رواية أزهار بلا مأوى الفصل العاشر 10 بقلم نورا سعد
رواية أزهار بلا مأوى الفصل العاشر 10 بقلم نورا سعد
رواية أزهار بلا مأوى البارت العاشر
رواية أزهار بلا مأوى الجزء العاشر
رواية أزهار بلا مأوى الحلقة العاشرة
ـ ليه يا “سمير؟؟ ”
ـ عشان بسبب أنانيتها أخويا أتجنن وأترمى في الشارع، وعشان أنا محصلهوش رمتني هنا!
ثبتت عينيها عليه، وباهتمام سألته:
ـ ممكن تحكيلي براحة.
تنهد وهو يغلق عيناه بعنف، وكأنه يستحضر كل ذكريات الماضي السوداء، فتحهم من جديد وهو ينظر للاشيء أمامه ثم هتف:
ـ هو السبب، كان دايمًا بيضربها، وأخويا كان بيدافع عنها، ده..ده كان هيبقى دكتور يا مَس!
ـ ده أخوك؟
هكذا سألته بهدوء، نظر لها وبابتسامة خاوية بلا روح كان يقول لها:
ـ آه، بس هو كان أناني زيها، أستكتر عليه حلمه! حلمه اللي كان بيسعاله بكل جهده يا مَس!
فهمت أنه يتحدث عن والده وأيضًا لاحظت دموعه التي زينت وجنتيه ورجفة جسده التي ظهرت عليه چليًا مع ذكر حكايته مع والده، اقتربت منه ثم مسكت كف يده وحاوطته بين كفها وهي تقول له بنبرة هادئة تحمل في طياتها الأمان الذي يفتقده:
ـ “سمير” الماضي أنتهى، مفيش حاجة هنا ممكن ترجعك للحظة وحدة من الماضي، الحكاية كلها أني عايزة أسمعك.
كلماتها جعلته يشعر أن مشاعره هامة، لأول مرة يشعر أن يوجد من يهتم بهِ وما يحدث له، أو بالأصح يهتم بما حدث له وتسبب في تدميره نفسيًا، نظر لها بتيهٍ وكأنه لا يعلم بماذا يبدأ ثم هتف:
ـ هو كان دايمًا بيضربهم عشان الفلوس، معرفش ليه كان بياخد منهم الفلوس بس دايمًا كانوا بيتضربوا عشان نفس السبب! لحد ما هو أتجنن وهي جابتني هنا! على أساس أنها كده بتحميني يعني!
ـ ده بباك مش كده؟
نفى برأسه سريعًا وبغضب شديد وتهكم كان يقول:
ـ متقوليش الكلمة دي، ده شبه الوحش، الوحش اللي بياكل في اللي حواليه وبس.
وبهدوء كانت “سلمى” تربت على كف يداه لكي تهدأه ثم سألته عدة اسأله لكي تساعده على التحدث في أكثر من موضوع من أكثر من زاوية:
ـ عايزاك تحكيلي كان والدك بيعمل إيه بالظبط، وكان عندك كام سنة وقتها، وأخوك إيه اللي حصله.
تنهد بحرارةٍ وهو يتذكر الآم الماضي نظر في الخواء ثم بدأ في قص حكايته منذ ما وعى عليه:
ـ كان عندي ٧ سنين، اللي فكره أن دايمًا ماما مانت بتضرب عشان عايز منها فلوس، اخويا كان في كلية طب، وعشان محدش هيدفعله مصاريف الكلية ولا هيديله فلوس؛ كان بيشتغل بس في السر، لحد…
صمت لثوانٍ، وكأنه يتذكر ما حدث في ذلك اليوم المشؤم، نظرت له “سلمى” وحسته على المواصله، وبالفعل استجاب لها واستطرد قائلًا:
ـ لحد ما عرف! من يوم ما عرف وهو دايمًا يمسكه يضربه وياخد منه فلوسه، وهي سلبية مش بتعمل حاجة، كل اللي ربنا مقدرها عليه أنها تقول لأخويا أديله يا “إسلام!” وكأنه كان بيشتغل عشانه هو! كأنه ملوش حياة ولا هدف!
صمت لكي يلتقط أنفاسه لكي يُهدأ، نظر لها من جديد وواصل:
ـ لحد ما في يوم أخويا رفض! وده… وده كان حقه! صح؟؟
ـ صح يا “سمير” كمل، سمعاك.
أدمعت عيناه دون أن يشعر، نظر بعيدًا وهو يهتف:
ـ بس هو كان لي رأي تاني!
ورغمًا عنه سُحب لذكرى بعيدة ولكن مازال آثارها متواجد في كل آنشٍ بهٍ.
ـ أنت أتجننت! رايح تسحبلي الملف!، شذ
هكذا هتف الشاب بغضب شديد، ولكن الأب لم يروق له ما سمعه، أقترب منه وبغضب مضاعف كان يمسكه من تلابيب ملابسه وهو يصيح عليه:
ـ أنت قليل الأدب ومش متربي، والجامعة اللي أنت فرحان بيها دي خلاص بح.
دفعه بعنف تحت نظرات أبنه المُمتزجة بالإنكسار والصدمة ثم استطرد قائلًا:
ـ من النهاردة هتشتغل ليا أنا، عشان تبقى تبجح وتقولي مصاريف الجامعة والكلام الفاضي ده.
هُنا وأنفجر ذلك الشاب، ودون تفكير ولو للحظات كان يدفع والده بعنف وهو يصرخ في وجهه بغضبٍ حُبِس بداخله لسنواتٍ:
ـ حلمي بقى كلام فاضي! أنت مين أنت عشان تحكم عليا وعلى أحلامي ومستقبلي! أنت مجرد شخص مكتوب اسمه وراه اسمي في البطاقة وبس، أنت ملكش حكم عليا ولا كلمة عليا، متعِشّ الدور أوي كده.
ودون سابق إنذار كان الأب يصفع ابنه صفعة قوية دوت صداها داخل صدره! وعلى عكس على المرات السابقة، عكس كل مرة يحدث بينهم شجار؛ فهذه المرة لم يقابل ضربات والده بستسلام ككل مرة، فمن كان يحارب لأجله هُدم بفضله، ما كان يصمت لأنه يُريد أن يصل له تحطم كما كل آنشٍ بهِ تُحطم بفضله، قابل تلك الصفعة بدفعة قوية لوالده العزيز مما جعل الأخر يحملق فيهِ غير مصدق ما صدر منه، وفي لحظات كان ينشب بين الأب والأبن عراك حار، واشتد العراك بينهم مع دخول الأم بصُحبة الصغير “سمير”؛ فهي كانت في عملها وعادت للتو على هذا العراك، صرخة قوية صدرت منها وهي تلطم على خديها بعنف فور رؤيتها ابنها البكري يمد يده على والده، تدخلت بينهم سريعًا تحاول فض تلك الشجار، وعندما سئمت من المحاولات دفعت ابنها بعنف بعيدًا عن الأب وهي تصرخ فيهِ بغضب:
ـ إيه خلاص أتجننت؟ بتمد إيدك على أبوك!
وبغضب مماثل كان يُشيح بيده في الهوار وهو يقول:
ـ أبويا! أبويا اللي راح سحبلي ملف كُليتي يا أمي!
شهقة عنيفة صدرت منها وهي تضرب خديها بعنف، وبدلًا من تعنيفه أو قول أي شيء يُبرد نار ذلك المسكين؛ قالت له باستسلام تام؛ لكي تُشعل نيران حقده أكثر وأكثر:
ـ معلش، أبوك أكيد عارف مصلحتك.
ـ قوليله البايظ الفاشل، ده…ده عيل بلطجي، ده أتجنن خلاص!
صمت ولم يرد؛ بل عجز عن الرد! كل ما فعله أنه رفع رأسه للسماء وكأنه يشكي لها ما يحدث له بفضل والدينه الذين من المفترض يكونوا هم مصدر أمانه في الدنيا، عاد بنظره لهم من جديد ووجهه غارق بدموعه ثم قال بنبرة خرجت من أعماق قلبه المجروح بسببهم:
ـ أنا بكرهكم، او كان بأيدي أني أتبرى منكم كنت عملت كده، يارتني كنت عرفت أغيركم.
وكأنه دون أن يشعر شدّ فِتيل غضب والده، وفي حين غرة ودون سابق إنذار كان يمسك مزهرية زجاج كبيرة و…في رأسه وهو يدفعه بغضب أعمى خارج المنزل بأكمله صارخًا عليه قائلًا:
ـ عايز تتبرى مننا يا كلب! أطلع برا، أطلع برا وشوفلك أهل غيرنا يا سافل.
لم يهتم لرأسه التي بدأت تنزف بفضله، ولا كان مُكترث لصراخ زوجته عليه، من كان يقوده في هذا اللحظة هو غضبه فقط، وفي وسط كل تلك الأجواء؛ لم ينتبهوا اثنتيهم بمن يشاهد المشهد كاملًا، لا يهتموا بهِ ولا بجسده الذي بدأ أن يرتجف بشدة أثر ما رأه، وهو أيضًا لم يعلم أن بسبب ذلك المشهد المؤلم؛ ستتحول حياته بهذا الشكل!
عودة لما هو عليه.
ـ وحصل إيه يا ” سمير؟”
نظرت لها ووجهه غارق بالدموع، رفع كتفيه للأعلى ثم أجابها بنبرة خرجت مختنقة:
ـ مرجعش تاني! من يومها مرجعش تاني .
كانت “سلمى” غير مقتنعه، فظنت أنه يحكي لها حكاية من وحي خياله، لذلك سألته بجديّة شديدة:
ـ أزاي يا “سمير؟” ومامتك يعني مرحتش تدور عليه!
هذه المرة مسك كف يداه وظل يفرك فيهم بتوتر، نظر الأسفل وبصوتٍ يكاد أن يسمع أردف:
ـ من يوم اللي حصل وهو حبسها في البيت، كان ..كان بيضربها وبياخد فلوسها وبس.
عقلها عجز عن الأستوعاب، هل يعقل أن يوجد بشر بتلك القسوة! بل يوجد أباء قاسيين بهذا الدرجة على ابنائهم! والأم! هل يوجد مَن سلبي في حق ذاته وأبنائه وكل شيء لهذا الحد!
خرجت من تلك الدوامة على صوت شهقات “سمير” أثر بكائه، أقتربت منه من جديد ومسكت كفي يداه لكي تُهدأه وهي تقول له بعض الكلمات الحنونة، بعدما لحظت هدوءه النسبي سألته سؤالًا جديد ولكنه سيربط لها كل الخيوط ببعضها:
ـ وأنت جيت هنا أزاي يا “سمير؟” إيه اللي وصلك لهنا؟
أدمعت عيناه من جديد، رفع وجهه لها ببطئٍ وقال:
ـ لما عرفت أنه أتجنن خلاص.
ـ إيه؟
هكذا سألت بعدم فهم بما تفوه بهِ، بينما هو فرفع يده يمسح عيناه وواصل:
ـ بعد وقت كبير، وبعد ما الفلوس اللي معاها خلصت هو كان عايز فلوس؛ فرجعها تاني شغلها ونزلني أنا أشتغل عند رجل جذماتي.
صمت لكي يلتقط أنفاسه ثم استطرد:
ـ لما نزلت شغل كانت بتدور عليه بس ملقتش ليه أي أثر، حتى الرجل اللي كان شغال معاه قالها أن هو جاله عشان يشغله بس هو مكنش محتاج حد، بس بعد فترة عرفت أن صورته على النت وبتقول أن في شاب فاقد عقله تايهه من أهله وهما لقوه!
كانت “سلمى” تعطي له كامل تركيزها، نظرت له وحثته على المواصلة ، وبالفعل واصل قائلًا:
ـ الشاب ده كان أخويا ؛ ولما حاولت تروح تجيبه من وره بابا أخويا خاف منها وهرب! اليوم ده هي جت منهارة ولأول مرة تعمل حاجة!
– عملت ايه؟
هكذا سألت “سلمى” باهتمام شديد، نظر لـها ثم أجابها بانكسار:
– جت أتخانقت معاه خناقة جامدة.
ضيقت عينيها بتعجب وسألته:
ـ وبعدين؟
رفع كتفيه للأعلى مع تساقط قطرات من الدموع لتُبلل وجنتيه وقال:
– في وسط الخناقة قالتله “أنت عايز تضيعنا كلنا، وعايز تضيع الصغير زي ما ضيعت الكبير” وقتها هو… هو أتعصب، أتعصب عليا وضربني!
ملئت الدموع مقلتيه وهو يسترسل:
ـ ضربني جامد لحد ما كنت هموت في أيده، وقتا هي مكنتش عارفه تعمل حاجة، حاولت ولأول مرة وفشلت!
ـ كمل يا “سمير”
أختنق صوته، وبنبرة تُكاد تُسمع قال:
ـ تاني يوم كنت أنا في الشغل، كنت تعبان ومش قادر أتحرك؛ لدرجة أن صاحب الشغل قعدتني اليوم ده ومخلنيش أشتغل…بس…بس أنا لقيت ماما جيالي بعد ما خلصت شغل تاخدني.
ضحك بسخرية ثم واصل:
ـ فرحت زي العبيط أول ما شوفتها، مكنتش أعرف أنها قررت ترميني!
تجهمت تعابير وجهه وهو يستطرد بغضب:
ـ خدتني وجبتني هنا في الملجأ، رمتني كأنها بترمي جذمتها مثلًا!
كانت “سلمى” تسمعه وتشعر أن قلبها يكاد ينخلع من موضعه، لا تتخيل أن كل ما تسمعه هو حدث بالفعل! لا تقتنع أن يوجد أب بهذه القسوة والجباروت، وفي وسط دوامة أفكارها سألته:
ـ فاكر قالتلك إيه يا “سمير” لما سابتك؟
غيمة سوداء حاوطت عيناه، تذكر أسوء جملة سمعها طوال فترة حياته القصيرة، وبضعفٍ وخواء هتف:
ـ قالتلي “سامحني مش عايزاك تحصل أخوك بسببه!”
أنهمرت دموعه بشدة؛ وعلى الرغم من ذلك استطرد وهو يقول:
ـ هي ليه محاولتش تحميني؟ ليه سابتني ومشيت وأنا عمال اقولها متسبنيش أنا محتاجك! طب ليه هي رجعت دلوقت؟؟؟
سأل سؤاله بوجهٍ غاضب غير راضي عن ما حدث له، وهي قابلت ذلك الغضب بوجهٍ هادئ مُبتسم وهي تقول له بهدوء:
ـ بس هي قالتلك أنها بتحميك، هي مكنتش عايزة تأذيك زي ما حصل لأخوك، كانت فكرة أن ده الحل.
ـ وليه محاولتش تفضل معايا! ليه أسهل حل ليها أنها تسبني! طب ليه محاولتش تاخدني ونمشي!
فهمت “سلمى” أنه وصل لذروة غضبه؛ ولابد من انهاء المناقشة الٱن؛ لذلك نهضت من مكانها واقتربت منه وهي تقول له:
ـ لازم تبقى عارف يا “سمير” أن مش كل حاجة الواحد عايز يعملها؛ بيعرف يعملها، في حاجات كتير أوي الانسان بيكون عاجز أنه يعملها.
كانت تتابع تعابير وجهه المُنتبهه لها، ابتسمت له بهدوء ثم مدت يدها له وهي تقول:
ـ يلا بينا على أوضتنا؟
وبالفعل تحركا سويًا نحو غرفته، كان الطفل بشعر براحة بعدما فرغ شحنة غضبه؛ وهي سُحبت لدوامة من الأفكار مختلفة من نوعها!
***************
ولكن عند “ليلى” فكانت تجلس في حديقة الدار تتأرجح أعلى أروجوحة هزازه، ولكنها لمحت “ياسين” يجلس أسفل شجرة كبيرة وشارد الذهن، هبطت من مكانها وترجلت نحوه بهدوء وعلى محياها ابتسامة لطيفة، أقتربت منه حتى جلست القرفصاء أمامه وهي تسأله بهدوء:
ـ مالك؟ قاعد لوحدك ليه؟
تنهد وهو يضع يداه أعلى قدمه ويقول:
ـ عادي، مليش، بس قاعد زهقان.
وبابتسامة مشاكسة كانت تقول له وهي تقترب بجذعها العلوي إليه:
ـ طب ما تيجي تحكيلي باقي حكايتك.
قطب جبينه بعدم فهم؛ لذلك هي نظرت بعيدًا عنه وواصلت:
ـ يعني مكملتش حكاية الدار القديمة، كروتّتني يا “ياسين”
ختمت كلماتها بنظرات حزينة برعت في تمثيلها، ابتسم هو وهتف بهدوء:
ـ لأ أنا حكتلك كل حاجة؛ فاضل بس الجزء اللي يخصني أنا.
كانت جملة مُبطنة بمشاعر مختلطة من حزن وألم وخلان من العالم، ابتسمت له بهدوء وهي تقول له بكل إنصات ونبرة مُهتمة صادقه:
ـ وأنا عايزة أسمع اللي يخصك؛ عشان ده أهم جزء في حكايتك يا “ياسين”.
ولأول مرة يشعر بالأهتمام من أحد، أو الأهتمام لِمٕ يؤلمه من الأساس! دائمًا كان يشعر أنه يقص عليهم لأجل فضولهم التي كان يتراقص في مقلتيهم، غير ٱبهين للمشاعر التي تتآكل بسبب ما يقصه عليهم كقصة قبل النوم مثلًا!
نظر لها وبحزنٍ دفين كان يهتف:
ـ بعد ما بدأوا يشتغلوا في الدارك ويـ ـب؛ شغلهم بدأ يكبر أكتر، وبدأوا يدخلوا على شغل من نوع تاني خالص.
ـ تجارة الأعضاء مش كده؟
أومأ لها دون السؤال من أين عُلمت، تنهد وهو ينظر للأعلى يتنفس بعنف وكأنه يستحضر كلٌ ندبة بقلبهِ تسببت فيها ذكريات الماضي اللعين، وبحُزنٍ هتف يقص عليها ما قصته عليها السيدة “سهام” ولكنها من زويته هو:
ـ لما دخلوا السكة دي بأوا يجيبوا أطفال من الشارع ويرمولهم فلوس مقابل أنهم ياخدوا منهم عضو ولا أتنين، وده طبعًا عشان يعرفوا يسحبه الضحية منغير صوت ومنغير دوشة ليهم.
جحظت عينيها غير مصدقه ما سمعته، اطفال الشارع كانوا يتعرضون لجريمة بشعة مثل تلك وهم راضيين! وبشرود وكأنها تخدرت أثر كلماتها همست:
ـ وبعدين.
بسمة ساخرة ارتسمت أعلى شفتاه وهو يسترسل:
ـ لحد لما طفل من العيال دي ماتت منهم، وقتها الدار قامت ومقعدتش .
ـ أزاي يا “ياسين؟”
نظر لها وبوجهٍ متهكم وعيون مُشتعلة أردف:
ـ الولد مات من عملية من عملياتهم، وبجبروتهم خدوا الواد ده ورموه في خرابة بعيد عن الدار، وعرفنا بعدها أن البوليس لقى الجثة ودخلت تشريح، وعرفوا أنها ماتت نتيجة نزيف في الدم من أثر عملية أستئصال عضو، ومن وقتها وكل منطقة بقى فيها عسكري باين بياخد باله من تحركات الولاد دي عشان عايزين يقبضوا على العصابة، وطبعًا هما اختفوا خالص وخرجوا فكرة ولاد الشوارع دي من دماغهم.
ختم كلماته بسخرية لاذعة، ولكنه وقبل أن يواصل قطعته هي وتسأله بعيون متحفظة بشدة:
ـ وأنت عرفت كل المعلومات دي أزاي يا “ياسين”
وبهدوء أجابها:
-من ودني، كل شيء كان بيحصل بين المديرة والمساعد بتاعها كنت بسمعه، مش أنا لوحدي لا، دي أوضتي كلها.
قطبت جبينها بتعجب، وقبل أن تستفهم أجابها هو:
ـ المكتب بتاعها كان جمب أوضتي بالظبط، وهما أغبية صوتهم كان بيوصلنا من خلال الشباك بتاعهم اللي بيكون مفتوح دايمًا؛ فكانت كل أخبارهم عندنا.
ـ كمل وبعدين.
ودون أن يشعر كسى عيناه غيمة سوداء، وكأنه يستحضر اسوء جزء في حكايته:
ـ لحد ما بدأوا يتجهوا لولاد الدار.
دمعة متمردة فرّت من عيناه، كانت نظرات الأنكار تحاوط مقلتيه مهما حاول أن يخفيهم، وهي حاولت بكل الطُرق ألا تظهر له نظرات شفقة أو ما شبه، مدت يدها تحضن كفي يداه لكي تحثه على المواصلة دون النطق بحرفٍ، وبالفعل أستجاب لرغبتها واستطرد قائلًا:
ـ كانوا بياخدوا واحد وراه التاني مننا، كانوا بياخدوا من كل واحد فينا حاجة شكل، مرة عين، مرة كبد، مرة صوابع أو سنان! غير أعضاء كتير جوانا احنا منعرفش حتى اسمها.
وبحُزنٍ على حاله هتفت بصوتٍ يكاد يُسمع:
ـ كمل.
هُنا ووقع في نقطة هاوية سوداء، وكأنه تذكر أسوء ليلة مرت عليه، أو بالأصح تذكر ليلة من ضمن لياليّه الكثيرة التي تلونوا باللون الأسود الداكن وزُينت بدموع عيناه، نظر في نقطة فارغة ثم هتف:
ـ لحد ما جيه عليا الدور، خدوني وأتخدرت، ومصحتش على حاجة غير صراخ وجري، وبوليس في كل مكان، وكان نهاية الليلة دي هي نجاتي.
انتهى من كلماته وابتسامة عاذبة تُرتسم على ثغره، وكأنه تذكر أن نهاية تلك الليلة أنتهت بشعاع نور نوّر له عتمة حياته بأكملها، مهما ما حدث فيها؛ ولكنها انتهت بأمل وفرج من الله، لكي يصل له رسالة أنه لم يُنسى، نظر لها وهو يرفع لها رأسه ويسترسل بهدوء وليست أعصاب مشدودة:
– بعد ما فوقت لقيت نفسي هنا؛ في الدار دي، آه عرفت أن أستخلصوا مني الكُلْة ولكن مش مهم، المهم أني عايش!
دمعة هاربة زينت وجنتيها دون أن تشعر، قلبها كان يعتصر ألآمًا على كل ما رأه ذلك الطفل وهو مازال زهرة لم تنضح حتى أوراقها! أقتربت منه بهدوء ومدت يدها مسحت له دموعه بأناملها الرقيقة، رفعت رأسه التي كانت مُطأطأه للأسفل وقالت له وهي مثبته عينيها عليه لعلها تبث له شعورها بالفخر نحوه وهي تقول:
ـ أنا فخورة بيك يا ” ياسين” ، أنت بطل، اللي يقدر يمر بكل ده لوحده يبقى بطل، اللي يعرف يبقى رجل وهو في سنك يبقى بطل، أنا ..أنا فخورة بيك.
ولكنها لم يُسعد من كلماتها، بل أنفجر في البكاء دون سابق إنذار، هز رأسه بالرفض وهو يهتف بكلماتٍ قُطرت وجعًا وقهرًا:
– بس أنا مش عايز أبقى رجل، أنا…أنا طفل.. طفل عايز ألعب وأتنطت، عايز يكون كل همي في الحياة أنا هاكل بكرا الفراخ اللي مش بحبها ولا بانية ومكرونة! عايز يكون أقصى معلوماتي عن البشر أنهم فيهم الشرير اللي بيكذب والطيب اللي بيساعد الناس ، أنا مكنتش عايز أبقى شبه الرجل العجوز اللي شاب! أنا مكنتش عايز أشيل حمول مش حمولي! ليه يكون كل الكركبة دي في دماغي وأنا لسه…لسه في نظر المجتمع عيل!
أنفجر فيها ثم لهث بعنف وكأنه كان في سباق؛ فهو بالفعل كان في سباق ضد نفسه، ولأول مرة يواجهة حاله بهذه الطريقة، ولكن ” ليلى” وقفت أمام أنفجاره هذا صامته، وكأن جميع حروف الأبجدية لم تنصفها لكي تهوّن عليه! كل ما كان يتردد في ذهنها هو أن لديه كل الحق! هو طفل فقط، هو فقط وليس كاهلًا أنحنى ظهره من فرض حمله لأثقال الحياة! هو من المفترض ليس في حياته حمول من الأساس لكي يحملها؛ وكأن الدنيا جاءت لديه وقررت أن تغيّر نظام الكون، رغبت أن ضعتيه دروسًا أكبر من سنه وتحمله من الأساس، وكأنها تقول له أريد أن أرى ماذا ستفعل! ولكنها تراه أنه انتصر عليها، فهو نجح أن يخرج من كل تلك المحن وهو يقف على قدمه؛ صحيح بداخله بعض الندوب التي لم تداوي حتى بفضل الأيام ولكنه مر بكل تلك الأشياء بمفرضه؛ في نظرها هو يستحق الثناء والفخر والتكريم!
وكل ما فعلته “ليلى” هي أنها فتحت ذراعيها له لكي يرتمي فيهم لعل حُضنها يُطفئ نيران قلبه المُشتعل، ربتت على ظهره على شعرت أنه أستكان في أحضانها، خرجته منه بهدوء وعلى ترسم على وجهها ابتسامة عاذبة هادئة فاخرة وتقول له:
– أنا فخورة بيك يا “ياسين” أنت أعظم بطل، ولازم تفتخر بنفسك، أنت طفل بس بدماغ رجل كبير، وده مميز، فاهم يعني إيه مميز؟
ودون أن يشعر ارتسمت على وجهه ابتسامة هادئة، أومأ لها دون إرادة ولم يعقب سوى ردد دون تفكير:
– أنا بحبك يا مَس.
هُنا وشعرت “ليلى” أن قلبها قفز من مضجعه، وكأنه يتراقص على أنغام كلماته البسيطة، فتحت له ذراعيها من جديد وهي تبتسم له بأمتنان على ذلك الشعور الذي بثه له دون أن يشعر ثم هتفت وهي تدخله في أحضانها بجوار قلبها الذي مازال يتراقص:
– وأنا بحبك أوي، وفخورة بيك أوي.
***************
بعدما أنتهت “سلمى” من الحديث مع الطفل أخذتها قدمها نحو المكتب الخاص بها هي وصديقتها، ومع فتحها للباب رأت صديقتها تجلس أعلى المقعد وهي ساندة بمعظمها على سطح المكتب أمامها وتكوب بيديها رأسها، قطبت الأخرى حاجبيها بتعجب وهي تتقدم منها وتسألها:
– مالك يا”ليلى”؟
رفعت الأخرى رأسها لها ببطيءٍ، كانت عينيها منتفخاتان أثر بكاءها، فُزعت “سلمى” عليها، شعرت أن يوجد خطبًا ما، ومع انتظارها لأجابتها هتفت “ليلى” بنبرة يتخللها الأصرار :
ـ أنا عايزة أنزل أشوف أطفال الشوارع يا “سلمى” عايزة أشوف حياتهم وعيشتهم عاملة أزاي.
كانت الأخرى غير مستوعبة ما تتفوه بهِ، قطبت جبينها وهي تسألها بتعجب:
– وده ليه؟؟
شبكت يدها على سطح المكتب وملامحها تتهكم بشدة وتقول:
– عشان كل المصايب اللي بتحصل للولاد هنا أولاد الشوارع طرف فيها!
تنهدت وهي تلتقطت ملامح عدم الفهم على وجه صديقتها لذلك أخذت نفسًا وهي تسطرد:
– “ياسين” قالي أن الدار القديمة كانت بتستخلص أعضاء من أولاد الشوارع دول وبرضاهم! وأنتِ سبق وعرفتي أن السبب أن “سمير” يشِم كان طفل منهم! ويا عالم مين تاني هنا حصله مصيبة بسببهم! أنا..أنا عايزة أعرف الولاد دول إيه قصتهم، إيه أصلهم، هما مين أصلًا!
أخيرًا لانت ملامح “سلمى” نظرت لها وهي تحلل تلك الفكرة في بالها وهي تقول لها:
– متهيألي لو عملنا كده مش هنستفاد بحاجة يا “ليلى”
جائز “سلمى” كانت محقه، ولكن فضول “ليلى” كان أقوى من منطقها وهي ترد عليها باندفاع شديد:
– بس هيفتحلي عيني على حاجات أنا عمري ما فكرت فيها! أنا محتاجة أسمع منهم، محتاجة أعرف إيه اللي يخلي ولد يوافق يتنازل عن حاجة من جسمه مقابل ملاليم! أنا عايزة أسمعهم يا “سلمى” بأي شكل!
هنا وبدأ الموضوع يُلمع في رأس “سلمى” وكأنها تذكرت رتوشًا من حديث “علي” وكيف كان يتحدث معها بنرة جافة كارهه لكل شيء ولكل أحد، تذكرت حنقه الشديد وغيرته الشديدة من هؤلاء الأطفال الذين هم مختلفين عنهم لأنهم عثروا على سقفٍ يظلل عليهم في سواد الليل الكاحل! أخيرًا رفعت رأسها لها وهي تبتسم بهدوء، ألتقطت القلم من أعلى المكتب ثم سحبت ورقة وهي تكتب فيها موجه حديثها “لليلى”
– متهيألي أن مفيش أفضل أننا نساعدهم وفي نفس الوقت نتكلم معاهم، مش كده؟
وكأنها للتو أستوعبت أنها وافقت على فكرتها الغير منطقية بالمرة! نظرت لها والفرحة تتراقص في مقلتيها وهي تهتف بسعادة كادت تقفز من وجهها:
– ده صح الصح كمان يا بنتي!
بادلتها الأخرى نظرة سعيدة وهي تهتف بعملية شديدة:
ـ إيه رأيك ننزل نوزع عليهم وجبات؟
راقت لها الفكرة لحدٍ كبير، ابتسمت بأتساع وهي تضيف عليها:
– وهقولهم أننا بنعمل بحث عن المتشردين يمكن ده يحفزهم أنهم يتكلموا.
كان هاتف “سلمى” يعلن على وصول مكالمة لها، نظرت للهاتف بوجهٍ محتنق ثم قالت وهي تقف تستعد للرحيل:
– فكرة هايلة، أنا هظبط الدنيا وهكلمك، همشي أنا بقى عشان عمالين يرنوا عليا في البيت مش فاهمة في إيه.
وقبل أن ترحل اوقفتها ” ليلى” وهي تسألها بأهتمام:
– هو كله تمام؟
رسمت الأخرى ابتسامة مهتزة أعلى ثغرها وهي تقول لها:
– هيبقى كله تمام، متقلقيش.
أعطتها “سلمى” نظرة مُطمئنة ثم تركتها ورحلت، وكانت وجهتها هو منزلها العزيز.
***************
عادت “سلمى” لمنزلها وهي تترقب أنفجار ولدتها في وجهها في أي وقت، وبالفعل صدق حسها عندما ألتفتت على صوت والدتها وهي تصرخ في وجهها بوجهٍ حانق مشتعل:
ـ هو أنا يا بت مش برن عليكِ! وخطيبك عمال يرن عليكِ، مش بتردي ليه ها؟ ولا خلاص مبقاش لينا وجود في حياتك!
انتهت من كلماتها وهي تمسكها من معظمها وتهزها بعنف، كانت الأخرى تغمض عينيها تريد أن تُهدأ، وبقدر استطاعتها من الهدوء الذي تحلّت بهِ قالت لها :
– كان معايا شغل كتير يا حببتي، وبعدين خطيبي إيه؟ هو أنا خلاص بقيت خطيبته.
وبحنقٍ أكثر كانت تدفعها وهي تهتف في وجهها بتهكم شديد:
– آه خطيبك، وهتنزلي بكرا تجيبي الفستان معاه عشان الخطوبة الخميس الجاي.
هُنا وتخلت عن كل ذرة هادئة كانت تحاول أن تجمعها ، وبغضبٍ كانت تصيح عليها بانفعال شديد:
ـ خطوبة ٱيه! أنا قولت مش قبلاه، مش عايزاه ، هو بالعافية!
وبغضب مماثل لها كانت السيدة تمسكهها من مرفقها بعنف وهي تصرخ فيها بوجهٍ متهكم قائلة:
– بت أنتِ أنا جيت أخري معاكِ، كلام المحروسة صاحبتك اللي عايزاكِ تعنسي جمبها ده مش هيمشي عليا، و”حسين” هتتجوزيه يا هتتجوزيه وخلص الكلام خلاص.
انتهت من كلماتها وهي تدفعها بغضب وي مازالت تتمتم بكلماتٍ حانقة وهي تختفي من أمامها، بينما هي فشعرت أن كل الطُرق تنقفل في وجهها؛ فها هي يُحكم عليها بالحب المؤبد وهي مكتفة الأيدي، غير قادرة على فعل شيء سوى الهروب من كل ذلك بواسطة النوم!
***************
كانت “ليلى” وصلت للتو لمنزلها، كانت طوال الطريق تحلم بفراشها الذي يُسيعها هي وأفكارها المُتخبطة، ولكنها فُجئت بزوجها العزيز وهو يجلس أعلى الأريكة و مُرتدي حلة سوداء كلاسيك؛ ذلك النوع الذي هي تفضله والذي هو لا يحبثه على الإطلاق! وفور رؤيته لها نهض سريعًا وتقدم منها وهو يرسم على وجهه ابتسامة واسعة، وقبل أن تسأل ماذا حدث كان يمد يده لها لكي يلتقط كف يدها ويقبلها بهدوء وهو يقول لها:
– حسيت أني ذودتها شوية؛ فقولت لازم أصلح اللي عملته.
زوجها العزيز شعر أنه أخطأ في حقها! هل هو عاقل أم هذا أثر بوادر حُمّة! ولم تلبث ان سحبت كف يدها منه ومدته على جبهته وهي تقول له بتعجبٍ شديد:
– أنت عيان؟
وكأنه كان متوقع صدمتها؛ لذلك ابتسم وهو يقول لها:
– عايز أصلحك يا “ليلى” أنا قولت كلام كتير المرة اللي فاتت مكنش لي أي لازمة.
تلعثم وهو يحك في ذقنه ويواصل:
– ولا كان حقيقي.
كان يراقب تعابير وجهها المصدومة، أقترب منها وطبع قبلة رقيقة على وجنتيها وهو يقول لها:
– روحي ألبسي يلا عشان هنتعشى برا.
ابتسمت بداخلها رغمًا عنها، ولفى، ه ا ل٣لراة٣تى،٤غن م يصدر منها شيء غير جماة واحدة وعلى محياها ابتسامة هادئة:
– ثواني وهجهز.
غابت عن عيناه لدقائق حتى ظهرت مرة أخرى بفستانٍ من اللون الدهبي المُطرز بفصوصٍ لامعة، وكانت خصلاتها منسدلة خلف ظهرها لتنتعش معها في الهواء، خطفت أنظار “عامر” بهيئتها الرقيقة تلك، مسك يدها وهو يقول لها برقة:
– يلا يا أميرتي.
ابتسمت له ثم ترجلوا سويًا نحو مطعم راقي في وسط المدينة، بعدما جلسوا وتناولون سويًا العشاء، كان عقل “ليلى” يدور في نقطة خاوية، تفكر جيدًا هل هذا وقتًا مناسبًا للتحدث معه أم عليها ان لا تفسد هذه الأجواء، انتشلها “عامر” من مستنقع افكارها وهو يقول لها بتردد:
– على فكرة أنا مكنش قصدي اللي أنا قولته أخر مرة.
رفعت رأسها له ونظرت له تنتظره أن يُكمل، وبالفعل استطرد قائلًا:
– أنا آسف، أنا غلطت في حقك يا “ليلى”، أنا عايز نفتح سوا صفحة جديدة
هُنا وشعرت “ليلى” أن هذا أنسب وقت للبوح عن ما بداخلها؛ لذلك استجمعت شتات نفسها وهي تشبك يدها أعلى الطاولة وتأخذ نفسًا عميق ثم قالت بنبرة لينة:
– طب بما أنك عايز تفتح صفحة جديدة يا “عامر” أنا…أنا فكرت في شيء كده ونفسي أنك توافقني عليه.
نظر لها وهو يحاول أن يفهم بماذا تقصد، تسحبت بيدها نحو كف يده لكي تمسكه بهدوء ثم قالت بنبرةٍ مُهتزة:
– فكرت أننا نتبنى طفل..طفل من الدار اللي أنا شغاله فيها يا “عامر”
يتبع..
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية أزهار بلا مأوى)