رواية بحر ثائر 2 الفصل التاسع 9 بقلم آية العربي
رواية بحر ثائر 2 الفصل التاسع 9 بقلم آية العربي
رواية بحر ثائر 2 البارت التاسع
رواية بحر ثائر 2 الجزء التاسع

رواية بحر ثائر 2 الحلقة التاسعة
المسافة…..
قطرة منها تحيي المشاعر
وكثير منها يقتلها…
نحتاج أحيانا لمسافة
لنفهم…..
لنتألم.. لنتلّعم.. لنتكلم…
نحتاج أحيانا لمسافة لنهدأ..
نحتاج لمسافة من الشوق
لنرى أيقتلنا الشوق أم يموت داخلنا…
نحتاج لمسافة أمان…
لنرى أيهم أقوى حبنا أم خوفنا…
نحتاج لمسافة قرب
لنروي ظمأ البعد…
نحتاج لمسافة بُعد…
لنعرف لذّة القرب…
( بقلم فيروزة)
❈-❈-❈
أمنياته حرة وهو سجين المهام
غادرت الغرفة وجلس وحيدًا يفكر فيها ، آلمته بما فعلت لذا تعمد أن يقسو ولم يتعمد في آنٍ .
شيئًا داخله يتآكل حينما تحزن ، وشيئًا آخر يتلوى حينما تتعب ، وشيئًا ثالثًا يحترق حينما تطالعه بنظرة شكٍ ، وشيئًا يثور حينما يحاول أحدهم الاقتراب منها ، وجميعهم قلبه .
اليوم سمع المكالمة التي دارت بين مارتينا وسها ، عادت إليه ذكرياته مع شقيقه ، هل يمكن أن يخبر أحدًا أنه يشتاق إليه ؟ كان يود لو يخبرها بذلك هذه الليلة ولكنه مجددًا مجبر على كتمان ما يشعر به .
بصدرٍ مكتوم شعر أن أنفاسه مقيدة لذا نهض يترجل ويستل علبة سجائره وينتشل منها واحدة ، وضعها بين شفتيه والتقط قداحته يشعلها ويتنفس تبغها ثم تحرك نحو شرفة صغيرة ، فتح بابها وخرج يقف فيها مستمرًا في التدخين ليضيق صدره أكثر ويسعل .
سمعته ، الليل ساكن والجميع نيام وصوت سعاله اخترق قلبها قبل أذنيها ، ولكنه جرحها وقسى عليها ، أخطأت ولكنها كانت تنوي مصارحته ولولا ما حدث مع كمال ومجيئه لكانت قد فعلت .
خشيت من إخباره قبلها فيرفض وتقف عاجزة عن فعل شيء مع هذا الكم من الضباب الذي غلف حياتهما لذا اتخذت القرار الخاطئ .
ظنت أنه خاطيء ولكن يبدو أن هذا قراره أيضًا ، ولكن لماذا ؟ هل يعاقبها بالكلمات أم أن هذه رغبته الحقيقية ؟
نهرت نفسها وهي تجلس على الأريكة ورفعت كيفيها تحيط رأسها وتردف داخلها معنفة :
– كفاية تفكير كفـــــــاية ، مرة تقولي بيخدعك وبيضحك عليكي ومرة تقولي لاء بيحبك وعمره ما هيخذلك ، كفاية بقى حرام عليكي نفسك .
تنهدت تنهيدة قوية نبعت من صدرها ونهضت تتجه نحو الشرفة علها تسمعه يسعل مجددًا لتذهب وتساعده ولكنها لم تسمع شيئًا .
لقد داس على سيجارته ودلف يغلق النافذة ويتجه نحو الخارج ليتوضأ ويصلي .
وحينما لم تستمع إلى صوته قررت أن تتجه نحو حمام الغرفة لتتوضأ وتصلي هي الأخرى ، كلاهما يشعران ببعضهما جيدًا ولولا الظروف المحيطة والقابضة حول علاقتهما لأصبحا قصة حبٍ استثنائية .
❈-❈-❈
لم ترتَح منذ أيام ، تذهب لتصوّر حلقات برنامجها ثم تتجه نحو دار رعاية كبار السن ثم إلى بعض المستشفيات الخيرية وغيرها ، هكذا هي طوال اليوم تدور كنحلةٍ كي تلهي نفسها عن جرحها الغائر .
وأخيرًا خرجت من حمامها بعد يومٍ شاق ، اتجهت تجلس على طرف الفراش وتجفف خصلاتها المبتلة ثم التقطت هاتفها تعبث به قليلًا ، اتجهت لرسائل صفحتها الإلكترونية لتجد عدة رسائل من أُناس يطلبون مساعدتها في حل مشاكلهم ولكن من بين الرسائل هذه لفت انتباهها رسالة من شخصٍ ما .
وجدت يدها تخونها وتضغط عليها لتقرأ محتواها بتعجب ، هناك شخصٌ يعرض عليها عمل ؟ وفي دبي ؟ ليست المرة الأولى ولكنها الأغرب حيث أن طلبه جاء بشكلٍ شخصي لذا ظلت تحدق في الرسالة لبرهة قبل أن تدون ردًا مختصرًا كتبت فيه :
( شكرًا لعرضك يا أستاذ أحمد ، هفكر فيه وارجع لحضرتك )
كان هذا الرد أقرب للرفض من القبول ، أي إمارات ستذهب إليها ؟ هي لا تريد ترك بلدها ، هي فقط تريد النسيان وليتها تنسى .
❈-❈-❈
صباحًا .
لم يذهب لمنزله ، قرر أن ينام في معرضه التجاري بعد كم الإهانات التي حصل عليها ، فكر في كل شيء وأعاد حسابات كثيرة وجميعها تصب في مصلحة نرجسيته المتشققة .
كل ما عليه فعله الآن هو اتخاذ قرار يساعده في ترميمها فلم يعد هناك مفر ، نظرة التهديد الصريحة من عيني ثائر أكدت له أن انتقامه سيزيد الأمر سوءًا لذا فليبتعد .
اقتحمت المكان تبحث عنه بعينيها الجاحظتين تنوي معاقبته على نومه هنا وعلى ما حدث أمس وسمعت به ، كانت تنتظر عودته للمنزل وحينما لم يعد كان الوقت قد تأخر .
رأته يجلس على مكتبه شاردًا فاتجهت نحوه تصيح باستنكار وهجوم :
– ماجتش البيت ليه يا سبع الرجال ؟ لتكون خايف يا كمال !
رفع نظره يطالعها وهي على وشك استكمال موشحها ولكن نظرته أمهلتها فرصة لثوانٍ وهي تتقدم حتى جلست أمامه وتابعت متجاهلة الغضب المرسوم في عينيه :
– ايه ؟ بتبصلي كدة ليه ؟ اخدت على قفاك يا سي كمال ؟
جمع كل ما تعرض له من إهانات على يد داغر ويد ذلك الثائر وآخرهم إهانة ديما له حينما لم تعره اهتمامًا ، جميعها يحملها في حلقه الآن وحينما لم يسعفه ابتلاعها لفظها في وجهها بغضبٍ عاصف وتوعد :
– كلمة كمان وهرمي عليكي يمين الطلاق حالًا ، أنا جبت أخري منك ومن عمايلك ، افتحي بؤك تاني وهتلاقي نفسك برا حياتي انتِ وامك وابنك .
شهقت بصدمة ولم تستوعب أن هذا هو نفسه كمال لتجيبه باستنكار :
– أنا يا كمال ؟ هترميني ؟ وهترمي ابنك؟
ابتسم باستهجان وأومأ مؤكدًا ينطق بقسوة غير آبه :
– عملتها قبل كدة ورميت اتنين ، من هنا ورايح مش هفكر غير في نفسي وانتِ هتمشي تحت طوعي وبأوامري أنا يا إما تغوري من مطرح ما جيتي ومالكيش مليم عندي ، فهمتي ؟
صُعقت مما تسمعه منه ولكنها سريعة في إيجاد ثغرات له لذا حوّلت طاقة غضبها منه إلى طاقة خبيثة تبرع فيها وهي تنهض مسرعة وتتجه نحوه ، تقف خلف ظهره وتدلك له كتفيه وعضلاته مردفة بغنجٍ وندمٍ ظاهري :
– اللا لا لا لا لا ، دانت قالب عليا جامد ، اخص عليك يا كمولة ، واهون عليك تسيبني وتبعد عني ؟ وهو انا اقدر أعيش من غيرك لحظة ، روق بس كدة واستهدى بالله وهنلاقي حل ، احكيلي يا حبيبي هما عملوا فيك إيه ؟
حاول إبعادها وبدأ يتملص منها بضيق فانحنت تهمس وتضغط بكفيها ونبرتها على نقاط ضعفه :
– طب على فكرة بقى ، انت سبع الرجال بجد ، هو حد يقدر يعمل ولا يوصل للي انت عملته ده ! دول غيرانين منك والست اللي مش ست دي هتموت علشان سبتها واتجوزتني ، سيبك من كل اللي بتعمله ده، تلاقيها دلوقتي بتتحسر ، وهي هتجيب راجل زيك فين ، أنا بس زعلت منك لإنك امبارح كسرت خاطري وانا مستنياك طول الليل ، روّق بقى ماتزعلش نفسك .
نفّست بالون غضبه ببراعة لذا تنفس ونفش ظهره بعد كلامها ليومئ لها ولكنه عاد يتذكر تهديدات ثائر لذا أردف بترقب ونبرة مختنقة :
– أنا طول الليل بفكر ، أنا قرفت من هنا ومن الناس اللي هنا كلهم ، بفكر اصفي الشغل كله واسافر .
أسرعت تسحب المقعد لموقعها وتجلس ملتصقة فيه تتساءل بتعجب وتركيز تام :
– تسافر فين ؟ وتصفي شغلك إزاي ؟
تنفس بعمق ثم استرسل موضحًا خطته وهو ينظر أمامه، بينما يدها تسافر على كتفه وذراعه تارةً وعلى ساقه تارةً أخرى لتؤثر عليه بحركاتها المتقنة :
– أي بلد تانية مش هنغلب ، الوضع هنا بقى مُقرف والناس بقت حقودة ، أنا حاسس إني عايش وسط أعداء مش عارف ليه ، دانا عمري ما زعلت حد منهم ولا أذيت حد فيهم .
ادعت التعاطف بملامحها ونطقت بمؤازرة :
– سيبك منهم دي ناس حقودة زي ما قولت ، مستكترين عليك تبقى ناجح وعندك معرض وفلوس وعندك ست بتحبك وبتعشق التراب اللي بتمشي عليه ، وعندك عيل اسم النبي حارسه وصاينه هو ده اللي هيكبر ويعوضك عن كل اللي شفته .
يحاول ابتلاع كلماتها التي تضخم نرجسيته بينما هي تسافر من خلال ملامحه وتفكر سريعًا ، تتابع منذ فترة عدة شخصيات عبر الإنترنت ومن بينهم مصريين سافروا ليمارسوا فيديوهات الروتين الخاصة بهم من بلاد أخرى ونجحوا واشتهروا بذلك لذا قفز الاقتراح من فمها تنطق :
– إيه رأيك لو سافرنا تركيا ؟
قطب جبينه يحدق بها ويردد مستنكرًا :
– تركيا ؟ تركيا إيه اللي هنسافرها ؟ واشمعنى البلد دي ؟
ابتسمت والتمعت في مقلتيها نظرة الخبث تجيبه بإقناع :
– ده هو ده المكان المناسب لو عايز فعلًا تسافر وتبعد ، فكر بس كدة هتصفي شغلك هنا وعلطول على تركيا ، وهناك هنفتح القناة ونعمل الفيديوهات اللي احنا عايزنها براحتنا من غير قيود ، ولا حد يبص لنا في حاجة .
وجدته يفكر فاستطردت وهي تنهض وتمسك بكفه :
– قوم بس تعالى معايا نروح وتاخدلك شاور وتاكلك لقمة، شكلك بقى هفتان خالص .
نهض يخطو معها وتساءل بنبرة تابعة :
– استني يا زينة هنسيب المعرض كدة .
أردفت وهي تخطو خارجه :
– وفيه إيه، العمال هنا أهو والكاميرات معاك ع الموبايل ، يالا بس تعالى .
قالتها وسحبته خلفها يتجهان نحو المنزل وعلى ملامحها رسمت لوحة انتصار ، تقترب من أحلامها شيئًا فشيئًا ، ستنفذ كل ما خططت له وأول بند الرحيل والعمل على القناة ، ستصبح ذات شهرة تفوق شهرة ديما الصابر .
❈-❈-❈
حول مائدة الفطور جلسوا جميعهم يتناولون الطعام ، كلاهما لم ينظرا لبعضهما ، فقط يتحدثان مع الصغار وأمجد وعلياء ولا يتحدثان مع بعضهما بكلمة واحدة برغم أن بداخلهما بحرًا من الكلمات ، بحرًا كاد أن يغرقهما.
نهض ثائر يردف بهدوء :
– عن اذنكوا ، ورايا مشوار مهم .
رفعت نظرها تطالعه وتتساءل بترقب :
– ينفع اروح أوصل الأولاد !
نظر لها بهدوء وأردف بثبات :
– الولاد مش هيروحوا النهاردة .
يبدو أنه يتخذهما حجة لينام بمفرده كليلة أمس ولكنها تشعر بالحرج من تواجدهما هنا برغم المعاملة الجيدة والمحبة الظاهرة من الجميع لهما، لذا هزت رأسها معترضة تجيبه :
– لا معلش يا ثائر خليهم يروحوا ، لو مش عايزني أوصلهم هكلم داغر ييجي .
بنبرة جادة ومهيمنة ونظرة عتابٍ وحزن نطق :
– بكرة عيد ميلاد معاذ والولاد هيقعدوا معانا علشان نحتفل كلنا بيه .
ابتسم معاذ ينظر نحو مالك ويحمسه ليبتسم الثاني بينما صفقت رؤية بسعادة تهلل فرحًا لذا زفرت ديما وأومأت باستسلام فاتجه نحوها ومال يقبل رأسها أمامهم ثم تحرك يغادر بصمتٍ تام .
تنهدت وخشيت أن تنظر في عيني علياء التي تطالعها على عكس أمجد الذي يتحدث مع الصغار .
يحاول جاهدًا ألا ينتبه أحدًا على أي صراعٍ بينهما ، هي أيضًا لا تحب ذلك أبدًا ، لن تشرك بينهما طرفًا ثالثًا ، إلا في أقسى الظروف .
❈-❈-❈
تجهزت كي تذهب لشركتها
نظرت لهيأتها في المرآة وابتسمت حينما استعادت أحداث ليلة أمس .
أحبت هيأته حينما تفاجأ بما فعلته ، أدركت أنه يتعطش للاهتمام ، للحب ، للتفاهم .
يرتدي جلباب المسؤولية ليواري خلفه طفولته المتألمة وشبابه القاسي ، تحمل الكثير دون كللٍ أو ملل ويستمر في حمل المزيد من المسؤوليات بحماسٍ مفرط منه لا يدرك أنه هكذا سيتألم ويحزن .
يجب أن يتشاركا وعليه أن يتقبل مساندتها له في هذه الحياة ، يجب أن تتوزع بينهما مسؤولية علاقتهما .
يريد الراحة للجميع وينسى أن يرتاح بل يبحث عن راحته في حركات عابثة تشبه المسكن المؤقت .
عليه أن يدرك أن راحته تنبع من اعترافه بأن زواجهما لن ينجح إلا بالمشاركة والمشورة ، وأن كلاهما يجب أن يلتقيا في المنتصف .
خرجت من غرفتها بعدما انتهت ، تحركت لتغادر ولكنها تفاجأت به يقف عند باب المنزل ينتظرها بعدما ظنته قد غادر .
اقتربت منه متعجبة وتساءلت بترقب :
– إنت لسة هنا ؟ مش قولت إنك متأخر ؟
أومأ لها ومد يده إليها يردف بتعچل :
– أيوة بس قلت استناكي أوصلك ، يالا تعالي .
شعرت بالضيق قليلًا ولكنها تحركت معه بهدوء ، هذا ما كانت تفكر به ، تخشى أن يقصر في عمله الجديد نسبةً لفرط اهتمامه بها .
استقلا سيارتها فسمحت له أن يتولى القيادة وجلست تحافظ على ثباتها لذا تحرك وتبعه حارسها بسيارته .
بدأ يقود وعلى ملامحه تجسدت السعادة حينما تذكر ليلتهما لذا قال بحبٍ :
– لو تعرفي أنا فرحان إزاي ، ليلة امبارح كانت أسعد ليلة في حياتي كلها ، حلو أوي المفاجآت دي يا بسوم ابقي كتري منها .
ابتسمت تشاركه المشاعر وأجابته بتروٍ بعدما تلبست قناعها العملي :
– مرة عليا ومرة عليك على فكرة .
أومأ بقبول يردف بمرحٍ وعينيه على الطريق :
– من غير ما تقولي يا بسوم ، أنا نفسي أعملك كل حاجة حلوة تفرحك .
انتعش قلبها من كلماته ، بينما هو نظر في المرآة فلمح سيارة الحارس لذا زفر واستطرد بترقب :
– ماتكلمي الحارس ده يا بسمة مالوش لزوم يمشي وراكي واحنا مع بعض .
التفت تطالعه وأجابته بهدوء :
– ده شغله يا داغر ، وبعدين إنت كمان لازم يبقى معاك بودي جارد الفترة الجاية .
أردف مستنكرًا :
– ليه إن شاء الله هو أنا مش هعرف احمي نفسي ؟
تابعت بتروٍ ومهنية توضح له :
– لا بتعرف طبعًا بس البودي جارد تقدر تعتبره عين في ظهرك ، إنت داخل مجال البيزنس وهيظهرلك منافسين وأعداء وللأسف فيه منهم النزيه ومنهم اللي بيضرب في الضهر ، زي عمي كدة .
لم يقتنع بجملتها لذا نطق :
– يا بسوم أنا أقدر اقف لعمك وعشرة زيه ، وموضوع الحارس ده على عيني بس علشان أنا مشغول عنك الفترة دي وإلا كنت وديتك وجبتك بنفسي .
ابتسمت ومدت يدها تربت على كفه وتجيبه بحبٍ تفوق على رسميتها :
– معلش يا حبيبي فترة وهتعدي ، وبعدين أنا أغلب الوقت هتابع الشغل من البيت أصلًا .
كلماتها أراحته وهذا ما أرادته حتى لا يتجادلان في أمرٍ بديهي ، لذا أكمل قيادته حتى وصلا إلى الشركة ، ترجل وترجلت معه واتجهت إليه تردف بهدوء :
– خد العربية معاك وأنا هخلص وأروح مع محمد .
نهشته الغيرة والضيق لذا أجابها مؤكدًا :
– أنا ركبت معاكي علشان كان نفسي أوصلك ، عربيتك معاكي وأنا هركب تاكسي واروح ع الموقع ، خدي بالك من نفسك ولو احتجتي أي حاجة كلميني .
أومأت له فتحرك يغادر ليوقف سيارة أجرى بينما هي صعدت إلى شركتها لترى ماذا ستفعل وكيف ستشتري أسهم عمها وابنه دون حدوث أي نزاعات ، لن تترك لهما سهمًا واحدًا من الشركة .
❈-❈-❈
في المكان ذاته الذي تقابلا فيه من قبل
وقف رشدي متجهمَ الملامح يتساءل بانزعاج :
– انت مدرك إننا لحد دلوقتي مش عارفين نوقع واحد زي ده ؟ متخيل موقفي أنا إيه مع الجهاز ؟ معقول بعد العمر ده كله يتقال إني فشلت في مهمة أنا واللي شغاليين معايا ؟
مسح ثائر على وجهِ بتعب ليجيبه بتشتت :
– الوسائل المتاحة لينا محدودة جدًا يا رشدي باشا ، الموضوع مش هيتحل في يوم وليلة .
استطرد معنفًا بقسوة قائد :
– لاء لازم يتحل في أسرع وقت لإن أنا عندي معلومات تانية وهي إن توماس مش جاي علشانك وبس ، وعلى علشان جمع معلومات وبس ، ده جاي ينفذ عملية اغتيال لشخصية مهمة مش مصرية بس موجودة على أرض مصر ، عارف ده معناه إيه ؟
حبس أنفاسه بصدمة ثم تجاوزها ونطق متسائلًا :
– مين الشخصية دي ؟
ضحك رشدي باستهزاء يجيبه :
– وانا لو عرفت هاجي اقف قدامك كدة ؟ مهي دي المهمة المكلفين بيها ، مافيش قدامنا وقت يا ثائر ، لو عملية الاغتيال دي حصلت مصر هتتورط في مشاكل كتير ، إنت في ايدك تلحقها ، قدامك يومين تفكر كويس وتعرفني هتعمل إيه، يا إما هقدم استقالتي .
تركه وتحرك يستقل سيارته ويغادر ووقف ينظر للبعيد ويفكر قليلًا وحينما لم يعلم كيف يوقع توماس في أسرع وقت رفع رأسه عاليًا يناجي ربه قائلًا بصدرٍ مقبوض :
– يـــــــــارب ، يـــــــــارب .
❈-❈-❈
ليلًا
عاد إلى المنزل .
جميعهم في انتظاره ، أخبرهم عبر الهاتف ألا ينتظروه على العشاء بحجة أنه سيأكل مع صديقيه ، والحقيقة أنه يبحث عن حلٍ ليوقع به عدوه اللدود وربما تكمن الصعوبة في هذه العداوة .
بالفعل تناولوا الطعام من أجل الصغار ولكن ديما لم تستطع أن تُجبر شهيتها كالعادة فتناولت القليل جدًا بعد إلحاحٍ من أمجد وعلياء .
دلف يرحب بهم واتجه يجلس على الأريكة مجاورًا لوالده كالمعتاد ، يعانق الصغار ، يتحدث إلى علياء ، يسرد كيف انقضى يومه الكاذب ، وهي تسمع فقط .
وجدته أخيرًا ينظر إليها ويتساءل باهتمامٍ لم يستطع حجبه من الظهور :
– أكلتِ ؟
ابتسمت ليس له ولكن لاهتمامه المفاجئ بعد تجاهله لذا أجابته بهدوء :
– أيوة الحمد لله .
لم يقتنع لذا نظر لوالدته وسألها :
– أكلت فعلًا يا ماما ؟
نطقت علياء بخبث وابتسامة فهي تدرك أن هناك خطبٌ ما بينهما وتريد ترميمه :
– لاء ماكلتش يا ثائر ، هي كدة علطول مادام إنت هتاكل برا يبقى هي مش هتاكل .
الذنب يُكمل عليه ، قلبه يتألم لذا قرر ألا يخاطر بها فنطق وهو ينهض :
– مانا بسأل علشان لو كدة نتعشى سوا لإن ماعرفتش اتعشى مع الجماعة اصحابي ، يالا يا ديما .
اتجه نحو المطبخ يفتح الثلاجة ويلتقط منها الأطعمة فتنهدت ونظرت إلى علياء التي تشجعها مبتسمة فنهضت تتبعه وتلتقط منه الأغراض قائلة بتروٍ وهي تتحرك أمامه :
– روح استريح إنت وأنا هحضرلك الأكل واندهلك .
عيناه على الطبق الذي بدأ يقطع فيه حبات الطماطم ، ليجيبها بهدوء فهو لا يزال ينزف حزنًا منها :
– هنحضره سوا ، وهناكل سوا .
امتثلت لأوامره وبدأت تساعده في تحضير الطعام والخصام حائلًا بينهما، حتى بعدما جلسا سويًا على الطاولة الصغيرة الموجودة في المطبخ يتناولان طعامهما بصمت، وكلما توقفت عن الطعام أمرها لتأكل فتفعل .
عادا يجلسان مع العائلة حيث الصغار يمارسون الألعاب الإلكترونية ليردف ثائر بترقب :
– أنا هدخل أنام في أوضة معاذ النهاردة كمان علشان الولاد ياخدوا راحتهم ، يالا تصبحوا على خير .
تحرك خطوة فأوقفته علياء تردف بمكرٍ مخطط :
– أدخل نام في أوضتك يا ثائر أنا جهزت للولاد أوضة أحمد هيناموا فيها ، يالا يا حبيبي ماينفعش أصلًا تنام على سرير معاذ ، نام في سريرك علشان تاخد راحتك .
التفت ينظر لوالدته فوجدها تبتسم له لذا تنهد وأومأ واضطر ليتحرك إلى غرفته .
زفرت ديما وفكرت كيف سيتواجهان لتميل عليها علياء وتردف بخفوت :
– قومي وراه يا حبيبتي .
نظرت لها وابتسمت تخفي ما بها ، لا تريد أن تشاركها السبب ولكن يبدو أنها تطالبها بتقديم نصيحة تريحها لذا ابتسمت علياء وأسبلت جفنيها توضح بتعقل :
– بسيطة يا حبيبتي ، كل حاجة هتتحل ، ماتزعليش نفسك ولا تسمحي للزعل أنه يعقد الأمور بينكم أكتر ، زعلانين مع بعض ؟ عادي ياما بيحصل بس هو يوم واحد اللي تزعلي فيه وتاني يوم ارمي ورا ظهرك وانبسطي مع عيالك ، وانا متأكدة إن ثائر لما يشوفك مبسوطة هيفرح ، هو زي باباه في الحتة دي ، لما كنت ازعل منه كان بحرض ثائر وأحمد يضحكوني ، واجب عليهم يسعدونا ويريحونا زي ما ربنا خلقنا علشان نبقى سندهم وونسهم في الدنيا ، واللي أنا متأكدة منه إن ابني بيحبك أوي أوي وجربي كدة تضحكي مع العيال قدامه هتلاقي الفرحة ظهرت عليه هو ، أوعوا تسمحوا لأي حاجة أو اي حد يوقع ما بينكوا لإن انتوا لقيتوا بعض بعد عذاب ، قومي يا حبيبتي وراه وماتخافيش العيال معايا أهم ولو احتاجوا حاجة هجبهالهم .
بامتنان تجلى على ملامحها عبرت به لعلياء ثم أومأت ونهضت تنظر للصغار فوجدتهم منشغلين في الألعاب لذا نظرت لأمجد ونطقت بخفوت :
– عن إذنك يا بابا .
أومأ لها وتحركت نحو الغرفة ليميل أمجد على علياء ويربت على ساقها قائلًا بإعجاب وغزل :
– هو فيه حما قمر كدة يا اخواتي ؟ دانا واخد ال24 قيراط كلهم فيكي إنتِ .
ابتسمت بحبٍ وربتت على كفه فاقترب يقبلها على وجنتها لذا شهقت ولكزته تردف بحرج وخفوت :
– بس يا أمجد العيال قاعدين .
– وإيه يعني .
قالها وضحك يعتدل ويتنفس بارتياح ويتمنى لو يطمئن قلب ابنه ويهنأ مع زوجته وينهي كل هذه الصراعات .
❈-❈-❈
دلفت فوجدته يصلي فازدردت ريقها واتجهت تستل من خزانتها منامة حريرية ثم قررت أن تستحم لتشغل وقتها قليلًا ولا تعلم هل تتحدث معه ليزول هذا الخلاف أم تنتظر حديثه ؟
باتت تخشى التحدث معه لأنها على يقين بعدم وجود إجابات ، تحركت نحو الحمام ودلفت تغلق خلفها ثم تجردت من ثيابها واتجهت نحو كابينة الاستحمام تفتح المياة الدافئة وتقف أسفلها وتعيد كلمات علياء على عقلها ، هل باتت درامية بشكلٍ ملحوظ ؟ هل حقًا تبالغ ؟ هل عليها ألا تفهم ؟ أم أن علياء تخبرها أن تسرق من الحياة لحظات من المرح ؟
تذكرت حينما كانت تفعلها لأجل صغيريها آنذاك ، حينما كانت تلعب معهما ، وترقص معهما ، تحتفل بذكرى ميلادهما ، تطهو معهما الحلويات ، فعلت ذلك من أجل انتشال ثمرة السعادة من فوق شجرة زواجها الخريفية .
علياء محقة ، يجب أن تسرق لنفسها وللصغار بعض اللحظات الممتعة ، يجب أن تفعل ما قرأته وما تخطه بيدها فهذه نصيحتها للجميع ، يجب أن تعطي لنفسها الحب والقيمة التي تستحقهما .
تنهدت بحرارة وفكرت ، هل حقًا زوجها يشبه والده ؟ هل يمكن أن تحظى معه بحياة هادئة سعيدة مؤنسة كحياة أمجد وعلياء ؟ هل هو قادرٌ على ذلك أم أن خباياه ستمنعه من تحقيق السلام لكليهما ؟
مدت يدها تلتقط سائل الاستحمام من فوق الرف ووضعت منه القليل على الليفة وبدأت تمررها على جسدها ، كأنها تغسل همومها .
كان قد انتهى من صلاته وسمعها تغتسل ، نهض لينام قبل أن تخرج ولكنه لم يستطع ، صوت خرير المياه يكشف له عما تفعل ، هو ومشاعره وقلبه ضعفاء نحوها ويمنعه عنها كبرياءه ، ما فعلته معه آلمه كثيرًا برغم يقينه بأسبابها ولكن لِمَ يجب أن تضع الحياة بينهما كل هذه الحواجز ؟ ما أحزنه ليس استعمالها لوسيلة منع الحمل بل لأنها كذبت وأخفت عنه .
جفاه النوم فزفر بضيق ونهض يتجه نحو الشرفة ليدخن سيجارته كالمعتاد ، عاد توماس يتردد على عقله مجددًا ، مارتينا ، سها ، شقيقه ، أطفاله ، وديما .
من بين زحام عقله اخترقت أنفه رائحتها فالتفت لا إراديًا يطالعها ليجدها تخرج للتو من الحمام ترتدي منامتها وتلف حول خصلاتها منشفة وتركض خلفها أبخرة المياة لذا أسرع يدلف ويغلق الشرفة كي لا تصاب بالبرد .
سحب الستار واتجه يطفئ سيجارته في المطفأة وخطا يتحرك نحو الحمام ليمر من جوارها ويغمض عيناه كي يقاوم رائحتها ونعومتها .
لمحت تعابير وجهه لذا ابتسمت بخفة تتباهى بأنوثتها ، برغم دهائه وخبرته إلا أنه بدا أمامها كطفلٍ صغير يخشى المواجهة ، فكرت قليلًا ماذا تفعل معه ؟
اتجهت نحو مرآتها وبدأت في تجفيف خصلاتها وترتيبها .
دقائق وانتهت واتجهت نحو الفراش تجلس عليه وتفرد ظهرها على الوسادة ثم مدت يدها تفتح درج الكومود وتلتقط منه كتابه ( بحر ثائر ) بعدما نوت الإبحار فيه مجددًا .
قرأت مقدمته ، قرأت كلماته ، قرأت نصائحه ، عادت تتذكر كيف ألهمتها كلماته ، وكيف ساعدتها على التعافي .
خرج من الحمام بعدما أبدل ثيابه يطالعها فوجدها تقرأ كتابه بهيأتها التي لا تقبل التفاوض مع راحة قلبه ، هل تتلاعب على أوتار مشاعره ؟ هل أخذت دروسًا خصوصية في المكر الأنثوي ؟ هل لعلياء هانم دخل في ذلك أم أنه اجتهاد شخصي كونته طبيعتها وأنوثتها العالية ؟
حينما لم يعد يحتمل تقدم منها وأردف بجدية زائفة وهو يشير بيده :
– خلينا نتكلم .
كانت منغمسة في القراءة لتنتبه له وفجأة ضحكت فتعجب برغم أن ضحكتها سكنت خمائل قلبه ليتساءل :
– فيه إيه ؟
لفت كتابه تعرضه عليه وتشير نحو مقولة كتبها وتقرأها بمغزى وعينيها اللامعة عليه :
– ( أنت لست بحاجة إلى الوضوح ، أنت بحاجة إلى الثقة ، فالقمر يبدو واضحًا أمامك ولكن إن اقتربت أكثر ستكتشف الكثير على سطحه ، ولكنك تثق أنه لن يغيب عنك يومًا )
تعلقت في عينيه أكثر واستطردت :
– ده مش القمر ، ده إنت ، أنا إزاي ماخدتش بالي من كلامك ده ؟
لمح لمعان عينيها فأدرك أنها تخفي دموعها خلف ضحكتها لذا جلس أمامها وأردف بهدوء ومغزى :
– كان لازم تاخدي بالك إن الثقة أهم من الوضوح .
هزت رأسها رفضًا وتركت الكتاب جانبها وتكتفت تردف دون مقدمات :
– بالنسبالي الثقة بتتبني بالوضوح ، إنت زعلت مني إني ركبت لوب من وراك ، مازعلتش إني ركبته ، غلطة واحدة بس يا ثائر هدت ثقتك فيا ، وبتطالبني أثق فيك من غير أي وضوح ؟ فيه في عقلي مليون سؤال إجاباتهم سكوتك أو رفضك بدون أسباب ، قولي اعمل إيه ؟
توسعت حدقتاه يجيبها بعتابٍ وصرامة :
– مهما يكن ماتكذبيش عليا يا ديما ، ماتخديش قرارات تخصنا لوحدك ، أنا فاهم كويس جدًا إنتِ ليه قررتي تركبي اللوب ، ومقدر خوفك وتجربتك وتشتتك الفترة دي ، متفهم قلقك على الولاد وتفكيرك في مستقبلهم ، بس مش أنا الراجل اللي استحق منك الأسلوب ده .
أومأت مرارًا بنبرة مجهدة وهي تخفي ارتعاشتها :
– تمام . حلو جدًا ، مش إنت اللي تستحق كدة صح ، إنت عارف نفسك كويس ، ماما علياء عرفاك كويس جدًا ، بابا أمجد عارفك كويس جدًا ، معاذ ابنك عارفك كويس جدًا وبيثقك فيك جدًا ، إنما إنت مش سامحلي أعرفك كويس ، محاوط نفسك بسور من الغموض ومخبي عني حاجات كتير أوي ، بعد ما صارحتني بأهم سر في حياتك جيت تقولي مش حقيقة ، بعد ما قولت هنرجع مصر ونرتاح لقيت مارتينا واقفة قدامي بتطالب بحقوقها فيك ، بعد ما وعدتني تقدر حالًا تفهمني ليه مش بتعلن جوازنا ؟
برغم توقعها لصمته إلا أن أحشاءها تلوّت حينما نكس رأسه ولم يجب ، لذا نطقت بنبرة مترجية تختفي أسفل قناعٍ جاد :
– فيه حاجة بتحصل أكبر مني ومنك ، صح يا ثائر ؟
تمنت حتى لو يومئ إماءة واحدة فقط ، أو أن يرفع عينه ويخبرها بنظرة واحدة فقط ، ناكسًا رأسه يعلم أنها تنتظر منه كلمة ، لم يعد قادرًا على كتمان ما بداخله ، ليبوح بجزءٍ ضئيلٍ مراوغٍ لها وليبسط لها القليل من الراحة والكثير من القلق لذا رفع نظره يطالعها ويردف بترقب وعيناه تتفحصها :
– توماس هنا في القاهرة .
صدمت وانتظرت أن يوضح أكثر ، يخبرها بالجزء الأهم والأكبر ، يكمل ولكنه صمت ، ماذا عليها أن تفهم ؟ هل يظنها عرافة ؟
ولكنها تأكدت أنه لن يوضح أكثر حينما رفع نظره للأعلى لذا أومأت وأردفت توضح :
– يبقى اللي أنا عملته كان معايا حق فيه يا ثائر ،
ما تلومنيش .
زفر بقوة وأمسك بكفيها يقبض عليهما ويردف موضحًا بصدق :
– ديما أنا تعبان أوي .
زفر بقوة وأسرع يستطرد ليواري تعبه :
– بس عايزك تتأكدي إن حلم عمري كله إن أنا وانتي والولاد نتجمع في بيت واحد ونعيش في سلام واخلف منك ومش هتنازل عن الحلم ده .
وهذه أمنيتها أيضًا لذا تنهدت بحرارة ورق قلبها له كالعادة ، اعترافه بالتعب فطر قلبها عليه وكادت أن تتحدث لولا رنين هاتفه الذي جعله يترك كفيها ويلتقطه ليجده اتصالًا من صقر لذا نظر لها كأنه يعتذر ونهض يسرع نحو الشرفة ليجيب .
ثوانٍ وخرج يطالعها ويردف بأملٍ أنعش ملامحه ونظرته :
– مضطر أنزل حالًا .
لن تسأله إلى أين بل أومأت وتركته يتحرك ويرتدي حلته سريعًا ثم غادر الغرفة وتركها تفكر كالمعتاد .
❈-❈-❈
منذ مكالمتها مع مارتينا وهي تفكر لتجد فرصة مناسبة كي تتحدث مع زوجها عنها .
ولكن ماذا ستفعل إن عادت إلى مصر ؟ هو من الأساس لا ينظر إليها ، لا يراها ، ربما هذا لأنها اتهمته في الماضي لهذا عليها أن تعتذر له عما بدر منها .
ربما إن فعلت وأصلحت علاقته بشقيقه عاد يتقبلها وهذا يكفيها ، لا تنكر أن خبر زواجه من مصرية كانت كصاعقة سقطت على قلبها ، تمنته دومًا وتزوجت بشقيقه لتنتقم منه لأنه دومًا أخبرها أنها شقيقته ، ظنت أنه سيعترف بينه وبين نفسه بحبه لها ، ظنت أن مشاعرها نحوه ستصل إليه ولكن ضاع عمرها في الظن .
عزاءها كان أنه يعيش في فرنسا وحيدًا ، منبوذًا ، بعيدًا عن وطنه ، ومطلقًا من مارتينا التي لم ترَ حبه لها قط .
ولكن عودته إلى مصر وزواجه فتحا جراحًا لن تهدأ إلا إذا فرقت بينهما ، لن يكون سعيدًا وهي تتقلب في وحلٍ من التعاسة منذ أن تزوجت بشقيقه .
دلف أحمد يطالعها فتخلت عن وجومها وابتسمت ولأول مرة تقبضه ابتسامتها ، كان يتلهف لرضاها والآن شيئًا ما داخله ينفر وجوده هنا ، وكأنه قد تم وضع حاجزٍ بينهما .
لف وجهه عنها واتجه يجلس على طرف فراشه ويخلع ساعته وحذاءه فنطقت بترقب :
– مالك ؟
زفر وأجابها وهو ينهض لينزع ثيابه ويغتسل :
– تعبان يا سها ، تعبان .
رفعت حاجبيها باستنكار ونطقت تهز كتفيها :
– أوكي خلاص ، ادخل خد شاور وهتبقى كويس .
التقطت هاتفها تعبث به قليلًا وتحرك يتجاهلها ويستل من خزانته ملابس مناسبة لتسترسل بترقب وخبث :
– إيه رأيك لو تريح شوية من الشغل ونسافر ، ولا إيه رأيك ننزل مصر ؟
التفت يحدق بها باستنكار فهي تكرر رغبتها في السفر إلى مصر ليجيبها بتعجب :
– إنتِ إيه حكايتك بالضبط ؟ فجأة كدة حنيتي لمصر ؟
أجابته بنزق وهي ترطم هاتفها فوق الفراش :
– أيوة حنيت ، وزهقت من هنا وروتين هنا ومن انشغالك طول الوقت في الشغل وإهمالك ليا .
ابتسم بتهكم ، في الأول كان يتأثر بحديثها هذا ويعترف بذنبٍ لم يقترفه ولكنه الآن يدرك نواياها جيدًا لذا أردف بهدوء :
– لو نزلنا مصر هنستقر هناك علطول ومش هرجع دبي تاني غير لو لعقد صفقة أو بيزنس ، فكري كويس علشان أنا كمان بفكر في الموضوع ده .
تركها واتجه نحو الحمام ليغتسل ولكن ذهب عقله إلى كلمات الإعلامية أسما ، ربما سمع كلمات تحفيزية كثيرة جدًا ولكن ما يميز أسما هو طريقة سردها لتلك الكلمات وكأنها تسرد تجاربها الشخصية ، يصله إحساسها وكأنها تراسله هو دون غيره .
❈-❈-❈
صباحًا
حاولت أن تتململ ولكنها لم تستطع حيث وجدت نفسها مكبلة بيديه ، يحاوطها وينام ، لا تعلم متى عاد فهي غفت أثناء قراءتها لكتابه .
نظرت له ولملامحه تتأملها وشردت فيه ، لم تكن تتوقع أن تتزوج رجلًا ثانٍ ، لم تكن تتوقع أن تفعلها قط .
توقعت أن تتحرر من كمال وظلمه ونرجسيته ، توقعت أن يعوضها الله بمحبة الناس وبهواية الكتابة ، تأملت أن يعوضها في صغيريها .
ولكنها لم تكن تتوقع أن تتزوج مرة أخرى ، برجلٍ رسمته في مخيلتها منذ صباها حيث كانت تخط في دفترها أنها لن تتزوج إلا بشخصٍ ذو خلق ، ذو علمٍ ، ذو ضمير ، رجلًا يميزها ، يحترمها ، يقدرها ، يدللها .
كتبت أنها لا تبحث عن ملامح وسيمة بل عن صفاتٍ عظيمة تنافي تمامًا صفات والدها ، كتبت ودعت ربها أن يرسل لها رجلًا تكمن فيه كل معاني الاحتواء .
وحينما أتاها كمال وعاشرته أدركت أن الحياة ليست عادلة وأن الأمنيات أحيانًا تتحقق وفي الأغلب لا وفي كلا الحالتين من المؤكد أنّ هناك خيرًا قادمًا .
لم تتوقع أن يأتي الخير على هيئة كلمات لرجلٍ مثله ، احتضنتها كلماته أولًا ، لتتفاجأ به ينتظرها ليعانقها ويحتويها بنفسه .
ضمد جراحًا ظنت أنها لن تلتئم ، خاضت معه تجارب كثيرة وهامة خلال تلك المدة القصيرة التي قضتها في فرنسا .
ربما فتح أمامها أبواب الحروب على مصراعيها ولكنه حرص ليكون جبهتها وأمدها بأسلحة الدفاع ، ليقتحم عقلها سؤالًا
لمَ أدخلها في هذه الحروب من البداية ؟ أتحاسب على فاتورة حبه وحنانه معها ؟ أم أنها أنانية ترتدي جلباب الحب ؟
هذا الماثل أمامها هو الفارس الذي حلمت به ، هو الرجل الذي أحبته بصدق وبكل جوارحها ، لذا فالخوف معه يتضاعف ، الخوف من خسارته أو من خذلانه لها .
عادت كلمات علياء تقتحم عقلها ، إن أرادت رؤية محبته فلتمرح قليلًا ، واليوم هو عيد ميلاد معاذ ، إذا فهو يومًا مناسبًا للمرح فهل تختبر محبته حقًا ؟ هل تستطيع فعلها وسط كل تلك التوترات ؟
اقتربت من وجهه وقبلته قبلة سريعة على شفتيه اللتان كانتا الصورة الوحيدة التي التقطتها عدسة عينيها أثناء تفكيرها .
حاولت بعدها التحرر من قبضته ونجحت ونهضت تترجل وتتجه نحو الحمام لتبدأ روتينها .
فتح عيناه بعدما أغلقت الباب وسمح لأنفاسه بالإنفراج ثم شرد بملامح جندي على أعتاب الحرب .
لقاءه مع صقر ليلة أمس لم يدُم طويلًا ، أخبره من خلال مراقبته لتوماس أن توماس يراقب يسرا ودياب أثناء ذهابهما لزيارة الطبيب ، إذًا هذا يعني أن توماس علم الصلة التي تجمع يسرا بديما … وبدأ لعبته معه .
❈-❈-❈
مر النهار سريعًا وقد تعهدت ديما بتحضير كعكة عيد الميلاد بنفسها ، الصغار يساعدون أمجد في تعليق الزينة ، وعلياء ترتب المكان ، والأجواء ممتعة ودافئة ، حتى أن مالك اندمج بشكلٍ رائع معهم .
دلف لتوه يحمل في يده قالب حلوى جاهز قد ابتاعه في طريقه بعدما أخبر رشدي بما حصل عليه وقرر أن ينزل أحمال عاتقه ويتركها جانبًا الليلة فقط ، لأجل عائلته ، لأجل صغيره ، لأجلها ، تمنى لو احتفل بذكرى ميلاد صغيره احتفالًا مميزًا وكبيرًا ولكنه كالعادة مقيد من كل جهة .
رحبوا به واتجه نحو المطبخ ليضع مافي يده فوجدها تقف تواليه ظهرها ، مندمجة في تزيين الكعكة ، ترتدي فستانًا مزخرفًا بالنقوش يتناسب مع قوامها ، تمشط شعرها على شكل جديلة وتركت خصلتين على يمين ويسار جبينها .
بنظرة عميقة وسريعة اكتشف كل هذا لذا تنفس وتساءل ينبهها :
– بتعملي إيه يا ديما ؟
التفتت تطالعه بابتسامة ، جميلة حينما تبتسم ، ابتسامتها تمحو أحزانه ، عينيها الصافية كشعاعٍ اخترق قلبه ونثر حوله السلام .
أجابته وهي تنظر ليده بترقب :
– بعمل التورتة ، إنت اشتريت ؟
نطقتها وعادت تطالعه بعبوس فرفع يده يضع العلبة على الطاولة ونطق مبررًا وهو يتقدم منها :
– دي واحدة على شكل سبايدر مان ، معاذ بيحبه .
مال قليلًا ليرى كعكتها ليندهش حينما وجدها قد حضرت كعكة على شكل سبايدر مان ، اندهاشه جعلها تتكتف وتتباهى وتردف بأمرٍ نافذٍ :
– طب إيه رأيك بقى مش هنحتفل ونقطع غير اللي عملتها .
أومأ مؤيدًا ونطق بإعجاب شديد ونبرة مرحة تنعش قلبه :
– لاء لو كدة بقى إحنا ممكن نفتح محل حلويات جنب المجلة ، الصبح كاتبة كبيرة وآخر النهار صانعة حلويات على مستوى عالي .
منذ ليلة أمس وهي تدرس كلمات علياء وتفكر في حديثهما وفي ضيقه الذي بات جزءًا لا يتجزأ منه لذا تجرأت واقتربت خطوة تقف أمامه مباشرةً وتتساءل بمكرٍ أنثوي مسالم يليق بها :
– طب وبليل ؟
تهاوى قلبه وقيدت أنفاسه في صدره وأجابها مشدوهًا بتفاصيلها :
– لاء بليل ده ملكي أنا .
حدقت به قليلًا وكلاهما أخبرا بعضهما بالكثير دون أي همس ، لقاء العيون كاد أن ينسيهما أين هما وأي وقتٍ هو الآن ليقتحم مالك المطبخ وينظر لهما بترقب ثم نطق :
– يالا يا ماما احنا مستنيين .
انتبهت لصغيرها فابتعدت بتوتر وعادت تضع اللمسات الأخيرة على الكعكة وتردف بنبرة مرحة حنونة :
– حالًا يا قلب ماما جينا .
خلع ثائر حلته ووضعها على أحد المقاعد و حل أزرار أكمامه يشمر عن ذراعيه ويتساءل وهو يتحرك حولها :
– طيب قوليلي أجهز معاكي إيه ؟
ابتسمت وأشارت له نحو الأطباق تردف :
– خد الأطباق يا ثائر ومالك ياخد الشوك وأنا هجيب باقي الحاجات .
أومأ وحمل الأطباق ونطق يتجه للخارج :
– يالا يا مالك هات الشوك وتعالى ورايا .
تبعه الصغير وخرجا ولحقتهما ديما بعد دقائق تضع الكعكة والعصائر والنقانق على الطاولة ثم اتجهت تحضر الزينة وقبعات الرأس الملونة وتناول الصغار قبعاتهم الثلاث والرابع وضعته على رأسها وضحكت تنظر إلى معاذ وتردف بحماس :
– يالا نبدأ .
لو أنها تعلم بماذا يشعر الآن لضحكت طوال حياتها ، قلبه يقفز فرحًا لمجرد أنها سعيدة ، تنفس بعمق وابتسم واتجهت هي تشغل أغاني عيد الميلاد وبدأ المرح .
اتجهت تقف بين أطفالها تدندن وتتمايل معهم ووقفت علياء تصفق لهم وثائر يجاور أمجد الذي لكزه يشير نحو ديما ويردف بخفوت :
– ماتعودناش نزعلهم يا ثائر ، مالهومش أي ذنب في شغلنا ، شوف بتعمل ايه علشان خاطر ابنك ، دي بنت أصول تستاهل تفرح واحنا رجالة وواخدين بنات الناس نصونهم مهما كانت ظروفنا .
رسالة أمجد كانت واضحة ، فهو يلاحظ منذ أيام ضيق ثائر وحزنه الذي ينعكس على ديما مما جعلها تفقد وعيها بالإضافة إلى مجيء مارتينا .
أومأ لوالده وعينيه عليها وهي تتفاعل مع الصغار بحبٍ كبير لتبدو طفلة كبيرة في عينيه ، رفعت نظراتها إليه ومدت يدها نحوه تردف حينما لاحظت تصنمه :
– تعالى .
فك حصار ذراعيه واتجه نحوها يجاورها وانحنى يقبل صغيره ثم رؤية ثم مالك ووقف خلفهم يحتوي عائلته الصغيرة ويتمنى أن يظلوا بخير دومًا وأن يعينه ربه على تحقيق السلام من أجلهما .
انحنى الصغار ليطفؤوا الشموع بعد انتهاء الأغاني وصفق الجميع بسعادة تمت سرقتها من حولهما .
عادوا يجلسون وبدأت ديما تقطع الكعكة وتناولهم .
رن جرس الباب فتعجب ثائر ونهض ليرى من وحينما فتحه لم يجد أحد ولكنه لمح أرضًا مجموعة من الكتب ملفوفة بقماش من الدانتيل على شكل هدية ، تعالت وتيرة أنفاسه وانحنى يلتقطهم ويتفحصهم .
تقدمت منه ديما تتساءل وهي تنظر لما في يده :
– مين يا ثائر ؟
نزع الكارت الملتصق بالقماش ثم لفها ليقرأ محتواها وليته لم يفعل حيث دون عليها بالفرنسية ( إلى السيدة ديما الصابر امرأة السلام ، قرأت كتابك وانتهيت منه ليلة أمس وأردت أن أعبر عن إعجابي الشديد بالقصة التي يحتويها وكم كنتِ بارعة في وصفها ، لذا أردت أن أهديكِ هذه الروايات الرومانسية وأتمنى أن تنال إعجابك ـــــــــــ إمضاء رجلًا يعشق التحدي )
وقف متصلبًا وذئاب الغيرة والغضب تنهش كل إنشٍ في جسده بلا رحمة ، ما يحاول إبعادها عنه منذ أن عاد يريد هذا الحقير جرها له بأي شكلٍ ، ليشعر بأنه مقيد أسفل مكبسٍ اقترب منه وعلى وشك سحقه .
مدت يدها تنزع منه الكارت وتقرأ ما به حينما لاحظت حالته وحينما قرأت رفعت نظرها إليه تتساءل بقلبٍ مرتعش :
– توماس ؟
أغمض عينيه وأجابها بإيماءة واحدة فقط وبعدها التفت يتحرك نحو غرفته ليتحدث إلى صقر .
❈-❈-❈
في اليوم التالي صباحًا
وبعد ليلة عصيبة حاولت فيها تهدئته ولكنه أبى بأي شكلٍ كان ، أبى أن يتحدث ، أبى أن ينام ، وأبى أن يترك سجائره ، وحينما فشلت محاولاتها في تهدئته قررت أن تصلي وتدعو ربها من أجله .
هاتفت داغر ليأتي ويصطحب طفليها حتى لا يلاحظا ما به .
أخبرها شقيقها أنه يقف أسفل البناية فجهزتهما وارتدت إسدالها لتوصلهما له حيث أن ثائر في الداخل يرتدي ثيابه ليغادر .
نزلت معهما واتجهت ترحب بشقيقها وتعطيهما له بعدما ودعتهما وأكدت لهما أنها ستذهب إليهما قريبًا .
استقلا السيارة مع داغر وغادرا ووقفت تلوح لهما إلى أن رحلوا فالتفتت لتعود ولكنها توقفت حينما ناداها شخصًا ما باسمها ، التفتت بتعجب تطالعه لتجده رجلًا تخطى الخمسين من عمره ، وقفت مشدوهة وسألته :
– حضرتك تعرفني ؟
نطق رشدي بإيماءة بسيطة :
– أيوا ، ممكن نتكلم ؟
حينما علم أنها نزلت لتوصل صغيريها ولم تعد سريعًا تهاوى قلبه وأسرع ليراها مستخدمًا المصعد الذي ما إن وصل إلى الطابق الأرضي وفتحه حتى وجدها تقف أمام رشدي الذي جاء ليتحدث إليها .
باندفاع تحرك يقف أمامها يمنعه من رؤيتها وينظر في عيني رشدي بنظرة هجوم قائلًا :
– خير يا رشدي بيه ؟
نطق رشدي بصرامة وهو يضع كفيه خلف ظهره :
– هات ديما وتعالى ورايا يا ثائر ، هستناك .
التفت يغادر من حيث أتى ووقف ينظر لأثره بعجزٍ كلي تملك منه وأدرك بالفعل أن ما سعى ليبعده عنها جاء وارتطم بها عنوةً لذا حينما التفتت تقابله وتتفحص ملامحه وتساءلت بقلقٍ بالغ :
– مين ده يا ثائر ؟
حدق بها مطولًا كأنه ضائع ويسعى ليهتدي وحينما لم يجد سبيله همس بشفتيه :
– مخابرات .
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية بحر ثائر 2)