رواية ما بين الألف وكوز الذرة الفصل الخامس والعشرون 25 بقلم رحمة نبيل
رواية ما بين الألف وكوز الذرة الفصل الخامس والعشرون 25 بقلم رحمة نبيل
رواية ما بين الألف وكوز الذرة البارت الخامس والعشرون
رواية ما بين الألف وكوز الذرة الجزء الخامس والعشرون
رواية ما بين الألف وكوز الذرة الحلقة الخامسة والعشرون
الحياة تمنحك العديد من الفرص في طريقك نحو هدفك، لا لا يا عزيزي الحياة ليست بذلك الكرم الذي تظنه لتمنحك كل تلك الفرص لأجل لا شيء، لأنه إن حدث فتأكد أنه مقابل تلك الفرص ستخسر الكثير والكثير، لكن القليل فقط من تلك الفرص يكون بلا مقابل، فرص جيدة دون أن تخسر في المقابل شيئًا وهذا ما نسميه نحن ” فرص ذهبية ” والذكي فقط من يستطيع استغلال تلك الفرص بمهارة شديدة ..
ونادر لم يكن من ذلك النوع الذكي الذي يستغل ما يُقدم له من فرص ذهبية، وكل ذلك تحت مسمى الخوف، أبدى رفضًا واعترض بقوة على تلك الجملة التي خرجت من فم سعيد، توقف قلبه لثواني فقط احتفالًا بذلك الخبر، قبل أن يمسكه العقل ويصفعه موبخًا إياه، يذكره أن تلك التي يعرض سعيد زواجه منها هي نيرمينا التي تعهدا سويًا بحمايتها حتى من أنفسهما …
تنفس نادر بقوة يتراجع للخلف يحرك أصابعه بقوة وهو يتحدث لميمو رافضًا أن يترك لقلبه القيادة ويتقبل ذاك القرار :
” لا أنا مش موافق، مش هتجوز نيرمينا ”
أبعدت ميمو عيونها عن نادر الذي كانت أصابعه ترفض وعيونه تتوسل القبول، يأبى وقلبه يرفع رايات الاعتراض على قراره المجحف .
نظرت ميمو لسعيد الذي كان يحاول تحليل حركات نادر العصبية والتي تظهر رفضًا صريحًا، لكن هو لن يتقبل أي رفض، ليس على استعداد لفعل ما يخططون له دون أن يتأكد من ترك شقيقته بيد أحدٍ يعتني بها، وهو لن يجد أفضل من مختار أو نادر ايًا كان ذلك الشاب فهو الوحيد الذي قد يأمن على شقيقته معه .
” عرفت منين إن مختار هو نادر اخويا ؟!”
أطلق سعيد صوتًا ساخرًا على قلة ملاحظتها، وعلى استهانتها بعقله، تلك الفتاة تقلل كثيرًا من ذكائه .
” مشكلتك يا مرات ابويا أنك مستهونة اوي بيا ”
صمت ثم ابتسم بسمة جانبية :
” واحدة زيك الحياة خادتها وش وضهر وقفا وعطتها لما قالت يا بس، اطحنت بمعنى اصح، هتثق في عيل اصغر منها أنه يكون حارسها بكل بساطة وتسلمه حياتها وهي مغمضة ؟؟ ”
ابتسمت ميمو بسمة واسعة وهي تستمع لكلماته ليكمل سعيد وهو يشير لنادر :
” طبعًا أنا كنت شاكك بس أنه حد قريب اوي منك مش مجرد حارس غريب زي ما قولتي، حاولت ادور وراه بس هو كان خبيث بالقدر الكافي اللي يخليني ملقيش أي شيء يخصه، لكني برضو كنت متأكد أنك تعرفيه، وشوفتك مرة داخلة اوضته بليل، و لما كان اخوكِ بيضربني من شوية نادتيه بنادر، طبعا مستوعبتش في الاول بس لما هديت عرفت ”
صمت يتنفس بصوت مرتفع قبل أن يضم يديه لصدره يقول بجدية وقد انتهى من كل ذلك :
” ودلوقتي خلصنا كل ده، ها موافقين على شرطي ؟؟”
رفع نادر أصابعه يحركها بقوة للجميع وقد غفل _ بسبب غضبه _ أن لا أحد يفهم ما يريد سوى ميمو :
” مش هينفع، أنا مش هينفع أبدًا اتجوز نيرمينا ”
أمسكت ميمو يده تنظر لعينه تتساءل بلغته الخاصة عن سبب رفضه، لا تريد التحدث أمامهم بكلمة حتى تفهم ما يريد شقيقها .
ليجيبها نادر بملامح معذبة :
” مش هينفع، أنا مش هنفع ابدًا لنيرمينا، أنا مش …مَقدس أنا مش هقدر أسعدها، خايف أئذيها غصب عني، خايف اجرحها ”
ابتسمت ميمو تتفهم خوفه تشير له بهدوء بحركات مماثلة :
” خلاص يا نادر اهدى أنا هقول لسعيد أنك رافض ”
تنفس نادر الصعداء مرتاحًا من تلك الكلمات _ ظاهريًا فقط_ بينما داخله ينتحب ضياع فرصته، وقد أعلن القلب حداده وارتدى السواد حزنًا على قرارًا رفض تأييده…
ابتسمت ميمو تشير له :
” خلاص أنا هقول لسعيد يجوزها لحد تاني، أمير الحارس بتاع سعيد عينه منها وأنا هعرض على سعيد يختاره هو بدالك و..”
وفجأة توقفت ميمو عن الإشارة وهي تشعر بيد نادر تمسك أصابعها بقوة كما لو أنه يمنعها من الحديث وقد تصلب جسده بشكل مخيف واشتد سواد عيونه وظهر الرفض واضحًا في خلجاته .
ابتسمت له ميمو تقول بهدوء شديد وهو ما يزال يقبض على أصابعها تحت انظار صلاح وسعيد اللذين لا يفهمان ما يحدث بينهما .
” طب يا نادر يا حبيبي أقوله ايه عشان الواضح أن سعيد مستعجل، موافق ولا لا ؟؟”
هو يريد الرفض، يريد أن يمنعها من اقتحام سواده كي لا تتلوث به، لكن ربما …. أعنى ربما هي من تنشر نورها داخله، لكن ماذا إن لم يحدث ؟ هل يرفض وينالها آخر ؟؟ أمام عينيه ؟! يكون له حق التمتع بالنظر لها وتدليلها ورؤية ابتسامتها كل صباح كما تمنى هو، يترك غيره يحقق أحلامه ؟؟
زفرت ميمو تعلم أن شقيقها ما يزال عنيدًا متخوفًا ويحتاج دفعة قوية ليتناسى كل ذلك الهراء ويعيش حياته بشكل طبيعي :
” خلاص يا سعيد نادر مش مـ ”
وفجأة جذبها نادر بقوة صوبه يمنعها من إكمال الكلمات يحرك رأسه بسرعة ولهفة كبيرة لأعلى وأسفل معلنًا واخيرًا موافقة صريحة، موافقة على سعادته، سيكون انانيًا معها ويحصل عليها رغم كل شيء .
ابتسم سعيد بسمة واسعة يخرج هاتفه :
” هكلم المأذون يحضر عشان نكتب الكتاب ..”
بهذه الكلمات أنهى سعيد حديثه يتحرك بعيدًا عنهم، يده ترتجف، هل يفعل الصواب لشقيقته ؟؟
نظر خلقه صوب نادر الذي كان متسع الأعين وكأنه لا يصدق ما سيحدث، حسنًا هو أيضًا لم يتوقع يومًا أن يُسلم شقيقته بهذا السرعة، هي ما تزال صغيرة، لكن هو أخطأ ولن يستطيع أن ينهي ما بدأه سوى بهذه الطريقة .
وضع الهاتف أعلى أذنه:
” الو يا أمير، هات المأذونة وتعالى على المستشفى ”
اقترب منه صلاح ينتزع الهاتف من بين أنامله ليعترض سعيد وهو ينظر له بشر كبير :
” خير عايز ايه ؟؟”
نظر له صلاح ببرود شديد يقول وهو يحاول أن يصبر على ذلك الرجل الأحمق :
” بس يا حبيبي، هتجوز اختك ازاي وهي مش واعية ولا صاحية ؟؟ ”
حدق به سعيد يقول بتلقائية شديدة :
” أنا ولي أمرها وليا حق اجوزها ”
ابتسم صلاح وهو يربت على كتف سعيد، ثم نفض له غبارًا وهميًا كما لو كان يتحدث مع طفل صغير وليس رجل بالغ يسبقه أعوامًا في العمر :
” لا تنكح البكر حتى تُستأذن، ولا تنكح الأيم حتى تُستأمر، واختك مش مطولة يعني هتفوق في أي وقت، يعني زي الشاطر تصبر أختك تفوق وتكون واعية وتدخل تتكلم معاها أو ميمو تكلمها وتاخد منها موافقتها وبعدها جوزها إن شاء الله تجوزها لقرد ”
ارتفع حاجب مختار بتهكم ليمنحه صلاح بسمة صغيرة :
” معذرة يا نسيب، لكن ده واحد يا عيني عقله على قد بنحاول نفهمه ”
ارتفعت زفرات سعيد الغاضبة، يدفع صلاح بعيدًا عنه بغيظ :
” مش فاهم طلعتلي منين أنت”
هو أراد أن ينتهي من أمر نيرمينا، لكن صلاح معه حق، ليصبر ويأخذ أذنها فهو لا يريد أن يُغضبها على أية حال …
اقتربت منهم ميمو تشير لسعيد بالتحرك :
” دلوقتي خلاص اطمنت على اختك وناقص موافقتها، نطمن احنا على نفسنا بقى ؟؟”
نظر لها بعدم فهم لتقول ببسمة صغيرة مخيفة :
” زيارة صغننة لحبيبنا غانم ..”
____________________
” مش فاهمة يعني ايه جواد كلمك ؟!”
تناول صالح قضمة من شطيرته وهو يجلس في مخبز هاجر كعادتهم كل استراحة غداء، ليس لحبهم الشديد في الشطائر اللذيذة التي تصنعها هاجر، ولكن لإدمان رفيقه على البسكوت وحبه لرائحة المخبوزات وصاحبة المخبوزات .
ابتلع صالح الطعام بعدما مضغه :
” اه يا عيني أنتِ عبيطة، بصي يا بنتي جواد كلمني يعني رفع التليفون بتاعه وكتب رقمي اللي معرفش جابه من أي مصيبة وضغط على زر الاتصال وانتظر يسمع صوت الجرس بعدين فجأة سمع صوتي الشجي الرائع وأنا بقول ( الو ) ”
فركت رانيا خصلات شعرها تفكر في كلماته :
” صالح أنت بتهزر ؟؟ ما أنا عارفة كل ده، أنا قصدي ليه؟؟ اشمعنا يعني عبدالجواد يكلمك ؟؟ وكمان محمد قالي اقولك تيجي يكونش …”
صمتت تنظر حولها في الجامعة برعب قبل أن تخفض جسدها على الهاتف هامسة بصوت منخفض جدًا وكأن صوتها سيصل لاخوتها في شركتهم :
” يكونش عاملين ليك فخ وهيجروا رجلك واول ما توصل… يضربونك ضربة رجل واحد ويخلصوا عليك ؟؟”
” ايه يا ماما حيلك حيلك، خاطب واحدة من قبيلة بني مخزوم؟؟ ايه هناسب بنت من بنات قريش ؟؟ ”
عدلت رانيا من وضعية حجابها بتوتر شديد وقد على صوت تنفسها حتى وصلت ذبذبات خوفها لصالح عبر الهاتف فقال بهدوء :
” رانيا …”
صمتت رانيا ولم تستطع الحديث بسبب امتلاء عيونها بالدموع، تخاف وبشدة أن يتهور أحد اخوتها ويسأم منها صالح ويغادرها، وهي …هي أحبته، لأول مرة تشعر أنها تريد أن يصبح أحدهم قريبًا منها ومعها طوال الوقت كما تشعر مع صالح.
” رانيا أنتِ معايا ؟؟”
هزت رانيا كعادتها رأسها وكأن صالح يجلس أمامها يراقبها، ابتلعت ريقها تقول بصوت خافت به غصة بكاء :
” معاك ”
” اسمعي يا رانيا عشان مش هتلاقيني طول الوقت بالمزاج الهادي ده، والله لو اخواتك الأربعة اتنططوا على الحيط أو مشيوا على أربعة، أنا مش هزهق، وإن كانوا متربوش فأنا مش احسن منهم، اتفقنا ؟!”
ابتسمت رانيا من بين دموعها تتنفس بصوت مرتفع، تشعر أنه سمع نداء قلبها، سمع رجاءها أن يطمئنها، هل يمكن أن تمتلك رجلًا أكثر لطفًا وحنانًا من ذلك الرجل ؟؟
” بعدين يعني مش فاهم أنتِ خايفة ليه من المقابلة دي بالذات ؟! هما اخواتك يعني استقبلوني بالورد المرة اللي فاتت عشان تخافي من دي؟! دول اربع تيران كل ما يشوفوني يتجننوا كأنهم شافوا واحد ماسك راية حمرا قدام عيونهم ”
لا بالطبع لن تجد من هو أكثر لطفًا وحنانًا من صالح، وأين تفعل وهي وجدته صدفة أثناء رحلة البحث عن هاتفها ؟! وكما قال والدها فلن ينفع اخوتها سوى شخص كصالح .
” على فكرة أنت بتغلط فيهم كتير وأنا ساكتة، لكن أنا مش بحب حد يغلط في اخواتي، أنت متعرفش قد ايه هنا حنينين وطيبين ورقيقين ”
تشنجت ملامح صالح يراقب بعيونه محمود الذي يقف جواره وهو يحرك عيونه مع هاجر وكأنه لا يرى في المكان سواها، ذلك الفتى جُنّ تمامًا .
” حنينين ورقيقين ؟؟ بذمتك أنتِ مصدقة نفسك ؟! يعني جبريل اخوكِ ده رقيق ؟؟ ده أرق حاجة فيه …”
صمت قليلًا محاولًا البحث في عقله عن شيء متعلق بجبريل و يمكن وصفه رقيقًا ..
” تصدقي مش لاقي، مفيش حاجة فيهم رقيقة، رانيا خلينا متفقين أن أرق حاجة في بيتكم كله هو أنتِ ”
ابتسمت رانيا بخجل شديد وتقبلت منه ذلك المدح ببسمة وصدر رحب، لكن فجأة وكالعادة لم يمنحها صالح رفاهية التمتع بكلماته إلا لثواني محدودة حيث اكمل بجدية :
” يعني تخيلي تكوني أنتِ بكل عصبيتك وزعابيبك أرق شيء في البيت، وضع مزري الحقيقة”
صمت يمضغ طعامه بتلذذ :
” وده يعرفنا إن عندكم نقص في مخزون الرقة، والله عم رؤوف أرق منكم واحد واحد ”
اشتد غضب رانيا بقوة وكادت تنفجر في وجه صالح لولا سماعها لصوت رجولي يحدثها، رفعت رأسها لذلك الشاب الذي كان طويل القامة بشكل مبالغ به، يقف أمامها في ساحة الجامعة يتحدث لها ببسمة رجولية جذابة ونبرة لينة بعض الشيء جعلت رانيا تتحسر على ما أوقعت نفسها به مع ذلك الوقح صالح .
” معذرة لو بزعجك يا آنسة، لكن إذا تكرمتي ممكن تقوليلي فين المكتبة العامة ؟؟”
رمشت رانيا ثواني تحاول أن تترجم سؤاله في عقلها، لكن فجأة انتفضت بقوة على صوت شخص آخر قد تناسته في خضم انشغالها بسؤال ذلك الشاب، وما كان الصوت سوى صوت صالح الذي قال ببساطة :
” قوليله عند أمك”
اتسعت عين رانيا بقوة تضع يديها أمام شفتيها وهي تنظر للشاب الذي ينتظر اجابتها، بينما صوت صالح ما يزال يصدح في أذنها:
” قوليله يلا ”
ابتلعت رانيا ريقها تبتسم بسمة غبية للشاب تقول بصوت هامس من أسفل أسنانها :
” صالح عيب كده، أنت بتقول ايه ؟!”
” هو ايه اللي عيب، يعني هو الحلو ساب الجامعة بكل الأمن اللي فيها والشباب واللوحات بتاعة الاماكن وجايلك أنتِ؟؟ ليه فيه GBS على وشك ؟؟ مشي الواد ده، ده عيل بيستهبل ”
” يا صالح عيب كده، شكله لسه سنة أولى وميعرفش حاجة ”
كانت تتحدث وهي تنظر للشاب الذي لم يهتم كونها تتحدث في الهاتف وهو واقف، هو فقط كان يستمتع بالنظر لها ورانيا تحاول أن تجعل صالح يخفض صوته، أو تخفض هي صوت الهاتف مخافة أن يصل صوته للشاب ويحرجه :
” في سنة أولى مين يا متخلفة أنتِ ؟؟ ده مش بعيد يكون خريج وجاي يشقطك، اقولك مش معاكِ الصاعق؟! طلعيه اديله شحنتين خليه ينور ”
” يا صالح …”
صرخ صالح بجنون في الهاتف يشكل جعل جميع من في المخبز ينتبه له :
” بلا صالح بلا زفت، الواد واقف يشقطك وأنا معاكِ على التليفون، والله يا رانيا أما قولتي للواد ده يغور لاجي أنا اتصرف معاه ووقتها هعرفك إن اللي شوفتيه مني كان صالح المحترم اللي متربي مرتين على ايد أميرة بالغلط ”
زفرت رانيا بقوة ترفع نظرها لذلك الشاب العجيب والذي رغم أنها جعلته ينتظر وتجاهلته إلا أنه لم يتحرك ..
” بعتذر أنا ..أنا معرفش فين المكتبة للأسف، ممكن تسأل أي شخص تاني ”
ابتسم الشاب لها يتحرك ليجلس جوارها لتتسع عينيها بقوة وهي تشعر بالخطر، فهذه المرة الأولى التي تتعرض لمثل ذلك الموقف ويجلس جوارها شاب غريب، هذا إذا استثنت صالح من الأمر حينما كانت تتشاجر معه .
وعلى الجانب الآخر كان محمود يحمل بين يديه طبق الحلوى اليومي الخاص به وهو يتناول منه بنهم يتحدث من بين مضغاته بعدم فهم لملامح صالح التي كانت تبدو مرعبة بحق :
” حصل ايه ؟! مالك متعصب كده ؟!”
نظر له صالح ولم يجبه بكلمة واحدة بل فقط انتفض من جلسته يصرخ بقوة حينما سمع صوت ذلك الشاب قريب من الهاتف مما يعني أنه اقترب من رانيا :
” هو قرب منك ؟؟ ”
هزت رانيا رأسها بنفي وهي تبتعد عن الشاب تنطق بثبات :
” لا، هو …هو بعيد و…”
قاطع حديثها صوت الشاب الذي قال بجدية يتنحنح :
” أنا آسف لو بقاطعك بس محتاج اتكلم معاكِ في موضوع ضروري، ممكن استناكِ لو تحبي ”
اغمض صالح عيونه بقوة وقد بدأ يشعر بشعور سيء، شعور هو لا يحبذه، أن يشاركه أحدهم فيمن يحب :
” رانيا، طلعي الصاعق نشفي دم العيل الثقيل اللي جنبك ده، بدل ما أنا اللي اجي اصفي دمه ”
نهضت رانيا بسرعة شديدة تنظر للشاب باعتذار :
” معلش مش هقدر، عن إذنك ”
ولم تكد تتحرك خطوة واحدة ليهدأ صالح حتى لحق بها الشاب وهو يقول بصوت مرتفع :
” رانيا لو سمحتي استني، أنا فعلا من زمان محتاج اتكلم معاك ”
لكن رانيا تجاهلته وركضت منه بسرعة كبيرة، ليس فقط لأجل صالح، بل لأن اخوتها إن علموا أنها وقفت تتحدث مع أحد الشباب والذي لا يبدو عليه أنه يحتاجها للسؤال عن الطقس، سيقتلونها …
في تلك اللحظة ازداد غضب صالح يدفع عنه محمود الذي اسقط طبق الحلوى به ارضًا واتسعت عينيه صارخًا :
” أنت ياض أعمى ؟! ما تبص قدامك ”
اقتربت منهم هاجر بفزع تنظر حولها للجميع تحاول معرفة ما حصل :
” ايه يا جماعة فيه ايه ؟!”
نظر لها صالح بشر لتتراجع للخلف تقول بعدم فهم :
” والله ما عملت حاجة”
قال صالح بغيظ وغضب :
” هي بنت اختك دي عبيطة ؟؟ واقفة تتكلم معاه ليه ؟؟”
هزت هاجر رأسها بعدم فهم :
” والله ما اعرف، أنا معرفش هي واقفة معاه ليه، يمكن يمكن عايز حاجة”
ورغم أنها لا تعلم عمن يتحدث صالح، إلا أنها أجابت ما جاء في رأسها لشدة خوفها، نهض محمود من الأرض بعدما نظف ما سقط من الحلوى يشير لصالح بتحذير :
” ولآ عصبيتك دي تطلعها على حد تاني، خلي مشاكلك أنت والمتشردة بتاعتك دي بعيد عننا، هتخوف الزباين ”
تحرك صالح خارج المخبز بسرعة مخيفة ومحمود ما يزال يرفع إصبعه في الهواء يقول بحنق شديد :
” بنت اختك هتضيع الواد الحيلة”
نظرت له هاجر بعدم فهم، تدرك أن الصراع احتدم مجددًا بين رانيا وصالح، ألم يقم الاثنان معاهدة سلام ؟؟
اقتربت هاجر من محمود تضم صينية لصدرها :
” تفتكر ممكن يروح يقتل رانيا ؟؟ اتصل بمحمد يلحقها ؟!”
ابتسم لها محمود بحنان شديد :
” متخافيش يا نواعم صالح ده بؤق، شوية وهتلاقيه رجع زي الكلب يخلص القرصة بتاعته ”
نظرت له بتعجب ليهز هو رأسه مؤكدًا حديثه السابق، ثم قال مبتسمًا يمد لها بقايا الحلوى التي أسقطها صالح :
” ممكن حتة تانية بدل اللي وقعها صالح ؟؟؟”
_____________________
” خلاص يا حاجة أنا مش هاخدها واهج بيها، ده الموضوع كله ساعة عن هنا ”
ابتعدت والدته عن تسبيح تجفف دموعها التي هبطت حزنًا على رحيل من آنسها وملء منزلها بالصخب طوال ذلك اليومين ..
” يا بني وهو أنت حد بيشوف وشك غير كل عيد؟! مستخسر عليا أودع مرات ابني اللي ملحقتش اتهنى بيها”
سقطت دموع تسبيح تأثرًا بحديث تلك المرأة التي عاملتها كما لو كانت ابنتها، عاملتها بكل حنان وحب دون أن تشعرها لحظة واحدة أنها دخيلة عليهم، فسيدة غيرها كانت تهكمت من طريقة اقتحامها حياتهم دون أي مقدمات، لكن تلك السيدة فقط استقبلتها بالاحضان والقبلات .
اقتربت منها تسبيح مرة أخرى تضمها بحب شديد وهي تهمس لها بامتنان :
” متخافيش يا ماما أنا هخلي رائد يجبني على طول ازورك، مش هتأخر عليكم ”
ابتعدت عن نعمة التي اخذت تربت على رأسها بحب، ثم تحركت صوب سليمان لتصافحه، لكن سليمان بدلًا من مبادلتها المصافحة، ضمها لصدره بحنان ابوي يهمس لها بصوت خافت :
” أي وقت تحسي أنك عايز تتكلمي مع حد بعيد عن رائد، أو رائد زعلك، رني عليا رنة واحدة وانا هكون عندك في وقتها اخدك بنفسي وارجعك هنا ”
نظرت تسبيح لرائد الذي كان يرمق الجميع برضى وبسمة واسعة وقالت بشكر :
” شكرًا يا بابا هتكون اول شخص افكر فيه لو زعلت من رائد، مع أني أشك أن حد زي رائد ممكن يزعل حد ”
ربت سليمان أعلى كتفها بحنان :
” ده عشان أنتِ طيبة يا بنتي، إنما رائد ده عيل
عصبي و…”
تدخل رائد يسحب تسبيح من بين يدي والده حانقًا مما آلت إليه تلك المحادثة التي كانت تصب في صالحه في بدايتها :
” لا مؤاخذة كده يا حاج، ايدك عن البنت، هتعصيها عليا من دلوقتي ؟! ناقص تقولها إني واكل مال اليتيم، و باجي على المظلوم ”
ضحك سليمان عليه :
” مش بوعي البنت بدل ما تضحك عليها ”
” شكرا يا حاج مش عارف من غيرك طلاقي كان هيكون على ايد مين ”
جذب يد تسبيح مكتفيًا بكل تلك الكلمات من الجميع، وقد شعر أنه إن وقف ثانية إضافية لن يغادر بتسبيح، بل سيغادر بورقة طلاقه وهو حتى لم يحصل على وثيقة زواجه بعد .
صعد رائد السيارة يرتدي نظاراته السوداء كي يُحسن القيادة دون أن يتأثر بالشمس، وجواره استقرت تسبيح تلوح للجميع قبل أن يتحرك رائد بسرعة كبيرة يخرج يده من النافذة يودعهم، ثم اغلقهم وهو يقول ببسمة :
” ارفعي النقاب عادي يا توتا خدي راحتك عشان متحرريش”
نظرت له تسبيح بعدم فهم مشيرة للنافذة :
” بس ممكن حد يشوفني و…”
قاطعها رائد وهو يمنحها بسمة واسعة :
” متقلقيش أنا مفيّم العربية يعني خدي راحتك خالص محدش هيشوفك ”
” يعني ايه مفيم العربية دي ؟؟”
بدأ رائد يشرح لها بطيب نفس، فما أحب على قلبه من حوار طويل مع من ملكت القلب :
” بصي يا ستي الفاميه ده عبارة عن زجاج شفاف من الداخل معتم من الخارج، يعني أنتِ تشوفي اللي برة واللي برة ميشوفش اللي جوا ”
اتسعت عين تسبيح تنظر له باستفسار وقد أعجبتها تلك الفكرة وبدأت ترفع نقابها تكشف له عن ملامحها الحبيبة بكل ما فيها من تفاصيل :
” وده عادي ؟؟ طب ليه مش كل العربيات بتركبه؟! ولا هو غالي ؟!”
ضحك عليها رائد وعلى تلك النظرات المنبهرة :
” هو غالي شوية عن النوافذ العادية، لكن محدش بيركبه عشان دي مخالفة اساسا ”
اتسعت عيونها بصدمة :
” مخالفة ازاي ؟؟ يعني ممكن تتحبس ؟!”
انطلقت ضحكات رائد اكثر :
” حبيبتي يا توتا فيه فرق بين مخالفة وجنحة وجناية، مخالفة يعني آخرها غرامة ٣٠٠٠ جنيه وتحذير وخلصنا، بس متقلقيش أنا عندي معارف في المرور”
ارتفع حاجب تسبيح تنظر له ببسمة متهكمة :
” وسايط يعني ؟؟”
” اممم تقدري تقولي إني لقيت المشي السليم مش جايب همه، فقولت نستمتع شوية ببعض الامتيازات اللي بيوفرها مركزي المتواضع في الشرطة، أنا اساسا لسه مركبه عشان خاطرك وعشان تاخدي راحتك في الرحلة ”
ورغم أنها لم يعجبها أن يخالف القانون، لكن اتسعت بسمتها حينما علمت أنه فعل ذلك لأجلها، حسنًا شعور رائع آخر يضيفه لها رائد على قائمة الاحاسيس التي اكتسبتها بفضل معرفته ..
انتبه رائد لبسمتها الواسعة :
” ايه يا توتا حبيتي الجزء الإجرامي فيا ولا ايه ؟؟”
نظرت له تسبيح قبل أن تفغر فاهها عن ضحكة صاخبة فعلت الافاعيل بقلب رائد الذي كان لا يفوت لفتة صغيرة منها، مستمتعًا بكل ما تمنحه له برضى .
” لا أنا بس …بس حاسة نفسي مميزة عشان أنت بتعمل كل ده ليا ”
” أنتِ فعلًا مميزة يا توتا، مميزة اوي كمان ”
ابتسمت له تسبيح بحب شديد، حب لم ينطق به لسانها، لكن عيونها فاضت بكل ما تضمره هي بكل كرم، ورائد التقط منها كل تلك الرسائل الصامتة، ليتنهد ينهي ذلك الحوار الصامت ويعود للقيادة، وهي فقط صمتت مبتسمة بسمة واسعة، قبل أن تقول بلا شعور :
” أنت حلو اوي يا رائد”
شعر رائد بحالة بلاهة لثواني معدودة لا يفهم ما سمع للتو، أو مناسبته، لكنه فعل ما يحسن فعله كلما أصبح معها، ابتسم بحب يقول :
” وأنتِ الحلى كله فيكِ يا توتا ..”
نظرت له تسبيح بخجل ليشعر رائد أن قدرته على التحمل قد نفذت، تحرك بالسيارة لجانب الطريق، ثم قادها ببطء ونظر لها يقول بعبث شديد :
” على فكرة أنا عندي معارف كتير اوي في الآداب برضو ”
نظرت له تسبيح ثواني تحاول أن تزن كلماته في رأسها، قبل أن ترتفع شهقاتها بقوة تصرخ في وجهه مؤنبة إياه على ما قال :
” أنت بتقول ايه يا رائد عيب كده على فكرة ”
انطلقت ضحكات رائد بقوة عليها وهو يتحرك بالسيارة مجددًا ، يقول من بين ضحكاته :
” وأنا عملت ايه بس ؟؟ أنا بعرفك إن جوزك ليه وسايط كتير في كل أجهزة الدولة، ذنبي اني عايزك تفتخري بيا ؟؟”
نظرت له تسبيح ساخرة ليعلم أنها أدركت كذبته، لكنه لم يهتم حقًا ..
مر الوقت سريعًا قبل أن تتوقف سيارة رائد أمام البناية الخاصة بهم واخيرًا يعود برأسه على المقعد خلفه يتنفس براحة :
” واخيرًا وصلنا ”
حملقت تسبيح بالبناية في حنين شديد :
” تعرف أن البيت وحشني ؟!”
” والله وانا كمان، يلا انزلي عشان نستريح شوية قبل ما حد من البلاوي يرجع من شغله ويقلبوا العمارة بصوتهم ”
نزلت تسبيح من السيارة بعدما وضعت نقابها أعلى وجهها :
” أنا في شقتي صح ؟؟”
” اكيد يا تسبيح امال هتيجي الشقة عندي مع شوية العجول اللي معايا ؟؟”
صمت يخرج الحقائب الخاصة بهم والتي ملئتها والدته بالعديد من الأطعمة :
” الاكل اللي امي بعتته خليه عندك لأحسن صالح وصاحبه بيخلصوا على الأخضر واليابس، اطلعي ارتاحي وانا هجيب الشنط وهحصلك ”
اطاعته تسبيح وتحركت صوب المنزل الخاص بهم، لكن فجأة توقفت على صوت نسائي خلفها ينادي اسمها، استدارت تسبيح تنظر للمنادى لكن فجأة شعرت بشيء ثقيل يهبط على كتفها بقوة لتعلو صرخاتها في المكان ..
في تلك اللحظة كان رائد يتحدث في هاتفه من صلاح :
” دلوقتي ؟؟ لا أنا وصلت القاهرة اهو بس هطلع الشنط واطمن على تسبيح و…..”
فجأة انتفض جسده بقوة حينما استمع لصوت صرخات اصابه بالصمم خلفه استدار كالمجنون ليرى أمرأة تحمل عصى غليظة وهبطت بها فوق رأس تسبيح ، اغلق الهاتف الخاص يركض صوبهم يصرخ بصوت جهوري مرعب :
” ابعدي عنها ”
وتبع كلماته صوت رصاصة في الهواء خرجت من مسدسه، وقبل أن تتحرك السيدة خطوة واحدة واحدة كانت يد رائد تجذب أول ما طالته وقد كان حجابها يصرخ بجنون :
” ده أنا هطفحك الويل يا زبالة ”
كان يتحدث وهو ينظر لها بشر، قبل أن يخرج هاتفه ويتحدث مع المركز الذي يعمل به، ثم جر تلك السيدة بقوة صوب البناية ينادي حارسها والذي خرج له سريعًا ..
” افتح المخزن اللي تحت السلم ومتخرجش الزبالة دي غير لما البوكس يوصل ”
نظر له الرجل بريبة ليصرخ رائد في وجهه ويفتح هو باب المخزن يلقي به الفتاة التي أخذت تصرخ به وتسبه هو وتسبيح وتصرخ بهما :
” والله لاوريكِ يا تسبيح، هندمك على اللي عملتيه في اخويا وامي ”
اتضحت الرؤية تلك ابنة إحدى النساء التي سبق و تهجمن على تسبيح وأيضًا شقيقة لأحد المجرمين الذين أبلغت عنهم تسبيح .
أغلق رائد الباب بعدما أكد على الحارس ألا يخرجها إلا بحضور الشرطة :
” لو خرجت غير على البوكس هخليهم ياخدوك أنت ”
أنهى تحذيره يركض صوب الخارج ليجد تسبيح تستند على الجدار وهي تحاول أن تتمالك نفسها، وقد شعرت بكتفها يكاد يسقط عن جسدها، تحرك لها رائد يسندها للسيارة، ثم تحرك بها صوب المشفى الأقرب لهم وهي جواره جسدها يتحرك بقوة ليظنها تبكي .
رفع رائد النقاب عن وجهها يقول بخوف :
” متخافيش يا قلبي مش هـ ”
لكن فجأة توقف حينما وجد تسبيح تضحك بقوة، اعتلى التعجب ملامحه يحرك نظراته بينها وبين الطريق :
” بتضحكي على إيه يا تسبيح ؟؟”
نظرت له تسبيح تقول بصوت ساخر :
” اصل أنا من يومين كده قولت خير يعني مفيش مشاكل في حياتي، استغربت إن خلاص الحياة بدأت تضحكلي، الظاهر كده كانت بتضحك عليا ”
تنفست من بين ضحكاتها قبل أن تنظر له ببسمة صغيرة :
” عامة الحمدلله المرة دي جات في كتفي، شكلي مش هعرف اعملك الاكل اللي كان نفسك فيه ”
أنهت حديثها تضحك بصوت مرتفع ليقول رائد ببسمة :
” هبقى أنا أجي اعملنا أنا الأكل يا تسبيح، أنا اشيلك في عيوني ”
ابتسمت تسبيح له بسمة واسعة وقد شعرت في تلك اللحظة أنها نالت مكافئتها الكبرى بحصولها على رائد، فقدت الكثير ونالت نصيبها في الحياة متمثلًا على هيئة رائد، أغمضت عيونها تحمد ربها ورائد جوارها يمسك بكفها يداعبه بلطف شديد ..
” أنتِ اقوى واحدة أنا شوفتها في حياتي يا توتا”
نهضت تسبيح ولأول مرة تبادر بلفتة بمثل تلك الجرائة حيث اقترب تقبل خد رائد بحب وامتنان شديد، ثم استقرت برأسها أعلى كتفه :
” عشان أنت بس معايا رائد ”
شعر رائد بصدمة جمدته ومنعته الكلام أو الرد، لكنه كان سعيدًا، بل كاد يطير من السعادة ..
ابتسم يميل مقبلًا رأسها بحب شديد، يشكر الله أن رزقه بها ..
______________________
يجلس أعلى مكتبه يتكأ بجسده على المقعد الخاص به يراقب أمام عيونه صور مختارة لجثث من حاولوا بيعه، ابتسم بسمة واسعة يتحسس تلك الصور بشفقة :
” ليه كده يا وسيم أنت ورجب ؟؟ يعني مكنتوش عارفين تعملوا زي جلال وتمشوا من سكات؟؟ لازم تتطمعوا ؟؟ شايفين اضطرتوني اعمل ايه ؟؟”
زفر يلقي الهاتف أعلى المكتب يتمطأ بكسل شديد :
” كلفتوني جرعتين غاليين، بس ميغلاش عليكم يا حبايبي”
كان يتحدث للصور التي أُلتقطت لوسيم ورجب بعدما أُلقي كلاهما على قارعة الطريق بثياب رثة وهيئة شاحبة بعض الشيء، يتحدث للصور كما لو كانوا أمامه ويعاتبهم .
فجأة سمع صوت رنين هاتف مكتبه الذي خرج منه صوت مساعدته الشخصية :
” فيه حد هنا عايز يقابلك يا فندم ”
” حد مين ؟؟ اسمه حد يعني ؟؟ ما تقولي اسمه ايه واخلصي”
ولم تكد الفتاة تجيبه حتى وجد باب مكتبه يُفتح بقوة يتقدم منه سعيد الذي أعاد ترتيب هيئته مرتديًا بنطال أسود وقميص رمادي اللون يقول ببسمة واسعة :
” غانم حبيبي وصديق الجيم العزيز، شايف ما شاء الله نفخت زيادة ”
رفع غانم رأسه صوب سعيد الذي تحرك داخل مكتبه بكل أريحية يتبعه رجل يعرفه وكيف لا وهو نال من لسانه ومقالاته الكثير حتى كاد يذهب بنفسه ويتخلص منه، وقد حاول بالفعل لكنه فشل في ذلك مرات ومرات .
ابتسم صلاح بسمة واسعة :
” يا جماعة مش تقولوا أنه غانم بتاع المخدرات المضروبة ؟؟ ده عشرة عمر وصديق عزيز، ولا ايه يا غانم ؟؟”
تحفز جسد غانم أكثر وهو يرى اجتماع غريب عليه، ما الذي أوصل سعيد الفاسد لصلاح الذي يحارب الفساد، ما حلقة الوصل بين الاثنين ؟!
ودون انتظار وجد حلقة الوصل تخطو مكتبه وهي تمسك بين يديها رابطة شعر تجمع بها خصلاتها تقول بارهاق مصطنع :
” السكرتيرة اللي برة دي متعبة اوي ”
انتفض جسد غانم بالكامل ينظر للثلاثة بعدم فهم، وجود سعيد كان هو الوحيد المنطقي هنا، وقد كان في الحقيقة ينتظر ذلك اللقاء وعلى استعداد له، لكن وجود صلاح وميمو معه أثار ريبته .
” ايه اللي لمى الشامي على المغربي يا ترى ؟؟”
ابتسمت ميمو تتحرك بخطوات رشيقة صوب المقعد الذي يتقدم مكتبه :
” أنت يا غانم، أنت اللي لميتنا يا غالي ”
أضاف صلاح يجلس على المقعد المقابل لميمو :
” شوفت يا غانم حركاتك البايخة اضطرتني اعمل ايه ؟؟ خلتني اساعد سعيد، ينفع كده ؟! الله لا يسامحك يا اخي”
ابتسم غانم بسمة قاسية شرسة يظهر لهم وجهًا مقيتًا مرعبًا يشهره في وجه كل من يفكر يومًا أن يتحداه :
” معلش يا حبايبي عادي الزبالة تتلمى على بعضها، مش شيء غريب ”
وضعت ميمو قدم أعلى الأخرى تلوي ملامحها بحنق شديد واعتراض على حديثه :
” لا لا يا غانم، بلاش تغلط عشان كلنا في المكتب ده عارفين مين بالضبط اللي زبالة ”
أنهت حديثها تشير بعيونها عليه هو وسعيد الذي ابتسم بسمة جانبية :
” عادي أنا معترف اني زبالة، الدور والباقي على الزبالة اللي عايشة عيشة الانتيكات ”
كان يتحدث وهو ينظر لغانم الذي ابتسم لهم وقد اعجبته تلك اللعبة :
” من الآخر كده عايزين ايه ؟؟ اكيد مش جايين المكتب بتاعي عشان تدسوا فيا وتلقحوا عليا ”
هزت ميمو رأسها توافقه الحديث، ثم أشارت لسعيد تقول :
” قوله يا سعيد إحنا جايين ليه ”
هز سعيد رأسه، ثم تحرك من مكانه يخطو صوب غانم الذي كان يحرك عيونه تزامنًا معه، حتى أصبح سعيد يقف أمامه يتحدث معه بكل هدوء :
” أنا جايلك عشان اعاتبك يا غانم، بقى ينفع كده ؟؟ يعني تسيب كل الناس وتيجي على اختي الصغيرة؟؟ ما عندك ميمو اهي قادرة ومفترية ولا هو مش بتيجوا غير على المسكين”
نفض ثياب غانم في حركة بطيئة يكمل حديثه بصوت هادئ منخفض :
” بعدين يا أخي ده احنا كنا مشتركين في نفس الجيم، ولا هو عشان ربنا نفخ في صورتك وانا لسه زي ما أنا هتدوس علينا؟!”
كان غانم يحدق في وجهه بعدم فهم، لا يفهم ما الذي يحدث وكيف يتحدث بتلك النبرة العادية، وقبل أن يقول كلمة واحدة أسقطه سعيد بقوة هو ومقعده حينما ضربه في معدته بقدمه، وقبل أن يستوعب غانم شيئًا كان سعيد يمسك تمثال يعلو المكتب ويهبط به فوق رأسه بجنون، ومن ثم انكب عليه بالضربات يفرغ به كل لحظة رعب شعر بها حينما علم ما حدث لشقيقته .
كل ذلك وغانم يحاول أن يدفعه لكن سعيد استغل كبر حجم غانم وثقل جسده ليحصره بين المقعد والمكتب ويهبط فوق رأسه بكل ما وجد أمام عينه ..
وبعد دقائق طويلة نهض تاركًا غانم خائر القوى ارضًا، وسعيد يتنفس بقوة وجنون وقد أصابته نفس الحالة التي تصيبه أحيانًا حينما يشتد به الغضب، رغبة عميقة في إيذاء من أمامه، أن يذيق الجميع وجعًا.
ابتسم بسمة جانبية يهتف في وجه غانم الذي اختفت جميع معالمه، بينما هو يعدل من وضعية ثيابه :
” طلع نفخ يا غانم، يا خسارة البروتين اللي صرفت عليه دم قلبك ”
أنهى حديثه يتحرك بعيدًا عنه، لكن فجأة لمح صور لوسيم ورجب يعلو المكتب ليبتسم ساخرًا هاتفًا بينه وبين نفسه، أنهم نجوا من شِركه ..
تحرك خارج المكتب، بينما صلاح اقترب من غانم يخرج هاتفه يلتقط له عدة صور بزوايا مختلفة ليقول موضحًا ببسمة واسعة :
” دي بس عشان النعي، المرة الجاية يبقى ناخد صور بطقم تاني بقى ”
ابتسمت ميمو تطلق ضحكات عالية على حديث صلاح، ثم سارت صوب غانم تحدق فيه ثواني قبل أن ترفع قدمها وتهبط بها في قوة مرعبة أسفل معدته، تبصق على وجهه بكره شديد، ولحقت بالجميع.
والاخير كان مسطحًا ارضًا يرى أمامه الشياطين تتراقص ليشتعل رأسه بقوة ويشعر بالغضب يندفع بين أوردته، حتى صرخ صرخة عالية هزت جدران المكتب بأكمله …
____________________
يشاهدها باستمتاع شديد وقد كانت تلك مرته الأولى التي لا يشعر بأي ذنب، أو رغبة في إخفاء لهفته عن أحد، أذلك لعلمه أنها لا تشعر به، ولا تستطيع أن تمسك به يتلصص النظر لها، أم لأنه يدرك جيدًا أن الأمر يحتاج لساعات فقط وتصبح له وزوجته ؟!
زوجته ؟؟ ذلك اللقب الذي كان يطارده أحلامه الوردية ويهرب هو منه خوفًا من ثِقله على قلبه، كيف يتقبله الآن، ربما بسبب كلمات ميمو التي جعلته يرتعد خوفًا أن تكون لأحد غيره .
تنهد بصوت مرتفع يميل على الفراش بجسده، مستندًا برأسه جوار جسدها يحاول أن يتمتع بالنظر لها، وطالت نظراته حتى شعر فجأة بالنوم يهاجمه، فسقط به دون مقاومة ..
وبعد ساعة أو أكثر لا يدري، استيقظ على صوتٍ ضعيف هامس اشتاقت له أذنه، صوت سمع به همسة أثارت جميع حواسه وتسبب في زيادة معدل خفقاته عن الحد الطبيعي .
” مختار..”
رفع نادر رأسه ببطء يرى أمامه ملامحها التي اعتاد مراقبتها خلال الأيام السابقة، لكن تلك المرة مع إضافة زادتها جمالًا …عيناها .
ابتسم مختار في وجهها بسمة جميلة جعلتها تهمس بنبرة مرهقة :
” أنت بتبتسم عادي زينا؟! ”
رمقها نادر بنظرات عاشقة قبل أن ينفجر في الضحك على كلماتها، بعد كل ما حدث وبعد كل ذلك كان أول ما نطقته أو انتبهت له هو بسمته، وهذا ما زادها اتساعًا يحرك أصابعه بهدوء :
” مستعد ابتسم كده على طول لو فضلتي تبصيلي كده ”
ويبدو أنه فقط يتحدث بثقة ودون توتر فقط لإدراكه أنها لا تفهم منه شيئًا، وقد كان هذا ما حدث، حيث حدقت به نيرمينا ثواني ودون وعي تمد يديها لوجهه تجذب وجنته بقوة لها :
” أنت مش بتعرف تكتب ؟! اكتب اللي عايز تقوله ”
نظر لها بحاجب مرفوع وعينه تثبتت على يدها التي تضم وجنته، لكن نيرمينا لم تتوقف عن العبث بوجنته تشعر كما لو أنها ما تزال في حلمها الذي ظلت تراه طوال لحظات نومها، ونادر يجلس مترقبًا لكل ما تفعل، وهي فقط ابتسمت تقول :
” تعرف اني كنت مفكراك زمان مركب وش بلاستيك ؟؟ كنت مفكرة أنك لابس قناع ”
ابتسم لها نادر بسمة واسعة لتتجرأ هي وتحرك اصبعها ودون أن يتوقع حركتها التالية كانت تدفع اصبعها بقوة كبيرة صوب أسنانه تضربه بها، ليتراجع نادر للخلف بصدمة كبيرة يخفي أسنانه خلف يديه ..
بينما هي رمقته تلوي ثغرها مبتسمة بخدر :
” سنانك طلعت حقيقية، أنا فكرتك مش بتضحك عشان معندكش سنان ومركب طقم ”
انطلقت ضحكات نادر يتحرك جسده دون صوت وهي تراقبه ببسمة، وحينما انتهى من الضحكات رفع يده يضرب رأسها بخفة شديد، ثم أخرج هاتفه سريعًا مكتفيًا بلعب دور الصامت :
” أنتِ كويسة ؟؟”
رمشت نيرمينا وهي تقرأ الأحرف لفترة طويلة قبل أن ترفع رأسها وتحدق في الغرفة حولها :
” أنا كويسة، هو أنا فين اساسا؟؟ أنا … أنا”
صمتت ثواني ثم قالت تحاول أن تستوعب وتتذكر ما حدث :
” هو أنا مش فاكرة ليه اللي حصل ؟! أنا كنت بتصور مع الحمار قدام البيت في البلد ومش فاكرة حاجة ”
حِمار ؟؟ حقًا تعرضت للخطف وفقدت إحدى كليتيها وكادت تصيب نصفهم بانهيار وتتسبب للنصف الآخر بشلل فقط لأنها أرادت التقاط صورة لها مع حِمار ؟!
كتب نادر بأصابع عصبية على الهاتف جملة غاضبة، احرفها توحي بمقدار ما يشعر به من انفجار وشيك :
” بتتصوري مع حمار ؟! ده الحمار هو اللي يتصور معاكِ بعقلك ده يا غبية يا متخلفة، كنتِ هتموتي وتموتيني وراكِ عشان حمار ؟!”
ونيرمينا التي ما تزال تعاني من توابع تلك العملية وكم كبير من المخدر الذي ينتشر في دمها لم تجد له ردًا منطقيًا وهي تقول بصوت ناعس بعض الشيء تحرك يديها في الهواء :
” كان عنده شعر طويل اوي ”
تبًا لعجزه الذي يجعله لا يستطيع الصراخ في تلك اللحظة ليخفف مقدار الغضب الذي يسري بين أوردته، ونيرمينا تنظر له بعدم فهم، ثم جذبت ثيابه لينتبه لها وهو ما يزال يتنفس بصوت مرتفع …
” أنا ما اكلتش في الفرح وصلاح قال هيجبلي أكل، أنا جعانة ”
زفر نادر بتعب وإرهاق شديد، يدرك أنها لم تفق بشكل كامل، لذلك اراد أن يتلاعب معها يستغل حالتها تلك ويعترف بما يريد، لربما تستيقظ المرة القادمة ولا تتذكر من حديثهما شيئًا .
لذلك حمل هاتفه يكتب عليه كلمات مقتضبة، يحقق حلم غريب أحمق، ومن ثم رفعه في عيون نيرمينا التي كانت ترمقه بأعين ضبابية تقرأ كلماته بصوت منخفض ضعيف بعض الشيء :
” بحبك يا نادر ”
ابتسم نادر بسمة واسعة وقد التمعت عيونه بشكل أوسع يشعر بضربات قلبه تعلن إقامة حفلة صاخبة داخله، هذا الشعور الذي يتحدث عنه الجميع ؟؟ حسنًا إما أنهم قصّروا في وصفه، أو أن مشاعره كانت أقوى منهم جميعًا .
مسح ما كتب سريعًا ليكتب رده لها وهو يريها الهاتف لترى جملته :
” وانا كمان بحبك يا نيمو ”
نظرت له نيرمينا بعدم فهم ثواني وبملامح بلاهة جعلت نادر ينفجر في الضحك وهو ينهض عن الأرض يتحرك في الغرفة يشعر أن المكان لا يستوعب مقدار سعادته، يتنفس بقوة يستمتع بلفظ اسمه من بين شفتيه، حتى أنه ود لو يعود ويكتب لها اسمه مئات المرات ويجبرها على قرائته له لساعات، ويسجل لها تسجيلًا صوتيًا به ..
الأمر أشبه بتلك المقاطع المصورة التي يراها عادة، أراد أن يصنع له مقطعًا ويسميه .. ( ساعة كاملة من {بحبك يا نادر بصوت نيرمينا} )
ونيرمينا كل ذلك كانت تراقب ما يفعل نادر ببسمة بلهاء لا تفقه شيء منه، لكنه سعيد وهي أيضًا سعيدة، تحدثت بصوت خافت وبسمتها ما تزال تزين ثغرها :
” مختار هتجبلي أكل من الفرح ”
انطلقت ضحكات نادر بقوة يتحرك صوب فراشها، يشير لها برأسه، يضم يديه صوب صدره مشيرًا لها بكامل الحب :
” هجبلك الفرح نفسه يا نيرمينا …”
_____________________
توقفت السيارة أمام المنزل بعدما أصر سعيد على العودة لتجديد حيويته، أُستنزف بالكامل وعليه أن يعيد حساباته، ويعود كما كان بل واسوء…
راقبته يتحرك بخطوات قوية صوب المنزل يأمر رجاله بصوت جهوري وكلمات عالية حانقة، يصرخ في الجميع دون تفرقة لتنتفض فجأة على صوت صلاح يقول بهدوء :
” ايه اللي جاي ؟؟ ”
ابتسمت له ميمو بسمة صغيرة :
” اللي جاي أن سعيد هيبقى عامل زي اللي بيغرق وهيفضل يرفص بايده ورجله في كل اللي حواليه بدون تمييز، وأي حد هيقف في وشه هيشده معاه ويغرفه قبله، وهو ده اللي عايزينه ”
نظر لها صلاح، ثم هز رأسه بهدوء شديد ونظر للسيارة ثواني قبل أن يقول :
” هترجعي المستشفى تاني ؟!”
اومأت له ميمو، ثم شردت بعيدًا قبل أن تنظر فجأة لصلاح وتتساءل دون مقدمات وكأنها تذكرت الأن ما قاله لها في لحظات نادرة من حزنه :
” صلاح ”
” نعم ؟؟”
نظرت له وأطالت التحديق، ثم قالت :
” ايه اللي حصل لوالدتك ؟!”
تعجب صلاح سؤالها هذا وفي ذلك الوقت، لا يفهم ما السر وراءه أو كيف تذكرته فجأة، إلا أنه هز كتفه يقول ببسمة صغيرة :
” خليها بعدين يبقى اقولك ”
شعرت ميمو أنه لا يريد إدخالها لتلك النقطة تحديدًا في حياته، رغم أنها أخبرته كل شيء وكل ما يخص حياتها ولم تخفي عنه جزء صغير منه ..
وصلاح أدرك ما تفكر به ليدحض كل ظنونها قائلًا بنبرة هادئة وبسمة راقية :
” متفكريش كده يا ميمو، أنا بثق فيكِ اكتر من نفسي، وعندي استعداد اكون كتاب مفتوح قدامك، عندي استعداد احكيلك حكاياتي كلها واقولك فصول حياتي قبل ما اعرفك، لكن مستني اللحظة المناسبة ”
اقتربت منه ميمو تنظر في عمق عيونه تستكشف صدق كلماته من كذبها، قبل أن تبتسم فجأة تقرأه بوضوح، صلاح منذ رأته وهي تفهم صمته قبل كلماته، تدرك مقصده دون أن يتحدث، وربما هذا هو ما أنشأ بينهما روابط غير مرئية للآخرين، محسوسة لهما وبقوة .
” وامتى اللحظة المناسبة ؟؟”
صمت صلاح لا يرغب أن يقص عليها شيئًا وهي لم تبرأ بعد مما مرت به، يشفق عليها أن تستمع لمشاكله وهي ما تزال في طور حل مشكلتها..
ابتسم يمارس هوايته التي يبرع بها، وهي الحديث المنمق والكلمات الراقية الرقيقة :
” وقت ما تكوني زوجتي، عشان لو ميّلت ألاقيكِ جنبي وتسنديني، اتفقنا ؟؟”
ابتسمت ميمو بسمة أخبرته أنها بالفعل تدري تملقه بالكلمات، ومن يفهمها بقدره، إلا أنها هزت رأسها بكل هدوء تقول مقترحة عليه :
” تحب تشوف الخيل بتاعي ؟؟ ”
تحرك معها صلاح بصمت، وهي في الأساس لم تكن تسأله، بل كانت تخبره ما يحدث في ثوب سؤال هادئ واقتراح لطيف .
توسط الاثنان اسطبل الخيل تشير ميمو صوب فرسها الحبيب :
” ده سكر الفرس بتاعي”
ابتسم صلاح يتحرك صوبه بخطوات هادئة يتحسس خصلاته الناعمة تحت أعين ميمو المدهوشة وهناك بسمة متعجبة ارتسمت على فمها جعلت صلاح يقول بتسائل دون أن يبعد عيونه عن الفرس الذي منذ رؤيته وابصر في عيونه ميمو أخرى، بنفس الجموح ونفس القوى .
” مالك بتبصي كده ليه ؟!”
” اصل سكر مش من النوع الودود مع أي حد، قبل كده سعيد حب يغيظني ويركبه فوقعه وكسره، عشان كده استغربت أنه تقبلك ”
ضحك صلاح يقترب من الخيل يقبله أعلى رأسه :
” شكله وفيّ لأي حد يخصك ”
اقتربت منه ميمو تتحدث بخبث :
” وأنت بقى تخصني ؟!”
ارتسمت بسمة جانبية على فم صلاح يبادلها الخبث بخبث أكبر :
” اممم، زي ما أنتِ بالضبط تخصيني، وفي انتظار عقد الملكية يا ميمو ..”
صمت ثم قال مقترحًا :
” تسابقيني بسكر ؟!”
فتحت عيونها بصدمة قبل أن تطلق ضحكات عالية :
” مش معنى أنه سابك تحسس على راسه وتبوسه أنه يسيبك تركبه في وجودي لا وكمان يسابقني ”
وقبل أن تكمل جملتها كان صلاح قد أخرج سكر من مكانه يحضر سرجًا يلقيه أعلى ظهره ويغلقه بشكل حريص، ثم قفز يلقي نفسه أعلى ظهر ممتطيًا إياه بكل شموخ غامزًا :
” قولتلك وفيّ لكل اللي يخصك ”
ابتسمت ميمو تتحرك سريعًا صوب أحد الخيول الأخرى تختار منهم واحدًا تعلم جيدًا قدرته الكبيرة على السباق وجهزته، ثم صعدت أعلى ظهره وتحركت صوب صلاح الذي بمجرد أن وقفت جواره قال بهدوء :
” المرة دي مش هتهاون .”
وبمجرد انتهاء كلمته كان سكر يسابق الريح بشكل مرعب جعل ميمو تطلق صفيرًا، تنغز خيلها بقدمها، تدفعه ليركض خلف صلاح الذي كان جسده يتحرك لأعلى وأسفل بقوة وسترته تطير ليتحرر منها بسرعة كبيرة ملقيًا إياها دون اهتمام مكتفيًا بقميص ابيض لائم جسده الرياضي، يطلق صيحات عالية فاتحًا ذراعيه بقوة .
بينما في الخلف ميمو كانت قد رفعت يدها تلتقط سترته من الهواء قبل أن تسقط في الأرض، ثم ربطتها أعلى خصرها تنغز فرسها في معدته ليزيد من سرعته حتى أصبح يجاري سكر ..
أطلقت ميمو ضحكات عالية وهي تشعر لأول مرة منذ فترة طويلة انقطعت فيها عن الخيل، بأن روحها قد رُدت إليها، هي أيام فقط وشعرت أن روحها سُجنت، فما حال هؤلاء الذين لم يمتطوا فرسًا يومًا ويجربون ذلك الشعور الرائع ؟؟
أمسكت ميمو رابطة الشعر التي قيدت بها خصلاتها وعلى عكس عادتها نزعتها تترك للهواء حرية العبث بخصلاتها .
لتتطاير في المكان بقوة جعلتها تنتعش، احتدم السباق وجاورت ميمو صلاح لتقول له بصوت مرتفع :
” ايه يا لذوذ فين الجنتلة اللباقة اللي خليتك تخسر المرة اللي فاتت مخصوص عشاني؟! ”
أطلق صلاح ضحكات عالية وهو يراقبها، ثم غمز لها متحدثًا بصوت مرتفع :
” كنت لسه في البداية وحابب أجر رجلك، خلاص أنتِ دلوقتي غرزتي ومش مسابقة خيل اللي تخليكِ تفلتي مني يا لذوذة ”
أنهى حديثه يزيد من سرعة سكر ليسبق ميمو التي ابتسمت بسمة واسعة، تلحق به دون أي مجهود وقد انتهى الخيل من لف المضمار المخصص له مرتين أو ثلاثة، ومازال السباق لم يحسم بعد .
تحدثت ميمو وهي تضحك بصوت مرتفع :
” صدقني لو موقفتش واستسلمت هفضل اسابقك ولو ليوم كامل ”
ابتسم صلاح يقول بقوة :
” مستعد أسابق عمري كله، لو هيكون شريكي في السباق هو أنتِ، وهلاقيكِ عند خط النهاية في الآخر ..”
ضحكت ميمو أكثر وهي تستمتع بكلماته، تشعر أنها تعيش في حلم الآن، الراحة تملء صدرها رغم كل ذلك ولا ينغصها شيء سوى أن تنتهي من مشكلة سعيد :
” أنا ممكن اسيبك تفوز عادي بعد الكلمتين دول ”
” وأنا ممكن اسيبك تفوزي عادي من غير كلام، يكفيني ضحكة منك عشان أسلم يا ميمو ”
انتعش صدر ميمو ورقص قلبها سعادة، وقد أعلن موسم الازهار داخلها، ينشرون عبير الحب والعشق في أرجاء جسدها بأكمله ..
نظرت له ميمو وقالت وهي تقلل من سرعة فرسها :
” لو وقعت هتمسكني يا صلاح ؟؟”
نظر لها صلاح بجدية ثم نظر حولهم يتأكد أن كل شيء جيد في خيلها :
” مش هسمحلك تقعي اساسا يا مقدس ”
ابتسمت له ميمو تقول بجدية تجمع خصلات شعرها مرة أخرى آسرة إياهم بين عقدتها، ثم رفعت أكمام ثيابه وشددت من ربط سترته على خصرها وقالت :
” طول عمري كان نفسي اعمل كده بس خوفت اعملها ملقيش اللي ينجدني لو وقعت ”
نظر لها صلاح بفضول ولم يكد يتساءل عن ذلك الذي تتحدث عنه، حتى وجدها تعتدل على الفرس تجلس القرفصاء وتحرر اللجام شيئًا فشيء وهو قد تنبهت جميع حواسه وأخذ يُبطء من حركات فرسه يراقبها تجلس على ركبتها ثواني قبل أن تقف بكامل جسدها على ظهر الخيل وبكل تمرس، ثم فتحت ذراعيها تحاول التوازن وكادت تسقط مما جعل صلاح يهرع صوبها يمد يديه لالتقاطها، لكنها توازنت أخيرًا تفتح ذراعيها للهواء ثم أطلقت صرخة عالية؛ صرخة شعرت بها تخرج من اعماق روحها مُخرجة معها كل ما كبتته من أحزان واوجاع، ثم أغلقت عيونها تتنفس بقوة شديد وقد شعرت براحة لا مثيل لها .
وصلاح يسير جوارها متحفزًا لأي شيء، وحينما رأى جسدها يتوازن اخيرًا ابتسم وهو يقلل من حركة خيله أكثر، لكن فجأة ارتفعت رأسه بقوة حينما سمع ميمو تقول بنبرة صافية سعيدة :
” المرة دي حابة اقولها وانا سعيدة يا صلاح …. أنا بحبك ”
ابتسم صلاح لها يمنحها في نظراته ما عجز هو عن قوله :
” وأنا لأول مرة تعجز كلماتي عن التعبير عن مشاعري يا ميمو ..”
اتسعت بسمة ميمو تستمتع بالاجواء والهواء حولها ومشهد السماء، وصلاح أيضًا يستمتع ببسمتها وملامحها.
كلٌ يستمتع بما يحب …
_____________________
” متهزرش يا صالح أنت عارف أم الشغل اللي فوق دماغنا، وتقولي مسافر اسكندرية ؟؟ هي عملت ايه البلوة اللي انت خطبتها دي عشان تعصبك كده ؟!”
خرج صالح من البناية الخاصة به بعدما أبدل ثيابه واستعد للسفر، صعد للسيارة يتحرك بها في جدية كبيرة، سوف يذهب لينهي لقائه مع عبدالجواد ومحمد، وأيضًا يرى رانيا ..
” محمود مفيش حاجة هما كام عينة هتسلمهم وبس، احنا خلصنا الجزء الصعب سوا، بعدين أنا هسافر اخلص اللي عايزه واجي قبل الشغل بكرة، أنت بس غطي على غيابي ”
” شغلني ملاية عندك”
زفر محمود ثم قال بهدوء يحاول أن يهدأ :
” طيب بس حاول متقتلهاش جامد، اهدى كده قبل ما تدخل عليها، اقولك روح كل جيلاتي عزة بيقولوا حلو، في أمان الله يا صاحبي متسبش بصمات أنت عارف الطب الجنائي صعب ازاي ”
أنهى الحديث مع صالح يغلق الهاتف يلقيه على الطاولة في اللحظة التي اقتربت بها هاجر تحاول فهم ما وصل لمسامعها منذ ثواني، ما الذي قصده بجملته الأخيرة .
” أنت بتتكلم عن مين كده ؟! ”
سحب محمود المقعد لهاجر يقول ببسمة واسعة :
” هيكون مين يعني، بنت اختك عصبت صالح وتقريبًا ناوي يخلص عليها، ده سافر ليها مخصوص ….سيبك منهم دلوقتي وخلينا فينا ”
رمشت هاجر تحاول أن تستوعب ما حدث، ما الذي يقصده أنه ذهب ليتخلص من رانيا ؟؟ هل يمزح معها .
ابتسم محمود يرى ملامح القلق تعلو وجهها :
” متخافيش هو شاطر في التقطيع مش هيوجعها، ده صالح ده عليه مسكة مشرط فن والله، الولد بيمسك الجثة من هنا يعملها طرنشات ولا اجدعها جزار بيقطع لحمة، بسم الله ماشاء الله خبير ”
شعرت هاجر في تلك اللحظة بمعدتها تتلوى بقوة وهي تنظر له بصدمة مبتلعة ريقها ومحمود يزيد من وصف ما يحدث وما يفعلونه، حتى انتفضت فجأة رانيا تركض صوب المرحاض وقد سببت لها كل تلك الصور التي تفنن محمود في وصفها بالغثيان .
لحق بها محمود خائفًا وقد شعر بالذنب من تماديه في الحديث عن مهنته وهو يعلم جيدًا أنها تشمئز من كل ذلك .
توقف على باب المرحاض في الخارج ينتظرها أن تخرج بعدما تنتهي، وكذلك فعلت هاجر التي كانت تبدو مرهقة بشدة :
” ألف سلامة يا نواعم، يقطع سيرة صالح ورانيا مش جاي من وراهم غير وجع القلب، تعالي اقعدي استريحي وهعملك عصير ليمون .”
ابتسمت له هاجر بسمة صغيرة تشفق من ملامح الرعب والذنب التي توسطت ملامحه، تتحرك صوب طاولات المطعم التي كانت فارغة في ذلك الوقت ما بين الإفطار والغداء ..
جلست تريح جسدها على الطاولة، وهي تتنفس ببطء ومحمود يراقبها بخوف قبل أن ينهض ويغيب عنها دقائق، ثم عاد لها يحمل بين يديه مشروبًا يضعه أمامها ..
وهي أخذته منه شاكرة مبتسمة تحاول أن تنتعش :
” متقلقش أنا .. أنا بس بتعب بسرعة من الحاجات دي، لكن أنا بخير .”
نظر لها محمود ثواني قبل أن يقول بهدوء :
” هاجر أنا …أنا آسف والله، أنا كنت بهزر، صالح مش هيعمل حاجة لرانيا، ده يروح فيها، الواد ما صدق يلاقي واحدة يحبها وتحبه ”
ضحكت هاجر ضحكة خافتة على ملامحه التي بدت كما لو أنه صدق رعبها، هي بالطبع لم تصدق أن صالح قد يؤذي رانيا، وحتى إن فعل فلن يستطيع وهناك أربعة جدران تحيط برانيا …
” أنا عارفة يا محمود، متخافش كده انا بخير والله، أنا من صغري كده بتعب وببهدل الدنيا من أبسط شيء، ماما حتى كانت دايمًا تقولي إن نفسي وحشة عشان برجع من أي حاجة ”
أنهت حديثها تضحك بصوت مرتفع ومحمود في قمة سعادته لرؤيتها تتحدث معه براحة وحرية وتضحك له ايضًا، هل اليوم يوم حظه ؟؟
تلاعبت هاجر بالكأس في يدها :
” أنا بابا وماما جابوني وهما في سن كبير، فمقدرتش اشبع منهم، وكنت طول طفولتي جبانة وبخاف وبتعب من أقل حاجة، ودلع بابا ساهم أنه يخرجني بشخصية هشة زي ما انت شايف كده، محمود أنت قولت عايز تتجوزني، لكن هل أنت هتقدر تستحملني ؟؟؟”
” في قلبي يا نواعم لو تحبي، اللي بتقولي عليه ده مش عيوب أبدًا، دي المميزات اللي شدتني ليكِ اساسًا، رقتك والهشاشة اللي أنتِ فيها دي ميزة، طيبتك دي اكتر حاجة جذبتني ليكِ ”
صمت ثواني ثم قال بتسائل مبتسمًا لها بسمة حنين صغيرة :
” تعرفي يا بسكوتة أنا بحبك من امتى؟!”
ورغم خجلها من كلمته التي خرجت عفوية بشكل كبير، إلا أنها نفت برأسها، جاهلة منذ متى بدأ محمود بالانجذاب لها، بينما محمود ابتسم لملامحها الخجلة يقص عليها أول مرة رآها بها ..
دفع الباب يزفر بغيظ شديد وخلفه صالح الذي اقتحم معه المخبز تاركًا محمود يرغي ويزبد معترضًا على ذلك الفطور الذي لا يسمن ولا يغني من جوع كما يقول .
” يعني اقولك ابويا منزلني من غير فطار وميت من الجوع، جايبني فرنة اكل قرص بسمسم وبقسماط مملح ؟؟ أنت ياض اتربيت ؟؟”
” لا متربتش، واخرس شوية، بقولك مش عايز أكل على الصبح طعمية وفول والأكل ده، تعبان يا أخي أنت مش بتفهم ”
دفعه محمود بقوة مغتاظًا بشدة منه وقد شعر بالقهر يملء صدره من إجباره على تناول المعجنات صباحًا، كما لو كان أحد سكان باريس، يا عالم هو مصري اعتاد تغميس الخبز الساخن بالفول الحار الملئ بالطحينة والزيت اللذين يساهمان في سد شرايينه صباحًا ليرتمي على مقعده غير قادرًا على التحرك .
جلس صالح على أحد المقاعد يقول مشيرًا صوب منطقة طلب الطعام :
” روح بقى شوف عندهم ايه واطلبلنا حاجات حلوة كده، يعني بص نوّع شوية بسمسم على شوية بملبن ولو فيه سادة وكوباية شاي بلبن يبقى فلة اوي ”
دفع محمود المقعد ناقمًا عليه وعلى الحياة، متحركًا صوب الطاولة التي تستقر خلفها هاجر لأخذ الطلبات بعدما حضرت منذ الصباح الباكر العديد من المخبوزات الشهية .
كانت تميل على الطاولة أسفل الحاجز الزجاجي تسجل بعض المعلومات عن الطلبيات، لكنها فجأة سمعت صوت تصفيق ورجل يتحدث :
” يا عم …مين اللي بيعمل الاكل هنا، هو مفيش حد في الفرنة دي ؟!”
رفعت هاجر رأسها سريعًا تستقيم في وقفتها تعدل من وضعية الثياب التي ترتديها :
” صباح الخير يا فندم، نورت المخبز تحب تبدأ يومك بايه ؟! ”
وبالنسبة لشخص كمحمود، كامل تعامله مع عائلته وأفرادها ذوي اللسان السليط، وصالح صاحب الكلمات العذبة، والجثث، كانت تلك هي مرته التي يتعرض فيها لذلك الكم من الكلمات الراقية اللطيفة في جملة واحدة، ومن فتاة تنافس كلماتها رقة ولطفًا .
ابتسم و نسي لثواني ما جاء لأجله وقال دون وعي :
” مظنش اني احب ابدأ يومي بشيء افضل من البداية دي ؟!”
نظرت له هاجر ببلاهة ليبتسم هو لها وقد غاص في ملامحها دون أن يشعر، وكانت تلك بداية لعنته؛ لعنته أصابته ليركض خلف البسكوت النواعم المتبقي من حياته .
انتهى محمود كلماته لتظل هاجر تراقبه بصدمة وقد كانت ذاكرتها لا تساعدها في تذكر ذلك الموقف من كثرة ما مرت به في هذا المخبز، لكنها فقط ابتسمت بسمة واسعة سرعان ما تحولت لضحكة عالية سلبت لب محمود للمرة العاشرة بعد المليون ….
__________________
امسك صالح الهاتف يجيب الاتصال الثالث من رانيا وقد نفذ صبره ومحاولته الحثيثة ليدعي الغضب والثقل، وبمجرد أن أجاب سمع صوت رانيا تهتف بغضب شديد :
” يابني أنت ايه ؟! ما بتصدق تتعصب ؟؟ بقولك والله ولا اعرفه ولا نيلة ”
” ما أنا عارف أنك متعرفهوش يا رانيا ”
زفرت رانيا بصوت مرتفع تتحرك على عتبات المنزل، ثم جلست ارضًا تضع يديها أسفل وجنتها :
” امال متعصب ليه طالما عارف ؟!”
أجابها صالح بصوت غاضب :
” عشان منفذتيش كلامي وضربتيه بأي جذمة جنبك، الواد كان بيشقطك وأنتِ زي الهبلة قاعدة تردي عليه وخال عليكِ أنه فعلًا تايه ”
التوى ثغر رانيا وقد شعرت أنه محق، لكنها بالطبع لن تعترف بذلك :
” حتى ولو يا صالح، أنا مش صغيرة وبعرف اتصرف مع كل دول، ولا ناسي عملت معاك ايه ؟؟”
أطلقت صالح ضحكات صاخبة هزت السيارة، يتذكر ما مر بهما في بداية تلك العلاقة، كانت أيام صاخبة ممتعة للحق .
” ما هو عشان أنا مش ناسي ياقلبي بقولك تتنيلي تستخدمي الصاعق، رانيا أنا كنت كل ما اقرب منك يا اما بتقفلي على نفسك زي القنفد وتقعدي تهددي تهديدات عبيطة، يا ما بتجري مني ”
ابتسمت رانيا بسمة صغيرة تدرك صحة حديثه، وكيف لها أن تدافع عن نفسها بشكل ملائم، صالح كان الشاب الاول الذي تتعامل معه بهذا الشكل المباشر بعيدًا عن اخوتها ووالدها .
” لا ما أنا خلاص اخدت خبرة من التعامل معاك وبقيت اعرف ادافع عن نفسي ”
ابتسم صالح يزيد من سرعة سيارته :
” أيوة هتقوليلي، عامة يا رانيا أنتِ مش محتاجة تدافعي عن نفسك كتير لأن خلاص قريب اوي أنا هستلم الموضوع ده ”
شعور لذيذ أن تتمتع بكلمات صالح، لكن كالعادة خجلها يقف عائقًا في وجهها، تنفست تهدأ من ضربات قلبها :
” هو ..ايه الصوت اللي جنبك ده ؟؟ أنت راجع من شغلك دلوقتي ؟؟”
” لا أنا في طريق اسكندرية الصحراوي اهو ”
انتفضت رانيا عن الدرج تقول بعدم تصديق :
” ايه ده بجد ؟! مش أنت قولت عندك شغل ؟؟”
” أيوة عندي شغل فعلا، لكن مقدرتش أصبر، كنت متعصب وجاي اقتلك واخلص عليكِ، لكن عصبيتي هديت ”
ضحكت عليه رانيا وهي تتحرك صوب المنزل بسرعة كي تتحضر لحضوره، تبحث في رأسها عن ثوب يناسبها ويكون غير مبالغ به، كي لا تظهر له اهتمامها الشديد وسعادتها بحضوره .
” طب أنت فين دلوقتي ؟؟”
نظر صالح للطريق حوله يزيد من سرعة قيادة سيارته كي يختصر الوقت ويعود سريعًا :
” عديت الاستراحة اللي في نص الطريق من شوية، جاي من طريق الموقف الجديد ”
ولم يكد يكمل جملته حتى سمع صالح صوت احتكاك عالي خلفه، وكأن هناك سيارة تقاوم انزلاقًا أعلى طريق رطب، نظر للمرآة المجاورة له يحاول تبين ما يحدث، ليجد سيارة سوداء تتبعه، نفس المشهد يتكرر معه كما حدث يوم المؤتمر سابقًا ..
” هو ايه حكاية اسكندرية ؟! كل ما اخطيها الاقي عربية ماشية ورايا ؟؟ ويا ترى المرة دي عشاني ولا عشان صلاح ؟؟”
كانت رانيا تستمتع لكلماته بعدم فهم وهي تفتح خزانة ثيابها تحاول معرفة ما يحدث :
” فيه حاجة يا صالح ؟؟ ايه صوت العربيات المزعج اللي حواليك ده ؟؟”
انحنى صالح بسيارته جانبًا يحاول إفساح الطريق للسيارة لربما يكون سائقها يحاول المرور أو ما شابه :
” معرفش فيه عربية عاملة زي الفرخة الدايخة عمالة تعمل خمسات في الطريق بشكل مريب ”
كان يتحدث وهو ينظر للمرآة الخلفية، ويده تمسك بالمقود، والأخرى تحركت تفتح ادراج السيارة تبحث عن المدية الخاصة به يتأكد أنها بحوزته ..
ثم تعلقت عيونه بالسيارة التي تخطته قبل أن تقف أمامه بشكل مريب جعله يبتسم زافرًا بصوت مرتفع :
” امممم جايين عشاني، تمام كده ،يا ترى هببت ايه تاني يا صلاح ؟!”
وعلى الجانب الآخر كانت رانيا تستمع لكلماته برعب وهي تتحرك خارج الغرفة وكأنها ستركض له :
” فيه ايه يا صالح ؟؟ أنت كويس ؟!”
” لا العربية و…”
وقبل أن يكمل كلمته ارتفعت أصوات تصادم قوية وسبات نابية عالية من فم صالح، ثم صوت فتح باب وإغلاقه بقوة، واخيرًا صرخات صالح بصوت مرتفع غاضب وكأنه يوبخ أحدهم وهذا كان آخر ما وصل لمسامع رانيا التي شعرت بالرعب وهي تركض على الدرج كالمجنونة….
في نفس اللحظة التي خرجت بها من المنزل أبصرت محمد يهبط من سيارته يرتدي بدلته كالمعتاد ونظارة سوداء وفي أذنه سماعة يتحدث بها مع أحدهم، لكن حينما لمح الرعب الذي ملء وجه رانيا ضغط على السماعة يغلقها ينظر لرانيا بعدم فهم :
” رانيا فيه ايه مالك ؟؟؟”
نظرت له رانيا وكأنها أبصرت طوق النجاة وسط محيط هائج، تتمسك بيده متوسلة بخوف ودموعها تكاد تهبط :
” محمد صالح، ألحق صالح …..”
______________
لأجل الورد يُسقى العليق …..
يتبع..
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية ما بين الألف وكوز الذرة)