رواية ما بين الألف وكوز الذرة الفصل الثاني 2 بقلم رحمة نبيل
رواية ما بين الألف وكوز الذرة الفصل الثاني 2 بقلم رحمة نبيل
رواية ما بين الألف وكوز الذرة البارت الثاني
رواية ما بين الألف وكوز الذرة الجزء الثاني
رواية ما بين الألف وكوز الذرة الحلقة الثانية
كان مرتضى يقبع أمام باب منزل ولديه و ابن صديقه الأقرب، يحاول فتح الباب، حتى ابعده سليمان من أمامه يستل مفتاحًا من جيب عباءته ذات الخامة الغالية والتي يعلوها جلباب اسود لامع وبين قبضته عصى ابنوسية تضيف هيبة له، كيف لا وهو سليمان الحديني عمدة قرية الحديني :
” اصبر يا مرتضى أنا معايا مفتاح ”
ابتسم له مرتضى ينحني جانبًا يراقب رفيقه يحاول فتح الباب زافرًا بملل :
” ماله المفتاح ده مش راضي يفتح ليه ؟!”
دفعه مرتضى آخذًا منه المفتاح وهو يدسه في مكانه :
” وسع كده انا هفتحه ”
وبالفعل ما هي إلا ثواني حتى استمع الاثنان لصوت فتح القفل، ابتسما ثم دخلا للمنزل بهدوء ظنًا أن الجميع نائم، لكن فجأة تجمدت أجسادهم بتعجب وهم يرون أن الجميع مستيقظ..
تحدث مرتضى بتعجب:
” ايه ده ؟؟ ايه اللي بيحصل هنا ده ؟؟”
في ذلك الوقت كان صلاح يحمل كتابًا أثناء جلوسه على الأريكة وجواره جسد رائد الذي يمنعه من الحراك، بينما صالح وضع جسد محمود أعلى طاولة الطعام يغطيه بالكامل، حاملًا سكين وهو يردد في صدمة مصطنعة :
” ايه ده بابا وعم سليمان ؟؟ ايه المفاجأة الجميلة دي ؟!”
تحرك سليمان صوب الداخل يحاول تدقيق النظر فيما يفعل :
” بتعمل ايه يابني بالسكينة اللي في ايدك دي ؟! وايه اللي على السفرة ده ؟!”
أشار صالح لجسد محمود الذي كان يخفيه بمفرش الطاولة مبتسمًا :
” ديه ؟! دي جثة جبتها معايا اشرّحها هنا، عمل اضافي يعني ”
تراجع سليمان بتقزز مما يصف صالح وعقله لا يستوعب بساطة حديثه :
” يا ستار يا رب، وأنت جايب الحاجات دي الشقة ؟! هو ده عادي ؟! مش دي حاجات قانونية ولازم مكان ملائم للعمليات ؟! بعدين مش خايف روحها تطوف بينكم يا ولدي ولا ايه ؟؟”
” لا يا عمي متقلقش دي ميتة وشبعت موت ”
ختم حديثه صافعًا وجه محمود بغل مكبوت وغضب على وضعهم في هذا الموقف السيء بسبب تهوره وأفعاله البلهاء .
هز سليمان رأسه بعدم اقتناع، لكنه لم يعلق على الأمر فمتى فهم أحد رأس صالح ؟!
اولى انتباهه لابنه الذي يجلس متدلي الرأس عن الأريكة بشكل مثير للريبة وجواره يجلس صلاح يحاول التظاهر بأن لا شيء غريب هنا ..
أشار مرتضى لرائد بتعجب :
” ماله رائد يا ولدي ؟؟ شكله كأنه زي الفرخة الدايخة كده ليه ؟!”
اعتدل رائد في جلسته وهو يقول بصوت متخدر :
” فرخة، الفرحة هربت، والديك هو اللي خسر الترقية”
تشنج كلٌ من سليمان ومرتضى مما خرج للتو من فم رائد، لكن كعادته سارع صلاح في إصلاح ما يفسده هذان الاحمقان :
” متقلقش يا عمي هو بس لسه راجع من مهمة، وتقريبا كده حد رمى عليه قنبلة مسيلة للدماغ”
” هي مش مسيلة للدموع ؟؟”
” لا يا عمي دي للدماغ، نزلت على رأسه سيحت مخه ”
تأتأ مرتضى بحزن وهو يرمق ذلك المسكين الذي كان يغني محركًا قدميه على حافة الأريكة كما لو كان يجلس على الشاطئ :
” لطفك يارب، طب وده يا بني ملوش علاج يفوقه ولا بيفضل كده على طول ؟”
مسح صلاح أنفه يحاول ايجاد حل لكل ذلك الكذب وكل ما خرج به هو :
” أسأل صالح هو الدكتور هنا ياحاج ”
كاد صالح يتحدث في الوقت الذي تقلب فيه محمود أثناء نومه متمتمًا بكلمات غير مفهومة جعلت سليمان يتراجع للخلف وهو يصرخ بخوف :
” يا منجي من المهالك يا رب، يا منهجي من المهالك يارب، ايه اللي بيحصل ده ؟! دي …دي بتتحرك ”
ابتسم صالح بغباء وهو يصفع محمود مجددًا بغضب وراه خلف بسمته البلاستيكية :
” لا يا عمي دي حلاوة روح بس متقلقش”
” مقلقش ايه يابني ده بيتـ ”
وقبل أن يكمل كلمته استيقظ محمود يحرك جسده بوجع كما لو أن قطارًا مرّ عليه بقضبانه، تمطأ بكسل شديد و دارت عينه في المكان يبتسم بخدر لم يزل منه، قبل أن ينتبه للجميع :
” صباح الخير يا جماعة، ايه عندنا ضيوف ولا ايه ؟!”
وقبل أن ينطق أحدهم بكلمة لتبرير ما حدث، كان مرتضى يتراجع للخلف برعب متسع العينين، يركض للخارج يتبعه سليمان الذي تلى كل ما يحفظ من آيات الله، بينما مرتضى يستغفر ويدعي ربه أن يتلطف بهم، تاركين خلفهم الأبناء ينظرون لبعضهم البعض بصدمة لما حدث …
تنفس صالح الصعداء يقول بعدم تصديق لما حدث:
” مش مصدق أننا فلتنا بالسهولة دي، دي كانت على تكة ونروح فيها ”
توقف عن الحديث بمجرد أن أبصر وجه صلاح الذي لم يكن يبشر بالخير ابدًا، ثم يده التي تحركت بهدوء مخيف صوب حزام بنطاله، وعيونه مثبتة أعلى جسد محمود.
ابتلع صالح ريقه وهو يبدل عينه بين أخيه ورفيقه، لن نظرة صغيرة لملامح أخيه أخبرته أن وقوفه في وجهه الآن لن يكون في صالحه بالمرة؛ لذلك كل ما فعله هو أنه انحنى جانبًا يمد يده باحترام لصلاح :
” متقلش ايدك عشان بكرة عندنا شغل كتير، ارجوك”
ابتسم صلاح بسمة باردة يلف الحزام حول كف يده :
” أنا بقى اللي هربيك يا حشاش .”
________________
صباح اليوم التالي، استيقظ رائد بجسد يأن وجعًا، لا يشعر بعظامه، فجسده كله مخدر تقريبًا، طاف بعينه في المكان حوله فلم يبصر إلا سقف منزله، تأوه يحاول الأعتدال، لكن شعر فجأة بثقل غريب في قدمه، حاول تحريكها عدة مرات لكنه فشل، كل ذلك وهو مازال متسطحًا، وفجأة ضربت فكرة رأسه ليطلق صرخات فزعه وصوته يرنّ في أرجاء المنزل :
” اتشليت …مش قادر احرك رجلي، اتشليت”
كان يتحدث برعب وجسده ينتفض، يرى أمام أعينه مستقبله يتدمر، ويتم تسريحه من العمل، كل ذلك مر عليه في الثواني التي تلت شعوره بالخدر :
” يارب رحمتك يارب، مش هدوس على حد يارب والله هتواضع للناس ”
صمت ثم أكمل بصوت خرج كما لو أنه نحيبًا يصيح بحرقة :
” يــــا رب
فجأة ودون سابق إنذار شعر بالثقل يخف عن قدميه وصوت تثائب يعلو في المكان ..
نظر لفوق وجد محمود يستيقظ بعدما كان نائمًا على قدمه طوال الليل كالجثة الهامدة، تمطأ محمود وعلى فمه ترتسم بسمة واسعة كالاطفال لا يعي ما يحدث حوله أو ما فعل، أبصر رائد الذي كان ممدًا يحدق فيه بصدمة ليتشدق محمود بمزاج صافي :
” Good morning baby ”
لكن فجأة شعر بلسعات على طول ظهره كما لو تعرض للتعذيب طوال الليل، لذلك تحدث بتعجب يتحسس ظهره بوجع طفيف :
” هو فيه ايه ؟! هي السجارة كانت فاسدة ولا أنا روحت لزمن العبيد ولا ايه !!”
وقبل أن يتبع جملته بأخرى كان جسده يسقط ارضًا بعد رفسة قوية من رائد الذي صرخ برعب وقد بدأ شعور بالتنميل ينتشر على طول ساقه :
” أنت نمت طول الليل على رجلي ؟؟”
في هذه اللحظة خرج صالح من غرفته بمظهره المبعثر، ليس بسبب النوم بالتأكيد، فهو في أفضل حالاته يكون بهذا المظهر أيضًا، كان يرتدي بنطال منزلي مريح دون ارتداء شيء يواري جذعه العلوي، بينما شعره هائج بشكل مثير للاستفزاز ..
نظر صالح لما يحدث أمامه، ولم يهتم حتى بمعرفة ما اوصل الاثنين لهذا الوضع، فقد تركهما صلاح ملقيان أمس كالخرقة البالية دون أن يهتم حتى لوضعهما في الفراش، عقابًا لهما على تلويث منزله بتلك الأدخنة الموبوءة .
” قوم يا محمود اغسل وشك خلينا نهرب قبل ما صلاح يلمحك تاني، لاحسن يكمل ضرب فيك، وأنت يا رائد يا حبيبي قوم اجهز عشان شغلك ويستحسن أنت كمان تهرب عشان صلاح مش طايق يبص في وشك”
خرج صلاح من غرفته كالعادة بمظهر جذاب منمق وراقي، مرتديًا بذلته دون ارتداء رابطة عنق، مصففًا شعره باهتمام يرتدي ساعته وهو يقول بنبرة عميقة وعينه ما تزال معلقة على ذلك الاحمق رفيق شقيقه، لكنه وجه حديثه لرائد :
” ابوك اتصل الصبح وقال إنهم كانوا جايين امبارح عشان يباتوا ليلة بعد شغلهم في القاهرة، وبعد اللي حصل قالوا هيكلموا شيخ يجي يبخر البيت، ولو الموضوع طول هيعرضونا كلنا على شيوخ، وانا بقولكم لو الموضوع طول أنا اللي هعرضكم كلكم على النيابة يا فاسدين”
أنهى حديثه تحت نظرات رائد المتعجبة من قدوم والده، متى حدث ذلك ؟؟ هو لم ير والده منذ اسبوعين تقريبًا، بينما محمود يحدق بهما في عدم اهتمام وكل ما يفكر به ما الذي سيتناوله اليوم على الفطور ؟!
لكن صلاح لم يهتم حتى بالنظر لهما، يضع لمساته الأخيرة على هيئته :
” أنا هخرج لشغل مهم، ارجع ملاقيش العيل الفاسد ده في بيتي ”
ختم حديثه وهو يلقي بنظرة صوب محمود ورائد ومن ثم خرج من المنزل، استدار محمود لرائد متسائلًا :
” هو أنت متخانق مع صالح ولا ايه ؟؟”
” لا هتخانق معاه ايه ؟؟”
” امال بيقول يرجع البيت ميلاقكش ليه !! وكمان بيقول عليك عيل فاسد، هو أنت مُرتشي ؟؟ ”
نهض رائد من مكانه يتأوه بتعب شديد، يشعر بعجزه عن التمطأ حتى، فما بالك بالذهاب للعمل :
” اولًا اللي قال كده صلاح مش صالح، صالح اللي كان خارج زي الديك الشركسي في الاول وشكله كأنه نايم في سلة زبالة، ثانيا العيل الفاسد هنا هو أنت يا حبيبي مش أنا ”
وبمجرد خروج آخر كلماته دخل غرفته تاركًا محمود ينظر في أثره بتعجب ولم يستوعب بعد ما يحدث، مرت دقائق وجد صالح يخرج عليه بنفس هيئته عند الاستيقاظ، الفرق فقط أنه أضحى نظيفًا لكن مع نفس الهيئة المبعثرة، حرك صالح يده أعلى قميصه الغير مكوي بلطف وكأنه بذلك سيحسن من هيئته بتلك الكرمشات الصغيرة :
” يلا يا محمود عشان انهاردة عندنا شغل كتير، ولازم نسلم تفاصيل التشريح الخاصة بمعتصم انهاردة …”
________________
كان صلاح يقود سيارته على سرعة متوسطة، وعلى أذنه تقبع سماعة لاسلكية، يتحدث بجدية فيها، وملامحه جامدة بشكل مخيف ..
” متأكد من اللي بتقوله ؟! أنا بقالي اسبوعين مستني وأنت كل يوم تقولي هجيبلك الاخبار، وفي الآخر راجع ليا بخبر أن أخته في النادي بتدرب ؟؟ هي دي الاخبار يا محمد ؟؟”
وصل له صوت محمد يتحدث بحنق :
” اعمل ايه يعني يا صلاح، ما أنت عارف أن سعيد الاشموني مكتم على كل اخبار عيلته، مفيش حاجة بتفلت منه ”
زفر صلاح بحنق، هو يدرك ذلك جيدًا، لكنه يشعر بالغضب، فذلك القذر سعيد لا يترك خلفه ثغره واحدة تمكنه من الدخول له عبرها، وكان آخر أمله هو شقيقته الحمقاء التي عادت لتوها من إحدى البلاد الأوروبية التي سافرت إليها تعربد وتفعل ما تشاء دون رقيب :
” تمام يا محمد أنا وصلت اهو، اقفل أنت وهبلغك بكل الاخبار ”
أوقف صلاح سيارته في مرآب السيارات التابع لأحد النوادي الكبيرة في القاهرة، هبط بكل هيبة وثقة وعلى فمه ترتسم بسمة ساحرة امتاز بها، خلع نظارته السوداء يتحرك صوب باب النادي والذي دخل له بسهولة حينما أظهر هويته، فإن كان لشهرته الأخيرة مميزات، فهذه إحداها، اسمه أصبح من تلك الأسماء التي تُفتح لها الأبواب المغلقة…
تحرك للداخل يقف جوار البوابة يحاول التفكير في كيف سيجد تلك المدللة دون إثارة الإنتباه، عضّ شفتيه مفكرًا في الذهاب لأقرب مطعم هناك، وعندها يستطيع استخدام حيله بسهولة …
وبالفعل ما إن استقر في مقعده رفع يده مشيرًا لأحد العاملين هناك، وبمجرد اقترابه مع بسمة واسعة بادله صلاح البسمة وهو يردد :
” ممكن فنجان قهوة سادة لو سمحت وكمان كرواسون اكون شاكر ليك ”
هز النادل رأسه ببسمة محترمة :
” أي خدمة تاني يا فندم ؟!”
هز له صلاح رأسه رفضًا، فابتسم له النادل وما كاد يتحرك خطوة، حتى عاد مجددًا مترددًا مما يفكر به، لكنه رغم ذلك تشدق بحماس شديد :
” على فكرة أنا من أكبر معجبين حضرتك، ممكن أخد صورة ؟؟”
ها هي فرصته جاءت على طبق من ذهب، نهض صلاح من مقعده يقترب من الشاب يحاول تبين اسمه ثم قال :
” اكيد يا مصطفى، شرف ليا ”
ابتسم مصطفى بسمة واسعة يقترب أكثر من صلاح بالقدر الذي يسمح له بالتقاط صورة معه، ثم رمق الصورة بسعادة كبيرة :
” أنا بجد مش مصدق، الكتاب الاخير بتاع حضرتك كان عظيم، بجد عجبني أنا وصحابي اوي، دول هيموتوا لما يعرفوا اني شوفتك ”
” صحابك عارفين اني انا صلاح السقاري صح ؟!”
رمقه مصطفى بتعجب لا يفهم مغزى سؤاله :
” أيوة يافندم، حضرتك ماشاء الله مشهور وعارفينك”
” يعني مش فاكرين اني دكتور احمد خالد توفيق ؟؟”
ملئت الصدمة وجه مصطفى يحاول أن يدرك مقصده :
” لا يا فندم ايه علاقتك بدكتور احمد توفيق ؟؟”
” ولا نجيب محفوظ؟! ”
بدأ مصطفى يشعر بالريبة من تلك الاسئلة :
” فيه ايه يا فندم ؟؟”
” مفيش يا مصطفى روح شوف أنت الطلبات، معلش اصل الدنيا اليومين دول بقت لبش شوية، والواحد مبقاش عارف هو مين ”
هز مصطفى رأسه يستأذن منه باحترام، ليربت صلاح على كتفه ببسمة غامضة، يراقب تحركه بعيدًا عنه بكل سعادة، بينما عينه تراقب المكان حوله فقد كان المطعم يطل على ممر الركض ومن ثم مضمار الخيول متجاورين في خطوط متوازية، ليبدو لك كما لو كان سباقًا بين الخيول والبشر .
دقائق قليلة وعاد مصطفى بما طلب صلاح :
” أي خدمة تانية يا فندم ؟؟”
” لا تسلم يا درش ”
ابتسم له مصطفى وما كاد يغادر حتى تحدث صلاح بنبرة عادية يرفع كوب القهوة لفمه ببطء :
” صحيح يا درش تعرف فين نيرمينا الاشموني ؟؟”
توقف مصطفى في مكانه يحدق في صلاح الذي كان يتكأ ببرود على مقعده في انتظار رده :
” نيرمينا الاشموني ؟!”
” اممم.. اخت رجل الأعمال سعيد، سمعت أنها بتيجي النادي هنا، وانا كنت حابب استغل وجودها عشان تاخد ليا معاد مع اخوها لعمل لقاء صحفي، أنت عارف شخصية زي سعيد الاشموني صعب حد يوصل ليه غير بواسطة ”
ابتسم مصطفى متفهمًا الأمر، يدرك جيدًا ما يرنو إليه صلاح، وهو يشجعه تمامًا في ذلك، فهو أضحى مثله الأعلى؛ لذلك اقترب منه مرددًا بخفوت :
” لا هي الآنسة نيرو كانت هنا من شوية مع شلتها، وبعدين شوفتهم بيتحركوا للجراج، بس لو حضرتك حابب تقابل حد من طرف سعيد الاشموني، فالاستاذة ميمو كانت بتدرب على الخيل من شوية، هي برضو تقدر توصلك بيه ”
رفع صلاح حاجبه وكاد يتساءل من تلك ميمو، فهو عندما بحث علم أن لسعيد أخت واحدة فقط، لكن فجأة ارتفع صوت أحد الزبائن مناديًا مصطفى الذي قال على عُجالة:
” ثواني وهتلاقيها بتمر من قدام حضرتك، هي كانت لسه بادئة الجولة من شوية وبتفضل تلف التراك لساعة تقريبا ”
أنهى حديثه يسارع صوب الزبائن بينما صلاح ارتشف رشفات صغيرة من قهوته الحارة وقد تعلقت عينه على مضمار الخيل، لتمر دقائق دون أن يظهر أحد لدرجة أنه يأس من الأمر، نظر لساعة يده، في الوقت الذي رصدت أذنه ضرب حوافر الحصان أعلى رمال المضمار، رفع عينه ببطء يبصر حصان ابيض يلتمع أسفل الشمس تعلوه امرأة تعقد شعرها على هيئة ذيل حصان ترتدي ثياب بيضاء تشبه حصانها، رفع صلاح حاجبه يتحرك من مقعده صوب السياج يراقبها تتحرك بالخيل في سرعة مخيفة وبشكل متمرس..
رفع كوب القهوة لفمه وهناك بسمة واسعة مرتسمة أعلى فمه يردد اسمها الذي يعلم جيدًا أنه ليس حقيقيًا :
” ميمو ….امممم شكلها مسلية اكتر من نيرو، محظوظ سعيد بكل البنات الحلوة اللي حواليه دي ”
ارتشف من كوبه بتمهل يوازي تمهل عينه أعلى جسد تلك الفاتنة، ملامحها التي يبدو كما لو أن الشمس قد عانقتها فاعطتها لونًا برونزيًا باهيًا، ثم خصلاتها السوداء، واخيرًا ملامحها الصغيرة.
وإن كان للجمال مقاييسٌ في قاموسه، فجميعها تمثلت في تلك المهرة الجامحة أمامه…
_________________
كانت تتحرك في ممرات المشفى حاملة بين يديها علبة كبيرة من قطع الشوكولاتة الفاخرة احتفالًا بزواجها القريب من أحد مهندسي البترول الذي تعهد لها بأخذها خارج البلاد ما إن يتم الزفاف ..
ارتسمت بسمة على فم سجدة وهي تقتحم مكتب صالح غير آبهة لما يُسمى آداب الاستئذان، كل ما تأبه له في تلك اللحظة هي أن ترى نظرة الخذلان والندم في عين ذلك الوقح البدائي على فقده لامرأة مثالية مثلها ..
” صباح الخير يا دكاترة ”
رفع كلٌ من محمود وصالح رأسيهما عن الاوراق المتناثرة أمامها استعدادًا لعملية تشريح أخرى في جريمة جديدة .
انتبه صالح بكل حواسه يراقب تلك المرأة التي نست ارتداء وجهها قبل الخروج ووضعت بدلًا منه قناع المهرجين الذين كان يخشاهم في طفولته :
” صباح النور يا دكتور سجدة، خير شايفك ملونة ومزهزهة انهاردة، ايه فسختي خطوبتك مني كمان مرة ولا ايه؟! ”
خرج صوتًا حانقًا من فم سجدة تتحرك بهدوء صوب الاثنين تمد يدها لهم بعلبة حلوى فاخرة وهناك بسمة خبيثة ترتسم أعلى شفتيها :
” لا، رغم أن المناسبة اللي قولت عليها اسعد من المناسبة دي، لكن جاية اعزمكم على خطوبتي بكرة على مهندس البترول اللي ما صدق اني فسخت وجري عشان يخطبني وياخدني ونسافر السعودية ”
لم يهتم صالح بكل ذلك ينقض على علبة الشوكولاتة يسحب منها واحدة يفك غطائها الذهبي واضعًا إياها في فمه متذوقًا :
” الظاهر صحته على قده، بقاله اربع شهور بيجري عشان يخطبك ؟؟ ليه جايبها جري من السعودية ؟!”
غص محمود أثناء تناوله قطعة الشوكولاتة يحاول التماسك رامقًا رفيقه بحنق شديد آمرًا إياه أن يتوقف عن رمي تلك السموم من فمه ..
لكن صالح لم يهتم وهو يخرج قطعة شوكولاتة أخرى من العلبة يتلذذ بها :
” ثم بالله عليكِ لو ليه وسطة هناك في السعودية خليه يشوفلي شغلانة، بيقولك بقى يا حوده الطبيب الشرعي هناك بيقبض خمسين ألف مش هنا بنزقها بخمس الآلاف ”
استشاطت سجدة غضبًا وهي تحاول أن تلقي له بسهم يرد له جزءًا مما تسبب به داخلها :
” هبقى اسأله واقولك يا دكتور، اصل خطيبي حبيبي ذوق اوي ومش بيرفض ليا طلب وجنتل مان ومتفهم اوي، مش زي حد كده، آخره في الجنتلة أنه يجيب برفانات ومعطرات جو ”
أخرج صالح صوتًا مستنكرًا من حنجرته، يحاول أن يتمالك نفسه، لكن فات الأوان وتحرك لسانه قائلًا :
” ده جزاتي اني عايزك منعنشة كده وريحتك حلوة بدل ما أنتِ راشة كيس فانيليا على نفسك قبل ما تخرجي ؟؟ ”
شهقت سجدة بعنف كما لم تفعل يومًا حتى عندما أرسل لها تلك العطور لم تؤتي ردة فعل كتلك :
” أنت بتتريق على البرفيوم بتاعي ؟؟ أنت عارف سعره كام ؟؟ ده من Jimmy Choo”
تناول صالح قطعة شوكولاتة أخرى وهو يحدق في وجهها بتعجب :
” مين جيمي دي ؟! بنت خالتك ؟؟”
” نعم ؟؟ مش عارف Jimmy Choo ؟؟ دي واحدة من اشهر ماركات البرفيوم في العالم يا محترم ”
رفع صالح حاجبه مستهجنًا ردة فعلها :
” يعني مش من باقية عيلتك ؟! امال اتحمقتي ليه كده لما جبت سيرتها ؟؟ ”
فتحت فمها تجيبه لكنه قاطع كل مساعيها لتشعره بالدنيوية وهو يأخذ القطعة السابعة من الشوكولاتة :
” حلوة الشوكولاتة دي، دي من عند جيمي برضو ؟!”
تشنج وجه سجدة بشكل مخيف جعله يتراجع صوب محمود الذي كان في تلك اللحظة يائس من زجر صديقه عن إخراج تلك الكلمات الغبية، لكن فجأة وجد سجدة تنفجر في وجهه بعنف مخيف :
” أنت واحد جاهل بدائي وعشوائي، متعرفش حتى ابسط قواعد الرقي والتحضر، دايما ماشي مكنبش ( مبعثر الشعر ) وهدومك مكرمشة ومقطعة ومرضاش حتى اعملها فوطة في المطبخ، وجاي تناقشني في انواع الـ Perfume، صحيح حدّث الناس على قدر عقولهم، وأنت اخرك الواحد يكلمك في انواع الصابون السايل”
وبمجرد انتهاء كلماتها خرجت من المكتب كالعاصفة ساحبة علبة الشوكولاتة من أمام يد محمود الذي كاد يمسك بالقطعة الثالثة، بينما صوت صالح تبع سجدة وهو يقول :
” اقطع دراعي أما كان ليكِ أسهم في شركة الفانيليا دي عشان تتحمقي ليها بالشكل ده، بعدين هدومي اللي مش عجباكِ دي ماركة غالية، قال وعاملة نفسها عارفة كل حاجة وهي ملهاش في الماركات الاوريجنال ”
انتهى من حديثه وهو يلقي بجسده على المقعد يتنفس بعنف وقد هدأ قليلا بعدما تناول بعض الشوكولاتة الفاخرة، فمنذ قليل كاد يُجن بسبب شعوره بالجوع، سمع صالح صوت محمود الذي جلس على المقعد يقول بجدية :
” كده مش كويس عشان سمعتك يا صاحبي، اراهنك أما راحت فرجت المستشفى عليك وخلت سيرتك على لسان كل شخص حي وميت في المشرحة ”
” تعمل اللي تعمله وانا من امتى ههتم بكلامها ”
رفع محمود حاجبه وقال بغيظ وقد كان في لحظات العقل القليلة التي يتمتع بها خلال يومه قبل أن يعكف على شرب تلك النباتات الغريبة خاصته :
” لازم تهتم يا حبيبي، لازم تهتم عشان ماشاء الله بقت سمعتك مع الستات بلسانك ده في الأرض، يا صالح أنا بمشي اسمعهم بيدعوا أنك ترتبط عشان خايفين تحط عينك على واحدة فيهم، تخيل الستات بقت تخاف منك هنا ومن أفعالك وكلامك ”
زفر صالح بحنق يستشعر خطورة وضعه، هل سيظل اعزبًا طوال عمره فقط لأنه لم يقف احترامًا وتبجيلًا لمعطر برائحة الفانيليا :
” طب اعمل ايه ؟؟ ما أنت شايف بعينك كل ما ست تلمحني تجري من الطريق التاني ”
ابتسم محمود يعود في جلسته للخلف وهو يفكر في شيء ما ثم قال :
” طب ما تفكك من المستشفى وتبص برة، ايه رأيك في هاجر اللي ساكنة على اول شارع المستشفى؟! البنت دي بشوفها كتير بتبص عليك من تحت لتحت”
سخر صالح وهو ينقر على المكتب :
” لا دي مفكراني صلاح، لسه مش عارفة تفرق بينا رغم كل الاختلافات، دي جات في مرة بتقولي ارشحلها كتاب لغته منمقة ”
صمت ثم قال بتعجب :
” يعني ايه اساسا منمقة دي؟! أنا فكرتها شتيمة، شوف حد غيرها دي مش نوعي خالص ”
حكّّ محمود ذقنه بخبث ثم قال :
” طب ما تخليك أنت نوعها ….”
______________________
يجلس في مقعده منذ وطأ ارض النادي، وعينه تلاحق تلك المهرة بنهم شديد، لا يصدق أن سعيد الاشموني ذلك القمئ يخفي تلك الجوهرة داخل منزله، ولِمَ التعجب وهو منذ ايام فقط علم بوجود شقيقه صغرى له، والآن يكتشف أن هناك أخرى، لكن تلك تبدو أكبر بعض الشيء من البلهاء الأخرى، كما أنها تختلف عنها في كل شيء، الأخرى طفلة مراهقة بلهاء فارغة العقل، بينما هذه، وياويلي من هذه، قدها وشعرها وكل شيء بها يدعوه للاقتراب والتأمل فيها .
تنهد يراقب انتهاءها من جولتها أعلى الخيل، ابتسم يراها تدخل غرف تبديل الملابس، ومرت دقائق قبل أن يلمحها آتية للمطعم، تمامًا كما أخبره مصطفى .
أشار صلاح بعينه لمصطفى أن يقترب منها وينفذ ما طلبه ..
وكذلك حدث حيث أبصر مصطفى يقترب منها يميل عليها وهو يهمس بشكل خافت مشيرًا له..
ارتفعت عين تلك المهرة له، ويا ويله من تلك الرموش والعيون، رسم على فمه بسمة ناعسة يراها ترفع حاجبها الاسود العريض، ثم ابتسمت تنهض في مكانها متحركة نحوه بخطوات رشيقة تلاعبت بمهارة على اوتار قلبه .
ثواني هي حتى توقفت تلك الفاتنة أمام طاولته، نهض بكل رقي مانحًا إياها بسمة واسعة، ثم تحرك يسحب لها مقعدها بهدوء شديد استجابت له دون كلمة واحدة تجلس واضعة قدم على أخرى بتكبر يليق بها، بل خُلق خصيصًا لها .
ابتسم لها صلاح يتحدث بهدوء :
” مكانش له لزوم تزعجي نفسك يا آنسة كنت أنا اللي هاجي لحضرتك ”
ابتسمت له بسمة لم يدري أعابثة هي أم بريئة؟! كل ما أدركه أن تلك المرأة التي تقبع على بعض سنتيمترات منه مثالية، مثالية بشكل لم يره يومًا، حتى تحدثت ……
كانت كاملة في نظره حتى أخرجت تلك الكلمات التي أصابته في مقتل مردفة بنبرة عابثة عشوائية بعض الشيء :
” اؤمر يا لذوذ، طيفا قالي أنك عايز تتكلم معايا بخصوص سعيد”
” لذوذ ؟؟”
رددها صلاح بجهل يحاول التظاهر أنها كلمة مجاملة منها وليس تلك الكلمة السمجة التي عند سماعك لها تتخيل امرأة بعباءة سمراء وشعر مصبوغ وعلكة تلوكها بشكل مقزز :
” اممم في الحقيقة يا آنسة ميمو، أنا بس كنت محتاج حد يساعدني اتواصل مع سعيد باشا، وكنت في البداية منتظر اطلب الخدمة دي من نيرو، لكن ملحقتهاش، ومصطفى قالي إن حضرتك برضو أخته وممكن توصليني ليه ”
وعند انتهاء كلماته نال اغرب ردة فعل توقعها منها، ضحكة عالية لم تتوقف إلى حينما تمالكت نفسها وهي تلوي شفتيها :
” عايزني أنا اتوسطلك عند سعيد ؟؟ ”
” يعني لو مش هزعج حضرتك ”
ابتسمت ميمو بسمة جعلت صلاح يدرك أن تلك المرأة ليست بالشخص الأبله البتة، فالخبث الذي يشع من عينيها جذبه وبشدة، خبيثة وماكرة، هذا ما استنبطه منها، وهو يومًا لم يخطأ الحكم على شخص ..
” مش انت الصحفي اللي بتلقح على سعيد في الرايحة والجاية وواخده غسيل ومكوة؟!”
ورغم طريقة تحدثها التي لا تليق بابنة الحسب والنسب، إلا أنه رفع حاجبه وتشدق ببراءة مصطنعة:
” أنا يا فندم ؟؟ محصلش، اخو حضرتك هو اللي ليه حبايب كتير وكل كلمة تتقال وحشة في البلد دي يلبسوها فيه ”
ابتسمت ميمو تقترب من الطاولة وعينها تدور عليه بحرص قبل أن تقول :
” اسمع يا قمور، فكرك أنا ليه جيت قعدت معاك ؟! مش عشان مصطفى قالي أنك محتاج تكلمني، لكن عشان أنا عارفاك ومتبعاك من فترة طويلة، وعارفة أنك معلم على قفا سعيد ”
لم يرمش صلاح حتى وهو يحاول أن يستوعب الكلمات التي تخرج منها يفرك جسر أنفه كل ثانية، الأمر غريب، سمع صوتها يتساءل بتعجب عما يفعل :
” فيه حاجة يا عسل ؟؟”
” لا معلش اصل بس حاسس الصوت مش راكب مع الصورة خالص، تقريبا عقلي بقى مسقط سيرفرات ”
رمقته ميمو بجهل، لكنه لم يوضح لها، هو حتى لا يعلم ما يقول، يخبرها أن مظهرها قادم من حي راقي، بينما صوتها وكلماتها قادمة من قاع المجتمع، أي نوع من النساء هي ؟!
