روايات

رواية يناديها عائش الفصل الرابع والثمانون 84 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش الفصل الرابع والثمانون 84 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش البارت الرابع والثمانون

رواية يناديها عائش الجزء الرابع والثمانون

يناديها عائش

رواية يناديها عائش الحلقة الرابعة والثمانون

اللهم يا ربنا نسألك أن تنزل الرحمة والسكينة على أهل غزة والمستضعفين من المؤمنين في كل مكان.. اللهم و خصّ أهل غزة بمزيد من الطمأنينة والأمن والعافية..
‏لم تطل إلى هذا الحد على أمة محمد ﷺ إلا و وراءها فيما نظن بالله سبحانه فرَج عظيم وصلاح كبير.
________________
‏سُئِل أحدُهم : عن سبب بشاشته و استبشاره الدائم
فأجاب: ” أستحي من الله تعالى أن أحزن و أمري بيده”.
~~~~~~~~~~
الرَجُل صاحب الأربعة و ثلاثون عامًا التي عصفت به دروب الحياة و ألقت بالصِعاب على عاتقه..
قد نالَ ما ظنه مُستحيلًا منذ دقائق، كان يتمنى من صميم قلبه شيئًا واحدًا فقط، يتمنى أن ينال الُحب و يعطيه لشخص يستحق قلبه الطيب و نُبل أخلاقه، كان يدعو الله في جوفه أن يرزقه بفتاةٍ تبادله المشاعر الصادقة دون تزييف، تقبل به كما هو تُحبه لكونه هوَ.. تُحب شخصه قبل جماله و ماله، و الآن و بعد سنواتٍ جاهد بالدعاء فيهن، ولم يفقد الأمل بربه يومًا أن يحقق له مبتغاه؛ صارَ ما دعا به أن يصير، و أصبح أمرًا واقعًا ملموسًا أمام حواسه الآن، و بعد أن وثب مع أسرته من دولة أجنبية لدولة أخرى لأمور متعلقة بوالده دون استقرار في مكان مُعين، جاء الحُب و طرق باب قلبه ليفتح له سارّ الضلوع باستقبال حبيبته المصرية التي جعلته يعترف بينه و بين نفسه؛ أنّ لا مفر و لا مهرب من موطنه الأصلي الذي وهبه روحه المفقودة و المتفرقة من هجرته، ليعود لبلده و يعشق و يتزوج منها.
لقد رأى ” أُبَيِّ ” قدره و مستحقه في عين
” نورا ” ابنة عمه التي أثبتت له مقولة
( الحُب جحيم يُطاق، والحياة دون حُبّ نعيم لا يطُاق. )
تم كتب الكتاب في بيت ” مُصطفى ” كما تم تزيين حديقته احتفالًا بهذه المُناسبة السعيدة، مثلما فعل شقيقه الأكبر ” مُجاهد “، و لأن حديقة الأخير هي الأجمل و الأوسع، فكان الاتفاق أن بعد كتب الكتاب تبقى النساء للاحتفال في بيت مُصطفى، و الرجال يستقبلهم مُجاهد.
بعد أن أشهر” أُبَيِّ ” ابهامه لهم بسعادة عمتّ أثرها على الحضور و خاصةً على العروسين، نهض و اصطحب ” نورا ” من يدها تحت أنظار الجميع ليقول لهم قبل الاختفاء من أمامهم:
” أنا تزوجت نورا، و العُقْبى للعُزَّابٌ ”
” أخويا بيلقح عليا علني ولا إيه ! ”
همس بها ” قُصي ” الجالس بجانب والده، ليَرُد الأخير ساخرًا:
” ما تقلقش، مش ها تقعد المدة دي كلها أعزب زي أُبَيِّ، أنت بس تتخرج من الكُلية و تتزوج علطول ”
” على طول ولا على عرض، انسى اللي في دماغك يا بابا عشان مش ها يحصل، أنا أصلًا هسافر ”
قالها مازحًا، و لكن بدا حديثه جاد مما التفت له والده بكامل جسده يهتف في تعجب:
” تسافر ؟! ”
أومأ وهو يُهندم شعره الناعم ببرود..
” هسافر السعودية اشتغل ”
” ليه إن شاء الله ! هو أنت محتاج فلوس ! و الفلوس اللي في البنك دي كُنت بعملها لأمي ! ”
” بابا، الشيف زمانه خلص الأكل و البوفيه مفتوح، روح دلع نفسك عشان دي فرصة مش ها تتعوض، بكرة ترجع لأكل ماما اللي بالمقادير ”
صمت ” مُجاهد ” للحظات يُفكر فيما قاله قُصي حول ” البوفيه ” و نهض قائلًا باقتناع:
” لو أمك شافتني ها اقولها أنت اللي وزتني ”
” حضرتك مش وزه عشان أي حد يوزك ”
قبل أن ينزل مُجاهد بكف على رقبته، فر هاربًا كأنه ذرة ملح و ذابت..
و اتجه جَمعُ الرجالِ لمنزل مُجاهد الأشبه بالفيلا..
” مُجاهد ” بصرف النظر عن عمله الحقيقي سابقًا، و الجُهد الذي بذله من أجل الدولة، و بجانب ذلك كَسَم على أسرته، لكنه لم يكن مُتديِّن دينيًا مثل بقية عائلته و كذلك أولاده مثلهم كمثل معظم المسلمون، يؤدون الصلوات و يصومون رمضان و يخرجون الزكاة، و من ناحية أخرى يسمعون الأغاني أحيانًا و أحيانًا يجتهدون في عدم سماعها، يرتكبون ذنوب كثيرة و أحيانًا يتراجعون و يستغفرون الله، يقرأون القرآن في يوم الجمعة فقط، و أحيانًا يجاهدون في طاعة الله و أحيانًا تخونهم أنفسهم، هُم في تأرجح دائم بين الاستقامة و الاعْوِجاج.
فوجئت ” نورا ” بسحب يدها في رّقةٍ من قِبل
” أُبَيِّ ” و قبل أن ينطق لسانها بالتساؤل، أدخلها في أول غرفة ظهرت أمامه، ثُم أغلق الباب تحت أعين النساء المندهشة من بينهن ” هاجر ” التي هتفت بطريقة فكاهية:
” أنا مش هشوف حضن كتب الكتاب ولا إيه ! ده أنا مستنية أكتر منهم، عليكم اللحمة جميعًا ”
ضحكت ” عائشة ” و مالت على أذنها تهمس في مجاكرة معها:
” خلاص راحت عليكِ بقى يا أم العيال ”
رمقتها ” هاجر ” في دموع تجمعت في ثوانِ، كأنها كانت تتأهب للظهور، ثُم أردفت بنبرة يكسوها الحُزن:
” ولدوني، أنا عاوزه أولد دلوقت ”
ازدادت ضحكات ” عائشة ” عليها و أخذتها من يدها تُجلسها برفقٍ حينما رأت دموعها الحقيقية في عينيها، و قالت في مكرٍ و هي تجلس بجانبها:
” تيجي نفتح الباب مرة واحدة ”
” ازاي، أُبَيِّ قفله ”
” مفاتيح الأوض كلها زي بعض، ها نفتح الباب و نطلع نجري ”
” لا اجري أنتِ، أنا حامل و عاوزه أقف اتفرج ”
” تتفرجوا على إيه ؟ أنتم صغيرين للكلام ده ! ”
قالتها ” شهد ” التي استمعت لحديثهما دون انتباه منهما، ثُم غيرت مجرى حديثها و غيرت نبرتها سريعًا، لتقول في لهفةٍ يسبقها الحماس:
” إحنا نجيب سِلم و نطلع نتفرج من الشباك أسهل، و أهو لا مين شاف و لا مين دري ”
ردت ” هاجر ” في استياء منهما:
” أنتم بتصعبوها عليا كده، لاحظوا إني شايلة اتنين، ده غير نفسي اللي شيلاها بالعافية والله ”
علت أصوات الضحك الصاخب الصادرة من
” عائشة ” عليهما، لتقول وهي مستغرقة في الضحك:
” إيه يا مجنونة أنتِ و هي، أنتم صدقتوا إننا ممكن نعمل كده ! طب هاجر حامل و هرموناتها مطرقعة الفترة دي، أنتِ بقى يا مرات أخويا هرموناتك مطرقعة برضوا ؟! ”
” مرات أخوكِ ”
قالتها ” شهد” بعدم فهم، فصححت عائشة سريعًا
” أقصد هاجر يعني، زياد زي أخويا.. حصل لخبطة، و لا كأني قلت حاجة.. فككم ”
جاءت ” سارة ” أم العروسة تقول في سعادة:
“أنتم قاعدين ليه يا ولاد ؟ قوموا كده ارقصوا و هيصوا المعازيم بدأوا يجوا، ها يجوا يلاقوا الدنيا سُكتم بُكتم كده ! ”
صاحت ” مفيدة ” ترد عليها في نبرة مرح:
” حيلك يا سارة، ده أنا مرات ابني بترقص ولا أجدعها رقاصة فيكِ مصر ”
نهضت ” عائشة ” سريعًا تحاول تهدئة حماتها في توسل جعلهم يضحكون عليهما:
” أبوس إيدك استهدي بالله يا ماما، سمعينا بس الزغاريد بتاعتك كده و كله ها يبقى تمام ”
” الحقي ارقصي شوية قبل ما تحملي زي هاجر كده و تفضلي قاعدة في أي مناسبة زي القُلة ”
نظرت هاجر لأمها بصدمة هامسة لنفسها:
” أنا قُلة ! ”
مالت “مفيدة” على ” عائشة ” تهمس بابتسامة واسعة:
” ده أنا كل إما افتكر لما بدر جه يقولي إنه عاوز يعمل لك فرح و أنا فهمته غلط بموت على نفسي من الضحك، كنت متقلة في الفطار يومها و منمتش كويس، بس دلوقت الفرحة مش سيعاني، عشان ها تتجوزوا من هنا علطول و تخلفوا لي عشرة عشرين عيل كده يملوا البيت عليا ”
” عشرة عشرين ! على فكرة أنا كائن بشري زيك، مش كائن أرنوبي خالص، و إيه علطول دي ! هي شهور الحمل اتلغت ولا إيه ؟! ”
حدثتها بلهجة ساخرة سمعتها هاجر و ظلت تضحك عليها و كذلك هُنّ..
في ذلك اليوم، استطاعت عائشة أخيرًا فهم الأمر بطريقته الصحيحة، لقد أراد ” بدر ” تطبيق شرع الله كما أخبره الشيخ ” عمار ” ليكون الزواج تلك المرة مكتمل الأركان، و لكن بدر أراد التريث في ذلك الأمر؛ حتى يستطيع تجهيز مسكنهما و إقامة زفاف جميل لعائشة، و حتى يطرد الوساوس من رأس “عائشة” بأنهما لا يزالان يعيشان دون رابط شرعي قوي و غيرها من الوساوس الأخرى، دفع بأمه لتشرح لها الأمر على الوجهة الصحيحة؛ لأنه أيضًا أحس بخجل كبير من الحديث في ذلك الأمر مع عائشة، و بدلًا من حل والدته للموضوع.. زادته تعقيدًا، و في النهاية استطاعت عائشة فهم ما يحدث، و بذلك فهمت ” مفيدة ” أيضًا و ظلت تحمد الله قائلة:
” الحمدلله ده كان وسواس و دخل بينا، و على رأي المثل، يا داخل بين البصلة وقشرتها ما ينوبك إلا صنتها ”
رمقتها عائشة في دهشة، و ظلت تردد بينها و بين نفسها:
” هي مالها انهارده ! اللهم إن كان هذا سحرًا فأبطله ”
يبدو أن ” مفيدة ” في ذلك اليوم الحرِج، أكثرت من تناول الفول و (دشْ) البصل في الافطار؛ لذا بدا فهمها بطيء.
بداخل الغُرفة التي اختطف ” أُبَيِّ ” بها ” نورا ”
أوقفها أمامه و ظل يتأملها بشرود ضائع تائه سَاهِي في جمالها المُغْرٍ و الفَتَّان كما تراها عينيه، كانت تركيز عينيه مؤشرًا واضحًا لاهتمامه البالغ بأدق تفاصيلها، بدءً من عينيها اللاتين تَمَيَّزَت بسحرٍ خاص سحرته هو فقط، و جعلته يهيم على وجهه كلما زارته سهوًا في مُخيلته.
احمرتْ وَجْنتا ” نورا ” خجلًا، و خفضت عينيها في استحياء من نظراته المُعلقة عليها، كأنه أصيب بنوع من الصدمة المتعلقة بالعشق جعلته لا يُصدق أنه ظَفَرَ بها و أصبحت تُنسب له و لقلبه.
اِحْمِرَارُ خَدَّيْهَا دلالة على الخجل الشديد الذي وضعها فيه ” أُبَيِّ ” من تفحصهٌ الدقيق لها، ليهمس أخيرًا وهو يَشُدَّ على كفيها بحنوٍ اللذان يرتجفان بخفةٍ في كفيه و أصابعه الأدْفَاءٌ:
” فاكرة لما قولت لك ماما بتعمل بسبوسة حلوة زيك ! اتضح إن مفيش بسبوسة أحلى منك، يا أحلى بسبوسة في حياتي ”
صدرت منها ضحكة رقيقة سعيدة مسرورة بوجوده في حياتها، مُتذكرة عندما أعجبت بابن عمها ” بدر ” و علمت بحُبه الشديد لعائشة و تمنت بداخل قلبها أن تَعِش هذا الشعور الجميل و تحسه، نعم لم يصل اعجابها به للحُب و لكن ما قاله لها شقيقها ” زياد ” في ذلك اليوم؛ تجلى واقعًا حقيقيًا أمامها الآن على هيئة هذا العاشق الصادق في عشقه ” أُبَيِّ ”
” عارفة أنتِ مكتوب لك الشخص اللي يشبهك في كل حالاتك.. متتعبيش نفسك يا نورا و تدوري عليه.. مسيره الشخص ده هيقابلك ف طريقك و هيكون رزق وهدية من ربنا ليكِ على صبرك.. خلي عندك ثقة و حسن ظن بالله.”
تنهّدت بارتياح و همست في نفسها:
” الحمد لله ”
أخرجها ” أُبَيِّ ” من شرودها بقوله:
” أنا فرحان عشان أجمل عيون شافتها عينيه بقت على ذمتي من شوية ”
” بحبك يا أُبَيِّ ”
همست بها بعيون امتلأت بالدموع، و لكن دموع الفرحة التي جعلتها في مُنتَهى الغِبطة، ثُم تابعت بنبرة أكثر وضوحًا:
” كُنت نفسي أحُط لينسيز، بس البنات رفضوا، و قالوا لي عيونك حلوين مش محتاجين ”
مشاعر الفرحة بأسمى معانيها تراقصت في عينيّ البحر الصافي خاصته، و أردف وهو يحيط خصرها برّقةٍ جعلتها تود الهرب من فرط الخجل:
” لون عيونك مُميزين، أنتِ استثنائية يا نورا.. مش شبه حد، أنتِ أحلى من أي حد ”
تجرأت بعد تردد طويل و رفعت يديها تضعهما على صدره، فتسارعت دقات قلبه تلقائيًا و مال هامسًا في أذنيها:
” أنتِ قطعةُ السُكّر في عالمي المُر، أنتِ السُكر اللي محلي حياتي، يا حياتي”
ابتعد وهو يشير لتلك العلبة المغلفة التي جلبها معه:
” من أول يوم شفتك فيه و عيونك سحرت عيوني، و أنا بكتب كُل مشاعري تجاهك اللي مكنتش عارف أقولها لك في كُتيب صغير كده، اتمنى ينال اعجابك ”
أخذته منه وهي تنظر له باستيعاب بطيء و تعيد النظر للكُتَيِّب الذي يحتوي على ( فلاير) في أوله مُصمم بطريقة رقيقة ممتلئة بالقلوب الصغيرة، كُتب عليه..
( لأجمل عيون شافتها عينيه)
بينما هيَ تفتحه لتقرأ مشاعره تجاهها في أول يوم أُعجبت عيناه بها، احنى رأسه و مال تجاه خدها، و لثِم أول قُبلة تُسَّطرُها شفتيه في تاريخ عشقه، قُبلة حنونة طالت و نالت و استطالت، و طبعت و تطبعت و اطاعت.. طالت على خدها نالت من حُسنها استطالت على وجهها، طبعت عليه لثمات العشق و تطبعت بنار الحُب و اطاعت رغبة الولهِ، لم تكن مجرد قُبلة عادية و كفى، بل طغت على ملامحها السعادة، و طبعت حُبٍ ناره مشتعلة بلهب الرومانسية و العاطفة الجياشة.
وقع منها الكُتَيِّب في دهشةٍ هو وحده المتسبب فيها، ثُم ابتعدت عنه في رجفةٍ قائلة:
” آ آ.. أنا.. أنا جعانة، ها اروح اشرب ”
خطت خطوة نحو الباب، ثم استدارت له من غير توقُّع و عانقته بقوةٍ يصحبها نبراتها الدافئة:
” أنت رزقي الواسع في الدُنيا، بحبك أوي ”
” و أنا كمان بحبك أوي يا نورا ”
تزامن قوله وهو يشدد من احتضانه لها مع فتح الباب عليهما و دخول ” زياد ” المفاجئ يتأملهما للحظات، ثُم هتف في صدمةٍ بدت مضحكة:
” في بيتي يا حوش ! ”
انتفضت ” نورا ” في فزع، و خرجت من بين ذراعيّ أُبَيِّ تحتمي خلف ظهره، و تنظر لأخيها بأعين بريئة مظلومة، مما صاح ” زياد ” في استنكار:
” بتستخبي وراه من دلوقت ؟! اطلعي يا بت من عندك ”
رد ” أُبَيِّ ” في تحدٍ فبدا المشهد هزلي ساخر:
” الزم حدودك و ما تخليش الصدمة تنسيك إن أنا أكبر منك سنًا ده أولًا، ثانيًا أختك بقت مراتي و ممكن أخدها و أروح بيتي على فكرة، ثالثًا بقى و الأهم اتكل على الله دلوقت عشان أنت قطعت عليا أهم لحظة في حياتي، رابعًا الحضن لازم يكمل و ها يكمل.. ”
” خامسًا أبوك بيسأل عليك برا، أقوله ابنك بيتحضن يا حج استنى أنت دلوقت ! ”
هتف بها ” زياد ” في سخرية لاذعة، مما مسد
” أُبَيِّ ” على شعره الناعم ببرود مثل حركة شقيقه تمامًا، و أردف:
“ما قولنا اتكل على الله، ملوش لازمة الرغي بقى”
” حبيبي، ده كتب كتاب مش فرح هوَ ! ”
” دايمًا كان يقولوا عليا ياما تحت السواهي دواهي، حبيت اثبت لهم إن كلامهم صح ”
قالها ” أُبَيِّ ” بنوعٍ من اللامبالاة الساخرة، فصاح
” زياد ” في اعتراض ساخر أيضًا:
” أنت جاي تتقمص شخصية أخوك المعتوه ده انهارده بالذات ؟! ”
” طيب توكل على الله يلا و خد الباب في ايدك ”
” أبدًا والله، مش متحرك من مكاني غير و أنت معايا ”
استدار لتلك الخائفة من شقيقها خلفه، ثُم لثم جبينها بعمق و همس:
” ها توكل على الله معاه بقى عشان أخوكِ ده غلس، ها توحشيني يا أجمل عيون شافتها عينيه ”
” مُحن بريحة التقلية، ما تخلص ياعم العريس! ”
هتف بها ” زياد ” في ضيق، مما التفت له ” أُبَيِّ ” و قال بتعصب مصطنع وهو يخرج معه:
” أنت بالذات المفروض يبقى اسمك هادم ملذات”
” كلمة كمان و ها تلبس الكلبشات ”
” احترمني أنا عريس و شكلي حلو و اتعالجت من التلعثم و عندي شركة و… ”
قاطعه ” زياد ” بنفاذ صبر من عمه ” مُجاهد” الذي ألح عليه بالذهاب و احضار ابنه..
” أنت ها تعمل دعاية ! فاكر نفسك في شركة اعلانات ؟! روح يا عم شوف أبوك عاوز إيه ”
وجد ” أُبَيِّ ” والده واقفًا بجانب ” بدر ” و الأخير تنمو على شفتيه ابتسامة ساخرة مما يهذي به عمه..
تساءل ” أُبَيِّ ” في تعجب:
” في حاجة يا بابا ؟! ”
اقترب منه ” مُجاهد ” مُتفحصًا وسامة ابنه و بذلته الأنيقة، ثُم تساءل بتوعد له كأنه يتحدث مع صبي و ليس رجُل ناضج:
” كُنت فين كُل ده ؟ ”
” مع حبيبتي ”
قالها بعفوية و ابتسامته تضيء وجهه بالكامل، مما صدرت من ابناء عمامه ضحكة صغيرة، و أردف ” مُجاهد ” بنبرة غير راضية:
” معارفنا كلهم هنا و بيسألوا عليك، حبكت يعني حضن كتب الكتاب ده ! ”
انحنى على والده يهمس بصوتٍ خافض لا يصل لمسامع ” بدر و زياد “..
” بس ماما قالت لي أنك حضنتها حضن كتب الكتاب، يعني أيامكم كانت الطقوس دي موجودة برضو، و لا إيه يا دنجوان زمانك ”
“دنجوان زماني !!”
قالها ” مُجاهد ” في صدمة و بنبرةٍ عالية، جعلت الرجلان يضحكان عليهما بشدة، و أخذ كل منهما يضرب كفه بكف الآخر، بينما ” أُبَيِّ ” كاد أن يهرب من نظرات والده، و لكنه تسمر مكانه عندما وجد ” قُصي ” قادم باتجاههم يهتف في نبرة مرحة موجهة لوالده:
” يا ميـجو.. كلم خالو زوزو عاوزك ”
” ميجو !! ”
قالها بدهشةٍ وهو يستدير لأولاد أشقائه يتساءل في غرابة:
” أنا عيالي مش بيحترموني ليه ؟! ”
” خالو زوزو عاوزك ”
قالها ” قُصي ” ثانيةً عندما صار مواجهًا لوالده، فتساءل مُجاهد بدهشة أقرب للضحك:
” خالك زوزو ! أنت ليك خال اسمه زوزو ؟! ”
” خالو عزمي اقصد ”
“خالك عزمي بقى اسمو زوزو ؟ لواء في الداخلية تهتز له الشنبات بتقول له زوزو ؟؟”
” تمويه تمويه ما تشغلش بالك ”
” أنت السبب في اللي أخوك وصله، كان قطة مغمضة، كله من تحت راسك أنت يا سهر الليالي ”
” أنا سهر الليالي ! ”
قالها قُصي مُشيرًا لنفسه بعدم تصديق، فتابع والده وهو يبتعد عنهم:
” أنت سهر نفسها ”
اتجه ” مُجاهد ” لحديقة منزله يجلس مع المدعوين، و تبعه ” قُصي ” مُتجهًا للمرح و افتعال الضجة مع أشباه القرود في سلوكها
” سيف و إبراهيم ” و الذي انضم لهم مؤخرًا المهندس العاقل الذي اتضح فيما بعد أنه لا يستخدم عقله سوى في العمل أو عندما يجلس وحده، أما الآن و بفضل ثلاثي قرود المسرح، أصبح القرد الرابع لهما، فكانوا يركضون وراء بعضهم و يقفزون من هُنا و هُناك في الجزء المخفي عن أعين المدعوين خلف المنزل، و بما أن الحديقة دائرية حول منزل ” مُجاهد ” فإنها منقسمة لعدة أجزاء، الجزء الأوسع منها وهو وجهة المنزل و هذا الجزء تم تخصيصه للاحتفال بتلك المناسبة، أما الجزء الجانبي كان من نصيب « الطباخ و مساعديه» و في مقابله أحضر
” مُجاهد” بعض الشباب المختصين في إقامة الحفلات و جهز لهم « خشبة مسرح ” أو كما يسمونها البعض ” الاستيدج» أما الجزء الخلفي كان لحمَّام السباحة متوسط المساحة و الذي تم تغطيته بالزجاج؛ نظرًا لقلة استخدامه، في هذا الجزء بالتحديد كانوا الأربعة شباب يلعبون لُعبة
« الغُمَّيْضَة» و هي لُعبة تُغَمَّض فيها العينان، ربطوا قطعة القماش حول عين ” إبراهيم ” و ظل يتبع صوت ضحكاتهم ثُم لا تمر ثوانِ و ينقلب على وجهه، و ينهض و يخطو بضع خطوات و ينقلب على وجهه، حتى ضاق ذرعًا و نزع عنه القماشة صارخًا عليهم:
” لوتفن، يتار آرتك ”
نظرا الاثنان الآخران لقُصي بعدم فهم، فقال لهم ضاحكًا:
” بيقول لكم كفاية كده.. ”
ثُم التفت له و صاح عليه:
” ولاه، اتكلم بلغتنا، أنا مش شغال مترجم هنا ”
نهض قائلًا بدموع مصطنعة:
” تبًا لكم، لقد سئمت هذه اللعبة الغبية ”
” هو يا كده يا كده ! ”
” أنا خايف أقولها بالمصري تزعلوا ”
” قول و أنا في ضهرك متقلقش ”
قالها قُصي بنبرة جادة يشوبها الغدر، فهتف
” إبراهيم ” في ثقة عمياء لا أعلم من أين جاء بها:
” أنا حقًا أعترض على ما تفعلون، يا شوية مجانين ملكوش لازمة و عاملين للبلد أزمة، سيكتير جيت، فولز فولز ”
ثُم تراجع للوراء يحتمي خلف ظهر قُصي، مما صاح الأخير مبتعدًا عنه:
” لأ.. أنت بعد ما شتمتهم بكذا لغة جاي تستخبى فيا ! أنا معرفكش.. ”
و التفت لهذين القردين اللذان وقفا ينظران لـ
” إبراهيم ” بتوعد بالضرب، و تابع رافعًا يديه في استسلام:
” أنا بريء، ودوه السلخانة ”
هَمّ ” زين ” بالركض وراءه، و لكن توقف فجأة كأنه تذكر شيء مهم للغاية:
” عصام فين ؟ ”
وضع ” سيف ” يده على رأسه بخوف هاتفًا:
” يا نهار أبيض ! نسينا الواد ده خالص، ربنا يستر و ما يكنش عمل كارثة ”
_______________
وإني بستر الله عبد صالح واني لولا الله أجهل من أكون. ” لقائلـها”
~~~~~~~~~~
يجلس ” بدر الشباب ” أمام منزل عمه يستقبل المدعوين، و الحقيقة أخذها «حُجَّة» للبقاء بعيدًا عن الموسيقى قدر الامكان، فمن جهة لا يلوث سمعه و من جهة أخرى لا يسبب حُزن بقلب ابن عمه إذا ترك المناسبة و غادر، برغم أنه نصح عمه بألا يتم تشغيل الأغاني الهابطة، و يستبدلها بالأناشيد الاسلامية التي أيضًا تدخل البهجة على قلب كل من يسمعها برغم خلوها من الموسيقى، و لكن عمه لم يُعلق بشيء و بدا عليه الاعتراض دون البوح به، فتركه ” بدر ” يفعل ما يشاء و فعل هو ما شاء، و طلب أن يكون استقبال المدعوين من نصيبه، ففهم عمه المغزى من طلبه و بالطبع وافق، فابن أخيه يمثل وِجهة حسنة و مشرفة لأي أحد.
عندما بدأت أصوات الأغاني تخرج من الحديقة، وضع سماعة الهاتف في أذنيه و ظل يستمع لسورة ” طه ” السورة الأحب لقلبه بصوت القارئ « أحمد خضر» و أخرج « مسواك الأراك » الخاص به ينظف أسنانه، فهو يُحب رائحته في فمه و يُحب أن تبقى رائحة فمه و جسده جميلة دائمًا، حتى لو كانت أسنانه البيضاء لا تحتاج للتنظيف الآن.. فيكفي بقاء تلك الرائحة العطرة في فمه، لكن في العادة يقوم بتنظيف أسنانه بالفرشاة و المعجون مرتين يوميًا بانتظام؛ لئلا تتغير لونها الأبيض من كثرة احتساء الشاي.
عود الأراك هذا لا يفارق جيب ” بدر ” يحمله معه أينما خرج، و اعتاد على هذا الأمر منذ سنوات عدة، فقد أخبره ” الشيخ مُحمد” والده بمدى أهميته و الذي يتكون من (مجموعة متنوعة من الزيوت الأساسية، هي التي تعطي السواك الرائحة التي تميزه كما أن هذه الزيوت تعمل على تحفيز إنتاج اللعاب.. مثل «الراتنجات» التي تساعد على إنشاء طبقة عازلة على الأسنان مما يمنع التسوس أو تكوين التصبغات بنسبة كبيرة، و من «مركبات السيليكا» أيضًا وهي عبارة عن مواد ذات خصائص قاشطة تعمل على التخلص من الطبقة الجيرية والبلاك التي تتكون على الأسنان، و مادة «العفص» و هي تساعد على قتل البكتريا وتعقيم الفم والأسنان وأيضا لها دور في تحفيز اللعاب، كما يحتوي أيضا السواك على الكالسيوم والفيتامينات الضرورية لصحة الفم والأسنان، إلى جانب مركبات قلوية تساعد على التخلص من الجراثيم التي تسبب تلف الأسنان واللثة.
*( مأخوذ من أبحاث العلماء عن السواك)
وهو أيضًا مطهر فموي آمن، و لكن مع الاعتدال في استخدامه.. عادةً يتم استخدامه خمس مرات في اليوم، فهو في الحقيقة أفضل من الفرشاة بكثير، أما عن ” السواك ” في السُنة النبوية فقد تحدثوا علماء الاسلام عنه بتوضيح شامل، وفي حديث عائشة يقول النبيُّ ﷺ: السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب.
أخرجه الإمامُ أحمد، والنَّسائي بإسنادٍ صحيحٍ، وعلَّقه البخاريُّ رحمه الله، وهو حديث جيد صحيح يدل على شرعية السِّواك دائمًا، فالمستحب أن يستاك دائمًا: السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب؛ ولهذا كان النبيُّ يستاك في غير الصلاة، يستاك إذا دخل المنزل، يستاك في مجلسه عليه الصلاة والسلام، فالسواك سنة؛ ولهذا قالت السيدة عائشةُ رضي الله عنها: كان النبيُّ إذا دخل المنزلَ بدأ بالسِّواك.
فالسنة أن يستاك إذا دخل المنزل، وإذا قام إلى الصلاة، وإذا بدأ الوضوء، كله سنة، وإذا أكثر منه فهو سنة، وهكذا إذا استيقظ من نومه يستاك.
وهذا يدل على الأهمية القوية لعود المسواك لدى كل مسلم يحب النظافة و يحافظ عليها دائمًا، و هذا الرجل ” بدر ” يُحب أن يكون نظيف طاهرًا دومًا، فقد بالغ في نظافة فمه مؤخرًا بسبب جنونه و شغفه « بكوب الشاي» و اشترى غسول مكون من زيت زيتون و زيوت عطرية أخرى تم خلطها سويًا؛ لتعطير و تنقية الفم و اللثة.
قالَ النَّبيُّ صلَّ اللهُ عليه وسلَّمَ: «إنَّ اللهَ جَميلٌ يُحِبُّ الجَمالَ»، أي: يُحِبُّ الحسن منَ الأشياء؛ فبيَّنَ أنَّ الهيئة الحسنة من النظافة و الجمال الذي يُحِبُّه اللهُ ولا يُبغِضُه ما دام لم يُورِث في القلب تَرفُّعًا على النَّاسِ.
أثناء اندماجه مع القارئ و عند آية:
( قَالَ لَا تَخَافَا ۖ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ) رددها بصوتٍ عالٍ نسبيًا و بصوته الجميل الذي ما إن سمعه أحد شبهه بصوت القارئ ” اسلام صُبحي”
عندما يسمع أو يقرأ ” بدر ” تلك الآية، يشعر بالاستقرار في قلبه، كأنها تبث بداخله الطمأنينة الدائمة أن الله معنا دائمًا.
في تلك اللحظة مَرّ عليه صبي من أهل الحارة ممن يأخذون دروس الجمعة عنده بعد صلاة المغرب، ليقول باسمًا وهو يمد يده للمصافحة:
” السلام عليكم و رحمة الله و بركاته يا أستاذ بدر ”
مؤخرًا أخبرهم ” بدر ” أن ينادونه بأستاذ و ليس بشيخ، فهو لم يصل لدرجة العِلمُ في الدين بعد لينادونه ” شيخ ” رغم أن هذا اللقب معناه الأصلي أنه رجل كبير في السن، و لكن المتداول و المتعارف عليه بين الناس، أنه يُقال لكل مَن عَلَمَ الدِين للناس.
اتسعت ابتسامة ” بدر ” و أطفئ القرآن للتحدث مع الفتى؛ احترامًا للقرآن و عدم الحديث أثناء تلاوته.. مد يده يصافحه برّضا، فقد علمهم أن يقولوا التحية كاملة و ليس السلام عليكم فقط، ليأخذوا الحسنات الكاملة لها..
” وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أخبارك إيه يا أنس ؟ ”
” الحمدلله يا أستاذ بدر، كُنت عاوز أسأل حضرتك إحنا ها ناخد درس انهارده ولا اجازة ؟ ”
” لا إن شاء الله فيه درس انهارده بس بعد صلاة العشاء، بعد صلاة المغرب ها انبه على باقي الولاد، و أنت جزاك الله خيرًا لو عرفتهم برضو ”
” حاضر يا أستاذ بدر، استودعك الله ”
اتسعت ابتسامة ” بدر ” عندما قال له الصبي
” استودعك الله ” فقد علمهم ذلك أيضًا..
” استودعك الله الذي لا تضيع ودائعه يا حبيبي ”
كان صلَّ الله عليه وسلم يستودع الله بقوله: استودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
رواه ابن السني وقال العراقي والألباني: إسناده حسن.
لا تقال للمسافر فقط، بل لكل شخص استودعت الله فيه، أي تركته وديعة محفوظة عند الله، وهو سبحانه خير الحافظين.
تعالت صوت الأغاني أكثر، مما استاء ” بدر” و أخذ يردد بهمسٍ داعيًا لأهله:
” اللهمَّ اهدِ أهلي لما تحبه و ترضاه، اللهمَّ اهدهم لطاعتك، و أيّدهم عن معصيتك، و اجعلهم هداةً مهتدين يا أرحم الراحمين ”
كان الوقت المتبقي على صلاة المغرب حوالي العشر دقائق، و لسانه لا ينفك يردد الصلاة الابراهيمية تحديدًا؛ لأن هذه صفة الصلاة عليه (عليه الصلاة والسلام) و هذه طريقة الصلاة الصحيحة التي وردت في كثير من الأحاديث الصحيحة.
الصلاة مستحبة في كل الأيام و ليست يوم الجمعة فقط، لمحت عيناه ” زياد ” يتحدث في الهاتف بجانب المنزل، و ما إن انتهى أشار له
” بدر” فجاء قائلًا:
” صدعت من الأغاني، عاوز أروح ”
” نادي سيف بعد إذنك يا زياد ”
قالها ” بدر ” بنبرة مستاءة قليلًا، ففعل ” زياد ” ما طلبه ابن عمه و أدرك عما يتحدث، و بعد دقائق جاء ” سيف ” و وجهه يشوبه الاحمرار من كثرة اللعب، قال باسمًا لأخيه:
” نعم يا بدر، عاوزني ليه ”
تفحص بدر هيئة شقيقه المزرية و قال:
” أنعم الله عليك، وشك أحمر كده ليه ؟! ”
” كنا بنلعب استغماية، الواد عصام مش لاقيينه”
” يعني ما كنتش بتسمع المهرجانات الهابطة دي ؟ ”
” أبدًا والله، إحنا كنا بنلعب أصلًا، و دلوقت بنلعب شطرنج، ده الواد قُصي فظيع فيه، غلبنا كلنا ”
” طيب روح اغسل، و نبه عمك إن آذان المغرب قرب و هات الشباب عشان تلحقوا الصف الأول في المسجد ”
” حاضر روح أنت و إحنا جايين وراك ”
” يلا يا سيف ”
هتف بها بدر بعين التحذير، فأخفض سيف رأسه هامسًا قبل أن يتوارى من عينيه:
” حاضر، آسف ”
جلس ” بدر ” مكانه و أجاب على شقيقه بهمسٍ لم يسمعه هوَ:
” الله يحضر لك كل خير و يصرف عنك كل شر يا حبيبي أنت و كل أهلنا ”
فعل ” سيف ” ما أخبره به ” بدر ” و تم اطفاء الموسيقى، و توجهوا جميعهم لتأدية صلاة المغرب، كان ” بدر ” المؤذن للصلاة و الامام أيضًا.
بعد تأدية الفريضة و عودتهم لاستكمال الاحتفال الذي لم يبدأ بعد، فموعد الاجتماع على طاولة الطعام كان بعد المغرب.. أوقف ” بدر ” ابن عمه
” أُبَيِّ ” ليتحدث معه على انفراد قائلًا بابتسامة هادئة:
” تسمح لي أتكلم معاك و يكون صدرك متسع لي و عندك قابلية تفهمني ؟ ”
أومأ ” أُبَيِّ ” بابتسامة أوسع:
” طبعًا يا بدر، أنت أخويا ”
” ده العشم برضو، أنا بحبك يا أُبَيِّ و خايف عليك و يهمني تكون سعيد جدًا في حياتك الزوجية، لكن يا حبيبي الحياة الزوجية عشان تتبنى صح لازم نحُط القواعد و الأساسيات من الأول صح، عشان يفضل قوامها راسخ و ثابت، أول و أهم قاعدة إنك تسعى يكون رضا ربنا قبل رضا نفسك و رضا كل شيء تاني، و ما ينفعش تبدأ حياتك بفعل ربنا حرمه زي الأغاني، لأن الأغاني يا أُبَيِّ
بتشغل عن ذكر الله، فلا يجتمع في قلب المؤمن حُب القرآن و سماع الأغاني، و علماء الدين اجتمعوا إنه بينبت النفاق في القلب، يعني حاجة زي دي ها تؤذي ايماني و تؤذي قلبي ليه أبدأ بيها أول يوم مُبارك في حياتك ! يوم كتب كتابك يعتبر يوم مُبارك باركه الله بإذنه تعالَ؛ لأنك بتطبق سُنته، فعشان المُباركة تتم و ربنا يجعل حياتكم مع بعض مُباركة، يبقى تبدأ حياتك صح، الدين بتاعنا دين يُسر لم يُحرم الفرح في الأعراس، بالعكس نفرح و ننبسط بس بشيء لا يغضب الله عز وجل.. طيب أنت تعرف إن من سُنة الزواج أن يُعلن وتضرب عنده الدفوف ! يعني بالمعنى البلدي بتاعنا، تهيص و تفرح لكن بما هو حلال لك، الاسلام ما حرمش الفرحة و الرقص، لكن نطبقه صح.. اتمنى ما تزعلش مني ”
افترّ ” أُبَيِّ ” ثغره عن ابتسامة جميلة مثل وجهه، و قال:
” أنت و نعم الأخ، أنا والله ما كنتش حابب كده ولا عاوز كده أصلًا، بس بابا بيحب التباهي شوية قدام معارفه بإنه دافع و مكلف و كده، لكن أنت كلامك صح و ده الصح اللي لازم يتعمل، و أول ما ها نوصل إن شاء الله، ها اخلي بتاع الدي جي يشغل أناشيد اسلامية بس ”
” ربنا يبارك في حياتك يا أُبَيِّ ”
قالها بابتسامةٍ أوسع في انشراح، ثُم توجها الاثنان لاستكمال الاحتفال.
أما بداخل الحديقة تحديدًا عند موقع « الطباخ»
كان هذا السكير ” عصام ” يجلس تحت إحدى المَنَاضِد التي حالما ينتهي الطباخ من اعداد صنف، يضعه عليها قبل الغرف، و بما أن تلك المناضد تم فرش عليها مفارش تخفي أجزائها السفلية، فكان من الصعب على أحد الطباخين رؤيته وهو يمد يده يسرق القليل من الطعام يأكله، ثُم يعود و يعيد الكَرَّة دون أن ينتبه أحدًا له، فكان العمل كثير عليهم و طهي الطعام شغلهم أكثر.
مل من كثرة الأكل، و بدأ في اصدار صوت مواء القطة، جعل الطباخين يتركون ما يفعلونه و يبحثون عن ذكر القط هذا؛ خوفًا من تخريب الطعام بعد تعبٍ و كَدٍ فيه.
” ميـاوو ”
صوت آخر و لكن تلك المرة غليظ، أثار غيظ الطباخ و جعله يصيح على مساعديه بنبرة جادة:
” القطة دي بتولد باين، دوروا عليها و مشوها قبل ما الأستاذ مُجاهد يجي يبهدلنا ”
كثرت أصوات المواء مصحوبة بأصوات ضحك، فعلم الطباخين في الحال أنه هناك أحد يقوم بخداعهم منذ وقت، و مع اهتزاز المفرش.. اتجه الطباخ و كشف عنه ناظرًا لعصام بغضبٍ شديد، مما هتف الأخير في بلاهةٍ:
” ميــاوو اتركني أذهب، أنا في موسم التزاوج الآن ”
” موسم تزاوج !! مين الواد ده ؟ تبع مين ده؟! ”
هتف بها الطباخ بضيق متسائلًا، فلم يجيبه أحد مما اضطر لشده من ملابسه يخرجه، و قبل أن يفعل شيء جاء ” زين ” و يبدو عليه علامات التوتر:
” أنا آسف والله، ده واحد بنعطف عليه و جايبينه ياكل.. حقكم عليا ”
عقب قوله بسحب ” عصام ” من رقبته مُتجهًا لخارج الموقع، وهو يهتف في توبيخ:
” أنا مش قولت لك ما تتحركش من جنبي ! أنت ما بتفهمش ليــه ؟! ”
” أنت مش راضي تخليني أشم بودرة، قولت أشم كفتة ”
” ده أنا هعمل منك كُفتة دلوقت ”
أجلسه بعيدًا عن أعين الناس، و أردف في صرامة:
” ما تتحركش من مكانك عشان والله ها اقول لبدر يتصرف معاك ”
عندما سمع اسم ” بدر ” انكمش وجهه في خوف و قال:
” لأ خلاص ها اقعد ساتت ”
” ساتت ! أنت من شوية كان لسانك طول كده و بتتكلم حلو، أول ما جات سيرة بدر اتعوج ليه؟ ”
” عشان عينه بتخوف و أنت طري ”
صاح ” زين ” بغضب و هَمّ بضربه:
” أنا طري ! أنا بقى ها اعرفك مين الطري ”
كاد أن يلكمه في وجهه، و لكن منظر و شكل
” عصام ” و نظرته الضعيفة التي توحي بالانكسار، جعلت زين يتراجع في الأمر مُتعاطفًا مع نظرات عينيه، ليقول زافرًا بضيق:
” أول مرة يصعب عليا شمام ”
” شمام ولا أناناس.. ”
هتف بها و قبل أن يطلق ضحكته الغبية، كان واقعًا على جنبه واضعًا يده على وجهه موضع اللكمة التي تلقاها من ابن عمته الصارم.
انتبه لزوج أخته يُقبل عليهما و على وجهه علامات التساؤل:
” في إيه مالك ؟ ضربته تاني يا زين ؟ ”
” أنا مش عارف أتعامل مع الواد ده يا بدر، أنت ما تعرفش عمل إيه جوا مع الطباخين و وجع دماغي، شوف لك صرفة معاه ”
مال ” بدر ” عليه يوقفه و ينفض له ثيابه في رفقٍ، ثم التفت لـ ” زين ” و قال:
” أنا كلمت بتوع المصحة، إن شاء الله بعد ما كُله يروح ها اروح اوديه ”
” و أنا هاجي معاك ”
صاح ” عصام ” من بينهما بدون سابق إنذار، واضعًا يديه حول خصره و يتمايل في رقص يمين و يسارًا ناظرًا لابن عمته في تحدٍ:
” لو كُنتِ بتحبيني اسمعي مني تي ريري.. تي ري تي ريري ري.. تي ري تي ريري ري ”
نظرا له الاثنان في دهشة، و كاد ” زين ” يجن جنونه و هو يشير نحوه:
” شايف ! قولي أنت بقى، ده مجنون ولا شمام ! ولا يمكن أنا المجنون لا سمح الله ! ”
ضحك ” بدر ” بقلة حيلة و أخذ يربت على ظهر عصام قائلًا بهدوء له:
” أنت ما أخدتش حاجة انهارده، المفروض تبقى كويس.. مالك بقى ؟! ”
جلس مكانه و أخذ يقول في هذيان و يترنح برأسه من آثار الحشيش الذي تعاطى منه الكثير بدون علم ” زين ”
” أنا ها امسك أبويا و أمي افضل اضرب فيهم لحد ما يبان لهم صاحب ”
تنهّد ” بدر ” بأسف عليه و نظر لـ ” زين ” فوجده أيضًا يشعر بالأسف تجاهه، بينما عصام تابع الهذي:
” أنا أشرب مخدرات و أنت تشرب مخضروات، أنا ليا في الكوكايين و أنت ليك في البسلة ”
” طب سلام عليكم أنا بقى ”
قالها ” زين ” في ضجر و حمل نفسه ذاهبًا لثلاثي قرود المسرح، ليجد ” إبراهيم ” يقف على الاستيدج و يتحدث مع صاحب الدي جي، و بعد لحظات انتشر صوت « مهرجان» مصري في أرجاء المنزل برمته، جعل ” قُصي و سيف ” يركضان كصغار العقول باتجاه خشبة الاستيدج، و تركا العنان لأجسادهما يهتزانِ بحركات غير مفهومة، كأنهما مصابو بحكة شديدة ناتجة عن (الجرب)، و يصيح ” قُصي ” بصوتٍ تلبسه الجان
” اخواتشي ”
و يرد عليه ” سيف ” بصرخة أنثى تلد:
” بيقول ما اصاحبش فرافير، اومال أنا مصاحبك ليه ! ”
أما ” إبراهيم ” يقف في المنتصف و يصفق لهما في محاولة منه فاشلة لتقليد حركاتهما الخرقاء فلم يستطِع، لذا تراجع للوراء و ظل يصفق لهما بفم متسع من الدهشة، كأنه لم يرَ شباب مصريون يرقصون من قبل !
توجه ” بدر ” إليهما فور سماعه لتلك المهزلة، و وقف بعيد قليلًا يتابع شقيقه بملامح جامدة، حتى انتبه له ” سيف ” و اتجه سريعًا يحاول تغيير الأغنية في ارتباك وهو يهمس في أذن صاحب الدي جي:
” شغل و عريسنا قمر بسرعة ”
تساءل الشاب بعدم فهم:
” عريسنا قمر ؟ ”
” يابني اللي هي بتقول و عريسنا قمر قلبه سكة الأشواك.. مش فاكرها بس اكتب كده و ها تطلع لك ”
فعل ما طلبه، ليجدها بشكلها الصحيح مما أردف ضاحكًا:
” آه، قصدك ده عريسنا عبر قلبه سكة الأشواق ! ”
” عليك نور، شغلها بقى ”
قام بتشغيلها، فنظر لهم بدر ضاحكًا و اتجه مُصطحب ” عصام ” في يده ليجلس بجانب المهندس ” مرتضى ” الذي كان من ضمن المدعوين..
أخبره ” بدر ” بحالة ” عصام ” و صرح ” مرتضى ” أن بعد تعافي عصام الكامل، سيوفر له عمل في شركته..
تعرف ” بدر ” على رجل الأعمال الجالس بجانب مديره في العمل ” منير الأنصاري ” و من الواضح جدًا أن سوق العمل التجاري يجعل العاملون به على معرفة سابقة ببعضهم.. عندما كان
” مجاهد ” يعود و يمكث في مصر لبضعة أشهر، كان يدير فرع من فروع شركته الخاصة بالاستثمارات العقارية في المنصورة، و تعرفَ من خلاله على معظم رجال الأعمال الآخرون، مثل
” منير ” الذي كان من أقرب أصدقاء مُجاهد مُـنذُ خمسة و عشرون عامًا أي قبل ميلاد قُصي بعامين
..
قبل رصّ الطعام على الطاولات بعشر دقائق، بدأ أهل الحارة يتجمعون، و قد دعاهم ” مُجاهد ” أيضًا لوليمة كتب كتاب ابنه الأكبر و رجل الأعمال الصغير، و ها هم الشباب من عُمر سيف و قُصي يزداد عددهم، و عندما وجدوا أنه لا فائدة من تشغيل المهرجانات.. بدأوا يغنون هم و يرقصون فيما بينهم بضجة عارمة جعلت الجالسون من الكبار يفرون للجلوس على طاولات الطعام..
انتهز ” قُصي ” فرصة ابتعاد والده و معارفه، ثُم قام بنزع قميصه و ظل يلوح به صائحًا:
” يلا بيـنا نولع الليـلة ”
بدت ردة فعل الشباب من حوله قوية، و بصِياح عالٍ وشديد أحدثوا جَلْجَلَة و عَجِيج، مما ثار قُصي لهم في هُتافٍ:
” اللي شايف نفسه ها يجيب ملحق الترم ده يرفع ايده فوق ”
رفعوا جميعهم يدهم للأعلى بضحك و صراخ، إلا هذا اللئيم الذي ابتسم في سخريةٍ عليهم..
و إذ فجأةً يهطل عليهم مطر شديد، لا يعلمون من أين جاء و هو يهطل عليهم من الجانب !
التفتوا جميعًا لمصدر الصوت السكير الذي يقول:
” تُصي، إلى اللانهائية و ما بعدها ”
أشار سيف له بعدم استيعاب لما يفعله:
” مين ده !! ”
جاء ” زين ” من خلف عصام بملابس نصف مبتلة و كاد يبكي باستسلام هزلي قائلًا:
” معرفتش أوقفه ”
تجاهل ” قُصي ” كل ما يحدث حوله، و ظل يردد بهمس غير مصدق تحريف اسمه الذي يحبه:
” تُصي، أنا بقى اسمي تُصي ؟! ”
لقد قام ” عصام ” بالفرار من ” بدر ” عند انشغاله بالحديث مع رجال الأعمال، و اتجه لصنبور المياه الخاص بريّ الحديقة، ثُم فتحه و أمسك بالخرطوم لينهال عليهم كالسماء الممطرة يسقيهم كما يُسقى الزرع..
” أوعى تسيبني جييح وسط الييح ”
ظل يتغنى بها وهو يرش المياه عليهم، و هم يهربون كالفئران من أمامه، لا أحد يستطيع ايقاف هذا الأبلة السكير، حتى هجم عليه ” زين ” و أخذ منه الخرطوم رغمًا عنه، ليقول ” عصام ” باحثًا بعينيه عن حبة حصى يضربه بها:
” ابعد عني ياللي هربان من مسلسل هندي أنت.. تتك نيلة ”
” أنا ها اعدي لك اللي فات بمزاجي، إيه تتك دي بقى ؟! ”
” من أنهي كوكب الواد ده ”
هتف بها ” قُصي ” وهو ينظر له في توعد بالانتقام في مشهد أقل ما يُقال عنه كوميدي ساخر فاضح.. رد ” عصام ” في مُيُوعَةٌ:
” كوكب زميودة ”
” زميودة ! ده كوكب للمعاتيه ده ولا إيه ؟! ”
” عصــام ! ”
صاح ” بدر ” عليه في غضبٍ منه، فركض نحوه بخوفٍ و أشار لقُصي الذي وقف مذهولًا، هامسًا في أذن بدر ببراءة:
” تُصي عاوز يضربني، أنا عاوزك تحميني زي ما الأسد بيحمي الأسَدة ”
” الأسدة !! ”
” أنا خايف أقول الكلمة التانية تضربني ”
” يلا يا عصام عشان ناكل، ربنا يهديك و يهدينا”
اصطحبه ” بدر ” من يده ناحية الطاولة، بينما “قُصي ” تمتم في انزعاج:
” الواد ده لازم يدخل السلخانة ”
ابتعد بدر و عصام عن الأعين، و عادت الضجة التي نبعت من هؤلاء الشباب تصدر ثانيةً، و في تلك اللحظة جاء مُجاهد و معه صديق أجنبي مسلم قديم له، كان في رحلة تنزه بإحدى المدن السياحية و دعاه ” مُجاهد ” لوليمة العشاء..
اصطحبه الأخير؛ ليُعرِّفه بابنه الثاني الذي لم يراه منذ أن كان بعمر التاسعة.
ما إن وقعت عين مُجاهد على ” قُصي ” بهت وجهه و تسمر مكانه، وهو يشاهده بحسرةٍ يطلق الالعاب النارية في السماء، ثُم يلوح بقميصه مصدرا صوت غليظ، مما ابتلع مجاهد ريقه في توتر و التفت للرجل الذي تساءل بلكنته بابتسامة بسيطة:
” أين قُصي يا مُجاهد ”
” ذهب ليخرج الزكاة ”
” زكاة ! أليس ذلك باكرًا على عيد الفطر ؟
هل نسيت أننا نُخرج الزكاة قبل العيد ؟! ”
ابتسم مجاهد في ارتباكٍ، و قال:
” إن ابني متدين جدًا، لا يُحب اللهو مثل هؤلاء الشباب، يبدو أنه ذهب لصلاة العشاء ”
” ما زال الوقت باكرًا على صلاة العشاء يا مُجاهد”
” نعم نعم تذكرت، ذهب ليعطي الدروس الدينية لأولاد الحارة.. أظن ذلك ”
هتف الرجل في دهشة ضاحكًا:
” تظن ذلك ! ”
” أيظنه ”
” بماذا تهذي يا مُجاهد ؟! ”
تلون وجه مُجاهد بالارتباك و أخذ يَدّعي:
” إن ابني قُصي طبعه هادئ جدًا، لا يُحب الصوت العالي ولا الضجة، في تلك المناسبات عادةً تجده جالس يذاكر أو يتعلم أشياء جديدة في مكان مخصص له، ابني نجيب جدًا ”
بعد جُملته الأخيرة انتفض الاثنان على صوت قوي يهتف في الميكرفون:
” أنا قُصي نمبر وان، أنا قُصي العاقل يتجن ”
” هل هذا قُصي ابنك ؟؟ ”
تساءل بها الرجل بدهشة شديدة، مما همس مُجاهد بصوت مبحوح:
” ابنك أنت، و لا أعرفه ”
ثُم سحب الرجل من يده تجاه مائدة الطعام قائلًا:
” جربت أنت البهاريز بتاعت الكوارع قبل كده ؟ ”
” لا أفهم ”
” ولا أنا، منك لله يا قُصي يابني ”
عندما علم الشباب بأن الطعام و أخيرًا صار جاهزًا، اتجهوا جميعهم يلحقون المقاعد و كأنهم في موائد الرحمن التي تُعد في شهر رمضان !
تجمعوا في مجموعاتٍ حول موائد الطعام، و كان من بين الجالسون على المائدة التي تضم ” بدر ” و ” عصام ” و معهما ” زين “، الضابطانِ
( كريم و رحيم) أو بمعنى أدق «الأخوان»
تأملهما ” بدر ” في شفقة للحظات و قرر في نفسه أن يخبرهما بحقيقة نسبهما و ليحدث ما يحدث، فمن المؤسف رؤية هذين الأخوين بعيدين
عن بعضهما طيلة السنون الماضية يتعاملون فقط بمبدأ الأصدقاء.
أثناء اندماج الجميع في تناول الطعام الفاخر متعدد الأصناف، أخرج ” عصام ” كيس أسود كان قد أخفاه بداخل التي شيرت، و ظل يجمع الطعام الذي تقع عينيهُ عليه و يضعه في الكيس، غير مكترث تمامًا لتلك الأعين التي تركزت عليه في دهشة و صدمة لم تكن في حسبان أحد.
نطق ” سيف ” بفم مملوء بالدهشة موجهًا الحديث لشقيقه الذي أكلت الصدمة وجهه..
” مفكر نفسه في فرح سنية بنت الحج عبد الغفور البُرعي ”
ضحك من ضحك أما البقية تبادلوا نظرات الدهشات فيما بينهم، ليقول ” قُصي ” تلك المرة
” صدقوني، الواد ده لازم يروح السلخانة ”
” بتعمل إيه يا عصام ! ”
قالها بدر في تعجب شديد غير مستوعب الأمر بعد، بينما ” زين ” أخذ يضرب وجهه بخفةٍ و يهمس في ندمٍ على إحضاره معه:
” اتفضحنا، الشمام جرسنا و فضحنا ”
أراد ” إبراهيم ” التدخل و حل الأمر بعقلانية، مما أردف في هدوء بلغة عربية صريحة؛ ظنًا منه أنه بالتحدث بالفصحى سيستطيع ايصال مغزى كلامه للجميع، لأن نصف حديثه بالمصري غير مفهوم..
” أيها الأَحِبَّةٌ وأولاد الأَحِبَّةٌ الكرام، هذا الفتى ليس مجنون كما تعتقدون أنتم، هذا الفتى الماثل أمامكم الآن، أصيب بحادثة في صغره كانت ستؤدي به للوفاة، لولا تدخل جراحي من جراح كبير، انقذ حياته و قام بعمل عملية له غريبة من نوعها لكي يعيش، لقد قام بمهارة باستئصال جزء من المؤخرة و وضعها في رأسه، و كانت هذه النتيجة، يفكر بمؤخرته بدلًا من رأسه ”
جذبه قُصي من ملابسه في الحال ليجلسه في همسٍ مصحوب بالدهشة:
” أنت إيه اللي بتقوله ده أنت كمان ! أنت أهبل ياض ؟! ”
” كتب كتابي باظ ”
قالها ” أُبَيِّ ” في دموع جعلت شكله مضحك، مما نظر ” كريم ” لـ ” عصام ” نظرةٍ يتبعه قوله الصارم الذي جعله يلتصق في بدر من الخوف
” ولاه، اقعد مكانك ”
عاد الجميع للهدوء بعد أن قال زين في جدية:
” إحنا آسفين يا جماعة، ده واحد غلبان و معندوش عقل، فبنجيبه نأكله و ناخد الثواب ”
شرعوا في العودة لطعامهم، و بعد الانتهاء توجهوا ثانيةً للحديقة يجلسون لدقائق قبل صلاة العشاء، ثم يصلون خلف ” بدر ” الذي أعجب من صلى أول مرة وراءه بصوته كثيرًا، و قرروا المكوث لصلاة العشاء و بعدها يذهب كُلٍ لبيته.
أثناء توزيع المشروبات عليهم، كان بدر جالسًا مع كريم و رحيم يتحدث معهم حديث جاد جعلهم في أوج الصدمة من معرفة حقيقة كل منهما الآخر، جاء الرجل الذي يوزع المشروبات ليعطي لهم الصودا، مما اعتذر بدر في أدب قائلًا:
” عفوًا، ياريت لو شاي بالنعناع ده بعد إذنك طبعًا”
أومأ الرجل بابتسامة بشوشة، و ضحك كريم ليقول:
” أنت لسه زي ما أنت كده بتحُط الشاي في أي جملة مفيدة ”
” أهم حاجة يكون بالنعناع ”
قالها رحيم هو الآخر يشاركهما المزاح، و تابع كريم بملامح جامدة:
” أنا مصدق كل كلمة بتقولها يا بدر، عشان واثق إنك مستحيل تتهم حد بالباطل، و اللي خلاك تقول لنا الحقيقة خوفك من كتمانها، إحنا هنعمل تحليل اثبات النسب عشان تبقي حُجَّة قوية و أنا بواجه بابا، الله يسامحه بجد بس أنا مش هقدر اسامحه ”
” يعني فهمي عساف مطلعش أبويا ! طلع وهم ! ”
هتف بها رحيم ضاحكًا باستيعاب بطيء.
في وسط الحديقة جلس ” قُصي ” يلقي الدعابة السخيفة على الشباب وهم يضحكون، كأنهم تحت تهديد السلاح أو مجبورين على الضحك من نكاته الحمقاء مثلما هذي منذ قليل..
” مره واحد اشترى لمبة مسمار دقها في الحيطة”
ركض باتجاهه عصام ثانيةً يضرب بقدمه ضربات خفيفة على الأرض، و يرسم بيديه شكل دائرة في الهواء هاتفًا:
” عاوز أعمل فطيرة ”
نظروا له الشباب بعدم فهم، بينما قُصي تساءل بغباء لأول مرة يبدو عليه:
” لسه جعان ؟ ”
” فطيرة، فطيرة.. عاوز أعمل فطيرة ”
” الشيف جوا، روح قوله ”
” يا تُصي افهم، عاوز أعمل فطيرة ”
صاح قُصي في تعصب:
” و أنا مالي، شايفني طباخ ! عندك الشيف جوا روح قوله ”
ابتعد عصام عنهم، و أخذ يجوب بعينيه أرجاء الحديقة على أمل أن يجد شجرة متخفية يقضي حاجته خلفها كما اعتاد، و لكن المكان كان مزدحم بالمدعوين
( من الجيد أنه لم ينزع سرواله و يفعلها أمامهم)
حك شعره في انزعاج، ثُم غمغم بضيقٍ:
” الناس دي كلها بتعمل إيه هنا ! ”
(سامحك الله يا زين، لقد جلبت لنا كارثة متنقلة)
لجأ لقُصي ثانيةً بالتحديد يبدو أنه راق له، قال بدموع يصعب عليه كتمها أكثر من ذلك:
” الحقني يا تُصي، ها اعمل الفطيرة قدام الناس ”
نهض سيف يستدعي زين بنفاذ صبر:
” تعالى يا عم شوف ابن خالك الاهبل ده، نفسه ياكل فطير باين، بيتوحم ده ولا إيه ؟! ”
سأله زين في هدوء، فقد نبه عليه بدر أن يتعامل معه برفق.. أخبره عصام بما يود فعله، فنظر لهم زين ضاحكًا:
” يعني أنا اللي عايش في السعودية بقالي سنين فهمتوا و أنتم مفكرين عاوز ياكل فطير ! ”
تساءل إبراهيم في غباء:
” اومال عاوز ايه ؟ ”
” عاوز يعملها مش ياكلها ”
رد قُصي في براءة:
” يدخل يخلي الشيف يعلمه، مش عاوزين دوشة”
ضحك عليهم ” زين ” و أخذ ” عصام ” يسلمه لبدر بنفاذ صبر، وعاد يجلس مع الشباب و في تلك المرة كان قُصي يعلمهم كيفية الاعتماد على النفس، وهم يستمعون له باهتمام شديد لا يعلمون أن هذا الذئب يتلاعب بعقولهم..
قال وهو يشرح الأمر بطريقة جدية:
” أحلى حاجة فى الملامح البريئة إنك بتبقى اكتر واحد dirty mind فى القعدة بس محدش عارف ”
” زي مين كده ؟ ”
تساءل سيف على محمل الجد، فأجاب:
” زي زين ”
أشار زين لنفسه ببراءة مزيفة..
” أنا !! ”
” ايوه أنت، أنت ها تنح ”
” إيه اللي خلاك تقول كده ؟ ”
” ملامحك مش سالكة، حاسس إنك ها تخبطني واحدة دلوقت (لك شو هل) تجيب أجلي ”
” ظالمني والله ”
قالها ضاحكًا، ثُم همس في نفسه:
” مش ها ينفع أرد عليك عشان أنت أخو الغالية ”
تابع قُصي خطبته و كأنه رجل عاقل واعظ:
” بما إن إننا بدأنا امتحانات، فأسهل طريقة للمذاكرة إنك تصاحب المادة اللي بتذاكرها، تخيل نفسك بتقرأ رواية و مركز في أدق تفاصيلها، فلما تعامل المنهج مُعاملة الرواية، هتعرف تفهمه ”
قال زين بملامح أسى تجلت عليه:
” التعليم مفيش أسهل منه، لكن التعليم بتاع الدنيا صعب و صعب أوي كمان ”
رد قُصي بمنطقية مصطنعة، و لكن أعجبهم تفكيره:
” بالعكس، الدُنيا دي عاملة زي الخيل يا تحكم عقلك و تسوقها صح يا تسوقك، اعتبر حياتك خيلك و عقلك هو لجام الخيل اركب خيلك و وجه لجامه بكيفك بس و أنت بتركبه حُط في حساباتك ربنا أولًا ثم الأقربون لك عشان ميبقاش ركوبك فيه ظُلم لنفسك و لغيرك ”
” شبه الخيل العادي بقى ولا الخيل الأصيل..؟ ”
تساءل بها زين ساخرًا، فأجاب الآخر بتعقُل يُحسد عليه:
” الخيل الأصيل أذكى من الخيول العادية بكتير، بتفهم صاحبها كويس، بس لو أنت معرفتش تفهمها، ها تنطلق بحريتها و محدش هيعرف يوقفها.. ”
صمت لوهلةً يتنفس بهدوء و عينيه الزرقاء تشرد في شيء واحد فقط، قد أخذ حيز هائلا من عقله في الأونة الأخيرة.. ثم التفت لـ ” زين ” بنظرة ثاقبة و أردف:
” و الدنيا زي الخيل الأصيل بالضبط، عشان تفرض سيطرتك عليها من البداية، لازم تتعلم تركبها صح ”
في تلك اللحظة التي التفت فيها ” قُصي ” يتحدث بكل ثقة و جمود، أدرك ” زين ” أن هذا الفتى، ليس فتى عاديًا و حسب، و إنما يخفي بداخل عقله المخيف الكثير من الأسرار التي لا يستطيع أحد كشفها بسهولة، و يظل طوال الوقت يتعامل بشخصية فكاهية و مرحة حتى لا يلفت انتباه أحد له، فليس هذا الوقت المناسب الذي يحب فيه لفت الانتباه..
لكن وراء تلك الشخصية المرحة شخصية أكثر دهاء و ذكاء، لم و لن يخرجها إلا في الوقت المناسب، و كل ما مضى كان بمحض إرادته و لم يكن ذكائه السابق، سوى نقطة في بحر ذكائه الحقيقي الذي لم يخرجه بعد.
بينما هم يتحدثون في اندماج، هرب عصام من جانب بدر للمرة التي لا أعرف عددها، و اتجه يترنح تجاه الاستيدج، ثُم ضرب صاحب الدي جي بجريدة نخل و أخذ منه الميكرفون ليقول فيه بأعلى صوت اخترق آذان الجميع:
” يا بتـاع الخزيـن يا بصــل ”
ركض زين نحوه قبل أن يفجر مفاجأة أخرى، و من شدة ارتباك زين تعثر ووقع على الأرض، فلحق به سيف و تعثر ووقع عليه، أما قُصي أشار لابراهيم..
” حلق على الواد ده ”
تابع عصام السكير:
” أنا بهدي الأغنية دي للعروسة حبيبتي أختي اللي معرفهاش..
وضع يده حول خصره و اليد الأخرى ممسكة بالمايك..
” خدناها بضرب المركوب، دى سودة و ليها عرقوب، و أبوها بيتعشى طوب، الحلوة اللى خدناها، و خدنـاها خدناهـا.. ”
صمت للحظةٍ يبحث عن شيء آخر في رأسه الفارغ، فصاح في ابتسامة بلهاء:
” و ادحرج و اجري يا رومان، ده أنا حجري منيل يا ر…
لكمة قوية من زين جعلته يفقد الوعي، ثم أردف بغضب:
” خلوه كده بقى لحد ما نصلي العشاء و نرجع نفوقه، و يا مات يا عاش هو ورزقه ”
هرول اليه بدر في خوفٍ عليه، و قام بفحصه و رد وعيه له، ثُم أخذ لينام في غرفة قُصي بعد أن بدا الارهاق والنعاس على وجه عصام.. و اتجهوا هم لصلاة العشاء..
انتهى الجميع من تأدية الفريضة، و انتهى حفل كتب كتاب أُبَيِّ الذي دمره عصام ببراعة، و ظل بدر مع أبنائه الصبية يعلمهم درس اليوم..
كالعادة تكأكأ الأولاد حوله مستمعين باهتمام، فتبسم بدر و شرع يقول:
” حد يعرف الفرق بين رحمت الله بالتاء المفتوحة و رحمة الله بالتاء المربوطة ؟ ”
صمت الأولاد يتبادلون النظرات، فأيقن أنهم لا يعرفون الفرق بين الكلمتين، مما تابع موضحًا:
” الرحمة التي تأتي فيها التاء مفتوحة أو مبسوطة «رحمت»
معناها أنها رحمة بسطت بعد قبضها وأتت بعد شدة ودائما تكون مضافة مباشرة للفظ الجلالة عز وجل
ركزوا معايا في المثال ده يا ولاد:
بعد مرور السنين الطويلة، وتعدي الزوجة للسن التي لا تستطيع أن تحمل و تلد، وتعطي الذرية فيها تأتي البشرى لإبراهيمَ عليه السلام و زوجِه.
قال تعالى :
( قَالُوۤا۟ أَتَعۡجَبِینَ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِۖ رَحۡمَتُ ٱللَّهِ وَبَرَكَـٰتُهُ، عَلَیۡكُمۡ أَهۡلَ ٱلۡبَیۡتِۚ إِنَّهُ، حَمِیدࣱ مَّجِیدࣱ )
فتح بعد قبض.. و تأتي كذلك استجابة لدعاء زكريا عليه السلام بطلب الولد
قال تعالَ :
( ذِكۡرُ رَحۡمَتِ رَبِّكَ عَبۡدَهُ، زَكَرِیَّاۤ)
ثم تأتِ بعدها قصة وهب الله ليحي زكريا عليهما السلام.. فتح بعد قبض
وايضا قال تعالَ :
( فَٱنظُرۡ إِلَىٰۤ ءَاثَـٰرِ رَحۡمَتِ ٱللَّهِ كَیۡفَ یُحۡیِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۤۚ إِنَّ ذَلِكَ لَمُحۡیِ ٱلۡمَوۡتَىٰۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ ) فتح بعد قبض
وتدل أيضًا التاء المبسوطة على اتساع قدرة الله و رحمتٍ وسعت كل شيء.
أما الرحمة التي تأتي فيها التاء مربوطة هي رحمة مرجوة لم تفتح للسائل بعد.. فالعابد القانت الساجد آناء الليل، و يخاف الآخرة فهو يرجو رحمة ربه في الآخرة ألا وهي الجنة.. التي هي مقفلة دونه في الحياة الدنيا، وستفتح له يوم القيامة إن شاء الله
قال تعالى : ( *أَمَّنۡ هُوَ قَـٰنِتٌ ءَانَاۤءَ ٱلَّیۡلِ سَاجِدࣰا وَقَاۤئِٕمࣰا یَحۡذَرُ الاخِرَةَ وَیَرۡجُوا۟ رَحۡمَةَ رَبِّهِۦۗ )
رحمة مرجوة
أو هي رحمة موعود بها كما في قوله تعال
( فَأَمَّا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ بِٱللَّهِ وَٱعۡتَصَمُوا۟ بِهِۦ فَسَیُدۡخِلُهُمۡ فِی رَحۡمَةࣲ مِّنۡهُ وَفَضۡلࣲ وَیَهۡدِیهِمۡ إِلَیۡهِ صِرَ ٰ⁠طࣰا مُّسۡتَقِیمࣰا ).
رحمه مرجوة.
اللهم إنا نسألك أن نكون من أهل رحمتك بتائيها مبسوطة و مقبوضة.. اللهم علمنا ما جهلنا.
” آمين ”
رددها الصبية مبتسمين بتفهم، و أخذوا يسألون أسئلتهم الفضوليه ككل مرة، ثُم تلا عليه كل صبي ما قد حفظه من الآيات التي عليه تسميعها..
غادر بدر و أخذ ” عصام ” في سيارة زين التي اشتراها منذ يومين، عوضًا عن التي باعها في السعودية قبل مجيئه لمصر..
صعد قُصي و معه زين و إبراهيم للنوم في المنتجع السياحي فوق سطح المنزل، ليخرج سيف فيتامينات خاصة بالعظام يتناولها، فسأله ابراهيم في بساطة:
” دي حبوب هلوسة دي ؟ ”
رمقه في سخرية..
” لا يا خفيف دي فيتامينات للعظام ”
” بعد إذن الفيتامينات، مفيش حاجة تديني طاقة أكتر من الفلوس.. ”
” عندك حق، الفلوس فعلًا بقت كُل حاجة.. بس اللي بيخلي المود بتاعي في السما بجد.. النقود ”
” إيه النقود دي ؟ ”
” لا ما تشغلش بالك، ده نوع من أنواع المال.. ملوش علاقة بالفلوس خالص ”
” سيكتير جيت ” بمعنى تبًا لك.
همس بها إبراهيم وهو يدفن نفسه تحت الغطاء، فسحبه منه سيف بالكامل وغطى نفسه هاتفًا:
” أهو أنت اللي سوبر جيت ”
تركهما قُصي في جدال مع بعضهما حول الغطاء، و أخذ كتبه ثم ابتعد عنهم ليذاكر بعينيه في هدوء، فقط يقلب صفحات الكتاب دون تحريك شفتيه، كأن بعينيه عدسات تصوير تحفظ كل ما تقع عليه من أول مرة.
مرّ يومان على تلك الأحداث، و في اليوم الثالث كانت الفراشة المنتقبة تقف خارج ” السيكشن” تبكي بحرقة بعد طرد المعيد لها؛ بسبب تأخرها على موعد امتحانها العملي..
لقد ذاكرت جيدًا و استعدت لتلك المادة، و لكن ازدحام المرور قد تسبب في تأخرها عن موعد الامتحان المحدد..
شهد النقاب على كثرة بكائها، ولم تعلم مالذي يتوجب عليها فعله في هذا الموقف، لقد اعتذرت للمعيد كثيرًا، ولكنه وبخها و طردها بإهانة أمام زملائها.. وجدت نفسها تخرج هاتفها و تتصل بـ “كريم ” الذي كان متواجد حينها بالمشفى مع رحيم، و ما إن أتاه الاتصال رد في الحال لتتحول ملامحه بعد لحظات للجمود و خلوها من أي تعبير سوى تعابير التوعد و الانتقام.. أقسم في نفسه أن يُبكي كل من بكى فراشته و أبكى قلبها الهشّ، فلأجعلنه يبكي بكاء مبكي على بكائه لفراشتي.
و في نفس اليوم و نفس الساعة في اتجاه آخر، تحديدًا في قسم الشرطة..
يجلس صاحب العيون الزرقاء النيلية بلا مبالاةٍ تمامًا يتابع هذين الضابطين بسخرية، ليصل لمَسَامعُه كلام خفيّ غير مُبين، و تَمْتَمة مُبْهَمة بينهما تدور حول بائعات الهوى، و أحدهما لديه الليلة مقابلة غرامية مع فتاة تُدعى ” سُعاد “.. هذا بالكاد ما استطاع سماعه، لربما أنه رَجُل و الرجال يستطيعون فهم بعضهم جيدًا، حتى ولو بالإشارات خاصةً عندما يكون الحديث عن إمرأة..
التفت له الضابط يتعهَّدُه وينظُرُ إليه بسخرية ويَرْقُبُه من رأسه لأخمص قدميه، ثُم قال:
” و أنت بقى يا حِليوة تطلع مين عشان تضرب مراقب في اللجنة ؟ ”
رد بسخرية مُماثلة تمامًا، بل و بنظرات كُلها ثقة و ثبات:
” أنا اللي كُنت بحمي بلدك لما أنت كُنت مع سعاد “

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية يناديها عائش)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *