رواية سمال الحب الفصل الثامن والعشرون 28 بقلم مريم محمد غريب
رواية سمال الحب الفصل الثامن والعشرون 28 بقلم مريم محمد غريب
رواية سمال الحب البارت الثامن والعشرون
رواية سمال الحب الجزء الثامن والعشرون
رواية سمال الحب الحلقة الثامنة والعشرون
إنقضى الاسبوع على هذا النحو المزري، يفيق لتحل عليه الصدمة فيورده الأطباء غيبوبةً اجبارية بالمخدر و المهدئات بأنواعها، هكذا كل يومٍ و ليلة.. حتى حلول تلك اللحظة …
وقف “مصطفى” وراء “علي” و قد عقد ذراعيه فوق صدره و يصوّب نظراته مباشرةً نحو الواجهة الزجاجية لغرفة العناية الفارغة الآن، بعد هروب أخيه الكبير بطريقة جهنمية، هكذا استطاع الفرار بمنتهى البساطة بالرغم عن سوء حالته الصحية و البدنية، علاوةً عن تطويق المشفى بالكامل برجالهم، لكنه نجح في المرور دون أن يدري به أحد.. ذاك الداهية !
كان “علي” لا زال يتحدث بانفعالٍ في هاتفه :
-يعني إيه نستنى يابا ؟ .. النشار رأيه إيه ؟ .. طب إزاي نقعد كده مش عارفين عنه حاجة .. ممكن أي حد يتعرض له برا و هو حالته زفت أصلًا ..
أصدر “مصطفى” تأففًا مبهمًا، و دار على عقبيه منزعجًا من الوضع برمته، كان يفقد زمامه حقًا لولا أن أتاه هذا النداء من الجوار …
-مصطفى !
كان صوت أحد الرجال الأشداء و المقربين له شخصيًا، إلتفت صوبه و قبل أن يتسوضح صاح الأخير مُبشرًا :
-جالنا خبر عن رزق ..
في ثانية كان “علي” قد أنهى المكالمة دون سابق إنذار، إنضم للرجلان و حث الأخير على المتابعة بلهجةٍ حادة :
-هو فين ؟!!
-واحد من رجالة فاروق الديب جه يبلغنا رسالة. رزق عند الديب و بخير. بيقولكم ماتقلقوش عليه. هو راجع !
*****
كانت حفاوة الاستقبال من قِبل “فاروق الديب” لربما في ظروف أخرى مدعاةً للامتنان، لكنه لم يكن يعول على أيّ شيء الآن سوى الانتقام، حتى لو من مضيفه شخصيًا، و لو كان آخر عمل سيقوم به ..
-ألف لا بأس يا جزار ! .. قالها “فاروق” رابتًا على كتف “رزق” الجالس أمامه في الكرسي الوثير
كان قد ضمد يده اليسرى المكسورة و شد أصابعه برباط ضاغط، أعطاه حبةٍ مسكّنة للألام، تلك التي على لائحة جدول المخدرات قانونيًا، أخذها منه “رزق” دون ترددٍ و ابتعلها بجرعة من البيرة المُركزة
يجلس ذو الجثة العملاقة و الوشم الغليظ على رقبته أمامه، تناول زجاجة العِرق بدوره و احتسى منها بينما يستمع لعتاب “رزق” الجلف كأنما يتأهب ليريه وجه الجزار الحقيقي :
-توقعتها من أي حد. لكن منك إنت يا ديب !!
سارع “فاروق” بالرد عليه نافيًا التهمة بحزمٍ :
-عيب يا رزق ماتكملش. أنا ماكنتش أعرف إن الحوار معاك انت. أنا فجأة لاقيت تليفوني بيرن و السويفي بيولول زي الحريم و بيقولّي قتلوا عيالي. إنت عارفني مش يتأخر على حد و بصراحة كانت صدمة عليا. عيااااله كلهم اتقتلوا مالحقتش اسأل مين إللي عملها قمت بعاتله رجالة من عندي وقتي و وصيتهم يعملوا إللي يقول عليه.. لو كنت أعرف إن إنت كان هايبقى فيها كلام تاني. مش عشانك صاحبي و أخويا و بس. لأ عشان كمان عارفك حقّاني و بتاع أصول. عمرك ما تمد إيدك و لا سلاحك على حد منغير حق …
و صمت ليمهّد لبقية حديثه بأقصى ما استطاع من تضامن :
-إنت عارف إني كنت مسافر. و لاجل الحظ لسا راجع من يومين إتنين و ماسمعتش إللي حصل لاختك سلمى على إيد عاصم السويفي ألا منك دلوقتي.. و عزة الله أنا لو كنت موجود كنت هاتلاقي سلاحي في وشهم قبل سلاحك و …
-أنا مش جاي عشان أسمع مبرراتك يا فاروق ! .. قاطعه “رزق” متشنجًا في مقعده و قد كتم آهات الألم بصعوبةٍ
مد جسمه للأمام و هو يضع كفه على صدره موضع الطلقات المستخرجة حديثًا، حدق في عينيّ حليفه بقوة مهيبة، ثم قال من بين أضراسه :
-مراتي ماتت في الحادثة دي يا ديب. و بنتي. بنتي كانت معايا. مش لاقيها !!!!
و ترك نظرته المشككة فيه تكمل عن لسانه …
ليرد “فاروق” دون أن يرف له جفن :
-و إللي خلقها ماعرف عنها حاجة. عيب يا رزق تظن فيا كده. أنا مامدش إيدي على حريم و لا عيال صغيرة !
-أومـال راحــت فيــــــــن ؟؟!!! .. صاح “رزق” فجأة بغضبٍ صاعق و هو يتخبّط بمكانه
-بنتي راحت فين يا فاروق. مش لاقي بنتي. بنتي راحــت فــيـــــــــــــــــن ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
ليهدئه “فاروق” من فوره و هو يقوم ممسكًا به حتى لا يتأذى أكثر :
-إهدى يا رزق. إهدى. قسمًا بالله زي ما قلت ماعرفش حاجة عنها لا انا و لا رجالتي. محدش قرب عليكوا. السويفي كان محددك إنت ليهم و لما شافوك وقعت مشيوا.. و رب الخلق ما حد من تبعي شافها اصلًا. كان لازم اخواتك يدوروا عليها كويس. إهدى و ماتقلقش. هاتتلاقى إن شاء الله …
في أوج اضطرابه و حالة الجنون التي ألمّت به، و بينما كان “فاروق” يتحدث إليه، بدأ عقله يستعرض له بضع لمحاتٍ من تلك الليلة
فأرهف كل حواسه و هو يعصر ذاكرته ليدركها …
°°°°°
كان مضرجًا في دماؤه
ينتفض نزفًا و يسعل دمًا
أراد أن يقاوم الخدر الذي زحف على جسمه تدريجيًا، أراد أن ينهض ليدرء أيّ شر عن زوجته و صغيرته
لكنه و للأسف لم يتمكن حتى من تحريك إصبعه
سيكون ممتنًا كثيرًا لو أنها صارت نهايته، لو أن الموت محتّم عليه الليلة، إنه أكثر من مستعدٌ له
كم يشتاق لأحبابه، كم يود أن يذهب لحضن أمه، كم يحنّ لشخصه الطفولي، ألا ليته لم يكبر !؟
لكن ماذا عن صغيرته ؟
أيتركها ؟
لا.. لا يمكن أن يتركها لقمة سائغة في فك الأقدار، لا يمكن أن يتركها وحيدة، ستدُهس بالأقدام، ستموت آلاف المرات كما مات هو و ماتت روحه …
عليه أن ينهض، لكنه… لا يستطيع !!!
مهلًا
ما هذا ؟
ثمة ظل، شبحٌ غطى عليه، إنه يجاهد كي ما يزيح أجفانه و يرى، لقد سمع نهنهات طفلته القريبة، إنها قريبةً منه
إنها الدافع الوحيد الذي جعله يفتح عيناه على قدر استطاعته، و رغم هذا، كل ما رآهُ كان بالفعل شبحًا، رجل طويل القامة، لعله يرتدي بذلة، وجهه.. وجهه معتم لا يراه
لكنه يرى صغيرته على ذراعه
أجل “كاميليا” معه، مع هذا الرجل…. لكن من هو ؟
من هو ؟؟؟؟؟
هذا السؤال الذي لم يعرف إجابته مطلقًا، لسبب وجيه للغاية، فقد ابتلعته الاغماءة، و ضاعت “كاميليا” مرةً أخرى !
°°°°°
-لأ ! .. صرخ “رزق” مثل المجنون و هو يخرج من الذكرى في إثره الشياطين
قفز عن الكرسي دافعًا عنه “فاروق” بكل قوته الواهنة
أشهر سبابته في وجهه هاتفًا بشراسة :
-حتى لو مش مع السويفي. حتى لو مع العفريت. محدش هايفلت من إيدي. مش هارحم حد لغاية ما ألاقيها. مش هارحم حد. و لا حد !!!!!
و أخذ في وجهه مهرولًا للخارج متجاهلًا نداءات صديقه :
-استنى يا رزق.. يا رزق استنى يا جدع.. رررررزززززق …
°°°°°
في المنطقة غير المأهولة، مشى على طول الطريق راكضًا، ينزف و يلهث
لا يتوقف حتى للالتقاط أنفاسه، لا يفكر، لا يضع نصب عينيه سوى هدف واحد
“كاميليا”
إبنته… لا بد أن يبلغ هدفه
لا بد أن يُعيد إبنته، أو.. يموت !
هذا آخر شيء ورد إلى ذهنه و لقّنه لنفسه، قبيل أن يفقد وعيه مجددًا، على قارعة الطريق …
*****
لم يكن في الحسبان، حمل عبئًا آخر.. ربما هو عبئ بالنسبة لعائلتها
لكن بالنسبة إليه هو
إنها أكثر شيء ثمين في حياته، إن لم تكن حياته كلها، متعلّقة بها وحدها …
-إيه إللي جابك يا نور ؟ .. سألها “علي” مباشرةً
لقد أتت إلى المشفى مباشرةً، كان يغادر هو و “مصطفى” عندما اصطدما بها، و قبل أن يفقد الأخير أعصابه ذهب و تركها في عهدته و ترك معهما بعض الرجال
كانت عيناها متوّرمتان من شدة البكاء الذي لم يتقطع حتى الآن، تضم قبضتبها إلى ذقنها كالأطفال و هي تغمغم بصعوبةٍ :
-رزق فين يا علي ؟ فين أخويا ؟!
لم يجاوب على سؤالها و رد بسؤال :
-إنتي جيتي هنا إزاي ؟ النشار عارف إنك جاية ؟؟
إنفعلت و هي تصرخ في وجهه :
-بقولك أخويا فين ؟ ماتردش على سؤالي بسؤال. أنا عرفت كل حاجة. أنا كنت حاسة. بابا مات. خلاص بقيت يتيمة بجد. و أخويا كمان …
-لأ ! .. قاطعها بصرامةٍ
-رزق عايش يا نور. رزق بخير سامعة ؟
-لما هو بخير مش عايز تقولي هو فين ليه ؟!!
هز رأسه حائرًا و هو يقول :
-لأني مش عارف هو فين. صدقيني !
-كدااااااب !!! .. صرخت ثانيةً و أشد من ذي قبل
لدرجة أنها استقطبت كافة الأنظار إليهما …
تلفت “علي” حولهما و شعر بالتوتر يزداد عليه، فمد يده قابضًا على رسغها و قال بحسمٍ :
-طيب يلا بينا. يلا نمشي من هنا !
قاومته يديه بضرواةٍ صارخة :
-مش ماشية معاك في حتة. مش هاتتقل من هنا قبل ما أشوف أخويااااا. لو مات هو كمان خليني أشوفه بس.. عايزة أشوووووفه. سيبني يا علي. أنا خلاص بقيت لوحدي تاني. آاااااااااااااااااااااه …
كان من السهل جدًا السيطرة عليها، أيسر ما يمكن أن يفعله، و قد أمسكها و حاوطها بذراعيه المفتولتين باحكامٍ، نقلها إلى سيارته أمام نظرات الجميع
حبسها في المقعد رابطًا حولها حزام الأمان و أسرع و استقلّ إلى جانبها، رغم أن قلبه يتمزق عليها، رغم أن صوت بكائها يعذّب أذنيه
لكنه تماسك جيدًا و لم يفك عبوسه و هو يشغل المحرك، ثم ينطلق بالسيارة على الفور، و حتمًا لم تكن الوجهة “حي الجزارين” …
*****
تراصت أمامها كؤوس الهواء على الطاولة الجرّارة ذات السطح الرخامي، كما كان هو أمامها فوق السرير الكبير مستلقيًا على وجهه، عاري الجزع، الحمَّى تلتهم جسمه، الصداع يفْتِك برأسه، و لسانه لم يكفّ عن الهذيان بينما عيناه مغمضتان …
-ماتسيبنيش.. أنا ماعملتش حاجة… عشان خاطري.. لأ.. لأ… ماينفعش تاخدها مني.. ماينفعش تاخدها مرتين… سيبها.. سيبها لي !
ظاهريًا لم تهتز منها شعرة، و لكن باطنيًا ملأها التعاطف على حالته، و ما ألمّ به من عذاب و نكبات لا يتحملها بشر …
أطلقت “سيرين” زفرة مطوّلة، ثم عقصت شعرها الأصهب المصبوغ، و مدت يديها ذات الأظافر الطويلة المنمّقة نحو الطاولة، تناولت مشرطًا طبيًا و قطنة، ثم مالت فوق ” رزق” و بدأت تصنع جروحًا صغيرة في ظهره
جمعت قدرًا يسيرًا من القطن و غمسته بمادةً قابلة للإشتعال، ثم لفته رأسًا بأول كأس هواء، و باحترافية لصقت الكأس على عقب جلده، فوق فتحة جرحه تمامًا
و كررت نفس العملية فوق بقيّة الجروح، و تركته لدقائق بينما جلست تراقبه بدقة، الكؤوس و قد بدأت مواضعها تشكل ضغطًا عكسيًا سبب له نزفًا و إرتفاع بمستوى الجلد
ما أن رأت الكروس و قد امتلأت دماءًا بالقدر الكافي، عاودت إنتزاعها بلطفٍ الواحد تلو الآخر، ثم طفقت تعقّم جروحه النافذة برفقٍ و هي تسمعه يستأنف هذيانه و قد إستعاد وعيه نسبيًا :
-ماما.. استني عشان خاطري… أنا هاجي معاكي خلاص.. ماتسبنيش.. ماما… مـامـــــــاااااااااااااااااااااااااااااااااا …..
إنتفض جسمه نفضةً عنيفة فجأة، لولا أناملها السحرية إذ سارعت في تسكين روعه و هي تهدل بصوتها ذي البحة الجذّابة :
-إشششش. إششش. إهدا. إهدا يا رزق. ماتخافش إهد آ آاه !!
بترت عبرتها المهدئة متآوهة، حين إنقلب في طرفة عينٍ و قبض على معصمها الرقيق بقوة ؛
-إنتي !!!
نطق “رزق” بصعوبةٍ من بين أسنانه، كان الألم يتسيّد وجهه و جوهره و كيانه برمته، إنما وجهه، وجهه كان صارخًا بالوحشية و الشراسة رغم كل شيء، و لأجل كل شيء …
-أنا فين ؟ و إنتي طلعتي لي منين و عايزة مني إيه ؟؟!!!
تحمّلت “سيرين” ضغطه الموجع حول معصمها، مدت يدها الأخرى و بجرأة حطّت بكفها فوق صدره، إلى عنقه في حركاتٍ مدروسة لاستمالته و ترويضه …
-ممكن تهدا ! أنا بقالي يوم بحاله بعمل كل حاجة عشان أعالجك و أريحك
-أنا فـيــــــن ؟؟؟ .. سألها بحدة مخيفة
لكنها لم تخشاه، و لم يرف لها جفن، واصلت النظر بعينيه الشبيهتان الآن بمحيطٍ تنعكس عليه شمس المغيب الحمراء
إبتسمت بخفةٍ و جاوبته :
-إنت هنا في قصر الخبيري. بابي جابك. بناءًا على رغبتي ..
قطب حاجبيه و في نفس الوقت خفف ضغطه عليها، لاحظت ذلك فأردفت فورًا و هي تزيد اقترابًا منه :
-أنا أنقذت حياتك. لأني… بحبك يا رزق !
يتبع ….
- لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
- لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على (رواية سمال الحب)