رواية أحببتها ولكن 7 الفصل السادس والثمانون 86 بقلم بيسو وليد
رواية أحببتها ولكن 7 الفصل السادس والثمانون 86 بقلم بيسو وليد
رواية أحببتها ولكن 7 البارت السادس والثمانون
رواية أحببتها ولكن 7 الجزء السادس والثمانون

رواية أحببتها ولكن 7 الحلقة السادسة والثمانون
أنا… لست كما ترونني،
ولا كما كنتُ يوم حملت أول سورة في صدري،
ولا كما تمنّيت وأنا أطوي الليل دعاءً، ظنًا أن النقاء يحميني.
أنا العابر بين الظل والنور…
أنا من تفتّحت عينه على عالم لا يُرى،
وسُحبت قدماه إلى أرضٍ لا يُلمس ترابها،
ولا تُقرأ شفراتها في كتب العلم،
بل تُسمع… وتُرتَجف لها الأر’واح.
قالوا: ممسو’س؟
نعم، والله…
لكن ليس بمسٍّ يُطفئ نور القلب،
بل مسٌّ يجعلني أُبصر ما لا يُبصر…
أصر’خ إن اقترب الخـ.ـبيث،
وأُسبّح إن مرّ الطيب،
وأهتف بين الناس: “الله أكبر”،
ولا يدركون أنني أراه… لا أتخيله.
جسدي هنا،
لكن رو’حي تمشي في دروب لا يعرفها إلا من اختارهم الله لحِملٍ ثقيل،
أعرف أني مُبتلى…
لكن في هذا الابتلاء جمال،
وفي هذا المـ.ـسّ رسالة،
وفي صمتي صوتٌ لا يسمعه إلا من اختلط فيه الخوف بالحب،
والنور بالاحتر’اق.
_ارتجال.
___________________________
الانتقا’م نا’رٌ توهم صاحبها أنها تُطفئ غضـ.ـبه، لكنها لا تلبث أن تحر’ق قلبه أولاً. هو لذة عابرة، تترك وراءها مر’ارة لا تزول، وندمًا قد لا يُغتفر. ما أضعـ.ـف الإنسان حين يظن أن ردّ الأذ’ى قوة، وما أقواه حين يعفو وقد قَدَر..
<“حقيقة خشيوا مِن إنكارها، ولحظة ترقب.”>
لم تكُن الحقيقة سهلة، ولم تكُن موا’جهتها سهلة،
لحظة ترقب ليست هينة على المرء، فالمواجهة حتمية، وإثرها لن يزول بسهولة والجر’ح لن يلتـ.ـئم ببساطة..
يوم جديد – قُبَيْل المغرب،
كان “ليل” يدور في غرفته جيئة وذهابًا، يُفكر في حديث “رمـزي” الذي كان كصا’عقة تضر’به دون تمهيد صريح، رأسه مزدحمة بالأفكار والأحاديث الصامتة، لا يعلم مِن أين يبدأ وكيف سيُخبر زوجته بذلك، ولكن كان يعلم شيئًا واحدًا، إن سكت الجميع عن الحق، فيجب أن يتحرك هو..
لحظات أخرى مِن الصمت قطـ.ـعه صوت الباب الذي فُتِحَ بخفة وكأن الزائر لـ.ـصًا، أطرأت برأسها نحو الداخل لتراه يجلس فوق الأريكة يمسح على خصلاته ويبدو أنَّهُ يُفكر في حلًا فيصليًا كي يتحرك قبل أن تشتد الأمو’اج وتغر’ق مركبته به، أغلقت الباب خلفها برفقٍ ووقفت مكانها تتابعه بعينيها دون أن تتحدث..
_دماغي هتتفر’تك يا “روزي”، جوايا رغبة مخلّياني همو’ت وأروح أقـ.ـتله بإيدي، مش قادر أتحكـ.ـم فنفسي ولا أسكت أكتر مِن كدا أنا تـ.ـعبت خلاص وهو ساق العوج، أنا أعرف إن الإيد اللِ تتمدلك بأ’ذىٰ تقطـ.ـعها وتسـ.ـيّح عر’قها.
تثاقلت أنفاسه وإنفـ.ـلتت أعصابه بعد أن نفذت طاقة صبره، شيطا’نه بدأ يرسم لهُ خطاه القادمة ويد’فعه نحو المنحد’ر، عبقها أنتشر في أرجاء الغرفة وكأنه يُريد أن يجعله يستفيق قبل أن يغر’ق كُلّيًا وتُصبح فرص نجاته معد’ومة، أقتربت مِنْهُ بخطى هادئة خفيفة كأنها فراشة ترفرف بأجنحتها حوله، جاورته في جلسته ونظرت لهُ دون أن تتحدث..
رفع بصره ينظر إليها وكأنه يستغيث بها ويطلب مِنها أن تَمُدّ لهُ يَد المساعدة، نظر في عينيها يبحث بهما عن الأمان والراحة التي أعتاد عليها، ولأنها تفهم نظراته لها كان ردها حاضرًا، رفعت كفها الأيمن برفقٍ تضم شطر وجهه الأيسر، كانت بشرته باردة تحت راحة يَدها الدا’فئة، نقيـ.ـضين وأجتمعا سويًا في لحظة هادئة كي يتحـ.ـدا معًا، نظرتها وكأنها وطنٌ ساكن، حُـ.ـرية يسعى للوصول إليها، وكأنها حلوى شهية محرّ’مة على أمثاله..
أرتسمت بسمةٌ هادئة على شفتيها وحرّكت إبهامها برفقٍ على صفحة وجهه، وكأنها تؤكد لهُ صدق هذه اللحظة، أراد عناقًا هادئًا يهرُ’ب إليه مِن شـ.ـرور الحياة وقسو’تها ولم تتأخر هي لأستقباله، فهذا هو وطنه، والأمن والأمان، فَصَـ.ـل المسافة التي كانت بينهما باقترابه مِنها، يعلم أن سكينته بين يَديها هي، يعلم أنَّهُ الآن النُسخة الأسو’أ مِنْهُ، وبعد قليل سيكون نُسخته الأصلية التي أعتاد عليها..
وضع رأسه فوق كتفها، هُنا، حيثُ تسكُن راحته، هُنا هو ملاذه، هُنا هو الوطن، لّف ذراعيه حولها وأغمض عيناه حينما شَعَر بأناملها بدأت في تدليك فروة رأسه برفقٍ شـ.ـديد، صمتٌ تام تمناه أن يطول ويطول حتى يكتفي هو مِنْهُ، راحةً تكون محطة وقوفه عن كُلّ شيءٍ، ردت عليه بنبرةٍ هادئة تتغلغـ.ـل داخل أذنيه لتصل إلى عقله الذي لا يُفكر سوى بالشـ.ـر:
_لازم تعمل كنترول، أول ما تحسّ إنك هتبدأ تعُـ.ـك الدنيا.
وكأن حديثها كان تنبيهًا لهُ قبل أن ينجر’ف خلف هفواته، يُبقيه مستيقظًا قبل أن يغفل، ضمته وكأنه ولدًا صغيرًا حينما شَعَر أنَّهُ سوف يخـ.ـطئ ركض سريعًا إلى والدته ير’تمي داخل أحضانها، وكأنها السـ.ـد المنيع الذي يقف أمام أخـ.ـطاءه بالمر’صاد، مرّت الثوان، تليها دقائق، وتليها ساعات، العقـ.ـل توقف عن خلق مشاهد سو’دا’ء وحلّت حالة مِن الراحة والسكينة في المكان..
كان “ليل” غفىٰ منذ الدقيقة الأولى التي لامست بها رأسه كتفها، منذ قرابة الساعة وهو نائمًا، يهرُ’ب مِن العالم عن طريق النوم وكأنه أداته الوحيدة التي تساعده على الهدوء والراحة التي يصـ.ـعب تواجدها وهو مستيقظًا، كانت هي كذلك قد غَفَت معهُ دون أن تشعُر بنفسها، وكأنها أنتهزت الفرصة التي لا تتكرر مرتين..
صدح رنين هاتفه عاليًا بأتصالٍ هاتفي، ظلّ يرن بشكلٍ متواصل حتى أنتهت المكالمة، ولم تمكث ثوانٍ وعاد يرن مِن جديد، وكأن المتصل يُصّر على الرنين حتى يتلقى الجواب، في المحاولة الثالثة استيقظت “روزي” على صوته العالِ، كانت لا تُدرك ما يحدث حولها، ولكن صوت رنين الهاتف كان كفيلًا بأن يجذب أنتباهها سريعًا، مدّت كفها تجاه الطاولة التي تجاورها بتكاسل وسحبته تنظر إلى أسم المتصل بأعينٍ ناعسة ثمّ تُجيب بنبرةٍ متحشرجة:
_أيوه يا “أيسل”، عمالة تتصلي في إيه يا بنتي قومتيني مِن النوم.؟
لحظات، كانت تحتاج إلى لحظات ليستوعب عقلها ما يُقال إليها، وكأن الكلمات كانت بمثابة شـ.ـرارة صغيرة تُنذر بحـ.ـريقٍ كبير سيندلع في أيا لحظة، جحظت عينان “روزي” بعد أن أدركت ما يُقال لها لتجاوبها بنبرةٍ تملؤها الهلـ.ـع:
_أنتِ بتقولي إيه؟ أزاي دا حصل ومكلمتنيش على طول ليه يا “أيسل” وأستنيتي كُلّ دا؟ طب أقفلي أنا هتصرف وأجيلك دلوقتي، سلام.
أبعدت الهاتف عن أذنها وأغلقت المكالمة وهي حتى هذه اللحظة لا تستوعب ما تلقته، تسارعت نبـ.ـضات قلبها وتمـ.ـلّك الخو’ف مِنها لتترك الهاتف كما كان وهي تردد بنبرةٍ تملؤها الخو’ف:
_أعوذُ بالله مِن الشيطان الرجيم، أعوذُ بالله مِن الشيطان الرجيم.
نظرت إلى “ليل” وبدأت بإيقاظه وهي تُربّت فوق كتفه قائلة:
_”ليل”، “ليل”، “ليل” أصحى بسرعة في مـ.ـصيبة، “ليل” قوم.
بدأ يستعيد و’عيه ويستفيق بسبب تكرارها لأسمه دون توقف، رفع رأسه وأبتعد عنها وهو يعتدل في جلسته يمسح على صفحة وجهه، نظرت هي إليه وقالت:
_”ليل” صحصح يلّا مفيش وقت لازم نروح لـ “أيسل” المستشفى دلوقتي.
نهضت واقفة وبدأت تتحرك في أنحاء الغرفة تأخذ ملابسها، بينما فتح هو عينيه الناعسة ونظر إليها يراها في هذه الحالة ليسألها بنبرةٍ متحشرجة:
_في إيه يا “روزي”، عمّالة تلفي حوالين نفسك كدا ليه، ورايحة فين.؟
اقتربت مِنْهُ بعد أن أخذت ملابسها ووقفت أمامه تخبره بما حدث قائلة:
_في مـ.ـصيبة لازم تلـ.ـحقها، “أيسل” أتصلت على موبايلك ٣ مرّات ولمَ رديت عليها صوتها كان مر’عوب وبتقولي “حُـذيفة” مش على بعضه مِن الصبح، معرفش إيه اللِ حصل بس لازم نروحلها عشان هي لوحدها معاه فالمستشفى دلوقتي ومش عارفة تتصرف.
وكأن الكلمات كانت لغزًا يصـ.ـعُب على العقل استيعابه، لحظات أحتاجها لمعرفة ما حدث وماذا قيل لهُ، انتصـ.ـب واقفًا بعد أن أستوعب عقله ما قالته زوجته، خطـ.ـف هاتفه مِن سطح الطاولة وبدأ يعبث بهِ، إبهاميه بدأ يطرقا بخفة على شاشة الهاتف لدقائق قصيرة، وضع الهاتف على أذنه وأنتظر لحظات، كانت لحظات يحتاجها ليأتيه جواب الطرف الآخر:
_”رمـزي” محتاجك دلوقتي ضروري، “حُـذيفة” تعبا’ن، شكل تأ’ثير السحـ.ـر بدأ يبان عليه، أسبقني على هناك ولو تعرف تدخله وترقيه قبل ما أنا أوصل متتأخرش عليه، تمام، هعتمد عليك يا صاحبي.
أغلق المكالمة مع “رمـزي” وترك هاتفه فوق الأريكة وتحرك نحو خزانة الملابس قائلًا بنبرةٍ متو’ترة:
_متتأخريش يا “روزي”، لازم مسيبتش “أيسل” معاه وهو فالحالة دي، دا ممكن يعمل أي حاجة وهو مش دريان بنفسُه والله أعلم هو عملهوله بأيه.
_حاضر، ٥ دقايق وأكون جاهزة مش هتأخر.
هكذا ردت عليه بنبرةٍ تملؤها الخو’ف لتراه يأخذ ملابسه ويخرج مسرعًا متجهًا إلى المرحاض، قلبه ينبـ.ـض بالخو’ف، عقله بدأ يخلُق مشاهد كا’رثية، فبرغم أن حالته مازالت لم تتحسن حتى هذه اللحظة، ألّا أن هذا سيؤ’ثر عليه بكُلّ تأكيد..
في قصر الدمنهوري – بداخل المكتب،
كان “ليل” الجد يجلس فوق المقعد الخاص بهِ خلف مكتبه، يتحدث في الهاتف منذ قرابة الرُبع ساعة مع “عبدالله” يُتابع معهُ آخر الأخبار التي توصلوا إليها، دق الباب بدقاتٍ خفيفة ثمّ فُتِحَ مِن قِبَل “روز” التي ولجت وبيَدها فنجان قهوة، نظر لها يراها تتقدّم مِنْهُ بخطى هادئة تضع الفنجان أمامه ومِن ثمّ تجلس فوق المقعد المقابل لهُ..
_تطلّع تصريح بتفتيـ.ـش كاميرات المر’اقبة اللِ فالكومباوند كُلّها، مِن أول اليوم لحد اللحظة اللِ تم استهـ.ـداف “حُـذيفة” فيها وتستدعي فرد الأمن يتحـ.ـقق معاه، عايز أعرف فظرف ٢٤ ساعة العصا’بة دي دخلت أزاي الكومباوند وعدّوا مِن الأمن وعرفوا منين البلو’ك اللِ قاعد فيه “حُـذيفة” و “ليل”، تيجي ومعاك تفاصيل يا “عبدالله”، فرعاية الله.
أغلق المكالمة مع ولده بعد أن أ’لقى بتعليماته الصا’رمة، فهذا لن يمر مرور الكرام بالتأكيد، نظرت إليه “روز” وسألته بنبرةٍ هادئة:
_لسه موصلتوش لحاجة لحد دلوقتي.؟
رفع بصره مِن على شاشة الهاتف ينظر لها، هزّ رأسه ينفي الأمر قائلًا:
_لسه موصلناش لأي حاجة، أينعم أتمـ.ـسكوا وأنكـ.ـروا بس الإنكا’ر مش فصالحهم خالص، بس بسيطة عارف إزاي أخليهم يعتر’فوا.
أنهى حديثه معها ورفع هاتفه يضعه على أذنه مِن جديد بعد أن طلبه قائلًا:
_أيوه يا “سيـف”، إيه الأخبار مفيش جديد؟ طب أسمعني كويس، الرصا’صة اللِ أضر’ب بيها “حُـذيفة” أتحـ.ـفظنا عليها، طلبنا مِن الدكتور يخلّي الرصا’صة عايزك تعرف الرصا’صة دي تخص أنهي سلا’ح، تاخدها الفحص الجنا’ئي ومعاها الرصا’صة اللِ أضر’ب بيها “ليل” والتقرير يجيلي بليل مش بُكرة، وعايزك تر’فعلي البصمات فالمكان اللِ حصل فيه الحا’دثة، المربع اللِ حصلت فيه الحا’دثة بالكامل ومعاه بوابات الكومباوند، وعايزك تاخدلي نظرة على بتوع الأمن كُلّهم، شوفلي إذا كان واحد فيهم مش تمام، القـ.ـضية دي مهمة عندي مش هتها’ون بأي تقصيـ.ـر فيها يا “سيـف” مفهوم؟ ربنا معاك.
أنهى حديثه الحازم وأغلق المكالمة تاركًا الهاتف على سطح المكتب، أخرج زفيرة قو’ية ومسح صفحة وجهه بكفيه، عقله لا يتوقف عن التفكير لحظة، وكأنه إذا غفل ثانية سيتم استهـ.ـدافه، برغم الإرها’ق الظاهر على وجهه وعيناه ولكنه كان يُكا’فح نفسُه ورغبته بعدم الاستسلا’م، العائلة في المقام الأول بالنسبة إليه منذ سنوات، لن يقبل بأي تقصيـ.ـر أو تها’ون بالأمر..
_”ليل” أنتَ شكلك تـ.ـعبان، على الأقل أفصـ.ـل شوية لحد ما يجيبولك التقارير دي بليل، عشان تعرف تركز ومتضغـ.ـطش على نفسك.
كان صوتها المسعف لهُ في هذه الأوقات، وكأنه إنذ’ارًا بسيطًا لهُ قبل أن يتهوّ’ر، قبل أن يُفكر في طرقٍ غير سلمية، فهي تحفظ عقله جيدًا وتعلم بماذا يُفكر وإيلامَ يُخطط، أخرج زفيرة عميقة ورفع عيناه نحو عينيها الفيروزية التي لم تتوقف عن التوهج يومًا، حين ينظر إليها يرى لمعة وشغف يقسم أنَّهُ لا ينتهي، بريقٍ لامع يغلفها وكأنها تعلم أن القادم أفضل..
رفع ذراعيه يسندهما إلى سطح المكتب وضم كفيه ببعضهما، تحدث بنبرةٍ مـ.ـتعبة بعد أن دام الصمت قليلًا بينهما بقوله:
_مش قا’در، حاسس إنِ لو عملت كدا فعلًا هكون مأ’ثر، القـ.ـضية مش زي أي قـ.ـضية عدت عليا بالعكس، دي قـ.ـضية كبيرة وسككها طويلة، دي شروع فقتـ.ـل، الزمن تقريبًا بيحاول يند’مني عالقرار اللِ خدته مِن كام سنة، بس أنا مِن صغري حابب المجال دا، عارف إنُه محفوف بالمخا’طر دايمًا بس بحبُه، بس أنا يمكن غـ.ـلطت غـ.ـلطة مخدتش بالي مِنها غير دلوقتي، أنا غـ.ـلطت لمَ زرعت الفكرة دي فدماغ أحفادي، غـ.ـلطت لمَ حببتهم وحفزتهم للموضوع دا، ساعات بأنب نفسي وبندم على اللحظة دي، وساعات صوت تاني يقولي أنتَ معملتش غير الصح، حطيتهم فالطريق الصح سيبهم هما يواجهوا ويتعلموا زي ما عملت أنتَ زمان، أنتَ مش هتفضل عايشلهم العُمر كُلّه.
كانت تعلم أنَّهُ سيقول ذلك، هذه ليست المرة الأولى التي يندم فيها على هذا القرار، ولكنها ستكون الأخيرة اليوم، فإن كان يرى هذا مِن منظوره، فهي ترى شيئًا مختلفًا هذه المرة، بسمةٌ هادئة أرتسمت فوق شفتيها ونبرةٍ ناعمة كانت تقف أمام هوا’جسه بالمر’صاد:
_لأخر مرَّة هقولهالك يا “ليل”، تفكيرك غـ.ـلط، وطول ما أنتَ بتفكر كدا مش هتعرف تاخد خطوة لقدام، واجه نفسك مرَّة واحدة بس، أقف قدام نفسك وواجه زي ما متعود تواجه مِن زمان، يمكن المرة دي تعرف الصح مِن الغـ.ـلط، بس لو عايز نصيحة مِني أنا، فأنا شايفة إن دا كان أسلم قرار تاخده، ولو أنتَ متدخلتش مرَّة، هما كانوا هيحبوا الحاجة دي وهيطالبوا بيها، متخلطش أمورك ببعضها ومتبصش عاللِ فات، شوف الحاضر واللِ مستنيك بُكرة، عشان بُكرة أهم مِن النهاردة.
كلماتها وكأنها تعمـ.ـدت مواجهة حقيقة لا يستطيع رؤيتها حتى هذه اللحظة، تعلم أن ما يمر بهِ الآن ليس هينًا ويجعله يتجه بفِكره لهذه الطرق، ولكن في نفس الوقت هي هُنا للوقوف أمامه وإرشاده نحو الصواب، فإن كانت نفسه تضـ.ـل الطريق فهي هُنا حتى تُرشده إلى الحق حتى ولو كان مـ.ـخفيًا.
_________________________
<“جُبِـ.ـرَ على التمر’د، وكانت النتيجة ليست بصالحه.”>
أمام ضفا’ف النيل الوا’سع،
كان يجلس أمامه ينظر إليه بأعينٍ بداخلها صر’اعاتٍ لا آخر لها، يهرُ’ب مِن المواجهة، يهرُ’ب مِن صرا’عٍ يثق أنَّهُ لن يرحمه، حتى أصواته الداخلية لا تأبى الصمت، تصر’خ دون توقف وكأنها تعا’نده، لم يكُن يُريد أن تصل بهم الأمور حتى هذه اللحظة، لم يكُن يُريد أن تصل بهِ المركب إلى هذه النقطة..
كانت كفّه تضمّ حفنةً من الحصى الصغير، يختار مِنها حصاةً كُلّ مرَّة، وكأنّه يوّدع بها هـ.ـمًا قديمًا، ثمّ يُلـ.ـقيها في النيل، علّ الماء يحـ.ـمله بعيدًا حيث لا رجعة، مع كُلّ حصاةٍ يُلـ.ـقيها كانت تُلـ.ـقى معها ذكرى مِن الماضي، الندم، الحزن، الأ’لم، عيناه شاردتين، تراقبان دوائر الماء تتسع وتخـ.ـتفي، تمامًا كما تختـ.ـفي بعض الذكريات دون إذنٍ، لم يكُن يقذ’ف الحصى عبثًا، بل كمَن يُجري طقسًا سريًا مع الحياة، يُسلّمها كُلّ ما لم يُقال، كُلّ ما لم يُغفَر..
صوتًا بداخله عاد يصر’خ، عاد يؤنبه، عاد ليزيد مِن جر’احه، عاد يواجهه بحقيقة سعى للهرو’ب مِنها، لا يعلم ماذا يفعل ولمَن ينحاز، وفي الخلفية كان “شهـاب” يقف على بُعد خطوات مِنْهُ، منذ لحظات وهو يقف هكذا بجانب الشجرة، يُتابع أخيه بعيناه التي كانت تعكس الصفاء النابع مِن داخل الرو’ح، يعلم أنَّهُ في صرا’عٍ سا’حق مع نفسُه وسينتهي بهِ الحال بانعز’اله عن البشر لأسبوعٍ كامل..
وبرغم غـ.ـضبه مِنْهُ لم يستطع رؤيته يُعا’ني فرادة، تحرّك نحوه بخطى هادئة، صوت أقدامه على الأرضية كانت تصل إلى مسامعه، جلس بجانبه وضم قدميه قليلًا نحو صدره ولم ينظر إليه، كانت نظراته مـ.ـثبتة على طول النيل يتأمله عن كثب، الصمت كان حاضرًا، برغم الصرا’عات التي بداخل كليهما، ولكن بقيت الألسنة عا’جزة عن وصف ما يُعا’نيان مِنْهُ، ولكن برغم ذلك لم يعلم “شهـاب” الاستسلا’م مِن قبل وخسا’رة معركة يعلم أنَّهُ بها الرابح، كـ.ـسر حِدَّ’ة هذا الصمت بقوله الهادئ:
_عارف كويس القعدة دي وراها إيه بعد كدا، وراها حـ.ـبسة لأسبوع كامل وتأنيب ضمير ملهوش أول مِن آخر، أنا مش هقـ.ـطم فيك، ولا هعاتبك عاللِ عملته فالكافيه معاها، بس لازم تعرف كويس أوي يا “شُـكري” إن الناس مش لعبة فإيد وأنتَ بتتحـ.ـكم فيهم، أسلوبك مكانش حلو معاها، خصوصًا إنك غـ.ـلطت قبل كدا معاها لمَ عا’كستها، لازم تعرف إنك لمَ تغـ.ـلط تواجه نفسك وتعتر’ف بيه مش عـ.ـيب على فكرة، بس العـ.ـيب بجد لمَ تشوفه صح، عايزها في طرق كتير عشان تبدأ معاها، الأسلوب دا هيضـ.ـيّع مِنك كُلّ حاجة صدقني، هيحسسك بالغضـ.ـب عشان مفيش حاجة عارف تاخدها، أنسى أي حاجة قديمة وأفتح صفحة جديدة مع نفسك وابدأ مِن الأول مش غـ.ـلط على فكرة، واجه نفسك بالغـ.ـلط وقول أيوه أنا غـ.ـلطت ومستعد أصلّح مِن نَفسي، كفاية لعب يا “شـكري”، كفاية، لازم تقف لنفسك وقفة جَد، عشان لو فضلت مكمل فاللِ أنتَ فيه دا صدقني هتغر’ق، ووقتها مش هتلاقي اللِ يمدلك إيده، أنا برضوا ميهو’نش عليا زعلك، وعشان كدا كلمت “مَـرْيَم” وقولتلها حاولي تهديها وتشرحيلها الموضوع، مش عايزها تطيـ.ـر بسبب تهو’راتك دي برضوا بس عالله تعقل بقى وتفوق لنفسك، عشان مش هصلّح مِن وراك تاني.
كلماتٌ كثيرة معقـ.ـدة ومتشا’بكة كان يستقبلها عقله الذي كان لا يُسعفه لاستيعاب كُلّ ذلك، لحظات، كُلّ ما كان يُريده لحظات لاستيعاب ما قاله أخيه، رفع بصره أخيرًا مِن على النيل ونظر إلى “شهـاب” نظرةٍ تملؤها الذهول، وكأنه مازال لا يُصدق ما سمعه، ألتفت بجسـ.ـده قليلًا تجاه أخيه وهو يدقق النظر في وجهه، يحاول رؤية أيُ تعبيرٍ يدل على المزاح، ولكن كعادة “شهـاب” كان جادًا في هذه المواقف التي لا تقبل المزاح..
_أنتَ شايف إنِ ملـ.ـغبط كُلّ حاجة صح؟ طب أنا ليه مبشوفش مِن نظرتك، ليه بشوف إنِ صح حتى لو غـ.ـلط، ليه بر’فض أسمع كلمة أنتَ غـ.ـلط ومتسرع، وهل أنا كدا أنا’ني؟ يعني حُبِّ حُبّ تمـ.ـلُك.
وكأن الغائب قد عاد، كأن العقل قرر أن يصحو مِن غفوته ويواجه حقيقته، ويقف أمام قلبه بالمر’صاد، نظرته هذه المرة تغيَّرت، وكأنها نظرة شخصٍ واعِ، عاد لرشده وتحـ.ـكم بمسار مركبه قبل أن تغر’ق بهِ بمنتصف المحيـ.ـط، أسئلةٌ عديدة تُطرح على العقل وتجهـ.ـل الجواب المُراد، وفي الصورة كان صاحب الأجوبة حاضرًا، كي يُعيده إلى رُشده، أبتسم “شهـاب” لهُ بسمةٌ هادئة وكأنها تطمئن قلبه وقال:
_أنا شايف واحد تا’يه محاولش يرجع أول ما ضا’ع جوّه دايرة ملهاش أول مِن آخر، بس دلوقتي أنتَ فوقت، يعني عارف إنك كُنت غـ.ـلط يعني تبدأ تصلّح الغـ.ـلط دا أول بأول، مفيش حد معصوم مِن الغـ.ـلط وكُلّنا بنغـ.ـلط بس لو فوقنا لازم نرجع، أنتَ مش أنا’ني، بس عايز كُلّ حاجة تمشي على كيفك، وحُبك مش حُبّ تمـ.ـلُك، بس أنتَ عامل زي العيل الصغير اللِ مبيصدق يمسك فحاجة حلوة، فإيدك تحل كُلّ حاجة دلوقتي، تحاول تقابل “رنيم” وتعتذرلها، ولو عايزها يبقى تشوف كبيرها وكلامك يبقى معاه ولو هي مِن نصيبك هتجيلك، غير كدا أنا معرفش.
أنهى حديثه ولم يسمح لهُ للنقاش والعنا’د، فقد قال ما يراه وقدّم لهُ النصيحة وترك الكرة في ملعبه، أمامه الفرصة يركلها كيفما يشاء، ليست قسو’ة أو فر’ض سيطـ.ـرة، بل توعية صريحة حتى لا تتعر’كل قدمه في الخطوة القادمة ويسـ.ـقط، فحتى الآن لم يغر’ق، مازال على الشـ.ـط يُعا’ند نفسُه كي لا يعود، وبين أن يُكمل ما بدأه، وبينهما كانت هناك رو’حٌ معذ’بة لا تعلم إلى أين يمكث طريقها الصحيح..
ترك أخيه في صرا’عٍ طا’حنٍ مع عقله وقلبه، كان “شُـكري” شارد الذهن يُفكر في حديث أخيه بشكلٍ جادٍ هذه المرة، وكأنه عاد لرشده لوهلة ورأى أنَّهُ كان يسلُك الدرب الخا’طئ، الذي لا يحمل سوى هوية واحدة، ألا وهي الهلا’ك.
_________________________
<“حين يتلاقى الشبيه بشبيهه، تبدأ المعر’كة.”>
في المشفى التابعة للشـ.ـرطة،
وصل “رمـزي” قبل “ليل” وأتجه مسرعًا إلى غرفة رفيقه، قلبه كان ينبـ.ـض بالخو’ف عليه، ورؤيته لهُ لم تطمئنه بتاتًا، كان يسير في الممر الطويل وكأنه يُسابق الزمن، يرى في نهاية الرواق “أيسل” التي كانت تقف أمام باب الغرفة تخشى الولوج..
كانت تقف أمام الباب وقلبها ينبـ.ـض بخو’فٍ بعد ما رأته في الداخل، تضع يَدها فوق بـ.ـطنها المنتـ.ـفخة ويظهر على عينيها الإرها’ق الشـ.ـديد، فصـ.ـل المسافة الباقية بينهما، ووقف أمامها مُـ.ـلقيًا تحية السلام عليها قائلًا:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أنا الشيخ “رمـزي إبراهيم” صاحب “حُـذيفة”، خير إن شاء الله “ليل” كلمني وقالي أحصّلُه على هنا عشان “حُـذيفة” في حاجة، إيه اللِ حصل.؟
نظرت إليه “أيسل” بعينان تطلب مِنْهُ الإغاثة بعد أن كادت تتـ.ـلف أعصابها، ترى وجهًا بشوشًا لأول مرَّة، هيئته كانت تدل على ما قاله ولذلك لم تتردد وبدأت تسرد عليه ما حدث قائلة بنبرةٍ مر’هقة:
_أنا معرفش إيه اللِ جراله مرَّة واحدة كدا فجأة، كان كويس أوي وبيتكلم معايا، شوية وقالي أنا تـ.ـعبان ومحتاج أرتاح، قولتله حاضر ظبطله المخدة وقالي شغليلي سورة “يوسـف” وسيبي الموبايل جنبي عشان أعرف أنام، أنا شغلتها وعملت زي ما هو قالي وقعدت بعيد عنُه، مفيش رُبع ساعة لقيته قايم بيز’عق فيا وبيقولي أقفليه، أنا أستغربت جدًا عشان أنا عارفة إنُه بيحب ينام عالقرآن وهو جنبه، قولت يمكن التعـ.ـب مخلّيه مقر’يف بس مكملش دقيقة بدأ يز’عق جامد وأي حاجة تنولها إيده يحد’فني بيها لدرجة إن الدكاترة حاولوا يهدوه ويدوه مهد’ء محدش قدر يقرّب مِنُه، خرجوني وقفلوا عليه وقالولي خليكي برَّه شوية يمكن جر’حه تـ.ـعبه خصوصًا إن البنـ.ـج مفعوله راح وهيبدأ يتعـ.ـب، أدي كُلّ اللِ حصل.
لم يكُن يحتاج لسماع أكثر مِن ذلك ليعلم ما أصا’به، فقد جاءته الرؤية وأوضحت كُلّ شيءٍ، أخرج زفيرة عميقة وقال بنبرةٍ هادئة:
_مش عايزك تخا’في هيكون كويس إن شاء الله، أنا بس هدخل أتكلم معاه شويه يمكن يسمع مِني ويهدى، خليكي هنا وشوية و “ليل” يوصل، متقلقـ.ـيش خير إن شاء الله.
طمئنها ونظر إلى باب الغرفة لدقائق، نظرته كانت تحمل شيئًا مِن الغموض والشـ.ـك، لحظات وقال بنبرةٍ هادئة:
_لا حول ولا قوة إلا بالله، مدد يا ربّ.
اقترب مِن الباب بخطى هادئة، وقف أمامه ومدّ كفه ممسكًا بمقبـ.ـض الباب، وقبل أن يفتحه أتاه صوتها مِن خلفه قائلة بنبرةٍ تملؤها الخو’ف:
_خلّي بالك وأنتَ داخل.
ألتفت برأسه ينظر لها وقد منحها بسمةٌ هادئة وقال:
_خلّيها على الله.
فتح الباب ووَلَجَ بحذ’رٍ كما طلبت مِنْهُ مغلقًا الباب خلفه وهو يُسمي الله ويستعيذ بهِ، نظر إلى أرجاء الغرفة مِن الداخل ثمّ سار بخطى هادئة نحو الداخل مستعينًا بالله ربّ العالمين، وحين دخل إلى الغرفة رآه أمامه، مستلقيًا على الفراش وعينيه مثبتةٌ فوقه، رأى “رمـزي” نظرةٍ يعلمها جيدًا، نظرةٍ يحفظها عن ظهر قلبٍ، وبدلًا مِن أن يهابه كانت نظرته لهُ بها تحـ.ـدٍ سافر..
بسمةٌ هادئة أرتسمت على شفتيه، وخطى بدأت تكسـ.ـر المسافة بينهما، يقترب دون أن يهابه، ما قالته زوجته لم يجعله يخشى الاقتراب مِنْهُ، بل أعطاه الدافع الأكبر لمواجهته، وقف “رمـزي” بجوار الفراش الخاص بهِ وضم كفيه أمامه ونظر إليه دون أن يتحدث، ترك الأعين تنطق هذه المرة وليست الألسنة، فأمام الإصرار المحيط بعينان “رمـزي” وقوته، كانت تقابله نظرات الخـ.ـبث والمـ.ـكر مِن الآخر..
لحظة تُحبـ.ـس بها الأنفاس وتترقب لها الحواس، فالمواجهة صـ.ـعبة خصيصًا وإن جمعت حبيبين، أخرج “رمـزي” زفيرة عميقة وسَمِعَ “حُـذيفة” الذي كـ.ـسر حِدَّ’ة هذا الصمت بقوله الساخر:
_شكلك خا’يف، ومداري خو’فك ورا قناع القوة المز’يف دا، حقك تخا’ف، أنتَ قدام أي حد برضوا، مش كدا ولا إيه يا شيخ “رمـزي”.
بسمةٌ هادئة أرتسمت على شفتين “رمـزي” الذي جاوبه بنبرةٍ هادئة في الحال وقال:
_غريبة، أنتَ اللِ بتتكلم عن الخو’ف، الظاهر إنك مبتتعلمش، ومتفتكرش إنك لحد دلوقتي بتنفذ تخـ.ـطيطك بالعكس، خو’ف الطفل الصغير دا طبيعي، بس دا مش معناه ضعـ.ـف مِنهم بالعكس، كفاية إنهم أول ما بيواجهوك بالقرآن الكريم بتهر’ب زي الجبا’ن، اللِ أنتَ فيه دا جُـ.ـبن، بس مصوره لنفسك شجاعة وقو’ة.
ضحكة ساخرة كانت أول رد على ما قاله، ضحكة مكتو’مة ونظرة محقو’نة بالشـ.ـر كانت عنوانُا صريحًا لهُ، نظر إليه “حُـذيفة” مِن تحت أهدابه نظرةٍ ما’كرة وقال:
_متنساش أصلك، أبوك كان أكبر سا’حر فالبلد زمان، وأتاخدت عشان يتفـ.ـتح بيك مقبـ.ـرة فرعو’نية وأتأ’ذيت مِنهم، عشان أنتَ ضـ.ـعيف … يا ضـ.ـعيف.
ضـ.ـغط على أحرف كلمته الأخيرة وهو ينظر إليه مبتسم الوجه، ر’ماه “رمـزي” نظرةٍ ذات معنى ثمّ اقترب مِنْهُ خطوة أخرى ووقف، لحظات أحتاجها قبل أن يتحرك، يصـ.ـعُب عليه رؤية رفيقه بهذه الحالة ولذلك قرر أن يأخذ خطوة للأمام، أمسك بطرف وشاحه الأسو’د ورفع يَده يضعها على رأسه بحركةٍ سريعة كي لا يقا’ومه الآخر وبدأ برقيته محاولًا السيطـ.ـرة على حركة جسـ.ـده حتى لا يفتـ.ـح الجر’ح وتنتكـ.ـس حالته..
كان “حُـذيفة” وكأنه كالفر’يسة التي أصطا’دتها المفتر’س وجعلها وجبة شـ.ـهية لهُ، تناول الطُـ.ـعم دون أن يعلم وكان هو الضـ.ـحية، كان تأ’وهه الوحيد بعد أن بدأ “رمـزي” بقراءة أولى آيات سورة البقرة، ومِن بعدها بدأ جسـ.ـده يستكين وتهدأ مقا’ومته لهُ، مثلما يفعل مع الجميع فعل معهُ وبدأ بتحـ.ـصينه بعدها حتى لا يمـ.ـسَّهُ شيئًا آخر..
أنهى مهمته وضر’ب برفقٍ فوق جبينه بعد أن ضم سبابته قليلًا، لحظة وبدأ “حُـذيفة” يعود إلى و’عيه مِن جديد، نظر إليه “رمـزي” وقال بنبرةٍ هادئة:
_حمدلله على سلامتك يا “حُـذيفة”، أنتَ زي الفُل.
فتح “حـذيفة” عيناه ببطءٍ ليرى “رمـزي” بجانبه، لحظات مِن الصمت قطـ.ـعه صوته المر’هق حينما سأله:
_”رمـزي”، أنتَ هنا مِن أمتى.؟
جاوبه “رمـزي” بوجهٍ مبتسم ونبرةٍ هادئة قائلًا:
_بقالي شوية، كُنت نايم محبتش أز’عجك يعني وقولت أسيبك براحتك.
أسند “حُـذيفة” رأسه إلى الوسادة خلفه ونظر إليه هُنَيهة دون أن يتحدث، يعلم أن “رمـزي” يكذب، ليس جديدًا عليه هو يعلم متى يكذب ومتى يكون صادقًا، وما كشف كذبه ذاك عيناه، عيناه التي أفصحت عن أشياءٍ لم يقولها العقل، أخرج زفيرة عميقة وكسـ.ـر حِدَّ’ة هذا الصمت بقوله الهادئ:
_أنا عارف كويس إنك بتكدب عليا، صارحني يا “رمـزي”، قول الحقيقة، عشان أنا مخدتش عليك وأنتَ بتكدب.
نظر إليه “رمـزي” نظرةٍ ذات معنى دون أن يتحدث، نظرة تخبره مِن أين عَلِمت ذلك، لا يعلم أن “حُـذيفة” يعلم عقول البشر مِن حوله، يعلم بماذا يُفكرون، وكيف يخـ.ـططون، وماذا يقولون بين أنفسهم، زفر “رمـزي” بعمقٍ وبسمةٌ ساخرة أرتسمت فوق شفتيه مجيبًا إياه:
_كُنت فاكر نفسي ذكي قدامك وأقدر أ’خبي عليك اللِ ميـ.ـتخباش، بس طلعت قاريني أوي، طب عـ.ـيب، راعِ إننا واحد مينفعش نعمل فبعض كدا.
أبتسم “حُـذيفة” بسمةٌ وا’هنة وجاوبه بنبرةٍ هادئة قائلًا:
_لو حاولت تكدب عالناس كُلّها، مش هتعرف تكدب عليا، صارحني أحسن يا “رمـزي”، متخا’فش عليا بس أعرف أنا كان فيا إيه أنا مش فاهمه.
مازال يناضل، لن يستسـ.ـلم إلا أن يعلم ما حدث، وأمامه لا يستطيع أن يكذب أو يهرُ’ب، نظر إليه نظرةٍ هادئة وجاوبه قائلًا:
_كان مسحو’رلك، مِنُه لله اللِ كان السـ.ـبب بقى، بس الحمدلله لحـ.ـقتك قبل ما تبهـ.ـدل الدنيا أكتر مِن كدا.
نظر إليه “حُـذيفة” نظرةٍ ذات معنى وكأنه يسأله عن ما فعله، ولم يتأخر “رمـزي” في الجواب عليه وقال:
_مراتك بتقول إنك كُنت كويس مفكش حاجة طلبت مِنها تشغلك سورة “يـوسف” وبعدين نمت، مكملتش ساعة وصحيت مش على بعضك، مبقتش عايز تسمع القرآن وأي حاجة تطولها إيدك تحد’فها بيها، حتى الدكاترة معرفوش يدخلولك بسبب حالتك دي.
وكأن ما يسمعه غريبًا على مسامعه، لا يُصدق أنَّهُ فعل ذلك، كان يسمع عن مثل هذه الأشياء، ولكن لم يكُن يتصوّر أن يكون هو صاحب النصيب، سأله مِن جديد قائلًا:
_طب أنتَ عرفت أزاي.؟
_أبدًا، مراتك كلمت “ليل” وقالتله وهو كلمني وقالي أسبقه على هنا عشان الوضع ميسو’ءش أكتر مِن كدا، شوفت إن حواليك ناس كتير بتحبك وبتخا’ف عليك.
أراد طمئنته أن كُلّ شيءٍ مازال بخير، لم تسو’ء الأمور طالما ربه موجود وهو بجانبه، أقترب مِنْهُ مربتًا فوق كتفه برفقٍ وقال:
_مراتك برَّه مستنياك، هطلع أطمنها عليك وهخليها تدخلك.
تركه وأتجه نحو الباب بخطى هادئة، وكأن ثقـ.ـل هذه اللحظة أصبح عـ.ـبئًا على قلبه، لحظة ليست سهلة، ولن تكون كذلك، فبعد كُلّ جلسة شيئًا مختلفًا بداخله يؤ’لمه، ولكن يبقى هذا الأ’لم ساكنًا داخل رو’حه، لا يستطيع البوح عنهُ..
خرج إليها ليرى “ليل” أمامه ينتظر كما طلبت “أيسل” مِنْهُ والخو’ف يغطي عيناه، أقترب مِنهم بعد أن أغلق الباب خلفه ليقف بمواجهة “ليل” الذي سأله عن حالة رفيقه بصوتٍ يظهر بهِ الخو’ف الشـ.ـديد قائلًا:
_طمني يا “رمـزي” إيه اللِ حصل؟ “حُـذيفة” كويس.؟
رفع الآخر كفه يربّت فوق كتفه برفقٍ وطمئنه بنبرةٍ هادئة:
_متخا’فش، بقى كويس وزي الفُل، رجع لوَ’عيُه تاني ومفهوش أي حاجة.
نظر بعدها إلى “أيسل” وأكمل حديثه بنبرةٍ هادئة قائلًا:
_لو عايزة تدخلي تطمني عليه تقدري تدخلي.
لم تنتظر، كانت تريد التأكيد على ولوجها إليه مِن جديد، تركتهم وولجت لهُ بتلهفٍ شـ.ـديد، تريد الاطمئنان عليه، تريد أن تراه بنفسها بخيرٍ، أن تتأكد مرارًا وتكرارًا أن هذا هو حبيبها، هذا الذي ميَّزهُ القلب عن جميع الرجا’ل وأكتفى بحُبه، رأت عيناه مُـ.ـعلّقة فوق الباب، وكأنه كان ينتظر ظهورها بفراغ الصبر، وحين ظهورها سكت كُلّ شيءٍ، ولم يُسمع سوى د’قات القلوب، تلك الد’قات التي كانت تُطالب بالحبيب، تلك الد’قات التي كانت حياة بالنسبةِ لكليهما، تلك اللحظات التي لم تكُن سوى دقائق ممزوجة بين قلبين أجتمعا سويًا في رو’حٍ واحدة، وعشقًا شَهِدَ على تلك اللحظة..
لم تُظهر خو’فها برغم أنَّهُ كان يتوقع رؤية الخو’ف في عينيها، لم يرى سوى نظرة حنونة، مُحِبَّة، تُريد البقاء بين ذراعِ هذا الحبيب، فصـ.ـلت المسافة التي كانت بينهما بتقدمها نحوه، وكأن هذه المسافات تجعلها تشعُر بالاختنا’ق، وقفت بجانب الفراش دون أن تحيد بعينيها بعيدًا عن عيناه التي كانت تحتضنها، تضمها برغم جو’ارحها، برغم آلا’مها، برغم تحـ.ـطمها، جلست على طرف الفراش بهدوءٍ شـ.ـديد، ولحظة غمرها فيها شعور الد’فء الذي تسـ.ـلل إلى قلبها، شَعَرت بلمسة يَده الد’افئة على يَدها، وكأنه يُخبرها أنَّهُ مازال هُنا، لم يرحل..
_حقك عليا لو كُنت أذ’يتك بدون قصدي، مكُنتش حاسس بنفسي.
وكأن قلبه يُعذ’به ورو’حه تؤنبه على ما أقترفه في حقها، برغم أن ذلك كان خارجًا عن إرادته، يشعُر نحوها بالذ’نب، ولأن قلبها مغمورًا بحُبّه لهُ لم تتحدث، بل أكتفت بصمتٍ تام وعناقٍ حنون منحته إياه، شَعَرت وكأنه غاب عنها لساعات، رأت شخصية أخرى ليست بشخصيته، ونظرةٍ بها قسو’ة لم تكُن يومًا لهُ، وكأنه كان يختبر قلبها، هل سيتحمـ.ـل هذه القسو’ة أم سيتركه ويهرُ’ب..
_خو’فت عليك أوي، أول مرَّة أشوفك بالحالة دي.
لم تقولها، كان يظن أنَّها ستقولها، أول كلمة ستخرج مِنها، ولكن أول كلمة أبا’حت بها خو’فها عليه هو، عناقها كان حياة جديدة تمنحها هي لهُ، لحظة جديدة تولد بها رو’حًا جديدة، طمئنها بعد أن رأى خو’فها عليه بقوله الهادئ:
_أنا كويس يا “أيسل”، متخا’فيش عليا طول ما أنا فرعاية الله، ولا إ’نس ولا جـ.ـن يقدروا يضـ.ـروني طالما ربنا مأردش.
أبتعدت عنهُ وعيناها تضم عيناه في لحظة د’فء وصفاء، عيناه تعتذر على جر’مًا لم يقترفه هو، وهي مازالت كما هي، مُحِبَّة، لا عتاب، ولا ندم، ولا لوم، فقط منحته ما يُريد، منحته قبولها مهما كانت الظروف، ومهما كانت المحن التي يمرون بها، ستبقى هي، إن أرخى الجميع أياديهم لا تُر’خيها هي.
___________________________
<“تُخلق بذور جديدة، ومعها تُخلق حياة جديدة.”>
قُبَيْل المغرب – في العيادة النسائية،
كانت “لارين” تجلس تنتظر دورها قرابة النصف ساعة، تقرأ في مجلات الأطفال، ويجاورها “علي” الذي كان مندمجًا في هاتفه، لحظات ورأى “طارق” يُهاتفه، أجابه بنبرةٍ هادئة بعد أن وضع الهاتف على أذنه قائلًا:
_أيوه يا حج.
جاءه صوت طفولي بدلًا عن أبيه يسأله قائلًا:
_أنتَ فين يا بابا؟ أنا زهقت وقاعد كتير أوي لوحدي.
كان “ثائر” المتحدث والذي بدأ يشعُر بالمـ.ـلل لبقاءه لوقتٍ طويل وحيدًا مع جده، أخرج زفيرة هادئة وجاوبه بنبرةٍ هادئة قائلًا:
_معلش يا حبيبي حقك عليا أنا عارف إنِ أتأخرت عليك بس لسه فاضل شوية كمان عشان ماما تدخل للدكتورة، أول ما نخلص هعدي عليك على طول أخدك وهفسحك فأي مكان أنتَ بتحبه، تمام كدا.؟
سأله في نهاية حديثه إن كان هذا يُرضيه، فهو يعلم أن صغيره بدأ منذ وقتٍ قصير يشعُر بالمـ.ـلل، بقاءه وحيدًا طيلة الوقت، وحتى إن عاد هو مِن عمله لا يستطيع الجلوس معهُ بسبب إرها’قه، يعلم أنَّهُ مقصرًا في حق ولده ولذلك يحاول الآن تعويضه عن هذا التقصير، جاء دور “لارين” في قائمة الكشف ولذلك قال بعد نهضت “لارين” واتجهت نحو الغرفة:
_طب هضطـ.ـر أقفل دلوقتي يا “ثائر” عشان ماما داخلة تكشف هكلمك تاني يا حبيبي.
أغلق “علي” المكالمة بعد أن وافق صغيره ونهض متجهًا إلى زوجته، ولجت “لارين” بخطى هادئة إلى الغرفة لترى الطبيبة تستقبلها بأبتسامة بشوشة، نهضت تُشير إليها قائلة بنبرةٍ هادئة:
_أتفضلي يا مدام “لارين” نورتيني.
ولجت ولَحِقَ بها “علي” الذي وَلَجَ خلفها مباشرةً مغلقًا الباب خلفه، اقتربت مِنها “لارين” مبتسمة الوجه تصافحها بالأيدي ثمّ أشارت لهما بالجلوس قائلة:
_أتفضلوا أرتاحوا.
جلسا فوق المقعدين المقابلين وجلست الطبيبة مكانها وسألتها بنبرةٍ هادئة مبتسمة الوجه:
_طمنيني عالتوأم، في شقا’وة ولا هاديين.
جاوبتها “لارين” بنبرةٍ هادئة وهي تنظر لها قائلة:
_شوية كدا وشوية كدا، بس أنا بقيت بنهـ.ـج كتير أوي الفترة دي يا دكتورة، بتمشى بنهـ.ـج ومبقدرش أكمل، مبقتش قادرة أعمل حاجة زي الأول حركتي بطيئة وبـ.ـطني مش مسعداني، بقيت حاسّة بكسل وعايزة أقعد مقومش مِن مكاني.
أبتسمت الطبيبة بسمةٌ بشوشة وقالت بنبرةٍ هادئة:
_طبيعي متبقيش قا’درة تعملي حاجة زي الأول، كُلّ شهر غير التاني، حكاية الكسل دي عايزين نحولها لنشاط، كُلّ ما هتحسّي نفسك بتكسلي شجعي نفسك وقومي أتحركي هنا وهنا، الفترة دي محتاجين حركة عكس الفترة الأولية كُنت بطالبك بالراحة، النهجا’ن دا مفيش خو’ف مِنُه طالما مش حاسّة بأي و’جع بس إحنا لازم نتحرك، حتى لو هتنزلي تتمشي شوية وتقعدي ترتاحي شوية وترجعي تكملي، أنتِ خلاص داخلة فالسابع يعني المفروض تجهزي نفسك وتستعدي كدا، ولا أنا بتكلم غـ.ـلط يا أستاذ “علي”.؟
أنتبه إليها “علي” الذي أبتسم بسمةٌ هادئة ونظر إلى “لارين” مجيبًا إياها قائلًا:
_لا خالص يا دكتورة، أنا نفسي بقعد أقولها كدا ومبتصدقنيش، مع إن باباها دكتور يعني وفاهم شوية فالحاجات دي بس هي بتعا’ندنا مش عارف ليه.
نظرت الطبيبة إلى “لارين” وقالت بنبرةٍ هادئة:
_لا هما كلامهم صح أسمعي الكلام بعد كدا مش هيضـ.ـروكي يعني متقلـ.ـقيش.
مزحة لطيفة تُهدئ مِن حِدَّ’ة التوتر المسيطـ.ـر على “لارين”، فقد شَعَرت بها الطبيبة منذ ولوجها وحتى هذه اللحظة، سألتها الطبيبة هذه المرة قائلة:
_لسّه مُصّرة متعرفيش هما إيه.؟
جاء الجواب هذه المرة مِن “علي” الذي قال بنبرةٍ جادة:
_لا المرة دي إحنا جايين وأنا عايز أعرف هما إيه.
نظرت الطبيبة إلى “لارين” التي أكدت على قوله بعد أن كانت تر’فض معرفة نوعهما لتنهض الطبيبة مشيرةً إليها تجاه الفراش قائلة:
_أتفضلي معايا.
نهضت “لارين” واقفة ومعها “علي” الذي أصطحبها إلى الفراش وساعدها في الاستلقاء فوقه، أرتدت الطبيبة قفازها الطبي الأبيـ.ـض وبدأت بوضع سائل لز’ج شفا’ف على بـ.ـطنها ثمّ أخذت الجهاز الكاشف عن صحة الجـ.ـنين ووضعته فوق بـ.ـطنها ونظرت إلى الشاشة، أتجهت أعينهما تستقر فوق الشاشة ليران الصغيرين مِن خلالها..
د’ق قلب “علي” هذه المرة بقوة، وكأنه يراهما لأول مرَّة، فشعريرية خفيفة تملّـ.ـكت مِن جسـ.ـده جعلته يشعُر بشعورٍ لذيذ هذه المرة، ترقرق الدمع في المُقل وبسمةٌ حنونة أرتسمت فوق شفتيه، سـ.ـلبه مِن فرط هذه المشاعر التي اجتاحته صوت الطبيبة التي بشرتهما بالبشرى السارّة:
_مُبارك عليكم إن شاء الله، بنتين توأم وفكـ.ـيس واحد، يعني لازم تبدأوا تفكروا هتميزوهم أزاي مِن دلوقتي.
مفاجأة مِن العيا’ر الثقيـ.ـل، مفاجأة ليست كغيرها، بل هذه ذات مذاق خاص بها، ثمرتين ستكونان بعد شهرين أرَقَ ثماره وأكثرهن نعومة ولطف، أثنتين ستجعلن حياته مختلفة، لطيفة، وناعمة، ورائحتها كرائحة المسك، فتاتين ستجعلن حياته وردية، صوتًا ناعمًا سيتغلغـ.ـل داخل أذنيه بعد عامٍ ونصف يُنادي أسمُه بأحرفٍ مبعثـ.ـرة، حرفًا سوف يُحذ’ف، أو أسمًا جديدًا سوف يتم أختراعه، عناقًا د’افئًا وحنونًا يختم بهِ يومه العصـ.ـيب، وقبّلة لطيفة على خَده مِن شفتين صغيرتين وردية..
نظرت “لارين” إليه بوجهٍ مبتسم وعينان تترقرق بهما الدمع، فكانت تتمنى أن تحظى بفتاتين صغيرتين تشبهان بعضهما، وها هي تتلقى ما تمّنت، بسمةٌ واسعة أرتسمت على ثَغْرها ولمعةً خاصة أحتضنت عيناها..
_تحبوا تسمعوا نبـ.ـض القلب.؟
سؤالٌ بسيط وجوابٌ سَلِسَ كان ثـ.ـمنه هذا الشعور الذي خُلِـ.ـقَ بداخله، صوت نبـ.ـضاتهن كانت وكأنها نغماتٌ موسيقية متناسقة، مع كُلّ نبـ.ـضة كانت بها حياة، أملًا، مستقبلًا مشرق، وشعورٌ لطيف يسكُن القلب، سمح لنفسُه أن يستمع إلى هذا الصوت الذي سيظل عالقًا في عقله حتى قدومهما، أبعد بصره عن الشاشة ونظر في وجهها وكأنه يسألها إن كانت قد رأت وسَمِعَت ما سَمِعَه هو أم لا، وكان جوابها بسمةٌ واسعة أرتسمت فوق شفتيها تؤكد إليه حقيقة الأمر..
كُلّ ما أستطاع منحها إياه هو عناقًا حنونًا، دا’فئًا، مليئًا بالسعادة، عناقًا أرسل لها مِن خلاله سعادته الطاغية وشغفه، عناقه كان د’افئًا، وقبّلته فوق جبينها حنونة، وكأنه يُخبرها أنا سأنتظر، سأنتظر سعادتي حتى تكون يومًا بين يَدي، سأنتظر لأجلهن فقط، فأنا أنتظرتُ أشهرٍ ولياليها، فبالتأكيد سأنتظر هذه الأيام القليلة المتبقية.
___________________________
<“ولأجلها أحر’ق شعوبًا، وقتـ.ـل حكا’مها وتربع على عرشه.”>
ظنّوا أنها كانت نهاية لكُلّ شيءٍ،
ولكن لم يعلموا أنها كانت البداية لكُلّ نهاية قصة، لكُلّ نهاية سطر د’موي، ولكُلّ جر’حٍ لم يلتئـ.ـم..
في شقة “ديفيد”،
كان “مينـا” يقف في الشرفة ينتظر قدوم “ديفيد” ومعهُ “بيشوي” منذ قرابة الرُبع ساعة، شاردًا يُفكر في حلولٍ فيصلية لجميع مشا’كله، منذ أن ما’ت أبيه وهو يشعُر كُلّ يوم بثقـ.ـل الحياة على عاتقيه، وكأنها تعا’نده، كانت آخرها إيقافه عن العمل وز’جه للسجو’ن كالمجر’مين، رأى الطو’فان قادمًا مِن بعيد ولم يُكلف نفسُه عناء الهر’وب مِنْهُ، بل سلّـ.ـم نفسُه إليه بكامل رضاه..
بينما كانت “برلين” تجلس مع الفتاتين في غرفة المعيشة مبتسمة الوجه، تستمع إليهن وتضحك مِن صـ.ـميم قلبها وكأنها عادت إلى الحياة مرَّةٍ أخرى، كان الصوت المسموع في هذه اللحظة هو صوت “مارينا” التي قالت بو’عيدٍ:
_هو حُـ.ـر، لو طلع ناسي فعلًا إن بُكرة عيد جوازنا هقلبها عليه نكـ.ـد لشهر كامل عشان يقول حقِ بر’قبتي بعد كدا وينسى حلو.
قهقهات متبادلة بين “برلين” و “كاترين” التي كانت تحفظ شقيقتها عن ظهر قلب، تعلم أنها إن تو’عدت لأحدًا مِنهم فسلامًا عليه، جاوبتها “برلين” بوجهٍ مبتسم قائلة:
_عيد زواج سعيد يا “مارينا”، ليكي عندي بوقيه ورد على ذوقي بالمناسبة الحلوة دي.
أبتسمت لها “مارينا” وجاوبتها بنبرةٍ مغمورة بالحُبّ والود قائلة:
_أقسم بالله أنتِ سُكّر وتتحبي، أنا عرفت أخويا فضل ليه مأجل حوار الجواز دا لحد قبل شوية كدا.
أبتسمت “برلين” وشَعَرت بالقليل مِن الخجـ.ـل حين شعورها بنظرات الفتاتين الخـ.ـبيثة نحوها، نظرت “كاترين” إلى “مارينا” نظراتٍ مُـ.ـحمّلة بالخـ.ـبث، ثمّ نظرا لها لتسألها “كاترين” هذه المرة بنبرةٍ هادئة قائلة:
_قوليلي بصراحة يا “برلين”، أخويا رومانسي وبيقول كلام حلو ولا تقيـ.ـل، أصل أنا عارفة إن أخويا تقيـ.ـل ومش بيقول كلام حلو كتير، فقولنا يعني يمكن يكون أتغيّر معاكي أنتِ.؟
شَعَرت “برلين” بالخجـ.ـل الشـ.ـديد بعد أن رأت نظرات “كاترين” لها، وكأنها تُحـ.ـقق معها وليست تسألها، أزداد خجـ.ـل “برلين” أكثر، فهي حتى الآن لا تعلم بماذا تُجيبها وكيف ستشرح لها الأمر، اخفضت بصرها وضـ.ـغطت على قبـ.ـضتيها بتو’ترٍ شـ.ـديد، ولكن هذا لم يمر عليهن مرور الكرام فبنظرة فهما كُلّ شيءٍ..
صدح رنين جرس الشقة يُعلنهن عن قدومهم، نهضت “مارينا” وأتجهت نحو الباب بخطى هادئة، فتحت الباب لترى زوجها أمامها ينظر لها بوجهٍ مبتسم، اصطدمت عيناها بعيناه لتبتعد عن طريقه مشيرةً لهُ نحو الداخل قائلة:
_أخويا مستنيك بقاله رُبع ساعة، كُلّ دا تأخير.
وَلَجَ “ديفيد” ولَحِـ.ـقَ بهِ “بيشوي” ومعه ولده “جرجس”، أغلقت الباب خلفهم وألتفتت تنظر إليهم لتراه يتجا’هلها عمـ.ـدًا، جحظت عينيها قليلًا بعدم استيعاب وفرغ فاهها قليلًا للحظات حتى أختفى هو مِن أمامها بولوجه إلى الشرفة، شَعَرت بالغيظ الشـ.ـديد مِنْهُ، وبنير’ان تحر’ق قلبها، وبرغبة عا’رمة في الذهاب إليه وتوبيخه، ليكون ردًا على هذا التجا’هل الذي استفـ.ـزها، طـ.ـبقت على أسنانها وتو’عدت إليه بقولها:
_حلو أوي الكلام دا يا “ديفيد”، أنتَ عايزها نكـ.ـد، وأنا مش هحر’مك مِن حاجة حتى لو فاكر عيد جوازنا وجيبتلي اللِ ميتجابش، دبو’ر وزَن على خر’اب عِشُه يا ابن “تفيدة”.
عادت إلى الفتاتين مجددًا واستقرت بمكانها مجددًا، ولكن هذه المرة كانت غا’ضبة، أتجهت الأنظار نحوها تراقبها بصمتٍ تام دون أن تجر’ؤ واحدة مِنهما على التحدث معها وهي في هذه الحالة، كانت “مارينا” تر’ميه بنظرةٍ غا’ضبة بين الحين والآخر، وبكُلّ مرَّة كانت قبـ.ـضتها تشتـ.ـد على الكرة المطاطية التي تستقر بكف يَدها، وكأنها تُحاول أمتصا’ص ولو جزءًا بسيطًا مِن غـ.ـضبها..
بينما بداخل الشرفة،
كان “مينـا” منصبًا بأنتباهه مع “ديفيد” الذي كان يقف في مواجهته ويخبره عن آخر التطورات التي وصلوا إليها في قـ.ـضية شقيقته:
_أنتهت يا معلمين خلاص، هيتحـ.ـبس هو ومراته رسمي، قعد ينكـ.ـر كتير وقال كلام ماسخ زي سـ.ـحنته قاموا أدوله قر’صة ودن حلوة خو’فته وخلّته يعتر’ف على طول، هو ومراته خدو ٦ شهور، جوّه هيتر’بوا على حق، أنا مش أي حد وصيت عليهم جوّه.
أخرج “بيشوي” زفيرة عميقة وقال بنبرةٍ هادئة:
_أخيرًا خلصنا مِنهم، أنا مكُنتش هسكت وكُنت هفضل وراه لحد ما يعتر’ف، بس أنتَ رحمته مِن اللِ كُنت هعمله فيه.
نظر “مينـا” تجاه شقيقته التي كانت تتحدث مع زوجته بحما’سٍ كعادتها، ولأول مرَّة يشعُر بالراحة تغمر قلبه، والسكينة في رو’حه بعد أن عاد حق شقيقته وصغيرها، أخرج زفيرة عميقة وقبل أن يتحدث قـ.ـطعه صوت رنين هاتفه الذي كان فوق سطح الطاولة، انحنى بجذ’عه العلوي نحوه يلتقطه بكفه ليرى المتصل “ليل” رفيقه، أخرج زفيرة قوية وجاوبه قائلًا:
_مساءك لذيذ، يا ربّ يكون جاي مِن وراك خير.
ولكن ليس كُلّ ما يتمناه المرء دومًا يحدث، فجاءت الكلمات مُحـ.ـمَّلة معها ريا’ح عا’صفة، لا تبشرهم بالخير:
_”مينـا” تعالى بسرعة، “حُـذيفة” تـ.ـعبان أوي ونقوله عالعناية المشـ.ـددة، “حُـذيفة” أنتكـ.ـس ..!!
كلماتٌ رسمت رده على تقاسيم وجهه دون أن يتحدث هو ويقول حرفًا، كلماتٌ كانت أشـ.ـد أ’لمًا مِن الطـ.ـعن، توقف الزمن بهِ، والأصوات مِن حوله بدأت تتلاشى، كأحلامٍ طفولية تبخـ.ـرت بفعل كلمات العد’و، ومازالت الحياة تعا’ندهم، ومازالت الحر’ب قائمة، حتى يحين موعدها.
___________________________________
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية أحببتها ولكن 7)