روايات

رواية اليمامة والطاووس الفصل الثاني عشر 12 بقلم منى الفولي

رواية اليمامة والطاووس الفصل الثاني عشر 12 بقلم منى الفولي

رواية اليمامة والطاووس البارت الثاني عشر

رواية اليمامة والطاووس الجزء الثاني عشر

اليمامة والطاووس
اليمامة والطاووس

رواية اليمامة والطاووس الحلقة الثانية عشر

لم يتخيل أن تخيب توقعاته لهذا الحد، تحرك دون إرادة يبحث عن الباقيات ليعرف لأي مدى صابت باقي توقعاته أو خابت، تحرك بهمة حتى وقع نظره على تلك السيدة متوسطة الجمال ذات التعبير المريح وهي تشتري بعض الخضروات من سيدة مسنة تبادلها الابتسامة بود وكأنهما صديقتين حميمتين، اقترب محاولا أن يلتقط أيا من كلامهما ليصله صوتها واضحا: حلو من وشك يا أم ابراهيم، ربنا يحسن سوقهم وييسر لك أمرك.
كتم صرخة كادت تفلت من فمه، فالسيدة متوسطة الجمال هي روقة حلم كل الرجال كما تدعوها شوقية.
روقة التي يحمد زوجها الله على رزقه بها ويعتبرها جل رزقه، هي مجرد أمرأة عادية المظهر تلقى الألاف من على شاكلتها يوميا، وقف مبهوتا لا يعي معنى كل هذا، لتأتيه الضربة القاضية على شكل نداء حمل صوت فاطمة وهي تنادي رانيا: يا أم معتز.
لم تكن دهشته بسبب صوتها الهادئ الخافت المتزن على عكس عادتها، لكن الأغرب أنه صدر عن تلك السيدة المحتشمة الخجول، لتتصاعد دهشته وهو يسمعها تستطرد وهي تشير لمرافقتها تلك السيدة الجميلة بلا زينة ذات الابتسامة الراضية: أم مهاب كانت عايزكي تنقي لها بطيخة حمرا عشان منتخمش.
فتر حماسه للجولة فجأة فاكتفى بما اشترى من فاكهة، انطلق بطريق العودة شاردا، يفكر بطريقته بالتفكير وتقييم البشر الذي خداعاه قديما عندما ظن بنجوى وسلوى الرفعة لحسن مظهرهما وحنانهما الظاهري، والنقص والغيرة بحبيبته وأهلها لرقة الحال وبساطة المظهر، وهاهو يخدعه تفكيره ثانية، وفشل تخمينه القائم على المظاهر فشلا ذريعا، كم كان غبيا ضيق الآفق، يحكم بالمظاهر الكاذبة ويتجاهل الجوهر، فالجميلة ذات الزينة المتقنة هي شوقية تلك الكريهة التي يبغضها زوجها ويتمنى الاقتران بغيرها، ماهي سوى طاووس مغرور، جميل المظهر بلا فائدة حقيقية، بينما متوسطة الجمال هي رانيا ذات الجمال الداخلي الخلاب الذي ملك عقل زوجها وقلبه، الأشبه بيمامة رقيقة عششت بمنزل زوجها فأسعدت قلبه وملكته، أما تلك المحتشمة فهي فاطمة تلك اللعوب داخل بيتها الملتزمة خارجه، أما تلك العابسة فهي هناء مجرد طفلة زادها الضيق والحرمان عمرا فوق عمرها، وأخيرا فصاحبة الوجه المبتسم هي وفاء شقيقة يوسف زوج فاطمة ورغم معاناتها وظروفها الصعبة إلا أن الرضا ووجود السند الحقيقي المراعي أضافا على روحها هدوءا وعلى وجهها نضارة.
❈-❈-❈
ارتفعت الطرقات على باب غرفة ياسين بالمستشفى ليأذن للطارق بالدخول، لتتسع عينيه بصدمة مغمغما: دعاء!
ارتفع صوت والدها المصاحب لها: ألف سلامة يا دكتور، بعد الشر عن حضرتك.
رحب بهما يدعوهما للجلوس، جلس والدها قريبا بينما انكمشت هي على أبعد كرسي من فراشه، متجنبة النظر نحوه فبرغم إصرارها على المجيئ للإطمئنان على ما حدث لياسر، وتأكيدها على التماسك والهدوء، ولكن مجرد رؤيته بعد ماكان منه، عاودت اشتعال نيران غضبها ولكن حالته الصحية والظروف والغرض الذي أتوا من أجله شكلت كلها أسباب اجبرتها أن تغمغم: سلامة حضرتك يا دكتور.
أجابها خجلا لا يقوى على مواجهتها: الله يسلمك يا دعاء، أزيك وأزاي عبد الرحمن.
تمتمت باقتضاب: الحمد لله أنا وهو كويسين.
ارتسمت ابتسامة واسعة على وجهه، وهو يهتف فرحا: يعني فعلا عرفتي أنه عبد الرحمن.
ساءتها فرحته التي لا حق له بها بعدما ساند من حاولوا قتل جنينها، فتجاهلت إجابة سؤاله، وهي تشيح بوجهها جانبا، ليتنحنح والدها وهو يمسك زمام الحديث مردفا بجدية: احنا حاولنا نتصل على حضرتك وياسر أكتر من مرة بس تليفوناتكم مقفولة، والحمد لله دعاء كانت عارفة نمرة عمر وكلمناه وهو اللي بلغنا بتعب حضرتك، وأن ياسر حاليا مش موجود.
بدا القلق على ملامحه من اهتمامه بالبحث عنهما بهذا الشكل: خير يا حاج.
قص عليه ما قد كان من زيارة ذلك المحامي وما يدبر لياسر
استمع له لايصدق مدى ما وصلت له سلوى من حقارة وكيف غفل عن مكنونها هذا طوال السنوات الماضية، أم أن مرآة الحب عمياء كما يقولون.
ارتفع صوت دعاء الملهوف: فين ياسر، ومين دول وعايزين أيه من ياسر.
زفر بحزن محاولا إجابتها دون أن يكشف عن ما يحدث: دول جماعة ياسر له مشاكل معهم اليومين دول والمفروض أننا كنا نتقابل ونتفاوض من يومين، لكن كانوا بيماطلوا، وواضح أن مماطلتهم كانت عشان يحاولوا معكي، كمحاولة أخيرة ورفضك، يبرر ليه اتصلوا امبارح وحددوا ميعاد النهاردة بليل عشان ننهي الموضوع ودي، عامة اطمني النهاردة كل حاجة تنتهي على خير بإذن الله.
ردت بمكابرة: أنا مش قلقانة أنا جيت بس عشان أبلغ حضرتك.
ابتسم بهدوء، مقارنة حرصها على شقيه بموقف زوجته هو: ماشي يا دعاء، وعامة شكرا على موقفك.
اندفعت مهاجمة فاقدة قدرتها على التماسك: لا شكر على واجب، أنا مش ممكن أشهد زور.
امتقع وجهه وعاوده الألم وهو يستمع لهجومها المتواري، بينما نظر لها والدها لائما، وهو يستأذن بالانصراف منهيا هذا الموقف السخيف، ليستوقفهما ياسين قبل خروجهما واهنا: استني يا دعاء من فضلك.
التفتت له متسائلة بصمت، فاستطرد يكمل بخزي: أنت عندك حق، مش هاكدب وأقول أني مشهدتش زور، ومش عذر أبدا ثقتي في سلوى ونجوى، مكنش ينفع أشهد غير بالحقيقة مهما كانت الأعذار.
فتحت فاهها توشك على مواجهته، ولكن منعتها قبضة والدها المتشتدة على رسغها، لتطبق فاهها بغضب، بينما استطرد ياسين مترجيا: أنا كنت مستني أخرج من هنا وأجيلك، أنا اتصلت بشيخ وحكيت له اللي عاملته، وهو قالي أن التكفير الوحيد لشهادة الزور، أني استرضي اللي شهدت عليه.
استقام واقفا ناظرا لها بتوسل: من فضلك سامحيني، وأنا مستعد لأي ترضية، [همس بخزي] ربنا جابلك حقك وبزيادة، ولو شهادتي الزور ضيعت حقك فهي ضيعت حياتي كلها.
رمقه والدها بإشفاق، ناظرا لها مشجعا على مسامحته، ولكن مشاعر غضبها كانت أكبر من تعاطفها مع حالته، الأمر كله أكبر من قدرتها على التسامح، فأن سامحته بما مضى فكيف تسامحه على مستقبل طفلها الذي حكم عليه أن يولد بين والدين منفصلين، زفرت بحرقة قبل أن تلتفت متجهة خارجا يتبعها والدها باستسلام، تاركين ياسين يحترق وحده بجحيم ذنبه.
❈-❈-❈
اعتدل جالسا على الفراش مبتسما متفاجأ بعودة زينهم المبكرة، لتختفي ابتسامته بعدما لاحظ تجهم وجه زينهم والغضب الساكن بعينيه، وهو يغلق الباب عليهما وهو يسأله بريبة: مشيت من السوق بدري ليه ورجعت عملت أيه.
أجابه على سؤاله بتساؤل حائر: مالك يا زينهم، في حاجة مضايقك.
فجأته صراحة زينهم وهو يواجهه دون مواربة: مضايق منك ومن نفسي.
زادت حيرته بتلك الإجابة الغامضة ليهتف: ليه؟
احتقن وجه زينهم غضبا وهو يصيح بقهر: لتاني مرة أضيع الأمانة ومكونش قدها، وأنت واقف تبحلق بالحريم من غير حيا ولا خشى ولا عامل حساب لوجودي معهم، ورجعت جري أول ملاقيتهم ناقصين واحدة، ماهو أنا اللي غبي، أدلقت زي الجردل وعرفتك أنا معايا كام واحدة، بس وربنا في سماه لو كنت اتعرضت للست فاتن، لأكون جايب أجلك وماهيهمني حد ولو علي باشا بنفسه.
صعق ياسر لسوء ظنه به، يتمتم مندهشا: أنت بتقول أيه؟.
صاح بثورته التي لم تهدأ بعد: باقول أن تصرفاتك غريبة، الأول هتموت وتنزل، وبعدين تقعد تبحلق فيهم، وشوفتك وأنت ماشي ورا الست أم معتز، وفجأة ترجع البيت من غير سبب.
فغر فاهه مصدوما بعدما اكتشف سر عودته المبكرة: أنت سيبت الحريم في السوق ورجعت متخيل أني ممكن اتهجم على واحدة ست، أنت أزاي تفكر كده.
صاح زينهم بغضب: كله من عمايلك.
حاول التماس العذر له فهو لا يعرفه بأية حال: أنا طبعا غلطان أني بصيت عليهم لدرجة أني ضايقتك بس أنا ساعات باسمع صوتهم، وفكرة أني أشوفهم لأول مرة وأنا عارفهم كانت غريبة، وأنا ممشيتش ورا مدام رانيا أنا بس…
زجره محتدا: أسمها الست أم معتز، وأنا اللي غلطان أني اتباسطت وقلت أسمهم، بس كنت عارف أنك هتسمعهم بينادوا بعض.
استسلم ياسر محاولا امتصاص غضبه: أنا ممشيتش ورا الست أم معتز، أنا بس سمعت صوتها فعرفتها منه وبصيت ناحية الصوت طبيعي، ورجعت عشان زهقت وكنت مخنوق من حاجة افتكرتها.رمقه مستكشفا بحيرة وخصوصا وقد عاد ليجده مسترخيا على هذا النحو الذي يؤكد صدقه.
ليقطع عليه حيرته آمرا بحزم: أرجع للحريم يا زينهم ومتخافش، اللي يقرب من واحدة منهم أنا اللي هاجيب أجله بنفسي.
رمقه زينهم للحظات قبل أن يحسم أمره ويفتح الباب خارجا بطريقه للسوق.
❈-❈-❈
زفر ياسين بإجهاد: اتصرف أنت يا متر، وأي خطوة تشوفها أنا موافق عليها.
حياه ذلك الرجل الوقور منصرفا، تاركا له وحيدا بأيدي الذكريات تلهو به كما يحلو لها، ترفعه تارة لعنان السماء وهو يتذكر عشقه لها وحياته الهانئة معها، لترديه بعدها أرضا وهو يتذكر كل لحظة استغلته واستغلت حبه لها، ولعجبه وجد نفسه مهيئ لابتعاد لم يجرؤ على التفكير به يوما، لكنها دون أن تدري كانت تعده ليوما كهذا، هيأته له بتلك المشاعر السلبية المتراكمة داخله، من شعور بالذنب وخوف غذته بتهديداتها المتوالية.
حيث استغلت حزنه لحرمانها من أمومتها، وحرصه على الاحتفاظ بها من اجل السيطرة عليه، فصار معتاد على الإشارة لعلته كلما خالفها برأي أو منعها شيئا تريده ، كما أن تهديدها تصريحا أو تلويحا بتركه أضاعت مشاعر الاستقرار والأمان بداخله، ليحل مكانها مشاعر مؤلمة قائمة على الخوف من فقدانها.
ولعجبه لا يجد الأن أن هذا الفراق مرعبا لهذا الحد، صحيح أنه مؤلم ثقيل على القلب، ولكنه كذلك سيريحه من علاقة مؤلمة كان الطرف الخاضع فيها، تحت سيف اللوم وتأنيب الضمير.
وكأن فعلتها الأخيرة وضعته أمام حقيقة علاقتهما، وألقت الضوء على ذلك الظل المتضخم للفراق فإذا هو قزم لا قيمة له أمام أن تحيا بعلاقة غير سوية لا تشبع احتياجك للحب والأمان والسكينة،
لأن مشاعر الذنب تغتال أي مشاعر جميلة لديك.
❈-❈-❈
عاد زينهم خجلا، خاصة وقد مر على فاتن يوصل لها مشترياتها، وقد وجدها مستيقظة لتوها، وبدت طبيعية للغاية، تقدم تحت نظرات ياسر اللائمة يتمتم بحرج: أنا عارف أني غلطت في حقك، بس أنت كمان غلطت، بس أنا زودتها، أصل أنا أضايقت وقلقت لما عرفت أن الست فاتن مش رايحة، ومعرفتش اتصرف قدامهم بس قولت أنت كمان رايح معانا فمش مشكلة، بس لما لاقيتك مشيت الشيطان لعب بدماغي.
اعتدل ياسر واقفا: حقك وزي ما قولت أني غلطت أني ركزت معهم، بس بصراحة اللي هيجنني، بدل أنت شكاك قوي كده، وافقت ليه تخبي واحد متعرفهوش.
غمغم معترضا وكأنه أمر بديهي: أنت من طرف الأستاذ عمر وعلي باشا.
صاح مستنكرا مصرحا بسؤال لطالما جال بخاطره عن ما يربطه بعمر ليرضا بإيواءه برغم معرفته بأنه مطالب من قبل الشرطة: وأنت عشان عمر وعلي تودي نفسك في داهية وتعمل حاجة ممكن تدخلك السجن.
أجابه ببساطة: مفرقتش كتير، ماهو لولا علي باشا كان زماني كده كده في السجن.
هتف ياسر مستنكرا: وأنت تخش السجن ليه؟
تمتم زينهم وقد نكس رأسه بخزي: سرقت.
غمغم ياسر مصدوما، متيقنا من استحالة أن يقوم بمثل ذلك الفعل الشائن رغم قصر عمر معرفته به: أنت تسرق، مش ممكن.
همس بقهر مرير: مستغرب قوي أني سرقت وكنت هاتسجن، أمال هتقول أيه لما تعرف أني وقتها كنت خارج من السجن فعلا بجريمة قتل.
اتسعت عيني ياسر بصدمة لا يصدق ما سمعه، فكيف لشاب دمث الخلق مثل زينهم أن يكن سجين سابق بل وبجريمة قتل أيضا وازدادت صدمته وهو يسمع نبرته الهادئة وهو يستطرد ببساطة: على فكرة أنا مش زعلان أني اتسجنت، كل واحد بياخد نصيبه وكفاية أني كنت راجل وجدع، [لتكسو صوته نبرة خزي] أنا مكسوف أكتر من المرة اللي متسجنتش فيها.
تردد ياسر في سؤاله عن سبب سجنه، خجلا من اقتحام حياته على هذا النحو، ولكن تغلب فضوله على خجله وهو يسأله مباشر: هو أنت اتسجنت ليه؟
تراجع زينهم بظهره ليتكأ على الجدار خلفه وهو يرجع برأسه للوراء وصار وكأنه يرجع بالزمن أيضا عندما خرج صوته العميق من بئر ذكرياته السحيق: أنا أتربيت يتيم مع ستي أم أبوي، معرفتش لي أهل غيرها في الدنيا؛ أبوي مات وأمي اتجوزت وسافرت مع جوزها.
كست ابتسامة حنين وجه بينما تلون صوته بلون الشوق مستطردا: ستي كانت طيبة قوي ومع أن ظروفنا ضيقة، لكن لما لاقيت عيلة تلات سنين تايهة صعبت عليها تسيبها في الشارع خادتها وآوتها وكانت بتقسم لقمتها علينا، كانت بتخاف عليها قوي وتنيمها في حضنها وتقولي دي زي أختك يا زينهم خاف عليها يابني دي غلبانة وملهاش غيرك.
غامت عينيه تنبأ عن حدث جلل أكدته تلك الخشونة بصوته: وأما كملت آية عشر سنين كنت أنا خمستاشر، وفي يوم جيت لاقيت ستي بتقولي أنها نزلتها تجيب ملح بس اتأخرت وقلقانة عليها.
احتقنا الدماء بعينيه التي تقدح شررا بينما أزداد صوته عمقا وخشونة وكأنما يستعيد ما عاصره ثانية: نزلت أدور عليها، بس ملقتهاش وقبل ما أدخل البيت سمعت صوت عياطها من محل الترزي اللي تحت البيت، دخلت لاقيت الراجل الشايب ماسكها بيحسس عليها، وبيحاول يرفع هدومها.
ارتجف جسده بقوة وارتعشت حروفه وهو يهزي بلا وعي: مسكته من رقبته ومحستش بنفسي غير وإززة البيبسي اللي على المكتب راشقة في دماغها ودمه مغرق المحل.
صرخ ياسر منفعلا: مات؟
يالله كيف يفعلها السفاحون والقتلة المأجورون فبرغم مرور خمس سنوات وبرغم أنه لم يتعمد قتله وقتها، وأنه كان مدفوعا بنخوته وحميته الرجولية، ألا أنه أن تزهق روحا على يدك لهو أمر عصيب يصعب تجاوزه، لذا نهت بصعوبة وكأنما يعدو هربا من الذكرى وهو يغمغم بخفوت حروف كلماته المبعثرة: أيوه مات، واتقبض علي بتهمة ضرب افضى لموت.
صاح ياسر مستنكرا: بس أنت كنت بتدافع عنها.
همس نادما وقد نضج تفكيره عن ذلك المراهق المندفع وقتها: بس كان ممكن ادافع عنها من غير ما اقتله، أيوه مكنتش قاصد بس كان لازم أكون أعقل من كده، كان ممكن اضربه من غير ممسك إزازة، هو أصلا كان راجل عجوز مش حمل نفخة، أو حتى كنت ضربته بيها بعيد عن رأسه، أي حاجة غير أني أقتل بني أدم.
زفر ياسر بحرقة: عندك حق، بس كان لازم برضو المحكمة تراعي ظروف الحادثة وسببها.
زفر بحرقة وقد ارتسمت على شفايه ابتسامة مريرة تعكس قهره وقلة حيلته كطفل أمام أسرة القتيل: ولاده جابوا محامي قال أنه كان بياخد مقاسها عشان يفصلها فستان، وأني فهمت غلط، وفعلا دي مكنتش أول مرة يخيط لها هدوم من بواقي القماش عنده.
استطرد وكأنه يتحدث عن شخص أخر: الأول اتحكم علي بعشر سنين، وبعدين ولاده راحوا لستي وقالولها أن أبوهم غلط وأنا غلطت، ومفيش داعي للفضايح، الموت له حرمته، وأنهم هيتنازلوا عن حقهم وهيقوموا لي محامي للأستئناف.
زفر ياسر بغيظ وهو يتمتم متهكما: كتر خيرهم بصراحة.
استطرد دون تعليق على تعقيبه: في الاستئناف الحكم اتخفف لتلات سنين، ودخلت الإصلاحية.
عاد الحنين لصوته ممتزجا بالحزن، وهو يتذكر جدته وحرمانه منها: أول سنتين ستي كانت بتيجي تزورني وتقولي أني راجل وأن ربنا هيكرمني ويسترها معايا زي ما كرمت الغلبانة دي وسترتها، وكانت دايما توصيني أني أشد حيلي وأركز في مذاكرتي عشان أخرج وأنا معايا الدبلوم وتبقى السنين دي مضعتش على الفاضي.
اختنق صوته وفرت من عينيه دمعة مسحها منحيا وجهه جانبا محاولا التظاهر بالثبات، بينما بداخله ذلك اليتيم يهفو لدمعة تطفأ نيران حرمانه، ويدا تربت على كتفا أثقلته الهموم قبل الآوان: بس بعدها معدتش تيجي، ومحدش زارني تاني، وخرجت من الدار بعدها بسنة جريت على البيت لاقيت واحد غريب بيفتح لي الباب وعرفت أن ستي ماتت والراجل صاحب البيت خد الشقة وأجرها ومبقاش لي حد في الدنيا حتى حتى آية محدش يعرف عنها حاجة.
نهت بتعب وكأنما يعيد الكرة ثانية: أسبوع بلف في الشوارع وبنام على الارصفة، لا لا قيت شغل ولا مأوى، وفى مرة الجوع قرصني والجوع كافر غصب عني دخلت أول محل بقالة لاقيته قدامي، ومحستش بنفسي إلا وهما بيجروا ورايا وبيقولوا حرامي حرامي.
جرت دمعاته على خده هذه المرة دون أن يحاول منعها وهو ينهت منهارا: كنت ماسك في أيدي قمع لانشون بحاله بنهش فيه زي كلب سعران، كنت بنهشه زي ما الجوع بينهش في معدتي، مكنتش حاسس بالضرب اللي نازل عليا الجوع كان الحاجة الوحيدة اللي حاسس بيها.
أمتدت يده تمسح دموعه منتحبا: بعد ما بطني اتملت، فضلت أعيط، كانوا فاكرين أني باعيط من الضرب، أو حتى من الخوف وهما واخدني على القسم اللي لحظي كان ورا المحل، ومحدش حد فيهم متخيل أني باعيط لأن دي كانت أول مرة أملا بطني فيها من حرام.
علا نحيب قهره مغمغما، أنا مش حرامي أنا جعان، ومحدش هيعرف يعني أيه جوع غير إللي جربه، محدش هيحس أزاي أنك عندك استعداد تقطع من لحمك وتاكل بس زمجرة بطنك تسكت وترحمك من وجعها، أنا مكنتش عايز أسرق أنا كلت كذا يوم من الزبالة، بس حتى الزبالة شكل الفقر خلى صحابها ياكلوها قبل ما يرموها.
اعتصرت قبضة باردة قلب ياسر، وهو يرى وجه أخر للحياة، وجه أبعد ما يكون عن حياته المرفهة ومشاكله العاطفية والزوجية، وجه أخر يراه كمرآة تعكس سطحيته وأنانيته.
أقشعر بدنه وهو يستمع لنحيب زينهم: كلت حرام وضيعت الأمانة، البت اللي ستي قالت أن ملهاش غيري ضاعت.
اقترب ياسر يربت على كتفه وقد عجز لسانه عن النطق، فأي كلام هذا الذي يخفف عن رجل فقد كل ما يملك وما ضحى راضيا للحفاظ عليه.
علت نهنهته وهو يمسح دموعه، دافنا وجهه كاملا خلف كفيه: في القسم قابلني علي باشا أخو الأستاذ عمر، أول ما قالوله حرامي، كلامه كان ناشف ويخوف، وأول ماشاف قمع اللانشون اللي معضعض من كل حتة، وعرف أني مخدتش غيره وأني مسبتوش حتى وأنا بنضرب من جوعي، لاقيت وشه اتغير وسأل الراجل القمع ده بكام، وخرج تمنه من جيبه وبزيادة وقاله ياخد باقي القمع يقطعه على الماكنة ويجيب معه علبة لبن وربع جبنة وعيش.
