رواية حصب جهنم الفصل الأول 1 بقلم نرمينا راضي
رواية حصب جهنم الفصل الأول 1 بقلم نرمينا راضي
رواية حصب جهنم البارت الأول
رواية حصب جهنم الجزء الأول

رواية حصب جهنم الحلقة الأولى
اللهُمَّ إِنا نستودعك غزة وأهلها، سماءها وأرضها، رجالها ونسائها، أطفالها وشبابها، وكل شبر في فلسطين، اللهُمَّ انصرهم وثبت أقدامهم وسدد رميهم وامددهم بجنود من عندك يا الله.
_________________.
” أكثر ما يُخيفني هو أنا؛ أخاف ألاّ أعرف ماذا سأفعل، أخاف ممّا أفعله الآن “
~~~~~~~~~~~~~~~~
خطوات حثيثة تعرف وجهتها الصحيحة، يبدو على صاحبها الجدية في الأمر، خطوات تجعل التُراب يتهدم تحت قدميه، و كأن صاحبها في عجلةٍ من أمره.. السماء مُرصعة بالنجوم، و القمر
يختبئ خلف سحابٍ سميك.. الجو هادئ، و لكن ذاك الهدوء الذي يخلفه العاصفة، هدوء مخيف يثير القشعريرة في النفس، الساعة الواحدة و النصف صباحًا، و ليلة من ليالي الشتاء الباردة الخالية من هزيز الريح و حفيف الهواء؛ تشهد على الحدث الجلل الذي يحدث سرًا في تلك الساعة و الليلة المريبة.
توقف فجأةً، و شفتاه المزمومتان تلمعان بابتسامة خافتة، و عيناه السوداوان تتألقان و تلمعان برغبة جامحة في جنح الليل؛ مستمتعًا أشد استمتاع بانتهاك حدود القانون و الدين، تحديدًا في تلك الرقعة من تلك الأرض التي تتنوع ما بين النفوس الخبيثة و الطيبة.
ضاقت عيناه إلى ما ترمي إليه بنظرة اشتهاء ثاقبة، ثُم بدأت تزداد تألق بالاستثارة، و تحركت أطراف أصابعه؛ لإنزال سِحاب بنطاله، و في تلك اللحظة يُعلن الهواء تمردًا، فيطلق حفيفه يصول و يجول في الأرجاء، بينما هو لم ينصاع لرغبات الحفيف في التوقف عما يفعله، و رفع رأسه للأعلى قليلًا يحركها بخفة فتهتز خصلات شعره السوداء اهتزازًا خفيفًا يمينًا و يسارًا، و كأنها تشاركه بمحض إرادتها فيما يفعله، ليفتح فمه فتحةً صغيرةً يسمح من خلالها بمرور زفيره.. شهوته المفرطة تجاه ذلك الأمر تحديدًا غير خاضعة للحكومة أو السيطرة، تسللت أصابع يده للوجه المرمر الخالٍ من الدماء، و اتسعت ابتسامته المنتصرة، و بدأ ينهمكُ في أمره و جدَّ فيه وَلَمْ يُبَالِ بِأحَدٍ حتى بأخيه الواقف خلفه على بُعد مترين؛ يُراقب المكان المعتم.
تَمُرّ الدقائق لتصل لخمسة عشر دقيقة، و صاحب الرغبة الجامحة لم يتوقف عما يفعله دقيقة.. تراجع صوت الهواء و سكن، و الصمت بدأ يزداد كثافة، أما هوَ لم يبرح مكانه شِبرًا، و جسده به غُلْمَةٌ تمنعه عن التزحزح.. صوت سقفة تصدح من خلفه، يقول صاحبها بخفوت و بنبرة تحذير:
” انجز يا باشا، حبكت يعني في أم المكان ده !”
تصنع عدم سماعه، و استمر يندمج في شؤونه التي ليست من شؤونه.. يقف رجل آخر على مقربة منهما يراقب المكان بعينين يملؤها الخوف، ظهرهُ لهما و وجهه على مقدمة الطريق، ثُم استدار لأخيه الذي ينفث دخان سيجارة الحشيش الأفغاني باستمتاعٍ لا يقل عن استمتاع الرجل الشَبِق، و تحدث بهمسٍ:
” الموضوع طوِّل المرة دي يا بيه، أنا كده هروح فيها “
” سيبه ينبسط و إلا إدير عليك شقك نصين “
رد بتلك الجملة، وهو يستنشق الدخان الذي يحوم حوله كسحابةٍ سوداء، مُرددًا بنبرةٍ تُبدي ذروة الاستمتاع التي وصل لها:
” حلو، حلو أوي “
ازداد توتر الرجل المُكلف بتلك المهمة الشاقة لأجل امتاع هذا الذي من نظرةٍ واحدةٍ منه يُجبر المرء أمامه على تنفيذ رغباته، و رفع يده يمسح بارتباكِ على شعره المُغْبَرُّ؛ لخوضه عملًا شاقًا بين طيات و خفايا الليل الدامس منذ حوالي الساعة، ثُم أردف بنبرةٍ مهزوزةٍ من الخوف مصحوبة بالتوسل الشديد لصاحب الأفغاني الفاخر:
” أبوس إيدك يا بيه.. عيشي هيتقطع “
قاطع هوَ كلماته المرتجفة بنظرةٍ قاتلةٍ تَنُم عن حيوانٍ مفترسٍ بداخله على أتم الاستعداد للخروج في أي لحظة و سفك دمائه، و تحدث بصوتٍ أشبه بالفحيح يخترق ثنايا الليل:
” أنت ها تستعبط يا عبده ! عيشك إيه اللي هيتقطع و أنت بتاخد فلوس اكتر من اللي بتاخدها في شغلانتك ؟ سيبه يتقطع يا عبده بدل ما أقطع أنا نَفَسَك “
تنهّد الرجل بثقلٍ و ظل يلوم نفسه بداخله على الموافقة لأمرٍ مثل هذا، بينما على بُعد مترينٍ منهما، يستمر ذو القامة المشدودة القوية كعمودٍ شُدَّ على الأرض شَدَّا؛ فأظهر رسوخه و صلابته؛ بفعل ما يُثير نقطة ضعفه الوحيدة، و يُطَبِّقُ أَجْفَانَهُ مِن حِينٍ لآخر في لذةٍ يَسبُقها التهيؤ في
الأنسجة الإسفنجية، يليها شُعورٌ عميق براحة المشاعر الحسية فقط و تَمتُّعها بما تشتهيه، و دنا وطء صيدهِ، ثُم قام بفعل حركته المعتادة في كل مرةٍ ينتهي من هذا الأمر، و رفع ذراعيه يفردهما كجناحين مثل الطَّير الكاسر، و كأنما من فرط الاستمتاع يشعر و كأنه طيرٌ حُرٌ طليقٌ يُحلق في الأفق بأريحية كما يشاء، ثُم صَحِبَ ذلك الفِعل بكلمته المعتادة أيضًا و الخاصة بهذا الأمر فقط:
” كينج “
و بعدما نطق بها تمكّن النسر من فريسته، ثُم ابتعد وهو يلعق شفتيه بنظرةٍ باردةٍ يَعقِبُهَا التَفَرَّسَ في صيده الغنيم، و أخرج رِزْمةُ وَرَقٍ لِعُملة الدولار ألقى بها في إهمالٍ و بدون اكتراثٍ، ثُم قال بصوته الأجش:
” تستاهل التعب “
و أعاد ترتيب ملابسه و عينيه تلتمعان بالتحدٍ للقمر الذي توارى خلف الغيوم خجلًا من مشاهدة الملحمة التي افتعلها هوَ بكامل وعيه، و كأنه بنظراته الثاقبة يُثبت له جرأته التي تخطت الحدود و فاقت استيعاب العقول.
سارَ بخطواتٍ تُثبت شموخه على الأرض، وهو يُحرك رأسه يمينًا و يسارًا مع انخفاض ناحية الكتف لتحرير عضلات رقبته من التيبُّس، بَيْدَ أنَّ أخيه لا يزال يُدخن بشراهة، و عندما انتبه له مُقبلًا عليه، أعطاه سيجارة الأفغاني ذلك النوع المفضل لديه؛ لمنحه شعورٌ قوي بالاسترخاء، فأخذها منه قائلًا قبل أن ينفث دخانها:
” بس المرة دي غير، متعوب عليه “
” تعيش و تنبسط و عبده يتكتك من الخوف “
قالها بنظرةٍ ساخرةٍ للرجل الخائف بحق، و تبعها بسؤالٍ أكثر استهزاءٍ بحالته، و الذي يبدو من هيئته أن تلك هي أول مرةٍ له ينزلق في هذا الطريق العَوِيص:
” بتكتك من الخوف ولا من البرد يا عبده ؟”
ثُم أضاف، و نظرات الاستهزاء منهما له لا تنفك تبرح الأعين:
” انشف يا عبده بدل ما أركبك الحنطور “
رد أخيه صاحب الجُرم بتهكمٍ أكبر:
” و تتحنطر “
” دِرِجن دِرِجن “
أكمل بها هوَ مشهد السخرية، فتجاهل الرجل نظراتهما الساخرة رغمًا عنه؛ لئلا ينتهي به الأمر فريسةً لهما خاصةً صاحب الملامح الحادة، و يتلقَ حَيْنُه على قبضته الصلبة، و كأن في تلك اللحظة هرول معدن التنغستن يعقد صفقة نجاح مع يده المستعدة لخوض صراعٍ في أية لحظة، و تشجع يتساءل بشجاعةٍ مشكوك بها:
” حقي فين يا أسيادنا ؟ “
أشار صاحب العينان الداكنتان برأسه تجاه جانبه الأيمن في حركةٍ محفوفةٍ بالكبرياء، و قال:
” سيبت لك الحلاوة معاه “
” بالدولار زي ما اتفقنا ؟ “
” إحنا هناخد و نِدي مع بعض يا عيرة.. روح شوفهم و الحق خبي المستخبي قبل ما تتقفش و يتعمل عليك حفلة من إمبابة كلها “
هتف بها « قابيل» بضحكةٍ عاليةٍ دوت في المكان برمته، بينما أخيه الذي من سمات شخصيته الصمت معظم الوقت؛ تكاسُلًا في الكلام ليس أكثر لم يُبدِ أي ردة فعل سوى أنه قال بنبرة يشوبها الأمر، فهو اعتاد على إعطاء الأوامر دون استقبالها:
” يلا بينا.. عيالي وحشوني “
أومأ « قابيل » في صمتٍ ساد بينهما لحين الخروج من تلك الحدود عائدين إلى منزلهما.
أما الرجل المدعو « عبده» ظل واقفًا مكانه للحظاتٍ يستوعب فيهم بل و يتخيل نفسه خلف قضبان الزنزانة الحديدية بتهمة لم يرتكبها من الأساس سوى أنه قام بتقديم الوجبة فقط !
بدا الرجل جوفه رمِضاَ من هول المشهد الذي تخيله في رأسه و زاده فزعًا على فزعه، فحدث نفسه بلومٍ:
” أنا مش هعمل كده تاني و أعلى ما في خيلهم يركبوه “
صمت لثوانٍ يتذكر نظرة «صاحب الغرض» المربكة لأي شخصٍ يَنول انتباهٍ منه، و همس بوهنٍ:
” يا خوفي لأكون أنا خيلهم “
تحرك من مكانه ناحية المكان المنشود، ثُم أخذ العملات الورقية منه و رمى بجُملةٍ له محت خوفه عندما احتوى الرزمة بين كفيه:
” بس مكسبها مش بطال.. عفارم عليك، يلا بقى يا حلو عشان أروحك مطرحك “
.. بعد فَترةٍ وَجِيزَةٍ تتوقف السيارة أمام منزلٍ ينبعث منه رائحة الورود المتنوعة الربانية، له طابقين وواسع المساحة يربطه حديقة أمامية متوسطة المساحة و ممتلئة بالورود الجميلة التي احتوت الأرض جذورها بلُطف منها، لينزل مالك السر الغامض باتجاه البوابة الحديدية، و قبل أن يفتحها و يدلف للداخل، سأله « قابيل»:
” تحب أقول إيه لزيزي إما تسألني كُنا فين ؟ و أكيد هتسألني.. أنت عارف إن موتها و سمها نخبي عنها حاجة “
” زي ما بتحور كل مرة حوَّر المرادي، المهم إن السر إيه ؟ “
” السر سر يعيش و يموت مع صاحبه.. اطمن يا باشا، محشش بس مركز “
” أصلي، شد عَجلك أنت.. سوق بالراحة “
أومأ الآخر و انطلق بسيارته ناحية منزل المعلمة
« زينات» و الشهيرة بـ « زيزي»، امرأة كالأفعى.. ناعمة الملمس من الخارج و سُمها قاتل من الداخل، لدغة واحدة منها تُذهب بك للقبر، فبرغم أنها في مقتبل الخمسون من عُمرها، لكنها لا زالت مُحافظة على جسدها رشيق و قامتها مشدودة، آلام الظهر التي يعاني منها شباب العشرينات، لا تعرف هيَ عنها شيء.. إمرأة من كثرة اهتمامها بنفسها و بصحتها، تجعلك تتحسر على المال الذي يُنفق ببذخٍ في شراء « الفولتارين».. تُعتبر من أكثر الأشخاص مُساهمةً في أعمال الشغب و كل ما يخص الاجرام و البلطجة في شوارع مصر، و لا أحد يوقفها عند حدِّها طالما أنها تُفيد أصحاب الجاه، فالمال هو نقطة ضعف ذوِي النفوذ و السلطة، و طالما أنها تُرشيهم بالأموال الطائلة فلا بأس عليها، فلتفعل ما تشاء المهم أن تفعله دون أن يمسسها هي أو «أصابعها الخمسة» أدنى شك، بمعنى ألا تدع أنفسهم موضع اشتباه لأي جريمة تحدث، و دائمًا تنجح في ابعاد الشُبهات عنها و عن دولتها التي استلمتها منذ ثلاثون عامًا من والدها الراحل و الراعي الرسمي لكل شيء مُنافي للأخلاق، و قامت بجهد حثيث جهيد في توسيع تلك الدولة و التي يتكون بيوتها من رجالٍ أقوياء يُحال هزيمتهم تحت أي حال، أهمهم و أفضلهم « باور رينجرز»
أو « مُهددين الطرق»، أطلق الناس عليهم اللقب الأخير؛ لخوفهم من الوقوف أمام واحدٍ منهم، و البعض ممن يحبون ربط الأمور الجدية بالهزلية، أطلقوا عليهم اللقب الأول، فهم خمسة شباب يعتبرون أصابع الزعيمة أو المعلمة « زينات» الخمسة، لا تكاد تفعل شيء أو تخطو خطوة دونهم، و لكن باور رينجرز كانوا يمنعون وقوع الشر و يحاربون الأشرار، أما هؤلاء يمنعون وقوع الخير، فهم الأشرار في روايات الكُل.
كوَّنت دولتها و مملكتها الخاصة من الأسلحة و العدة و العتاد القيمة، فأصبحت أشهر ممن يصنعون السلاح و يقومون بتصديره، أما أركان و بيوت الدولة فهم الخمسة شباب اللُقَطاء.. نعم كما سمعت أذنيك، هؤلاء تم انجابهم عن طريق العلاقات الغير شرعية، الأول وجدوه رجال والدها في سلة قمامة معدنية كبيرة ملفوف بغطاء خفيف على كومة من القمامة، و لم يكن يتعدَ عمره حينها الخمس ساعات، في ذاك اليوم كانت شابة داهية في الواحد و العشرون، و قد قررت حينها إنشاء مملكة خاصة تكون تحت سيطرتها بمساعدة اللُقطاء، فأمرت رجال والدها بأن يأتوها بأي وليدٍ تخلَ عنه أبواه و ألقوا به في أماكن مجهولة، لتقوم هي بتربيتهم و تعليمهم أسس الجريمة، بل و تعليمهم مختلف العلوم؛ حتى تعرف مهارة كل طفل فيهم و تعرف كيف ستقوم بتوجيه المهارة نحو الطريق المنشود؛ لذلك الخمسة يطيعونها طاعةً عمياء و يقدمون لها كل الولاء و الطاعة، و لم يتوقف الأمر عند ذلك، لقد أحضرت لهم أمهر المعلمين لتعليمهم في المنزل في مدرسة تُحاكي المدارس الحقيقية؛ لكي تبعدهم عن الاختلاط ببقية الأطفال، فأصبحوا يتعاملون بحدود مع المجتمع، و لكن ذلك لا يمنع من فرض سطوتهم و سيطرتهم في أي مكانٍ تخطو فيه أقدامهم.
لم تفضل أبدًا « زينات» انجاب الأطفال، فقامت باستئصال الرحم وهي في الثالثة و العشرون من عُمرها، و اتجهت لأعمال العنف المتنوعة، و عندما فارق والدها الحياة، قادت هي مسيرته الإجرامية، و أورثت تلك المسيرة لأول لقيطٍ قامت بتربيته، فأصبح ما هو عليه الآن « سيد الجريمة»، و قامت بتسميته بإسم لم يفكر أحد في تسمية أبناءه به من قبل، هذا الاسم معروف أنه لقب يُلقب به من له شأن و جاه.. رأت « زينات» في ذلك الطفل منذ أول وهلة وقعت عيناها عليه، أنه يناسبه تمامًا أن يصبح « باشا» في كل شيء، لقب البشوية يحق له هو فقط؛ لذا اسمته « باشا»، هذا هو اسمه الحقيقي « بـاشـا» !
من المعروف و المعهود أننا نقول فلان باشا، نضيف كلمة الباشا بعد اسم الشخص؛ تعزيزًا له.. أما هذا الملقب بسيد الجريمة لا يحتاج أن يُعززه أحد، اسمه وحده قام بتعزيزه دون أدنى مجهود، فعندما كان يغضب عليه المُعلم و يود توبيخه.. لا يستطيع، سيقول له مثلًا:
” لماذا لم تنجز واجبك يا باشا !
أو اجلس في أدب يا باشا ! ”
إنه لأمرٌ مُضحك أن يوبخه و يناديه بالباشا في نفس الوقت.
تمتع « باشا» بعدة مهارات كما توقعت
« زينات»، فهو يعتبر المفضل لديها من بين الخمسة، و أهم مهارة لديه.. الجاذبية الكبيرة والحضور الطاغي الذي يتمتع به، و المقصد هنا الجاذبية في الشخصية، فهو على قدرٍ عالٍ من الدهاء و المراوغة، و أيضًا أقوى الشباب في فريقه بدنيًا.
أما ثاني الفريق قوة و جبروت هو « قابيل»، لكل منا نصيب من اسمه و قابيل أخذ نصيبه بالكامل.. سفك الدماء و التعامل بلا رحمة من سيماته الأساسية، يعتبر الوحيد الأمين و الذي يعرف السر الخاص بـ « باشا»، و الثالث من حيث القوة الجسمانية و اللياقة البدنية التي اهتمت المعلمة بغرسها فيهم منذ طفولتهم، هو
« وسيم»، اسمته بهذا الاسم عندما رأته لأول مرة، كان حينها مُلقي في إحدى الأراضي الزراعية يصرخ في مشهد أكثر من مؤلم و قاسٍ، عثروا عليه رجالها و أحضروه لها، كان حديث الولادة أيضًا، ابن يومين تقريبًا.. اتضحت وسامته و ملاحة وجهه وهو في عُمرٍ صغير، فتم تسميته « وسيم»، وهو كذلك.. لديه مهارة ممتازة في خفة اليد، حركة يده كالثانية سريعة جدًا و لا أحد يلاحظها ببساطة.
رابعهم « سُلطان» و المُسمى أيضًا بـ « سُلطان الغرام»؛ لوقوعه في غرام أي مؤنث سالم تقع عينيه عليه.. يهوى و يعشق جنس حواء، و لكن أكثر ما يُحبه من النساء، قطته « سُندس»، و برغم أنه لا يكل ولا يمل من اعترافه بالحُب لأي إمرأة تنظر له أو تعجبه، لكن عندما يتجه للعمل يكون رجل على درجة عالية من الفطنة و الجدية، و مهارته الأساسية هي ذاكرته القوية، يمتلك ذاكرة قوية لا تنسَ أي شيء وقعت عينيه عليه، يستطيع أن يتذكر و يحفظ بسهولة أرقام هواتف كثيرة حدق فيهم لثوانٍ فقط.. أما عن ولعه بالنساء و تفكيره في الزواج يوميًا، فالحقيقة..
« سُلطان» لن يتزوج إلا عندما يبيض الديك.
خاتَم فريق مهددين الطُرق، و الفتى الأكثر مرحًا فيهم، هو « كرم» أو « كرم الأشقر»؛ لملامحه الشبيهة بالغرب، لم يجدوه في الشوارع، بل أُنجب من قبل سيدة كانت تعمل لدى زينات، و تركها عشيقها فانتحرت بعد ولادة « كرم» بأسبوع، أما عن والده الذي أنجبه بعلاقة محرمة و هرب، فقد لقى حتفه بسبب الهيروين بعد فترة من هروبه.
« كرم» هو الفتى المُدلل للخمسة شباب، و تميز عنهم في طريقة تلقي تعليمه، فقد وافقت زينات بإلحاح من (باشا و قابيل) أن يتم تعليم
« كرم» في مدارس حقيقية وليس في المنزل، و ها قد كان، و أصبح كرم الآن في السنة الثانية له بكُلية الذكاء الاصطناعي جامعة القاهرة قسم التعلم العميق، على أمل أن يصبح مُهندس برمجيات، أما عن مهامه في الفريق و مهاراته، فهو يعد من أمهر المخترقين للشبكات العنكبوتية، مخترق ماهر بحق لا يخفق أبدًا، وهذا الأمر سر خاص بالفريق و المعلمة.
هُم الخمسة يتعاملون مثل الأخوة مع بعضهم، ولا أحد يستطيع التفرقة بينهم، فحُب الأخوة الحقيقي نشأ بينهم منذ أن كانوا أطفالًا، و أصغرهم « كرم» قد قاما أخويه الكبار باشا و قابيل بتولية رعايته حتى وقتنا هذا، لا أحد يتخطى حدوده مع باشا مثلما يفعل كرم، فعندما يكون « باشا» منهمك في عمل شيء بصمت كعادته، يأتِ « كرم» من خلفه و يقفز على ظهره يتشبث به، ثُم يهتف بضحكة مرحة:
” السود عيونه ؟ “
فيضطر « باشا» للرد عليه و مسايرته؛ حتى لا يحزنه، فهو يعتبره مسؤول منه كأنه والده وليس أخيه، فيقول بابتسامة صغيرة و بنبرة هادئة: ” يا ولاه “
لكن الأسوأ من ذلك كله، هو عهد (النار) الذي أخذته « زينات» عليهم.. عند بلوغ كل واحد منهم، قامت بتقييده و جاءت بسكينٍ ساخنٍ و حرقت جزء من الصدر الشمال تحديدًا عند القلب، قائلة لهم بكل صرامة:
” ده أضعف مكان في جسم الإنسان، ممنوع يخضع لحد.. لو ضِعف فإعرف إنك ضعفت و بكده مش هتنفعني و الموت أرحم لك من عذابي.. اعملوا ما بدا لكم، إلا الُحب، الحُب الحاجة الوحيدة اللي بتضعف الواحد و تهزمه، و أنا عايزاكم دايمًا منتصرين مش مهزومين.. إياكم و الحُب، كل إما تحسوا نفسكم هتضعفوا، افتكروا العلامة دي و اعرفوا كويس إن الحُب بيوجع اكتر منها “
.. أمام تلك الفيلا الواسعة و الفخمة في هيئتها، تتوقف سيارة « قابيل» الجيب السوداء ثوانٍ، ثُم تحركت ثانيةً باتجاه مدخل الفيلا الكبير الذي فُتح بوابته الالكترونية للتو، ليظهر من خلفها ستة رجال حراسة كل رجل قوي البنية منهم بحوزته كلب شرس يلتف حول عنقه سلسلة تحكم حركته و ترجع لصاحبها.. تقدم واحد منهم يستقبل ترجل « قابيل» من سيارته، ليأخذها للجراج المليء بالسيارات الفخمة و المتنوعة، و هناك صفَّ السيارة العائدة لملكية المعلمة في النهاية، بينما « قابيل» ألقَ تحية بحاجبيه للكلاب قائلًا بمداعبةٍ:
” عاش يا وحوش إمبابة، الحراسة في السليم”
ثُم خطى خطواته بثباتٍ لداخل الصالة الكبيرة و الواسعة المزينة باللوحات الزيتية العتيقة، و الأثاث الراقي الأنيق، ليجلس بأريحية على إحدى الأرائك يريح رأسه للخلف بتنهيدة خرجت منه مُتعبة تزامُنًا مع مجيء « زينات» ترمقه بغضبٍ اعتاد هو عليه عندما يتأخر في الخارج دون وجهة معلومة لها.. اعتدل في جلسته يتأمل ملامحها المُقطَّبة رغم جمالها الذي لم يذبل ولم يتغير مع التقدم في العُمر، جلست قبالته تبرم شفتيها بمللٍ، و تعبث في شعرها الأحمر الرُماني أثر الصبغة وليس ربانيّ.. أخرجت السيجار الكوبي و مدت به نحو
« قابيل» الذي أخذ يتابع لغة الجسد الخاصة بها، فتلك مهارة ثانية من مهاراته و لاكتشافه فيما يفكر خصمه من تعابير وجهه وجسده؛ يستطيع اللعب به على خيوطٍ رفيعةٍ هو وحده من يتمكن من الرقص عليها.
أدرك في الحال من حركة عينيها المتقلبة ما بين الغضب تارة و اللين تارةً أخرى، أنها تريده الآن لفعل الفاحشة !
حينما تأكد من ذلك، اتضحت معالم الانتصار في عينيه بأنه و أخاه لن ينكشف أمرهما بأسئلتها الكثيرة، و ستكتفي بإطفاء غضبها بإعلان حاجتها له، فبرغم أنها من قامت بتربيته، لكن اعجابها به و بجسده أخذ حيزًا واسعًا من تفكيرها، وهو لا يعترض البتة، بل في أوج استمتاعه بالرذيلة معها عوضًا عن ارتكابها مع الغرباء..« زينات » بصرف النَّظر على أنها امرأة متسلطة و قوية و حازمة معظم الوقت، لكنها امرأة متصابية في الأوقات الأخرى، لم و لن تقع في غرام رجل أيًا كان من، حتى لو كان مفتول الجسد مثل « قابيل»، هي فقط تلهو و تستمتع في رأيها لا أكثر، و قابيل ليس آخر ولا أول شخص تفعل معه ذلك، فالحرام في فيلا «زينات» أسهل من شُرب الماء.
” كُنت فين أنت و باشا كل ده و من غير ما أعرف أنتم رايحين فين ؟ “
تساءلت بها بنبرةٍ ناعمةٍ مشتاقة، فأجاب هوَ بلا مبالاةٍ:
” عادي كنا سهرانين زي عوايدنا، أنتِ بس اللي بتخافي علينا زيادة عن اللزوم، و مش قادرة تفهمي إننا كبرنا “
ردت وهي تميل بجسدها للأمام و تلامس ركبته بطرف أصابعها، و رائحة السيجار الكوبي تشكل سحابة أمام وجه قابيل، فأخذ منها السيجار ينفث دخانه ببطءٍ أمام وجهها، مما ثارت عليه و أثارت تلك الحركة جنونها أمامه:
” مفيش قوة في العالم تقدر تحرمني من إني أخاف على صوابعي الخمسة.. رجالتي و سندي.. أعز ما أملُك “
قالت جملتها الأخيرة بنظراتٍ يشع منها الدلال و التغنُّج عليه، فنهض بغتةً و اصطحبها لاستكمال قراءة لغة جسدها.
الفيلا تتكون من غرف عديدة كل غرفة مساحتها تصل لمساحة شقة متوسطة، و كُل مُهدد من مُهددين الطرق اللذين ينتمون للمعلمة، لديه غرفة خاصة به أو طابق كبير يسع ما يفعله من مُحرمات و امتاع للذات كما يشاء، لقد تركتهم يفعلون ما يحلو لهم بشرط ألا يقعوا في الحُب؛ لأن الوقوع فيه هو بمثابة إعلان الخضوع و الهزيمة.
هُنا في منطقة إمبابة حيث المنطقة الموبوءة بأعمال العنف و الشغب، و سُجلت على أنها من أكثر المناطق امتلاءً بالبلطجة في مصر، فمن غير الآمن تكوين أسرة آمنة بها، و من يستطيع ذلك فهو من كنف الله.. ما تراه بعينيك غير ما تسمعه أذنيك، قد ترى أن إمبابة منطقة عادية كأي منطقة، و لكن في الحقيقة هي مليئة بالـهَوَّشَ و الـبَلْبَلَة، إلا من رحم ربي من السُكان الطيبين.
على فدان كبير في تلك المنطقة كانت فيلا
« المعلمة زينات» الشهيرة على مستوى إمبابة و بين أصحاب السلطات و النفوذ القوية في البلد، و أكثر معارفها هم من رجال الأعمال الفاسدين اللذين يقبعون خلف استثمارات و أفرع لمحلات و مولات كثيرة، و يمارسون عملهم الحقيقي الذي جلب لهم كل تلك الثروة الطائلة وهو
« غسيل الأموال» المتمثل في عمليات تحويل الأموال الناتجة عن العمليات غير المشروعة أو العمليات المرتبطة بها لتظهر في شكلها الخارجي بشكل قانوني ومشروع.
و ليس كل رجال الأعمال، و لكن تلك حقيقة أكثرهم، و الاعلام الفاسد يصرُّ على تجميلهم، طالما أنا المال هو سيد كل شيء، فلماذا لا نُنافق و نزيف الحقائق من أجله ؟!
دلف « قابيل» للطابق الخاص بالمعلمة و هي تسبقه في الخطوات برغبة و بدون تعقّلٍ رغم عقلها المخيف عند العمل، لكن في هذا الأمر ترمي بالعقل بعيدًا و تترأس الشهوة المقدمة، أما القلب و مشاعره فلا وجود له في جمهورية زينات.
بينما «قابيل» بدأ بفك أزرار قميصه بدون خوفٍ من الله، و استهلال المحرمات بقلة الحياء وقلة المبالاة وقلة التوقير والتعظيم لله عز وجل.
الخمسة شباب لا يفقهون أي شيء في الدين الاسلامي، رغم كونهم مسلمون في شهادات ميلادهم المزورة و التي ينسبون فيها لزينات من جهة الأم و لزوجها من جهة الأب حينما كانت في مقتبل العشرينات و الذي ساعدها في كل شيء، ثم قتلته في النهاية؛ لإقتراف خطأ واحد بغير إرادته، إذًا زينات أمام الجميع هي والدة الخمسة، و ما تفعله مع « قابيل» من علاقةٍ محرمةٍ أمرٌ عاديٌ بالنسبة لهم جميعًا.. الحياة بالنسبة لهم هي لهو و استمتاع و تحقيق الفوز و الانتصار في أعمالهم الغير مشروعة، فأصبح الحرام عندهم جائز و الحلال لا مكان له.
أغلق باب الغرفة خلفه وهو يتفحصها بدقة قائلًا:
” شُكري لو شم خبر بعلاقتنا مش هيعديهالك بسهولة يا زيزي “
أطلقت ضحكة صاخبة تبعتها بقولها، و هي تسكب كوبًا من التيكيلا و تعطيه له و تسكب لنفسها آخر:
” جرا لك إيه يا قابيل ؟ أنت تايه عني ولا إيه ؟ ده أنا أفرمه و ارميه لكلاب السكك السعرانة تنهش في لحمه، معاش ولا كان اللي يفكر بس يجي على زينات.. أنا مع شُكري بكيفي و كيفي لما يحب يبعد ها يبعد “
” بس أنتِ عارفة إن مصلحتنا معاه كبيرة دلوقتي، إحنا داخلين في صفقة جامدة مينفعش نبعد عنهم غير إما مصلحتنا تنقضي “
قالها وهو يخطو تجاهها ليقف خلفها و أصابعه تتسلل للمكان المنشود، فأردفت هي بعد أن تركت العنان له:
” نفوذي و سلطتي أقوى من نفوذ شُكري، هو اللي محتاج لنا مش إحنا “
و اختتم الحديث بينهما بتلك الجملة، ثُم عملت التيكيلا مفعولها و اختطفتهما لعالمٍ لا متناهي من الرَجاسة، فَيَودُ الرِجْز أن يقع في المكان الرَجِس.
التهاون بارتكاب كل ما حرمه الله، شيء اعتيادي لديهم، والتهاون بالمحرمات أمر بالغ الخطورة؛ لأنه يوصل فاعلها إلى تبلد الإحساس وممارستها بعادة يومية، وتصبح تلك المنكرات والمحرمات أمرًا مألوفًا للنفوس، و يغدو من ينكرها مخالفًا لما عليه الناس.
ومِن أخطرِ أضرار المعاصي التي يولون عنها الأفئدة في تلك الفيلا المشبوهة، أنها تنزِع الحياءَ مِن نفْس العاصي، حتى يجاهِرَ بها ويعلنَها أمام الداني والقاصي، فيفعلون المحرمات و يرتكبون الموبقات و يقبلون على فعل الشهوات.. هيهات لما توعدون هيهات.
ولا يخجل « قابيل» مِن اظهار ذلك أمام أحد و لا حتى أخوته يخجلون، فمثلًا « باشا» يفتخر بمعصيته أمام نفسه، ويرى أنها ضرورةٌ لحاله، فلا يزال يرتكب الذنبَ بعدَ الذنبِ، حتى هانت عليه المعصية، و صَغُرت في قلبه الخطيئة، وذلك مِن عَلامات موت القلْب وفساد الفِطرة؛ فإنَّ الذنب كلَّما صغُر في عين العاصي عظُم عند الله – عزَّ وجلَّ.
و في طابقٍ آخر يصدح منه صوت الأغانٍ و الموسيقى الصاخبة المصحوبة بكلماتٍ يُدندن صاحب الطابق معها في رنحٍ أصابه أثر سيجارة الحشيش التي تعتبر أساسية لديهم جميعًا، فهم حريصون على شراء أفخم الأنواع؛ لما لها من تأثير قوي يجعل المرء يشعر بحالة لا مثيل لها من السعادة، و يبدأ في تخيل أشياء و محاكاة أحلامه الوردية كأنه في كوكب موازٍ، هذا الرنح الذي أصاب « سُلطان» جعله في حالة ضعفٍ في التحكم العضلي الذي يسبب حركات خرقاء تجعله كالمجنون تمامًا، فأخذ يصيح مع الكلمات وهو يضع حلة على رأسه يرتديها كالخوذة، و يصفق بكلتا يديه لتلك الفتاة التي جلبها من أحد الكباريهات في شارع الهرم، بينما هي فوق فراشه ترقص بملابس شبه عارية تمامًا، وهو على الأرض يدخن تارة و يصفق لها تارة، و حنجرته مستمرة في الصياح مع الكلمات:
” آه من البنات آه منهم آه من دلعهم وعمايلهم
أهو بنحبهم آه من دلع البنات “
صمت دقيقة يُراقصها و بنظرات انبهار بها قال:
” هو ده الرقص الشرقي على أصوله، مش اللي بيحركوا أي دهون وخلاص “
و الفتاة مستمرة في الرقص، و بعد دقائق.. تعود نفس الكلمات لتصدح من جديد، في حينٍ أنه أنهى سيجارة الحشيش، و إذ فجأةً و بدون سابق إنذار.. انقلب حاله و تغير من حالٍ لحال، فأحضر بدون وعيٍ منه سيّف خاص به يستعمله في عراك الشوارع، و عدَّل من وضع الحلة على رأسه ليتخذ وضعية الهجوم و كأنه في معركة حربية، بينما الفتاة توقفت عن الرقص و ظلت تتابعه بدهشةٍ و تترقب بخوفٍ ما سيفعله، فهتف موجهًا السيف نحوها:
” ليس أباكِ وليس أبا من أتى بكِ “
قلَّبت بصرها ما بين السيّف و على حركاته الطائشة، ثُم تساءلت بعدم فهمٍ وهي تنزل من فِراشِه و تحاول الهروب منه:
” يعني إيه ؟ “
” يعني لأبوكِ لأبو اللي جابك “
” أنت هتعمل إيه ؟ “
تساءلت بجُملتها في اضطرابٍ و ذَعرٍ من حركات السيّف الذي يلوح به في الهواء بمهارة و احترافية رغم حالة الضياع التي انتابته، فهو الوحيد من أخوته الذي عندما يشرب الحشيش.. يذهب لعالمٍ آخر كله من صُنع خياله المجنون، بينما أخوته لا يشربون بكثرةٍ مثله، علاوةً على ذلك حتى لو شربوا لا يؤثر بهم كما يؤثر عليه..
صاح وهو يتراقص بالسيّف و يجبرها على الرقص معه، فأخذت ترقص في حذرٍ:
” فستان حماله وألوان، عادى مش بطالة وشغال
والبودرة كتيرة.. منهم دا أنا ندمان
لابسالي بندانة و عادى.. والشعر كنيش.. عادي
والشكل مفيش.. عادي، حرام ما أنا بردو إنســان “
و في حركةٍ مُباغتةٍ، شق لها ملابسها بالسيّف فسقطت و تعرى الجسد الرخيص مع صرخةٍ خرجت منها ليس لما فعله فهي معتادة على التعري، و إنما لحركاته الغريبة و التي أخافتها، فقالت في ترجيٍ:
” اهدى بس اهدى.. أنت شربت كتير “
” أنتِ قولتيلي اسمك إيه عشان نسيت ؟ “
ردت بدموعٍ:
” شريفة “
” مُتأكدة ؟ “
تساءل بها في استهزاءٍ، ثُم أضاف:
” أنا ليه كل النسوان اللي عرفتها مكملوش معايا رغم إنهم رُخاص ؟ “
قررت مسيارته حتى يتسنَ لها الهروب من الغرفة، فأردفت:
” أغبيه.. أغبيه يا يا باشا و مش بيفهموا، حقك عليا أنا “
” باشا ! أنا اسمي سُلطان.. باشا ده يبقى أخويا الكبير، و ملوش لا في النسوان ولا الرجاله.. ليه في الحيوانات، يعني لما يشوفك هيعملك برواز اتناشر في أربعة و عشرين “
باشر بالخروج عن وعيه بالكامل، فانتهزت الفرصة و التقطت ملابسها التي جاءت بها معه من البداية، و بدأت في ارتدائها و قبل أن تفتح الباب، لحق بها و قبض على يدها الممسكة بالمقبض، ثُم همس من وراءها بنبرةٍ لا تُنبئ بالخير:
” حلاوتها.. نهت سكتها “
قاصدًا بجملته أنها حكمت على نفسها بالهلاك على يده، و الهلاك بالنسبة لسُلطان عند ممارسة الرذيلة مع النساء؛ هو أن يأخذها في مغارةٍ من صنع خياله السكير و يفعل بها ما يحلو له.. برغم أنه في الخامسة و العشرون من عمره، لكن تاريخه القصير كشابٍ في مقتبل العمر حافل بالعلاقات المحرمة مع النساء، و أي واحدةً منهن تقضي معه ليلة، يخبرها بأنه يحبها ولن يستطيع التخلي عنها وهو لا يعرف اسمها ولا أي شيء عنها من الأساس، سوى أنها تعمل في البيوت المشبوهة، فتصاب المرأة بحالة من الدهشة تجعلها تنفر منه و تظنه مجنون، هذا بالإضافة لطلباته الغريبة أثناء ارتكاب الفاحشة، فمثلًا يطلب من المرأة التي معه، أن تصعد على خزانة الملابس و تُخرج خيوط من يدها مثل سبايدر مان تستعملها في القفز، فتخاف منه و تفر هاربة.
في الطابق القريب من طابق سُلطان، يمكث
” وسيم “، و الذي يكبُره بعامٍ واحد، أي أنه في السادسة و العشرون.
هذا الشاب يبالغ مبالغة كبيرة في النظافة، و يخاف من مساس أي شيء غير معقم أو غير نظيف، فيظل يكرر تغيير ملابسه و الاستحمام أكثر من مرة في اليوم، و تعقيم يديه باستمرار، فبرغم أنه يعاني من وسواس النظافة القهري، لكن من ناحية أخرى لا يؤثر ذلك في انجاز أعماله مع أخوته، بالرغم من أنه يسبب ازعاج كبير لهم في مختلف الأوقات، فإذا لمسه أحد أو لمس طبقه و ملعقته أو أغراضه الخاصة، يظل يصرخ في وجوههم و يَسُبَّهم بأقبح الألفاظ، ما عدا ” باشا ” الذي يسكته بنظرة فيتراجع و يصمت خوفًا.
رائحته طوال الأربعة و عشرون ساعة جميلة و تجعلك تود الجلوس مُلتصقًا به.. اهتمامه ببشرته و العناية التامة بشعره الكيرلي و الذي يتميز بكونه مسترسل ذو خصلاتٍ ناعمة قد قام هو بتشكيله ليصبح على شكل زيجزاج؛ أخذ حيزًا هائل من وقته، فيقضي أوقات فراغه في العناية بنفسه و الاهتمام البالغ بها، و لم يسبق له و أن أقام علاقة مع إمرأة؛ لشدة خوفه من الإصابة من الأمراض المتناقلة مثل الإيدز، بخلاف « سُلطان» الذي لا يُبالِ بعلاقاته المتعددة، و لكن لخوف « زينات» عليه، أمرته باستعمال الواقي للوقاية من خطر تلك الأمراض.
وقف أمام المرآة في غرفته يضع سيروم العناية بالبشرة، و يدلكها ببطءٍ و برفقٍ قائلًا بابتسامة اعجاب بنفسه و لنفسه:
” و بعدين فى الدنيا اللى مفيهاش أي حاجة حلوة غيري أنا دي ! “
انتهى من وضع السيروم، ثُم نثر عطره الثابت و الجذَّاب للمرة الثالثة خلال عشر دقائق، و تأمل هيئته المرتبة و الأنيقة كأنه لديه مقابلة مهمة مع أشخاص مهمين، ليقول وهو يلقي نظرة أخيرة برضا على هيئته:
” وسيم يا وسيم، المفروض يتعملك دولة لوحدك تعيش فيها “
و اقترب من المرآة لينثر عليها محلول التعقيم، و لثم قُبلةً على صورته فيها، ليبتعد قائلًا:
” تصبحي على خير يا نفسي “
و اتجه نحو فِراشِه و قبل أن يمسسه، تأمل الملاءة بترددٍ هاتفًا:
” رغم إني لسه مغيرك من شوية، بس حاسس كده إنك مش نضيفة “
في تلك اللحظة آتاه صوت صرخة أنثوية قادمة من غرفة « سُلطان»، فتأفف بضجرٍ قائلًا:
” هو ده وقته يا بن ديك البرابر !، هلاقيها منك ولا من المعلمة و قابيل ! “
ترك ما يفعله و خرج باتجاه غرفة سُلطان، ليتفاجئ بالأخير يخرج بالسيّف راكضًا وراء الفتاة التي استطاعت الهرب بصعوبة، و يصيح باستمتاعٍ:
” يا شاويش امسكها يا بوليس احبسها
يا ناس يا هوه شوفوا دلع البنات
يا حضرة العمدة الحقني يا شيخ الغفر حوش عني
يا ناس الحقوني من دلع البنات “
وقف «وسيم» يضحك مكانه على هيئة سُلطان المزرية، فتلك ليس أول مرة يراه هكذا، بينما الفتاة توارت خلف وسيم تترجاه و تمسك ملابسه بقوةٍ:
” ابوس إيدك مشيني من هنا، أنا بنت * إني جيت.. دا طلع مجنون “
دفعها وسيم بعنفٍ عنه و بدأ بالصراخ عليها:
” ميكروبات.. بكتيريا ابعدي عني، ازاي تسمحي لنفسك تلمسيني ! ازاي ؟! عليا الحرام ** لأنا اللي هخلص عليكِ “
قالها و أخذ السيّف من سُلطان الذي ابتسم ببلاهةٍ قائلًا:
” اديلو ادي يا أم وسيم “
و قبل أن يشق رأس الفتاة بالفعل، فالقتل عندهم أمر اعتيادي.. خرج « قابيل» يتأفف بضيقٍ من الأصوات المزعجة و يغلق أزرار قميصه بتكاسلٍ و من خلفه المعلمة زينات مرتدية منامة شفافة و تدخن الكوبي.. هتف قابيل بغضبٍ عليهما بعد أن أخرج لهما صوت عبر أنفه:
” إيه * الدوشة اللي أنتم عاملينها دي ! يعني لما اجي * أنت وهو هتستريحوا ! “
” لمستني “
قالها وسيم، و رد سُلطان:
” باعتني “
فاستدار لها قابيل بنظرةٍ أربكتها مكانها و قال بأمرٍ:
” يلا يا بنت الـ * من هنا “
و كأنها وجدت الملاذ، فحملت نفسها و ركضت هاربة من جنونهم أجمع، و أشار لهما قابيل الذي يكبرهما سنًا فهو في الثامنة و العشرون، بأن يعودان للنوم لأن الصباح مليء بالأعمال الشاقة.
في غرفةٍ شاسعةٍ أخرى في الفيلا، تحديدًا في غرفة ذو الملامح الغربية الشقراء، يجلس
« كرم» على مكتبه يستذكر دروسه، فدخل عليه « سُلطان» دون طرقٍ للباب، و ألقى بجسده المتهالك على فِراش كرم قائلًا له بخمولٍ:
” عايز اتجوز “
استدار له كرم ضاحكًا من حاله و قال:
” أنا زهقت من كُتر ما بسمع الجملة دي، يابني إحنا مش بتوع جواز إحنا بتوع شغل وبس، و أصلًا المعلمة سيباك تعك براحتك عشان عارفة إنك مش هتكمل في أي علاقة لمدة ساعتين “
اعتدل سُلطان مكانه و أشار لكتاب كرم متسائلًا بمزاح:
” فاكر نفسك نجيبة متولي الخولي ! أنت هتتخرج و هتشتغل برضو معانا، فملوش لزوم تضيع وقتك في المذاكرة و الكلام الفاضي ده.. تعالى إما أعرفك على البت فادية فتلة، شايف الخط اللي في حواجبي ده، هي اللي عملهولي.. تعالى أخليها تعملك واحد، ولا أقولك.. تعالى إما نشقط حرمتين كده يكيفونا “
” فادية فتلة ! ده اخرك في النسوان ؟ وبعدين أنا بذاكر عشان وعدت باشا أطلع الأول “
” يعني هتطلع الأول يعني هيطلعولك تأشيرة سفر للمريخ ! يا عم حِلني “
قالها وهو يخرج سيجارة حشيش أخرى، و أردف:
” ما تشدلك نفسين “
رد كرم بعجزٍ مزيف ضاحكًا:
” كان على عيني والله، بس أنت عارف أخواتك سمحوا ليا بالسجاير بس و على خفيف، إنما الحشيش اللي أنتم بتسفوا فيه ده و حارمني منه، متحرم عليا.. بس عارف، عليا الحرام هتخرج من الكلية و شوفوا هعمل إيه “
” بتذاكر إيه صحيح مخليك مندمج أوي كده.. فاتك أنت نص عمرك، وسيم و قابيل كانوا شاقطين واحدة تحت و أنا اللي هربتها منهم “
قالها سُلطان بصدقٍ مما صدقه كرم وهتف مُندهشًا:
” وسيم ! وسيم أخويا ! ده قعد خمسة و عشرين سنة عذراء ! ده غير إنه بيقرف من أقل حاجة.. ها يشقط برضو ؟! “
هزّ سُلطان كتفه ببراءةٍ مُردفًا:
” و أنا أقوله يابني يا حبيبي صحتك أنا خايف عليك، وهو أبدًا.. راسه و ألف سيف يجيب ولد و يسميه مُرجيحه “
” مُرجيحه ! “
أومأ و انفجر ضاحكًا يقهقه بشدة:
” نسبةً لأمه، كانت مُرجيحه “
” صدق ياض أنا غلطان إني قاعد بتكلم معاك، يلا هوينا خليني اكمل مذاكرة عشان ورايا شغل خاص بالـ Ai “
هتف بها و استدار يكمل ما يفعله، فنهض سلطان يتابعه عن قرب و يقول باعجابٍ:
” يحرق أمك يا كرم، ده الذكاء الاصطناعي يخاف منك.. بقولك إيه، اعملي صورتي كرتون كده، عاوز ابعتها لفادية فتلة يمكن تعجبها و توافق تيجيلي الأوضه يوم “
لم يُجِب كرم بشيءٍ و زفر بضيقٍ من هوس أخيه بالنساء، فتابع سُلطان وهو يتفحص كتابه بعدم فهمٍ لما فيه:
” إيه الكلام المكلكع ده ! بس ولا يهمك يا قلب أخوك، أنا كنت فنان في الإعراب، لو جاية معاك في نحو فأنا دايس فيها وش “
تبسم كرم من قوله و رمقه بعينيه الزيتونية ساخرًا ليقول:
” أنا دراستي ملهاش علاقة بالنحو، بس هكتبلك
جملة لو عرفت تعربها، ليك عندي أجيب لك فادية فتلة ببكرة خيطها راكعة لحد عندك “
” حلاوتك.. جملة إيه بقى ؟ “
كتب له جملة عادية و طلب منه أن يعرب الكلمة الثالثة فيها، فقال سُلطان وهو يمعن النظر في الجملة:
” مضاف إليه مخروم بالفتحة “
” هو ربع جنيه فضة ! إيه يا عم العبث ده، يا وجع النحو بصحيح.. اطلع برا يا سُلطان بدل ما أنادي لقابيل “
عاد « سُلطان» أخيرًا لغرفته بعد عدة محاولات فاشلة من « كرم» لإخراجه.
بينما « كرم» تابع عمله الموكل به من الزعيمة، وهو البحث عن فتيات فقراء بحاجة للمال، و عندما يتأكد أنهنَّ ضعاف لا يقدرنَّ على الدفاع عن أنفسهنَّ إذا حدث لهنَّ شيئًا، يقوم هو بمراسلتهنَّ بحجة أنه تابع لشركة تعمل عن بعد في مجالات مختلفة، ثُم يراسلهنَّ عبر مكالمة مسنجر، ليتمكن من اقناعهنَّ و الاتفاق معهنَّ على امكانيات العمل و مميزاته، و يقوم بإغرائهنَّ بالمال الكثير، وبعد فترة أو مهلة يعطيها لهنَّ للتفكير في الأمر حتى تكون المصداقية هي شعار الشركة في نظرهنَّ.. يبدأ «كرم» بعد ذلك بطلب مجموعة من الصور لكل واحدة منهنَّ بجودة جيدة، ليبدأ استخدامها بعد ذلك في صناعة فديوهات إباحية يستطيع من خلالها ابتزازهنَّ بها، ليوافقنَّ على ما ستقوله لهنَّ « زينات»، وهذا هو أول الخيط لغرضها الأهم و الذي تعمل عليه بمشاركة واحد من رجال الأعمال في تلك الجناية وهو « شُكري المنزلاوي» و بالطبع مهددين الطرق الخمسة يديرون الموضوع بأكمله.
مرّ الليل مر الرياح، و أقبل الصباح بمهماتٍ جديدة يرمي بها على عاتقي المُهددين، فقد جاءت للمعلمة « زينات» مكالمة تليفونية جعلتها تستشيط غضبًا و تلقي بالهاتف في اندفاعٍ صارخةً:
” و رحمة أبويا يا عوض لأوريك من هي المعلمة زينات بحق “
ثُم بدأت تصيح تدعو الأربعة شباب للمثول أمامها في غرفة الاجتماعات فورًا:
” قابيــل.. وسيـم.. سُلـطان.. كـرم، تعالوا حالًا”
و بالهاتف الأرضي قامت بالاتصال على « باشا» الذي كان حينها يُشرف على بيض الثعابين التي يعتبرها أبناءه و يصطادها بشغفٍ لدراستها و استخراج السُم منها، و تربيتها في مكان مخصص له في منزله، في أوج العناية بها، و عندما سمع رنين الهاتف؛ ربَّت على البيض بحذرٍ، و أنزل الثعبان الذي كان على كتفه ليعيده لمكانه قائلًا له بنبرة صوته العميقة:
” أنزل يا سندال “
« باشا الباشوات» كما يلقبونه، لديه شغف و ولع كبير لاصطياد الزواحف خاصةً الثعابين بأنواعها، و أفضل هواياته التي يحبها بجانب الزواحف، هي الغوص و البحث عن اللؤلؤ و صناعة قلائد و خواتم منه،« باشا» غواص ماهر بحق، لاسيما و أنه سيد الجريمة و دائمًا الضربة القاضية و المميتة هو من يتكفل و يتكلف بها في أي مهمة يقوم بها مع أخوته.. يده اليمنى قُطعت في مهمة شاقة وهو في عمر الخامسة عشر من قبل زوج زينات و بدون إرادته، فأصبحت لديه يد صناعية ذكية، و رغم هذا الطرف الصناعي القيم، لكنه لا يحبه و دائمًا يخفيه بقفاز أسود، و إذا ضرب به أحد؛ سبب له عاهة مستديمة.
و أهم ما يميزه غير ملامحه الحادة و التي تعطي طباع صارمة، هو صوته العميق، عادةً
« باشا» لا يُحب الثرثرة و التحدث من الأساس، يتبع مقولة خير الكلام ما قل و دل، و لكن عندما يتحدث يُسكت الشخص أمامه، لثقته الشديدة بنفسه و لصوته الرخيم، و كأنه يعلق على فيلم وثائقي، و الصوت الرخيم صوت عميق و خفيض يتراوح تردّده بين 15 إلى 256 هرتز.. في بعض الأحيان و بعض المواقف يتحول صوته للصوت الأجش وهو صوت غليظ فيه بُحّة.
رفع سماعة الهاتف بهدوءٍ كعادته، فهو بطبعه هادئ، و لكن جرِّب أن تدخل معه في مواجهة، حتمًا سيقضي عليك.. صاحت زينات قبل أن ينطق هو:
” باشا، تعلالي حالًا “
” جاي “
قالها في هدوءٍ غير مفتعل و وضع السماعة، ثُم ارتدى قبعته التي لا يخرج بدونها، لطالما أحب ارتداء القبعات.. تلك الدائرية و ليس الكاب.. على الرغم من أنه يمتلك شعرًا بُنيًا رائعًا، لم ينقص ذلك من مقدار حُبه للقبعات.
لقد اختار بمحض إرادته أن يعيش في منزل منفصل عن فيلا زينات التي يعم فيها الضجيج، في البداية رفضت و عندما تعامل هو بالصمت العقابي؛ سمحت له بإنشاء منزل خاص به يفعل فيه ما يشاء، و هذا المنزل يبعد عن الفيلا فقط بشارعين.
يُحب « باشا» الهدوء و الاستقرار مع زواحفه و نباتاته بعيدًا عن ضجة العالم، فيستيقظ في الصباح الباكر يعد فطورًا صحيًا و كوبًا من عصير الليمون بالنعناع المفضل لديه، ثُم يمارس التمارين الرياضية، و يجلس في الحديقة مع الورود يعتني بها، أو يقرأ الكتب العلمية التي تزيد من ثقافته.
هو مزيج فريد من التناقضات، فهو يجمع بين صفات جذابة وأخرى قد تثير حيرة من حوله.
«باشا» معروف وسط إمبابة بـ
« باشا الباشوات».
غادر المنزل بعد أن اطمأن على كل شيء، مُتجهًا للفيلا.
دلف بثباتٍ فوجدهم مجتمعين حول طاولة الاجتماعات، و حينما رآه « كرم» ركض عليه يعانقه قائلًا:
” وحشتني من امبارح “
” امبارح راح مع امبارح “
قالها وهو يعانقه بلُطفٍ، أو « كرم» الوحيد الذي يحظى بمعاملة رقيقة من أخيه الأكبر الذي يبلغ من العمر تسعة و عشرون عامًا.
صافحهم قبل الجلوس، بينما وسيم قبل أن يصافحه تساءل بخوفٍ:
” أنت غاسل ايدك ؟ “
” هديك بضهر ايدي على وشك “
رد بها وهو يجلس بينهم على يمينه المعلمة زينات تزفر الهواء بغضبٍ و تقول:
” عوض مش ناوي يجيبها البر، باعت الفلوس ناقصة اتنين مليون دولار، قال إيه.. عشان الضرر اللي وقع على سفينة الشحن ! طب و إحنا مال أهلنا، نشيل معاه الضرر ليه ؟! “
قال « قابيل» بابتسامة خافتة تُظهر عشقه للقتل:
” بسيطة، نعمل معاه الجلاشة هو و رجالته “
” لأ.. أنا عاوزة الفلوس توصل كاملة و بعدين اعملوا معاه ما بدا لكم “
رد « وسيم» يؤكد على كلامها:
” عندك حق يا معلمة، نأجل الضرب لبعدين.. أصل اليوم اللي بضرب فيه حد بضطر استحمى كل ساعة مرتين و إحنا في الشتا.. كده جسمي يبوش “
ضحك « كرم» من قوله و هتف:
” ابقى هات معاك ديتول، مع كل ضربة رشة “
أشار « قابيل» لأخيه الصامت يتابع حديثهم بدون ردة فعل، و تساءل:
” رأيك إيه يا باشا ؟ “
” صُب الصابون و زحلق الزبون “
رد بجملته المعتادة عند أي موقف يتطلب منه وضع حدٍ له، و تلك الجملة يفهمها جيدًا أخوته، فمعنى ذلك أنه قرر القضاء على « عوض» و رجاله.
وجهت المعلمة حديثها لكرم متساءلة:
” عملت إيه يا كرم في اللي قولت لك عليه.؟ “
” اطمني يا زُوز كله تمام “
” البنات هتكون هنا امتى ؟ “
” يومين ويكونوا تحت طوعك “
تدخل قابيل قائلًا:
” الأهم من ده كله، إن الفحص بتاعهم يطلع سليم مش واحدة تطلع سليمة و التانية البويضات عندها صغيرة.. لازم نتأكد منهم كلهم بعد الفحص الطبي إن البويضات بتاعتهم جاهزة للنقل “
أوما « سُلطان» بنظرة حالمة:
” سيبوا لي أنا الفحص الطبي ده “
رمقه باشا بنظرة جانبية فاترة تبعها بقوله:
” طب ريح و استريح “
أومأ بضحكة مكتومة، بينما المعلمة زينات أعطت الأمر لهم بالذهاب للمدعو عوض، فنهضوا الخمسة وهم على أتم التأهب و الثبات، و كل واحد منهم قد جهز سلاحه الخاص الذي يشاركه المعركة، و كأنهم ذاهبون للحرب.
و على اتجاهٍ آخر، تحديدًا في قصر
« صالح المنزلاوي» الجد و الذي يدير شؤون القصر ابنه الكبير الأرمل « شُكري»، هذا الرجل عقله دائمًا مشغول في محاولة أن يستغل و يستفيد ما حوله، و أولاده الرجال الاثنان يساعدونه في جميع أعماله المشبوهة، بل و معظم أفراد العائلة كذلك.
التجمع حول مائدة الطعام هنا هو شيء أساسي لديهم.
ترأس « شُكري» المائدة الطويلة، و على يمينه ابنه الأكبر « آدم» و الذي يبلغ من العمر واحد وثلاثون، و كل أمواله ينفقها على القمار، أما شقيقه الذي يعتبر ثاني اوسم رجال العائلة بعد
« جبريل» ابن عمه، هو « أدهم» اعلامي معروف على إحدى القنوات الشهيرة، و كل ما يفعله هو النفاق و نشر الفتنة بين الشعوب، و بالطبع يحدث ذلك عن طريق تمويله بالمال و بالأوامر من الجهات العليا، فلا يتحدث إلا بما يرضي كبيره حتى ولو كان كذب و افتراء لتضليل الناس، و الحقيقة تلك هي مهمته.
على تلك المائدة أيضًا يجلس شقيقه الأوسط
« جابر» و المريض بالسرقة رغم الثروة الطائلة التي يملكونها، و لكن هذا المرض بغير إرادته، و بجانبه تجلس ابنته « الطبيبة الشرعية آلاء» و التي تبلغ من العمر سبعة و عشرون، لكن ملامحها تجعلك تظن أنها هاربة من المدرسة الثانوية، و برغم براءة وجهها، لكن تلك الفتاة قوية و شرسة، و تعاملاتها دائمًا جدية لا تقبل المزاح إلا في حدود.. جابر له أيضًا ابن في الرابعة و العشرون من عمره و اسمه « آسر» مجرم هارب من العدالة؛ لارتكابه جريمة قتل، و لا أحد يستطيع الوصول لمكانه ولا حتى أهله.
أما في مقابل جابر، تجلس « عايدة» شقيقة جابر و شُكري و تلي الأخير في العمر حيث أنها على مشارف اتمام الخمسون، لديها ابنها الأكبر
« عُثمان» بعمر الثلاثون.. ثلاجة باردة تمشي على الأرض، و شقيقته الصغرى
« المحققة الجنائية فاطمة» و التي تكره اسمها خاصةً عندما يُناديها أحد «بطوط»، في الخامسة و العشرون و تمتلك القليل من روح الدعابة، لكنها في الأساس في وسط تلك العائلة تعتبر من أفضلهم، فهي لطيفة في التعامل و لينة الطباع بصرف النظر عن والدتها الغليظة التي تقطر سُمًا من لسانها كلما تحدثت.
عايدة مات زوجها في حادثة سيارة منذ عامين، فأحضرت أبناءها و جاءت لتعيش في قصر والدها الرجل الطيب الذي أنجب حفنة من الأشرار.
شقيقتها الصغرى هي « أمينة» امرأة في الخامسة و الثلاثون و في الحقيقة ليست أمينة نهائيًا، لقد فرطت في شرفها بعد دخول زوجها السجن في قضية القتل الذي اشترك فيها ابن أخيها « آسر»، تلك المرأة هي أيقونة في الجمال بحق سواءً من حيث الملامح أو الجسد الرشيق من عند الخصر و الممتلئ قليلًا من الأرداف، لديها طفل جميل نقي القلب اسمه
« لؤي» في التاسعة من عمره و مُصاب بالبهاق في وجهه و يديه.
آخر من يجلس على الطاولة هي المرأة التي كتب لها القدر العيش في وكر الأفاعي وسط تلك العائلة الشيطانية..« ماجدة» و المرأة الوحيدة المحتشمة فيهم، هي زوجة شقيقهم الراحل منذ عشر سنوات و الذي كان الوحيد الصالح في أشقائه، و منذ ذلك الحين لم تبرح القصر بأوامر من « شكري» معللًا أن أبناء شقيقه لابد و أن يترعرعوا في وسط عائلتهم..
ابنها البكري ذو السمات الطيبة و الوجه البشوش هو « جبريل» شاب في السادسة و العشرون.. جميل الخلق و الخُلق، قُطع لسانه وهو في التاسعة من عمره على يد مختطف أخذه لتهديد عمه شكري، لكنه لم يكره نفسه و رضي بقدره بل و كرس حياته لتعليم الأطفال و الكبار من ذوي الصم و البكم كل ما يعرفه، هو مؤلف قصص قصيرة بوليسية بالفصحى حاز من خلالها على جائزة أفضل كاتب خلال هذا العام، وهو لاعب كرة سلة محترف خاض العديد من المباريات التي انتهت بالفوز لصالح فريقه، وهو من قام بعمل بودكاست مرئي صورة يتحدث فيه بالاشارة و يعطي دروس في التنمية البشرية.. لا يعنيه كل ما يحدث في هذا القصر، هو الآن يجهز للسفر خارج مصر مع والدته و شقيقيه دون اكتشاف شكري للأمر، أما شقيقته الوسطى هي الفاتنة صاحبة الشخصية الحساسة و التي تبكي لأقل الأشياء « ميار»، و بكائها المستمر بسبب زوجها « أحمد» ابن رجل الأعمال الشهير و صديق العائلة « مجدي الرماح» الذي يكبرها بخمسة أعوام أي أنه في التاسعة و العشرون و يعمل برفقة والده في غسيل الأموال.. ابن ماجدة الأخير « مهند» طفل متلازمة داون الجميل و الذي يتعدى عمره العاشرة.
تلك العصابة الكبيرة بالاضافة لـ
« جعفر المصري» ابن عمة شكري و الذي لديه من الأبناء « أنور» قبطان بحري و يساعد والده في تهريب الأسلحة و ما شابه للخارج، يبلغ من العمر ثلاثون عامًا و على علاقة غير شرعية بـ
« أمينة» فهو يعتبر ابن ابن عمتها، ليست فقط علاقة غير شرعية بل خاطئة من البداية، فهي تعتبر بمثابة عمته أو خالته.. جعفر أيضًا لديه ابنة تهوى سباق الخيل بل و تفوز أغلب المرات في السباقات التي تدخلها.. في الرابعة و العشرون من عمرها و تدعى « إسراء» أما عن نقطة ضعفها، فهي شيء غير معقول.
تلك العائلة الشيطانية لديها الكثير من الأعمال الغير مشروعة، أهمها « شبكات الدعارة» التي يستخدمون فيها الفتيات الصغار لبيعهم لامتاع رجال الأعمال من الخليج و أكثرهم من الإمارات مقابل أموال طائلة على الفتاة الواحدة حسب الساعة و حسب نسبة جمالها، و اغلبهم يفضلون الأعمار من ثمانية عشر لاثنان و عشرون.
جلسوا جميعهم على طاولة الغداء بخلاف أصغر الفتيات « إيمان» ابنة شكري و التي تبلغ تسعة عشر عامًا، و أكثر ما يميزها عوضًا عن طباعها المرحة، أنها تمتلك قطعتين مارشيملو في وجهها وليس خدين.. بينما هم يستعدون للغداء، كانت هي بالأعلى في غرفتها ترتدي ملابس الخروج؛ استعدادًا للذهاب لرقص الباليه بعد تناولها الطعام، الأكل هو أهم شيء بالنسبة لها، و برغم ذلك لا يزداد وزنها أبدًا، والله لا أعلم كيف تفعلها.. تأكل بشراهة ولا تسمن !
دلفت عليها « إسراء» تتفحص جسدها بنظراتٍ مريبة مصحوبة بالاشتهاء لها.. لقد جاءت لقضاء بعض الوقت معهم، فهي معتادة على المجيء دائمًا ليس لأجل أحد و إنما لأجل الاستمتاع بالنظر لملامح إيمان وجسدها الرائع، و لا أحد يعرف بذلك ولا حتى المسكينة « إيمي»، الأخيرة تعاملها مثل أختها تمامًا و تخبرها أنها كانت تتمنى أن يكون لديها أخت، فرزقها الله إسراء.
قالت إسراء و عينيها تأكلان جسد إيمان التي تبدل ملابسها أمامها:
” ادربتِ على الفقرة اللي هتقدميها في الباليه؟”
أومأت وهي تعطيها ظهرها و ترتدي حمالة الصدر:
” آه طبعًا، بقالي أسبوع بتدرب عليها “
” طيب ما تقدميها كده قدامي اشوفك كويسة فيها ولا إيه “
ردت هي بابتسامة صافية:
” مليت والله، مرة تانية ابقي احضري معايا التدريبات من أولها “
ثم أضافت بِتذمرٍ:
” سو، ممكن تقفليلي البتاعة دي.. زهقتني “
” بس كده ! من دواعي سروري يا أحلى إيمي”
وقفت وراءها تغلق لها الحمالة، و أغمضت عينيها تتنهد بثقلٍ تتمنى في قلبها لو تختطفها لمكانٍ بعيدٍ يخصهما هما فقط، و أغلقت لها الحمالة مردفة:
” تحبي اسرحلك شعرك ؟ “
” لأ، أنا هربطه كحكة لفوق وخلاص.. يلا بقى ننزل عشان اتأخرنا عليهم، بابي بيتعصب بسرعة “
” بس عمره ما اتعصب عليكِ، ده أنتِ دلوعتنا يا ايمي “
قالتها و اقتربت منها توازيها في السير و تستنشق باخلاصٍ رائحة عطرها الرقيق، أما في الأسفل ساد الصمت على المائدة لدقائق.. جعلت
« آدم و عثمان ” في كامل توترهما من نظرات شكري لهما، كأنه يشك في أمرٍ ما.
سألته شقيقته عايدة بفضول:
” في إيه يا شكري، بتبص للعيال كده ليه ؟ “
ضحكت آلاء بسخريةٍ وهي تنظر لهما قائلة:
” أكيد عاملين مصيبة، هما دول بيجي من وراهم حاجة غير المصايب “
رد جابر يرمقهما بتفحص:
” في إيه يا بهوات ؟! “
أجاب آدم وهو يبتلع ريقه بتوتر بخلاف عثمان الذي نسي توتره و بدأ في تناول الطعام بلا مبالاة:
” مفيش حاجة يا عمي، هيكون في إيه يعني! هو بابا معرفش ماله النهاردة، و لا إيه يا عُثمان ؟ “
قالها يستنجد بعثمان، فَرد الأخير في برودٍ:
” كُل يا خالي كُل، إحنا طول عمرنا ماشيين جنب الحيط لا لينا في التنطيط ولا في الزيط، اتغدا يا عمي و روق كده “
” و حيات أمك يا عثمان أنت و الـ * اللي قاعد جنبك ده لو طلع اللي أنا شاكك فيه صح، لأقطع خبرك أنت و هو “
” عندنا أدهم اعلامي منافق، يطلع يزيع الخبر من عنده “
رد بها عثمان بعدم اكتراث، فضحك أدهم قائلًا:
” لأ و أنت اللي فنان محترم، يا جدع ده أنت انطلب منك تعمل دور شيخ، قعدت شهر مكشر و كل اللي يسألك مالك تقوله أصل طالع بدور شيخ ! ده على أساس إن الشيوخ كده أصلًا في الحقيقة ! أنا آه مبحبش الجماعة الملتحيين اللي سايبين دقونهم مدلدلة زي شجرة الموز، بس اللي أنت بتعمله برضو نفاق، محدش فينا بريء يا روح أمك “
” روح أم مين يا عندليب الدقي أنت ! ما تلم نفسك ياض.. لا مؤاخذة يا خالو “
هتفت فاطمة بتلك الجملة، ثم اعتدلت مكانها بأريحية، فأراد أدهم استفزازها.. قال:
” مبقاش غير البط اللي يتكلم، واك واك “
احمرت وجنتيها و نظرت له بغيظٍ، ثم وجهت حديثها لشكري الجالس شارد في عدة أمور:
” قول لأبنك يحترم نفسه يا خالو “
تدخلت آلاء تنهي هذا الجدال، فضربت بقبضتها على المائدة هاتفة:
” ممكن نبطل رغي شوية ؟ أوف من قعدتكم”
وجه آدم حديثه لجبريل الجالس يأكل بجانب والدته و أخوه في أدبٍ و هدوء:
” ما بتتكلمش ليه يا جبريل ! آه صحيح نسيت.. ده أنت أخرس “
قالها و ظل يضحك بشماتة فهو يكرهه و يتعمد قول ذلك دائمًا له، مما تدخل جابر تلك المرة و زجر آدم:
” إحنا على الأكل، لم الدور هو كلمك ! “
” هيكلمني ازاي وهو أخرس “
قالها وظل يضحك بشماتة، مما ربتت ماجدة على كتف جبريل بحزنٍ، بينما هو رمق آدم ببرودٍ و تحدث بالاشارة:
” أنت مش من مقامي عشان أتكلم معاك، أنت تحت و تحت بكتير أوي “
” ما تتكلم يابني قول عاوز إيه “
هتف بها ثانيةً في استفزاز، لتتدخل آلاء بحزمٍ و غضبٍ متوعدة إياه:
” آدم.. كلمة كمان و مش هيحصلك طيب “
” آه دافعي له، ما أنتِ المحامية بتاعته، أنتِ ناسية إنه السبب في الجلطة اللي جات لجدنا، و أهو نايم على سريره أهو ما بيتحركش “
” مش عاوز اسمع ولا كلمة من حد فيكم “
قالها شكري في صرامة، فلزم الجميع الصمت تزامُنًا مع هبوط إيمان و إسراء من الدرج.. حانت نظرة جانبية من جبريل على إيمان، فلاحظته و تبسمت له بعفوية، مما بادلها الابتسامة و أعاد النظر في طبقه وهو يهمس في صدره أنه عليه الاعتراف بحبه الدفين لها.
لم يرتاح بال شكري و نهض بغضبٍ موجهًا لهجته الآمرة لابنه و ابن أخيه قائلًا بهدوء مريب:
” قوموا معايا أنتم الاتنين “
… في بلدٍ آخر، تحديدًا ولاية كاليفورنيا أو الولاية الذهبية كما تُلقب، يقف رجل حسن الهيئة طويل القامة، له عينان خضراوان جميلتان، و وجه مشرق كأنه ابتلع القمر.. يرتدي قبعة بيضاء مثل أهل السُنة تغطي معظم شعره البني الفاتح المختلط بالخصلات الذهبية، يتحدث بثقة زرعها الله في قلبه و بابتسامة صافية تلازم تعبيرات وجهه المريح طوال الوقت.. مسَّد على لحيته الطويلة البنية المُهندمة في حركةٍ عفوية، ثم تحدث بلكنته الإنجليزية:
” لا يزالُ المرءُ بخيرٍ ما دام قلبُه يَستوحش من الذُنوب “
تلك الجملة التي اختتم بها المحاضرة الدينية التي ألقاها على فوجٍ هائل من الناس مختلفة الأجناس و الديانات اللذين جاءوا من مختلف البلدان خصيصًا لمناظرته و الاستماع له، فهو الداعية الاسلامي الأمريكي « لُقمان عبدالله»، رجلٌ في الثالثة و الثلاثون من عمره، أسلم على يد الداعية الدكتور « ذاكر نايك» وهو في العشرون، و مكث يتعلم الدين الاسلامي و يحضر جميع محاضرات الشيخ و الشيوخ الأخر، بالأخص أيضًا الداعية الشيخ
« أبا إسحاق الحويني» رحمه الله.
و عندما وصل لُقمان للثالثة و العشرون كان قد أتم حفظ القرآن و تعلم الفصحى جيدًا، فهو يمتلك مقدرة على الحفظ و الدراسة في وقت قصير، بالإضافة إلى أنه طبيب أسنان ناجح، ثُم انتقل « لُقمان» من حفظ القرآن لدراسته ودراسة العلوم الشرعية و حفظ الأحاديث النبوية جميعها، و عند الرابعة و العشرون..
تفرّغ لكتب الأديان الأخرى، من المسيحية واليهودية والهندوسية والبوذية، وأقوال أصحابها ومنَظّريها، فاستظهرها جميعها، واستخدم نصوصها المتناقضة في إفحام خصومه، وتبيان صحة أحكام الإسلام في المسائل المطروحة، وما لزم ذلك من إتقان لغات عديدة لخدمة أهدافه، و عندما أتم الخامسة و العشرون بدأ بالدعوة الاسلامية على نهج مُعلمه
« الداعية ذاكر نايك» جزاه الله خيرًا.
نهض رجلٌ من الجالسين ليتقدم لمنصة طرح الأسئلة على الداعية «لُقمان» بعد السماح له بذلك من قبل المشرفين و المعدين للمحاضرة، ثُم تحدث في الميكرفون قائلًا:
” أنا مايكل مُعلم و مقيم في دبي، أنا لاديني ولدي شكوك و أسئلة حول كتاب المسلمين ( القرآن) لقد قرأته بالانجليزية كله، و هناك بعض الآيات غير مفهومة و أظن أن القرآن يتناقض في مادة خلق الإنسان، وإنه يعطي معلومات مختلفة من آية لآية.. فمثلًا ذكر عن مادة خلق الإنسان في السور المختلفة ما يأتي: من ماء مهين (المرسلات: 20)، من ماء (الأنبياء: 30)، من نطفة (يس: 77)، من طين (السجدة: 7)، من علق (العلق: 2)، من حمأ مسنون (الحجر: 26)ـ ولم يك شيئًا (مريم: 67)، سؤالي هو دكتور لُقمان.. كيف يكون ذلك كله صحيحًا فى نفس الوقت ؟ “
أومأ لُقمان بابتسامة هادئة يحث الرجل على الحديث، و عندما انتهى.. تحدث لُقمان للجميع و للرجل:
” الأخ غير مسلم و سأل سؤالًا جيدًا..
القرآن غير متناقض على الإطلاق، لكن لكي نوضح ذلك يجب أن ننظر في المنهج العلمي الذي جاء به القرآن الكريم في العديد من الآيات عن خلق الإنسان، وهذا يستلزم بالضرورة جمع هذه الآيات والنظر فيها ككل؛ لتمييز خلق الله آدم -عليه السلام-، وخلق سلالة آدم التي تكاثرت بعد خلق حواء، فالله -سبحانه وتعالى- قد خلق الإنسان الأول (آدم) -عليه السلام- بعد أن لم يكن موجودًا، وهذا يعني أنه أصبح شيئًا بعد أن لم يكن شيئًا موجودًا، وهذا هو معنى الآية: (أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئًا).
أما من حيث مراحل خلق الله سبحانه وتعالى للإنسان فكانت مراحل مرتبة ومختلفة فإن الآيات في القرآن الكريم تعبر عن مراحل مختلفة وتصور تكامل هذه المرحلة، وهذا يعني أنه ليس تناقض بل تكامل. يقول الله سبحانه وتعالى (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب)، حيث بدأ الله خلق آدم بالتراب، ويقول: (الذى أحسن كل شىء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين)، حين أضاف الماء للتراب فأصبح طينًا، وقال تعالى: (فاستفتهم أهم أشد خلقًا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب)، وذلك حين زالت قوة الماء عن الطين فأصبح لازبًا أي جامد.
وهذا ينطبق على باقي المراحل، ففي مرحلة اسوداد الطين وتغير لونه وبشاعة رائحته تكون مرحلة (الحمأ المسنون)، فالحمأ هو الطين الأسود المنتن والمسنون هو المتغير. فيقول الله سبحانه وتعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ (35) سورة الحجر: 26-35، وهذا يعني أن مراحل خلق الإنسان متتالية متتابعة تكاملية ليست متناقضة، وهذا هو السبب في اختلاف المصطلحات على مادة الخلق؛ التراب، الماء، الطين، الحمأ المسنون و الصلصال. “
توسعت عيني الرجل بانبهارٍ و هز رأسه بإيماء يتفهم ما شرحه له لُقمان، فقال بأدبٍ:
” شكرًا لك، لقد فهمت.. شُكرًا جزيلًا “
بينما جميع من بالقاعة أبدو اعجابهم بالإجابة، و المسلمون منهم يرددون التكبير كلما اقتنع واحد من غير المسلمين بما يقوله لُقمان.
أنهى « لقمان» المحاضرة و عاد لمنزله، فقد اشتاق لطفله مُحمَّد صاحب العامين، و زوجته الشقراء الجميلة « آسية» التي اعتنقت الإسلام منذ خمسة أعوام على يده عندما كانت تحضر المحاضرات التي كان يدعو للإسلام من خلالها، و طلبها للزواج من أخيها المسلم و الذي أسلم أيضًا بعد أخته بعام، أما والديهما لا زالا على ديانتهم المسيحية.. بعدما أحس بأن مشاعره المرهفة تتحرك لها، توجه لأخيها و أخبره بالأمر، و تزوجها منذ ثلاث سنوات، و أصبحت خير الزوج له، و لُقمان هو من اسماها «آسية» بعد أن كانت اسمها « إليزابيث»، وجد أن اسم امرأة فرعون لائقًا عليها لشجاعتها و اصرارها على اعتناق الاسلام بالرغم من تهديد والدها المستمر لها و لأخيه.
مع صوت تكة مفتاح باب بيتهما، نهضت سريعًا باشتياقٍ صريح له بعد أن وضعت ابنها النائم بين ذراعيها على فِراشه برفقٍ، و أسرعت باستقبال زوجها و حبيبها و مُعلمها «لُقمان» الذي يكبرها بستة أعوام.
عندما رآها لُقمان مُقبلة عليه تبتسم في سعادة؛ فتح لها ذراعيه بابتسامة مُرحبة بها، فاحتضنته بقوةٍ هامسة بِحُب و شوقٍ:
” اشتقت لك عزيزي، لم أراك منذ يومين، كدت أجن بدونك.. لا أطيق العيش بدونك لُقمان، أنا أُحبك.. أُحبك جدًا “
يعلم أنها تمتلك حس مرهف و مشاعر رومانسية جميلة تفيض منها له، فشدَّد من ضمها له و احتوائها بين ذراعيه، ثُم لثم قُبلة طويلة على شعرها قائلًا:
” يا صبابة صدري أنتِ آسية “
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية حصب جهنم)