظهري قائلة:
-لا، اذهبي.
……………………………………………
انتقلت مع الهاتف إلى سور الشرفة، استندت بمرفقي على حافته، وحدقت في وجه شقيقتي المضيء بنظراتٍ مشتاقة، خمنت من الخلفية الظاهرة ورائها أنها تقضي وقتها على الشاطئ، وجدتها ترفع النظارة على رأسها، وهي تستطرد قائلة:
-مرحبًا قطعة السكر.
تجاوزت ترحيبها، وسألتها في لهفةٍ مضاعفة:
-“آن”، لا أصدق، كيف حالك؟ اشتقتُ إليكِ كثيرًا.
تنهدت وهي تخبرني بابتسامة متألقة تزين شفتيها:
-وأنا كذلك.
حاولت ألا أجعل ما أمر به من تخبط ويأس يعكر صفو هذه المكالمة؛ لكني أخفقت، حيث تخلل الحزن ملامحي فجأة، فاختفت بسمتي الزائفة، وأصبحت إلى حدٍ ما شبه عابسة. سألتني “آن” باستغرابٍ:
-لماذا تبدو عليكِ التعاسة؟
تهربت من إجابتها بادعاء الابتسام وأنا أداعب شعري الطليق:
-لا تقلقي، أنا بخير، أخبريني عنكِ.
رأيتها تسحب نفسًا عميقًا لفظته على مهلٍ قبل أن تمهد لي بغموضٍ أربكني:
-حسنًا، أريدك أن تصغي إلي جيدًا…
قطبت جبيني في ترقبٍ، فتابعت بنفس الأسلوب المتأني:
-لدي خبر هام.
استشعرت من طريقتها بأن ما ستنطق به غير متوقع، لم أطق الانتظار، وسألتها على عجلٍ وقد جال ذلك توًا في خاطري:
-هل انفصلتِ عن اللعين “لوكاس”؟
على ما يبدو لم تكن شقيقتي بمفردها خلال هذه المكالمة المرئية، فوجدت من أمقت يحتل نصف الشاشة بوجهه قبل أن يدمدم محذرًا بوجومٍ:
-أنا إلى جوارها، فهذبي لسانك…
رددت غير مصدقة اقتحامه للمكالمة:
-أنت هنا؟
رد متصنعًا الابتسام:
-نعم، كما أني أحب زوجتي ولن أتركها مُطلقًا.
ثم التفت ناظرًا إلى شقيقتي، وقبلها من شفتيها أمامي بقبلة جعلتني أبرق في نظراتي قبل أن أغمض عيني وأهمهم في ضيقٍ:
-اللعنة، توقف عن ذلك.
تجاهلني عن عمدٍ، وظل يدمي شقيقتي بقبلاته النهمة المغيظة لي، نفخت في ضجرٍ، وحاولت قطع ما يفعلان بسؤالي:
-هل ستعودين إلى “شيكاغو”؟
ردت من بين طوفان القبلات المحاصر لها:
-لا، ليس بعد.
حاولت التغاضي عما يحدث من عبثية وقحة أثناء الاتصال، وتساءلت بجديةٍ:
-إذًا ما الأمر؟ هل “صوفيا” بخير؟
قالت وهي تدير رأسها للجانب الآخر:
-إنها تستجم على الشاطئ.
تدخل “لوكاس” في الحوار معلقًا بوقاحة:
-الأصح أن تقولي أنها تلهو مع من هم في عمر أحفادها.
كدت أن أتشاجر معه؛ لكن “آن” سبقتني ولكزته في كتفه موبخة إياه:
-توقف “لوكاس”، كفى سخافة، إنها أمي.
ضحك في مجونٍ قبل أن يخبرها:
-وهل هذا يمنع؟ ما الخطأ قطتي؟ إنها تستمتع.
لم أكن في مزاج رائق لأتقبل تلميحاته الفاسقة، فصحت في تزمتٍ:
-“آن”، ألا يمكنكِ التحرك بالهاتف بعيدًا عنه؟
رد علي “لوكاس” بسماجةٍ وهو يحملها من خصرها ليجلسها في حجره:
-لا، فهي جالسة في أحضاني.
تذمرت “آن” من إزعاجه المتواصل، وهتفت في نبرة حازمة:
-“لوكاس”، أريد الحديث، رجاءً امنحنا بعض الخصوصية.
رأيته وهو يحيط عنقها بيده يريد تطويقه، أمالها برفق ناحيته ليهمس لها في مكرٍ عابث:
-حسنًا، سأتركك بعد قبلة هنا.
من جديد غرقا معًا في نوبة من المشاعر الحميمية المتأججة دون أن يهتما بوجودي، فصحت في تحرجٍ:
-توقفا، لا أريد المشاهدة.
بعد بضعة ثوانٍ انتبها لي، فوجدت “آن” تنهض وهي تضحك بسعادة اندهشت لها، سارت بعيدًا عن “لوكاس”؛ لكن صوته وصلني وهو يهتف عاليًا:
-أخبريها عن حملك لطفلي.
انتفضت في وقفتي، وطرحت عن كتفي الشال بعدما انفرجت شفتاي عن صدمة جلية، بينما راحت “آن” تصرخ معاتبة إياه بتهديدٍ:
-لقد أفسدت المفاجأة “لوكاس”، سأقتلك بعد أن أنهي المكالمة.
علق عليها من بين ضحكاته المستمتعة:
-أنتظر محاولتك الفاشلة كالعادة.
أفقت من الصدمة المؤقتة، وتداركت ما تم إعلامي به في لحظة عابرة. اشتعلت نظراتي، وهدرت في غضبٍ متصاعد:
-ما الذي يقوله هذا؟
بدا في استهجاني الصريح لومًا ظاهرًا لشقيقتي، فاختفت إشراقة وجهها، ومالت للتجهم، لم تأخذني بها شفقة، وسألتها بنبرة تُدينها لأتأكد مما سمعت:
-هل أنتِ حامل؟
…………………………………………
لو أبدت إعرابها الصامت عن الندم لكنت قد تقبلت ما حدث، وبررت أنه جاء بطريق الخطأ؛ لكن ما رأيته أظهر العكس كليًا. كانت “آن” مسترخية التعبيرات رغم العبوس البائن في تقاسيمها جراء ردة فعلي، أطرقت للحظات كما لو كانت تبحث عن الكلمات المناسبة، ثم ابتسمت لي، وأجابتني بهدوءٍ بعد زفرة بطيئة أطلقتها:
-نعم، وأنا مسرورة للغاية.
فاقت المفاجأة أي توقعات قد تطرأ على بالي، فانفجرت غضبًا فيها بلا مبررٍ:
-هذا جنون، أنتِ تحملين منه، كيف تم ذلك؟
جاء صوت “لوكاس” معقبًا بنفس طريقته الماجنة:
-هل تشككين في قدراتي كزوج؟ لنجعلها ترى إذًا.
صاحت به “آن” محذرة:
-“لوكــــاس”! هذا ليس وقت المزاح!
اضطررت للبقاء ساكنة للحظة ريثما تأنى عنه، وراقبتها وهي لتنظر إليه قائلة بلهجةٍ آمرة:
-وتوقف عن التصنت علينا.
سمعته يخبرها بشيءٍ من التهديد:
-حسنًا، سأذهب؛ لكن إن تمادت شقيقتك لن أصمت.
لوحت له بيدها وهي ترد:
-هيا، ابتعد.
ظلت الدماء تغلي في عروقي، وتساءلت وأنا أرمقها بهذه النظرة المليئة بالإدانة:
-لماذا “آن”؟
سكوتها جعل المزيد من علامات الاستفهام تقفز إلى وجهي قبل أن تنتقل إلى لساني لأنهال عليها دفعة واحدة:
-كيف تحملين منه؟ أنتِ أُجبرت على الزواج منه، كيف تتورطين في هذا؟
لم تأبه “آن” للهياج المستبد بي، وأجابتني بما حمل صدماتٍ أكثر:
-لأني أحبه مثلما أحبني، وهو رائع بعيدًا عن كونه أحد زعماء المافيا.
صرخت بها:
-تحبيه؟ كيف؟ ومتى حدث ذلك؟
تجولت بالهاتف بعيدًا وهي تقول بخفوتٍ:
-لا أعلم، لكني واثقة من مشاعري ومشاعره…
ثم ضحكت في مرحٍ وقالت وأنا أكاد أشعر بيدها تنخفض لتلامس بطنها:
-وها قد توج حبنا بصغير ينمو في أحشائي.
لومتها بشدةٍ:
-ما فعلتيه جنون!
توقفت عن المشي، وعقدت حاجبيها ناظرة إلي بنظرة منزعجة، ثم سألتني في صوتٍ جاد:
-لما كل تلك العصبية “ريانا”؟
طل الحنق من نظراتي ناحيتها، فتابعت بمنطقية:
-كان من المتوقع أن يحدث ذلك في أي وقت.
هتفت في نفس النبرة المنفعلة وأنا أضع يدي بين خصلات شعري لأضغط على رأسي المشحون:
-لكن ليس الآن، أنتِ أضعتِ مستقبلك، وآ…
قاطعتني بابتسامة لطيفة وهي تدور بنظراتها في الأرجاء:
-بل على العكس أنا أتابع دراستي من هنا، والوضع شبه مستقر.
صحت في ذهولٍ مستنكر:
-إنكِ تمزحين، لا أصدق أنكِ تفعلين هذا.
كأنما أشفقت شقيقتي على حالي المهتاج، فقالت ملطفة الأمر:
-“ريانا” الأمر لا يستدعي كل ذلك الغضب، أنا و”لوكاس” متفقان معًا، وكل شيء يسير على ما يرام.
سألتها بتشككٍ، وقد أصبحت غير قادرة على التفكير:
-هل خولك “فيجو” لقول ذلك؟
لوت ثغرها معلقة:
-وما شأنه؟ إنه لا يعلم بعد، أنتِ أول من أخبره بالأمر.
كدت أتلفظ بشيء؛ لكن أتى صوت “لوكاس” عاليًا:
-“آن”، والدتك العزيزة تغرق.
صاحت كلتانا في نفس التوقيت:
-ماذا؟
رأيت “آن” وهي تهرول عائدة إلى حيث يقف، فتساءلت في قلب واجل:
-ما الذي يحدث لـ “صوفيا”؟
تنهدت “آن” في ارتياح، ورددت:
-إنها بخير.
أضاف “لوكاس” وهو يحتل منتصف الشاشة مجددًا بعد أن طوقها من خصرها:
-أنا أمزح، لقد ضجرت من الانتظار، وشقيقتك ثرثارة للغاية.
على الفور تدخلت “آن” قبل أن أبادر بالرد اللاذع عليه:
-مضطرة لإنهاء الاتصال حتى أقتله.
ثم نظرت إلي بمحبةٍ، وأرسلت لي قبلة في الهواء وهي تخبرني:
-إلى اللقاء قريبًا شقيقتي، أحبك.
قلت قبل أن ينقطع الاتصال المرئي:
-وأنا كذلك.
رحت أدور في محيطي بحركات دائرية متكررة، كأنما أفرغ بذلك عما احتقن بصدري من طاقة غاضبة، لهثت وأنا أتساءل في غير تصديقٍ:
-كيف؟ لماذا فعلت “آن” هذا؟ لما لم تتخذ احتياطاتها؟
توقفت عن الدوران حولي، وهتفت في تصميمٍ:
-لن أسمح لها بإتمامه، عليها أن تتخلص منه، إنها صغيرة ولا تعي ما يحدث، لا يجب أن تتورط أكثر مع هذه العائلة.
عادت الخادمة إلي لتستعيد الهاتف وفي يدها صينية القهوة، سألتني وهي تضعها على الطاولة الصغيرة:
-هل تريدين شيئًا سيدتي؟
صرخت بها بلا ذنبٍ:
-اغربي عن وجهي.
ارتاعت الخادمة من هيئتي، وأومأت برأسها في طاعة؛ لكن قبل أن تغادر ناديتها مجددًا:
-انتظري.
ابتسمت لي، فقابلت بسمتها المتكلفة بعبوس وأنا أمرها:
-أخبري السائق أني أريد الذهاب إلى زوجي أينما كان.
هزت رأسها مرددة بغير جدالٍ:
-حسنًا.
………………………………………….
التجاهل، الإهمال، الهجر، وما على هذه الشاكلة بدا وكأنه خطة معدة سلفًا أو مؤامرة مُحاكة جيدًا لجعلي أتقبل الحقائق الصادمة، بعدما أصل في عزلتي لأدنى درجات اليأس والإحباط. رفضت التعامل مع هذه المسألة تحديدًا بالتريث أو العقلانية. تأنقت في ملابس كلاسيكية بحتة، تضمنت ثوبًا أسود اللون، واخترته تحديدًا ليتماشى مع إحساسي بقتامة وسوداوية ما حولي، كما وضعت قبعة على رأسي تشبه تلك التي ارتديتها في مراسم دفن خالي. مشيت نحو السيارة واضعة نظارتي على وجهي الصارم، تعمدت ادعاء التعثر، وأني قد لويت كاحلي ليسرع أحد أفراد التأمين ناحيتي، استندت على ذراعه، وهتفت في وجع زائف:
-أوه، إنه مؤلم.
سألني في اهتمامٍ:
-هل تأذيتِ سيدتي؟ هل أستدعي الطبيب؟
استغليت فرصة انشغاله بشأني لأستل منه سلاحه الناري، خبأته في كم ثوبي المتسع بيدي، وقلت بنحنحة خفيفة:
-لا حاجة لذلك، سأكون بخير.
شكرته باقتضابٍ قبل أن أجلس بالمقعد الخلفي، حافظت على رباطة جأشي، وأخفيت السلاح بداخل حقيبتي، لم أنبس بكلمة طوال الطريق، بينما ظلت يدي موضوعة على الحقيبة، كأنما أخشى الإمساك بي. لازمت هدوئي إلى أن توقف السائق بالقرب من أحد النوادي الليلية التابعة لجماعتنا. مسحت المكان بنظرة سريعة، بت الآن أميز الفارق بين كل جماعة وأخرى من تصاميم المباني الخارجية، بالإضافة لهيئة رجال التأمين والحراسة المرابطين في محيطهم.
استقبلني مسئول النادي باحترامٍ، فتجاوزت عن تملقه اللزج متسائلة بحدة طفيفة:
-أين “فيجو”؟
أجابني وهو يرمقني بهذه النظرة المندهشة لوجودي:
-الزعيم ليس هنا، هو باجتماع هام.
أوليته ظهري وأنا أمره:
-إذًا أرسلني إليه.
اعترض على مطلبي بحذرٍ:
-لكن سيدتي.
رفعت إصبعي هاتفة في حزمٍ:
-هذا أمر.
لم يتجادل معي كثيرًا، نادى على أحد أتباعه، أملى عليه أوامري، فتقدم في خطواته ليذهب بي إلى حيث يتواجد “فيجو”، فقد بت متحفزة للغاية لمداهمته بغضبي المكبوت.
………………………………………………….
بعد بضعة دقائق، كنت قد انتقلت أعلى صالة الرقص، حيث تطل غرف المكتب العلوية على ما يحدث بالأسفل، من خلال الواجهات الزجاجية ذات المرايا العاكسة. أوقفني واحد من ضخام الجثة قبل أن أصل إلى الباب رافعًا يده أمام وجهي، واستطرد هاتفًا بصوته الأجش:
-الزعيم مشغول الآن.
هدرت به أمره بصوتٍ محتقن:
-افسح عن طريقي.
ظل مرابطًا كالأسد وهو يكلمني بجديةٍ:
-غير مسموح سيدتي.
لم أحبذ اللجوء لاستخدام أداة تهديدي الآن؛ لكني أرغمت على هذا أمام محاولة منعه، فتحت حقيبتي، وألقيتها أرضًا بعدما أخرجت المسدس، أشهرته في وجهه أهدده بصوتٍ غير ممازح، ونظرات تقدح بالغضب:
-إن لم تتحرك سأقتلك.
لم يعرف كيفية التصرف معي، خاصة حينما نزعت زر الأمان ليبدو تهديدي جادًا، تنحى للجانب وقال بضيقٍ:
-تفضلي.
كالثور الهائج، اندفعت بكامل غضبي نحو الباب لأفتحه، صحت في تحفزٍ شديد، وأنا أصوب السلاح تجاهه:
-“فيجو”!
التفت كل من كان متواجدًا بداخل الغرفة نحوي، بدت المفاجأة جلية على وجوههم، خاصة مع وجود المسدس في يدي، تجاهلت نظراتهم الذاهلة، وصحت أسأله بصوتٍ مرتفع عبر عن غضبي وأنا ألوح بيدي:
-كيف تسمح بحدوث ذلك؟
لم ينهض “فيجو” من ترأسه لطاولة الاجتماعات، كان هادئًا، بل في غاية الهدوء، متسلحًا ببروده المغيظ، ذاك الذي يستثير الأعصاب ويستفزها دون أن يفعل شيئًا. نظر ناحيتي بتفرسٍ، طابعه المتوحش كان أوضح ما يكون عليه في نظراته المصوبة إلي. شبك كفيه معًا، وقال:
-“ريانا”!
جاء الحارس من خلفي مبررًا:
-عذرًا على المقاطعة أيها الزعيم؛ لكن خشيت أن تتهور.
اكتفى “فيجو” بالإشارة إليه بنظرة صارمة من عينه ليرحل، قبل أن يوجه كلامه لمن يجلسون حوله:
-سنكمل اجتماعنا لاحقًا.
نهضوا تباعًا وهم يوزعون هذه النظرات المستنكرة ناحيتي، فأخذت ألوح لهم بالسلاح كنوعٍ من التهديد الأرعن وأنا أبادلهم نظرات كارهة متأففة حتى لم يعد بالغرفة سوانا.
……………………………………………..
ممارسة الشجاعة المتهورة في حضوره الهادئ تطلب مني استنزاف كل طاقاتي الغاضبة دفعة واحدة، كررت عليه سؤالي بصوتٍ محتد، ويدي لا تزال تلوح في الهواء بعشوائية تحمل التهديد، حدجني بنظرة غير مبالية قبل أن ينهض واقفًا وهو يأمرني:
-اعطيني ذلك.
اشتدت أصابعي على مقبض السلاح، وهتفت في تحدٍ:
-لا.
دفع مقعده للخلف، وحذرني وهو يدنو مني بخطواتٍ ثابتة:
-لا تتسببي في أي حماقة به.
لوحت به أمام وجهه بتهورٍ، وصحت في زمجرة حانقة وأنا أتراجع للخلف:
-لن أقتل سواك، فمن الأفضل ألا تقترب.
مط فمه معقبًا:
-حسنًا.
واصلت الارتداد للخلف، فكفَّ عن التقدم ناحيتي، طالعني بنظرة فاحصة، ثم وضع يديه في جيبي بنطاله، بدا شامخًا في وقفته، لا يهاب أحدًا، ظل على هدوئه اللعين، وسألني ببرود:
-هل هدأتِ حتى نتكلم؟
لم أقل شيئًا، فتساءل وكامل نظراته مثبتة علي:
-ما الذي حدث؟
بقدر ما كان يثير الحنق في نفسي إلا أني كنت أهاب طريقته الهادئة بشكلٍ ما، كانت تنطوي على تخطيط سريع، خلالها يسعى لتقييم الموقف، والتصرف في التو. أبقيت على مسافة فاصلة بيننا تحسبًا لأي خطوة غادرة منه، فمثله لا يستهان بتفكيره الجهنمي. زويت ما بين حاجبي، وصحت أخبره مباشرة:
-“آن” حامل!
تقوس فمه قليلًا، وعلق بلا تغيير في تعابير وجهه:
-جيد.
تصاعدت بي وتيرة الغضب، فهدرت أسأله بصوت مستشاط:
-حقًا؟ أليس الحمل والإنجاب محظورًا في العائلة؟
حرك كتفيه في غير اكتراث، وعلق:
-طالما يرغب “لوكاس” في طفل، فما المانع؟
بلغت عنان غضبي من كلماته، فاندفعت ناحيته لألكزه في صدره بفوهة السلاح، ظل ثابتًا في موضعه، لا يهتز، ولا يتزحزح، ومع ذلك تعامل معي مستخفًا بقدرتي على مناطحته، فالفارق في القوى سيكون لصالحه. رفعت عيني إليه، وصحت به بأنفاسٍ منفعلة:
-أنت تثير جنوني بتصريحك ذلك، ألم تخبرني أنه إذا حملت فستقتل الجنين؟
أخرج “فيجو” يده من جيبه، وتلمس بأصابعه جانب ذراعي مردفًا بلؤمٍ:
-نحن نتحدث عن شقيقتك، وليس عنكِ، فلا خوف عليها إذًا…
أحسست بخفقة تعصف بي وهو يسألني ذلك السؤال المباشر:
-أم أنكِ كذلك؟
وجدت يده قد انتقلت لتلمس بطني، فنفضتها بعيدًا، وقلت باستهجانٍ:
-لا أريد الإنجاب منك، فهذا آخر ما أرجوه.
في لمح البصر كانت يده تقبض على رسغي، اختطف مني السلاح دون أن أعرف كيف تمكن من هذا، وضعه في جيبه، ولم يفلت قبضتي بعدما استعاده، وقال وهو يرمقني بهذه النظرة المزهوة:
-ليبقى ذلك معي، فهذا آمن أكثر.
حركت ذراعي في توتر متعصب محاولة تخليصه؛ لكني لم أفلح، فاشتعل وجهي بنيران حنقي، بينما بقي “فيجو” هادئًا يستمتع بالمشهد الدرامي الذي أؤديه، نال مني الإحباط لفشلي، وامتزج بنفاد صبري، فكورت قبضتي الأخرى وأخذت أسدد له اللكمات في صدره بكل ما عصبية حتى فرغت قواي، عندئذ أمسك بي من معصمي معًا، شدني إليه متسائلًا:
-هل بذلك هدأتِ؟
هتفت في غيظٍ ما زال محتدمًا:
-لا، أريد قتلك.
أدار رسغي خلف ظهري، وألصقني به متسائلًا في عبثية خطيرة:
-لماذا زوجتي الحبيبة؟ هل لأني تغيبت عنكِ بضعة أيام تثورين هكذا؟
كانت قبضتيه محكمة، يصعب الفكاك منها، فتلويت بكامل جسدي وأنا أرد منفعلة:
-ومن قال أني أفتقدك؟
قيد كفي معًا بيدٍ واحدة، وراح بيده الأخرى يزيح القبعة التي أضعها على رأسي وهو يسألني:
-ألستِ كذلك؟
رمقني بنظرة حانية تعجبت منها، قبل أن يضيف:
-هكذا أفضل.
سرت نوبات الغضب في أوصالي كطوفانٍ جامح، فصررت على أسناني أصيح به، وأنا أجاهد لتحرير نفسي:
-ابتعد.
انحنى نحو وجنتي يهمس لي:
-أنتِ مثيرة في غضبك.
أملت رأسي للجانب لأتجنب لمسة شفتيه وأنا أنهره:
-توقف.
تجاهل مطلبي، وانزلق بأنفاسه نحو منحنى عنقي يداعبه تارة، ويقبله تارة أخرى، كأنما يلتهمه بطريقته، فارتعش قلبي واضطربت دقاته، بدأ صدري ينهج، لا أعرف إن كان من انفعالي المتزايد أم من تأثيره الطاغي على حواسي التي هددت بالاستسلام إن استمر على هذا المنوال الخطير، يبدو أنه أدرك ما بي من ارتباكٍ فأخبرني في نفس النبرة المنخفضة الساحرة:
-سأعود الليلة للبيت، فانتظريني.
استجمعت نفسي قبل أن يجتاحني الضعف، وقلت برفضٍ معاند:
-وأنا غير متفرغة.
ابتسم في عذوبة وهو يتساءل بشكٍ:
-حقًا؟
لم يأتِ بحركةٍ مفاجئة، بل كان يمهد لها بنظراته وإيماءاته قبل أن يقدم عليها. ألصق “فيجو” شفتيه بجلدي المرتجف، فشعرت بلهيبٍ يلسعه، تأوهت، وخرجت مني أَنة مكتومة. انتفضت خلايا جسدي مع حُر أنفاسه المتواترة، قاومت بكل جهدٍ ما يسعى لبثه في داخلي؛ لكنه واصل الضغط بثباتٍ وإصرار في حرب استنزافه لمشاعري المعذبة، كأنه يريدني أن أزوي بين يديه. استطرد متسائلًا من بين قبلاته الخبيرة بصوت يكاد يكون مسموعًا:
-ألم يفتقدني جسدك الصغير؟
كالخدر المغري راحت كلماته تتسلل إلي، اهتزت أنفاسي من التحرُّق، وواصلت المقاومة، ارتخت عضلاتي المتيبسة، وأجبت في ضعفٍ واضح وأنا أغمض عيني:
-لا.
دغدغ روحي بالمزيد مما يجيد، فلان جسدي المتصلب، وهو يتكلم بهذه النبرة الخفيضة:
-سنرى بشأن هذا لاحقًا.
قاومت في يأسٍ:
-اتركني.
عاد إلى وجنتي يقبلها في حنوٍ، قبل أن يدمغ شفتي بقبلة مطالبة أطاحت بآخر حصون صمودي، كان كالحلم الناعم الذي قد بدأ لتوه، وراح يسحبك إلى متعه بطواعية، فما عدت ترغب في الإفاقة منه أبدًا. بعد لحظاتٍ، توقف “فيجو” عن تقبيلي، ومسح بإبهامه على زاوية فمي هامسًا:
-انظري إلي.
حولت بصري ناحيته، فطاف بنظراته المتأملة على صفحة وجهي قائلًا بنبرة مليئة بالرغبة:
-ما زالتِ شهية كما أنتِ.
رُحت فيما يشبه الغيبوبة الذهنية وهو يخبرني بتوقٍ شعرت به في صوته:
-لنا موعدٌ الليلة.
بغير انفعال رددت محتجة:
-لا تأتي.
قال بتصميم:
-بل سأفعل.
منحني قبلة أخرى رقيقة، لطيفة، جعلتني شبه مسالمة، وتراجع عني مبتسمًا قبل أن يحل وثاق يدي، ليضع كفيه على جانبي ذراعي قائلًا:
-أنتِ بحاجة للاسترخاء…
أمسك برسغي يفركهما بأصابعه بعد أن اصطبغا بحمرة خفيفة، وتابع:
-لتذهبي عند السيدة “كاميلا” لبعض الوقت، أظن أنها تقيم مأدبة غداء اليوم.
حافظ على هذه البسمة الصغيرة على ثغره وهو يضيف:
-تحتاجين للترويح عن نفسك.
هززت رأسي موافقة، فقال مؤكدًا:
-أما بشأن مخاوفك من حمل شقيقتك، فثقي أن “لوكاس” أكثر الناس سعادة بهذا الأمر.
للغرابة وجدتني أصدق كلماته، سحبني بعدها إلى حضنه ليحتويني، فغصت بين ضلوعه القوية، إلى أن سكت واستكان ما بي من هياج غريب، بقي على تلك الحالة لبرهةٍ، ثم حاوطني من كتفي ليجلسني على الأريكة، نادى على أحد رجاله ليأتي، فامتثل له بانصياعٍ تام:
-ما الأمر أيها الزعيم؟
أخبره بوضوح:
-أعد السيارات، فزوجتي ستذهب عند السيدة “كاميلا”.
أومأ برأسه قائلًا:
-سمعًا وطاعة.
أشار لي لأنهض، فقمت بإرهاقٍ من موضعي، شعرت وقتها بنوعٍ من الدوار، عززت أسبابه لوقوفي المباغت، فتأرجحت خطواتي، في التو أقبل علي “فيجو” يسألني بقلقٍ:
-هل أنتِ بخير؟
بدا وجهه ضبابيًا مشوشًا، فحاولت التماسك، ومقاومة إعيائي الغريب، سألني في توجسٍ أكبر:
-كيف تشعرين؟
أجبت عليه وأنا أحاول الاستقامة:
-سأكون بخير.
سألني وهو يسحبني من يدي ليجلسني مرة ثانية في مكاني:
-هل تناولتِ شيئًا؟
فركت جبيني، وجاوبته:
-لا.
صاح بي في نبرة خشنة:
-أأنتِ حمقاء؟
انتقل من جواري نحو مكتبه، رفع سماعة الهاتف، وخاطب أحدهم بلهجته الآمرة:
-استدعي الطبيب “مارتي”، واحضر لي طعامًا ملائمًا.
اعترضت من مكاني بعبوسٍ:
-ليس لي شهية.
رمقني بهذه النظرة الحادة قبل أن يخابر من على الهاتف:
-تعجل.
وضع السماعة في مكانها، وعاد إلي ليجلس إلى جواري، احتواني بنظراته المهتمة، ليشرع بعدها في توبيخي بالمستهلك من العبارات، فصممت أذني عنها، ظل ماكثًا معي، وشاركني الطعام، المصحوب ببعض التدليل، بدت هذه اللحظات رغم قصرها لطيفة، وهانئة، إلى أن جاء الطبيب “مارتي”، فتحول للطبع الجامد المحافظ، نهض من جواري، ليفسح له المجال حتى يقوم بفحصي، تعجبت من سحبه لعينة من دمائي، تأوهت من الوخزة، وسألته:
-ما الداعي لهذه الإبرة؟
أجاب الطبيب بهدوءٍ:
-أنتِ لا تبدين بخير.
نظرت إليه بغير اقتناعٍ، فأكمل:
-ربما أحد الأدوية سبب لكِ أعراضًا جانبية.
وجهت حينها بصري إلى “فيجو”، ولومته بنوعٍ من المزاح الثقيل:
-لم أعرف الأقراص إلا في بيتك زوجي العزيز.
رفع حاجبه مرددًا باستنكارٍ:
-حقًا؟
أكدت له بنظرة ذات مغزى:
-ألست من جعلني أقبل عليها؟
استأذن الطبيب بالذهاب بعد انتهاء مهمته وشعوره بالحرج، فهمهمت في تهكمٍ:
-يبدو أني سأصبح مجنونة قريبًا.
جلس “فيجو” على مسند الأريكة متسائلًا في نبرة هازئة:
-أتقولين أني من أقودكِ للجنون؟
لم أحبذ الدخول في جدالٍ معه، فقلت وأنا أهب واقفة:
-لا يهم، سأذهب.
نهض بدوره، واعترض طريقي قائلًا:
-لا داعي، من الأفضل أن ترتاحي.
تجاوزته هاتفة بتصميم:
-أنا بخير الآن، كما أني بحاجة لذلك.
سبقني في خطواتي ليقف قبالتي، نظرت إليه بتحيرٍ، فوجدته يمرر راحتيه على جانبي ذراعي مغمغمًا في اهتمامٍ لا يمكن إنكاره:
-لا تجهدي نفسك.
اكتفيت بهز رأسي، وودعته متجهة نحو الباب؛ لكن قبل أن أضع يدي على مقبض الباب وأغادر أعاق سيري، حيث جذبني من يدي الأخرى بدفعة خاطفة ناحيته لأسقط في حضنه، أحاط خصري بذراعيه، وأرسل من عينيه نظرة احتوت على الكثير من المشاعر المتوهجة، وقتئذ ناظرته بتحيرٍ، وتساءلت:
-ما الأمر الآن؟
أسبل عينيه ناحيتي ليأسرني بنظراته الساهمة، وراح ينحني ببطء مرة ثانية على شفتي ليتلقاهما بشفاه لا تمل التقبيل، حتى غاب ما حولي فلم أعد أشعر بشيء سوى فيض مشاعره الجياشة، تراجع مسافة لا تذكر ليلتقط أنفاسه، وقتئذ وجدته يعترف لي بصوتٍ شبه لاهث، وبلا توقع:
-“ريانا”، اشتقت لكِ .. كثيرًا ……………………………… !!
يتبع
- لقراءة الفصل التالي: اضغط هنا
- لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على (رواية غير قابل للحب)