انتبه أنه أطال التحديق بها، ففتح فمه يحاول الاعتذار عن وقاحته، لكن ما كاد يفعل حتى وجدها تخرج علكة ملقية إياها في فمها لتكتمل الصورة في رأسه، ثم رفعت يديها تضرب بها سويًا في الهواء متحدثة :
” ايه يا طيفا فين الاسبريسو بتاعتي ؟؟”
تشنج وجه صلاح يستشعر وجود خطأ، لابد أن ذلك الصوت تم تركيبة بالبرمجة على هذه الصورة، بحق الله ما كم التناقضات التي يراها أمامه الآن، من هذه المرأة بحق الله ؟؟
وبمجرد سماعه كلمته الأخيرة نطق في استنكار لم يستطع منعه وكأن صالح تلبسه :
” اسبريسو ايه بقى ؟؟ هاتلها شيشة تفاح يا طيفا”
ابتسمت له تلوك العلكة في فمها باستمتاع، ليس بها، بل بملامح الصدمة التي تتابع على وجهه، فليس هو أول من يُصدم من طريقة تعاملها وحديثها مقارنة بمظهرها الراقي :
” تسلم يا حبوب مبطلة من سنة عشان بيعملي حرقان في صدري، لكن بدخن سجاير عادي، معاك ؟!”
حسنًا لا داعي لأن يُصدم، يكفيه ما نالته تلك المرأة منه منذ جلست معه، فهذه المرة الأولى التي تظهر ملامح الصدمة عليه بهذا الشكل، هو طوال الوقت يخفي كافة تعبيراته أسفل بسمة هادئة، والآن أتت تلك المرأة منتزعة منه كل ذلك ..
كتمت ميمو ضحكة عالية كادت تفلت منها على مظهره، بحق الله هل ظنها حقًا تدخن؟؟ حسنًا لا بأس ليظن ما يظن، هي هنا لأمر ستفعله وترحل .
لن يقول أنه صُدم من حديثها، بل لم يتوقع أن تتحدث إليه هكذا .
عادت بظهرها للخلف تقول بلهجة عشوائية شعبية :
” الصراحة يا لذوذ دماغك عجباني، بس انا بعتب عليك، ينفع كده تنيم سعودي كل يوم متنكد عليه بسبب كلامك اللي زي السم ؟؟ ”
ابتسم لها صلاح يردف بهدوء :
” وهو بقى اللي بيشتكي ليكِ مني ؟؟ ”
” لا طبعًا، سعودي كتوم شوية، بس انا اللي بشوف دمه كل يوم يتحرق بسببك، والصراحة كده بيقطع قلبي عليه ”
” اممم الظاهر حضرتك اقرب ليه من أخته التانية ”
ابتسمت له بسمة صغيرة تميل على الطاولة هامسة كما لو كان هناك من يراقبهم :
” مين قالك اني أخته ؟؟ أنا مش أخت سعيد ”
” امال مين؟! بنت عمه ؟؟”
” تؤتؤ، أمه ”
تشنج وجه صلاح وهو يعود للخلف كما لو أن حية قد لدغته يردف بسخرية لاذعة :
” نعم ؟! امه ؟! ”
وإن كان يتوقع أنه سيفي بوعده الذي قطعه على نفسه منذ ثواني أنه لن يدعها تستمتع بصدمته منها، فقد خسر .
ابتسمت ميمي واضعة قدم فوق الآخر تقول بجدية :
” في مقام امه، اووه sorry قصدي في مقام الست الوالدة”
صمتت تستشف ملامحه التي تباينت أمام عينيها تلقي قنبلتها في وجهه دون اعتبار لشيء :
” أنا ابقى مرات ابوه، أو بالأصح أرملة ابوه، أرملة جاد الاشموني …”
__________________
يجلس على قهوة تترأس شارع منزله ومن حوله جمع بعض الرجال الذين من شأنهم مساعدته، كـ محمود رفيقه، وصاحب محل البقالة، والفكهاني المرابط بحارتهم، كل هؤلاء لأجل كتابة رسالة حب واحدة ولمساعدة ذلك الشاب الذي أتى لهم يشكو عجزه ورغبته في التقدم لخطبة فتاة ما _دون ذكر هويتها بالتحديد_ لكنها لا تلتفت له ..
مال صالح على شوقي ذلك الفتى التي يعمل كفتى مشاريب في القهوة، يراقبه كيف يخط تلك الكلمات التي جمعها من الجميع لأجل إثارة اعجاب الآنسة هاجر، صاحبة العيون القططية البريئة …
****آنسة هاجر، أو اسمحي لي أن أرفع الألقاب واناديكِ
” جوجو ” كما نصحني محمود صديقي الصدوق، علمتُ بطرقي الخاصة أنك تحبين الفصحى؛ لذلك سرقت لأجلك إحدى خواطر شقيقي فهو من يجيد الفصحى أفضل مني، والآن اهدي لكِ تلك الكلمات من اعماق قلبي ….
(يا سيدة تعجبت السماء حُسنها فاستحت نجوم ليلها، يا من رآك البحر فخجلت لآلئه، وابصرك الغروب فتوارت شمسه، كنتِ الأقرب والأحب لقلبي، منذ أول ضمة منكِ لي في مهدي، وحتى قبلاتك كل مساء في فراشي، يا من باحضانك تتلاشى أحزاني، وببسمتك تذوب همومي، احبك أمي .)
تلك كانت خاطرة أخي لامي في عيد الأم لم أجد غيرها، يمكنك تجاهل الجزء الثاني منها، كنت أود أن اهديكِ واحدة افضل لكن للاسف هو لم يكتب بعد خواطر لحبيبته، لكنني أعدك أن أسرق لكِ اول خاطرة يكتبها لحبيبته، واهديها لكِ ..
*ملحوظة *
( تمت الاستعانة في كِتابة الخطاب الفصحى بجوجل ومحمود صديقي المقرب، وعم متولي صاحب محل البقالة الذي أخرج لي رسائله القديمة لزوجته فاستعنت منها ببعض الكلمات)
البوفيه :
شوقي صبي القهوة
عم متولي البقال
عم حسين الفكهاني.
تدقيق ومراجعة :
محمود صديقي الصدوق ( اكيد عرفاه)
عم متولي البقال
كتابة :
شوقي صبي القهوة
اشراف وإخراج :
العبد لله ( صالح السقاري ) ……******
ابتسم صالح برضى شديد وهو يراقب ناتج تعب رجال الحارة اجمعين، رفع كفيه في الهواء يلوح شاكرًا لهم وهو يراهم منصرفين عنه :
” شكرًا يا رجالة تترد ليكم في الافراح باذن الله ”
سحب بعدها الرسالة، ثم وضعها في يد محمود الذي كان يعبث في حقيبته وقال :
” يلا يا محمود روح وصله لهاجر ”
” ما اروح اتجوزها احسن ؟؟”
شهق صالح بصدمة وهو يضرب ظهر رفيقه بغيظ :
” ولد تتجوز مين؟! هتبص لخطيبتي ؟؟ اتفضل روح اديها الجواب وبطل هري وعينك تكون في الأرض ”
” وده ليه ؟! فهمني دورك أنت في الحوار ده كله ايه ؟! عقدت مجلس امم متحدة في الحارة عشان تكتب مجرد جواب عادي، وسرقت اخوك عشان تكتب ليها خاطرة، وفي الآخر حتى مش عايز تروح تديها الجواب ؟؟ اروح اتقدم أنا بدالك طيب ؟؟”
زفر صالح بحنق شديد هو لا يعجبه كل ذلك من الاساس تلك الفتاة البريئة الصغيرة ليست مناسبة له.
حسنًا ولا أي انثى مناسبة له، هو يشعر أنه سيعيش حياته هائمًا بحثًا عن تلك التي قد تتحمله .
” بقولك ايه انا اساسا الموضوع ده مش داخل دماغي، البنت زي البسكوت النواعم لو لمستها هتتكسر، دي سجدة بطعم ورائحة الفانيليا بكل حوارتها مستحملتش تكمل معايا اسبوعين، هاجر هتستحمل ؟!”
هز محمود رأسه باقتناع :
” عندك حق هي خسارة فيك مش هتستحملك، مفيش حد هيستحملك اساسا، أنا اولى بيها ”
صمت ثواني قبل أن ينتفض بشكل مخيف مرددًا:
” لقيتها، ايه رأيك في الست فردوس صاحبة محل الجزارة اللي على اول الشارع ؟؟ دي ست قادرة ومفترية ومحدش يقدر عليها ”
رمقه صالح بشر قبل أن ينهض من مكانه متوجهًا لمنزله بغيظ :
” أنا بائس اه بس مش لدرجة فردوس، بقولك ايه فكك من الحوار ده وبكرة ربك هيجيبها لغاية عندي، يعني هتيجي هتيجي، هتروح مني فين يعني ”
نهض محمود حاملًا حقيبة ظهره يتبع صالح راكضًا، يشعر أن ذلك الفتى سيكون حظه عثرًا مع النساء، لكنه لا يشفق عليه، بل يشفق على تلك التي ستضطر لتحمل عشوائيته وتصرفاته البدائية مدى الحياة .
” على رأيك هتروح منك فين ؟! اصبر وبكرة هتلاقي نفسك طابب على بوزك .”
دخل صالح منزله يستشعر الهدوء في الأجواء مما يدل على أن أحدًا لم يعد بعد، القى حقيبته ارضًا، يتبعها حذاءه، ثم سترته التي وضعها على خزانة الأحذية، وبعدها تحرك داخل المطبخ، بينما محمود يراقب ما يفعل بحنق، لكنه لم يعلق ..
ثواني وخرج صالح من المطبخ يمسك قطعة بطيخ كبيرة يتناولها بشراهة :
” خليك هنا هغير هدومي وجاي ”
نظر محمود لثيابه التي تلوثت بطيخ قائلًا :
” وعلى ايه تغيرها ما هي بقت نيلة، والله كان عندها حق سجدة تسيبك، يا عيني كانت هتستحمل تشوف المنظر ده كل صيف ازاي بس ؟!”
لم يهتم له صالح وهو يدخل غرفته، بينما هز محمود رأسه بعد اهتمام يخرج من حقيبته علبة عصير كبيرة ومن ثم أخرج بعض وريقات نبات غريبة الشكل خضراء مبتسمًا بخبث ومن ثم وضعها في علبة العصير وقام برجها كثيرًا، ومن بعدها وضعها في المبرد :
” اول ما تسقع بقى نشربها ونعمل دماغ عالية ..”
انتفض فجأة على صوت صالح الذي عاد مرتديًا ثيابه المنزلية قائلًا :
” هو ايه ده اللي هتعمل دماغ ؟!”
” يا اخي خضتني فكرتك اخوك، دي يا سيدي تأشيرة سفر ”
حرّك صالح عينه لعلبة العصير التي تتوسط رف ثلاجته رافعًا حاجبه بتهكم :
” هما بقوا بيطلعوا تأشيرات معلبة الايام دي ؟! ودي بيختموا عليها بالشاليموه ؟!”
” يا صاحبي افهم، دي تأشيرة للعالم الموازي، بتاخدها من هنا وتسافر من هنا، دون إجراءات سفر أو تفتيش أو باسبور حتى ”
أبعد صالح يد محمود عنه بحنق ضاربًا إياه :
” أنت مش هتبطل بقى القرف اللي بتعمله ده ؟؟ هو ابوك سايبك تدخل المعمل بتاعه وتاخد الحاجات دي ازاي بجد ؟!”
” لا ما أنا بسرقها”
مسح صالح وجهه بغيظ ثم أشار لعلبة العصير :
” بص أنا ميهمنيش، شيل القرف بتاعك ده من التلاجة لاحسن لو صلاح شم خبر مش هيكفيه يجلدك، وانا حذرتك ”
____________________
يجلس في مكتب قائده رفقة زملاء العمل ينتظر الأوامر الجديدة، يتأفف من الحين للآخر، لا يحبذ العمل مع فريق، وبالأخص فريق كهذا، أو للتحديد زميل كمحسن ذلك الشرطي السمج ..
ارتفعت ضحكات محسن بشكل مثير للاشمئزاز :
” يا فندم مجرمين مين وخطيرين مين ؟! شكلك كده يا فندم مشوفتش آخر مهمة عملها فريقي، نجح فيها نجاح ساحق، مش ذنبنا أن المجرم بعد ما اتسلم لحد كده هرب منه ”
وبالطبع الجميع في هذه الغرفة يدرك جيدًا إلى ما يُلمح ذلك المقيت، حيث أن جميع الأنظار تحركت صوب رائد الذي لوى فمه وصمت..
تحدث الشرطي الاعلى في الرتبة :
” مش وقته كلام يا حضرة الظابط، أنا عايز أفعال، العيال دي لو متمسكتش ونضفتوا البلد منها، مش هيكون في صالح حد منكم ”
اعتدل رائد في جلسته يحاول الحديث :
” يا فندم بس المعلومات اللي وصـ ….”
قاطعه السمج محسن مجددًا :
” ولا يكون عندك شك يا فندم أنا حطيت خطة متخرش الماية، ساعات والمجرمين يكونوا عندك ”
ضغط رائد على أسنانه بحنق، يُذكر نفسه بسبب موافقته أن يصبح تحت قيادة ذلك المتعجرف، السبب الذي يجعله ينحت الصخر ويقطع اميالًا ….( ترقيته العزيزة )
ابتسم بسمة صغيرة :
” امرك يا فندم، كل شيء هيتم وفق تعليماتك”
وها هو يتبع تعليمات محسن بالذهاب لإحدى الحواري المصرية التي تزخر بالفاسدين وبائعي الحبوب المخدرة حيث وصل لهم بلاغًا من أهل الحارة عن وجود عدد كبير من الموزعين لذلك السم في المكان مما تسبب في أذية العديد من أبناء الحارة .
توقفت السيارة في منتصف الحارة بشكل مثير للرعب حيث تجمهر البعض لمعرفة ما سيحدث، كاد رائد يهبط من السيارة، لكن منعته يد محسن الذي ردد بعجرفة :
” أنا القائد هنا، يعني أنا اللي انزل الاول والكل ورايا، فاهم يا حضرة الظابط ؟!”
رفع رائد حاجبه وذكّر نفسه بالترقية التي قد ينالها جراء نجاح تلك المهمة :
” فاهم يا حضرة الظابط ”
هبط محسن يتبعه باقية الضباط ومنهم رائد الذي كان يتأفف من كل ذلك، لكنه سار خلفهم بين أزقة تلك الحارة الضيقة بحثًا عن مقر هؤلاء الملاعين الذي استحلوا لأنفسهم تسميم عقول الشباب …
كان هناك العديد من الصبية يركضون بين ممرات الحارة بملابس متسخة يصرخون ويهللون بسعادة كبيرة بأن هناك شرطة في حارتهم، وكأنهم مجموعة من المهرجين جاءوا لإسعاد الجميع .
صرخ محسن في الجميع بغلظة :
” اوعى منك ليه من السكة ”
بدأ التجمهر ينفك والجميع يفسح الطريق لهم، ورائد عينه تدور في المكان حتى قادهم محسن إلى منزل كبير تكاد الأرض تبتلع جزء منه، جدرانه متهالكة والرطوبة تفوح منه بشكل مقزز.
توقف الجميع أمام المنزل في انتظار أوامر محسن، لكن رائد لم يرتح لما يحدث :
” محسن اصبر بلاش هجوم دلوقتي فيه حاجة غلط، الناس دي مش هبلة عشان …”
وقبل أن يكمل جملته قاطعه محسن بتعنت :
” أنت هتقولي اعمل ايه ومعملش ايه يا حضرة الرقيب ؟! انا القائد عليكم هنا، يبقى اوامري أنا اللي تتنفذ، ودلوقتي اهجموا على المكان ده وجمعولي كل اللي فيه ”
ازداد غضب رائد منه يحاول ألا يصرخ في وجهه بأن رتبته تلك أتت المعارف والده الواسعة، ولم يملك سوا أن يشير للعساكر بالهجوم …
اقتحم العساكر الوكر بقوة منتشرين في أرجاء المنزل ورائد خلفهم وكذلك محسن الذي لم يوفر فرصة إلا وأخبره بها أنه القائد، وبمجرد أن دخل الجميع وجدوا نفسهم محاصرين بين مجموع من الشباب يحملون أسلحة متباينة وعديدة، ليدرك رائد أنهم ابتلعوا الطعم ببساطة وبسبب ذلك الاحمق خلفه .
صاح أحد الرجال الذين يحملون الأسلحة :
” يلا يا حبيبي كل واحد منكم يرمي سلاحه في الأرض كده ويركن على جنب ”
اشتعلت عين رائد وكاد يتحدث لكن سبقه محسن الذي قال بعجرفة فارغة :
” استنى أنت يا حضرة الظابط أنا القائد هنا وانا اللي اتكلم ”
رمقه رائد بشر قبل أن يعود للخلف مبتسمًا :
” عندك حق، اتفضلوا يا جماعة لو عايزين حد تتفاهموا معاه فالقائد معاكم اهو بنفسه، تقدروا تاخدوه تعملوا فيه اللي عايزينه ”
حدق فيه محسن بصدمة كبيرة وقبل أن يتحدث بكلمة انطلقت رصاصة من سلاح ذلك الرجل وهو يقول بصوت مرعب :
” متخافش هنتكلم معاكم واحد واحد اصل النقاش بتاعنا كبير اوي اوي ”
فتح محسن فمه ليتحدث، لكنه اغلقه كـ سمكة تتنفس أسفل الماء، لا يدرك حقًا ما يحب قوله في تلك اللحظة، هل يجب تهديدهم، أو الانصياع لهم حتى يخرجوا من ذلك الفخ اللعين ..
وجواره رائد يرمقه بتشفي كبير، فهو حاول تحذيرهم في المقر وهنا ايضًا، أن المعلومات التي وصلت لهم دقيقة بشكل مثير للريبة، ووصولهم هنا دون هروب العصابة يعني أنه ربما يكون فخًا، وقد كان، لكن الغريب في الأمر أن عصابة ضعيفة وغبية كتلك تمتلك الجرأة لمجابهة رجال الشرطة وبكل شجاعة تثير الريبة .
” ها يا قائدنا الهمام، هنعمل ايه يا باشا ؟؟ ”
فجأة ووسط كل تلك النظرات استمع الجميع لصوت فتاة يخترق الجمع ليس وكأن هناك حربًا على وشك الاشتعال صارخة بصوت حاد :
” عبدالعظيـــــم …..”
ثم وفجأة اخترقت الجميع متحركة صوب أحد الشباب الذين يقفون في صف العصابة يحمل سلاحًا ودون مقدمات صفعته صفعة رنّ صداها في المكان قائلة بقوة :
“واقف وشايل سلاح عشان تدافع عن شوية الصيع بتوعك يا حيوان ؟! هتضيع نفسك عشان الزبالة دول ؟!”
صدح صوت الرجل الأكبر فيهم محذرًا :
” اطلعي من هنا يا آنسة تسبيح قبل ما تروحي في الرجلـ”
وقبل أن يتمم جملته صدحت صفعة أعلى وجهه بنفس قوة الاولى، جعلت أعين رائد تتسع اعجابًا وفمه يتكور ببسمة واسعة يراها تصرخ فيه بلهيب لم يره بسبب ذلك النقاب الذي يحول ما دون ذلك ..
تحدثت تلك الجنية التي تتيح في الاسود بصوت غاضب :
” مش أنت اللي تقولي اعمل ايه ومعملش ايه يا عرة الرجالة، فكرك هتروح من ربك فين بعد اللي عملته في الشباب يا عديم الرجولة ”
اشتعلت عين الرجل وهو يصرخ باسم أخيها :
” عبدالعظيم …خد اختك وأخرج من هنا أنا بس ساكت ليها عشان أنت واحد من رجالتي وإلا والله العظيم كنت دفنتها مكانها ”
” بتحلف بالله؟! وأنت تعرف الله بعد اللي بتعمله ؟؟ بعدين مش هتحرك من هنا غير لما اشوفك مجرور زي الكلب قدام الحارة كلها، وتترمي في السجن مع امثالك ”
أنهت حديثها، ثم استدارت تنظر لجميع عناصر الشرطة قبل أن تثبت نظرها على رائد قائلة برجاء :
” لو سمحت يا باشا خلصنا من القرف ده”
تقدم محسن لها نافخًا صدره بتكبر :
” كلميني أنا يا استاذة أنا القائـ ..”
وقبل أن يكمل كلمته كانت يد رائد تدفعه بعيدًا بغيظ مسقطًا إياه ارضًا ضاربًا بكل شيء عرض الحائط، وأنه لا يجوز له معاملة قائده بهذا الشكل :
” بس بقى ”
أبعد نظره عن محسن وهو يرمق الفتاة بجدية ونظرات محذرة لها بالذهاب من هنا :
” تمام يا آنسة، اتفضلي أنتِ بعيد عن كل ده ”
تدخل عبدالعظيم يجذب يده أخته بعيدًا وهو ينظر لقائده باعتذار :
” تعالي معايا برة، بوظتي الدنيا مش كفاية المصيبة اللي وقعت علينا ”
ابتسمت تسبيح بتشفي من خلف نقابها، لكن ظهر ذلك واضحًا في عينيها وهي تقول تتبع أخيها للخارج :
” المصيبة دي أنا اللي رميتها عليكم، أنا اللي بلغت البوليس ”
اشتعلت عين الرجل وهو يحدق في تسبيح وكأنه يخبرها أنها بفعلتها وضعت نهايتها، لكن تسبيح لم تأبه شيئًا تسحب يدها من يد أخيها بقوة وصوتها يقطر حسرة ووجع :
” وانا اللي بلغت عليك أنت اول واحد يا عبدالعظيم، عشان تبقى تفتري على خلق الله وتبيع القرف ده يا ابن ام وابويا ”
نظرت بعدها لرائد وقال :
” اتفضل يا باشا لم شوية الزبالة دي”
دفعت له أخيها :
” واولهم ده، خلي العدالة تاخد مجراها ”
وقبل أن يتحدث أحد بكلمة واحدة صدح صوت رصاصة في المكان بأكمله وصوت زعيم تلك العصابة يقول بشر :
” يعني أنتِ يا بنت الـ … اللي بلغتي عننا ؟؟ ده انا هخلي عيشتك أنتِ واخوكِ وابوكِ العاجز سواد عليكم …”
__________________
كان يجلس أعلى الأريكة في بهو منزل صالح وأمامه عقب سيجارة لم تنتهي بعد، فقد كان يستنشقها وهو يغني باستمتاع..
في نفس الوقت الذي دخل صلاح المنزل يتحدث في هاتفه :
” لا أنا وصلت اهو يا دوبك هجهز واتحرك ”
دخل بأقدام هادئة نحو المطبخ لا يرى ذلك الذي كان يتحرك باستمتاع أعلى الأريكة، غاب دقائق ثم خرج حاملًا كوبًا من الماء وهو مازال يتحدث :
” لا أنت بس رتب الدنيا وانا شوية وهكون هناك لسه باقي ست ساعات على المؤتمر .”
لمح صلاح محمود يترنح أعلى الأريكة ليضيق عينه بحنق شديد وما كاد يتحدث حتى ابصر صالح يخرج بتعجب من غرفته، لذلك ابتسم بخوف أن يكتشف ما يفعله محمود :
” صلاح ؟! غريبة جيت بدري انهاردة ؟!”
أنهى صلاح المكالمة مع رفيقه :
” ما أنت عارف عندي مؤتمر ادبي انهاردة في اسكندرية ولازم اكون هناك قبل ٧ المغرب ”
هز صالح رأسه بتفهم وهو يرى أن محمود قد بدأ مبكرًا اليوم :
” تمام ربنا يوفقك يارب ”
تحرك صلاح بعيدًا عنه يدخل غرفته يجهز فيها ورق المؤتمر وبدلته وكل شيء، ثم خرج ليدخل للمرحاض، لولا شعوره بدوار عنيف يضربه .
نظر نحو صالح الذي كان يجلس على الأريكة جوار محمود، مدّ يده له يحاول أن يلفت انتباهه، لكن فشلت مساعيه، وسقط ارضًا بعنف يشعر أن المكان يدور به والأرض تتحرك من أسفله، والأضواء تتراقص أمام عينيه .
وعلى الأريكة كان صالح يمسك ثياب محمود يجز على أسنانه بغضب وقد سأم من أفعال محمود :
” احمد ربك أنه ما اخدش باله منك ومن قرفك وأنه مسافر دلوقتي وإلا كان طين عيـ ”
وقبل أن يتم كلماته سمع صوت اصطدام عنيف في الأرض استدار صالح ليبصر جسد أخيه ممدًا ارضًا، هنا وسقط قلبه ارضًا يصرخ بهلع :
” صــــــــلاح ”
ركض صوب أخيه بسرعة كبيرة يحمل رأسه واضعًا إياها أعلى فخذه يجس نبضه برعب مناديًا إياه :
” صلاح حبيبي، مالك ؟؟ ايه اللي حصل ؟؟ صلاح رد عليا مالك ؟!”
شعر صالح بالرعب يتمكن منه وهو ينظر حوله بجنون قلبه يكاد يتوقف خوفًا وهو ينادي محمود أن يساعده ويطلب الاسعاف، قبل أن يلمح محمود يقف في بداية الممر حاملًا بين يده علبة عصير كبيرة متذمرًا بحنق :
” مين اللي شرب علبة العصير بتاعتي ؟! ”
رفع له صالح عينه يستوعب ما يحدث محاولًا تكذيب ما وصل له للتو :
” عصير ايه ؟! قصدك التأشيرة المُعلبة ؟!”
هز محمود رأسه بتعجب، بينما حرّك صالح رأسه صوب أخيه الذي بدأ يتمتم بكلمات غريبة ويضحك بشكل مريب ليقول بصدمة :
” الظاهر كده صلاح حب يعمل جولة حوالين العالم”
حكّّ محمود فروة رأسه بتفكير يراقب تململ صلاح ارضًا وهو يتمتم بكلمات غير مفهومة :
” يعني ايه ؟؟ كده العصير بتاعي بح ؟! ده انا لسه مشربتش منه بُق واحد ”
وقبل أن ينهي جملته وجد صالح ينقض عليه خانقًا إياه :
” هتموت اخويا يا حيوان وبتقولي عصير ؟! ده انا اللي هعصرك واكسر دماغك دي لو حصل ليه حاجة يا كلب ”
” يا عم وانا مالي ما هو اللي طفس وشرب العلبة كلها ”
كان محمود يتحدث باختناق يحاول أن يبعد يد صالح عنه، لكن فجأة شعر بيده ترتخي تزامنًا مع ارتفاع صوت تمتمات صلاح وهو يقول :
” راكبة حصان وبتاكل لبانة ”
استدار الاثنان ببطء ومازالت يد صالح حول رقبة محمود، يراقبون بصدمة ما يفعل صلاح فقد اعتدل في جلسته يفرك شعره بقوة حتى افسد ترتيبه المعهود، ومن ثم نهض يخلع سترته ملقيًا إياها ارضًا ثم تبعها بقميصه وبقي بجذع عاري ..
ثم تحرك صوب بهو المنزل، لكنه توقف ينظر حوله بتعجب وكأنه نسي ما كان سيفعل وقال بتعجب :
” هي راحت فين ؟! كانت لسه راكبة الحصان هنا من شوية ؟؟ ”
كانت أعين كلٍ من صالح ومحمود تتحرك على صلاح وما يفعل والذي أخذ يرفع مفرش الطاولة وينحني ارضًا يبحث أسفل الأريكة عن صاحبة الحصان التي لا ينفك يذكرها :
” كانت بتشرب اسبرسو هنا وبتاكل لبانة ”
حرّك صالح رأسه ببطء صوب محمود ودون كلمة واحدة لكمه بعنف وهو يصرخ :
” عملت ايه في الواد يا حيوان ؟!”
تأوه محمود بقوة وهو يبتعد عن مرمى يد صالح يتجنب غضبه :
” يا عم عملت ايه ؟! ما هو زي الفل اهو وآخر انبساط ”
فتح صالح فمه ليجيبه لكن قطعه صوت رنين هاتف المنزل، استدار فجأة ليجد صلاح قد فتح المكالمة وهو يتحدث بجدية مثيرة للضحك :
” الو ميمو معايا ؟!”
صرخ صالح يركض صوب الهاتف جاذبًا إياه من يده في عنف كبير يحاول إبعاد أخيه عنه :
” اششش ميمو ؟! هو شربك ايه بالضبط ؟؟”
فجأة سمع صالح صوت والده عبر الهاتف يتحدث بتعجب :
” ميمو ايه ؟؟ مين معايا صالح ولا صلاح ؟؟”
حرك صالح شفتيه برعب وهو يلطم وجنتيه يلقي بجسد صلاح أعلى الأريكة مغلقًا الهاتف بسرعة يحاول أن يجبر أخاه على الاستيقاظ من حالة الهدر تلك، لكن صلاح استمر في ترديد كلمات غريبة :
” كانت قمر، قمر وبتاكل لبانة وبتركب حصان….طلعت مرات أبوه مش اخته….أبوه اتجوز القمر ”
مسح صالح وجهه وهو يرمق محمود بشر، لكن الأخير في تلك اللحظة كان يجلس على مقعد مقابلًا له يدخن باقي سيجارته باستمتاع :
” يا عم مالك كده، سيبه يستمتع بدل ما هو عايش حياة كئيبة كده ”
” أنت يا زبالة هتضيع الواد، بعدين هو ايه اللي حصل ليه ؟! ده مش طبيعي، اول مرة اشوفه كده، أنت مش بيحصل ليك كده لما تشرب ”
هز محمود رأسه بايجاب وبنصف وعي شرح له :
” ده لأن النبتة دي زي ما قولتلك اقوي وكمان تأثيرها اطول واخوك طفس وشرب العصير كله ”
فتح صالح عينه بصدمة ينقض على محمود جاذبًا ثيابه بعنف شديد :
” يعني ايه تأثيرها اطول ؟! صلاح عنده مؤتمر كبير بعد خمس ساعات ”
” لا خمس ساعات ايه، اخوك هيفضل مهيس كده ليوم كامل يا حبيبي ده كأنه شرب خمس سجاير وبلع خمس حبات ”
شعر صالح بالأرض تدور حوله وصوت غناء صلاح خلفه يكاد يصيبه بجلطة وهو يردد :
” أنا أنا بنوتة سكرة وكيوتة ”
جلس صالح ارضًا جوار الأريكة التي كان صلاح يرقص عليها بحماس شديد ويغني بصوت مرتفع، يلطم وجنتيه ويحرك جسده كالنساء في المآتم :
” يا مصيبتك يا صالح، ده لما يفوق هيطين عيشتنا”
” يا عم مالك كده استهدى بالله، هيعمل ايه يعني هيسلمنا للبوليس؟؟ مش هيقدر هو اللي شارب مش احنا فاحنا هنبلغ عليه قبل ما يعملها ”
ضحك صالح ضحكة عالية بحسرة وقهر :
” يبلغ عننا ؟؟ ياريت يبلغ عننا، ده أمنية حياتي يبلغ عننا بدل اللي هيعمله فينا، ده هيخلينا نمشي في الشوارع نعمل زيه كده، ده أما كانش اسود، ده جبروت”
هز محمود رأسه غير مهتم بشيء يستنشق دخان السجائر باستمتاع قبل أن يرى صلاح يهبط من الأريكة متحركًا في أرجاء المنزل يغني ويرقص بجنون وبحركات شبابية سبق ووصفها بالمقززة ومحمود بدأ يصفق له ويشجعه، بل ونهض له يشاركه ذلك الحفل بحضور سرب من البط المهاجر .
ردد صالح بنبرة باكية ومازالت يده تلطم وجنته :
” يا مصيبتك يا صالح، الولد عنده مؤتمر كمان اربع ساعات ونص في اسكندرية وهو اللي هيقدمه، هنعمل ايه ؟! ده لو فاق وعرف أنه فوته هنروح في مصيبة ”
نظر له محمود بعدما توقف عن الرقص قائلًا بتفكير ونصف وعي :
” ليه بتقول كده ما هو هيحضر والدنيا هتبقى فل، مش هو اخوك”
نظر له صالح بسخرية :
” لا مرات ابويا، ايوه يا زفت اخويا، ايه مش عارف يعني أنه اخويا ؟؟ ”
ابتسم له محمود بخبث يرتاح في جلسته للخلف وعينه تراقب دخان السجائر وصوته خرج هادئًا :
” لا عارف، بس شكلك أنت اللي مش عارف أنكم توأم…”
نظر له صالح لثواني قبل أن تتسع عينه يستوعب ما يرنو إليه محمود، منحه الأخير ابتسامة واسعة يفضي بما يفكر به صراحةً :
” أنت اللي هتقدم المؤتمر يا منعم …”
_____________________
كلها خيوط تتجمع لتكون البَكرة، وها نحن على وشك الامساك بأول خيط، لكن بأي طريقة سنفعل ؟! على طريقة الألف أم كوز الذرة ؟؟؟؟
يتبع..
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية ما بين الألف وكوز الذرة)