روايات

رواية يناديها عائش الفصل المائة 100 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش الفصل المائة 100 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش البارت المائة

رواية يناديها عائش الجزء المائة

يناديها عائش

رواية يناديها عائش الحلقة المائة

عندما يؤول كل شيء إلى وضع سيئ نجد بعض الأشخاص يقفون إلى جانبنا بكل صدرٍ رحب، هؤلاء هم العائلة الحقيقية المتماسكة. لقائلها.
~~~~~~~~~~~~.
العائلة هي كنزٌ ثمين لا ينضب، و لا يشعر به إلّا مَن فقده، لذا علينا أن نحافظ عليه، ونشكر الله سبحانه و تعالى عليه داعيين ألا يزول أبدًا.
و مفهوم العائلة قد يتجاوز الصورة المُعتادة من الأب و الأم والأبناء، ربما صديق حقيقي يكافئ عائلة بأكملها، و ربما زوجٌ حنون أو ابن بار أو عم أو خال هو عائلة بحدِّ ذاته.
و في سياق الحديث عن العائلة، ستجد أنه مثلما يوجد عائلة مترابطة الأواصر داعمة لأفرادها، يوجد أيضًا عائلة تهدم كيان وليدها و تخرج لنا جيل مهزوم نفسيًا و متألم جسديًا و متزعزع فكريًا غير مستقر ذهنيًا.
العائلة إما تُخرج أشخاص سوية أو أشخاص مُتعبة و مستهلكة عقليًا و بدنيًا؛ لذلك أوصى رسول الله صلّ الله عليه و سلم بالمعاملة الحسنة من الراعي لرعيته، أن يعامل المسلم زوجته و أولاده وكل من يعيش تحت كنفه بطلاقة الوجه، و كفِّ الأذى، و الإحسان إليهم، والصبر على أذاهم.. فقد قال رسول الله صلّ الله عليه وسلم : ” خيركم خيركم لأهله ” .
قال الشوكاني رحمه الله تعالى :
في ذلك تنبيه على أعلى الناس رتبة في الخير و أحقهم بالاتصاف به هو من كان خير الناس لأهله فإن الأهل هم الأحقاء بالبِشر وحسن الخلق والإحسان وجلب النفع ودفع الضر، فإذا كان الرجل كذلك فهو خير الناس، وإن كان على العكس من ذلك فهو في الجانب الآخر من الشر، وكثيرًا ما يقع الناس في هذه الورطة فترى الرجل إذا لقي أهله كان أسوأ الناس أخلاقًا و أشحهم نفسًا و أقلهم خيرًا، وإذا لقي غير الأهل من الأجانب لانت عريكته و انبسطت أخلاقه و جادت نفسه وكثر خيره، ولا شك أن من كان كذلك فهو محروم التوفيق زائغ عن سواء الطريق.
يدخل « بدر» على أسرته بعد أن أنهى عمله، يلقي التحية عليهم أولًا، ثُم يستقبلهم واحد تلو الآخر بذراعين مفتوحين لاحتضانهم و بث حُبه و اشتياقه لهم.. رفع « قُدس» إليه و ظل يُداعبها للحظات و الصغيرة تضحك بكثرة ليقول لها وهو يلثم القبلات على خدها:
” يا مرحبًا بستر بدر من النار ”
و جاءت «عائشة» هي الأخرى تجفف يدها بعدما أنهت غسل الصحون، ففتح لها « بدر» ذراعه ليضمها إليه، و لثم قُبلة عميقة على جبينها قائلًا:
” يا مرحبًا برفيقة الدرب و مُهجة القلب و هدية الرب ”
تبسمت و هتفت تُداعبه:
” الله الله ده إيه الكلام الحلو ده ؟ ليك مصلحة معايا ولا إيه ؟! ”
” هي دي أول مرة أغازلك فيها ؟ بس أنتِ عندك حق، أنا فعلًا عايز مصلحة منك ”
قالها بعدما أنزل ابنته برفقٍ، و جلس ليُجلس عائشة معه وهو يحيط كتفيها بحنانٍ ليُتابع:
” كنت عاوزك تعملي لي مساج لضهري؛ لأني فضلت واقف في الشغل كتير النهاردة، و اشتغلت بنفسي عشان اعلم العمال التركيبة الجديدة للاصدار الحديث اللي عملناه، فكان يوم مُتعب جدًا يعني الحمدلله.. بستأذنك بس لو حاسة نفسك كويسة ممكن تعملي لي ضهري ؟ لو تعبانة بلاش ”
تبسمت هي ضاحكة و نهرته بلُطفٍ قائلة:
” بدر أنا مش قايلالك كذا مرة لما تعوز حاجة اطلبها علطول ؟ هو أنت غريب ولا في فرق بينا عشان تستأذن ؟ بدر أنت زوجي و حبيبي و طلباتك أوامر ”
كانا الطفلان سُليمان و ريَّان يتابعان والديهما عن قُربٍ، بينما « بدر» شدَّد من احتوائه لكتفيّ عائشة، و رد باسمًا:
” لا يا عائش.. العلاقة ما بينا مش مبنية على الأمر يا حبيبتي، العلاقة زي ما عودتك من أول زواجنا إنها تكون مبنية على الأدب و الاحترام و التفاهم، و لازم استأذنك قبل ما اطلب منك أي حاجة عشان ممكن تكوني مش فاضية أو عندك شيء خاص بيكِ في الوقت اللي بطلب منك حاجة، أنتِ ليكِ وقت خاص بيكِ و أنا واجب عليا احترمه، و عارف يا حبيبتي إن وقتك كله لنا و مش بيتبقى وقت لنفسك، و عارف كمان إنك مرتبة النهاردة تقرئي كتاب في الساعة اللي الولاد هيروحوا الدرس فيها و أنا هقعد بقُدس، عشان كده لازم ولابد قبل ما أطلب منك الحاجة، أستأذنك الأول لو فاضية تقضي لي طلبي، و أوعدك بإذن الله أعوضك بوقت فراغ تاني تعملي فيه اللي أنتِ عايزاه.. أنا آسف بس أنا حقيقي جسمي مدغدغ و محتاج للايدين الحلوين دول يعالجوني ”
قال جُملته الأخيرة وهو يُقبِّل ظهر كفيها و باطنهما، فاتسعت ابتسامتها و قالت بحنانٍ:
” ده أنا عيوني ليك يا بدر، أصلًا أنت عندي أهم من أي وقت فراغ و بحب أقضي كل وقت معاك و مع عيالنا، ببقى في منتهى السعادة و بحس بحنان الدنيا كله، حنان و حُب اتحسد عليهم، ربنا يبارك لي فيكم يارب.. أنتم عندي أهم من أي حاجة تانية والله، بس أنا أحيانًا بكون محتاجة وقت لوحدي استرجع فيه طاقتي أو أعمل مثلًا ماسكات و باديكير الحاجات اللي أنت عارفها دي و بترد الروح لأي ست، بخلاف كده أنا أصلًا ببقى مبسوطة و أنا وقتي كله رايح لكم أنتم ”
في تلك اللحظة دوت صوت سقفه من كفيّ سُليمان، و كذلك فعل ريَّان و قُدس، ليقول سُليمان بنبرة ساخرة يشوبها الأدب:
” يا سلام.. عصافير الحُب ! ”
ضحك والده بدهشةٍ من قول ابنه، بينما عائشة تساءلت بتوعُّدٍ مزيف له:
” عملت واجبك يا أستاذ سُليمان ولا تتعاقب ؟ ”
” الحمدلله طبعًا يا ماما عملته، من امتى و أنا بأجل عمل اليوم إلى الغد.. بس لو الغد طلع اجازة، أأجله عادي ”
رد بها بنظرة مشاكسة منه، أما هي نهضت تركض وراءه بعد أن فرَّ هاربًا منها، فتصيح قائلة في جوٍ يسوده الحُب و المرح:
” لمض.. لمض و عاوز تتاكل و أنت حلو شبه جوزي حبيبي كده ”
توقف سُليمان مكانه و استدار لوالدته يقول بشجاعة:
” و أنا أبتاه حبيبي أحلى واحد في الدنيا ”
” طب و ماما يا ليمو ؟ ”
تساءلت بها بدموعٍ اصطنعتها لترى ردة فعله، فاقترب منها و احتضنها قائلًا بنبرة حنونة:
” و إحنا من غيرك ولا حاجة يا ماما، أنتِ أحلى حاجة في حياتنا ”
في تلك اللحظة اقترب ريَّان هذا المشاكس يقول بغيرةٍ من جو العناق بين أمه و أخيه:
” و أنا احضنيني يا ماما ”
” يا روح ماما تعالى ”
قالتها وهي تترك سُليمان و تضم ريَّان بين ذراعيها، ثُم وقفت به تبث قبلاتها الحنونة على وجهه و شعره الطويل مثل والده و أخيه، في حينٍ أن
« بدر» ظل مكانه في جلسته يحتضن ابنته و يتابعهم بابتسامة صافية داعيًا الله أن يحفظ و يبارك في أسرته الصغيرة.
يبدو أن الحياة قررت الوقوف في صفه تلك المرة، يبدو أن « بدر» حصد ما صبر لأجله أخيرًا، يبدو أن الحُب الصادق هو من انتصر في النهاية..
لقد نال ما يستحق بقلبه الطيب و حُبه لله، أعطاه الله ما يتمناه.. أصبحت « عائشة» تُحبه حُبًا جمَّا، و أصبحت لديه أسرة تملأ حياته بالبهجة و السعادة، و صارت السعادة جزء لا يتجزأ من يومهم.
نجح « بدر الشباب» في الحصول على قلب ابنة عمه، نجح في نيل قلبها المتمرد و اخضاعه بلينٍ و حنوٍ للتجديف في بحر عشقه الصادق الطاهر بدون أدنى خوفٍ أو قلقٍ منها، حازت « عائشة» على الأمان الذي بحثت عنه لسنوات في وجود
« بدر»، معه عرفت و أدركت معنى الأمان، معه تيقنت من مرادفات الحنان، هو وحده من يعرف مداخل قلبها، و أول مدخلٍ له كانا الحنان و الأمان اللذان طوقا قلبها برقَّةٍ يذوب لها الحجر.
أنجبت له الذرية الجميلة التي يسعى أي شخصٍ للحصول عليها، و أصبحت هي كل حياته و نور فؤاده، و أصبح هو ملاذها بعد الله و بيتها الآمن.
و مثلما تحررت غزة من دنس الصهاينة و انتصر الحق في النهاية، تحرر قلب « عائش» من الآثام و الخطايا و انتصر الحُب المخلص في عمق الثنايا، و كيفما فرَّ الاحتلال هاربًا؛ فرَّ منها الانحلال زاحفًا، و تربَّعت الأخلاق على عرش قلبها، و بدأت الحكاية بـ « أنا أكرهك» و انتهت بـ « لا أطيق البُعد عنك» أو ربما لم تنتهِ و ما زالت مستمرة تروي قصة عشقهما التي لم تخلو من الشدِّ و الجذبِ بينهما لأبنائهما و يستمر الأبناء بتناقلها للأبناء، فيتوارثها الأجيال من سلالة
« بدر و عائشة» و تترك قصتهما بصمةً في عالم العشق و الهوى.
كان البدر لها فصارت الشمس له، كلاهما لا تستقيم و لا تكتمل الحياة بدونهما، حياة بدأت بالتزعزُع و انتهت بالاستقرار، الاستقرار الذي نُود جميعًا.
معه شعرت بأنها في مكانها الصحيح، و معها تيقن بأن القلب أحسن الاختيار و أضرم في أي أحدٍ يأتِ بعدها النار، هي ناره و جنته ومعها سعيد في الحالتين، هي المتمردة التي أربكت كيانه و لها أطلق للقلب عنانه، فعشِقها باخلاص و تمنى من حُبها عدم الخلاص.
الشيء الوحيد الذي يُميزها عن باقي النساء؛ أنها حبيبته الأبدية، و الشيء الوحيد الذي يميزه عن باقي الرجال؛ أنه حظي على جنون العشق منها.
أصبح قلبه مَعميًا عن غيرها، و أصبحت تراه أفضل الرجال بل لا ترى عينيها حبيبًا غيره.. المتمردة اكتفت بالعاشق الذي لا يكل ولا يمل من حُبها ثانية.
جاءت و جلست بجانبه وما زال هو يبتسم لها مع نظرات مطولة من عينيه لعينيها، فخجلت من نظراته أمام أبنائهما، و تساءلت بهمسٍ و بابتسامة خجولة:
” بتبص لي كده ليه ؟ ”
” بعد تسع سنين زواج، لسه بحاول استوعب إنك مراتي، بحاول استوعب إني فُزت بيكِ خلاص و إنك بقيتي تحبيني، لأ و الحمدلله خلفنا تلات عيال كل عيل فيهم يخليني أحمد ربنا عليه طول العمر، مبقتش قادر أوصف لك مدى حُبي ليكِ؛ لأنه يوم عن يوم بيزيد، ببقى عاوز أشوفك طول الوقت زي منا شايفك جوا قلبي، مش ببطل تفكير فيكِ حتى و أنا في عز شغلي و تعبي، مبقتش عارف هل ده هوس و جنون مني و لا إيه، بس كل اللي بحسه إني ببقى في قمة الراحة، زي ما أنا باصص لك دلوقت و حاسس براحة كبيرة في قلبي بدعي ما تروحش أبدًا.. النظرة في عيونك و ملامحك الدافية دي يا عائش بالدنيا و ما فيها ”
قال كلماته و مدَّ أنامله يُداعب خدها الذي تورَّد من كلماته الملقاة على مسامعها أمام أبناءها، ثُم أردف في اللحظة التي خفضت بصرها فيها، فرفع ذقنها برقَّةٍ يجعلها تبادله النظرات بعُمقٍ:
” و اتاري الدُنيا فيها جميِل و حلو عكس متقالي وحظي الحلو مش ضايع وكان و ياكِ متشالي ”
ردت باسمةً:
” و عمرو حسن برضو قال ملقتش ونس للعمر أحسن منك ”
دنا منها يتأمل ملامحها التي لا يمل من النظر فيهم عن قُربٍ شديد، و تابع بنبرة عاشقة:
” بحبك قبل ما الدنيا تجمعنا أنا و أنتِ
وفتّحتي ف حياتي بيبان عاشت عُمر مقفولة
برقة وردة خدتِ القلب و روحتي و جيتي و سكنتي
و بالعشرة و بالأيام بقيتي السيدة الأولى ”
” إلهي تنستر ”
ردت بها كعادتها، فهزَّ رأسه بضحكة خفيفة يتوعدها بداخله، بينما سُليمان نهض في حركة مضحكة و أخذ شقيقيه معه، و بنبرة مرحة قال يمازح أبويه:
” طب بعد إذن حضراتكم نستأذن إحنا بقى و أنتم كملوا قصة الحب الطاهرة دي.. هروح ألعب أنا و أخواتي ده بعد اذنكم طبعًا ”
مسح بدر على شعره في حركة سريعة تدل على إحراجه من ابنه، أما عائشة ضحكت في صمت و أحست بنفس شعور بدر، فقال الأخير باستسلام لشقاوة ابنه:
” متطلعوش برا.. العبوا هنا ”
رد سُليمان ببراءة مزيفة:
” سمعًا و طاعة يا أبتاه، المهم حضراتكم كملوا و متشغلوش بالكم بينا ”
” نكمل إيه يا واد ؟ ”
تساءلت بها والدته في تعجب، فأجاب ضاحكًا:
” الكلام الجميل اللي بسمعه كل يوم اكتر ما بسمع ميس دعاء وهي بتقولنا محدش ياكل في الحصة ”
تبادل بدر و عائشة الضحكات، أما هو أخذ شقيقيه و تصرف بتعقُّل لتخلو الجلسة لوالديه على الرغم من أنهما يتبادلان كلمات الحُب العفيفة أمامه دائمًا، و لكن سُليمان عقله سابق لعمره فكان يفهم كل شيء بسهولة، و فهم أن والديه بحاجة للجلوس وحدهما الآن.
انتهز« بدر» فرصة اختفاء أبناءه في غرفة اللعب، و نهض يختطف « عائشة» بغتةً معه قائلًا:
” تعالي عاوز أوريكِ حاجة ”
نهضت معه و عينيها تتساءل بفضول، فأخرج دفتر كبير أنيق من الخزنة الصغيرة بداخل مكتبه، مكتوب عليه « يُناديها عائش»، و طلب منها فتحه تحت نظرات الدهشة و الاستغراب منها، فأخذته و تساءلت قبل فتحه:
” يُناديها عائش ! ده إيه ده ؟ ”
رد وهو يقترب منها و يحيط خصرها برفقٍ:
” ده دفتر أنا عملته من أول يوم حبيتك فيه، و كتبت فيه كل مشاعري و كل صغيرة و كبيرة حصلت لنا مع بعض، و لقيت إن برغم الأيام الصعبة اللي مرت بينا؛ حُبي ليكِ كان بيزيد مش بيقل و إن الأيام الصعبة جات عشان تبشرنا بالأيام الجميلة اللي احنا عايشنها دلوقت.. على فكرة لسه فيه أربع دفاتر كمان؛ لأني بقالي سنين بكتب مواقفنا مع بعض و مشاعرنا و كل احساس أنا حسيته تجاهك، اللي هيفرحك فيها اكتر من اللي هيزعلك، و اللي هيزعلك خليه يعلمك إن الحياة دروس و تجارب و الشاطر اللي يعدي و ينجح فيها، و إحنا نجحنا بامتياز يا عائش، نجحنا و عدينا فيها كتير يا روح قلب بدر ”
أدمعت عيناها و ارتمت على صدره تعانقه بقوة، فاحتواها بين ذراعيه بحنانٍ، لتقول هي بنبرة متهدجة:
” تعرف إني بحب الحاجات دي أوي.. بحب الراجل اللي يهتم بتفاصيل العلاقة الحنين اللي عارف يسعد الست اللي معاه ازاي، بس اشمعنا سميته يُناديها عائش ”
أجاب وهو يُبعدها عنه بلينٍ و يحتوي وجهها بحُبٍ:
” تفتكري من عشر سنين سألتيني ليه بتناديني عائش.. صح ؟ ”
أومأت، فتساءل ببسمة واسعة:
” و قولتلك أنا إيه وقتها ؟ ”
” لأنك مُدللتي ”
أومأ بصدقٍ و عاد ليعانقها مردفًا:
” لأنك مُدللتي و بنتي و حبيبة قلبي يا عائش، عشان كده سميته بالاسم اللي بنادي لك بيه دايمًا يا روح بدر.. لأنكِ مُدللتي ناديتُك عائش، و والله إنه لأحب الأسماء لقلبي ”
” ربنا ما يحرمنيش منك أبدًا يا بدري، أنا فعلًا خدت حظي من الدنيا لما حبتني و حبيتك، أنا أسعد إنسانة في الدنيا إني اتحبيت من راجل زيك، أنت و نعم الرجال يا بدر ”
قالتها و أوشكت على البُكاء تأثُرًا بالموقف، فمسح لها دموعها المتعلقة في جفونها، و لثم قُبلة حنونة على عينيها، ثُم قال بنبرة لينة رومانسية:
” اكتفيت بكِ، و لن أكتفي منك أبدًا يا عائش ”
صمتٌ طرق بابهما للحظات عندما سمعا صوت ابنهما البكري « سُليمان» يتحدث مثلما يتحدث بدر عند اعطاء الدروس في المسجد.. لاحت ابتسامة جميلة على شفتيّ والده و قال:
” شكله مقعد أخواته و بيديهم درس من الدروس اللي بديها لهم في المسجد ”
ردت عائشة تبادله الابتسامة:
” أنت لسه أول مرة تعرف ! ده كل إما يلاقي نفسه فاضي، ياخد أخواته يقعدهم في ركن الصلاة، و يلبس هو العباية البيضا و الطاقية و يكون مجهز كتاب من كُتبك الدينية اللي في المكتبة اللي في الرُكن، و يقعد قدامهم يديهم درس من الدروس اللي بيحفظها منك.. بيتكلم بنفس أسلوبك و نفس تعابير وشك، أول إما بشوفه كده؛ بقول بدر وهو صغير ”
” يا سلام ! حمستيني أروح أشوفه ”
قالها بحماسٍ طغى عليه و اتجه نحو رُكن الصلاة، فأوقفته تقول بخفوتٍ:
” بس شوفوا من غير ما ياخد باله عشان ميتكسفش، سُليمان لما بيندمج في الحاجة و يلاحظ إن حد متابعه، و شه بيروح زي الطماطم ”
أومأ ضاحكًا و خطى خطواته بحذرٍ، ثُم وقف بجانب مدخل الركن يختلس النظرات عليهم، ليجد سُليمان بالفعل يُجلس ريَّان أمامه و بجانبه قُدس المسكينة التي تقاوم النوم بشدة، بينما هو يقول بفصاحة يحاول اظهارها رغم صغر سنه:
” لما نزلت آية “وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ”
قال إبليس: أنا من الشيء.
فنزعها الله من إبليس، وقال: “فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ”
فقالت اليهود والنصارى: نحن نتقي ونؤتي الزكاة ونؤمن بآيات ربنا.
فنزعها الله من اليهود والنصارى فقال: “الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ”
فنزعها الله عن إبليس، وعن اليهود والنصارى، وجعل الرحمة والمغفره لأُمّة محمد، جعلها لك أنت. ”
جاءت عائشة من خلف بدر تستند عليه و تتابع ابنها بفخرٍ و بابتسامة راضية، بينما بدر تنهّد بارتياحٍ هامسًا لها:
” عرفنا نربي يا أم سُليمان، اللهم لك الحمد و الشُكر يارب، ربنا يبارك فيهم ”
” اللهم آمين ”
أما سُليمان عندما وجد أخته تحاول مقاومة النوم و تفشل، فلحق برأسها الصغير على كفه قبل أن تقع على الأرض من كثرة النعاس، و ضمها إليه برفقٍ قائلًا لشقيقه:
” كفاية كده النهاردة يا ريَّان عشان قُدس عاوزه تنام ”
و بدأ يُهدهدها على فخذيه و يُربت عليها بلينٍ:
” نام ننه نام و ادبح لك جوز حمام ”
ثُم صمت يفكر فيما قاله و تابع بثقة:
” لأ، أنا هقرأ لك قرآن أحسن عشان أعود ودانك الصغيرة الجميلة دي على سماع القرآن على طول، و كمان.. و كمان أنتِ يا قُدس مش هتستفادي حاجة لما أدبح لك جوز حمام، كده كده أنتِ لسه بترضعي ”
كتم بدر ضحكته و كذلك عائشة، بينما ريَّان هتف باعتراض:
” بس ماما كانت بتغنيها لنا دايمًا ”
رد سُليمان بِتَعَقُلٍ:
” ماما تعمل اللي هي عايزاه، بس أنا لما فكرت فيها لقيت إنها مش منطقية، هو أي سجع بيتقال وخلاص ! مفيش أحسن من القرآن ”
اتسعت عينيّ عائشة بدهشة وفتحت فمها بتعجب و اعجاب، ثُم تساءلت غير مصدقة:
” بسم الله ماشاء الله، ربنا يحميه حبيب قلبي، بس عرف الكلام ده منين ؟ أقصد يعني ازاي طفل في سنه يقول كده و كأنه واحد كبير فاهم كل حرف بينطقه ؟! هو يعرف السجع منين، ده مأخدوش في المدرسة ؟! ”
أجاب بدر وهو يعقد يديه على صدره و يتأمل ابنه بِحُبٍ و فخرٍ:
” ما شاء الله عليه، أصل أنا كنت بشرح للشباب مرة حاجة زي كده، بس من كام شهر.. ما شاء الله ذاكرته حلوة و عاجبني إنه بيفكر في كل حاجة، ربنا يحميه هو و أخواته يارب ”
” يا قلب ماما ”
صاحت بها والدته، فانتفض سُليمان مكانه و كذلك شقيقه و استيقظت قُدس، أما بدر فلتت منه ضحكة مندهشة من ردة فعلها و قال وهو يتجه نحوهم:
” معلش يا ولاد، دي طريقة أمكم في التعبير عن الحُب ”
ارتكزت عائشة على ركبتيها تضمهم لها باحتواءٍ كبير وهي تقول بفرحة تعجب لها سُليمان:
” حبايبي حبايبي.. بحبكم أوي، يارب أشوفكم صالحين دايمًا يا حبايب أمكم ”
رد سُليمان ضاحكًا منها:
” يارب يا أحلى عائش ”
و تابع بنظراتٍ متفائلة:
” ادعي لي يا ماما أبقى داعية اسلامي كبير و يسلم على ايدي ناس كتير، زي الداعية الامريكي دكتور « لُقمان»، أنا بحبه أوي و نفسي أبقى زيه هو و أبتاه، و ناس كتير تتعلم مني الدين الصح و ربنا يحبني، عشان لو ربنا حبني هيوضع في وجهي القبول.. أبتاه قال كده، صح يا أبتاه ؟ ”
” صح يا قلب أبوك، ربنا يجعلك يابني من المشهورين في السماء بحُب و فعل الخير ”
أردفت عائشة بدعمٍ له:
” أنا متأكدة يا حبيبي بإذن الله إنك هتبقى زيه، ربنا يستعملك ولا يستبدلك يابني، أنت و أخواتك و ولاد المسلمين يارب ”
أما بدر عبث في شعره بلُطفٍ وهو يقول له:
” هو أنا عشان فرجتك على كام فديو ليه هتبيعني يا ليمو ؟ ”
” مقدرش يا أبتاه، أنت نور عيوني يا أبتاه والله، بس شفت آخر مناظرة ليه مع ملحد و الملحد أسلم بعدها، كنت فرحان أوي و قلت يارب أبقى زيه، و حضرتك يا أبتاه مثلي الأعلى في كل حاجة و لو بقيت زيك هبقى كسبت الدنيا و الآخرة إن شاء الله، عشان يا أبتاه أنت و دكتور لُقمان قدوتكم حبيبنا و حبيبي سيدنا مُحمد و أنا بتعلم منكم و نفسي أبقى زيكم ”
احتضنه والده و لثم قُبلة على رأسه تبعها بقوله:
” بدعي لك أنت و أخواتك يا حبيبي والله ربنا يصلح حالكم و يبعد عنكم شر فتن الدنيا ”
هُنا تدخل ريَّان يقول بعفوية الأطفال:
” أبتاه جبت لنا فناويس ؟ ”
” فناويس ! ”
ضحكت عائشة و ردت تُصحح مخارج الأحرف لصغيرها:
” فوانيس قصده ”
” منا عارف، بس بهزر معاه.. إن شاء الله يا حبيبي هنروح بكرة نشتري هدايا و فوانيس كتير و نوزعها على الدار و أجيب لكم الفوانيس اللي تختاروها ”
نهض سُليمان يقفز بفرح و يصيح:
” هنروح عند صحابي بكرة.. هيـه ”
اعتاد « بدر» أن يصطحب الولدين معه عندما يذهب لزيارة دُور الأيتام، و من خلال تلك الزيارات، أحب سُليمان الأطفال هناك و تكفل بتوزيع الهدايا عليهم بمساعدة والده، بل يجد أن أفضل أيامه هي تلك الأيام التي يزور فيها أصدقاءه من الملجأ.
حدثت تلك الأحداث قبل شهر رمضان المبارك بيومين، حيث بداية استقبال الشهر بالتجهز و اعداد العدة له و التهيؤ بأفضل الأساليب، مثل اختيار المسجد الذي سيتم الصلاة فيه و التنويع بين الصلاة خلف الأئمة اللذين يتميزون بأصواتهم المريحة للنفس، و مسح الغبار من المصاحف التي اعتاد أصحابها على ركنها دون قراءة، إلا يوم الجمعة يقرأ البعض منهم الكهف و يكتفي بذلك، و الاستعداد بطرق جميلة أخرى و ما شابه.
يصدح صوت ابتهالات النقشبندي من الطابق الأرضي لبيت الابن الثاني لرُشدي الخياط
« مصطفى والد زياد و نورا»، الذي تعوَّد على الانصات لابتهالات النقشبندي الجميلة و الترديد وراءه، فجلس في رواق المنزل يُردد بصدرٍ متسع ممتلئ بالرحابة:
” يا ربي إن عَظُمت ذنوبيّ كثرةً، فلقد علمتُ بأن عفوكَ أعظمُ.. يــا رب.. يـا ربِ إن عَظُمت ذنوبيّ كثرةً، فلقد علمتُ بأن عفوكَ أعظمُ..
إن كان لا يرجُوك إلا مُحسنٌ، فمن الذي يدعو و يرجو الآثمُ.. أدعـوٓك ربي كما أمرت تضرُعًا، فلإن رددت يدي فمن ذا يرحمُ.. يــآ رب ”
و زوجته « سارة» تجلس أمام الفرن تخبز العيش، فيأتِ « كنان» من خلفها و يختطف قطعة من العجين، مما نهرته جدته بلُطفٍ خوفًا عليه:
” يا واد يا كنان متاكلش العيش ني هيوجع بطنك، خد يا حبيبي رغيف أهو ”
رد باعتراضٍ و عنادٍ قائلًا:
” أنا بحب أكله ني.. اعملي لي أبور ”
” هعملك لو بطلت تاكل عجين ”
” خلاص مش هاكل، بس اعمليلي دلوقتي ”
” حاضر ”
” لأ اعمليلي دلوقت.. يلا دلوقت حالًا ”
” يا واد قولتلك حاضر، اصبر بعملك أهو ”
عند سماعه لصوت البوابة الخارجية للمنزل تُفتح، علم أن والده قد عاد من العمل، فوضع العجين من يده و قال بخوفٍ لجدته:
” تيتا أنا معملتش حاجة.. ماشي ؟ لو بابا سألك أنا عملت حاجة غلط و قولتيله كنان أكل عجين، أنا هخاصمك و مش هروح السوبر ماركت أجيب لك اللي أنت عايزاه تاني ”
ضحكت جدته رغمًا عنها و قالت تزامُنًا مع مجيء « زياد»:
” أنت بتهددني يابن اللذين ”
اتجه زياد ناحية والده يُقبِّل رأسه بعدما ألقى التحية عليه، و توجه نحو والدته يفعل المثل، ثم التفتت لابنه يحمله و يلثم خده ضاحكًا:
” كلت عجين ولا لسه يا كنان ؟ ”
توتر كنان و نظر لجدته يقول بادعاء:
” هو أنا بتاع الكلام ده برضو يا بابا، حتى اسأل تيتا أنا قاعد مؤدب من ساعتها و مستني الأبور بتاعي ”
التزمت جدته الصمت بضحكة مكتومة، في حين أن زياد رمقه بنظرات شكٍ، ليقول:
” اللي بيكذب بيروح النار، قول الحقيقة عشان تاخد حسنة و الحسنة بعشرة زيها، يلا يا حبيبي جاوبني بصراحة ”
أومأ بارتباكٍ:
” كلت حتة صغيرة، بس أنا آسف مش هعمل كده تاني ”
” و أنا مش هزعل منك عشان قولت الصراحة، بس اوعدني متعملش كده تاني عشان بطنك هتوجعك يا كنان، بابا خايف عليك يا حبيبي ”
امتثل لطلب والده اللين، و قال:
” حاضر يا بابا، أنا بعتذر و آسف ”
” اعتذارك مقبول يا كنان ”
و أخذه بعد أن استأذن من والدته، ليصعد لشقته و يجد « هاجر» تقوم بفرش السجاد برفقة ابنتيها، فهتف ضاحكًا و هو يستقبلهنَّ بحُبٍ:
” لازمتها إيه ترويقة قبل رمضان دي يا حبيبتي، هو إحنا داخلين على العيد ؟ ”
” دي طقوس ولازم تتعمل حتى لو البيت نضيف، برغم إني تعبت بس بحس براحة نفسية بعدها، و بناتك ما شاء الله عليهم بيساعدوني ”
قالت كلماتها وهي تعانقه و تريح رأسها على كتفه بتعبٍ، فمسَّد على شعرها بحنانٍ و أردف:
” تسلم ايدك يا وردتي، تعالي ريحي و أنا هقوم أعمل معاكِ ”
” لأ خلاص أنا خلصت.. بفرش السجاد أهو ”
أثناء حديثهما سويًا، وقعت الزينة الرمضانية الملتصقة باللصق على الحائط، فأحضر كنان الشاكوش و مسمار وهتف بتعصبٍ:
” أنا زهقت من الزينة دي، كل شوية تقع.. أنا هدقها في الحيطة ”
نهضت هاجر تصيح برفضٍ قاطع:
” تدق مين الله يهديك.. هات الشاكوش ده، الحيطة هتبوظ يا كنان ”
تدخلت توأمه تقول بأدبٍ و بخوفٍ على انفعال والدتها:
” كنان اسمع كلام ماما و متعصبهاش ”
أما خديجة صاحبة الأربعة أعوام قالت:
” بابا هيربطها أحسن يا كنان، عشان اللصق بيخليها تقع كل شوية ”
استدار للأختين و هتف بغضبٍ منهما:
” أنتِ مالك أنتِ وهي، خليكم في حالكم ”
مسح زياد على شعره بضيقٍ من عناد ابنه الدائم، و تنهد بهدوءٍ قبل أن يجذبه و يتحدث معه بسلاسة:
” لحد امتى يا كنان هتفضل متسمعش الكلام و تعامل اخواتك البنات كده ؟ أنا مش قايلك يا حبيبي كذا مرة إن أخواتك دول أمانة في رقبتك و البنات يتشالوا على الراس و نعاملهم بالراحة ؟ بتزعق لأخواتك ليه يا حبيبي ؟ ”
صمت ينظر لأختيه يبحث عن الإجابة، ثم أجاب:
” أنا والله يا بابا بحب أخواتي بس هما بيعصبوني و يدخلوا في اللي ملهمش فيه ”
” أخواتك بينصحوك مش بيقولوا حاجة غلط، و النصيحة لما تيجي من اللي لنا أحسن ما ناخدها من برا.. أخواتك بيحبوك و خايفين عليك، و أنا عارف إنك متقصدش تزعلهم بس بعد كده لما تلاقي نفسك متعصب قولتلك خد جنب لوحدك و افضل استغفر ربنا و قول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. ماشي يا كنان ؟ ”
” حاضر يا بابا ”
رد بها وهو يتجه تلقاء نفسه ناحية أخوته ليضمهما له و يعتذر منهما بابتسامة صغيرة:
” أنا آسف متزعلوش مني ”
تبادلت هاجر مع زوجها النظرات الحنونة و على أبناءها، و اتجهت تجلس بجانب زياد، ليحيط الأخير جسدها بحنانٍ له هامسًا بمداعبةٍ:
” الورد طرح ورد مطرحش صبار ”
ردت بضحكة صغيرة:
” بس عاوز الصبر و إحنا بنرويه عشان لما يكبر يبقى ورد كويس ”
” تعرفي الأحلى من كل ده إيه ؟ ”
” إيه ؟ ”
تساءلت بفضول وهي تستدير بكامل جسدها له، فقال بنبرة صادقة وهو يميل برأسه على جبهتها:
” أنتِ.. أنتِ الوردة اللي وهبت الجمال لحياتي كلها ”
لم يكن الحُب وحده هو أساس العلاقات، بل أن أساسها الحقيقي الثقة الكاملة التي تهبها من قلبك للشخص الذي تقع في غرامه، فيسعى ذلك الشخص جاهدًا أن يثبت لك بأن ثقتك الغالية في محلها و مكانها الصحيح.
كم هو جميلٌ أن تجد ما وددته دومًا و أردته يومًا.
و في جمال العلاقات التي تسردها الحكايات يقولون..
أكثر العلاقات أمنًا هي تلك التي تُعامل فيها شخصًا يخاف الله؛ لا يُعاملك على الحقيقة بل يُعامل اللهَ فيك، تأمن جانبه: لا خوف غدر ولا خيانة ولا إهدار حقٍّ ولا أذًى بغير حقّ، فإن سوّلت له نفسه تعدّي حدود الله، ردّه خوف الله.
كان أبو العتاهية يقول إنّه ودّ لو سبق أبا نُواسٍ الحكميّ إلى قوله مادحًا:
«قد كنتُ خِفتُك؛ ثمّ أمّنني
من أن أخافك: خوفُك اللهَ..».
صباح أمس قد وصل البروفيسور قُصي و زوجته و ابنتهما الجميلة لارين بالطائرة الخاصة للأراضي المصرية، و الآن هو يجلس بشقته في منزل والده، يتابع مع ابنته فيلم كرتون التي أجلسها أمامه يتناولان البطاطس المقرمشة، و « منة» تضع ماسك على وجهها في المرحاض.. مرت دقائق و انقطعت الكهرباء و الشمس قد سحبت أشعتها و همَّت بالمغادرة، و حينها كانت نوافذ الشقة مغلقة، فالصالة أصبحت ظلام.. خافت لارين و تمسكت بوالدها قائلة:
” بابي أنا هايفة ”
” لا يا حبيبتي أنتِ مش هايفة متقوليش على نفسك كده ”
بما أن لارين لا تنطق الكلام المصري بلغته الصحيحة، فأراد والدها المزاح معها، مما غضبت عليه و ضربته بخفة في صدره هاتفة بالانجليزية:
” أنا خائفة أبي، أعد الكهرباء ”
احتضنها وهو يقول ضاحكًا:
” فكرتيني بأيام ما كنت لص كهربا ”
بالداخل وضعت ” منة” قناع الفحم الأسود الخاص بتنظيف البشرة على وجهها، و خرجت في عفوية تجلس بجانبهم، مما تزامن ذلك مع انقطاع الكهرباء، و مع خوف لارين.. أضاء والدها ( ضوء الفلاش) في الهاتف، ثُم وَجهَه تجاه وجه «منة» بعد أن أحس بصوت أنفاس بجانبه، كانت هي تكتم الضحك، عندما تفاجئ بتواجدها؛ أصابه الذَعَرَ فور رؤيتها، و قفز من مكانه و ابنته معه يحتضنها بقوة، و يصيح كأنه رأى شبح:
” بسم الله الرحمن الرحيم.. دراكولا فرع مصر ؟! ”
انتابتها نوبة من الضحك شاركتها فيها ابنتها، فقد اعتادت على رؤية والدتها هكذا كل فترة، بينما قُصي نهرها بغضبٍ:
” يا شيخة حرام عليكِ هتقطعي لي الخلف.. قومي اغسلي وشك ”
ردت وهي ما زالت تضحك:
” مش عيب عليك تبقى في السن ده و تخاف ”
زفر بضيقٍ و رمقها ببرود، فنهضت لتقترب منه و تُقبِّلهُ، مما ابتعد هو سريعًا هاتفًا بدهشة:
” أنتِ لسه هتيجي تبوسي و تحضني ! امشي روحي اغسلي الزفت ده.. عندك جلسة تحضير عفاريت ولا إيه ؟!! ”
انصاعت لطلبه و اتجهت تغسل وجهه وهي مستمرة في الضحك، و جلس هو يتنهد بتريثٍ قائلًا لابنته التي تضحك برقَّة:
” ينفع كده يا لاري ؟ ”
هزت رأسها بالنفي لتقول:
” مامي بتحبك.. هي فقط تمزح معك، لا تغضب منها أبي ”
ثُم وضعت قُبلة رقيقة مثلها على خد والدها و تابعت:
” أنا بحبك يا بابي ”
” و أنا كمان بحبك يا روح بابي، و بعشق أمك اللي ناويه تجنني دي ”
مرت دقائق أخريات و رجعت الكهرباء تعمل، فأخذت « منة» تجهز الزينة الرمضانية و جاءت بكرسي لتقف عليه قائلة:
” يلا يا لاري عشان نعلق الزينة، رمضان بعد بكرة إن شاء الله ”
نهض قُصي يقول بخوفٍ عليها وهو يمسك لها الكرسي:
” انزلي و أنا هعلقها، أنا طايل و أنا واقف مكاني، انزلي عشان الكرسي ما يتهزش بيكِ و تقعي ”
” لأ أنا اللي هعلقها، أنت مش هتعرف تعملها زي منا عايزه ”
مرت دقيقة كان هو مُنتبهًا لها، فأخبرته بأن يأتِ لها بالفرع الآخر، و عندما ترك الكرسي.. كادت أن تقع لولا أن نصب كل تركيزه عليها، فلحق بها و ضمها لصدره ومع تبادل النظرات بينهما التي انتهت بضحكاتهما العالية، قال وهو يُقرِّب المسافة بينهما بغمزةٍ مُداعبةٍ:
” أنتِ إيه حكايتك معايا بالضبط ؟ من ساعة ما اتجوزتك و أنتِ بتقعي كل شوية و أنا بلحقك ! ”
” تعيش و تلحقني ”
قالتها وهي تبادله الغمزة، فهمس ضاحكًا:
” مش بقولك مجرمة ”
صمتت تداعب بأناملها رقبته التي تحيطها بيديها، و أردف هوَ بنبرة مُتيمة بها:
” بحبك يا مفعوصة، جيتِ لحياتي خلتيها نعيم، زي ما يكون فُزت بقطعة من الجنة على الأرض، و أنتِ جنتي على الأرض يا رحمة ”
” بعد كام سنة زواج، أقدر أقول إني اخترت صح و قلبي مخيبش ظني.. بحبك يا أبو عيون نيلية ”
” والله أبو عيون نيلية محبش ولا هيحب ولا شاف ولا هيشوف غيرك.. أنتِ مالية عيونه النيلية يا مفعوصة ”
تناسى الاثنان أمر ابنتهما، فهتفت الأخيرة باستنكار من نظراتهما الحالمة لبعضهما:
” هل ستبقيان هكذا لفترة أطول ؟ لقد مللت.. من سيلعب معي ؟ ”
أنزل قُصي زوجته و رد على ابنته بضحكة محرجة:
” إيه ده ! أنتِ لسه هنا يا لاري ! أنا فكرتك دخلتي أوضتك تلعبي ”
وضعت لارين يديها في خصرها و قالت باعتراضٍ:
” لا يا بابي أنا لسه هنا.. أريد الذهاب و اللعب مع سُهيلة و سُهيل، هل تسمح لي ؟ ”
” طيب متزعليش.. هنلعب معاكِ أنا و ماما، و بعدين يا روح بابي عيال أعمامك و ولاد خالتك شمس جايين بعد العشا و العبوا كلكم مع بعض ”
فكرت لدقيقة، ثُم أومأت بموافقة و اتجهت تحضر العابها لتجعل والديها يشاركونها اللعب، و في تلك اللحظة التي اختفت فيها «لارين» استدار قُصي لمنة و شدها نحوه، ثُم همس بنظرات ترجي:
” البنت كبرت، عاوزين نجيب لها نونو تلعب معاه بدل ما هي حاسة بالوحدة ”
” مش أنت اللي قولت مش عاوزين أطفال دلوقت لحد ما لارين تكبر ”
” و أهي كبرت أهي.. وقفي بقى الحبوب دي.. ها قولتي إيه ؟ ”
أومأت بموافقة:
” قول يارب، ربنا يسهل إن شاء الله ”
ستشعر بأن الحياة جميلة؛ عندما تُحب شخص يُقدر قلبك الجميل و يسعى لسعادتك و نيل ابتسامتك بأي طريقة.. عندما يستوطن حبه قلبك و يقبع على ملامحك؛ ستدري أنك بالفعل حظيت بالحُب الحقيقي، حينها سترى الكون بشكلٍ مختلف، ستشرق الشمس مُحملة بأشعتها الدافئة التي تشبه عناق الحبيبين الدافئ و تنشر الدفء في كل قلوب الأحبَّة الصادقين.. ستنجو من الخيبات و الخذلان و ستفوز بالثقة و الأمان، حينها ستتأكد بأن الكون كله لا يسع أجنحتك من فرط شعورك بالأمان، الأمان الذي نبحث عنه جميعًا.
..
كل أسبوعين يجتمع الأهل و الصحاب في منزل كل فرد منهم كنوع من أنواع التجمعات العائلية أو ما نسميه نحن «لمة العيلة»، مرة في منزل
« بدر» و مرة في فيلا « كريم» و مرة في منزل « مُجاهد» و هكذا، و اليوم سيكون التجمع في منزل « مُصطفى» ذو الحديقة الواسعة بعد صلاة العشاء.
أقام « بدر» صلاة المغرب في المسجد المجاور، و في الصف الأول بجانب أبناء عمه يقف
« سيف» شقيقه الذي وصل منذ نصف ساعة لقضاء رمضان معهم، فقد هبط على أرض مصر منذ ثلاثة أيام و ارتاح مع زوجته و أبناءه الاثنين « فيروزه و مصعب» في الفيلا التابعة لهم، ثُم عود أدراجه للمكوث مع عائلته و حضور عيد الفطر المبارك معهم.
بعدما انتهى بدر من الصلاة، تفرغ لاعطاء الدرس للشباب، و مع عودة قوة الصهاينة من جديد للاستيلاء على غزة ثانيةً، قرر أن يتحدث معهم حول الجهاد و الدفاع عن مقدسات الأمة الاسلامية، فالمسلم مسؤول مسؤولية تامة عن الأقصى و القدس و ليسوا الفلسطينيون فقط، الأقصى شرف كل مسلم، ومن يولي ظهره فهو متخاذل آثم ضعيف لن يجد من ينصره يوم العرض على الله، بالأخص حكام المسلمين.
من بين الفتيان الجالسين.. سُليمان و شقيقه و ابن عمه كنان و عُبيدة الذي جاء برفقة والده منذ قليل لقضاء الأمسية مع البقية، أما سُهيل و مُصعب لا زالا صغيران على الجلوس لفترات طويلة دون حراك، فهما في الثانية من عمرهما، و بالإضافة لذلك؛ حضر الدرس أيضًا بعض الرجال من أهل المنطقة من بينهم « زياد و أُبَيِّ و سيف و قُصي، و زين»
تهيئ « بدر» صاحب الأربعة و أربعون عامًا لالقاء درس اليوم، فتحدث بصوت جهوري يشوبه الحُزن من انقسامات الشعوب العربية الاسلامية فيما بينهم تاركين الصهاينة يخططون للعودة للاستيلاء على الأقصى بالكامل تلك المرة و طرد كل مسلم منه:
” يقول رسول الله صلّ الله عليه وسلّم..
إذا تبايعتم بالعِينةِ وأخذتم أذنابَ البقرِ ورضيتم بالزرعِ وتركتم الجهادَ سلط اللهُ عليكم ذُلًّا لا ينزعُه شيءٌ حتى ترجعوا إلى دينِكم.
هذا الحديثِ يقولُ النَّبيُّ صلَّ الله عليه وسلَّم: “إذا تبايَعتُم بالعينةِ”، وهي: بيعُ سِلعةٍ بثَمنٍ مؤجَّلٍ، ثمَّ شِراؤُها بثَمنٍ أقلَّ، “وأخَذتُم أذنابَ البقَرِ، ورَضيتُم بالزَّرعِ”، أيِ: انشَغلتُم بالزَّرعِ وفِلاحةِ الأرضِ “وترَكتمُ الجهادَ”، أيِ: ابتعَدتُم عنِ الجهادِ رغبةً في الدُّنيا، “سَلَّط اللهُ علَيكم ذلًّا”، أيِ: صَغارًا ومَسكَنةً وما يَنتُجُ عنهما، “لا يَنْزِعُه حتَّى تَرجعوا إلى دينِكم”، أي: لا يُرفَع هذا الذُّلُّ عنكم حتَّى تَرجِعوا إلى الجِهادِ، وسمَّاه هنا دِينَكم؛ زجرًا، أو حتَّى يَرجِعوا إلى دِينِهم بشُمولِه وكَمالِه، فيُقدِّموا ما يَجبُ أن يُقدَّمَ في موضعِه مِن أحكامِه.
وفي الحديثِ: الحثُّ على الجهادِ.
وفيه: بيانٌ لأسبابِ مرَضِ الأمَّةِ، وبيانُ العِلاجِ.”
سكت « بدر» يزفر الهواء بثقلٍ كلما تذكر ما يخططون له الصهاينة، فتابع بنبرة أسى:
” فَلْيَحذَرِ المُسلِمُ مِن خُذلانِ إِخوَانِهِ بِأَيِّ نَوعٍ مِن أَنوَاعِ الخُذلانِ، قَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((مَا مِنِ امرِئٍ يَخذُلُ امرَأً مُسلِمًا في مَوطِنٍ يُنتَقَصُ فِيهِ مِن عِرضِهِ وَيُنتَهَكُ فِيهِ مِن حُرمَتِهِ إِلاَّ خَذَلَهُ اللهُ تَعَالى في مَوطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصرَتَهُ)).
فَلْيَهبَّ المسلمون لِنصرة إِخوانهِم ما استطاعُوا، العَالِمُ بِجَاهِهِ و عِلمه، وَالسِّيَاسي بِثِقَلِهِ وَوَزنِهِ، وَ الكَاتِب بِقَلَمِهِ وَ الخطيب بِلسانهِ، لِنَحتسب ما فيه إِغَاظَةُ العدو وَ النَّيلُ مِنهُ، وَ لْنَحذَرِ التَّخَلُّفَ عَن الرَّكبِ، فَقَد قَالَ سُبحَانَهُ: ﴿مَا كَانَ لأَهلِ المَدِينَةِ وَمَن حَولَهُم مِنَ الأَعرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَسُولِ اللهِ وَلاَ يَرغَبُوا بِأَنفُسِهِم عَن نَفسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُم لاَ يُصِيبُهُم ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخمَصَةٌ في سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوطِئًا يَغِيظُ الكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِن عَدُوٍّ نَيلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجرَ المُحسِنِينَ﴾[التوبة:120] ”
تساءل كنان صاحب الثمانِ أعوام بعفوية:
” طيب ليه يا خالو غزة بدأت الحرب ؟ مش المفروض هما يتصدروا لها لوحدهم بقى ؟ ”
” المقاومة سبقتنا في الجهاد يا حبيبي و دافعت عن شرف الأمة اللي اُنتهك و اتهتك، القضية متخصش فلسطين، القضية تخص الأمة الاسلامية كلها، ولو كانت تخص شعب فلسطين بس، مكنش صلاح الدين الأيوبي فكر يحرر بيت المقدس و قالك بقى خلي أهلها يخلصوه من المحتلين أنا مالي.. !
اليهود الصهاينة اغتصبوا و سرقوا أراضي مش بتاعتهم، و عاوزين أهلها ميعملوش حرب و يسيبوهم يكملوا انتهاك فيها ؟ خدوا بالكم محدش بيبدأ الجهاد في سبيل الله إلا الشجاع المؤمن القوي، أما الضعيف بيستخبى ورا الحدود و ورا الشاشات و يقولك أنا مليش دعوة يشيلوا شيلتهم، اللي يقول الكلام ده تعرف إنه متخاذل و ضعيف ولو انضرب صاروخ جنبه من بتاع العيد، هيطب ساكت ”
صدرت بعض الضحكات الخفيفة من الجالسين، و تساءل سُليمان تلك المرة:
” أنا مش فاهم يا أبتاه، يعني هما بدأوا الحرب على الصهاينة عشان يطلعوهم برا فلسطين ؟ ”
أومأ بدر يقول بهدوءٍ:
” معركة طوفان الأقصى اللي قامت بيها المقاومة ٧/ أكتوبر سنة ٢٠٢٣، هي «ردٌّ على جرائم الاحتلال بهدف الدفاع عن المسجد الأقصى وتحرير الأسرى، ولازم هيروح فيها شهداء كتير يا حبيبي، ما هي دي عواقب الحرب، بس عشان الناس اللي بتصبر و تقابل الشهادة بصدر رحب، ربنا وعدهم بأجر عظيم، يعني يا بخت شهداء فلسطين بالجنة إن شاء الله ”
” و إحنا امتى هنحارب معاهم يا أبتاه ؟ ”
” لما القرار يَصدُر يا حبيبي و ربك يإذن، ولازم قبلها نكون جاهزين كويس لليوم ده و قريبين من ربنا و بنجاهد نفسنا نبعد عن الذنوب، عشان ربنا يرضى علينا و ينصرنا ”
جاء عُبيدة بسؤال آخر:
” يعني يا عمو مصر بس اللي هتحارب مع فلسطين ؟ ”
” الدول العربية كلها المفروض تتوحد لمحاربة الصهاينة و أمريكا و اللي بيساندوهم، لازم الشرق الأوسط يكون وحدة متحدة قوية عشان يقدروا يهزموهم بإذن الله ”
صمت يتابع تعابير وجوههم البريئة، و أردف بنبرة لينة:
” حل كل مشاكل هذه الأمة في ثلاث كلمات..
“كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَال”
قال واحد من الصبية وهو يعطي لبدر الشال الفلسطيني الذي جلبه معه:
” أستاذ بدر، ممكن حضرتك تشرح لنا الرسومات اللي على الشال الفلسطيني ؟ أنا جبته معايا عشان عاوز أعرف سبب الخطوط دي إيه ”
أخذ بدر الشال و بدأ يقول وهو يشير للخطوط بعدما فرده أمامهم جميعًا:
” بصوا يا حبايب بدر.. الكوفية الفلسطينية، التي أصبحت رمزًا للمقاومة بلونيها الأبيض والأسود.
الكوفية الفلسطينية في الأساس تعكس بساطة الحياة الريفية داخل قرى فلسطين بعيدًا عن ألوان حياة المدينة الصاخبة، حكاية الشال الفلسطيني بدأت عام 1936، لما أصبح رمزًا سياسيًا الوقت اللي اندلعت فيه الثورة الفلسطينية، وكان الفلاحون في الأرض المحتلة يخفون بها ملامحهم أثناء مقاومة القوات البريطانية، وبعد كده وبأمر من قيادات الثورة في فلسطين، بدأ أهل المدن في ارتدائها، وكان قوات الإنجليز بيقبضوا على أي شخص يلاقوه لابس الكوفية دي؛ لأنها أصبحت رمزًا للثورة.
ومع بداية الثورة الفلسطينية في الستينات، أصبح الشال أو الكوفية الفلسطينية رمزًا للفدائي إلى جانب سلاحه، يستخدمها في إخفاء ملامح وجهه، وزاد تعلق الفلسطينين بالكوفية مع الانتفاضة الأولى للأقصى عام 1987، والانتفاضة الثانية عام 2000..
و اللونين الأبيض والأسود، يرمزان للتناغم بين الطبيعة والأرض وكذلك النهار والليل.
نيجي بقى للرموز المنقوشة على الكوفية أو الشال زي ما بتقولوا.. بتشير الرموز المنقوشة على الكوفية الفلسطينية، للتراث الفلسطيني، كغصن الزيتون رمز القدس، و ترمز شبكة الصيد المنقوشة على الكوفية، إلى العلاقة القوية بين البحارة الفلسطينين والبحر المتوسط، وكذلك الخط العريض الموجود في منتصف الكوفية، يشير إلى خطوط التجارة الممتدة في فلسطين وتاريخها الحافل بالتبادل التجاري والثقافي، بينها وبين الدول العربية.
سكت لوهلة، فقال أُبَيِّ باسمًا:
” ممكن أقول حاجة ؟ ”
بادله بدر الابتسامة قائلًا:
” اتفضل يا أبو سُهيل ”
” بعد كده يا ولاد قرر زعماء الثورة الفلسطينية توحيد لباس الرأس عند الفلسطينين وذلك لأسباب رمزية سياسية فأتفقوا على ارتداء الشال والعقال لرجال، حتى يتعذر على سلطات الانتداب في ذلك الوقت تمييز الثوار والقبض عليهم، ولذلك استبدل الرجال الفلسطينين العمامة والطربوش بالشال.”
” بارك الله فيك يا أبو سُهيل ”
قالها قُصي وهو يربت على فخذ شقيقه، فأردف الأخير:
” و فيك يا أبو لارين ”
تمتم زين بضحكة مكتومة:
” والله كبرنا وبقى نقول لبعض يا أبو كذا ”
استطاع سيف سماعه، فتبسم بخفوتٍ و همس:
” أنا لسه فاكر حلقات عهد الأصدقاء كانت بتتكلم عن إيه ”
” معروفة يعني، أكيد عن عهد الأصدقاء ”
رمقه بفتورٍ في حين أن بدر أنهى الدرس بقوله:
” العجيب أن بعد كل ما حدث لأهل غزة، تراهم صامدين صابرين ثابتين محتسبين غير متزلزلين ولا ناكصين، راضين غير جازعين، مُسَلِّمين غير معترضين !
إن المرء و الله ليشعر بالحياء أمام رجل يُخرجوه من تحت الركام وقد مات جميع أهله وهو يهتف: “لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بمقدار، وإني صابر محتسب” ! أمام أم مات ولدها أمام عينها وهي تهتف: “فداء المسجد الأقصى ترخص دماء أولادنا “! أمام طفل وسط الدمار شريدًا وحيدًا لكنه شامخ كالطود يتمنى لو يكبر فيجاهد اليهود !
لكنهم قوم تربوا على قول الله -عز وجل-: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) البقرة: 214… يارب تكونوا استفدتوا و تعلمتوا حاجة من درس النهاردة ”
حان وقت صلاة العشاء، فنهضوا جميعهم لتأدية الفرض، و قبل التهيؤ.. قال زياد عند صنبور الوضوء مُتحدثًا مع بدر:
” معمار القذافي طلع عنده وجهة نظر ”
” اشمعنا ؟ ”
” قال.. بعد تصفية الشعب الفلسطيني سيتم تصفية الشعب السوري والشعب اللبناني ثم يحاولون التفرغ لـمصر و الاردن وبعدها سيبدأ الاندفاع نحو الخليج للاستيلاء على مكة والمدينة وتحقيق حلم الامبراطورية الكبرى من النيل إلى الفرات و قال للإخوة فى الخليج العربي ستخرجون من قصوركم المكيفة و تتركون سياراتكم الفارهة و ستهربون إلى صحراء الربع الخالى للنجاة من القصف و القـتل بحثًا عن بر أمان ولن يكون هناك بر أمان !
وبعدها سيصبح شمال إفريقيا فى خطر وستصبح بلدان المغرب العربي ليبيا والجزائر وتونس والمغرب وموريتانيا دول مواجهة جديدة ولابد من اسقاطها و اخضاعها للدولة الكبرى الجديدة من النيل إلى الفرات ولن يكون هناك أحد فى مأمن عن هذا المخطط.. الجميع هدف لإسرائيل.
هذا هو المخطط الذي يريدون تطبيقه على بلادنا إذا لم نتحد و نؤسس قوة موحدة لكى تحمينا واقتصاد قوى يغزينا..
و اذا لم نعترض على اعدام صدام بكرة الدور هيجى علينا كلنا.”
” إنا لله و إنا إليه راجعون، حسبنا الله و نعم الوكيل.. ربنا يسترها ”
و بعد تأدية صلاة الفريضة، توجهوا لقضاء أمسية عائلية لطيفة في منزل والد زياد.
في جهة أخرى، يقود « كريم» سيارته نحو بيت مصطفى، و برفقته أبناءه الخمسة و زوجته.. رفعت رُميساء النقاب لأن الزجاج عازل عن المارة، و أراحت رأسها للوراء في استعدادٍ لتغفو قليلًا، مما هزها إياد المشاغب و الذي يصغر مراد بعام، فهو بمثل عمر سُليمان:
” ماما اصحي.. مش بحبك تنامي ”
” هو أنت اشترتني يابني ؟ كل إما اجي أغمض شوية تقولي اصحي ! ”
قالتها بتعبٍ بدا عليها، فهي لم تنم جيدًا منذ يومين بسبب تجهيزات أغراض رمضان، و إياد طفل مشاكس يحبها أن تلعب معه طوال الوقت عوضًا عن إخوانه، فتدخل مراد يقول بحنان على والدته:
” نامي يا ماما و سيبك منه، إياد مش بيزهق من اللعب ”
رد شقيقه المعتصم بالله و الذي يصغرهما بعامين:
” ماما أنا أقدر أبعد إياد عنك بس بشرط تخلي بابا ينزل يجيب لنا آيس كريم ”
وضعت يدها على رأسها بألمٍ و اختلست النظرات على كريم فوجدته يضحك في صمت، وكزته بغيظٍ هاتفة:
” ما تشوف عيالك يا بيه ”
التفت لهم و قال بعين التحذير:
” و إحنا مروحين إن شاء الله هجيب لكم اللي أنتم عاوزينه.. دلوقت اقعدوا مؤدبين بدل ما أرجع في كلامي ”
ثم التفت لها و لامس ذقنها برقَّةٍ يقول:
” حقك عليا إن سيبتك الأيام اللي فاتت لوحدك بس ليكِ عندي مفاجأة ”
رمقته بابتسامة ساخرةً و تمتمت:
” كل مرة بتقول كده و بتنسى.. فاكر قبل ما أقولك إني حامل في مراد، يوم فرح عائشة و بدر لما قولت لي عندي ليكِ مفاجأة و نمنا و صحينا نسيت أنت قولت إيه أصلًا ! أنا وقتها كبرت دماغي و محبتش أحرجك.. فبطل كل شوية بقى تعشمني بحاجة و تنسى، أنا عارفة إن الشغل مطلع عينك بس متعشمنيش تاني ”
قالتها بنبرة غاضبة و أشاحت بوجهها عنه، فشعر بالأسف تجاهها و أعترف بالتقصير نحوها و بأنه أخطأ في حقها.. أوقف السيارة بجانب محل ورود جميل، فقد خطط لذلك مُسبقًا و ترجل دون التفوه بكلمة تحت نظرات الاستغراب منها، ثم جاء بعد قليل و بيده باقة ورود كبيرة و صندوق رمضاني به دمية
« بكار و أخرى لبوجي و طمطم» مع هدايا مختلفة رائعة و فانوس وردي اللون جميل، و قدم لها الصندوق و الورد قائلًا بنبرة اعتذار وهو يَهُم لتقبيل جبينها:
” بما إني مخلفتش بنات فأنتِ بنتي الوحيدة و واجب عليا أدلعك.. دي هدية صغيرة كده أتمنى تفرحك و تعجبك، كل سنة و أنتِ معانا يا أم الصبيان.. كل سنة و أنتِ في حياتي منوراها يا أم عيالي، يا أجمل حاجة حصلت لي و أجمل هدية من ربنا.. بحبك يا فراشتي ”
” على فكرة كُنت عارف و جيت مع بابا عند عمو بتاع الورد بس مرضيتش اتكلم عشان تبقى مفاجأة حلوة ليكِ يا ماما ”
قالها مراد بسعادة لرؤية والدته تتأمل الصندوق بابتسامة واسعة كطفل ينتظر ليلة العيد على أحر من الجمر ليظهر زينته و طلته في ملابسه الجديدة، بينما هي رفعت وجهها بدموعٍ ظهرت في عينيها و تأملت كريم بحُبٍ و امتنانٍ لثوانٍ، ثم قالت:
” أنا آسفة إني اتعصبت عليك، و أنا كمان بحبك أوي والله.. ربنا ما يحرمنيش منكم أبدًا ”
اقترب منها يلثم جبينها بعمقٍ و أردف وهو يغوص بنظراته الثابتة في عينيها الواسعة:
” حين إلتقيتُكِ عاد قلبي نابضًا
‏و جرى هواكِ بداخلي مَجرى دمي
‏و شعرتُ حُضنك دافئًا و رأيتني
‏رُغم الحياءِ أذوبُ فيه و أرتمي ”
همست له وهي تداعب وجنته بلُطفٍ:
” مهووس ”
” عندك اعتراض ؟! ”
” يارب دايمًا كده تفضل مهووس بيا و متبصش لغيري ”
” مفيش غيرك يملى مكانك في قلبي، أنتِ و بس و أحط بعدك نقطة و ألف حمد و شكر لله على كده ”
أي علاقة سليمة تتطلب جهدًا كبيرًا من الطرفين، وكثير من العلاقات الزوجية تنتهي عندما تجف المشاعر بين الزوجين، والحب الحقيقي لا يكمن في عدم وقوع المشاكل بل في القدرة على السيطرة على المشكلات.
يقوم الزواج الناجح على التغافل عن الهفوات، والبحث عن المحاسن لا العيوب، يؤكد الباحث في شؤون الزواج “جون جوتمان على أن أسعد الأزواج يتشاجرون، وفي بعض الأحيان يتشاجرون كثيرًا، لكن السر وراء الاحتفاظ بالسعادة الزوجية هو إحداث عدد من التفاعلات الإيجابية يزيد بأربع أو خمس مرات عن التفاعلات السلبية كل يوم.
.. وصل « كريم» و جاء بعده بدقائق أخيه
« رحيم» و زوجته و ولديه عُدي و عبد الرحمن، و جاء أيضًا « عصام» ابن خال عائشة و زين، برفقة زوجته ابرار و ابنتهما حُور، و من ضمن الحضور تواجد أيضًا والد روان و زوجته و أخيها إبراهيم صاحب التسع سنوات.
الجميع تجمعوا في حديقة مصطفى بخلاف
« إبراهيم و ملك» نظرًا لتعذر إبراهيم على المجيء بسبب عمله و كذلك اعتذر اللواء عزمي لطبيعة عمله و لبُعد المسافة.
النساء تجمعن بالداخل يجلسون في جوٍ يشوبه المرح و الألفة، و أزواجهن بالخارج مع الأطفال، ثم بدأ الجميع في تناول طعام العشاء الذي أعدهن النساء بأصنافٍ متنوعة و لكن طعامٍ بسيط و غير مكلف، كالجبن و البطاطس و البطيخ و الخيار و غيره، و بعد تناول الطعام جاءوا الأطفال بالكرة يلعبون سويًا، فاعترض سليمان و كذلك مراد قائلان:
” مش هنلعب مع البنات عشان عيب ”
و أضاف مراد:
” أصلًا البنات مبتعرفش تلعب و بتبوظ أي لعبة ”
فَردت فيروزه بغيظٍ منهما:
” أصلًا إحنا اللي مش عايزين نلعب معاكم ”
قال سُليمان باعتذارٍ لها:
” أنا آسف يا فيروزه متزعليش مني، بس أنا مش عاوز ألعب معاكم عشان و إحنا بنجري منخبطش حد فيكم، و أبتاه قال البنات تتشال على الراس و منزعلهاش و أنا خايف أزعلكم.. أنتم أخواتي و أنا بحبكم ”
أومأت هي بتفهم و قالت:
” خلاص يا ليمو أنا مش زعلانة منك، بس مراد مش هكلمه تاني عشان هو بيضربني و يجري ”
رد مراد يدافع عن نفسه:
” أنا بهزر معاكِ يا فيروزه، أنتِ اللي بتتقمصي بسرعة، خلاص مش هكلمك تاني أنا كمان ”
تدخل إبراهيم خال فيروزه يفض هذا الشجار:
” البنات تلعب مع بعض و الصبيان تلعب مع بعض عشان محدش يتخانق مع حد ”
استدارت له فيروزه تهتف بتعصب:
” اسكت أنت يا هيما ”
” بت أنا خالك عيب ”
” متقوليش بت، أنا اللي خالك ”
” أنتِ خالي ازاي يعني ! ”
” خالي من الدسم ”
قالها كنان بضحكة صاخبة، ضحكوا لها جميعًا، فقال زين وهو يميل على زياد ضاحكًا:
” ابنك ده ملوش حل ”
” مجنني والله، ربنا يهديه ”
” بس دمه خفيف واد زي العسل، ربنا يبارك فيهم ”
” يارب آمين ”
جاءت لارين تقول برقة لسُليمان:
” أنا بحب ألعب بالكرة ”
رفض سُليمان بأدبٍ وهو يختطف نظرة لفستانها القصير الذي لم يصل للركبة، و قال بخجلٍ يسبقه العفوية:
” لارين روحي قولي لمامتك تلبسك فستان طويل ”
نظرت لنفسها و قالت ببراءة:
” أنا بحب فستاني ”
” بس هو قصير يا لاري، و إحنا صبيان كتير مينفعش تفضلي قدامنا كده ”
سُليمان تعامل بما تعلمه من والديه و تحدث ببراءة معها و بعفوية ولم يقصد أي شيء آخر، أحس أنها بمثل شقيقته و عليه الحفاظ عليها، أما هي ظنت أنه لا يحب اللعب معها، فأدمعت عيناها و هرعت نحو والدها تشكي له قائلة:
” بابي.. سُليمان لا يعجبه فستاني ولا يريدني أن ألعب معه ”
ربَّت على ظهرها بحنوٍ يسكتها و اتجه بها نحو سُليمان، فأخبره ما أخبرها به، مما مسد قُصي على شعره باعجابٍ و تمتم:
” عرفت تربي يا بدر، ما شاء الله ”
ثم اختلس النظرات على ملابس ابنته التي تكشف أكثر مما تستر، فتنهد بضيقٍ و همس لنفسه:
” الله يسامحك يا رحمة، قايلك ميت مرة متلبسيش البنت فوق الركبة لكن مفيش فايدة ”
أنزل ابنته برفق و قال لها:
” روحي يا لاري لمامي تلبسك حاجة طويلة.. قوللها بابي بيقولك لبسيني فستان تاني طويل ”
أومأت بطاعة و اتجهت للداخل، في حين أن سيف كان يلاعب ابن أُبَيِّ الصغير على قدميه مثل حركات الأرجوحة، فجاء قُصي و جلس جانبه يتنهد بأريحية وهو يتأمل الأطفال يلعبون مع بعضهم تارة و يتشاجرون تارة.. قال:
” كنا فين و بقينا فين.. الجنينة مليانة بعيالنا ما شاء الله ربنا يزيد و يبارك ”
سأله سيف مازحًا:
” مش شوحت بايدك كده و قولت مش متجوز أبدًا ”
تبسم ضاحكًا و قال:
” كنت طايش معرفش إن الاستقرار و الأمان كله هلاقيه في الزواج بس مع الاختيار الصح.. و رحمة هي الاختيار الصح اللي جالي في الوقت المناسب، أنا بحمد ربنا دايمًا على بناتي، ربنا يديمهم ليا ”
” بناتك ! ”
” رحمة مش بس مراتي، أنا وعدتها إني هكون أب ليها وهي كل يوم بتؤكد لي إني نجحت في دور الأب الحمدلله.. رحمة و لارين هما بناتي اللي منورين حياتي ”
” ربنا يبارك لك فيهم ”
رد بابتسامة صافية:
” آمين.. تعرف، ساعات من كتر حبي لمراتي ببقى عاوز اعمل منها إنسان صغير كوبي احطه في جيبي كل شويه اطلعه ابص عليه و اشيله تاني ”
ضحك سيف بانبهارٍ بحالة الحب التي وصل لها، ليتساءل:
” للدرجة دي حبيتها ؟ ”
” و اكتر والله العظيم، كنت هبقى غبي أوي لو مكملتش معاها.. الحمدلله على وجودها في حياتي ”
في تلك اللحظة جاء عصام يجلس بجانبهما قائلًا:
” القعدة وحشة من غير إبراهيم ”
رد سيف يؤكد على قوله:
” فعلًا، بس هيجي إن شاء الله في العزومة اللي عاملها آخر يوم من أول أسبوع في رمضان ”
التفت له قُصي يقول في مزاحٍ:
” فاكر لما كُنت بتقولي يا تُصي ”
” ياعم والله ما فاكر، و الحمدلله إني مش فاكر ”
ضحكوا ثلاثتهم وهم يستعيدوا ذكريات ذلك اليوم، أما كريم نهض يقول بعدما أخذ الكرة من الصغار:
” ما تيجوا نلعب جولة صغيرة كده ”
تحمس سيف هو الآخر و صاح يشاكسه:
” إحنا كلنا هنا أهلاوية، حتى عيالك.. أنت بقى هتلعب مع مين ! ”
رد عصام بفخرٍ:
” أنا زملكاوي يا حبيبي ”
” و أنا كمان.. أنا مليش في الكرة بس هلعب مع كريم ”
قالها قُصي، فضحك سيف بسخرية و هتف:
” يولد الإنسان العادي أهلاوي بفطرته
السليمة ولكن سوء التغذية و إهمال
الأهل، يجعل منه زملكاوي ”
علت الضحكات الصادرة من بدر و أُبَيِّ بالأخص، و البقية.. و قال مُجاهد يؤكد على كلام ابن أخيه:
” كابتن سيف كلامه في السليم، روح شوف لك بقى طبق بليله كله في جنب يا كريم و خد أبو حور معاك و ابني اللي آخر معلوماته عن الكرة إنها مدورة ”
وزع كريم نظرات الغيظ عليهم وهو يحرك الكرة باحترافية على اصبعه، بينما سيف أخذ يصيح قاصدًا استفزازه:
” اعلام البطولة اهلي عنوان الرجولة
أنا واحد من أهلي اللي الأسطورة بيرسموها ”
ركل كريم الكرة له، فصدها سيف بمهارة و استمر في الغناء وهو يجعل الكرة تقفز على قدمه باستمرار و بدون اخفاق:
” كلكوا عارفين من أهلي وعاشت الاسامي
كلكوا عارفين من أهلي وعارفين فين عنواني ”
ثم ركل بالكرة ثانيةً باتجاه كريم، فأخذها على صدره و بدأ الاثنان يخوضان جولة في اللعب، لينهض رحيم و من بعده عصام يشاركان في اللعب بشكل فردي، أما الصغار وقفوا يشاهدون آبائهم وهم يلعبون بمهارة، و في الداخل يسود الضحك بين النساء، فتقول روان بضحكتها المميزة الصاخبة:
” سيف كان آخر معلوماته عن المطبخ إن الكوسة بتتقور بالشنيور.. بس العبد لله علمته كل حاجة ”
ضحكن جميعًا، و قالت نورا:
” أُبَيِّ ربنا يبارك لي فيه، أول إما بيلاقيني تعبانة مبيخلنيش أتحرك من مكاني.. بيقضي لي كل طلباتي ”
ردت شهد تفتخر بشقيقها ضاحكة:
” هو في حد زي بيبو أخويا ”
” لا يا حبيبتي حاسبي على كلامك، بدري بيهم كلهم ”
قالتها عائشة قاصدة إغاظتهنَّ، فزجرتها هاجر بلينٍ مردفة:
” جوزي أجمد من أخويا ”
بينما « منة» خرجت بعد استدعاء ابنتها لها و خجلت من الدخول، فسألتها والدتها بحنانٍ:
” إيه يا لاري ؟ جعانة يا ماما ؟ ”
هزت رأسها بالنفي و قالت:
” بابي بيقولك غيري لي الفستان عشان قصير”
ثم أضافت عندما رأت سليمان يأتِ من خلفها:
” و سليمان مش عاوزني ألعب معاه ”
تحدث سليمان بأدبٍ و بهدوء:
” لارين فهمتني غلط يا طنط منة، أنا قولتلها مش هينفع تلعبي مع الصبيان عشان محدش فيهم يوقعك غصب عنه، أنا خايف عليها يا طنط والله، عشان بحبها زي أخواتي و كمان.. و كمان يا طنط منة لارين فستانها قصير، حضرتك مينفعش تخليها تخرج كده.. أنا آسف بس البنات لازم تتعلم الاحتشام من صغرها ”
ظلت منة تتأمله للحظات بدهشة و بانبهار من عقلانيته، ثم قالت بتفهمٍ:
” أنت عندك حق يا ليمو، أنا غلطانة يا حبيبي ”
لرقة قلب سُليمان، خاف أن تكون منة غضبت منه، فقال بأدبٍ أكثر:
” أنا آسف يا طنط منة لو كنت قولت كلام يضايق حضرتك بس.. بس والله أنا خايف على لارين، و إحنا بنلعب بسرعة و خايف عليها تقع تتعور ”
في تلك اللحظة جاء مراد ليشرب الماء و سمع آخر كلمات من سليمان، فأضاف:
” بابا بيقول البنات زي الفراشات و مينفعش نعاملهم غير برقة، و إحنا مش عاوزين البنات يلعبوا معانا عشان خايفين عليهم ”
” وعشان كمان نتعلم عدم الاختلاط يا مراد عشان إحنا رجالة كبار محترمين ”
قالها سليمان، و تابع بعفوية وهو ينظر لـ لارين نظرات بريئة كعادة الأطفال:
” البنات فراشات، و أنا بحب الفراشات و لارين فراشة ”
ضحكت منة بخفة و همست بخفوتٍ معجبة بلباقة الولدين:
” ده إحنا مكناش أطفال، ده أنا كنت مفكرة الزواج المبكر ده يعني الصبح بدري ”
و أخذت ابنتها تبدل لها ملابسها بأخرى طويلة، أما الطفلين عادا للعب مع البقية، و لم يكف سيف عن اللعب مع كريم و تمرير الكرة له تحت صياح الأطفال المرح.
« العيلة إيه غير ناس محاوطينا
و أربع حيطان مع سقف لامينا
وعيون فيها عناوينا
وقلوب جواها أماكننا
العيلة ناس نرتاح فى صحبتها
ووشوش أوام تتحس طيابتها
فى أمان ييجى من محبتها
وحنان حتى فى معاتبتها »
حين تغضب العائلة بسببك، تغضب لأجلك لا منك، أن تؤنبك العائلة هذا لا يعني أنها تكرهك، بل لأنها تحبك، فلولا حبها لبقيت تخطئ مرة و ألف..
العائلة دفء لا يضاهيه شيء ولا يعوض، و لا تكتمل السعادة بدون تجمع أفراد العائلة.
مرت الأيام سريعًا و جاء اليوم الموعود في فيلا سيف..
نفحات شهر رمضان المبارك في كل مكان، تزيين الشوارع بالفوانيس والأضواء احتفالًا بالشهر الكريم هو أمر شائع في الدول الاسلامية.. تجمع العائلات حول موائد الإفطار والسحور، و إقامة موائد الرحمن للفقراء والمحتاجين، و قيام الأطفال بالصيام لأول مرة وسط تشجيع العائلة والمجتمع.. كلها أمور يفعلم المسلم بقلب صادق مع الله، فالحمدلله أننا مسلمون و الحمدلله على نعمة الإسلام و كفى بها نعمة.
و مثلما حدث التجمع الكبير من الأفراد، حدث كذلك اليوم في فيلا سيف..
تجمعوا جميعًا حول المائدة الكبيرة، الرجال على جهة و النساء في جهة منفصلة مع أطفالهن الصغار، أما الكبار منهم جلسوا مع آبائهم، و قبل أن يقول المؤذن الله أكبر، تجمعت الأعين و النظرات على هذا الذي يقبل عليهم يبتسم ملء فمه، و يحمل ابنته الصغيرة مُياسين على ذراعيه و بيده يمسك كف « ملك» باحتواءٍ، برغم أنه لا زالت تنفر من التجمعات، لكن حالتها ازدادت تحسُن بسبب ما يفعله إبراهيم لأجلها.. حينما رآهم مُجاهد، نهض يهتف بقلب أبٍ اشتاق لطفلته:
” ملك ! حبيبة أبوكِ.. بنتي جات ”
بادرت هي باحتضانها لمدة معينة و ابتعدت، ثم قالت باسمة وهي تتأمله باشتياقٍ أكبر:
” وحشتني يا بابا، و ماما وحشتني و اخواتي و كلكم وحشتوني ”
قبَّلها والدها من جبينها بعمقٍ و أردف:
” و أنتم وحشتيهم اكتر يا حبيبتي.. ادخلي لهم جوا ”
ثم أخذ حفيدته من إبراهيم، بينما الأخير اتجه يصافح الرجال، فقال بدر باسمًا وهو يربت على ظهره:
” ما شاء الله اتغيرت يا إبراهيم ”
” للأوحش و لا للأحسن ؟ ”
تساءل بها مازحًا، فَرد بدر بصدق:
” للأحلى طبعًا، حد يبقى معاه بنوتة زي العسل كده و ميتغيرش للأحلى ! ده الحمدلله على نعمة الزواج و الخلفة بجد.. ربنا يجعل أولادنا صالحين يارب ”
أمنوا جميعًا على دعائه، و بعد أن أذن مؤذن لصلاة المغرب.. بدأوا الافطار على التمر و الماء، ثم توجهوا للصلاة قبل الطعام في حديقة الفيلا.. الفيلا تبعد عن المسجد الكثير و ربما لن يستطيعوا اللحاق بالصلاة، فأقام بهم بدر الفريضة، و بكثرة عددهم بدوا و كأنهم في مسجد.. الصبية يقفون كالرجال في صفوفٍ مستقيمة، لا أحد يضحك منهم.. لقد تعلموا من آبائهم أنك عندما تقف و تصلي فأنت واقف أمام الله، لا تلتفت يمينًا ولا يسارًا، عينيك تجاه القبلة و تقرأ القرآن بخشوع، ولا تدع أي شيء يلفت انتباهك أو تضحك و تلعب أثناء الصلاة، أنت واقف أمام الله، فتأدب.
رفع « بدر» يديه للتكبير و بصوتٍ خاشع عالٍ يلفظ:
” اللـه أكبـــر ”
الله أكبـر من الألم في الأفئدة و الدموع الحبيسة في العيون، الله أكبر من خذلان البشر، و الله أكبر من هموم الدنيا، الله أكبر من لذة فانية الله أكبر من كل شيء وأي شيء.
لا يتعافى المرء في الدُنيا أبدًا..
لأن الدنيا دار شقـاء
بل إن التعافي كله في سـماع :
” سَـلَامٌ عَلَيْـكُمْ طِبْتُـمْ فَادْخُلُـوهَا خَـالِـدِيـنَ ”
وتمام التعافي عند أول غمسة في الجنة
ستقول بعدها : والله ما مر بي شقـاء قط.
لم يكن التعافي هنا بالحُب، بل من القرب بالله أولًا، ثم بعد ذلك يأتِ الحُب و المسميات الأخرى، لكن التعافي الحقيقي يبقى في الدار الآخرة، أما دار الدنيا هي دار امتحان و صبر و الأمان المطلق فيها يكون في الجنة برفقة حبيبنا المصطفى صلوات ربي عليه.
” كلنا في يَد الله، و كل شيء في يَد الله آمِن.”
قُلتها بابتسامة واسعة و أنا أقف أمام البوابة الحديدية الكبيرة، أتأمل جمعُ الرجال وهم يؤدون الفريضة بقلب مطمئن شعرت أنا به، و يقرأ بدر الشباب بصوتٍ يبعث الراحة في الوجدان، فيجبر الساهي في الصلاة على الخشوع.. اتسعت ابتسامتي و أنا أرى البسمة على وجوههم بعدما أنهوا الصلاة، كل رجلٌ منهم مرّ بالكثير من المعاناة و المصاعب و مع ذلك تحدوها و تخطوها بقوة اليقين بالله، اليقين بأن القادم أفضل، اليقين الذي يشعرك بأن الله لن يتركك في ضيقٍ أبدًا، و كذلك النساء رأيت خيالاتهنَّ من خلف النافذة في الطابق العلوي، أحسست بالسعادة تملأ قلوبهن و بالابتسامة الجميلة لا تفارق وجوههن.. لقد جئت خصيصًا للاطمئنان عليهم و التأكد بأن كل شيء يسير على النحو الصحيح، قبل أن أقوم بإخراج مسلسل يحكي قصة حياتهم.. علمت أمس من عائشة بأمر الوليمة التي أعدها ابن عمها، فاعتذرت عن المجيء، و لم أستطع منع نفسي من القدوم و رؤية السعادة تملأ قلوبهم جميعًا.. دعيت الله أن يطيل سعادتهم و يبارك في حياتهم، حينها سألني ابني الصغير « سُليمان»
والذي جاء معي رغمًا عني:
” ماما نرمينا هو أبو شعر طويل ده اللي أنتِ سمتيني على اسمه ؟ ”
قُلت بابتسامة سعيدة و أنا أتابع سُليمان يأكل طعامه بهدوء و بأدب:
” أيوه يا حبيبي، يارب أشوفك زيه و أحسن كمان ”
” بس أنا أحلى منه ”
ضحكت بقلة حيلة مني على قوله، فهو ورث مني صفة النرجسية، فليهديني الله و إياه، أما كيان ابنتي الصغيرة التي تشبثت في ملابسي و جذبتني منها هامسة:
” ماما هي دي كيان أم شعر أحمر ؟ ”
” أيوه يا كوكي ”
” أنا أحلى منها ”
تنهدت ضاحكةً و قلت ألوم نفسي:
” ملقتوش غير النرجسية اللي تاخدوها مني ! ”
في تلك اللحظة، استدعاني زوجي الذي انتظرني في السيارة بملل، تساءل و أنا أجلس بجانبه:
” اطمنتِ عليهم ؟ ”
تنهّدت بارتياحٍ و أنا أرجع رأسي للوراء و أقول:
” الذي يضع الله نصب عينيه في كل خطواته، يحفظه الله من فتن و شهوات الدنيا ”
ثم غادرنا بالسيارة تاركين عائلة الخياط و أصدقائهم في معية الله.
كانت رحلة صعبة و جميلة في ذات الوقت، و كما بدأناها نُغلق صفحاتها بقولنا:
” كلما كبر الله فى قلبك كلما صغر كلّ شيء، كلّ شيء بالمعنى الحرفي للكلمة. ”
_____
تمـت بكرم من الله، ثُم بجهد مبذول مني.

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية يناديها عائش)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *