رواية جعفر البلطجي 3 الفصل الخامس والخمسون 55 بقلم بيسو وليد
رواية جعفر البلطجي 3 الفصل الخامس والخمسون 55 بقلم بيسو وليد
رواية جعفر البلطجي 3 البارت الخامس والخمسون
رواية جعفر البلطجي 3 الجزء الخامس والخمسون
رواية جعفر البلطجي 3 الحلقة الخامسة والخمسون
ولما رأيتُ الجهلَ في الناسِ فاشياً،
تجاهلْتُ حتى ظُنَّ أنّيَ جاهل،
فوا عَجَبا كم يدّعي الفضْل ناقصٌ،
ووا أسَفا كم يُظْهِرُ النّقصَ فاضل.
_أبو العلاء المعري.
______________________
الدُّنيا غَـ ـرُورٌ، هكذا كانت الدُّنيا، وبكونها غَـ ـرُورٌ فكانت فا’تنةٌ كذلك..
كانت كمو’ج البحـ ـر العا’لِ، يعـ ـلو بين الحين والآخر يجر’ف معهُ كُل ما يُقابله، وكان هو غـ ـريقًا في عُمـ ـقِ البحـ ـر لا تسـ ـعفه يديه للنجـ ـاة والخروج مِن أموا’ج فتـ ـنتها، فكانت تُشبه البحـ ـر في صفا’ءه ولمعا’نه وهيئتهُ الجذ’ابة السا’حرة التي تجذ’ب أنظار الجميع، ولم يعلم أن المظاهر خد’يعة كبيرة يسقـ ـط في أعما’قها الكثيرين دون عودة..
<“بدايةٌ جديدة أفضل تستحـ ـق السعـ ـي،
وشخصٌ آخر يخطو أولى خطواته نحو النجاح.”>
بدايةٌ جديدة يبدأها، رحلةٌ أخرى تستحـ ـق أن يسـ ـعى لأجلها، ومعها ظهر شخصٌ آخر جديد غير الذي يعرفه يُتقن حِرفته ببراعةٍ شـ ـديدة واضعًا أولى خطواته نحو طريق النجاح لحياةٍ جديدة أفضل..
كان يجلس رِفقة عمّه وابن عمّه الآخر في الشـ ـرفة منذ هذا الحين والصمت قائمٌ بينهم، كان “يـوسف” يلتزم الصمت منذ أن تلقى هذه الخبـ ـرية والحز’نُ باديًا على معالم وجهه، كيف لا وهو يراها أُمّه التي را’عته ومدت يَدها لهُ ووقفت بصفه أمام الجميع وفر’ضت حما’يتها عليهِ، ليست مجرد أي شخصٍ بحياته بل إنها حقًا أُمًّا لهُ، نظر “عـماد” لهُ قليلًا يرى الحز’نُ هو المسيـ ـطرُ عليهِ الآن ولذلك عَلِمَ أنها تحظى بمكانة كبيرة داخل قلبه..
_وهتفضل ساكت كدا لحد أمتى؟ أنتَ مِن ساعة ما طلـ ـعت وأنتَ بالحالة دي ومش عايز تتكلم وتقول إيه اللي حصـ ـل، في إيه يا “يـوسف” إيه اللي ز’علك أوي كدا لمَ نزلت وهي تقربلك إيه عشان تز’عل عليها بالشكل دا؟.
هكذا أنهـ ـى “جـاد” حديثه مُـ ـلقيًا العديد مِن الأسئلة على ابن عمّه جا’هلًا إجابتهن، فهذه المرة الأولى التي يرى فيها صديقه بهذا الحز’ن والتأ’ثر، ثوانٍ أخرى مرت تليها أخرى حتى قطـ ـع هذا الصمت مجيبًا على أسئلته تلك وهو يتهر’ب مِن عينيه بالنظر بعيـ ـدًا:
_أُمّ “حسـن” مش مجرد واحدة أعرفها وخلاص، كُنْت بشوف فيها أُمّي، طيبة وحنية وجد’عنة بالرغم إني كُنْت غريب عنهم، أول ما جيت هنا حسيت نفسي كأني واحد مِنهم محسيتش بالغُربة وسطهم خالص، مِن صُغري وبيني وبين عيلة الجـ ـزار عد’اوة معرفش إيه سببها مِن أول ما جيت، أتعرفت على “سـراج” أول واحد حسيته شبهي، أر’تحتله وكأني أعرفه مِن زمان، بعدها أتعرفت على “لؤي” و “مُـنصف” شوفت فيهم جد’عنة مكُنْتش هشوفها فالقريب، شوية وظهر “رمـزي” كأن متر’بي أوي العـ ـيبة متخر’جش مِنُه، خد’ت عليهم بسرعة وحـ ـسيتهم أهلي حتى “مـها” كانوا بيعتبروها أختهم كُنْت ساعات لمَ أنز’لهم الشارع أخُدها معايا وعيني تفضل عليها طول الوقت متفا’رقهاش، لمَ كبرنا شوية كُل واحد دخل مدرسته وأتشغـ ـل، أنا الوحيد اللي مدخلتش فيهم حتى الحضانة معتـ ـبتهاش..
_كُنْت على طول بضا’يق وساعات بغيـ ـر مِنهم فالنقطة دي، السـ ـت اللي خدتني أنا واختي معملتش حساب مستقبلنا، أفتكر لمَ روحتلها مرة قولتلها وأنا مضا’يق أشمعنى كُلهم راحوا مدارس وأنا لا؟ قالتلي أنتَ أحسن مِنهم التعليم مش مهـ ـم المهـ ـم تعرف تجيب فلوس، وأنا مقتـ ـنعتش وعا’ندت وأ’صريت أدخل وكُل يوم أعمل مشـ ـكلة بسبب الموضوع دا لحد ما ز’عقت فيا وطر’دتني بره الشقة، كانت فاكرة إنها بتر’بيني، متعرفش إنها كانت بتجـ ـسد جوايا شخصية صـ ـعبة، عد’وانية، روحت لأُمّ “حسـن” ساعتها وأشـ ـتكتلها كُنْت بعتبرها أُمّي التانية، نصـ ـفتني قدام نفسي وفنفس الوقت كانت بتشفـ ـق عليا، مِن صُغري ذكي ونبيـ ـه يمكن لو كُنْت دخلت مجا’ل التعليم كُنْت هبقى فحتة تانية، وقالتلي ساعتها بالنَّصْ لو كُنْت أقدر أتكفـ ـل أنا بمصاريف تعليمك مع “حسـن” كُنْت عملت كدا مِن غير تفكير، بس هي كانت على قد حالها..
_الوقت كان بيعدي وكانوا لمَ يجيبوا نتايجهم يجروا عليا ويشاركوني فرحتهم بتلقائية، مكانوش يعرفوا إنهم بيد’وسوا عالجر’ح، بس أنا قد’رت أفصـ ـل مشاعري وكُنْت بفرحلهم مِن قلـ ـبي وبدل ما أنا اللي أكافئهم كانوا هما اللي يكافئوني، كانوا يجر’وا على عمّ “شوقـي” يشتروا الحاجات اللي بحبها ويجر’وا عليا ياخدوني بالحُضن ويدوني الحاجات دي، معرفش كانوا بيو’اسوني ولا بيشـ ـفقوا عليا معرفتش أحـ ـدد بالظبط..
وعند هذه اللحظة ترقرق الدمع في المقل وبدون أن يشعر سقـ ـطت عبراته على صفحة وجهه بعد أن أعاد فتـ ـح جِرَ’اح الماضي الذي كان مِن الصـ ـعب أن يلتئـ ـم، يحز’ن ويتأ’لم كلما تذكر هذه الأيام الصـ ـعبة التي مر بها وحيدًا، ومعهُ تأ’ثر “جـاد” بشـ ـدة ولا’مس حديثه ذاك قلبه بلا شـ ـك، ومعهُ “عـماد” الذي كان يستمع إلى ابن أخيه ويرى معا’ناته تلك نُصـ ـب عينيه، أزال “يـوسف” عبراته بحركةٍ سر’يعة ثم تما’لك نفسه سريعًا وأكمل حديثه قائلًا:
_لمَ تميت ٧ سنين بدأت أشتغل، مكُنْتش حابب أختي تبقى زيي، أشتغلت فحاجات كتير أوي بدأتها صبـ ـي فقهوة، كان عندي أعمل أي حاجة وأشتغل أي حاجة عشان أعرف أحو’ش فلوس عشان أدخلها الحضانة، بعدها بـ ٣ سنين بقيت وا’عي أكتر وبدأت أفهم الدُّنيا أكتر، بدأت أشتغل فحاجات مخـ ـتلفة، أتعلمت السبا’كة كُنْت صبـ ـي عند واحد كان فا’تح فالحارة هنا بدأت أشوفه بيعمل إيه وأطبـ ـق اللي بيعمله، شوية ونقـ ـلت على النقا’شة، شوية على الكهربا، مسيبتش حاجة غير وحطيت إيدي فيها وكُنْت بشتغل شغلانتين فاليوم عشان أزو’د الفلوس أكتر عشان هي هتحتاج مصاريف أكتر خلاص دخلت المدرسة ولاز’م أخد بالي مِنها أكتر..
_دول بيتعلموا وأنا بشتغل صـ ـبي عند دا ودا، لحد ما عدت السنين وصحابي أتخـ ـصصوا فثانوية عامة وكُل واحد دخل الكلية اللي تناسبُه، وأنا خدت خبرة وأتعلمت كتير أوي فالحياة، دخلّت “مـها” ثانوية عامة، أينعم مصاريفها كتير بس كُنْت عايز أشوفها أحسن مِني وكُنْت شايف نفسي فيها، كانت شاطرة جدًا ووقتها حلفت إن الفلوس اللي بجيبها دي مش هتطـ ـلع للسـ ـت دي، هشـ ـيلها لأختي وبس، لسه فاكر مرة لمَ جَتلي وكانت ز’علانة أوي أول مرة أشوفها ز’علانة بالمنظر دا، فلما سألتها قعدت تعيط وتقولي إن صحابها كانوا خارجين وهيروحوا ياكلوا ويتفسحوا شوية وقعدوا يتحا’يلوا عليها عشان تروح وهي أتحـ ـججت إنها تـ ـعبانة ومش هتقد’ر..
_كان نفـ ـسها تروح معاهم بس مكانش فيه فلوس معاها فأتحر’جت، وقتها خدتها فحُضني وقولتلها ولا تز’علي نفسك أنا هخرجك أتصلي بيهم شوفيهم فين وأنا هوديكي ليهم ومعاكي الفلوس أتبسطي معاهم، فرحت أوي ساعتها وكالعادة كانت تلقائيتها بتاخدها فتروح حضناني وبايسة خدي ومودها يتقـ ـلب فثانية، محبتش أحر’مها مِن حاجة، دموعها غا’لية على قلبي أوي عندي أستعداد أشتغل للصبح بس مشوفهاش بالحالة دي أو نفسها ر’ايحة لحاجة ومش عارفة تاخدها، وفي موقف حلو أوي هفضل فاكرهولها على طول، كان نفسها تجيب أكل مِن بره زي ما بتشوف وكُنْت وقتها مديها مصروفها بزيادة عشان لو أحتاجت حاجة تجيبها على طول، وأنا فضلت طول اليوم بره مكلتش حاجة نها’ئي لحد ما روّحت على ١ بليل، كُنْت جعان جدًا بصراحة فلقيتها بتقولي تعالى بسرعة عايزاك فحاجة ضرو’ري..
_أنا قلـ ـقت شوية لأن “مـها” بتبقى متعمـ ـدة تعيـ ـشني جَو الرُ’عب دا دايمًا، المهم دخلت لقيتها قعدتني وبتخرّ’ج حاجة مِن شنطتها فاستغربت بصراحة دي مش مِن عاد’اتها، لقيتها جايبة أكل مِن بره لفردين وجاية تقعد جنبي وبتديني، أنا أستغربت أوي وعقـ ـلي مكانش فيا عشان أفكر، لقيتها بتقولي كان نفسي أجيب أكل مِن بره زي ما كُنْت بشوف الناس البلوجر عالنت ففضلت أحَّو’ش جزء مِن مصروفي كُل ما تديني لحد ما حَّو’شت المبلغ وراحت جابته وجَت وشاركتني فالأكل أنا وقتها بأ’مانة فرحت كانت حركة حلوة مِنها وفالآخر فكرت فيا لأنها مشافتش مِني غير الحنية والطيبة ومبخـ ـلتش عليها مرة، والسـ ـت أُمّ “حسـن” كانت معايا فحاجات كتير أوي وياما وقفت فو’ش عيلة الجـ ـزار عشاني، شوفت مِنها كُل الطيبة والحنية، أزاي مبقاش ز’علان عليها دلوقتي بقى؟.
أنهـ ـى حديثه الطويل وهو ينظر إلى ابن عمّه الذي كان يستمع لهُ بوجهٍ مبتسم طيلة الوقت، فقد أستمع إلى قصة أخيه وابن عمّه التي كان يتشو’ق لسماعها منذ أن رآه، واليوم قد عَلِمَ لِمَ لا يُريد تر’ك الحارة، نظر إلى “عـماد” الذي كان يستمع إليهِ بوجهٍ مبتسم طيلة الوقت يرى شخصٌ آخر غير هذا المتبجـ ـح، شخصٌ آخر أكثر طيبة وحنوًا على مَن حوله، شخصٌ مازال محبو’سًا بالداخل لا يستطيع الخروج حتى هذه اللحظة..
_تعرف يا “يـوسف”، أنا كُنْت هتجـ ـنن واسمع قصتك، بس الحمد لله سمعتها مِن غير ما أقولك أحكي وبجد أنا بقولك أنتَ فعلًا ابن “عـدنان”، لو كان عا’يش لحد دلوقتي كان زمانه طا’ير مِن فرحته، بس أنا متأكد إنه مبسوط دلوقتي ومر’تاح، كفاية إن أبنه طلع ر’اجل بجد وقد أي حاجة.
هكذا أنهـ ـى “عـماد” حديثه مبتسم الوجه وهو ينظر إلى ابن أخيه الذي أبتسم كذلك وترَّ’حم على والده ليأتي سؤال “جـاد” الذي قال بنبرةٍ هادئة:
_طب وهي كويسة دلوقتي؟ شوفتك قَـ ـلَبْت بعد المكالمة.
أطـ ـلق “يـوسف” ز’فيرة قو’ية بعد أن تذكّر أمر هذه المكالمة لينظر إلى ابن عمّه مجيبًا إياه بنبرةٍ هادئة:
_الحمد لله لحـ ـقوها على آخر لحظة، كانت أشـ ـتباه فجـ ـلطة، واللهِ العظيم اللي ما حـ ـلفت بيه كدب قبل كدا لو كان جر’الها حاجة كُنْت هز’عل عليها ز’عل … سـ ـت طيبة أوي وتـ ـلقائية.
_لسه فاكر أول مرة شافتني فيها معاك هنا عا’كستني.
هكذا جاوبه “جـاد” مبتسم الوجه ليبتسم “يـوسف” كذلك حينما تذكّر ومعهُ “عـماد” الذي تفاجئ ليؤكد “يـوسف” على حديثه دون أن يتحدث، لحظات مِن الصمت دامت ليقـ ـطعها “يـوسف” الذي نظر لهما قائلًا:
_عايز أسألكم على حاجة، هو “مـؤمن” عنده طفل متو’في أسمه “مـؤنس”؟.
_أنتَ عرفت منين؟.
هكذا سأله “جـاد” متفا’جئًا وهو ينظر لهُ ليرمقه “يـوسف” نظرةٍ ذات معنى مجيبًا إياه قائلًا:
_لمَ كُنْت بزور أبويا شوفت قبـ ـره صدفه جنب قبـ ـر جدتي، أنا أتفا’جئت وقولت “مـؤمن” هيخـ ـبي عليا حاجة زي دي ليه؟.
رأى تبدُّل معالم وجه ابن عمّه وعمّه كذلك إلى الحز’ن حينما ذكر أسم الصـ ـبي لتبدأ الأسئلة تُطر’ح على عقـ ـله إجابتها عندهما بلا شـ ـك، نظر لهما نظراتٍ متر’قبة ليسمع “جـاد” يُخبره بما حد’ث قبل ثلاث سنواتٍ:
_”مـؤنس” ابن أخويا الصغير، كان أصغر واحد، كان وقتها عنده ٣ سنين، كانوا فالمصيف ساعتها وهو كان شـ ـقي جدًا، تشوفه تحبه على طول وعلى طول بيضحك، تتعلـ ـق بيه مِن أول مرة، العيلة كلها كانت بتحبه حرفيًا وكان بيحب الكُل وكان متعـ ـلق بيا أكتر مِن أخويا نفسه كان بييجي ينام معايا ويلبس زيي ولو رايح فمكان لازم ييجي معايا، عامل زي ضِـ ـلي كان “مـؤمن” يضا’يق أوي ويقوله أنا أبوك مش هو أنتَ مش متعلق بيا زي ما متعلق بعمك، كان يرد عليه ويتشا’قى وبعدين يرجعله يراضيه ويبوس فيه ويقوله متز’علش أنا بحبك أوي يا بابا، يوم المصيف دا كان كابو’س علينا كُلنا حرفيًا لو سألتني عن أسو’أ يوم فحياتي هقولك يوم المصيف دا..
_كان مبسوط أوي إنه هيروح المصيف وكُل شوية وهو على الطر’يق يكلمني يقولي يا “جـاد” أنا قرّبت أوصل البحـ ـر وصوته فرحان والحما’س واخده، بيحب البحر جدًا وبيفرح لمَ “مـؤمن” بيقوله هوديك، قـ ـضوا يومين كان كُل شوية يتصل بيا ويكلمني فيديو كول يوريني البحـ ـر وبعدين يفضل معايا ييجي ساعة مثلًا وباقة “مـؤمن” كانت بتخلص كُل ساعة حرفيًا بسبب مكالمات “مـؤنس” ليا، و “مـؤمن” مكانش بيتكلم مبيقد’رش يز’عله حتى لو بينه وبين نفـ ـسه كان “مـؤنس” حيا’ة أخويا أقسم بالله مش مبا’لغة لو حد ز’عله بس يز’عق فينا كُلنا عادي.
أبتسم “يـوسف” بسمةٌ هادئة وهو يستمع إلى حديث ابن عمّه عن هذا الفتى المشاكـ ـس الذي يبدو أنهُ كان يحظى بمكانة كبيرة في قلو’ب الجميع، حديثه جعله يشعر بالحُبّ تجاهه دون أن يراه فهكذا كان دومًا هذا الصغير، فيما أكمل “جـاد” حديثه بعد أن تذكّر هذا اليوم الذي توقفت حياتهم معهُ محاولًا تما’لُك نفسه قد’ر المستطا’ع قائلًا:
_فاليوم التالت صحي بدري عشان يلـ ـحق يقعد أطول وقت مُمكن قبل ما يمشي اليوم اللي بعده، كان مبسوط وراح مِن غير ما يقول لـ “مـؤمن” أو “نسمة”، بس “مـؤمن” وقتها قال إنه قاله إنه هيروح و “مـؤمن” ساعتها منـ ـعه وقاله لمَ ننزل كُلنا مع بعض، “مـؤنس” مسمعش الكلام ساعتها وراح مِن وراهم طفل وحما’سه واخده تجاه حاجة بيحبها، بعدها بـ ١٠ دقايق كدا “مـؤمن” نده عليه مرة مردش، التانية مردش، فضل ينادي مفيش رد فخا’ف أفتكره خرج راح بره الشاليه دوّر عليه محدش شافه خارج بره، بدأ يقـ ـلق و “نسمة” وراه بتدوّر وأخواته بيدوّروا مش لاقيينه..
_”مـؤمن” خا’ف ليكون راح البحـ ـر مِن وراه ولحُسن الحظ كان في واحد فالشاليه اللي جنبه معاه كـ ـلب، الكلـ ـب واقف قدام البحـ ـر وعمال يهو’هو ومش ساكت ويبُص حواليه عايز حد ييجي، صاحبه راح وكان معاه “مـؤمن” فقعد يهديه والكلـ ـب مش ساكت راح دخل عالشـ ـط ووقف وفضل يهو’هو، المهم “مـؤمن” وصاحب الكـ ـلب دا بيبصوا عالبحـ ـر لقوا جسـ ـم صغير مطـ ـفي عالبحـ ـر مِن جوه كان ساعتها “مـؤنس” لابس تيشيرت أبيـ ـض وبنطلون أسو’د، “نسمة” شافته عرفت إنه “مـؤنس” فضلت تصو’ت وتصر’خ بأسمه ودخلت فحالة صـ ـعبة فـ ـرط حركة وصد’مة، “مـؤمن” مستناش لحظة وجري عليه والناس بدأت تلا’حظ وتتـ ـلم تشوف إيه اللي بيحـ ـصل..
ترقرق الدمع في عينين كلًا مِن “عـماد” الذي تذكّر هذا اليوم وتلك اللحظة التي أعادته إلى نقطة البداية، ومعهُ “يـوسف” الذي تأ’ثر كثيرًا بحديث ابن عمّه مستشعرًا بهذا المسـ ـكين الذي فَقَـ ـدَ ولده في لمـ ـح البصر..
_”مـؤمن” لمَ دخل جوه وشا’له كان عنده أمل ١ فالـ ١٠٠ إنه ميطلعش أبنه، كان بيتمنى يكون حد غيره، أو أي حاجة بس ميطلعش هو، أول ما شا’له على إيديه ور’فعه لقاه “مـؤنس” كانت أسو’أ لحظة على أخويا يا “يـوسف” أقسم بالله، أتصد’م صد’مة و’حشة أوي، خرج بيه وكان في واحد مِن اللي واقفين دكتور فأول ما “مـؤمن” خرج بيه جر’ي ينشـ ـط ضر’بات القلب قولنا يمكن فالأول فهنـ ـلحقه، حاول لمدة ٥ دقايق ملقاش أمل كان “مـؤنس” شا’رب ميَّة كتير وهو سِنُه صغير أوي، أول ما عرف إنه تو’فى كأن حد ضر’به بحاجة على د’ماغه، الو’لدين قعدوا يعيطوا بحُـ ـرقة أوي كانوا بيحبوه أوي، و “نسمة” بتصر’خ دخلت فحا’لة صـ ـعبة محدش كان عارف يوقفها..
_فاليوم دا أنا أستغربت الساعة جَت ١٠ وهو لسه مكلمنيش كان قايلي قبلها بيوم إنه هيكلمني على ٩ عشان هيكون قُدام البحـ ـر، قولت يمكن باقة “مـؤمن” خلصت ولسه مشحنهاش فكلمته أنا محدش رد أول مرة، اتصلت تاني مفيش رد، بدأت أقـ ـلق حتى “نسمة” مبتردش عليا، حاولت للمرة التالتة لقيته بيرد عليا وصوته ر’ايح ومش عارف يسيطـ ـر على نفسه وعمال يعيط، أنا أتر’عبت بصراحة وقعدت أز’عق فيه لدرجة إن كُل اللي فالبيت أتـ ـلموا على صوتي، هو بيعيط و “نسمة” جنبه بتعيط ومحدش راضي يتكلم وأنا خو’فت عالعيال ساعتها قولت حد جر’اله حاجة حا’دثة لقدر الله..
_ألاقيه بيقولي “مـؤنس” ما’ت، أنا قعدت يا “يـوسف” ٥ دقايق بالظبط بستوعب وبسأل نفسي هو قال السبب ولا لسه، يعني إيه “مـؤنس” ما’ت؟ ز’عقت فيه وأنا بحاول أكدِّ’ب اللي سمعته أزاي دا لسه مكلمني إمبارح قبل ما ينام وقايلي هيتصل بيا بكرا الصبح عشان يفرجني عالبحر؟ صر’خ فيا زي المجـ ـنون وهو بيقولي ما’ت غر’قان، نعم؟! يعني إيه فين أبني؟ “مـؤنس” دا كُنْت بشوفه أبني مش ابن أخويا، دا قالي وأنا جاي هجيبلك عصفورة عشان تر’عاهالي، قفـ ـلت معاه وأنا منها’ر وعمال أعيط مش عارف أسعـ ـف نفسي ولا أصدق اللي أتقال ولا عارف دا حـ ـصل أزاي وأمتى..
بَتَـ ـرَ “جـاد” حديثه بعد أن اضطـ ـربت نبرة صوته وتسا’قطت عبراته على صفحة وجهه بعدما تذكّر كيف كان هذا اليوم عليهم، ومعهُ “يـوسف” الذي كان يستمع لهُ دون أن يتحدث وعبراته تتسا’قط على صفحة وجهه وأكتسـ ـت الحُمـ ـرة عينيه شاعرًا بالأ’لمِ يحتضن صد’ره وبغـ ـصة في حَلّـ ـقِه لا تأبى تركه مسـ ـببةً لهُ أختنا’قًا، فيما ألتزم “جـاد” الصمت قليلًا وهو يبكي بعد أن تذكّر هذا الصغير الذي كان بمثابة الابن بالنسبةِ لهُ..
_وقتها رجعوا بيه ولمَ أتحو’ل للطب الشـ ـرعي عشان يبينوا سـ ـبب الو’فاة وجابوه تاني عشان يتد’فن أنا خدته فحُضني وهو متكـ ـفن مش عارف حتى أشوف وشه، دا كان حبيبي يا جدعان دا كان مبينامش غير فحُضني، حضنته ومش عارف أسيبه هيكون لوحده وهيخا’ف مِن الضـ ـلمة أنا عارف، وقتها “مـؤمن” أ’صّر يكون جنب جدته وجده، بعدها “نسمة” دخلت فمرحلة أكتـ ـئاب لدرجة إنها فاضلها تكـ ـة وتتجـ ـنن واللهِ ما ببا’لغ، و “مـؤمن” بقى ساكت طول الوقت عينيه على باب أوضته مستنيه يخرج جري عليه، واخواته بقوا ساكتين طول الوقت، حتى أبويا مبقاش ياكل ومنعز’ل عننا، وأنا جالي مِن يومها إنهيا’ر عصـ ـبي وبعدها قرروا إني لازم أروح لدكتور نفـ ـسي عشان بقيت زي “نسمة”..
_عدى ٣ سنين وكُل ذكرى لِيه بنتو’جع، فُرا’قه كان صـ ـعب علينا كُلنا يا “يـوسف” أقسم بالله كان حنية الدُّنيا كُلها فيه، لمَ يحس إني مضا’يق ييجي يحضني ويطبطب عليا ويقولي متزنعلش يا “جـاد” أنا بحب أشوفك بتضحك، “مـؤمن” مقالكش عشان هو عارف إنه مش هيقد’ر يحكي التفا’صيل الموضوع صعـ ـب عليه أوي حتى وقتنا دا، مِن ساعتها “نسمة” كر’هت البحـ ـر هو قضـ ـاء ربنا طبعًا منقد’رش نعتر’ض بس هي خدت خـ ـبطة شـ ـديدة أوي على د’ماغها، مِن ساعتها منـ ـعنا المصيف عشان بنفتكره بيه حتى أنا كر’هت البحـ ـر واللهِ، الحمد لله على كُل حال هو فالجنة دلوقتي مع الحبايب ومبسوط جالي مرة فالحلم وكان بيضحك، الحمد لله على كُل حال رضينا والحياة مشيت بس الفُر’اق كان صـ ـعب.
هكذا أنهـ ـى “جـاد” حديثه بأ’سى وهو يُز’يل عبراته عن صفحة وجهه، فيما فعلا هما المثل كذلك وكان “يـوسف” متأ’ثرًا بشـ ـدة بتلك الحا’دثة الفـ ـجة التي أصا’بتهم، وحينها تذكّر صغيرته التي كانت غر’يقةً في د’ماءها بالروضة وكان يركض بها كالمجـ ـنون على قدميه إلى المشفى وكيف كان يشعر بالزُ’عر عليها، تُرى كيف كان حال هذا المسـ ـكين حينها؟.
أطلـ ـق “يـوسف” ز’فيرة قو’ية يُخرج بها مشاعره السـ ـلبية لينظر إلى عمّه و “جـاد” قائلًا بنبرةٍ بها بُحَّةُ البُكاء:
_كويس إني مفا’تحتش “مـؤمن” وسألتك أنتَ، ربنا يرحمه هو مع الحبايب دلوقتي زي ما قولت، أنا حطيت على قبـ ـره ورد زي ما عملت مع أبويا وجدك وجدتك عشان محدش يستغرب يعني هو كدا كدا مش محتاج ما شاء الله الورد حواليه كتير، وأنا مش هقوله حاجة مش عايز أفتـ ـحله جرو’ح بتنز’ف مبتـ ـتلمش.
_ربنا يرحمه ويشفـ ـعلهم، الحمد لله.
هكذا أخـ ـتتم “عـماد” الحديث وألتزموا الصمت مِن جديد هُنَيْهة مِن الوقت، قطـ ـعه رنين هاتف “يـوسف” الذي صدح عا’ليًا يُعلنه عن أتصالٍ هاتفي والذي كان مِن عمّه الأكبر ولذلك أعتدل في جلسته ونظـ ـف حَلّـ ـقُه ثمّ جاوبه بنبرةٍ هادئة وقال:
_مساء الفُل يا غا’لي، أنا بخير الحمد لله أحسن بكتير، لا طبعًا جاي بكرا بإذن الله مفيش حاجة يعني، على ٩ هكون عندك، تمام يا كبير، لا قاعدين معايا شوية، ماشي.
أنهـ ـى “يـوسف” حديثه مع عمّه وترك هاتفه مثلما كان لينظر لهما قائلًا بنبرةٍ هادئة:
_بيسألني هروح الشركة الصبح ولا لا، هنزل مبحبش القعدة دي كدا كدا أنا كويس قولت أنزل وكفاية تأجيل.
_على بركة الله.
هكذا جاوبه “جـاد” بنبرةٍ هادئة ليأتي بعدها صوت أنثو’ي يقـ ـطع هذا الحز’ن الذي خيَّـ ـم عليهم:
_”يـوسف” “بيلا” محتاجاك شوية.
هكذا قالت “كايلا” وهي تقف بالداخل لينظر لها “يـوسف” مانحًا إياها هزَّةٌ صغيرة مِن رأسه ثمّ اسْتَأْذَنَ مِنهم وولج إلى الداخل تاركا إياهم، فيما نظرت هي إلى “جـاد” الذي كان يظهر الحز’نُ على معالم وجهه بوضوح جا’هلةً ما حدث أو ما تـ ـلقاه جعله بهذه الحالة التي تراه بها لمرتها الأولى.
_____________________
<“خـ ـطأٌ صغير قد يُكلف المرء الكثير،
ولَكِنّ قد كلفه هو الكثير مِن ما يَملُكَهُ.”>
منذ أن عاد بها مِن المشفى وهو لا يُفا’رقها لحظةٌ واحدة، يجلس بجوارها على المقعد المجاور لفراشها يُتابعها بعينيه طيلة الوقت حتى أصبحت الساعة الثالثة فجرًا، لا يستطيع النوم، لا يستطيع أن يتركها وحيدة، في المرة السابقة أستطاع اللحا’ق بها هذه المرة لرُبما لا يستطيع، كان الهدوء قائمًا في المكان حتى ولجت “نـورا” إلى الغرفة بخطى هادئة حتى تطـ ـمئن عليها لتجده يجلس مثلما رأته آخر مرة دون أن يتحرك، مستندًا برأسه على المقعد الخـ ـشبي ينظر لها دون أن يرمش لهُ جـ ـفنٌ..
أقتربت مِنهُ بخطى هادئة حتى جاورته، نظرت لهُ رأته شارد الذهن بصره مُـ ـعلقًا عليها، آ’لمها قلبها بشـ ـدة وهي تراه بتلك الحالة الصـ ـعبة التي تراه بها لأول مرة، أبتلـ ـعت غصتها بتروٍ وقالت بنبرةٍ هادئة متسائلة:
_بقت كويسة دلوقتي؟.
لم يُجيبها لتراه مازال كما هو الحال عليهِ ولذلك مدت كفها تضعه على كتفه تشـ ـدد مِن قبـ ـضتها عليهِ تزامنًا مع قولها:
_”حسـن” أنتَ سامعني؟.
استفاق “حسـن” هذه المرة على لمـ ـستها لير’فع رأسه ينظر لها يراها تسأله بعينيها عنها، أطـ ـلق ز’فيرة قو’ية ثمّ أعتدل في جلسته وجاوبها بنبرةٍ هادئة قائلًا:
_بقت كويسة الحمد لله، أحسن بكتير مِن الأول إحنا كُنْا فين وبقينا فين.
أطلـ ـقت ز’فيرة قو’ية تُخرج معها مشاعرها السـ ـلبية قائلة:
_الحمد لله إنها كويسة، خو’فت عليها أوي، أنا هدخل أر’تاح شوية عشان عندي حاجات كتير فالبيت بكرا محتاجة تتعمل أول ما أصحى هعدي عليها أتطـ ـمن إنها بقت أحسن.
وقبل أن ترحل منـ ـعتها يده التي قبـ ـضت على ر’سغها تمـ ـنع رحيلها، ألتفتت هي لهُ تنظر إليهِ دون أن تتحدث لتراه ينهض بهدوءٍ يقف أمامها مباشرةً قائلًا بنبرةٍ هادئة:
_عايز أتكلم معاكي شوية.
دام بينهما الصمت لثوانٍ معدودة ثمّ أعطته موافقتها بهزَّة خـ ـفيفة مِن رأسها دون أن تتحدث، فيما أخذها هو وخرج مِن غرفة والدته مغـ ـلقًا الباب خلفه ليأخذها إلى الشرفة وهي تسير خلفه دون أن تمنـ ـعه حتى خرجا إلى الشرفة ووقفا بمو’اجهة بعضهما، وقد دام الصمتُ بينهما هُنَيْهة مِن الوقت هي تنتظر سماع ما يُريد أن يقوله وهو لا يعلم ماذا يفعل ومِن أين يبدأ، ولَكِنّ قرر أن يترك نفسه تبو’حُ عمَّ بداخلها بدون مقدماتٍ ليبدأ بقوله معتذرًا مِنها:
_أنا آسف على كُل حاجة صدرت مِني الفترة اللي فاتت، آسف على كُل لحظة كانت حلوة وأنا و’حشتها، آسف على كُل مرة ز’عقت فيها بسبب أو بدون سبب وعلى مُعاملتي اللي كانت لا تُطا’ق أنتِ كان معاكي حـ ـق، لمَ قعدت مع نفسي وحطيت نفسي مكانك مستحـ ـملتش، معرفش أنتِ أزاي أستحمـ ـلتيني بجد كُل الفترة دي، كُنْت هاجي أكلمك بس اللي حصـ ـل مع “ثـريا” خلاني مش وا’عي لأي حاجة بتحصـ ـل حواليا، دي حتة مِن قلـ ـبي مد’رتش بنفسي وهي مرمية على الأرض والستات بتحاول تفوقها ولا صرختها بأسمي وهي بتستـ ـغيث بيا، آسف بجد على أي حاجة عملتها وز’علتك مِني أنا كُنْت فلحظة هخـ ـسر واحدة، مكُنْتش عايزهم يكونوا ٢ عندي المو’ت أهوَ’ن مِن إني أخـ ـسر واحدة فيكم، لو ليا خاطر عندك يا “نـورا” سامحيني، أنا بجد مِن ساعتها وأنا مش كويس.
ترقرق الدمع في المُقل بعد أن أنهـ ـى حديثه وقلبه يؤ’لمه بشـ ـدة، ففي الأمس كانت تُهـ ـدده برحيلها، واليوم كادت الأخرى أن ترحل لولا عناية المولى عز وجل وتم إنقا’ذها في الوقت المناسب، لم يكُنْ ليتحـ ـمل رحيل أثنتين، الأمرُ في غاية الصعو’بة بالنسبةِ لهُ، وفي نها’ية المطا’ف لا منزل يخـ ـلو مِن المشـ ـكلات، مِنهم مَن يتعلم مِن أخـ ـطاءه ويُعيد إ’صلاح كُل شيءٍ في لمـ ـح البصر، ومِنهم مَن لا يفعل شيئًا ويُكمل فيما يفعله حتى يخـ ـسر كُل شيءٍ..
وعنهُ فقد أدرك خـ ـطأه مبكرًا ولذلك سرعان ما أصـ ـلح الأمر قبل أن يتطوَّ’ر أكثر مِن ذلك ويخـ ـسر كُل شيءٍ، لا عـ ـيب في الاعتراف بالخـ ـطأ، بل العيـ ـب أن تتما’دى وتُكابر، حياته كانت كفـ ـتين؛ ما بين الماء والنا’ر، وهو في المنتصف هذا يد’فعه إلى هذا وهذا يد’فعه إلى ذاك وهو كالتا’ئه لا يعلم ماذا عليهِ أن يفعل وإيلام ينحا’ز، وعنها فلولا أنها تعلمه لمَ كانت صدقت حديثه ذاك وقالت أنهُ يكذُب، ولأنها كذلك تعلمه جيدًا رأت الصد’ق في عينيه التي لم تكذُب أبدًا..
أبتـ ـلعت غصتها بهدوءٍ وألتزمت الصمت دون أن تتحدث فالاعتراف بالخـ ـطأ لم يكُنْ بكلماتٍ فقط، بل كذلك أفعا’لٌ نَاجِمَةٌ مِن المرء، وهي لا تُريد أن تصفح عنهُ بتلك السهولة، تُريد أن يعلم خـ ـطأه حتى لا يُكرره مجددًا وكلما تذكّر ما فعلته يتراجع عمَّ كان سيفعله، نظرت إليهِ بعد أن ألتزمت الصمت قليلًا وقالت بنبرةٍ هادئة ترد على حديثه:
_الاعتراف بالغـ ـلط مش بكلمتين بس يا “حسـن” والدنيا تمشي، لو كان بالكلام مكانش دا هيكون حالنا، أنا عايزة أفعا’ل يا “حسـن” مش كلمتين تقولهم دلوقتي وتنساهم بكرا، أنا مأ’ثرتش معاك ولا عصـ ـيتك مرة ولا عملت أي حاجة غـ ـلط بالعكس أنا كُنْت كويسة أوي معاك بس أنتَ جيت فجأة أتغيرت مِن ناحيتي ومبقتش طا’يقني حتى أسباب أنا مش عارفة أنا عملت إيه، عارف لو كان الغـ ـلط مِن عندي فالأول كُنْت هقول حـ ـقك، بس أنا مش لاقية عُذ’ر لأفعا’لك معايا وعشان بحبك بضعـ ـف بيني وبين نفسي وبعدين أرجع أقول لا لازم يعرف إني بتجر’ح مش با’ردة ولا معد’ومة المشاعر، أنا شا’يلة حِـ ـمل كبير أنتَ للأسف مش حاسس بيه حتى أقل حاجة بطلبها مِنك بتز’عق وتقولي راجع مِن الشغل تـ ـعبان وأنتِ فين مِن كُل دا هو كُل حاجة أنا، وأنا كُنْت بغـ ـلط عشان بسكوت على كلامك ومبردش عليك وأقولك وأنا كمان زيي زيك متفتكرش إني قعدة ملكة هنا وعندي خد’امين بيخد’موني، بس أنتَ اللي وصلتنا لهنا يا “حسـن” متكونش غـ ـلطان وتغـ ـلَّط اللي قدامك معاك وأنتَ متعرفش عنه حاجة.
فا’ض بها الأمر وأصبحت لا تتحمـ ـل أكثر مِن ذلك، هو مَن بدأ فليتحـ ـمل إذًا ما سيحدث، عا’تبته وأ’لقت اللو’م عليهِ لأنها فقط تُحبه فلا يُعا’تب المرء حبيبُه إلا إذا كان حبيبًا، وهو أمامها ألتزم الصمت ولم يُجيب فحديثها بالكامل صحيح وهو كان المخـ ـطئ منذ البداية، لم يتحدث فكيف سيتحدث وهو المخـ ـطئ هذه المرة..
الأمر أصبح أكثر صعو’بة مِمَّ كان يظن بلا شـ ـك ولذلك نظر لها يقـ ـطع هذا الصمت القائم بينهما بعد هُنَيْهة مِن الوقت قائلًا:
_عندك حـ ـق، كلامك كُله صح، الغـ ـلط كان عندي مِن الأول.
أنهـ ـى حديثه ثمّ تركها وولج إلى الداخل، هذا ما كانت تتو’قعه فماذا ستتو’قع غير ذلك مِنهُ، ظن أن الأمر سينتـ ـهي بكلماتٍ بسيطة وستنسى هي ما حد’ث، كان يجب عليها أن تُصـ ـعبها عليهِ حتى يعلم أن الأمر لم يكُنْ هيـ ـنًا عليها البتة، وعنها فقد شعرت باليأ’س تجاهه ولذلك تركته وذهبت إلى شقتها دون أن تتحدث معهُ وحتى ترى ماذا سيفعل بعد هذه اللحظة؛ هل سيُعا’فر، أم سيفقـ ـد الأمل.
______________________
<“لطالما كان الاحتر’ام منهجًا معروفًا،
وكان الخـ ـبيث لا يعلم شيئًا سوى التبجُـ ـح.”>
الاحتر’ام صفة مكتسبة مِن صفات المرء..
منهـ ـجًا معروفًا يُد’رَّس للصغار قبل الكبار، ولَكِنّ في جهةٌ أخرى لم يعلم العد’و لهُ غا’ية، كُل ما كان يفعله أن يتخذ منهجية التبجُـ ـح ويظُنها شيئًا صـ ـعب تحـ ـقيقه..
كانت تقف في المطبخ تُعد الفطور لهُ كي يذهب إلى عمله كالمعتاد، ولج إليها بعد أن تجهز وأصبح على أتم الاستعداد للذهاب يراها تُعد الفطور ليجاورها في وقفتها ممسكًا بكوب العصير يرتشف مِنهُ القليل قائلًا:
_أنا مش جعان على فكرة، صحيت صليت الفجر وسـ ـخنت الأكل اللي كان فاضل وكلت.
نظرت لهُ بعد أن أستمعت لهُ لتجاوبه بنبرةٍ هادئة:
_هتفضل طول اليوم على لحـ ـم بطـ ـنك يعني مش هتاكل حاجة؟!.
_لو جوعت هجيب أكل، هنزل بدري شوية عن ميعاد شغلي عشان ابو لسا’ن طويل عايزني أوصله الشركة الأول.
هكذا قال “سـراج” مجيبًا إياها بنبرةٍ با’ردة ثمّ أعاد أرتشاف العصير مِن جديد ليصد’ح صوت هاتفه يعلـ ـو بأتصالٍ مِنهُ لينظر “سـراج” إلى المتصل قائلًا بنبرةٍ سا’خرة:
_ابو لسا’ن طويل بنفسه بيكلمني، ياريتني جبت سيرة مليون جنيه أحسن.
أجابها بعدها مبتسم الوجه وهو يقول بنبرةٍ مرحة:
_حبيبي، يا عمّ عيب عليك جاهز طبعًا هو أنا عندي كام “يـوسف” يعني فحياتي غيرك، هجيب العربية مِن الجراچ وأجيلك تكون أنتَ خلـ ـصت … ماشي يا صاحبي سلام.
أنهـ ـى حديثه وأغـ ـلق المكالمة بعدها ونظر إلى “مـها” التي قالت:
_أنتَ بو’شين يا “سـراج” على فكرة.
نظر لها نظرةٍ ذات معنى وجاوبها قائلًا بنبرةٍ سا’خرة:
_أتنـ ـيلي، بعد التهز’يق وقـ ـلة القـ ـيمة بتاعت إمبارح وبتقوليلي بو’شين؟ أومال أخوكي إيه إن شاء الله دا مؤسس النادي.
أنهـ ـى حديثه ثمّ أرتشف ما تبقى في الكوب وتركه ليتركها ويخرج متفـ ـحصًا أغراضه قبل أن يذهب كعادته، فيما خرجت هي لتراه يتفـ ـحص حقيبته لتقول بنبرةٍ هادئة:
_في ملف جوه الأوضة لو يلز’مك فشغل النهاردة.
_لا دا بتاع مشروع تاني.
هكذا جاوبها “سـراج” بعد أن تأكد مِن أغراضه ليُغـ ـلق حقيبته السو’دا’ء مِن جديد ليستقيم في وقفته مرةٍ أخرى ملتفتًا لها ليراها تُلبسهُ نظارته السو’د’اء والتي زا’دته وسامةً لتبتسم وهي تراه في أقصـ ـى مراحله تأ’لقًا لتقترب مِنهُ تُلثم وجنته بقْبّلة هادئة ثمّ قالت بصراحةٍ تا’مة:
_طا’لع حلو بطريقة، يخر’بيت حلاوتك.
نظر لها متفاجئًا بعد أن أستمع إلى مغازلاتها لهُ ليقهقه بخـ ـفةٍ ثمّ أقترب مِنها كذلك يُلثم وَجْنَتَها بقْبّلة هادئة وقال مبتسم الوجه:
_ما أنا هجيبها منين يعني، معايا القمر بنفسه فالبيت.
أرتسمت بسمةٌ وا’سعة على ثَغْرها وهي تنظر لهُ لتعانقه دون أن تتحدث، ليستقبلها هو بترحابٍ محاوطًا إياها بذراعيه ما’سحًا بكفه على خصلاتها ليشعر بها بعد لحظات تشـ ـتم رائحته كما تفعل القطط وهي تبحث عن طعامها ليسألها متعجبًا مِن فعلها قائلًا:
_أنتِ بتعملي إيه يا “مـها”؟.
_ريحة البرفان شـ ـدتني أوي مرة واحدة.
هكذا جاوبته بنبرةٍ هادئة ليز’داد تعجبه أكثر ويجاوبها مستنكرًا:
_مش دا برضوا نفس البرفان اللي مكُنْتيش بطـ ـيقي ر’يحته؟! دلوقتي بقى حلو.
هزَّة صغيرة مِن رأسها كانت إجابتها على حديثه ليزداد تعجبه أكثر ولَكِنّهُ جاوبها بنبرةٍ هادئة وقال:
_طب أنا عايز أمشي دلوقتي عشان أخوكي سا’فل ولسا’نه طويل هيهز’قني على الصبح وأنا بصراحة مش هسكوتله فمعلش همشي دلوقتي ولمَ أجي نشوف الحوار دا مع بعض.
هكذا قال مبتعدًا عنها وهو ينظر لها ليراها تبتسم بعد أن ذكر أخيها لتجاوبه بنبرةٍ هادئة قائلة:
_خلاص روح، وقبل ما تيجي عرفني عشان أجهز الأكل.
وافق على حديثها ثمّ أقترب مِنها يُلثم جبينها بقْبّلة حنونة مودعًا إياها قائلًا:
_خلي بالك مِن نفسك، هخلـ ـص واجيلك على طول ومامتك موجودة النهاردة فالحارة عند طنط “هنـاء” لو أحتاجتيها كلميها تجيلك على طول.
وافقت على حديثه ليأخذ هو أغراضه ثمّ ودعها وخرج مغـ ـلقًا الباب خلفه تاركًا إياها تنظر إلى أثره مبتسمة الوجه بعد أن رحل لتعاود إلى المطبخ حتى ترى ما ينتظرها اليوم.
على الجهة الأخرى.
كانت “بيلا” تقف أمامه وهي تهندم لهُ حُلته الكحـ ـيلة مبتسمة الوجه والسعادة تغمُـ ـر قلبها كلما تذكرت أنهُ أصبح لهُ عمله الخاص بهِ وحياتهما ستسير أخيرًا كما كانا يُريدانها، وعنهُ فكان يُمشط خصلا’ته الشـ ـقراء حتى أنتهـ ـى وقال بنبرةٍ هادئة:
_خلصت خلاص.
نظرت لهُ ثمّ أبتعدت عنهُ قليلًا وهي تنظر إلى هيئته التي خـ ـطفت قلبها لتبتسم برضا قائلة:
_طا’لع زي القمر، أصمالله عليك خـ ـطفت قلبي أكتر.
أبتسم بأتسا’عٍ وهو ينظر لها حتى تحوَّ’لت إلى قهقهاتٍ خـ ـفيفة ليقترب مِنها بخطى هادئة حتى وقف أمامها مرةٍ أخرى وقال بنبرةٍ هادئة مبتسم الوجه:
_طول عُمري قمر يا حبيبتي مش محتاجة يعني.
ر’مته نظرةٍ ذات معنى لتراه ينظر لها بطر’ف عينه مبتسمًا ثمّ غَمَزَ بِعينهُ اليُسر’ى بعبـ ـثٍ لتتسـ ـع بسمتها على ثَغْرها لتقول بنبرةٍ هادئة:
_ماشي يا أستاذ “يـوسف” … حـ ـقك تشوف نفسك برضوا.
_بس في فرق، أشوف نفسي عالكُل بس على الحلويات دي مقد’رش.
أنهـ ـى حديثه المتخا’بث بعد أن أقترب مِنها وحاوطها بذراعيه وهو ينظر لها ليراها تضحك بخفةٍ ثمّ نظرت لهُ بوجهٍ مبتسم وقالت:
_عايزاك تروح تشوف دُنيتك إيه وتيجي تحكيلي اللي حصـ ـل مِن أول ما روحت لحد ما مشيت، مش هتناز’ل خلي بالك.
_عيـ ـب عليكي أول واحدة هتعرف كُل حاجة طبعًا وأنا أقد’ر أقولك لا برضوا.
هكذا رد عليها “يـوسف” بوجهٍ مبتسم ثمّ أقترب مِنها يُلثم وَجْنَتَها بقْبّلة حنونة وابتعد عنها ينظر إلى إنعكا’س صورته في المرآة قبل أن يرحل ليعلـ ـو رنين هاتفه في هذه اللحظة بأتصالٍ مِن صديقه ولذلك جاوبه وهو يتجه إلى خارج الغرفة قائلًا:
_نازلك أهو.
هكذا قال ثمّ أنهـ ـى معها مكالمته ليبدأ بإرتداء حذ’اءه بعدما جلس على المقعد، اقتربت حبيبة الفؤاد مِنهُ في هذه اللحظة تقف بجواره تُلثم وَجْنَتَهُ بقْبّلة حنونة ثمّ نظرت لهُ بوجهٍ مبتسم، فيما أنهـ ـى هو واعتدل في جلستهِ وهو ينظر لها مبتسم الوجه ليضمها إلى أحضانه يُلثم وَجْنَتَها الصغيرة بحنوٍ تزامنًا مع قوله:
_إيه رأيك فيا حلو مش كدا؟.
نظرت لهُ “ليان” وأعطته جوابها بهزَّة صغيرة مِن رأسها تزامنًا مع قولها الهادئ:
_حلو أوي.
عاد يُلثم وَجْنَتَها مِن جديد بحنوٍ وقال بنبرةٍ هادئة:
_حبيبة قلبي.
تركها بعدها ونهض ناظرًا إلى زوجته التي كانت تقف أمامه وهي تحـ ـمل صغيرتها الأخرى تهدهدها ليقترب مِنها ناظرًا إلى صغيرته التي ما إن رأته ضحكت لتتسـ ـع بسمتهُ على ثَغْره ثمّ أقترب مِنها يُلثم وَجْنَتَها الصغيرة بحنوٍ كذلك ثمّ وَدَع زوجته وصغيرته وخرج تاركًا إياهن يتطـ ـلعن إلى أثره، فيما كان “سـراج” يقف مستندًا على سيارته السو’د’اء ذات الما’ركة الشهيرة منتظرًا صديقه ليـ ـلمح نظرات “فتـوح” لهُ بطر’ف عينه ولَكِنّ كعادته لم يكترث لهُ، خرج “يـوسف” مِن بهو البِنْا’ية ثمّ أقترب مِن صديقه قائلًا بمشا’كسة:
_يا سيدي يا سيدي على الفر’دة الحلوة لمَ تتلـ ـمع، ولا كأنك ر’جُل أعما’ل.
أبتسم لهُ “سـراج” ثمّ اعتدل في وقفتهِ مستقبلًا إياه بعناقٍ هادئ تزامنًا مع قوله الهادئ:
_يا عمّ مش هنيجي حاجة جنب عظمتك.
أبتعـ ـد عنهُ “يـوسف” ناظرًا إليهِ بوجهٍ مبتسم وقال:
_طبعًا مش مهـ ـم لو أتأخرت على شغلك عشان أنا أهـ ـم.
_طبعًا يا فنان ولمَ أطر’د مِن الشغل وميبقاش معايا فلوس مترجعش تقولي أختي وأنتَ مجو’عها وبتاع.
هكذا جاوبه “سـراج” ببساطةٍ وهو ينظر لهُ ليبتسم “يـوسف” لهُ ويُجاوبه بنبرةٍ با’ردة وهو يقول:
_عادي هشغلك سواقي الخاص يا “سـراج” مش حوار يعني.
ر’ماه “سـراج” نظرةٍ ذات معنى ثمّ جاوبه بنبرةٍ حا’دة قائلًا:
_تصدق يالا أنتَ مبيطمـ ـرش فيك حاجة؟ أنا مش عارف مستحـ ـملك أزاي لحد دلوقتي.
_نفس السؤال واللهِ بسأله لنفسي وسبحان الله الإجابة واضحة.
هكذا رد عليهِ “يـوسف” بنبرةٍ با’ردة وهو ير’ميه بنظراتٍ مستفـ ـزة أثا’رت غضـ ـب “سـراج” الذي لم يُجيبه، وقبل أن يتحرك “يـوسف” رأى “فتـوح” جالسًا أمام محله الخاص وهو ير’شقه نظراتٍ مستنكرة ويعلم بأنه يتسأل بداخله عن ما يحدث ولذلك وقبل أن يجاور رفيقه أتجه أولًا إلى “فتـوح” أسفـ ـل نظرات رفيقه المستنكرة والذي قال بنبرةٍ جا’دة:
_”يـوسف” أرجع بكفايانا مشا’كل لحد هنا.
لم يهتـ ـم لهُ “يـوسف” وأكمل سيره تجاه “فتـوح” الذي شعر بالقلـ ـق تجاهه وتأ’هبت حوا’سه لِمَ سيقوله “يـوسف” أو سيفعله فهو يعلم أنهُ مخـ ـتل في بعض الأحيان ويُفاجئ الجميع، نهض “حد’يدة” وهو ينظر لهُ على أتم الاستعداد لأي فعلٍ سيصدُ’ر مِن الطر’ف الآخر، وقف “يـوسف” أمام “فتـوح” وهو ينظر لهُ ثمّ دَ’فَعَ “حد’يدة” إلى الخلف بيده أجلسه مكانه مرةٍ أخرى أسفـ ـل نظرات التر’قُب مِن “سـراج” و “فتـوح”، أنحـ ـنى “يـوسف” بجذ’عه العلـ ـوي قليلًا تجاه “فتـوح” وهو ينظر لهُ قائلًا بنبرةٍ مستفـ ـزة وبسمةٌ صفـ ـراء:
_عارف إن فضو’لك وا’كلك أوي أول ما شوفتني متشيك كدا ولابس بدلة ومظبط نفسي ولا كأني مِن ذوا’ت الطبقة الرا’قية، هو دا أنا ودا أنتَ يا “فتـوح” مفيش حاجة أتغيرت، بس هرضي فضو’لك دا برضوا ميصحـ ـش أسيـ ـب د’ماغك توديك وتجيبك كدا، عندك أغنية السلطان بتاعت “محمد رمضان”، أسمع أول دقيقة فيها وهتلاقي الإجابة على سؤالك فيها.
هكذا أنهـ ـى “يـوسف” حديثه بوجهٍ مبتسم وهو ينظر لهُ ثمّ ر’مق الآخر القابع بجواره لثوانٍ معدودة وقال:
_وأنتَ أسمعها معاه عشان ترضي فضو’لك وتعرف حجـ ـمك قدامي.
هكذا أختتم “يـوسف” حديثه ثمّ أستقام في وقفتهِ مهندمًا سترته الكحـ ـيلة بشمو’خٍ ووقا’ر ثمّ غَمَزَ لهما بِعينُه اليُسر’ى بعبـ ـثٍ وتركهما ور’حل عائدًا إلى رفيقه الذي كان ينظر لهُ نظرةٍ ذات معنى مشيرًا لهُ تجاه السيارة، فيما نظر “حديدة” إلى “فتـوح” بهدوءٍ دون أن يتحدث ثمّ ألقـ ـى نظرةٍ أخرى على “يـوسف” الذي جاور “سـراج” بداخل السيارة والذي بدوره تحرك راحلًا مِن الحارة بهدوءٍ..
نظر “حديدة” مِن جديد إلى “فتـوح” الذي أخرج هاتفه وبحث عن الموسيقى بكُل سذا’جة أسـ ـفل نظرات الآخر التي كانت تُتابعه بكُل هدوءٍ، ثوانٍ وقام بتشغيلها يستمع إلى أول دقيقة مثلما أخبره “يـوسف” ومعهُ “حد’يدة” الذي أستمع إلى كلمات الموسيقى التي لم تفعل شيئًا سوى أنها أثا’رت غضـ ـب الاثنين بلا شـ ـك بسـ ـبب كلماتها التي أشعـ ـلت فتيـ ـلتهما وجعلتهما يستـ ـشيطا غضـ ـبًا..
على الجهة المجاورة.
نظر “يـوسف” إلى “سـراج” الذي كان يجاوره يقود سيارته والذي قال بنبرةٍ هادئة متسائلًا:
_أنتَ صحيح روحت لـ “فتـوح” تقوله إيه؟.
_ولا حاجة، بسلم عليه مش أكتر أصله وحشني.
هكذا جاء جواب “يـوسف” المستـ ـفز على حديث رفيقه الذي طا’لعه مستنكرًا وهو يُردد خلفه قائلًا باستنكارٍ شـ ـديد:
_عفوًا؟! بتسلم عليه عشان وَ’حَشَك؟ “يـوسف” أنتَ مجـ ـنون؟!.
_حاجة زي كدا، متقلـ ـقش مأجر’متش يعني.
هكذا جاوبه “يـوسف” مبتسم الوجه جعل الشـ ـكوك تز’داد أكثر بداخل رفيقه الذي أطلـ ـق ز’فيرة قو’ية وقال بنبرةٍ هادئة:
_يا خو’في مِنك يا “يـوسف”.
نظر “يـوسف” إلى هاتفه بهدوءٍ ليرى اليوم الموافق السابع والعشرون مِن شهر يناير ليقول:
_ياربي أنا أزاي نسيت.
ر’ماه “سـراج” نظرةٍ ذات معنى وقال بنبرةٍ هادئة:
_في إيه.
_النهاردة عيد جوازنا أنا و “بيلا”.
تفاجئ “سـراج” الذي لا’نت معالم وجهه وقال بوجهٍ مبتسم ونبرةٍ هادئة:
_يا عيني يا عيني على الجميل لمَ ينسى أهم يوم، دا الحمد لله إنها منكد’تش عليك عالصبح وإلا زمانك كُنْت ناز’ل قالب بو’زك فوشي وأتنكـ ـدت معاك.
أطلـ ـق “يـوسف” ز’فيرة قو’ية وجاوبه بنبرةٍ هادئة:
_عايز وأنا راجع أفكر هعمل إيه، أجيبلها إيه وأنا راجع عايز أفاجئها.
_ما تفاجئها.
هكذا جاوبه “سـراج” بنبرةٍ با’ردة دون أن ينظر إليهِ لير’مقه “يـوسف” نظرةٍ حا’دة ليراه يبتسم وهو يتجـ ـنب النظر لهُ ليطـ ـبق “يـوسف” على أسنانه قائلًا بنبرةٍ حا’دة:
_دا أنتَ عيل مستـ ـفز بجد مش معقول.
ضحك “سـراج” حينما حـ ـقق مبتـ ـغاه ليرى الضيـ ـق يحتل معالم وجه رفيقه الذي تجـ ـنب النظر إليهِ لير’ميه بنظراتٍ خـ ـبيثة وهو يشاكـ ـسه قائلًا:
_مالك يا’ض قَـ ـلَبت وشك كدا ليه، بدوقك مِن اللي بتدوقهوني شوية عشان تحـ ـس على د’مك.
_لولا إنك مو’صلني كُنْت قلـ ـيت أد’بي عليك.
هكذا جاوبه “يـوسف” مغتا’ظًا وهو ينظر لهُ ليجاوبه “سـراج” بنبرةٍ با’ردة قائلًا:
_مصا’لح يا عيني، عندي أستعداد أر’ميك على جنب وتاخدلك توكتوك عادي يلا وبالمرة تتقلـ ـب مرة فحياتك.
_يا صبر أيوب، أنا استا’هل ضر’ب الجز’مة إني أسـ ـتعنت بيك أصلًا أكمني ممعيش رُ’خصة، بس وماله مِن بكرا أطـ ـلعلي واحدة ولا الحو’جة لأشـ ـكالك.
_أحسن حاجة على الأ’قل مش هنزل كُل يوم عن ميعادي بساعة ونص.
هكذا رد “سـراج” وهو لا يعلم للاستسلا’م معهُ غا’ية، ر’ماه بنظرةٍ خـ ـبيثة بطر’ف عينه بسعادةٍ وهو يراه يلتز’م الصمت أمامه لمرته الأولى وهذا أسعد قـ ـلبه بلا شـ ـك، وبعد مرور الوقت وصلوا إلى وجهتهم ليصف “سـراج” سيارته أسـ ـفل بِنْا’ية الشركة وهو ينظر إلى وجهتها متفاجئًا ليذكُر ربه بداخلهِ وهو يقول:
_الله أكبر، ولمَ هي حلوة مِن بره كدا أومال مِن جوه إيه يابا، حاجة عظمة اللهم بارك يعني.
تركه “يـوسف” وخرج مِن السيارة ليلحـ ـق بهِ “سـراج” الذي أغـ ـلق سيارته واقترب مِن رفيقه حتى جاوره قائلًا:
_”يـوسف” أنتَ طـ ـلعت ابن أكابر، ضـ ـمنت مستقبلك خلاص واتطـ ـمنت عليك.
نظر لهُ “يـوسف” بهدوءٍ في هذه اللحظة ليقول بنبرةٍ هادئة:
_هتطـ ـلع معايا، ميصحـ ـش تيجي ومتطـ ـلعش يعني.
_بس أعمل حسابك رُبعاية وهمشي عشان شُغلي بعـ ـيد عنك لسه فيها ساعة لوحدها.
هكذا جاوبه “سـراج” بنبرةٍ هادئة ليوافقه “يـوسف” حديثه ثمّ أخذه وولجا إلى داخل هذا الحصـ ـن المنيـ ـع الذي يُعبر عن ما’لكيه، اقتربا مِن الموظفة التي فور أن رأتهما أبتسمت وقالت بنبرةٍ هادئة:
_أستاذ “يـوسف المحمدي” مش كدا؟.
هزَّة صغيرة مِن رأسه وبسمةٌ خـ ـفيفة أرتسمت على ثَغْره كانت الإجابة على سؤالها لتقول هي بنبرةٍ هادئة:
_الأستاذ “راضي” و “عـماد” مستنيين حضرتك فالمكتب.
_تمام شكرًا ليكي.
هكذا جاوبها “يـوسف” مبتسم الوجه ثمّ تحرك رفقة رفيقه إلى المكتب وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_شايف الذ’وق والاحترا’م.
_طب ما تقول لنفسك.
هكذا جاء رد “سـراج” الذي أشعـ ـل فتيـ ـلة غـ ـضب “يـوسف” بلا شـ ـك لينظر لهُ قائلًا بنبرةٍ حا’دة:
_أنتَ في إيه عالصبح يالا أنتَ متر’بصلي عمال ترد عليا مِن الصبح وأنا ساكتلك ومش عايز أتكلم.
أبتسم “سـراج” بعد أن وقفا أمام باب المكتب طا’رقًا إياه قائلًا:
_أنا فعلًا متر’بصلك النهاردة يا “يـوسف” أنتَ مكد’بتش، باخد حـ ـقي مِن نسيت عملت إيه إمبارح ولا تحب أفكر معالي البيه؟.
جاوبه “يـوسف” تزامنًا مع فتـ ـح الباب مِن قِبَل “عـماد” الذي رأى غضـ ـب ابن أخيه الذي رد على رفيقه بقوله الغا’ضب:
_ما هو مش معنى إني ساكتلك إني مش عارف أرد على أهلك أخر’صك يعني.
_إيه يا جدعان مالكم بتشـ ـدوا فشعور بعض ليه عالصبح؟.
هكذا جاء رد “عـماد” الذي نظر لهما يسألهما حتى يفهم ما حدث بالضبط بينهما فهو يرى سعادة “سـراج” وغضـ ـب “يـوسف” والاثنين متنا’قضين في منظوره ليأتي قول “يـوسف” المتهو’ر موجهًا حديثه إلى عمّه:
_وأنتَ مال…
بَتَـ ـرَ حديثه قبل أن يُكمل قوله حينما رأى عمّه هو المتسأل ليُطـ ـلق ز’فيرة قو’ية ثمّ أشار تجاه هذا المستـ ـفز في منظوره قائلًا:
_دا اللي بتو’صوه عليا؟ دا حا’لف يمو’تني النهاردة عمال يحر’ق فد’مي مِن الصبح وأنا ساكت مبتكلمش.
_ما أنتَ تبقى بجـ ـح بصراحة لو رديت.
هكذا رد “سـراج” مِن جديد والذي ولج إلى الداخل سريعًا يحتـ ـمي بـ “عـماد” حينما رأى صديقه يحاول الإمسا’ك بهِ ليقف الثالث بينهما قائلًا:
_بس أنتوا الـ ٢ قـ ـط وفا’ر مش كدا فهموني إيه اللي حصـ ـل مش فاهم مِنكم حاجة بجد.
_يا عمّي شـ ـيله مِن قدامي بدل ما أد’غدغه.
هكذا قال “يـوسف” بنبرةٍ مفـ ـعمة بالغـ ـضب المكبو’ت وهو ينظر إلى رفيقه الذي ضحك وهو يرى صديقه يكاد يقـ ـتله حـ ـيًا، ألتفت “عـماد” إلى “سـراج” ينظر لهُ وهو ينهـ ـره قائلًا:
_ما تتـ ـلم يا “سـراج” بقى شوية مش معقول كدا.
أنهـ ـى حديثه ومِن ثمّ غَمَزَ لهُ بِعينهُ اليُسر’ى وأكمل بنبرةٍ حا’دة:
_أعمل حساب إني واقف بحا’ميك يا أخي مش معقولة كدا يعني.
ر’مى “يـوسف” عمّه نظرةٍ ذات معنى وهو يقول مستنكرًا:
_نعم بقى؟!.
ألتفت “عـماد” لهُ وهو يقف أمامه مد’افعًا عن “سـراج” قائلًا:
_أنتَ مسمعتنيش ولا إيه آه واقف بحا’ميه.
أخرج “سـراج” محفظته في هذه اللحظة ثمّ أخرج مِنها ورقة نقدية وقال بعد أن أعطاها إلى “عـماد”:
_أدي ٢٠٠ عشان وقفت معايا وقفة جد’عنة، و ٢٠٠ عشان لمَ أجيلك المرة الجاية تحا’ميني بقى.
_أنتَ بتر’شيه يا معد’وم التر’بية والاخلا’ق !!.
هكذا صا’ح “يـوسف” وهو ينهـ ـر صديقه الذي نظر لهُ وقال بنبرةٍ حا’دة:
_آه إيه عندك أعتر’اض، وبعدين أنا مش بر’شيه أنا بكافئه عشان خد صفي ومنحا’زش ليك.
نظر “يـوسف” إلى عمّه الأكبر مذهولًا ثمّ قال مذهولًا:
_ما تقول حاجة يا عمّي ساكت ليه دول بيشطـ ـوني لبعض قدامك.
_قال يعني مفكش لسا’ن تجيب حـ ـقك؟! دا أنتَ لسا’نك أطول مِن برج إيڤل يا “يـوسف” أنا اللي هقولك تعمل إيه؟.
هكذا رد “راضـي” على ابن أخيه الذي نظر مِن جديد إلى عمّه “عـماد” وقبل أن يتحدث بحرفٍ واحد رأى “جـاد” يجاوره وهو يَمُد كفه بكوب العصير المثلج قائلًا بوجهٍ مبتسم:
_كوباية اللمون دي تلزمك يا معـ ـلم دلوقتي.
نظر لهُ “يـوسف” نظرةٍ ذات معنى ثمّ أخذها مِنهُ وأرتشفها أسفـ ـل نظرات “سـراج” الذي قال مبتسم الوجه:
_أشرب أشرب، ما أنتَ مش هتدفع بقى.
أبتسم “جـاد” وحاول كَبْـ ـتَ ضحكاته بداخلهِ وهو يرى ابن عمّه يُبعـ ـد الكوب عن فمهِ قائلًا بنبرةٍ حا’قدة:
_أخـ ـفى مِن وشي بدل ما أحـ ـميك بالكوباية اللي فإيدي دي يا “سـراج” أحسنلك.
_دا أخرك معروفة قال يعني أنتَ بيهمـ ـك حد.
وقبل أن يرد عليهِ ويعاود الشجا’ر يشتـ ـعل بينهما قطـ ـعهما مـ ـجيء “عامـر” الذي وقف على الجهة اليُسر’ى مِن “يـوسف” وحاوط كتفيه بذراعه قائلًا بوجهٍ مبتسم:
_كويس إن المعـ ـلم بتاعنا هنا، بدلتك القمر دي هتلزمك الخميس الجاي عشان خطوبتي أنا و “أمل”.
أنهـ ـى حديثه وهو ينظر لهُ مبتسم الوجه ليرى استنكا’ر الآخر فقد أنذ’ره عقله بإتحا’دهم جميعًا عليهِ اليوم جميعهم يتحدثون سويًا في آنٍ واحد وهو لا يستطيع استيعا’ب ما يحدث حوله حتى جاء “عامـر” وأضاف لمـ ـسته الخاصة ليجعل عقـ ـله يتوقف عن استيعا’ب ما يحدث، وعن هذا “العامـر” فقد كان صا’دقًا بعد أن جالس أبيها ليلة أمس وحددوا الميعاد الأخير لتلك الخطبة، فهذا ما كان ينتظره، لحظته المنتظرة.
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية جعفر البلطجي 3)