رواية يناديها عائش الفصل التاسع والتسعون 99 بقلم نرمينا راضي
رواية يناديها عائش الفصل التاسع والتسعون 99 بقلم نرمينا راضي
رواية يناديها عائش البارت التاسع والتسعون
رواية يناديها عائش الجزء التاسع والتسعون

رواية يناديها عائش الحلقة التاسعة والتسعون
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: إذا ذكرت الموتى فعدّ نفسك كأحدهم.
~~~~~~~~~~~~~~~.
في خلال السنون التي مضت و انقضت عليهم جميعًا، حدثت أحداث كثيرة منها الجيد و منها المُحزن.
الحياة قد لا تكون عادلة، و لكنّ الله عادل و هذا يكفي، و ما الحياة إلا أيام يُختبر فيها إيمانك..
الحياة مستمرة سواء ضحكت أم بكيت، فلا تحمل نفسك همومًا لن تستفيد منها.. قيل: “القلق لا يمنع ألم الغد؛ و لكنه يسرق متعة اليوم”.
الأحداث الجيدة؛ انتصـار غـزة.
أصبحت غزة حصنًا منيعًا و لقمة غير سائغة للصهاينة، فبعد أن انتصرت المقاومة في حرب طوفان الأقصى، و ركع الكيان الصهيوني لطلبات المقاومة و شروطها، تجمعت المقاومة و جميع الكتائب تحت مظلة التحرير الوطني و أعادوا بناء البنية التحتية للمقاومة من جديد تزامُنًا مع إعادة إعمار غزة، و ما فعله الكيان الصهيوني في الضفة الغربية؛ سوف يدفع ثمنه باهظًا على يد المقاومة في غزة.
لقد بغي الصهاينة كثيرًا و تجبروا كثيرًا و حان الوقت لإيقافهم عند حدهم على يد المقاومة في القطاع.
أصبحت غزة الآن النقطة المضيئة في أرض فلسطين.. النقطة المحررة العصية الأبية التي صدقت رؤية « إسحاق رابين» الذي قال في مذكراته ( أتمنى أن أنام و استيقظ، فأجد غزة قد ابتلعها البحر) فلن تقدر على غزة ولن تستطيع هزيمتها.
« إنها غزة يا سادة.. خط الدفاع الأول عن مصر و الحصن المنيع الذي يواجه الاحتلال، منذ ظهور الأبقار الحُمر بجوار المسجد الأقصى و قد تغيرت اللعبة، أصبحت المقاومة تعمل باستراتيجية مختلفة و أصبحت الكتائب تشبه الجيش النظامي و أصبح الصغار يهتمون بالقضية كالكبار، فكانوا يريدون هدم المسجد الأقصى و لكن لولا طوفان الأقصى وقف لهم بالمرصاد، لتم هدم المسجد.
و تم العثور على جثة « نتنياهو» بين فكي الكلاب الضالة في شوارع القدس، الأقوال تقول أنه قُتل بواسطة شعبه، فقد ثاروا ضده في الفترة الأخيرة و انقلب الشعب على حكامه، و أقاويل أخرى تقول أنه قُتل بواسطة شاب فلسطيني، لا أحد يعلم أيهما أصح و لكن الأهم أنه لقى حتفه بطريقة أثلجت قلوب المسلمين.
و بدأ تكوين جيش عربي موحد، و رجعت المملكة العربية السعودية لوعيها و أوقفت استثمار ترليون دولار في أمريكا وتجميد جميع اتفاقيات السلام،
واستعداد مصر ودول الخليج والدول العربية و الإسلامية للحرب و الدفاع عن الإسلام والمسلمين، هذا بعدما خرجت الشعوب العربية عن طورها و هاجت و نددت بعمل ميليشيات و قوات حسم للخروج من الحدود لكل بلد و بدء الحرب الصريحة على الصهاينة.
و في ظل السنوات العصيبة التي تنتشر فيها الأوبئة، يظهر علينا متحور جديد في الولايات المتحدة الأمريكية و بالتحديد في ولاية تكساس.. إنه متحور تكساس الأشد فتكًا من كورونا، قضى على حياة الملايين و كان من الصعب مُجابهته، و لكن ظهور العلم وقف مع البشر في محاربة هذا الوباء، و أفاد في ذلك خبرة البروفيسور
« قُصي الخياط» رغم أنه يعمل في وكالة ناسا الفضائية، فكان لديه الشغف في إنقاذ البشرية خاصةً بعد وفاة عمته « مُفيدة» و جدة كريم بالوباء، فاكتشف لقاح جديد بالاشتراك مع البروفيسور « آدم ابراهام»، و أوقف متحور تكساس عند حده بعد أن أخذ الملايين للآخرة.
ففي الفترة ما بين الـ ٢٠٢٩ و ٢٠٣٤ تغيرت أشياء كثيرة أخرى، كزيادة الأفراد في العائلات.
_« سيف» أنجب ذَكر أسماه مُصعب، هو الآن بعمر العامين و فيروزه في الصف الأول الإبتدائي.
_« أُبَيِّ» رُزق بأنثى جميلة ورثت عينان والدتها المميزة و ملامح والدها، و اسماها سُهيلة.. عمرها الآن ثلاث سنوات و رُزق بطفل آخر ذَكر اسماه سُهيل و عمره الآن عام و نصف.
_« الضابط رحيم و زوجته الطبيبة شمس رُزقا بجانب عُدي طفلهما و الذي على مشارف اتمام الثامنة، بطفل آخر قامت والدته بتسميته
« عبد الرحمن» و عمره الآن ثلاث سنوات.
_« عصام و ابرار» لا زالا لديهما حور فقط، و هي بعمر الخامسة الآن.
_« زياد و هاجر» بجانب التوأم كيان و كِنان اللذان في الصف الثاني الابتدائي الآن، رُزقا بطفلة أخرى اسمها خديجة و في عمرها الرابع الآن.
_« زين انتصر على زوجته و أنجب منها ذكر آخر لابنه عبيدة، عبيدة في السادسة من عمره و شقيقه عابد في الثانية، و أيضًا لا ينفك يقول
« آبد سسه مان».
_« كريم كون إمبراطورية من الذكور»، عليك أن تصدق أنه لديه الآن خمسة ذكور.. نعم، خمسة !.
بجانب الثلاثة مراد و إياد و المعتصم بالله، حملت رُميساء بعد ولادة المعتصم بعام بتوأم ذكرين
« مُهند و المنتصر بالله».
_ العالِم.. أقصد البروفيسور العالم « قُصي» رُزق بطفلة ورثت جمال والدها و شقاوته، اسمتها رحمة « لارين»، هي الآن بعمر الرابعة.
_« بدر الشباب» رُزق بذكر آخر اسماه « ريَّان» بعمر الرابعة، و بأنثى جميلة كوالدتها اسمتها عائشة « قُدس»، أما حبيبنا سُليمان فهو في السابعة الآن.
و عن إبراهيم و ربانزل خاصته « ملك».. إليك ما حدث منذ أربع أعوام.
بعد أن أطمئن على قُصي، عود أدراجه لمصر لمقابلة مُجاهد و إخباره عن حُبه لمَلك و الزواج منها، كان والده قد سبقه مع زوجته و أولاده الرجال و أقاموا عند جده لوالدته لحين عودته سالمًا إليهم.
أخبر قُصي بمشاعره تجاه ملك و شجعه قُصي على الذهاب و الحديث مع والده حول الأمر، فهو يعلم مدى حُب شقيقته الشديد لإبراهيم و تعلقها به، و يدرك أن صديقه هو خير ما يؤتمن عليها.
في اليوم الذي جاء إبراهيم لمقابلة مُجاهد في بيته على إنفراد؛ للحديث معه في الأمر قبل أخذ أي خطوة، كانت ملك جالسة في غرفتها تلعب مع ابن أختها شهد ” عُبيدة “، و لم تعلم بوجود إبراهيم في الخارج برفقة والدها.
« زين» كان متواجد أيضًا مع زوجته و ابنه لزيارة حماه، و استقبل إبراهيم بعد غياب دام لأربع سنوات، قائلًا بابتسامة واسعة و ترحاب بالغ:
” عاش من شافك يا جدع.. بتقولوها ازاي بالتركي؟”
تبسم إبراهيم من قوله، و قال وهو يصافحه:
” سيني جوران تشوك يشي دوستوم ”
” أنا غلطان إني سألتك ”
بينما مجاهد رحب به و عينيه لا تكف عن التساؤلات عن قدومه المفاجئ:
” وحشتني يا هيما.. خير في إيه ؟ أبوك كويس ؟ أهلك كويسين يابني ؟ ”
أومأ إبراهيم و قال وهو يبحث بعينيه في أرجاء المنزل عن ربانزل خاصته، فلمح دميتها المفضلة لديها منذ طفولتها و التي أحضرها هو لها، ملقاة على إحدى الأرائك:
” الحمدلله بخير متقلقش، أنا آسف إني جيت بدون موعد.. على فكرة بابا و أهلي نزلوا معايا بس سايبهم عند جدو و جيت أطمن عليكم ”
” و أبوك مجاش معاك ليه ؟! ”
رد إبراهيم بصدقٍ، فهو لم يعتاد الكذب
” بصراحة يا عمي أنا جاي لحضرتك في موضوع يخصني و حابب إني أتكلم معاك لوحدنا ”
في تلك اللحظة، رفع زين حاجبه باستنكارٍ مضحك ليقول:
” بتطردني بالأدب ! ”
” فين ابنك صحيح ؟ جيبه أسلم عليه.. أنت كنت قايلي سميته إيه ؟ عشان نسيت ”
” سميته إبراهيم ”
اتسعت عينيّ إبراهيم وهتف بسعادة ملحوظة:
” بتهزر ! سميته على اسمي، طب والله فرحتني ”
تراجع زين ضاحكًا بسخرية منه ليقول:
” أنت صدقت ولا إيه ! أنت من بقية عيلتي عشان اسميه على اسمك.. سميته عبيدة تيمنًا بالملثم البطل بتاعنا أبو عبيدة.. ابني ما شاء الله عليه سسه مان ”
ضحك مجاهد بينما إبراهيم تأمله بعدم فهم و تساءل:
” سسه مان ازاي يعني ؟! ”
” سوبر مان يا جاهل، خد بالك لغة الأطفال دي ما يفهمهاش غير العبقري ”
” يا عم حلني، أنا جاي عشان اتجوز البنت اللي بحبها، بلا عبقري بلا نيلة ”
تلاشت ابتسامة مجاهد على الفور و كذلك زين، ثم بدأ تبادل النظرات بينهما في دهشة يملؤها الصمت، مما تشجع إبراهيم و أردف:
” عمي أنا جاي عشان ملك، من الآخر كده.. أنا حياتي من غير ملك ملهاش معنى ”
” ملك ! أنت مش خاطب ! فين دبلتك ؟ ”
قال مجاهد جملته الأخيرة وهو ينظر ليد إبراهيم، مما رد الأخير بلا مبالاةٍ:
” سيبتها.. قعدت أربع سنين مرتبط بيها و أنا مبحبهاش أصلًا.. تقدر تعتبره ارتباط بالاجبار، المهم و خلونا في المهم، أنا نازل مصر مخصوص عشان ملك، و عارف رأي حضرتك في الموضوع ده يا عمي.. إنك خايف على ملك و إن ملك مش مدركة الزواج بمعناه الكامل و إنها مش بتعرف تتعامل مع أي حد بسهولة ”
صمت، ثُم تنهد و تابع بيقين:
” بس أنا مش أي حد بالنسبة لملك يا عمي.. أنا إبراهيم، اكتر واحد ملك متعلقة بيه، و أنا والله مجتش عشان ملك صعبانة عليا ولا شفقة مني عليها ولا الكلام الفارغ ده كله.. أنا جيت عشان بحب ملك ومش راجع تركيا غير وهي مراتي بإذن الله.. والله بحبها بجد يا عمي و عايزها ”
ظل مُجاهد مكانه يحاول استيعاب ما رمى به
« إبراهيم» تدريجيًا، لا يعلم أي الخطوات الصائبة التي من المفترض اتخاذها في هذا الأمر.
رغم خبرة أكثر من خمسة و ستون عامًا في الحياة، لكنه أحس بالجهل في تلك اللحظة، لم يدرِ بعد أن ابنته في سنٍ يسمح لها بالزواج مثل بقية قَرَائِنُها، بالرغم من بلوغها التاسعة عشر، لكن حالتها الخاصة المصابة بها الفتاة، تجعل والدها في حالة من الرهبة الكبيرة عليها، يريدها أمامه تحت عينيه و في كنفه و رعايته طوال الوقت، لم يستطِع استيعاب أو حتى تخيل أنها من الممكن أن تبتعد عنه، رغم حبه الشديد لبقية أخواتها، و لكن تلك الفتاة بالتحديد لها معزَّة قوية و خاصة لدى والدها، يشعر بالشفقة و الخوف عليها و في نفس الوقت يريدها سعيدة في بيتٍ آمن مع زوجٍ يتقِ الله فيها، يتمنى رؤيتها سعيدة في تكوين أسرة و بيت تكون هي سيدته، و يكون الجد لأولادها مثل أخواتها.. يسعد بكونه سيصبح لديه أحفاد من أبناءه الأربعة، لقد علم من « قُصي» صباح اليوم، أن « منة» حامل بطفلهما الأول، و كذلك « نورا» في شهرها الأول، و لديه « عُبيدة»
الجميل من ابنته « شهد»، أليس لملك صغيرته نصيب من هذا الدفء الأسري الرائع ؟
كان هذا السؤال المباشر لعقله من قلبه حينما أعترف « إبراهيم» بحقيقة مشاعره المدفونة بخبايا الوتين لصاحبة الشعر الذهبي، يعلم الأب الخائف، أن ابنته تَكِنُّ الحُب لهذا التركي طيب القلب، و يدرك جيدًا أن « إبراهيم» أفضل من يرعى صغيرته و ابنته البريئة من دنس و خطايا البشر.
رفع بصره يتأمل إبراهيم الواقف في حيرةٍ من أمره، مهزوز من الخوف؛ خشية أن يرفض مجاهد الزواج.. قال الأخير بتفهم أخيرًا:
” هتعرف تحافظ على ملك ؟ ”
بدت ابتسامة واسعة على شفتيّ إبراهيم يعقبه قوله المتلهف:
” في عيني والله يا عمي، ملك مش بس هتبقى مراتي، دي بنتي.. و حضرتك عارف غلاوة الضنا.. ملك هتبقى سعيدة معايا إن شاء الله، و أوعدك إني أبذل كل جهدي عشان سعادتها و تبقى مرتاحة معايا ”
” ملك لسه طفلة يا إبراهيم، أنا بعتبرها طفلة صغيرة مبلغتش.. في حاجات كتير خاصة بحياة الكبار، صعب عليها تدركها، ملك بتستجيب ليك بسهولة عارف، بس متنساش إنها بتتعامل ببراءتها و طفولتها و معندهاش خبرة في الدنيا، لو هتتجوز ملك لازم تعرف إن عليك مسؤولية كبيرة، ملك عاوزة معاملة خاصة كأنك بتعامل طفل، بنتي كل اللي تعرفه عن الزواج، إن اتنين بيعيشوا مع بعض، لكن مسؤليتها كزوجة تجاهك هي معندهاش أي خبرة فيها، يعني بنتي مش هتعرف تسعدك كزوجة غير لما أنت تعلمها من الألف للباء كل حاجة.. إحنا اكبر غلط مننا؛ إننا مفكرناش ولا مرة نكلمها عن المواضيع دي عشان مجاش في دماغنا أصلًا إننا نجوزها ”
قاطعه زين في تساؤل:
” طيب ما والدتها تعلمها يا عمي ! ”
هز مُجاهد رأسه بعجزٍ:
” ملك من أول إبراهيم ما سافر وهي في أسوأ حالاتها و دايمًا تعبانة، و لما عرفت إنه خطب؛ انهارت و كان يوم صعب علينا، مفيش حد عرف يهديها غير مرات قُصي و بطلوع الروح كمان، مكنش فيه مجال أمها تقعد و تتكلم معاها بهدوء، كل إما لين تحاول تتكلم معاها في أي حاجة، ملك مكنتش بتسمع لها و كانت كل أسئلتها عن إبراهيم ”
صمت لينظر لإبراهيم، ثم أردف بتنهيدة حزينة:
” الله يسامحك، البت متعلقة بيك اكتر مننا ”
” يمكن عشان طريقة إبراهيم مختلفة معاها في التعامل عنكم ! المصاب بالتوحد مش أي حد يعرف يتعامل معاه، لازم يكون خبير و دارس كويس، و إبراهيم لا خبير ولا نيلة بس بيفهمها بسهولة، و هي مش عاوزة غير حد يفهمها من غير ما تتكلم، حد تطمن وهي معاه، عشان بتوع التوحد يا عمي ربنا يشفيهم.. مجرد اللمس بيبقى صعب عليهم، مش بيحبوا يتحضنوا أو يتلمسوا ولو حسوا إن اللي قدامهم زهقان منهم؛ بينهاروا و مش بسهولة تهديهم.. هما بيتعاملوا بقلبهم مش بعقلهم، عشان كده قلب ملك اتعلق بإبراهيم من صغرها، و فضل التعلق ده يكبر معاها لحد مبقتش قادرة تتخيل هتكمل حياتها ازاي و الشخص اللي بيفهمها و يطمنها مش فيها.. أنا رأيي يا عمي إنك تزوج ملك لإبراهيم، وهو عارف هيتعامل معاها ازاي.. اطمن على ملك وهي مع إبراهيم ”
قال زين تلك الكلمات، وهو يربت على كتف مجاهد يجعله يفكر في الأمر من زاوية مختلفة، بينما إبراهيم قال يؤكد على كلام زين:
” زين قال اللي جوايا، ملك مش هتبقى كويسة غير معايا يا عمي.. خليني أشوفها و اتكلم معاها ”
رفض مجاهد طلب إبراهيم حتى ولو مجرد اقتراح، فلا يصح إلا الصحيح و لا يصح الخلوة بين ملك و إبراهيم تحت أي مسمى؛ إلا برابط شرعي، و من هنا قرر مجاهد بعد استشارة شقيقها الأكبر عندما عاد من عمله، مُلقيًا عليه بسؤال يليه الآخر:
” شوف يا أُبَيِّ.. أنا هدخل في الموضوع على طول، طبعًا أنت عرفت دلوقتي إبراهيم هنا ليه.. إيه رأيك نستعجل كتب الكتاب و نسيبه يتعامل معاها بطريقته طالما هو الوحيد اللي ليه دلال عليها ؟ ”
ألقى أُبَيِّ نظرة على إبراهيم، فربت الأخير على صدره بترجي، مما ضحك زين و هتف:
” الواد شكله واقع.. جوزهاله و خلينا نبل الشربات يا عمي.. إبراهيم بقى عنده تمانية و عشرين سنة، يعني أكيد نضج و مبقاش إبراهيم الأهبل بتاع زمان، بقى إبراهيم الأبيض ”
وكزه إبراهيم في صدره هامسًا:
” مش وقته خفة دمك يا أبو سوبر مان ”
” سسه مان لو سمحت ”
في تلك اللحظة، أقبل عليهم عبيدة يصيح:
” أُوبيدة سسه مان، سسه مان لأ ”
رد والده ضاحكًا بفخر:
“جالك كلامي يا هيما، ابني بطل”
انحنى إبراهيم عليه يحمله و يتأمله بابتسامة صافية ليقول لزين بعفوية:
” ما شاء الله، جميل شبه شهد ”
تبادل مجاهد و أُبَيِّ النظرات في ضحكة مكتومة، ليتمتم الأخير بخفوت:
” جبت لنفسك الكلام ”
بينما زين تلاشت ابتسامته المرحة، و رمق إبراهيم بغيرة واضحة تنضج من عينيه على زوجته، ثم هتف بحنق وهو يأخذ ابنه من بين ذراعيه:
” اعقل الكلام و شوف أنت بتقول إيه ”
شعر إبراهيم بالاحراج فقال مصححًا الخطأ:
” مكنتش أقصد ”
هتف عبيدة موجهًا حديثه لإبراهيم وهو يقلد والده:
” اقلع التلام ”
” إيه ؟! ”
لم يفهمه إبراهيم و أخذ لثوانٍ يتأمل الصغير بعدم فهم، بينما زين ضحك رغمًا عنه و كذلك خاله و جده.. قال والده وهو يعبث في شعره بلُطفٍ:
” الكلام مش لبس عشان يتقلع يا حبيبي، و اعتذر لعمو إبراهيم.. لازم نحترم غيرنا عشان غيرنا يحترمنا ”
رد جده مجاهد وهو يحمل حفيده على فخذيه و يداعبه:
” هو ابن سنتين و نص ده يعرف الصح من الغلط ”
” الصح و الغلط بنزرعه في قلب الطفل قبل عقله من وهو صغير، حتى لو مش فاهم كلامي.. مسيره هيفهم، المهم عندي إن قلبه يفضل نضيف تجاه أي حد ”
قالها زين، فتساءل أُبَيِّ:
” حتى لو الحد ده مش كويس ؟ ”
” يا عم أنا بربي ابني زي ما الدين قال.. فيه حديث جميل أنا بحبه بيقول.. عنْ أنسٍ، أنَّ النبيَّ ﷺ قَالَ: لاَ تَباغَضُوا، وَلاَ تحاسدُوا، ولاَ تَدابَرُوا، وَلاَ تَقَاطعُوا، وَكُونُوا عِبادَ اللَّهِ إخْوَانًا، وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أنْ يهْجُرَ أخَاه فَوقَ ثلاثٍ .متفقٌ عليه.
مش عاوزه يشيل حقد أو كره و ضغينة في قلبه من ناحية حد أيًا كان مين، لكن ده مش معناه يبقى ضعيف و متهاون في حقه، أنا بربي ابني على نضافة القلب و في نفس الوقت بعلمه يبقى عنده شخصية تجبر الكل يحترمه، و إن كَل حد عليه حقه.. يا يسامح لو في مقدرته، يا ياخد حقه بالعدل ”
ربت مجاهد على كتف زين بابتسامة راضية تبعها قوله:
” و نعم الأب، ربنا يباركلك فيه يابني ”
” يارب يا عمي ”
تنهّد إبراهيم تنهيدة مسموعة يجذب بها انتباههم قائلًا:
” يعني أغني و اتنسيت كأني ما جيت، ولا إيه نظامي ؟ مقولتوش يا جماعة برضو رأيكم النهائي ؟ ”
لم تكن ملك على علم بعد بتواجد إبراهيم في الخارج، فقد كانت تلك الجلسة في حديقة المنزل.. رد أُبَيِّ بالقرار الأخير:
” تمام يا إبراهيم.. هنعمل كتب كتاب إن شاء الله في خلال اليومين الجايين، بس الأول اخلي شهد و ماما يتكلموا معاها عشان يبقى عندها فكرة على الأقل، لأنها لسه واخدة على خاطرها منك عشان سيبتها و سافرت، و أنا عارف طبعًا إنك ملكش ذنب، و متأكد دلوقت من مشاعرك الحقيقية ناحيتها ”
تساءل إبراهيم بحيرة و في عينيه نظرة ترجي:
” طيب مينفعش أشوفها و قدامكم حتى ؟ مفيش خلوة.. عارف إن ملك كبرت مبقاش ينفع اعاملها ملك الصغيرة من ناحية حدود الله، و أنا مش عاوز اتعدى حدود ربنا، بس أنا عاوز أعرض عليها الزواج بطريقتي.. قولتوا إيه ؟! ”
تدخل زين يجذب أطراف الحديث له:
” هو مفيش حاجة اسمها قعدة شرعية ؟! ما يقعدوا مع بعض يا جماعة القعدة الشرعية في وجود حضرتك طبعًا يا عمي، و أُبَيِّ برضو موجود و أنا معاكم عشان أنزل المشاريب ”
ضحك أُبَيِّ بخفةٍ يقول:
” لا بتفكر يا هندسة، ناسي إن ملك ليها حالة خاصة في الكلام.. يعني لو لقيتنا ملمومين حواليها بربطة المعلم، هتاخد بعضها و تختفي ”
أومأ إبراهيم يؤكد على كلامه:
” أُبَيِّ عنده حق يا زين، ملك بتخجل تنطق حرف في وسط كذا حد حتى لو أهلها، التركيز بتاعها هيقل و مش هتفهم اللي هعوز أقوله لها، ملك بتبقى ذكية لما بتكلم معاها على انفراد.. بحسها بتفهمني بسهولة ”
هتف أُبَيِّ بنبرة اعتراض:
” لو بترمي إنك تقعد معاها لوحدكم.. انسى، ملك لو شافتك بعد أربع سنين غياب؛ حالتها مش هتبقى كويسة و تصرفاتها مش هتبقى محسوبة ولا مدركة هي بتعمل إيه، ده غير الحرمانية، فعشان نقصر الشر و نغني له.. شهد و ماما يفهموها الدنيا و بعدين تقعد معاها في وجودي.. ده بعد إذن حضرتك يا بابا ”
هز مجاهد رأسه بتفهم، في حينٍ أن شهد خرجت تستدعي زين لأمرٍ ما، فأقبلت عليهم و عندما رأت إبراهيم، لم تصدق وجوده، فصاحت باسمةً:
” إبراهيم ! طب ازاي و امتى ! جيت امتى ؟! ”
في تلك الدقيقة، نهض زين و قد عبس وجهه غيرةً على زوجته، و وقف حائلًا بينها و بين إبراهيم، يخفيها عن عينين الآخر، ثم رمقها بنظرة غاضبة قائلًا بنبرة آمرة:
” ارجعي ”
وقفت تنظر له باستفسار، فتقدم نحوها و أدار جسدها تجاه البيت وهو يقول بنبرته الغاضبة:
” قلت ارجعي.. ادخلي و ما تطلعيش ”
” ليه ! ده إبراهيم ”
قالتها بعفوية، فقال بتحذير لها:
” إيه يعني إبراهيم ! أختك في الرضاعة ! السداح المداح اللي كنتم فيه و أنتم صغيرين ده يتنسي، خلاص أنتِ دلوقتي أم.. يعني انتبهي لأفعالك، إبراهيم غريب عنك مش زي أخوكِ، يعني متتكلميش معاه إلا بحدود، و تتكلمي معاه ليه أصلًا ! متتكلميش خالص، يلا ادخلي ”
تفاجئت من لهجته الحادة التي لأول مرة يتحدث بها معها، فبدا الحزن على ملامحها منه، و قالت بإيماءة رأس بسيطة:
” حاضر، بس ابقى اتكلم معايا بأسلوب كويس ”
ثم تركته و دلفت للداخل، فظل مكانه للحظاتٍ يلوم نفسه من أسلوبه معها، مما ساقته قدميه للذهاب وراءها و الاعتذار منها.
لحق بها قبل أن تدلف لإحدى الغرف و تغلق الباب عليها، و أردف بأسفٍ:
“حقك عليا متزعليش، من غيرتي عليكِ محستش بطريقتي و أنا بتكلم.. بس أنتِ شايفة إني غلطان في كلامي ؟ ”
ردت وهي تتلاشى النظر له؛ لغضبها منه:
” أنت مش غلطان، لكن أسلوبك فيه تجريح ليا ”
” أنا بعترف إني غلطت لما اتكلمت كده، أنا آسف يا حبيبتي.. متزعليش ”
قالها وهو يُقبِّل رأسها بأسفٍ، فردت باسمة:
” خلاص مش زعلانة، و أنا كمان غلطانة بس والله اتعاملت بعفوية.. مش هتتكرر تاني أوعدك ”
” بحبك ”
” عارفة، أنا أصلًا اتحب ”
” نرجسية أخوكِ قُصي دي عارفها ”
قالها ضاحكًا من قولها، فبادلته الضحكة السعيدة، ثم تساءلت بفضول:
” صحيح هو إبراهيم بيعمل إيه هنا ؟ نزل فجأة من غير لا احم ولا دستور.. خير في حاجة ؟ ”
” جاي عشان ملك ”
عقدت حاجبها بدهشة و سألته:
” جاي عشان ملك ازاي ؟! ”
” إبراهيم ساب خطيبته عشان ملك، إبراهيم بيحب ملك يا شهد و جاي يطلبها من عمي للزواج ”
قال جملته تزامُنًا مع خروج ملك من غرفتها و سماعها الحديث رغمًا عنها، فتساءلت ببراءة:
” إبراهيم هنا ؟ ”
استدارت لها شهد و تأملتها بحنان لتقول:
” آه يا حبيبتي، هو قاعد برا مع بابا.. إبراهيم جه عشانك يا ملك ”
أخذت بملامسة يديها مع بعضهما في حركة لا إرادية تنم عن توترها، ثم ظلت توزع نظراتها على كل مكان غير أعينهم المصوبة تجاهها، فالمصاب بالتوحد لا يستطيع التواصل البصري مع الأشخاص لأكثر من دقيقة.. قالت بصدق نابع من قلبها:
” أنا زعلانة من إبراهيم يا شهد، إبراهيم بيكذب على ملك.. إبراهيم كذاب، هو سابني و سافر، و ها يسيبني تاني.. إبراهيم بيكذب ”
اتجهت إليها شقيقتها تحتضنها، فأبعدتها ملك عنها غير قاصدة، و اتجهت لوالدتها تقول بتعصُب مفاجئ:
” قولي لإبراهيم يمشي يا ماما.. إبراهيم بيكذب ”
تنهدت شهد بحزن، بينما زين خرج يحكي لهم ما حدث، فكان قرار أُبَيِّ هو المواجهة، أن يضع إبراهيم في وجه المدفع و يجعله يتعامل مع غضب ملك بطريقته.
جلسوا بغرفة الضيوف، و جاء أُبَيِّ بملك يعاملها بحنو و لُطف قائلًا لها:
” اقعدي مع إبراهيم، و قولي له كل اللي جواكِ ”
” إبراهيم وِحش ”
قالتها بدموع وهي ترفض الدخول، فقربها أُبَيِّ منه و همس لها يهدئها:
” هو مش هيمشي غير إما تقعدي معاه، ادخلي اقعدي معاه لو عايزاه يمشي.. إيه رأيك تدخلي تقوليله أنت وِحش ؟ ”
اختلست نظرة لشقيقها و أعادت فرك يديها وهي تنظر هنا و هناك و تتحدث بألمٍ:
” بس أنا مش عايزة إبراهيم يمشي يا أُبَيِّ ”
تفهم أُبَيِّ أمرها و قال:
” يبقى تدخلي تمنعيه يسافر تاني.. يوجين بيحب ربانزل و مينفعش يسيبها ”
” يوجين بيحب ربانزل و إبراهيم بيحب ملك ”
قالتها بابتسامة خافتة، فأومأ أخيها يثبت صحة كلامها:
” و زي ما يوجين تزوج ربانزل، إبراهيم ها يتزوج ملك ”
تلك الجملة عملت مفعول السحر في قلب ملك البريء، فبعد استماعها لشقيقها الأكبر، دلفت و واجهت إبراهيم.. قالت كل ما تشعر به بصدق، لا تعرف الكذب ولا تكذب في مشاعرها بطبيعتها الطيبة، فقالت أمامهم جميعًا بغضبٍ موجهة حديثها لإبراهيم:
” أنا زعلانة منك أوي يا إبراهيم، أنا زعلانة منك يا إبراهيم عشان أنت سيبتني.. أنا عيطت كتير يا إبراهيم و أنت زعلتني كتير ”
تألم والديها عليها، بينما إبراهيم بث أسفه لها بدموعٍ تجلت في عينيه، ثم قال:
” و أنا جيت خلاص يا ملك، جيت عشان أمحي أي زعل، خلاص يا ربانزل مفيش زعل تاني.. أنا آسف متزعليش مني ”
تبادل أُبَيِّ و زين نظرات الأسف عليهما، بالأخص على ملك، بينما الأخيرة ردت بعفوية:
” هتسافر تاني ؟ ”
” أيوه، بس المرة دي و أنتِ معايا.. مش هسيبك خالص يا ملك ”
هدأت ثائرتها الغاضبة، و بدأت تبتسم ولأول مرة منذ أن دخلت الغرفة، تنظر في عينيه مباشرةً، ثم لفت وجهها بسرعة و قالت:
” هنروح تركيا عند عمو إيمير ؟ ”
تنهد باسمًا ليقول:
” هنتزوج.. أنا جيت عشان أتزوجك يا ملك، عشان تبقي معايا على طول لازم نتزوج الأول ”
سألته بابتسامة اتضحت للجميع:
” هعيش معاك كتير زي بابا و ماما ؟ ”
أومأ يبادلها الابتسامة المشتاقة:
” إن شاء الله.. تتجوزيني بقى ؟ ”
هزت رأسها بموافقة، و أشارت لحجابها هاتفة:
” أنا مش بخلع الحجاب خالص ”
” ملك شطورة، اشطر بنت ”
عندما لاحظوا جميعهم طريقة إبراهيم مع ملك، أيقنوا و تأكدوا أن ابنتهم في أيدٍ أمينة، و بالفعل بعدها بأيامٍ تم عقد القران بحضور أفراد العائلتين جميعهم بخلاف « قُصي» الذي لم يستطِع التفرغ من عمله للسفر و حضور زفاف أخته الصغرى، فقام « سيف» بتسجيل الزفاف الراقي البسيط و إرساله له، و الذي أقيم على مساحة خضراء واسعة أمام البحر، و امتد لساعتين فقط في ساعة العصر، ثم بعدها ودعوا الجميع للسفر و المكوث ببلد إبراهيم الأم.
بعد كتب الكتاب، أراد إبراهيم التحدث مع ملك على انفراد، فجلس معها في غرفتها و أخذ يتأملها وهي بفستان أبيض رقيق جميل مثلها، قائلًا بحُب و بنبرة حنونة:
” أنا ليكِ أنتِ و بس يا ملك، مش هبعد تاني والله ”
صمتت هي و ظلت تجوب المكان بعينيها، بينما هو أردف في محاولة منه للمس وجهها ليجعلها تنظر له:
” اطمني و أنتِ معايا يا ملك، مش عاوزك تخافي من أي حاجة.. أنا جنبك يا حبيبتي، أنا بحبك يا ملك، بحبك بجد و عارف إنك فهماني و فاهمة قصدي، حبيبتي شطورة و بتفهم إبراهيم كويس ”
أبعدت يدها عن وجهها و نظرت له لثانية، ثم نظرت لقميصه الأنيق و قالت:
” لون القميص حلو ”
” طب و أنا ؟ ”
” و أنت حلو ”
حاول الاقتراب منها مع ابقاء مسافة لا بأس بها بينهما؛ كيلا تنزعج منه، و همس في مداعبة و نبرة مرحة:
” طب قولي بحبك يا إبراهيم كي تزيد وسامتي ”
” أنا بحبك فعلًا يا إبراهيم ”
همست بها، و أخذت تلعب في أكمامها، أما هو صمت لدقائق يعيد ما قالته في رأسه، لقد نطقتها تلك المرة بمشاعر حُب حقيقية، ليست مشاعر مهزوزة و إنما حقيقية كأي اثنين تربطهما قصة حُب قوية.
تنهد بأريحية، و قال:
” قوليها تاني، عاوز أسمعها منك تاني يا ملك ”
رفعت عينيها تنظر لعينيه في ثوانٍ معدودة همست فيهم:
” بحبك يا إبراهيم ”
و أنزلت عينيها تتابع العبث بفستانها، أما هو لأول مرة يخفق قلبه لسماع كلمة أُحبك من أحد، استشعر صدق الكلمة و قوتها و حقيقتها، استشعر أنها نابعة من قلبها بالفعل، و لم تكن مجرد كلمة ألقتها فحسب من شدة عفويتها، أحس بأنه سيحلق من سعادته، اتسعت ابتسامته الصامتة و ظل يتأملها بنظراتٍ عاشقة حالمة.. كبرت ملك حقًا ولم تعد فتاة صغيرة في نظره، إنها أنثى بارزة الجمال الحقيقي و المشاعر الصادقة التي ألفت بين قلبيهما المودة و السكينة.
مُصاب التوحد مثل أي شخص آخر، يمكن أن يشعر بالحب ويتجرأ على العلاقات العاطفية، وعلى الرغم من التحديات الاجتماعية والاتصالية التي يمكن أن يواجهها، إلا أن الحب يمكن أن يكون جزءًا مهمًا من حياته، فقد يجد مريض التوحد شريكًا متفهمًا وداعمًا يشاركه حياته ويتفاعل معه بطريقة تتناسب مع احتياجاته الفريدة، و ملك وجدت الحُب الحقيقي مع إبراهيم، و سيبدأ رحلة تعليمها كل شيء.
همس لها في محاولة منه لضمها له ليجعلها تتقبل الاحتضان و اللمس منه:
” احضنيني يا ملك ”
نظرت له نظرات استفسار، و قبل أن تدير وجهها عنه، أدار هو وجهها له ثانيةً و أحاطها منه برِقَّة، فحاولت انزال كفيها من على وجهها، لكنه أبى و قال بهدوءٍ:
” خدي نفس.. شهيق و زفير بهدوء يلا.. اسحبي الهوا بالراحة و خرجيه بشويش، لو عملتيها تلات مرات هجيب لك حاجة حلوة ”
تحمست و بدأت في المحاولة لعملية الشهيق و الزفير وهو يحيط وجهها، فهي بطبيعتها لا تحب اللمس الكثير، و لكنها كانت تبدي شجاعة لا بأس بها تحت الضغط من تعمد لمسها، و عندما انتهت نهضت مبتعدة عنه في الحال، بعد أن دفعت بيديه عن وجهها في حركة متعصبة، فوقف أمامها و أشار لقلبه بدموع فقط اصطنعها لتحقيق رغبة تقبلها احتضانه فيما بعد:
” إبراهيم حاسس بالوجع هنا.. أنا موجوع يا ملك عشان أنتِ بعيدة عني، ممكن تحضنيني ؟ احضني يوجين يا ربانزل ”
بدأت في تحريك يديها ببطء دلالة على محاولتها لاحتضانه، فلم يتريث و شدَّها برفقٍ يحتضنها، بينما هي تشنجت أعصاب يديها و أبت احتضانه، ظل يهمس لها:
” احضني إبراهيم.. إبراهيم حبيبك يا ملك.. احضنيني يا حبيبتي، متخافيش.. اطمني يا ملك و أنتِ معايا، أنا بحبك.. متخافيش ”
بدأت ترفع يديها بصعوبة لتعانقه، أما هو شدد من عناقه لها يؤكد حبه و دعمه الشديد لها، و هذه أطول مدة تقبع ملك في حضن أحد.. ظلت بين ذراعيّ إبراهيم لمدة دقيقة كاملة، و عندما أحس بأنها تريد الافلات، ابتعد عنها بحذرٍ و أخذ يهدئها بقوله:
” أنتِ كويسة، أنتِ قوية، قولي اللي نفسك فيه و أنا هجيبه لك عشان أنتِ شطورة و حضنتي إبراهيم.. حبيبك و زوجك، يوجين بتاعك، مِلك ربانزل و بس ”
تساءلت بتلقائية:
” هسافر معاك ؟ ”
” طبعًا، مفيش مكان هروحه غير و أنتِ معايا فيه، خلاص يا ملك أنتِ بقيتي مراتي.. مش هسيبك أبدًا يا حبيبتي، أنا معاكِ دايمًا ”
استطاع إبراهيم احتواء ملك و تقديم لها سبل الدعم المعنوي المختلفة، فالاحتواء يترك أثره ويتجلّى مفهومه بشكل أكبر، عندما يواجه الشخصان اللذان تربطهما علاقة معينة سواءً شخصية، أو مهنية، مشكلة ما، ويقوم أحدهما بحلها والوقوف إلى جانبه للخروج من أزمته.
و الاحتواء، ليس فقط عناق الشخص واحتضانه، إنما يقترن بالتعاطف معه وامتصاص غضبه، وإنْ كانت سلوكياته غير مُرضِية.
يُفسِّر علم النفس التحليلي الاحتواء، بأنه الطريقة التي يستوعب فيها أحدنا الطرف الآخر، و يشمله و يهتمّ به و بمشاعره، بشكل يغطّي جوانب حياته، أي هو تمامًا كالوعاء الكبير الذي يحتوي الوعاء الصغير.
و إنْ كان ليس للاحتواء عمرٌ، أو وقت أو زمن، إلا أنّ ” الشخص المحتوي” يوصف بقدرته على رعاية غيره بشكل يشبه احتواء الأم لأولادها بشكل تبادلي و متوازٍ.
لثم قُبلة حنونة صغيرة على جبينها و أردف:
” سنة 2029 هي أحلى سنة بالنسبة لي بعد السنة اللي اتولدتِ فيها، عشان بقيتي من نصيبي و مراتي رسمي يا ملك الحمدلله ”
ردت هي باسمة و بحماس مفاجئ:
” و سنة 2025 بحبها عشان كان فيها إعلان المراسم ”
عقد حاجبه بعدم فهم، و تساءل:
” إعلان مراسم إيه ! مش فاهم ”
” هو من أربع سنين عشان كده أنت مش فاكره ”
داعب مقدمة أنفها بسبابته في حركة مرحة قائلًا:
” طيب فكريني بيه كده ”
صدرت منها ضحكة لطيفة مثلها عقب قولها:
” و لقيتك حُضن لقيتك بيت .. أجمل بكتير مهما اتمنيت ”
اتسعت ابتسامته يتساءل:
” حبيتي حضني يا ملك ؟ ”
أومأت دون النظر له، فعاد بسؤال آخر:
” نجرب تاني ؟ ”
لم تنطق بشيء، فجذبها ثانيةً يحتضنها تحت محاولات الافلات منها، رغم الارتياح الكبير الذي تشعر به وهي بين ذراعيه، و لكن حساسيتها ضد اللمس هي من تتحكم بها، أما عواطفها تريد إبراهيم و احتواء إبراهيم.
«ولسه كمان ولسه كمان لسه.. أحلى أيام
جاية معاك حاسه.. ولقيتك حضن لقيتك بيت..
أجمل بكتير مهما تمنيت.. كان عندي يادوب حلم صغير
والدنيا معاك عمالة في عيني بتتغير.»
و بالفعل إبراهيم أصبح دليل ملك لكل شيء صواب، أحبها حُبًا جمًا و علمها كل شيء، و تحسنت حالتها و أصبحت أم جميلة لطفلة أجمل اسمها « مِياسين» تعني ضوء القمر بالتركية، هي الآن بعمر العامين.
________.
في خلال الأعوام المنصرمة و خاصةً العام الذي انتقلت فيه « مفيدة» للدار الآخرة، كان عامًا حزينًا على الجميع بلا استثناء، لقد فقدوا روحًا مرحة جميلة، و أم حنونة و جدة رائعة و حماة طيبة القلب.. غادرت مفيدة و أخذت روح و بهجة المنزل معها.. بكت هاجر كثيرًا، و كان بكاء عائشة لا يقل عنها، فهي اعتبرتها والدتها و عاملتها مفيدة بكل حنانٍ و حُب، حاول « بدر» اظهار القوة و الثبات أمام أخوته فلم يقدر و بكى في صمتٍ أمام الجميع، و خارت قوة « سيف» وهو يحمل نعش والدته، حتى ساعده الناس على الوقوف ثانيةً.. ظل يبكي كالصغار، فاحتضنه أخيه و بالكاد استطاع احتوائه بصعوبة.. بكى سُليمان و تعالى صوت كِنان بالنحيب يريدان جدتهما..
الجميع كان في حالة يرثي لها تمامًا، دامت حالة الحزن لفترة طويلة، لم يعد للبيت طعم دونها، و كأن مذاق السعادة فيه ذاب ذوبان السكر في الماء.
ترأس « بدر» مقدمة نعش والدته، يحملها بقدمين تهتزان من الضعف الذي حلَّ به في ذاك اليوم، و بجانبه شقيقه يكاد ينفطر قلبه من كثر نزيف عينيه الدموع.. مرضت فجأة و ماتت فجأة، كانوا يأملون جميعًا الشفاء لها، و لكن لكل أجلٍ كتاب و الموت حتمي لا محالة.
أنزلها بدر القبر بيده و جسده يرتعش يحاول الاستيعاب أنها لم تعد موجودة بينهم، يحاول الاستيعاب أنها غادرت الدنيا، لم يعد لديه أب أو أم، أصبح هو و أخويه أيتام الوالدين، و ما أصعبه من فراق و ما أصعبه من شعور !
يضعها بدر تجاه القبلة و عينيه تذرف الدموع حرها، و كأنها تتحدث بكل معاني الحزن..
يا من ترقدين الآن في برزخ لا نعلم عنه شيئًا، هل كان يجب عليكِ أن ترحلي بهذه السرعة ؟ كيف لا أبكيكِ و الألم يعتصرني حزنًا وكمدًا ؟ أمن الإنصاف أن تتركينا في هذا الوقت ؟ لماذا الآن..؟ لماذا لم تمنحينا فرصة كافية لنقدم لكِ المزيد، لأمنحكِ مزيدًا من السعادة، كيف و ألف كيف يا أمي ؟
والله إن فراقك صعب و شاق عليّ يا أمي، أعلمُ أنَّه لا اعتراض على قضاء الله وقدره، لكنه الموت يا أمي، المصيبة الكبرى في هذه الدنيا، إنه ذلك الشيء الذي لطالما أفزعني و أخافني، لأنه يعني لي الفقد والحرمان الأبدي.. لقد أسرع إليكِ الموت و خطفك دون انتظار.. رحيلِك كسرنا جميعًا، لم يكن سهلًا ولن يكون أبدًا، بكى الجميع لأجلك، حزن الأقربون وغيرهم على وداعك لنا، اسودّ الفؤاد كمدًا وحزنًا، فانطفأت الروح.. وغابت البسمة، ورحلت عن نفوسنا مشاعر الاطمئنان والأمان.
و دامت الأيام الحزينة لأشهر لحين الوصول لعامنا هذا عام 2034 و لم ينسَ أحد « مفيدة» إنها في القلب و ستظل بهجة القلب.
أم الفرن الخاص بعائشة، تجلس هاجر و تترأس ادخال الخبز للفرن، برفقة عائشة و معهما نورا اللتان تساعدان في تجهيز الخبز و اعطائه لهاجر، اجتمعن ثلاثتهن أمام فرن عائشة للعجن و الخبز.. الثلاث نساء يفعلن ذلك الأمر أو الاجتماع الطارئ أمام الفرن كل أسبوعين عند كل واحدة منهن، و اليوم أمام فرن عائشة، و ها هُنَّ قد أوشكنَّ على الانتهاء، أما بدر أخذ أولاده الثلاثة و اتجه لبيت عمه مصطفى للجلوس معه و مع زياد لحين انتهاء النساء.
نهضت عائشة تقول:
” بما إننا فاضلنا حاجات بسيطة، هقوم اجيب حتة جبنة حدقة و بطيخ ناكله بالرقاق، الأكلة دي بالنسبة لي في حتة تانية ”
” و بالنسبة لي أنا كمان والله ”
قالتها نورا باشتهاءٍ لها، فردت هاجر تؤكد على كلامهما:
” و بالذات لو الجبنة الحدقة عليها شوية زيت ”
أردفت عائشة وهي تتجه للمطبخ:
” خلاص على ما تخلصوا، هحضر الأكل و اعلق على الشاي ”
أما عند منزل مصطفى، يجلس بدر في الحديقة الداخلية و يُجلس ابنته صاحبة العام « قُدس» على فخذيه، يتحدث مع زياد في عدة أمور تاركان الأطفال يلعبوا سويًا.
خديجة تلعب مع كيان أختها، و ريَّان يقود الدراجة الصغيرة في أرجاء الحديقة، بينما كِنان يستعرض مهاراته في الكونغ فو أمام سُليمان، قائلًا له:
” تلاعبني ؟ ”
رد سُليمان بمنطقية:
” أكيد هخسر لأنك بتتعلم كونغ فو و أنا معرفش حاجة عنها، بس أنا بتعلم سباحة و أنت لأ، فمينفعش اجي اقولك تسابقني في السباحة.. كل واحد فينا شاطر في الحتة بتاعته، أبتاه قال كده ”
هذا الطفل صاحب السبعة أعوام و نصف رُزق حكمة العقل و الرزانة و النضج المبكر، مما جعله محط أنظار الكثير من الأهالي، فمن غير المعقول أن يكون طفل في مثل عمره لديه الحكمة في الحديث و رصانة العقل و يُحب القراءة أكثر من اللعب، و لكن حفظ و دراسة القرآن منذ سن صغير؛ يؤدب الشخص و يُهذب طباعه، بالإضافة لتعاليم والديه المستمرة له.. لقد أتم سُليمان حفظ ثمانِ أجزاء وهو في السابعة، وهو ليس أول طفل يحفظ أكثر من جزء في عمره.. يوجد الكثير ممن أتموا حفظ القرآن كاملًا في العاشرة من عمرهم، و ذلك لأن ذاكرة الطفل تحفظ بسرعة عن ذاكرة الكبار، فحفظ القرآن في عمر مبكر أفضل بكثير من حفظه بعدما تكبر، و لكن لا بأس.. ما دمت تسعى فأنت بخير.
سأله كنان بتلقائية طفل:
” عايز تبقى إيه لما تكبر ؟ ”
فكر سُليمان لثوانٍ، و قال:
” أنا بحب السباحة أوي، بس عاوز أبقى زي أبتاه بدر.. أبتاه بدر أحسن أبتاه ”
” أنت هتصوم في مرضان.. رمضان ؟ ”
لم يكن متبقي على الشهر الفضيل غير أسبوع فقط، فأجاب سُليمان بحماس طغى عليه:
” إن شاء الله، أبتاه بدر قالي صوم للضهر عشان متتعبش، بس أنا عاوز أصوم اليوم كله زي أبتاه و ماما عائش.. أنا متأكد إن ربنا حبيبي هيخليني قوي و أصوم اليوم كله ”
رد كنان وهو يركل الكرة خاصته:
” و أنا كمان قوي و هصوم اليوم كله ”
” قول إن شاء الله، عشان إحنا مش هنقدر نعمل حاجة غير بمشيئة ربنا، أبتاه بدر قال كده ”
” و أبتاه زياد برضو قال كده ”
قالها كنان بغيرة، رغم أنه ينادي والده بـ بابا وليس أبتاه.
جلس بجانب سُليمان الذي تميزت طباعه بالهدوء، و تفضيله لقراءة القرآن دون اللعب، فكان يقرأ في مصحفه السورة التي عليه تسميعها لوالدته؛ لأن بدر منشغل معظم الأوقات في الشركة، و هذا لا يمنعه من تعليم أبناءه منهج الدين الاسلامي.
تساءل كنان وهو يتأمل السورة التي يقرأها سُليمان:
” عارف يا سُليمان.. النار لها سبع أبواب و المسلمين هيدخلوا من باب منها ”
رمقه سُليمان بدهشة بدا فيها الخوف و قال:
” لأ المسلمين هيدخلوا الجنة عشان بيسمعوا كلام ربنا ”
” إحنا هندخل النار الأول ”
التمعت دموع الخوف في عيني سُليمان فهتف بنفي:
” لأ مش هندخل النار عشان إحنا مؤمنين بربنا و سيدنا محمد عليه الصلاة و السلام ”
” اللي عندهم ذنوب كتيرة هيدخلوا النار ”
” بس أنا بسمع كلام ربنا ”
قالها سُليمان ببراءة، فرفع كنان كفيه يدعو بتلقائية:
” اللهم إن كانت ذنوبي كثيرة، فوزعها على صحابي ”
ثُم أضاف:
” بالذات الواد هيثم عشان أطول مني ”
رمقه سُليمان بدهشة للحظات، ثم استدعاه والده للعودة للبيت، فنهض وهو يقول باسمًا لابن عمته:
” اللي بيحب ربنا بيسمع كلامه و ربنا بيدخله الجنة، و أنا بحب ربنا و بسمع كلامه ”
ثم غادر مع والده و شقيقيه، بينما غادرت نورا و هاجر، و اتجهت عائشة للاستحمام، ثم أخذت ابنتها من بدر لترضعها، فنامت معها رغمًا عنها.
مرت ساعة اتجه بدر خلالها للعمل في مكتبه بالمنزل.. أتاه اتصال هاتفي من المهندس مرتضى يقول:
” السلام عليكم يا بدر، آسف لو اتصلت في وقت أنت مش فاضي فيه، بس الإعلامي
« آدم المنزلاوي» عاوز يعمل معاك لقاء تتكلم فيه عن أحدث اصدارات الشركة ”
تحول وجه بدر للعبوس و قال بنبرة غاضبة:
” حضرتك عارف يا باشمهندس رأيي في الموضوع ده.. آدم اعلامي منافق و أنا مبحبوش ”
” يا بدر إحنا هناسبه ! اعمل معاه المقابلة و خلاص ”
رد بدر باعتراض صارم:
” أبدًا والله، أنا آسف يا باشمهندس، شوف أي حد غيري، آخر مرة جه يعمل زيارة للشركة عشان المنتج الجديد، قل ادبه و شدينا سوا.. أسلوبه مش كويس و أنا مبحبش اتعامل مع حد قليل الذوق، و ابن عمه اللي اسمه عثمان السنة اللي فاتت في نهار رمضان كان جاي معاه و قاعد قدامي في مكتبي و بكل بجاحة يطلع السيجارة، بقوله رمضان، قالي سلملي عليه ! ده ينفع بالله عليك ! العالم دي ابعدني عنها بالله عليك يا باشمهندس، عشان ميحصلش خناقة تاني ”
تنهّد مرتضى بتفهم و استسلام قائلًا:
” خلاص يا بدر هشوف حد تاني.. مع السلامة ”
” في رعاية الله ”
وضع بدر هاتفه و ظل يستغفر الله قائلًا لنفسه:
” الله يهديهم أو يهدهم، ملهمش حل تالت ”
في الصالة على الأريكة يجلس سُليمان يحفظ المقرر عليه، عند الآية « ٤٤» من سورة الحجر، توقف
« سُليمان» بعد تكرارها ثلاث مرات، و في المرة الثالثة أحس بالقُشَعْريرة تسري سريان الدم في سائر جسده، و كأن موجة من موجات برد الأزيرق الشديدة تحوم حوله تزامُنًا مع انحدار الدموع على وجهه تصف حالة الخوف التي انتابته و أَلَمَّت به
بعد قراءته للآية (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ).
لقد علمه والده تدبر القرآن عند قراءة كل حرفٍ منه، فتوقف يتدبر الآية، فإذا به يخشع لقول الله و تعتري الرهبة قلبه و جوارحه، فيأخذ مصحفه و يتجه لوالده المُنهمك على عمله في مكتبه، و بعد أن طرق الباب بأدبٍ، آتاه صوت والده يسمح له بالدخول.. دلف الصغير و في عينيه تتعلق الدموع و تعكس أمارات وجهه خوف دَفِين بقلبه، فيتساءل بخوفٍ بدا عليه وهو يشير للآية في المصحف:
” أبتاه.. ربنا سبحانه و تعالى قال إن النار لها سبعة أبواب.. كِنان قالي إن المسلمين هيدخلوا من باب منها، أنا خايف يا أبتاه.. مش عاوز أدخل النار، أنا عاوز أدخل الجنة مع سيدنا مُحمد و الأنبياء و الصحابة، مش المفروض يا أبتاه إن المسلمين ما يدخلوش النار و يدخلوا الجنة مع سيدنا مُحمد عشان آمنوا بيه ؟ ”
تبسم والده بسمة صافية تزيل آثار الرهبة بقلب صغيره، و قرَّبه منه يَرْبِت على ظهره ليهدأ و في قلبه حُنُوٌّ له و به، ثم قال بنبرة هادئة ليِّنة:
” كنان ابن عمك مقالش حاجة غلط لكنه يا حبيب أبوك مقالش كل حاجة، يعني يا سُليمان ربنا سبحانه و تعالى خلق النار و خلق لها سبع أبواب و في باب منها بالفعل للمسلمين، لكن يا بابا مفيش مُسلم بإذن الله مُخلد في النار.. اللي بيعمل ذنوب و معاصي بيدخل من باب اسمه جهنم و ده أعلى درك في النار و أخف عذاب.. النار يا حبيبي زي ما القرآن قال لها سبع أبواب كل باب منها فيه دركات، اسمها دركات عشان فوق بعضها زي الطبقات كده، في الدرك الأول منها اسمه جهنم و الدرك التاني اسمه لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية. ”
سكت « بدر» هُنَيْهة يقرأ تعابير وجه ابنه، فوجده متعطش للمعرفة أكثر، ليقول الأخير بفضولٍ لازمه:
” ومين اللي هيدخل الدركات التانية ؟ و ليه إحنا ندخل جهنم و إحنا مسلمين ؟ ”
تساؤلات « سُليمان» الكثيرة حول الآخرة و الجنة و النار؛ نتجت عن تربية والديه الصالحة له، لقد زرعا في قلب الصغير حُب المعرفة حيال كل ما يخص الدين الإسلامي، نشأ على حُب الله و حُب رسوله المصطفى و حُب صحابته دون رؤيتهم، وهذا هو أصدق حُب، و بالحُبِّ الصادق يزداد لديه الوعي في سنٍ مبكرٍ، فيتعلق قلبه بالقرآن أكثر و بدلًا من حفظه دون فهمٍ؛ يسعى لتدبره و فهم معانيه و مقاصده و التعمق في مفرداته و تراكبيه القوية، و لم يكن ذلك من تلقاء نفسه، إنما هذا كله نتاج تربية دينية صحيحة بدأت من تأثر سمعه بصوت والدته وهي تقرأ القرآن و تسمعه مرارًا حينما كانت حامل به، لوالده المُعلم و المُحفظ الذي ساهم بشكلٍ كبير في تكوين شخصيتة المتمسكة بحبل الله منذ نعومة أظافره.
رد « بدر» باستمتاعٍ بدا عليه من محاورة
« سُليمان»:
” اللي هيدخلوا جهنم هم المسلمين العصاة، هيتحاسبوا على قد ذنوبهم و بعدين ربنا يخرجهم و يدخلوا الجنة، مفيش موحد بالله مسلم هيخلد في النار، الخلود في النار للمشركين، إنما كل اللي شهد بأن لا إله إلا الله و أن محمد رسول الله هيدخل الجنة و المسلمين في الجنة بإذن الله.. أما يا حبيبي الدرك التاني للنصارى اللي أدركوا سيدنا محمد و لم يؤمنوا به، و الدرك الثالث لليهود اللي برضو أدركوا سيدنا محمد ولم يؤمنوا به، أما الرابع بيدخله الصابئون و دول اللي أشركوا بربنا و عبدوا الكواكب و النجوم و فيه منهم مؤمنين بربنا لكن لا دين لهم ولا نبي و اللي يعبد ربنا يا سليمان من غير ما يؤمن بالأنبياء و الرسل ده مش مسلم و بيدخل نار السعير اللي هي الدرك الرابع منها.. الخامس بيدخله المجوس اللي هما عبدة النار و السادس المشركين و السابع بيدخله المنافقين.. هما اللي في الدرك الأسفل من النار و ده أشد درك للعذاب. ”
” طيب يا أبتاه حضرتك قولت قبل كده إن فيه وادي في جهنم اسمه سقر للي مش بيصلوا، هما بيبقوا مع المجوس ؟ ”
” هما المجوس دول إيه ؟ مش هما كفار كفروا بالله ؟ ”
أومأ سليمان يحث والده على الاستكمال، فأردف
« بدر »:
” و اللي بيترك الصلاة جحودًا و يستكبر عن أدائها و يكذب وجود الجنة و النار زيه زي الكافر، بيحشر في وادي سقر، و فيه فرق بين اللي بيتركها تكاسل و جحود، لأن المتكاسل ده ربنا بيهديه و بيرجع يصلي أما الجاحد فهو تركها بإرادته و مش معترف بيها و بيستهزئ بأوامر الله ”
” زي الآية اللي بتقول يا أبتاه بسم الله الرحمن الرحيم ( مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّىٰ أَتَانَا الْيَقِينُ) ”
” أيوه يا حبيبي، تارك الصلاة جحودًا يعامل معاملة الكافر زيه زي اللي مش مؤمن بالله، لأن الإيمان بالله يشمل الإيمان بيوم الدين وهو ما تركش الصلاة بمزاجه و بس لأ ده كمان مش معترف بالآخرة فهو كده زيه زي الغير المسلم ”
فكر سُليمان للحظاتٍ في كيفية شكل و عذاب النار، فقال في براءةٍ منه يسبقها الخوف:
” بس أنا يا أبتاه مش عاوز أبقى مسلم عاصي.. عشان.. عشان مش عاوز أدخل النار أصلًا، أنا عاوز أبقى مع سيدنا مُحمد عشان أنا بحبه و بحب ربنا ”
سكت ثوانٍ و اقترب يلثم خد والده بلُطفٍ منه قائلًا:
” و بحبك أوي يا أبتاه عشان بتعلمني كل حاجة ”
احتضنه والده بحنانٍ مُردفًا:
” طول ما أنت بتسمع كلام ربنا و سيدنا النبي فأنت هتدخل الجنة معاه يا حبيب أبوك، بس مفيش مسلم مش عاصي يا سُليمان.. كلنا عصاة يا حبيبي لكن المهم إننا نتوب دايمًا بعد كل غلط نعمله و نقع فيه غصب عننا، ادعي ربنا دايمًا يا حبيب أبوك إنه يحفظك من الفتن و الوقوع في الذنوب و المعاصي، قوله يارب اغفر لي و ارحمني و ارزقني حُسن الخاتمة ”
ابتعد « سُليمان» عن حُضن والده الدافئ، و هتف بحماسٍ يدلي بخبايا قلبه الطاهر:
” أنا بعمل زي ما علمتني يا أبتاه، لما بصلي و بسجد بدعي لكم كلكم عشان في السجود بيبقى الإنسان قريب من ربنا جدًا، فأنا بقى لما بسجد بقول يارب اغفر للمسلمين كلهم الصاحيين و الميتين ”
صدرت ضحكة خفيفة من والده تلاها ضمه له ثانيةً وهو يمازحه بقوله:
” اسمها الأحياء منا و الأموات يا ليمو.. يعني ينفع تدعي للصاحيين بس و تسيب النايمين ؟ افرض كان تعبان زي ماما عائش كده و نايم.. ننسى ندعيله بقى عشان مش صاحي ؟! ”
ضحك سُليمان حتى بدت نواجذه الصغيرة، و قال:
” حاضر يا أبتاه، اللهم اغفر للمسلمين كلهم الأحياء منا و الأموات، و يهدي كنان عشان هو بيخوفني ”
في تلك اللحظة دلف شقيقه الأوسط « ريَّان» يهتف بنبرة عالية أقرب للصياح و بيده مسدس مائي يوجهه صوب أخاه:
” ريَّان سسه مان ”
نظر سُليمان لوالده ضاحكًا بخفة وهو يقلب كفيه على بعضهما في حركةٍ تشبه والده كثيرًا، ثم أردف:
” بيعرف يقول سوبر مان بس هو بيقلد عابد ابن خالو زين، و عابد طلع شبه عُبيدة كل شوية يقول آبد سسه مان ”
عقب جملته المرحة، التفت لأخيه الذي يصوب المسدس نحوه، و رفع يديه باستسلامٍ يشاركه اللعب، فهو يدرك جيدًا أن ريَّان يحب تلك الحركة منه:
” خلاص خلاص استسلمت.. ريَّان سسه مان، خلاص أنت الكسبان ”
أخفض ريَّان مسدسه و قال بطريقة يشوبها الدلال على أخيه جعلت بدر يقهقه بضحكاتٍ مسموعة:
” عوفت عنك ”
رد سُليمان يشارك والده الضحك و يتجه نحو شقيقه يضمه له بحنان:
” اسمها عفوت عنك، و عشان أنت جميل يا ريَّان و عفوت عن ليمو حبيبك، هجيب لك حاجة حلوة ”
تأمله ريَّان للحظاتٍ بتفكير، ثم قال ببراءة:
” وجيب لقُدس كمان عشان متزعلش مننا ”
تنهّد بدر بارتياحٍ مع قوله ابنه و أدرك في تلك الدقيقة الثمينة أنه أحسن التربية و نجح في توطيد علاقة الأشقاء الثلاثة ببعضهم البعض منذ الصغر.. رد بدر عليه وهو ينحني و يحمله ليُقبِّل خده:
” ينفع أشترك معاكم في الحاجة الحلوة و نجيب لماما عائش كمان ؟ ”
أومأ ريَّان باسمًا بينما سُليمان قال لوالده بعفوية بجملة يسمعها تُقال منه دائمًا:
” أكيد حضرتك لازم تجيب لماما عشان هي بنتك الأولى.. صح ؟ ”
ضحك والده بإيماءة رأس يؤكد على قوله:
” صح طبعًا، عندك مانع يا أستاذ سليمان ؟ ”
” العفو يا أبتاه لا سمح الله، دي ماما تمنع عني قصص قبل النوم سنة كاملة.. و بصراحة هبقى فرحان لو منعتها.. كل يوم تحكيلي ذات الرداء الأحمر عملت إيه، طب بالله عليك يا أبتاه أنا مالي أنا و مال الرداء أحمر ولا أبيض، أنا أقولها يا ماما يا حبيبتي احكيلي قصص عن الصحابة وهي تقولي حاضر و تبدأ تحكيلي الاقيها هي اللي نامت في نص الحكاية، فأصحيها تصحى و تقولي تعالى بقى احكيلك حكاية ذات الرداء الأحمر ! طب و بالنسبة لسيدنا عمرو بن العاص اللي معرفتش برضو فتح مصر في سنة كام ! ”
قال سليمان كلماته تلك بطريقة هزلية لا تقلل من احترامه لوالديه، في حينٍ أن بدر لم يستطِع تمالك نفسه من كثرة الضحك على شكل ابنه و حركات يده وهو يشرح له معاناته مع حكايات والدته، فجلس على الأريكة خلفه وهو مستمر في الضحك، و أنزل ريَّان يُجلسه على فخذه، ليقول وهو يتأمل سُليمان بقلة حيلة:
” مش سهل أنت برضو يا ليمو ”
” بتتريق عليا يا ابن اللذين ! طب إيه رأيك بقى مش هحكيلك قصص تاني و مش هقولك بقى نسمة و الذئب عملوا إيه ”
كان ذلك صوت ” عائشة ” التي استيقظت بفضل ابنتها « قُدس»، و جاءت تحملها بين ذراعيها و تحاول جعلها تنام، فهتف سُليمان بتلقائية جعلت بدر يعود للضحك عليهما:
” إن شاء الله ياكلها أو هي تاكله و نرتاح منهم الاتنين ”
” ولا حتى عاوز تعرف قصة المعزة الحادي و البادي و اللي بتضرب بالعكازي ؟ ”
” هي مش البادي دي يا ماما العليقة اللي بتجبيها للفراخ ؟! ”
” يا خفة دم أمك ”
قالتها عائشة وهي ترمقه بغيظٍ مصطنع، مما تقدم سليمان نحوها و أخذ يدها يُقبِّلها و يقول:
” خلاص يا أحلى ماما في الدنيا.. احكيلي اللي حضرتك عايزاه كله و أنا كلي ودان صاغية ”
” ودان صاغية ! ”
هتفت بها وهي تتبادل النظرات مع بدر بابتسامة متعجبة، ليقول هو ضاحكًا:
” هي على أيامنا كانت آذان صاغية، بصي مش هتفرق ودان من آذان، المهم إنه هيسمعلك زي ما أنا كنت بسمعلك كده.. أيام حبوب الصداع فاكرة ”
قال جملته الأخيرة وهو يغمز لها، فقالت تؤكد على قوله وهي تجلس بجانبه:
” ياه، أيام والله.. مكنتش ببطل رغي والواحد كان عنده نشاط رهيب للكلام كأني راديو مبيفصلش، كبرنا بقى و عجزنا يا أبو العيال ”
” إيه اللي كبرنا و عجزنا ! ده أنتِ يدوب لسه هتكملي التلاتين، أنا اللي المفروض أقول الكلام ده.. خلاص قربت على الأربعة و الأربعين ”
مالت عليه و لامست الشعر الأبيض الصغير المتناثر بعشوائية في رأسه و لحيته، و قالت بنبرة مداعبة:
” رغم الشعر الأبيض الجميل اللي طلع لك ده، بس أنت بالنسبالي في عز شبابك، و في كل مراحل حياتك اسم على مسمى.. بدر و أنت بدر، و عاجبني و بحبك ”
رد ريَّان قبل أن يرد والده:
” و أنا كمان بحبك يا عائش ”
هتف سليمان ضاحكًا من شقيقه:
” الجملة محفوظة خلاص.. مفيش مفر، بقينا عارفين رد حضرتك يا أبتاه ”
شاركه بدر المزاح قائلًا:
” طب مش بذمتك يا ليمو أمك تتحب ؟ دي حتى عليها صينية مسقعة باللحمة.. تخلي الجعان يصوم ”
” ولا القصص بتاعتها، يا سلام على الجمال يا أبتاه.. عليها قصة ذات الرداء الأحمر تجيب أجلي ”
وزعت عائشة نظراتها عليهما بغيظٍ و بغضبٍ مزيف هاتفة:
” اممم، أنتم اتفقتوا عليا يعني ؟ طيب ماشي أنا هوريكم.. مفيش أكل النهاردة ”
نهضت و تركت ابنتها نائمة على الأريكة، و همَّت بالذهاب غاضبة، فلحق بدر بيدها و جذبها برفقٍ يُجلسها على فخذه هامسًا لها:
” يرضيكِ اتجوز عليكِ ؟ افرضي اتجوزت و طلعت مبتعرفش تعمل مسقعة حلوة زيك، أعمل أنا إيه دلوقت ؟ ”
التفتت له و أحاطت رقبته بعنفٍ خفيف منها مصحوب بقولها المعبر عن غضبها:
” عدي يومك يا أبو العيال ”
هتف سُليمان يبرئ نفسه قبل أن تلتفت له والدته:
” إيه يا أبتاه.. مزعل ست الكل ليه ؟ ”
رمقه بدر بدهشة وقال بعدم تصديق:
” شايفة ابنك ! ”
أشارت عائشة لابنها بأن يأتِ لتضمه بين ذراعيها وهي لا زالت على وضعيتها جالسة على فخذي زوجها و ابنهما الأوسط ريَّان مُحاط من قبل ذراع والده الأيمن.. قالت ببرودٍ استفز بدر:
” حبيب أمه واقف في صف أمه ”
” يعني دلوقت بقيت أنا اللي كخه ؟! ”
تدخل سليمان يقول وهو يكتم الضحك:
” لا يا أبتاه طبعًا، بس أنا لازم أعمل كده عشان اعدي يومي مع ماما ”
” هتجيبه منين، نفس لماضة أمك وهي قدك سبحان الله ”
قالها باستسلامٍ لهما، فردت عليه توكزه في كتفه بدلالٍ:
” تنكر إن في حاجة فيا مش بتحبها ؟ ”
” أبقى كداب لو أنكرت.. أنتِ كلك على بعضك بسلطاتك ببابا غنوجك معششة في قلبي.. أنتِ بنتي قبلهم و حبيبة قلبي و نور عيني و أجمل رزق أنا رُزقت بيه ”
تساءل ريَّان بعدم فهم:
” أبتاه هو أبتاه بتاعك اسمه بابا غنولك ؟ ”
” غنولي ! لا يابني والله أنا محدش غنالي.. غير أمك و كنت بعدها بلحق نفسي بحبوب صداع ”
ضحك سُليمان وكذلك عائشة لتقول الأخيرة:
” بس عارف يا ريَّان، أبوك هو اللي كان بيتحايل عليا أصدعه ”
أومأ سُليمان يضم صوته لوالدته:
” و أبتاه كان عاجبه أوي صوت ماما، عشان هي مجهة قلبه ”
” إيه مجهة قلبه دي كمان ! اسمها مهجة قلبه ”
رد بها بدر يصحح لابنه الكلمة بنبرة مازحة، فقال سليمان بمنطقية:
” مش مهم يا أبتاه، المهم إنها كلمة حلوة إن شاء الله ”
ضحكت عائشة و قالت وهي تنزل سليمان عنها و تحاول النهوض:
” يلا بقى عشان بابا شكله رجله وجعته ”
رفض بدر نزولهم عن فخذيه و ضمهم إليه بحنانٍ بالغٍ من بينهم قدس التي استيقظت فضمها والدها لصدره، ثم قال بنبرة دافئة وهو يحتوي الأجساد الأربعة بقدر استطاعته يدخلهم في صدره و يحيطهم بذراعيه:
” عمري ما أتعب ولا أحس بأي وجع و أنتم في حضني، بالعكس دي اللحظة اللي ببقى مرتاح و مطمن فيها، اللحظة اللي بتبقوا في حضني دي عندي بالدنيا.. خليكم كده شوية ”
مالت عائشة برأسها على كتفه، بينما الطفلين ضما نفسهما أكثر لوالدهما، أما قدس بجسدها الضئيل ظلت في منتصف صدر بدر تمتلكه بأريحية.
دعا بدر باسمًا وهو يوزع قبلاته عليهم جميعًا وزاد من بثها لعائشة:
” ربنا يبارك لي فيكم و يحفظكم و يسترها معاكم.. اللهم لا تريني فيهم بأسًا ولا سوءًا، اللهم احفظهم بعينك التي لا تنام ”
ردت عائشة و الولدين:
” آمين “.
في مكانٍ آخر تحديدًا في أمريكا، يجلس قُصي صاحب الاثنان و ثلاثون يضع طلاء الأظافر..
و في المطبخ تعد ” منة ” طبق من الفشار و..
عفوًا لم نستكمل لمن يضع قُصي طلاء الأظافر، جلست ابنته « لارين» قبالته و مدت أصابعها لوالدها ليضع لها طلاء الأظافر..
انتهى قُصي و قبَّل يد ابنته قائلًا بابتسامة جميلة:
” روح قلب بابا أجمل بنوتة في الدنيا ”
رمقته منة بغيرة مزيفة و هي تحمل طبق الفشار و تُقبل عليهما:
” أجمل مني ؟ ”
” هو أنتِ بنوتة ! خلاص راحت عليكِ يا مدام، بقيتي ماما، نعقل بقى ”
قالها قاصدًا الاستفزاز و المشاكسة معها، فوضعت الطبق و تصنعت الانزعاج ثم تركتهما و اتجهت تجلس وحدها، بينما هو كتم الضحك عليها ونهض بغتةً خلفها، ثم حملها على كتفه هاتفًا بمرح:
” أجمل منك مشفتش يا مفعوصة ”
صرخت لارين بمرح و أخذت تقفز و تشير لوالدتها هاتفة بضحك:
” مامي طايرة، بابي me too ”
لا تستطيع لارين نطق جملة كاملة بالمصرية؛ لاندماجها مع الأجانب، و لكن والدتها تحرص على تعليمها القرآن بالعربية عند إحدي المعلمات، و يتحدثان كثيرًا أمامها بلغتهم لتتعلم منهم.
انتشلها قُصي بخفة يحملها على الكتف الآخر و ظل يركض بهما في حديقة منزله وهما يصرخان بضحكٍ يشوبه المرح.. أنزلهما أخيرًا وهو يقول:
” الدور عليا.. شيلوني أنا بقى ”
ضحكت منة وهي تربت على عضلات ذراعيه قائلة:
” ده على أساس إن أنت خفيف وكده ! ”
” هو حتى أنا لو خفيف يا أوزعه هتشال ! حد قالك إني سوسن ! ”
” تعالى نلعب استغماية ”
قالتها بترجي له وهي تحيط رقبته بدلال، مما تمتم بقلة حيلة منها و استسلام لها:
” هو مين فيكم اللي بنتي بالضبط، أنا مكانتي العلمية بتفطس معاكم والله ”
” ده على أساس يعني إنك بتقعد معانا كل يوم ! قُصي إحنا بنستنى يوم اجازتك يجي بالعافية عشان نقضي أطول وقت مع بعض إحنا التلاتة ”
ردت لارين تتشبث بوالدها و تقول:
” العب معانا يا بابي.. بليــز ”
انحنى يحملها و يدغدغها وهو يقول:
” هو أنا أقدر أرفض طلب لنور عيون بابي ”
” و أنا مش نور عيونك ؟ ”
تساءلت بها منة في غيرة، مما هتف هو ضاحكًا بصدمة منها:
” جاية دلوقتي تسألي السؤال ده و أنتِ عملتي اللي مفيش بنت قدرت تعمله معايا و خلتيني مش بس بحبك، لأ ده أنا بقيت متعلق بيكِ زي الطفل ما بيتعلق بأمه، أنتِ مش بس نور عيوني يا رحمة، أنتِ طوق النجاة اللي جه قبل الغرق بثواني أنقذني و غير مسار حياتي بالكامل، أنتِ أول حُب في حياتي يا مفعوصة ”
هتفت تؤكد على كلامه بتهديد مزيف:
” و آخر حب يا روح المفعوصة ”
وصل لهما صوت رنين الهاتف، فتركته مع ابنتهما و صاحت تجاه الداخل:
” دي أكيد مكالمة الفديو اللي بنتكلمها أنا و البنات كل كام يوم مرة ”
فتحت المكالمة الجماعية التي تخص روان و عائشة و أختها شمس، و هاجر، و نورا، و شهد، و أيضًا ملك، و بالطبع أم الخمسة ذكور ” رُميساء ” التي في كل مرة تنسحب من المكالمة مبكرًا بسبب صراخ أطفالها و الكوارث التي يفعلونها بالبيت، التفتت لكريم الجالس يتابع المباراة مع ابنه مراد الشغوف بنادي الزمالك مثل والده:
” خلي بالك من العيال يا كريم، عينك على التوأم بالذات.. رايحة الت و أعجن مع النساوين، الساعة اللي بعرف اخد فيها بريك منكم ”
رد كريم و عينيه لا ترف عن التلفاز:
” طلباتك أوامر يا فراشتي ”
” فراشتك إيه بقى بعد خمس صبيان، قول البقرة الحلوب أحسن، أهي مبلوعة شوية.. الله يسامحك أنت السبب منعنتي أصوم رجب.. و رجب حوش صاحبك عني ”
رمقها بعين الانتباه لما تقوله، و وزع نظره عليها و على أطفاله الذين نظروا لوالدتهم بعدم فهم لما تهذي به، ثم همس لها بضحكة مكتومة:
” أنتِ مجنونة ! إيه اللي أنتِ بتقوليه ده ؟! ”
” أنا كنت عاقلة والله، كنت وردة مفتحة، كنت فراشة بجد، خلتوني فراشة من اللي بتتعلق في الأفراح الشعبي دي و اللي رايح و اللي جاي ينتش فيها ”
قالتها وهي تندب حظها بطريقة فكاهية، ثم تابعت وهي تختفي عن أعينهم و تدلف للغرفة:
” أنتش مش عايز حاجة.. أنتش جوا التلاجة ”
نظروا الأطفال لوالدهم، و تساءل مراد الكبير بدهشة:
” هي ماما مالها ؟ ”
” ادعيلها بالشفاء ”
” ماما تعبانة من إيه ؟ ”
تساءل بها إياد، فرد كريم ضاحكًا:
” مننا يابني.. حقها، ما هي اللي لايق عليها دور الأمومة أوي.. يلا بإذن الله المرة الجاية بنت ”
خرجت من الغرفة تصرخ عليهم بوعيد أفزعهم:
” ده في أحلامك يا كريم ”
ثم دلفت ثانيةً، و خرجت مرة أخرى تثير استفزازه:
” يا زملكاوي يا بتاع البليله.. طب تاتا تاتا الأهلي هيجيب تلاتة ”
نهض من مكانه، فدخلت سريعًا و أغلقت الباب، مما ضحك هو و جلس ثانيةً هامسًا:
” جبانة ”
انفجر مراد في موجة ضحك هستيري و ظل يقول من بينها:
” ماما صعبانة عليا والله يا بابا.. شكلها تعبان فعلًا ”
وكزه والده يلومه على قوله:
” عيب.. متقولش كده على أمك ”
رد مراد ببراءة مزيفة:
” أنا قصدي إنها تعبانة بجد.. مرهقة يعني زي ما حضرتك بتقول ساعات، ممكن تلاقيها طالعة دلوقتي تقولك و ساعات ساعات أحب عمري و أعشق الحاجات.. زي ما عملت كده إمبارح ”
شاركه كريم الضحك ثم قال بنبرة حُب لم تتغير تجاه رُميساء:
” أمك تعمل اللي هي عايزاه ”
أما في خلال مكالمة الفديو التي تمت بينهن، اقترحت عليهن روان اقتراح، بل انقلب من مجرد اقتراح لأمرٍ قائلة لهن:
” خلص الكلام، عزومة رمضان عندنا في الفيلا إن شاء الله، و هعزم ابرار مرات عصام، هي معرفتش تفتح النهاردة باين.. جوزها بقاله فترة بتقول تعبان.. ربنا يشفيه ”
” آمين يارب ”
قالوها جميعهن، فتابعت روان:
” سيف لما يخلص الماتش، هقوله على العزومة، هو من زمان أصلا و هو نفسه يعملها.. فبما إننا نازلين مصر نقضي رمضان معاكم و منة وجوزها برضو و ملك سهل تيجي هي و جوزها يبقى كده الأمر سهل و محلول بإذن الله ”
ردت شمس:
” تمام إن شاء الله، هقفل أنا بقى عشان هذاكر للولاد ”
و قالت ملك:
” و أنا كمان، إبراهيم زمانه جاي و هحضرله الغدا ”
أما البقية بقين يتسامرن قليلًا، ثم انسحبت واحدة تلو الأخرى و انتهت المكالمة على أمل التجمع لأجل الافطار سويًا في فيلا سيف.
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية يناديها عائش)