رفع كفيه وقد كفت دموع وهو يستطرد ممتنا: أداني الأكل، وقعدني في أوضة السويتش، ووصى عليا، وأخر النهار لاقيته واخدني في ايده وهو مروح، قعدني أسبوع مع البواب هناك بعد ما دفع له مبلغ كويس.
شاكسه ياسر محاولا جذبه بعيدا عن ذكرياته الحزينة: أيه ده، ده احنا على كده كنا جيران، أنت متعرفش أني ساكن قريب قوي.
اغتصب ابتسامة عصية وهو يغمغم: شوفتك على فكرة مرة وأنت طالعله ولما جابك هنا افتكرتك، الأستاذ عمر ده يتحط على الجرح يطيب.
عائدا لاستكمال حكايته، كأنما ارتاح لاقتسام سره مع أحدهم: بعد الأسبوع نادني هو والأستاذ عمر وقالولي أنهم لاقولي شغل كويس بسكن، وأن الأستاذ عمر هياخدني يعملي رخصة موتوسيكل، لأن الشغل بيشترط أن يكون عندي تروسيكل.
تسائل مندهشا أن أخفى عليه صديقه امرا كهذا وهما لا يكتمان عن بعضهما سرا: يعني عمر وعلي هما اللي جابولك الشغل هنا في المزرعة.
أكد له ممتنا: مش الشغل وبس، دول كمان اشتروا لي التروسيكل ده، وقالوا أن في ولاد حلال اتكفلوا بتمنه.
اتسعت عينيه بصدمة يتذكر يوم ان آتى له صديقه يطالبه بالمشاركة بعمل خيري، والمساهمة بشراء دراجة بخارية ذات كابينة، لمساعدة أحدهم على الالتحاق بعمل يشترط وجودها، يومها دفع مبلغ كبير بنية أن تحبه دعاء كما يحبها وتكن من نصيبه كزوجة، يومها نصحه صديقه أن يحتفظ بالأمر سرا لعلها تكن المنجية، هل يعقل أن يكن ذلك المبلغ الضئيل مقارنة بظروفه، هو سبب نجاته من مكيدة سلوى المحكمة، بل وأن العمل الذي ساعده على الالتحاق به كان هو نفسه الذي ساعد في أنقاذه وإواءه هو الأن.
كتم اكتشافه بنفسه وهو يسأله باهتمام: طيب وآية مدورتش عليها تاني، وليه مطلبتش من علي يدورلك عليها.
هتف مستنكرا بعزة نفس: ليه هو خلفني ونساني، أن كان حبيبك عسل، أنا أصلا محكتش لحد غيرك الحكاية دي، كل اللي الباشا عرفه أني خريج إصلاحية ولما جوعت سرقت من جوعي، وحتى في كل مرة سافرت أدور عليها كنت بافوت أسلم على الباشا وعمري ما قولتله أنا باجي مصر ليه، وهو عمره ما سألني.
نظر له ياسر بإكبار، ينظر إليه وقد اختلفت نظرته إليه فلم يعد ذلك الشاب الريفي البسيط رث الثياب، بل هو رجلا يرفل بثوب الرجولة والعزة.
❈-❈-❈
صرخت نجوى معترضة: بس احنا كده نبقى خسرنا كل حاجة، يعني احنا الاتنين نطلق ونبريهم كمان.
أجابها محاميها بجمود: ده ديل أكتر من ممتاز والحمد لله أنهم عندهم استعداد لإنهاء الموقف من غير مايقدموا ضدكم أي بلاغ.
صرخت مستنكرة: كمان، أمال حضرتك بتعمل أيه.
تدخلت سلوى تحاول تهدئتها: أهدي يا نجوى خلينا نعرف هنعمل أيه.
عقد حاجبيه موجها كلامه لسلوى متجاهلا لثورة نجوى: على فكرة لولا أني مش متعود أسيب قضية في النص كنت سيبتكم فورا، بعد الأسلوب ده.
أجابته سلوى محاولة أختيار كلماتها رغم أستياءها: ماهي معذورة برضو يا سيادة المستشار، حضرتك جاي تقولنا أننا خسرنا كل حاجة.
عقد حاجبيه وهو يجيبها بلهجة ذات مغزى: مش أرحم ما تخسروا حريتكم، خصوصا وأنتم في ضدكم أدلة في مسألة التعدي والتزوير في أوراق رسمية.
صاحت بدهشة: تزوير أيه.
أجابها ببساطة وكأنه ليس طرف بالموضوع: حضرتك قدمتي بلاغ بالتعدي متضمن تقرير طبي مزور بالاعتداء والإجهاض، رغم أن أخوتك عاقر.
نطق كلماته الأخيرة بحقارة يقتص من سلوى لتجرؤها عليه، لينال ما تمنى وهو يراها تسقط على الفراش خلفها باكية.
بينما توترت سلوى، غير راغبة بمعاداة رجل بخطورته: ملهوش داعي الكلام ده حضرتك، والتقرير حضرتك اللي قدمته.
أجابها بلامبالاة: أيوه قدمته لثقتي بموكلتي، لكن أنا مش خبير بالتزوير، عشان أكتشف أنك مزورة ختم المستشفى.
شهقت بصدمة: أنا مزورتش حاجة.
ابتسم بخبث: حضرتك مضية على استمارة دخول المستشفى لعمل تشيك أب أنت وأختك، وده تم فعلا.
أشتعلت عينيها وهي تتذكر ذلك الذي طلب توقيعهما ليدخل هو بعده مباشرة ثائرا، أذن فقد أمن نفسه عند علمه بحالة شقيقتها الطبية واستحالة حملها وجعلهما تتحملتا المسئولية كاملة في حالة أن انفلتت زمام الأمور من بين يديه، ودت لو تصفعه أو تصرخ بوجهه تصارحه بحقارته، ولكن بعضا من حكمة، جعلتها تدرك بأنها ستكون الخاسرة الوحيدة، لذا كتمت مشاعرها، وهي تسأله بثبات: حضرتك شايف أيه وأنا أعمله.
ابتسم بحقارة وهو ينظر بإزدراء لشقيقتها الباكية: زي ما قولتلك، أنا اتفقت معهم على أنهم مش هيقدموا أي بلاغ ضدكم مقابل أنكم تخرجوا بالمعروف، وطبعا هتبروهم زي ما قولتلك، لو أوكيه فالمحامي بتاعهم مستني حاليا في الشهر العقاري عشان نوثق التنازل.
أمأت له باستسلام: اللي تشوفه حضرتك.
ابتسم بانتصار قبل أن يردف بزهو: وطبعا حضرتك عارفة أن لولا وجودي معكم مكنش ممكن يفكروا يتنازلوا عن بلاغات مضمونة وبالأدلة، ومع ذلك مش هنختلف في مسألة الأتعاب.
ارتفع رأس نجوى التي كانت كفت عن البكاء بصدمة، لا تصدق مدى وقاحته، ولكن أسكتتها نظرة سلوى المحذرة، وهي تخبره بهدوء: بس زي ما حضرتك شايف أنا خسرت كل حاجة أنا وأختي وخارجين من الجوازة إيدينا فاضية.
نظرة لأصابع يدها المزينة بخاتمها الثمين، وهو يغمز مبتسما بسوقية: مش فاضية قوي يعني.
سبت غباءها الذي جعلها تستعين بمثل ذلك اللعين طامعة لضمه لفريقها دون أن تدرك مدى خطورته حين ينقلب الوضع ويكون عليها لا معها، لتتنفس بعمق قبل أن تساومه محاولة الوصول لرهانها الأخير: مفيش مشكلة، بس شرطي أن ياسين يحضر التوثيق.
أجابها مبتسما وقد فطن لهدفها: هاحاول بس موعدكيش، خصوصا ووجوده ملوش لازمة لأن حضرتك اللي هتتنزلي، بس هاحاول [مستطردا بأدب كاذب] مستنيكم بره يا هوانم.
تفلت مكانه لاعنة إياه بمجرد خروجه وهي تهرول لأختها، تهون عليها وتطمئنها بأنهما لم يفقدا كل شيئ بعد، فمازالت تملك قلب ياسين.

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية اليمامة والطاووس)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *