روايات

رواية في حي الزمالك الفصل الثاني و الأربعون 42 بقلم ايمان عادل

رواية في حي الزمالك الفصل الثاني و الأربعون 42 بقلم ايمان عادل

رواية في حي الزمالك البارت الثاني و الأربعون

رواية في حي الزمالك الجزء الثاني و الأبعون

رواية في حي الزمالك الحلقة الثاني و الأربعون

مَذَاق الْحَلَال ✨🦋🤎

“أنا محتاج أتكلم معاكي دلوقتي حالًا!”

“يا أستاذ مينفعش كده بعد إذنك اتفضل الدكتورة معاها حالة.”

“سيبيه أحنا خلصنا خلاص، اتفضل استريح يا أنس ودقيقة وهكون معاك.” اومئ لها أنس وذهب ليجلس على الأريكة البيضاء الموضوعة في أحد الأركان بينما كانت تتحدث هي مع الجالسة أمامها ولكن أنس لم يستمع إلى حديثهم فلم يدري إن كانت مريضة أم مندوبة من أحدى شركات الأدوية.

“أنس.. تعالى هنا اتفضل.” أخرجته من شروده وهي تُشير إليه بأن يجلس أمامها.

“أنا أسف على قلة الذوق بتاعتي.. دلوقتي والمرة اللي فاتت لما مشيت فجاءة، أنا بس كنت متضايق من نفسي عشان حكيت وأنا كنت واخد عهد على نفسي أني محكيش لحد حاجة.. بس أنا رجعت اتحطيت في ضغط تاني وفي أحداث كتير بتحصل في حياتي وحاسس أني نفسيًا مش مستعد لكل ده..”

تحدث أنس بحرج شديد ولكنه حديثة كان صادق، كانت تنظر نحوه بملامح مرتخية وهدوء شديد قبل أن تُردف بنبرة مُتفهمة:

“سمعاك يا أنس اتفضل، ابدأ من النقطة اللي تحب تتكلم عنها أو حاسس أنها عملالك ضغط.”

“علاقتي أنا وأختي متوترة.. عرفت إن فريد أتوفى من أكتر من شهرين وأني خبيت عليها، كانت حابسه نفسها في أوضتها ومش عايزة تكلمني.. قبلت تخرج تكلم رحيم وميا اللي حكتلك عنهم قبل كده ومقبلتش تكلمني.. و.. البنت، اللي.. أنا محكتش عنها صح؟”

كان حديث أنس مُبعثر دلالة على التشوش والزحام داخل عقله، ابتسم الطبيبة رغمًا عنها خاصة حينما ذكر ‘الفتاة’، ابتسم هو الآخر وهو يُعيد خصلات شعره الطويلة نحو الخلف قبل أن يحمحم وهو يعتدل في جلسته ثم يُردف:

“دي بنت.. قابلتها صدفة أكتر من مرة، كل مرة كان القدر بيجمعنا بطريقة غريبة.. أنا بطبيعتي مش شخص رومانسي ومليش في النحنحة زي رحيم بس في حاجة في البنت دي مخلياني بتصرف تصرفات مش عقلانية تمامًا، المهم أنها كانت مخطوبة وده كان واقف عقبة في الطريق بس دلوقتي هي سابت خطيبها وبقالنا أسبوعين تقريبًا بنتكلم Chatting ‘دردشة’.. أنا عارف أن ده غلط بس أنا مبسوط..”

“كويس أنك مدرك أن ده مش صح، البنت مشاعرها مضطربة جدًا دلوقتي بكل تأكيد ومحتاجة دعم كبير، وجودك جنبها في فترة زي دي ممكن يخلق عندها وهم أنها بتحبك أو على الأقل عندها مشاعر ناحيتك.”

تفوهت الطبيبة بالكلام ذاته الذي تفوهت به أروى في محاولة لنصح أنس لكنه لم يقتنع، أمتعض وجه أنس على الفور وهو يُعقب على حديث الطبيبة مستنكرًا:

“وهم؟”

“طبعًا يا أنس وهم، هي مش مؤهلة إطلاقًا في فترة زي دي أنها تدخل في علاقة جديدة.. وأنتَ؛ شايف أنك مؤهل أنك تدخل في علاقة؟”

“في دي عندك حق.. ده السبب اللي خلاني أجي هنا من الأول.. أنا حاسس أني محتاج للحب، الأمان، الإهتمام بس لازم في المقابل أكون أنا كمان قادر أوفر للطرف التاني نفس الحاجات دي وأكتر.. مش عايز أكون أناني أو toxic ‘سام/سيء’.”

“طيب عايز تقول حاجة تاني ولا أكتفيت؟” كانت في تلك اللحظة تستخدم الطبيبة طريقة أشبه بالطعم الذي يُلقيه الصائد للأسماك، هي تُريد أن تحث أنس على الحديث والإنفتاح على ذكرياته وماضيه أكثر دون أن تطلب ذلك بشكل مباشر وقد نجحت بالفعل حيث قرر هو أن يقطع الصمت الذي طغى عالمكان بعد سؤاله وهو يُردف:

“لما كنت صغير…”

أخذ أنس يروي بعد ذكرياته الحزينة المشوبة بقليل من الفرح وقد كان الجزء الإيجابي يقتصر على وجود أروى، رحيم وميا لكن أي شيء غير ذلك كان يُعتبر جحيم بالنسبة إليه.

وعلى الرغم من أنه لم يكن يتعرض للتنمر في المدرسة ولم يكن فاشلًا من الناحية التعليمية بل كان متفوقًا على أقرانه إلا أنه كان يكره الذهاب إلى المدرسة فمهما فعل لم يرَ أحدٍ قط أنه شخص جيد كفاية.. وبعد المزيد من الحديث والكثير من العبرات المنهمرة انتهت الجلسة وقد وعد أنس الطبيبة بزيارة قادمة، كان على وشك الرحيل لكنه توقف ليسألها سؤالًا كان يشغل باله كثيرًا:

“هو أنا هحتاج أخد أدوية؟”

“المرة الجاية هنحدد.” أومئ لها أنس بلطف وقام بشكرها قبل أن يرحل عائدًا للمنزل ولكن قبل أن يفعل مر على أحدى متاجر الحلوى الفاخرة وابتاع كل الأنواع التي تعشقها شقيقته غير مُباليًا بالفاتورة الضخمة.

“أنا جيت!!” صاح أنس قاطعًا الهدوء المُريب المخيم عالمكان لينتفض جميعهم، لم يهتم أنس كثيرًا وذهب نحو أروى والتي عانقته عناق قوي وهي تضربه في كتفه بخفة من شدة قلقها عليه.

“قلقت عليك أنت كنت فين؟”

“كنت بجيبلك دول، ها هتصالحيني بقى ولا أيه؟” ضحكة كبيرة صدرت من أروى ليقترب ود منها ويُقبل جبينها وهو يمنحها الحلوى.

“خلاص هصالحك بس بشرط.”

“شروطك أوامر.. هو أنا عندي كام أروى يعني؟”

“عايزين نزور مامي.” همست أروى وهي تُضيق عيناها بقلق من ردة فعل أنس، اقترب رحيم من أنس فهو لا يضمن ردة فعل صديقه الأحمق.. ساد الصمت لبرهة قبل أن يزفر أنس بضيق ومن ثثم يسأل ساخرًا:

“مامي مين؟ أمنا؟ لا ثواني.. أنتِ قصدك عالست اللي رمتنا لفريد وسابته يطلع عقده النفسية علينا؟ ودي هنزورها ليه إن شاء الله؟”

“أنس اتكلم بأدب من فضلك، لو أنتَ مش عايز تزورها أنا هزورها.”

“لا يا أروى، على جثتي الكلام ده.. مش هسمحلك ومش هسمح لأي حد يدخل الست دي حياتنا تاني أنتِ سامعة؟ وأنتَ يا ررحيم لو فكرت تخليها تشوفها من ورايا اعتبر إن ملكش صاحب.”

صاح أنس مُستنكرًا علي شقيقته، كانت نبرتة حادة للدرجة التي جعلت أروى ترمش عدة مرات متتالية.. ترك أنس الحلوى التي ابتاعها من أجلها وكل أغراضه ما عدا هاتفه واتجه نحو الطابق العلوي.

كانت علامات الحزن ظاهرة على وجه أروى.. زم رحيم شفتيه قبل أن يجلس على الأريكة بالقرب من كرسي أروى ليُخبرها الآتي:

“معلش يا أروى متزعليش.. أنس برضوا ليه عذره.. أنا عارف إن أنتوا الإتنين عيشتوا في بيت واحد وإن أنتوا الإتنين Traumatized ‘مصدوم/تعرض لصدمة’ لكن أنس عانى جدًا في الفترة اللي كنتِ فيها في Coma ‘غيبوبة’.”

“أنا عارفة.. أنا مش زعلانة منه، أنا زعلانة من الوضع اللي أحنا فيه.. كان نفسي نكون أسرة طبيعية..”

“للأسف يا أروى دي مش حاجة أحنا بنقدر نختارها..” أومئت أروى بحزن مؤيدة كلام رحيم وهي تتنهد بحزن وبداخلها تُفكر بأن أمامها مشوارٍ طويل كي تُعيد أنس إلى شخصيته القديمة، السعيدة المتسامحة.. المرحة.. لكن لا بأس فهي ستحاول مرارٍا حتى تنجح.

بعد مرور أسبوعين آخرين كانت أفنان بدأت تُجهز بشكلًا فعلي لليوم، ذهبت لمصممة الأزياء التي وكلها رحيم بتخصيص فستانًا من أجل أفنان وواحدٍ من أجل ميرال وإن كان أنس قد اتفق مع رحيم بشكلٍ سري فيما بينهم أن يتكفل هو بثمن ثوب ميرال.

“ميرال أنتِ سمعاني؟ هتختاري أيه في الآخر؟ حاسه النبيتي هيبقى حلو أوي عليكي.”

“ها؟ اه سمعاكِ.. النبيتي طبعًا..” أجابت ميرال بشرودٍ تام وهي غير مُدركة عما تتحدث أفنان من الأساس، رمقتها الأخيرة بشك وهي تُضيق عيناها بينما تسألها بفضول:

“هو أنتِ بتعملي أيه؟”

“مفيش أنس كان بياخد رأي في بدلته وكنت باخد رأيه في لون الفستان.” تمتمت ميرال لتتقوس شفتي أفنان لبرهة قبل أن تُردف بحنق طفولي:

“يعني أنا بقالي أسبوعين دايخة معاكي على لون وقماشة للفستان وفي الآخر رايحة تسألي الواد التنح ده؟! عليه العوض.”

“يا بنتي أيه ده مش كده طبعًا، ده هو بس عدى قدامه صورة فستان يعني فقال يقترح عليا.”

بررت ميرال وهي تضحك ضحكة مشوبة بالتوتر والخجل ربما؟ أخذت أفنان نفسًا عميق قبل أن تجلس أمام ميرال وهي تُردف بجدية:

“تمام.. مش شايفة أنك المفروض تخفي كلام مع أنس شوية؟”

“عندك حق.. هو بس أنتِ عارفة عشان تجهيزات كتب الكتاب.. وهو بينط مع رحيم في كل حتة بنروحها كلنا..”

مجددًا حاولت ميرال التبرير والتملص من المحادثة التي تُجريها أفنان لكن الأخيرة لم تكن ساذجة لذا قررت أن تُفصح عن ما تريد قوله بشكلٍ مباشر:

“ميرال حبيبتي، أوعي توقعي في نفس الغلط مرتين.. مينفعش نتعافى من علاقة بعلاقة تانية.”

“أنتِ قصدك على مين؟ أنس.. لا يا بنتي أحنا صحاب مش أكتر.. أو أقل كمان من كده.” بتلعثم شديد مقترن بضحكات مُتفرقة تنم عن التوتر قالت ميرال، رمقتها أفنان وهي تُضيق عينيها بعدم اقتناع قبل أن تُردف:

“ماشي يا ميرال، أنا قولت إن من واجبي كأخت أني انصحك وأنتِ وشوقك بقى.” أومئت ميرال بعبوس وهي تُغلق الهاتف وتضعه جانبًا.

“ميرال بقولك أيه معلش دوري عالسلسلة الدهب بتاعتي كده في درج التسريحة، السلسلة اللي ماما كانت جايبهالي هدية في ثانوي.”

“حاضر.” تمتمت ميرال بهدوء وشرعت تُنفذ طلب شقيقتها.

وبينما كانت تبحث وجدت عن طريق المصادفة ذلك السلسال الفضي الذي ابتاعه نوح من أجلها وقد وُضع إلى جانبه صورة تجمعهم حينما كانوا في السابعة من عمرهم تقريبًا وقد خبئت ميرال تلك الصورة في السابق لا تدرِ كيف وقعت أمامها الآن، شعرت برجفة تحتل كيانها وآلم شديد في صدرها وكأنها طُعنت بألف خنجر.. بأنامل مُرتعشة أمسكت بالسلسال تتحسسه، رائحة نوح لم تُفارقه بعد..

“ها لاقيتيها؟”

“بتكلميني؟ لا لسه..” نبست ميرال بتلعثم لتعقد أفنان حاجبيها وتقترب منها لترى ما الخطب، فهي تستطيع تميز نبرة ميرال الحزينة والمتوترة بسهولة كبيرة.

“بقولك أيه رحيم كان عايز يعزمني أنا وأنتِ عالغداء.. وكمان هيجيب أروى وميا.. وأنس طبعًا، بيقول عايزنا كلنا نتعرف على بعض وكده، أيه رأيك؟”

“مش حاسة أني قادرة أقابل حد..”

“خلاص اتفقنا هخليه يقابلني ونعدي عليكي ناخدك بعد الشغل.”

تمتمت أفنان غير مبالية بما تقوله ميرال لتقلب الآخرى عيناها وهي تعلم أنه لا مفر، طالما أن أفنان قد وضعت خطة فلا مجال لتغيرها.. وبالفعل تمت المقابلة ومر اليوم بسلام وإن كانت ميرال حاولت تجاهل أنس قدر الإمكان لكي لا يسئ أحد الجالسين فهمها، وقد مر اليوم بخير.

ومجددًا.. مرت الأيام بسرعة لا تصدق حتى وجدت أفنان نفسها داخل حجرة في أحد الفنادق والتي صمم رحيم خصيصًا أن يتم حجزها من أجلها، تجلس على الكرسي ذو اللون الذهبي الفاخر وأمامها عشرات من مستحضرات التجميل بينما تقوم خبيرة التجميل بوضع مساحيق التجميل من أجلها ومساعدتها في ارتداء الوشاح خاصتها.

بعد أن انتهت أفنان من التجهيزات وقفت ترمق نفسها في المرآة الطويلة والتي تعكس مظهرها كاملًا، ثوب باللون الأبيض المنطفئ ‘Off white’، كان يُشبه خاصة الأميرات.. كان مصنوعًا من قماش أبيض غير مطرز مكسو من الأعلى بقماش ‘الشيفون’ ومزين بقطع صغيرة من ‘اللولي’ موضوع على قطعة من الستان في منصف الجزء العلوي من الفستان، كانت مساحيق التجميل بالكاد ظاهرة فأفنان لم تُحبذ الألوان الثقيلة وبالنسبة لرحيم فلم يكن ليمانع أن تكون على هيئتها الطبيعية تمامًا.

“ميرال أيه رأيك؟” سألت أفنان بتوتر وهي تتبادل النظرات مع ميرال من خلال انعكاس كليهما في المرآة تقترب منها ميرال وتضمها من الخلف وهي تهمس بنبرة اختلطت بالبكاء:

“زي القمر يا روح قلبي، أجمل عروسة شافتها عيني.”

“يا جماعة حد يبعد ميرال دي هتخليني اعيط.” أردفت أفنان بمزاح موجهة حديثها إلى ميا، أروى ووالدتها ليقهقه الجميع ومن تلتفت أفنان لتأخذ شقيقتها في عناقٍ لطيف.

“ميرال ممكن تشوفي لو رحيم وأنس جهزوا عشان منتأخرش وكده، عايزين نلحق الشمس عشان ال Photosession ‘جلسة التصوير’.”

أومئت ميرال بتوتر خاصة حينما ذكرت أفنان اسم أنس في وجود شقيقته، حاولت ميرال تلطيف الأجواء والتخلص من الحرج وهي تطلب من أروى أن تهاتف أنس وتخبرهم بأنهم مستعدين للذهاب.

مرت عشرة دقائق قبل أن يطرق أحدهم باب الجناح، يتوتر الجميع ظنًا منهم أنه رحيم لكنه كان والد أفنان.

“بسم الله ما شاء الله، قمر يا أفنان ربنا يحميكي يا حبيبتي.. أحلى عروسة في الدنيا.” تمتم والد أفنان وهو يتأمل مظهر ابنته، يُكفكف دموعه بمنديل ورقي قبل أن تهرول هي نحوه لتضمه في عناقًا دافئ.

“مع إنك لسه هتقعدي معايا شوية بس برضوا عقلي وقلبي مش متقبلين فكرة أنك كبرتي وخلاص هتبعدي عن حضني، العمر جري بيا أوي”

“يا حبيبي ربنا يديلك الصحة وطول العمر ويخليك لينا، أنت هتفضل الأصل وأول راجل في حياتي وأول حب في حياتي يا بابا.”

كان المشهد مؤثر للغاية، اغرورقت عين الجميع بالدموع وبشكل خاص أروى التي شعرت بغصة في حلقها فهي لن تسمع كلمات حُلوة كتلك من والدها ولن يُقبل رأسها بهذا الحنان وبالطبع لن تحصل على عناقٍ دافئ كهذا.. والسبب في ذلك لا يرجع فقط لكون والدها لم يعد على قيد الحياة فلو كان كذلك ما كان الوضع ليتغير لأن شخصًا كفريد لا يستحق لقب أب من الأساس، حمحمت أروى وهي تحاول أن تمنع دموعها من الإنهمار بينما تُردف بنبرة مرحة:

“مش كفاية عياط بقى ولا أيه؟ مش نشوف العرسان فين.. قصدي العريس..رحيم.” تعمدت أروى قول ذلك وهي تغمز بإحدى عينيها نحو ميرال لتضحك الآخرى بتوتر وخجل.. تمر دقيقة واحدة ثم يسمعوا طرقات على الباب مجددًا.

تتوتر أفنان على الفور وينظر نحوها والدها بينما يُطمئنها قائلًا:

“هروح افتح الباب.”

ذهب والدها بخطوات بطيئة مُزيدًا الحماس في الأجواء، ينفتح الباب ببطء ليظهر من خلفه رحيم بقامته المهيبة وخصلات شعره المُصففة بعناية، بدلة مهندمة أبرزت جسده الممشوق، كانت البذلة الرسمية خاصته سوداء تمامًا كلون لحيته..

زينت ابتسامة واسعة ثغرة لا تخلو من التوتر والإشتياق في الوقت ذاته، تلمع عيناه بقوة فور رؤيته لأفنان ويشعر بأن قلبه على وشك أن يُغادر صدره من فرط الحماس..

يقترب منها رغبة في التخلص من تلك المسافات التي تفصل بينهم ومن شدة شوقة كان على وشك أن يضمها لولا أن هرول أنس سريعًا يضع ذراعه حاجزًا أمام رحيم الذي كان أشبه بالمسحور، صُبغ وجه كلًا من أفنان ورحيم باللون الأحمر بينما رمق أنس رحيم بطرف عيناه قبل يتمتم ساخرًا:

“ثواني بس يا برنس بتعمل أيه؟! استنى أما تكتبوا الأول، مستعجل على أيه؟”

“صح.. أنا أسف.. بس أفي.. قصدي لما شوفتك يعني..” تلعثم رحيم بشدة وهو يضحك بخجل بعد أن رفض عقله تكوين جملة ذات معنى، منح أفنان باقة الزهور لتأخذها منه بيد مُرتجفة وهي تبتسم كاشفة عن أسنانها البيضاء تمامًا كحبات اللؤلؤ، بعيدًا عن ذلك الناب الذي قرر أن ينحني على السن المجاور له والذي لطالما كرهت أفنان شكله ولكن بالنسبة لرحيم كانت علامة مميزة في مظهر أفنان.

أما عن أفنان فكانت تُطالع رحيم بُحب حقيقي، قدرٍ من الحب لم تكن تعلم يومًا بوجوده.. لقد كانت تظن أن الحب خُدعة، مشاعر ساذجة لا وجود لها على أرض الواقع بل هي من صنع كُتاب الروايات وصانعي الأفلام ولكنها اليوم وفي تلك اللحظة تحديدًا أدركت صدق كلام الذين سبقوها في الغوص في بحار الحب والولع.. فهي الآن على وشك أن تمنح كل شيء تملكه ويخصها من أجل أن تبقى بجانب ذلك الشاب الذي اختاره قلبها..

بعد بضع دقائق توجه الجميع إلى السيارات كي يذهبوا إلى المسجد الذي سيتم فيه عقد القران، من شدة السعادة لم تُدرك أفنان ما يحدث من حولها حتى وجدت نفسها تجلس علي ذلك الكُرسي المُزين بالقماش الذهبي اللامع وإلى جانبها تصميمات لطيفة من الزهور والجميع يجلس أمامها وكل عالمها إلى جانبها.. رحيم، يجلس إلى جانبها بينما يقوم بالتوقيع على عقد الزواج..

لقد وضع رقمًا خرافي كمؤخر صداق، صُعق الجميع من الرقم الموضوع في العقد والذي لم يكن يعلمه والد أفنان من الأساس! نظرت أفنان نحو رحيم بدهشة لكنه منحها نظرة بمعنى ‘لا تهتمي’ انتهت جميع الإجراءات حتى جاءت اللحظة الحاسمة، اللحظة الألطف من مراسم عقد القران وهي الدعاء للزوجين..

“بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير.” أردف ‘المأذون’ ليردد الجميع خلفه ثلاثة مرات ومن تنطلق أصوات الزغاريد المغلفة بدموع السعادة من أفنان وأسرتها.

استقامت أفنان من مقعدها ورحيم فعل المثل في الوقت ذاته قبل أن يفتح ذراعيه بكل اشتياق وحنان لتهرول أفنان وتضمه في عناق قوي، لحظة وقف عندها الزمن وتلاشت كل الموجودات ولم يبقى أحدٍ غيرها وغيره.. تشبثت به بقوة وكأنه أكثر الأشياء ثباتًا في هذا العالم، يتنفس عطرها وتستمد قوتها من رجفة يديه، تنهمر دموع كلًا منهما فرحًا بتحقيق الحلم.. لم يكن رحيم يدري يومًا أن للحلال مذاقًا خاصًا كهذا.. مذاقًا حلوًا كهذا.. مذاقًا لا يوجد مثيل له.

اقترب والد أفنان ليفصل العناق بغيرة أبًا يرى صغيرته تبتعد عن أحضانه، ألتفتت أفنان نحوه لتضم والدها في عناقًا لطيف تفصله أفنان بعد مدة وتُقبل يد والدها ومن ثم رأسه وتنتقل بعدها إلى والدتها ويليها شقيقتها ومن ثم تتبادل أفنان العناق وتتلقى المباركة من العديد من الأشخاص لا تذكرهم هي، بل بالأحرى لم تكن تشعر بما يدور حولها فالسعادة قد سيطرت على كامل عقلها فأصبحت لا ترى شيء سوى رحيم.. وبعض الفراشات المتطايرة من حولهم ونسمات الهواء العليلة التي تؤنسنا في أيام الصيف الحارة..

“أنا مش قادر أصدق.. Finally you are mine ‘أخيرًا، أنتِ لي’، أنا عمري ما كنت سعيد كده في حياتي.”

“أنا بحبك أوي يا رحيم أوي بجد!” أردفت أفنان بكل شجاعة، فلا شيء خاطئ في الصراخ بمدى حبها لرحيم الآن فهي أصبحت زوجته وبشكلًا رسمي، اقترب منها رحيم ليُقبل جبينها بلطف ثم يضمها إلى صدره مجددًا بينما يتلقى التهنئة من الجميع.

“خف نحنحة شوية يا عم ممس.”

“لا إله إلا الله، ده جوزي يا أنس رسمي ها جوزي، يعني يعمل اللي هو عايزه اطلع أنت منها.”

“وهو حد وجهلك كلام يا بت أنتِ؟ ما تلم مراتك يا عم رحيم!”

“لا ميغوركش الجزمة اللي بتلمع والفستان اللي بعشروميت ألف جنية أنا اساسًا تربية حواري!”

“بس أنتوا الإتنين! وبعدين أيه يا أنس ما أنا كتبت الكتاب أهو اعمل أيه أكتر من كده؟”

“تراعي مشاعري إني سينجل بائس، لحد أما ربنا يكرمني وأكمل نص ديني.” تفوه أنس ممازحًا وحينما نطق جملته الأخيرة تلك وجه نظره نحو ميرال وهو يغمز بإحدى عينيه.

عند النظر نظرة واسعة حول المكان، كان الكل سعيدًا بغض النظر عن نظرات الحقد التي رمقت بها سميرة ابنة أخيها وزوجها؛ الغيظ يحرقها لأن ابنة شقيقها استطاعت أن تجعل شابًا كهذا يقع في حبها ويتزوجها بينما ابنتها والتي أكثر جمالًا من وجهة نظرها ومالًا لم تستطع أن تفعل المثل، لكن ريماس كانت مشاعرها عكس والدتها تمامًا فهي شعرت بالفرحة من أجل أفنان بعيدًا عن الغيرة الأنثوية لكنها كانت في المجمل سعيدة.

وفي تلك اللحظات كان نوح واقفًا عند المدخل، على مسافة بعيدة من الجميع وقف يُراقب أفنان، نظراتها لرحيم، السعادة الحقيقة المُرتسمة على وجهها.. عناقها الأول لرحيم وهو يُلثم جبهتها بقبلة رقية، الحب الظاهر من خلال عيناها ورجفة يدها.. ومن ثم تقع عيناه على ميرال التي بدت بحالًا أفضل من دونه بالرغم من التعاسة التي بدت داخل عيناها لكنه يعلم جيدًا أنه بالرغم من الآلم أن ما فعلته كان صحيحًا، بتركه وحيدًا ذليلًا فهو لم يستحق قط واحدة منهم.. يكره نوح الإعتراف بذلك لكنها الحقيقة، لقد خسر كلتيهما بغبائة..

لمح أنس يقترب من ميرال ويمنحها واحدة من الشيكولاتة التي يتم توزيعها، يثرثر بكلمة أو اثنتين فتقهقه هي بقوة حتى تُغلق عيناها، يضم نوح قبضته بإستياء وينوي الذهاب للشجار لكنه سرعان ما يتذكر أنه لم تعد خاصته بعد الآن، يشعر بغصة في حلقه وآلم في رأسه.. وشعور بالتيه يحتل كيانه.

“نوح؟ مش أنتَ نوح اللي كان خطيب ميرال؟”

أخرج نوح من شرودة صوت فتاة لا يعرفها لكنه يذكر أنه رأها من قبل، انتفض نوح تلقائيًا ونظر نحوه نظرة خاطفة لم يلمح فيها سوى خصلات شعرها المصففة بعناية وثوبها اللطيف، توتر على الفور من كونها تعرفت عليه فهو لا يريد أن يعرف أحد بوجوده هنا.. أجابها سريعًا مُردفًا:

“اه أنا… عن إذنك…” هرب نوح على الفور قبل أن يكتشف أحد وجوده بينما وقفت هي تراقبه في حيرة، فلما فزع لتلك الدرجة؟ فحتى وإن كانت ميرال قد انفصلت عنه فهو سيبقى فردًا من أفراد عائلتها شأت أم أبت، هكذا كانت تُفكر الفتاة.

بالعودة إلى أفنان ورحيم اقتربت والدة رحيم بسخطٍ واضح وابتسامة لا تخلو من الغرور وهي تهنئ أفنان، بالطبع انتقلت لأفنان مشاعر سلبية وهي ترى تعابير وجه والدة زوجها.

“خلاص بقيتي أفنان البكري رسمي، مبروك عرفتي تسيطري عليه وتنفذي اللي في دماغك.”

“أنا أفنان أحمد، وهفضل طول عمري أفنان أحمد أنا مش من عائلة البكري يا طنط.” لم تتفوه والدة رحيم بكلمة آخرى بل نظرت إلى أفنان من الأعلى للأسفل ومن ثم ابتعدت عنها وذهبت بحثًا عن زوجها.

“حبيبي في حاجة؟”

“لا مفيش طنط كانت بتباركلي.”

“مامي؟ ربنا يستر.. زعلتك طيب؟”

“متشغلش بالك.. تعالى نتصور مع العائلة عشان نلحق ال Photosession ‘جلسة التصوير’.”

“حاضر.”

تمتم رحيم وذهب كلاهما لإلتقاط بعض الصور وأثناء فعلهم ذلك اقترب من أفنان ورحيم أحدى أقارب والدها وابنها والتي لم تستطع أفنان قط أن تفهم قرابة تلك المرأة منهم لكنها كانت تراها أحيانًا في المناسبات الكبرى كتلك المناسبة على سبيل المثال، بعد أن هنئت أفنان اقترب ابنها والذي كان يبدو في الثلاثين من عمره تقريبًا أو ربما أكبر قليلٍا من ذلك، مد يده ليصافح أفنان مباركًا لها لكن رحيم مد يده بدلًا منها وهو يضغط على يد ذلك الشاب بإمتعاض واضح حتى برزت عظام فكه، حاولت أفنان كتم ضحكاتها وكاد الموقف أن يمر بسلام لولا أن قرر ذلك الشاب المدعو تامر أن يزيد الطين بلة وهو يُردف:

“ما شاء الله كبرتي وبقيتِ عروسة قمر يا أفنان، اللي يشوفك دلوقتي ميشوفكيش وأنتِ…”

“لا لا معلش ثانية واحدة؟ بقيت عروسة أيه؟ أنت سامع بتقول أيه ولا الحر آثر عليك ولا أيه ده؟”

“خلاص يا رحيم معلش مش قصده..”

“مالك يا عريس ما تروق دي زي أختي الصغيرة يعني..” أردف ممازحًا رحيم بطريقة سمجة ليضم رحيم قبضة يده بقوة بينما يحاول الحفاظ على هدوء أعصابة بقدر الإمكان بينما يقول:

“قدامك 3 ثواني تمشي من قدامي بدل ما أخلي وشك والأسفلت حاجة واحدة.”

كانت نبرة رحيم ونظراته مُرعبة إلى حدٍ كبير ليبتعد ذلك الشاب من أمامهم على الفور، رمقه رحيم وهو يرحل قبل أن يُطالع أفنان بغيرة واضحة وهو يسألها بنفاذ صبر مُردفًا:

“مين ده أصلًا وبيقول عليكي قمر بصفته مين؟ وكنتِ ناوية تمدي ايدك تسلمي عليه؟ والله؟ ده أنا كنت بقف جنبك على بعد 10 متر!”

“خلاص بقى يا رحيم معلش حقك عليا، وبعدين ده تامر ده آخر مرة شوفته وأنا في ثانوية عامة باين.”

“ايوا أيه يعني؟ هو ثانوي ده كنتِ طفلة يعني ما أنت كنتِ كبيرة!”

“خلاص بقى هنقضي كتب الكتاب بنتخانق عشان واحد معرفش يقربلنا أيه اساسًا؟!” علقت أفنان مستنكرة بنبرة لا تخلو من السخرية وهي تقهقه على وجه رحيم الذي ما يزال عابسًا، جذبته أفنان من ذراعه وتوجهت نحو أنس وميرال.

بمجرد أن انتهى الإحتفال ذهب هو وأفنان لجلسة التصوير وللمرة الأول استطاع رحيم أن يضم أفنان أثناء إلتقاط الصور، يُقبل جبينها ويُلثم يدها بقبلات رقيقة كذلك.. كانت الصور غاية في اللطف، شاركهم أنس وميرال في صورة أو اثنتين حيث كانت تقف ميرال إلى جانب أفنان وأنس إلى جانب رحيم.

“ممكن أتصور معاكوا؟” سألت أروى بلطف ليومئ الجميع وهم يشجعوها على القدوم، بالطبع لم تستطع أروى النهوض بمفردها لذا هرول نحوها أنس وميرال ليساعدوها على النهوض.. يحاوط أنس خصر شقيقته بلطف ولكن بقوة كافية في الوقت ذاته لكي لا تسقط بينما أمسكت ميرال بذراعها برقة.

شهرًا مر على زواج رحيم وأفنان وها هي أفنان عادت إلى الجامعة لكي تُنهي عامها الأخير في كلية الصيدلة، أما عن ميرال فوجدت فرصة عمل في مكانًا أفضل وبراتب أعلى، مازالت ميرال تتحدث إلا أنس ولكن في حضور رحيم وأفنان وأما بالنسبة للمراسلات فلقد أخبرت أباها بأن أنس يراسلها فهي لم ترد تكرار ما حدث مع أفنان سابقًا.

وفي صباح أحد الأيام كان أنس جالسًا برفقة رحيم بينما يتناولون طعام الإفطار، كان الأنس يثرثر حول ميرال كما اعتاد أن يفعل الأسابيع الماضية لكنه في كل مرة لم يكن يتحدث براحة تامة وكان يُخفي معظم التفاصيل لكن هذه المرة إفرغ ما في جعبته وكان ذلك نتيجة تحدث ميرال عن نوح مجددًا وعن قدر الحب التي كانت تكنه من أجلهومما أصاب غيظ أنس وجعله لا يعي ماذا يقول.

“أنا بجد مش قادر أصدق ازاي نوح ده انسان حقير كده.. لا وبجح مش بس دمر ثقة ميرال بنفسها وحسسها أنها قليلة ومتتحبش مهما عاملت لا ده رايح البجح يقول لأفنان أنه بي…”

“لا لا ثواني.. رايح يقول لأفنان أنه ب.. أيه؟” سأل رحيم بإرتياب، ليبتلع أنس ما في فمه بصعوبة قبل أن يسأله:

“هي أفنان نسيت تحكيلك ولا أيه؟”

“هو في حاجة كان المفروض تحكيهالي؟”

“معرفش أنا.. أنا مليش دعوة يا عم مدخلنيش في تفاصيل..”

“اخلص يا أنس!!”

“نوح قال لأفنان أنه بيحبها.” سمع رحيم تلك الجملة وكان بإمكان أن أنس يرى الشرار يتطاير من عيناه.

بخطوات سريعة غادر رحيم المكان متجهًا إلى أفنان في الجامعة… كان من السهل أن يعبر إلى الداخل ولكنه استغرق بعض الوقت في البحث عنها واخيرًا وجدًا تجلس على أحدى المقاعد برفقة اثنتين من زملائها الفتيات وفتى واحد.

“صباح الخير، أفنان تعالي من فضلك محتاجين نتكلم ضروري..” تمتم رحيم بنبرة رسمية وبمجرد أن رأته أفنان ابتسمت ابتسامة واسعة وهي تُرحب بيه قائلة:

“رحيم؟ أيه المفاجأة الحلوة دي؟”

“يلا يا أفنان من فضلك بسرعة.” أختفت ابتسامة أفنان على الفور حينما تخللت جملته تلك أذنها، شعرت بإنقباضة في قلبها.. رحيم لا يبدو بخير وهي لا تعرف السبب..

استأذن رحيم من أصدقائها وسحبها برفق بعيدًا عنهم متجهًا نحو سيارته، قاد رحيم إلى خارج الجامعة متجهًا إلى أقرب مقهى.. ساد الصمت في المكان حتى توقف رحيم إلى جانب المقهى لكن قبل أن يغادر كلاهما السيارة سألته أفنان الآتي:

“في أيه أنا مش فاهمة حاجة؟” لم يُجيبها رحيم بل أجاب على سؤالها بآخر بنبرة جادة مُردفًا:

“نوح قالك انه بيحبك؟” هربت الدماء من وجه افنان بينما كان رحيم على العكس تماما فلقد كان وجهه محتقنا بالدماء من شدة الغضب.

“انت مين اللي قالك.. مين اللي قال..”

“ردي عليا! نوح قالك أنه بيحبك؟” كانت هذه المرة الأولى تقريبًا التي يعلو فيها صوت رحيم، انتفضت أفنان قليلًا قبل أن تبتلع الغصة التي في حلقها ثم تطلب منه بهدوء الآتي:

“ممكن متعليش صوتك يا رحيم؟ الموضوع أصلًا مش مستاهل كل ده.”

اتسعت أعين رحيم فور سماعه لجملة أفنان، رمقها بحدة بطرف عيناه وهو يسأل مستنكرًا قولها:

“مش مستاهل؟ واحد بيقول لمراتي انه بيحبها ده موضوع مش مستاهل!”

“مكنتش لسه مراتك! وأنا ضربته وهزقته وعملت اللازم وعلاقتنا اتقطعت بيهم.”

“اتقطعت؟ الواطي كان موجود في كتب الكتاب بتاعنا أنتِ بتقولي ايه؟! وبعدين مكنتيش مراتي بس كنتِ خطيبتي ولا هو عادي يقولك أنه بيحبك وأنتِ مخطوبة!”

“رحيم من فضلك ده مش أسلوب حوار! وبعدين أنا مقولتش أنه عادي أنا قولتلك هزقته أنت اللي مش عايز تقتنع.. وبعدين نوح مين اللي كان في كتب الكتاب؟ نوح مجاش أصلًا!”

“حوار؟ أنا مش فاهم برود الأعصاب اللي أنتِ فيه ده؟ ولا يا أفنان نوح جيه ومشي أنا شوفته ومردتش أعلق بحاجة عشان خاطر ميرال كفاية اللي هي فيه.”

كان هذا رد رحيم على الجزء الأول من حديث أفنان والذي جعله استياءه يزداد حيث أنها لم تصدقه حينما أخبرها بأن نوح كان هناك أثناء مراسم عقد القران، ساد الصمت لبرهة قبل أن يُتابع رحيم بنبرة أكثر غضبًا قائلًا:

“وبعدين أنا بقى عايز افهم هو المفروض أنتِ تغيري وتتعصبي وتفقدي أعصابك وتقلي أدبك عليا لما تشوفي بنت معايا وأنا مش من حقي أدي أي رد فعل لما أعرف إن واحد بيقولك أنه بيحبك؟ ده اللي هو ازاي يعني؟ مع العلم أني عمري ما غلطت فيكي يا أفنان!”

بصق رحيم كلماته بعصبية شديدة دون أن يُدرك ماذا يقول، لم يشعر رحيم بهذا القدر من الإستياء والغضب من قبل… هو لم يعرف قط الشعور الحقيقي للغيرة، ربما كان يغير في علاقاته السابقة لكن الأمر مُختلفًا الآن فهي ليست مُجرد فتاة يكن لها المشاعر بل هي زوجتة وحب حياته!

“أنا قليلة الأدب يا رحيم؟” سألت أفنان ليزفر هو بضيق شاعرًا بالذنب تجاه ما قاله لكنه لم ينبس ببنت شفه، تجمعت الدموع في عين أفنان دون إرادة منها وهي تفتح باب السيارة وتغادرها، يلحق بها رحيم على الفور وهو يردف:

“اركبي العربية يا أأفنان العربية من فضلك.”

“مش عايزة، هاخد تاكسي.”

“أفنان بقولك اركبي لو سمحتِ، بلاش فضايح من فضلك.” تمتم رحيم بصوتٍ منخفض طالبًا منها العودة إلى السيارة بأدب مراعيًا وجودهم في الشارع،
توجهت أفنان إلى السيارة بإستياء شديد.

تدلف إلى الداخل وتقوم بصفع الباب بقوة متعمدة إثارة غيظ رحيم، رمقها بحدة وهو يعيد خصلات شعره المبعثرة نحو الخلف ثم يقود السيارة متجهًا إلى منزل والديها.

“مساء الخير يا عمو.”

“مساء الخير يا رحيم يا ابني، مالكوا في أيه؟”

“أنا وأفنان شدينا مع بعض شوية..”

أجاب رحيم بأدب وبإختصار شديد فهو لا يريد أن يتدخل أي شخص بينه وبين أفنان، عقد والد أفنان حاجبيه قبل أن يسأل بإستياء:

“يا ستار يارب أنتوا لحقتوا يا ولاد؟ شكلكوا اتحسدتوا.”

“ولا حسد ولا حاجة رحيم هو اللي بيحب يكبر المواضيع ويعمل حوار من مفيش.”

“أفنان! عيب كده اتكلمي مع جوزك بأدب!” كانت المرة الأولى التي تتعرض فيها أفنان للتوبيخ أمام أحد، ولم يكن أي أحد بل كان رحيم! شعرت أفنان بوجهها يشتعل من الحمرة، تشعر بالدموع تتجمع في عيناها.. لم تكن لتبكي من أجل ما حدث مع رحيم لكن التعرض للنهر من والدها؟ هذا سببًا كافيًا لقضاء الليلة في البكاء.

“خلاص يا عمو مفيش حاجة، أنا كده اطمنت إن أفنان معاكوا وهروح..”

“كتر خيرك يا ابني، معلش خدها على أد عقلها ما أنت أكيد عارف هي بتتطلع وتنزل على مفيش وكمان متقلقش أنا هشد ودنها عشان مينفعش تتكلم بالإسلوب ده.”

“متزعلهاش يا Uncle من فضلك.. حتى لو هتتكلم معاها متزعلهاش، أنا عارف إن أفنان مش قصدها بس حضرتك عارف يعني مفيش اتنين مش بيحصل بينهم خلاف، أنا هستأذن بقى عشان الشغل.”

“عليك نور يا ابني.. إذنك معاك يا حبيبي اتفضل.”

غادر رحيم المنزل بهدوء ليتنهد والد أفنان بضيق، لم يمر غير مدة قصيرة منذ عقد القران وقد حدث الكثير من الجدال بين أفنان ورحيم، استقام والد أفنان من مقعده وتوجه إلى حجرتها إلا أنه وكما توقع وجدها نائمة.. وسيلة التعبير عن الحزن خاصتها.

عاد رحيم إلى منزله بعد أن فرغ من القيام ببعض الأعمال الضرورية، كان الضيق واضحًا على وجهه، بمجرد أن دلف إلى داخل المنزل وجد والدته في استقباله.. اقترب رحيم بهدوء وألقى التحية على والدته لكنها لم ترد التحية بل اقتربت منه وهي تضع وجه رحيم بين يديها بلطف بينما تسأله بقلق حقيقي:

“مالك يا رحيم؟ You look so sad ‘تبدو حزينًا للغاية’.”

“مفيش يا مامي أنا كويس.. كنت بوصل أفنان البيت وكان ورايا شغل كتير.. I am just exhausted don’t worry ‘أنا مرهق فقط لا تقلقِ’.”

حاول رحيم أن يُخفي الأمر لكن لم يكن من الصعب على والدته أن تكتشف أو تتوقع السبب الحقيقي لحزن وضيق ابنها الوحيد، ابتعدت نحو الخلف خطوتين وهي تسأله بحنق بينما تعقد ذراعيها أمام صدرها:

“طبعًا الهانم زعلتك صح؟ I told you hundred times she is not the right girl for you ‘لقد أخبرتك مئات المرات أنها ليست الفتاة المناسبة لك/ من أجلك’.”

“مامي هو حضرتك شايفة إن وضعي يسمح أني اسمع كلام زي ده دلوقتي؟”

“ما هو عشان كده، لازم نتكلم عشان أنتَ مش مبسوط معاها.. علاقة فاشلة!”

“عشان خلاف واحد حكمتي على علاقتنا بالفشل؟ مامي بعد إذنك أنا بجد مُرهق جدًا ومش شايف قدامي ومعنديش أي طاقة للجدال، عن إذنك.”

أردف رحيم بإستياء شديد ومن استأذن والدته بأدب متجهًا إلى غرفته عله يحظى ببعض الهدوء والسكينة ولو أن هدوء المكان لن يؤثر كثيرًا على الضجيج والصخب في رأسه.. لا يعلم كيف أصبحت علاقته بأفنان تسير على هذا النحو.

بعد مرور يومان استيقظت أفنان والتي كانت تنوي أن تبعث برسالة إلى رحيم لتحاول إصلاح ما حدث وبينما كانت تبحث عن محادثة رحيم على تطبيق ‘واتس أب’ ولكن قبل أن تفعل جاءها إشعار بأن رحيم قد نشر حالة على تطبيق شهير للصور، قامت أفنان بفتح الحالة بفضول شديد لتجد صورة لرحيم برفقة فتاة لا تعرفها ولكن من ملامحها يبدو أنها مصرية، مصرية من الطبقة المخملية تمامًا كرحيم.

كان على ما يبدو من مظهر المكان حولهم أنهم يجلسون في مقهى ما، وفي الجزء السفلي من الصورة كُتبت العبارة الآتية:

“حديث لطيف مع صديقي المُقرب ‘Nice talk with my bestiee’.”

شاهدت أفنان بأعين تستشيط غضبًا الحالة التي قام رحيم بإعادة نشرها والتي أشارت إليه فيها تلك الفتاة التي تُدعي ريم، والتي تأكدت أفنان أنها حقًا لا تعرفها ولم تراها من قبل، حتى أنها لم تكن حاضرة احتفال عقد القران.

قامت أفنان بالرد على تلك الحالة برسالة مقتضبة تطلب من رحيم أن يمر ليأخذها من الجامعة ليتناولوا الغداء سويًا في أي مطعم قريب من الجامعة، بمجرد أن قرأ رحيم الرسالة أدرك بأنه هناك شجار على وشك أن ينشب بينهم، فا بالطبع أفنان لن تجعل أمر تلك الصورة يمر بسلام بالرغم من أنه لا يرى أي شيء خاطئ في الأمر.

بعد ساعة ونصف تقريبًا كانت أفنان تجلس داخل المقهى مع رحيم وبعد جدل استمر لعشرة دقائق كررت أفنان سؤالها مستنكرة:

“ايوا يعني مين دي عشان تحكيلها.”

“قولتلك صاحبتي، أحنا صحاب يا أفي صحاب! كانت معايا في الجامعة برا بس هي مصرية عادي.. كنا قريبين من بعض قابلتها صدفة وقعدنا أتكلمنا شوية فين المشكلة؟”

كان رحيم يتحدث بهدوء أقرب إلى البرود مما جعل شعور أفنان بالغيرة والغضب يزداد أضعافًا مضاعفة.

“هو أنت مش بتصاحب غير بنات بس؟ مبتعرفش تتعامل مع رجالة يعني؟”

تفوهت أفنان بحنق دون أن تعي ماذا تقول، حينما أدركت أن جملتها الأخيرة تحمل بعض الإهانة قضمت على شفتيها وكادت أن تنبس بشيء ما لكن رحيم سبقها وهو يُردف بضيق حقيقي:

“بعيدًا عن العك اللي أنتِ بتقوليه، أفنان أنتِ لازم تقدري إن تربيتي وحياتي وكل حاجة غيرك وأنا بجد بحاول اتغير واعمل كل حاجة كويسة عشان أسعدك بس أنتِ مش شايفة ده ومفيش حاجة بترضيكِ.”

“طالما بتعمل الحاجة بس عشان ترضيني يبقى عمرك ما هتتغير! لازم يبقى التغير نابع من جواك وتبقى مُدرك إن عندك مشكلة وعيوب ومحتاجة تتغير أو إنك بتعمل حاجة حرام أو غلط مثلًا ومحتاج تعدلها عشانك مش عشاني.”

“وأنتِ مش شايفة إن في حاجات محتاجة تعدليها برضوا؟ ولا المفروض إن أنا بس اللي اتغير؟ أنا بس اللي احاول عشان العلاقة تنجح؟!”

“رحيم هو أنت شايف إن احنا هنقدر نكمل مع بعض؟”

كان قلب افنان ينفطر وهي تنطق بتلك الكلمات، لكن ذلك لا يقارن بما حدث في داخلها حينما ذم رحيم شفتيه وصمت دون أن يصرخ بنعم يمكننا، ساد الصمت لبرهة ولم ينبس احد ببنت شفة ولكن قررت أفنان أن تتشجع وتأخذ الخطوة الأولى بأن تحاول خلع خاتم الزواج من يدها لكن يد رحيم الحنونة تقترب منها وهي تمنعها بلطف من فعل ذلك وهو يهمس بصوته الرخيم:

“أفنان i think we need a break ‘أعتقد بأننا بحاجة إلى هدنة/راحة’.”

أومئت موافقة على ما قاله وهي تنهض من الكرسي خاصتها ببطء وهي تشعر بثقل على كاهلها وكأن العالم كله يجثو فوقها، ساد الصمت طوال الطريق بينما كان رحيم يقود إلى منزل أفنان، عادت أفنان إلى المنزل في هدوء تام.. لم تنبس بحرفًا واحد بل اتجهت إلى حجرتها وبدلت ثيابها وغاصت في نومٍ عميق دون أن تذرف دمعة واحدة، وكانت هذه طريقة أفنان في التعبير عن الحزن منذ أن كانت صغيرة.. صمت تام على عكس الصخب المُعتاد والخلود للنوم دون أن تبكي.

في صباح اليوم التالي، انقضت ميرال على سرير أفنان النائمة بسلام وهي تصيح بجانب أذنها قائلة:

“أفنان ألحقي!!” تنتفض أفنان بهلع حقيقي وهي تسأل بنبرة ناعسة وعقل نصف نائم:

“أيه في أيه؟ حد يصحي حد كده؟”

“ألحقي رحيم.. رحيم عمل حادثة!” صرخت ميرال برعب حقيقي لتفتح أفنان عيناها على مصرعيها وهي تستقيم من سريرها بينما تترنح بقوة، تسأل ميرال بتلعثم وهي تشعر بقلبها على وشك التوقف قائلة:

“أيه؟ أنتِ بتقولي أيه؟ عرفتي منين؟”

“أنس.. أنس منزل إن رحيم عمل حادثة..”

يتبع..

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (في حي الزمالك)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *