روايات

رواية جعفر البلطجي 3 الفصل التاسع والستون 69 بقلم بيسو وليد

رواية جعفر البلطجي 3 الفصل التاسع والستون 69 بقلم بيسو وليد

رواية جعفر البلطجي 3 البارت التاسع والستون

رواية جعفر البلطجي 3 الجزء التاسع والستون

رواية جعفر البلطجي 3 الحلقة التاسعة والستون

كل الطرق تؤدّي إليكِ … لكنكِ لستِ في أيّ منها،
أُخفي حزني بين ضلوعي،
وأقول: سيعود الغائب، سيعود…
لكنّ الوقت لا يرحم،
والشوق لا يُطفئه رجاء،
وكل مساءٍ، أفتّش في قلبي عنكِ،
فأجد طيفكِ، وألمكِ، وغيابكِ،
أخشى أن تكوني نسيتِني،
أو أن تكون الحياة خذلتكِ عن الرجوع،
وأخشى أكثر… أن أعتاد الغياب،
فأنسى كيف كان حضوركِ يحييني.
_ارتجال.
______________________________
ليست كل البدايات تُولد من النور، أحيانًا تأتي من رحم العتـ.ـمة، حين يظن القلب أنه لن ينبـ.ـض مجددًا، تبدأ الحياة من جديد حين نقرر أن نترك ما كسـ.ـرنا دون أن نحمله معنا، لا لأن النسيان سهل، بل لأن البقاء في الظل أصـ.ـعب، هكذا تولد البدايات الحقيقية … من و’جعٍ قرر صاحبه أن يتجاوزه، لا أن ينتصـ.ـر عليه..
<“لم يكُن الخلا’ص سهلًا على المرء.”>
أتعلم حينما يُراودكَ شعورٌ بالخطـ.ـر !!
وكأن العالم مِن حولك أصبح هو الخطـ.ـر،
كانت أولى الأفكار تتجسّد في الهر’ب،
وأول صر’خة كانت تخرُج للاستغا’ثة،
كانت لمَن نراه الأمان في هذا الفسا’د،
اليوم هذا الأمان لم يكُن سِوى فسا’دًا،
بئـ.ـر الأمان وأذرُع الحنان، أصبحت مسمو’مة.
ثقلـ.ـت الأنفاس، وكأن حمـ.ـلًا ثقـ.ـيلًا فوق صدره يأبى الإنسحا’ب، كصخـ.ـرة صـ.ـلبة صـ.ـعب تحريكها مِن مكانها، جـ.ـف حلقُه وكأن الماء إنسـ.ـحب مِن أرضٍ كانت تملؤها خيرات الرب، تراخٍ مر’عبٍ شَعَر بهِ في أطرافه، وكأن جسـ.ـده مـ.ـخليًا، وكأن الغشا’شة نُزِ’عَتْ عن عيناه ليرى الشيطا’ن مجسـ.ـدًا أمامه، يُراوده سواءً في أحلامه أو يقظته يأبى تركه يعيش كبقية المخلوقات، تلك كانت نبع الحنان، الصدر الد’افئ، المدرسة التي إن أعدتها أعدت شعبًا طيب الأعراق..
تمنىٰ لو كانت كابو’سه الذي ظهر في يقظته بدلًا مِن نومه، فإن كانت قد عادت لاستكمال سِجِل مؤ’امراتها فلن يكون الضـ.ـحية مجددًا هذه المرة، أخرج نفسُه سريعًا مِن حالة الصدمة والضـ.ـعف اللذان تمـ.ـلّكا مِنْهُ وعاد لشخصه الذي عهده، هذا الذي تم د’فنه تحت التر’اب ودُ’هِسَتْ فوقه الأقدام كالحشـ.ـرة، كان يحتاج إلى يَد المعونة، وكان الفضل لصاحب الفضل في ذلك..
مدّ يَده ممسكًا بذراعها، لم تكُن قبـ.ـضة لـ.ـينة بقدر ما كانت قا’سية، د’فعها بعنـ.ـفٍ بعيدًا عن باب سيارته الثمينة، وعيناه تر’ميها بنظراتٍ مشمئـ.ـزة وكأنها جرثو’مة ولوَ’ثت سيارته الحبيبة، أخرج محرمة معقمة مِن جيب بنطاله وقام بمسح البـ.ـقعة التي كان فوقها كفها، خرج صوته حينها قا’سيًا، مجرّدًا مِن العطف كما أعتادت عليه:
_أنا مبحبش حد خا’ين يلمـ.ـس حاجة تخصني، حلي عني بدل يمين بالله لهتشوفي وش مِني يزعلك الباقي مِن عُمرك، ومتستغـ.ـليش نقطة إنِ مقدرش أر’فع إيدي على واحدة لصالحك عشان لو أنا مبعرفش أر’فع إيدي فعلًا فهعرف أر’فع لساني وهيسمعك كلام يخليكي تتمني الأرض تتشـ.ـق وتبـ.ـلعك، روحي مطرح ما جيتي أحسن ليكي عشان مش عايز يومي يضر’ب بسببك.
وبمثابة أن أنهى حديثه فتح باب السيارة مِن جديد والغضـ.ـب هو المُتحـ.ـكم بهِ في تلك اللحظة، لقد عهد على أن تلك الشخصية كانت شخصيته الأصلية، هويته المجهو’لة التي كانت غائبة عنهُ لسنواتٍ طويلة، منذ أن استعاد ذاته وبدأ كُلّ ليلة يشعُر بالنفو’ر كُلّما تذكّرها وتذكّر كيف كانت تُعلن استسلا’مها وكيف كانت طوال الوقت تقف أمامه بالمر’صاد تر’فض إعطاءه حقوقه الشـ.ـريعة كأيُ رَ’جُلٍ عادي غيره، لا يعلم كيف كان يصمت أمامها ويجعلها تفعل ما كانت تُريده، ولكنهُ الآن عاد إلى سابق عهده وهذه المرة هو المُسيطـ.ـر ولا غيره..
_”محمـود” أنا أمّك..
_أسـكـتي ..!!
صر’خ بها بإنفعا’لٍ واضح، أنتفـ.ـخت أوداجه وهو يُطالعها بعينٍ مجحظة قليلًا محاولًا تما’لُك نفسُه حتى لا يتم فضـ.ـحه أمام المارّة، كان صدره يعلو ويهبط بعنـ.ـفٍ واضح وهي تقف أمامه مهز’وزة لأول مرَّة، لم تكُن في هذه اللحظة “زينـات” المرأة القو’ية المُتسـ.ـلطة، كانت أقل مِن ذلك بكثير، أصبحت كـ “محمـود” في ضـ.ـعفه وقلة حيلته، أصبحت الطرف الضـ.ـعيف وهو أمامها الو’حش المكسو’ر، هذا الو’حش الذي د’فنته تحت سطو’تها وفر’ض سيطـ.ـرتها عليه..
ما تم زرعه يتم حصاده، تلك هي الحقيقة؛ هي الآن تحصد ما قامت بزرعه في قديم الأزل، زرعتها كانت صالحة في البداية، ولكن مع هبا’ت العو’اصف والليالي القا’سية وعدم العناية تحوَّلت تلك النبتة إلى أخرى مـ.ـيتة، لا حياة لها؛ اكتست الحُمـ.ـرة عيناه وهو ينظر في عيناها وكأنها سها’مٌ تُرشـ.ـق في صدرها، نظرات إتها’م وكرا’هية لم تكُن تتوقّع أن تُصوّب نحوها يومًا، ولكنها فعلت ذلك بنفسها الآن ووجب عليها تحمُل ما ستلقاه على يَديه..
_أنتِ عُمرك ما كُنتي أمّ..
نظرت مباشرةً في عيناه الدامعة والمليئة بالكر’اهية لها، لا تُصدق ما تسمعه؛ وما تراه مِن شـ.ـرٍ لم تعهده يومًا، طـ.ـعنة غير مرئية صوِّبت تجاه قـ.ـلبها وكأنها تتعمد أن تُذيقها مر’ارة الشعور ذاته، أما عنهُ فكان أكثرهم و’جعًا، وكسـ.ـرة، وتخاذ’لًا، أشهر سبابته في وجهها وكأنه يوجّه جميع الاتهاما’ت لها، ونبرته كانت كافية لتُرسل وتبوح للجميع كيف يُمكن للر’جُل الذي لا يُكسـ.ـر ولا يُها’ن، أن يكون يومًا مجرّدًا مِن الهيبة، والكر’امة، وعِزّة النفس:
_أنا كر’هتك أكتر ما حبيتك، أقسملك بالله العلي العظيم إنِ محبتكيش قد ما كر’هتك دلوقتي، كُلّ ما أبُص فوشك بشوف نفسي وأنا مكسو’ر، ومذ’لول، ورا’جل ملهوش كلمة وأمّه اللي ممشياه، مفيش مرَّة نصفتيني فيها ورفعتي راسي قدام نفسي حتى، على طول بشوف نفسي واحد تافه، مش را’جل عشان واحدة سـ.ـت تمشيه، كسـ.ـرتيني بدري أوي، مِن صغري بتحاولي تكسـ.ـري شخصيتي، كُنت عنيـ.ـد؛ اللي بعوزه باخده مِن عـ.ـين التخين وكلمتي كانت سيـ.ـف على رقا’ب الكُلّ، معجبكيش الوضع وحبيتي تفر’ضي نفسك وسُـ.ـلطتك عليّا فعرفتي تكسـ.ـري عيني صح، لمَ..
_متكملش.
أوقفته وهي تنظر إليه وعينها تُغلفها طبقة شفا’فة مِن دموعها، وكأنها تخشى سماع ما تهرُ’ب مِنْهُ طيلة حياتها، ولكن أمام هذا الغو’ل القطار لا يتوقف والنز’يف يأبى التوقف، أكمل بنبرةٍ جامدة وكأنه يُعا’ندها ويستعيد شيئًا بسيطًا مِن تمر’ده عليها:
_مكملش ليه؟ خا’يفة تو’اجهي الحقيقة اللي سعيتي عُمرك كُلّه عشان تهر’بي مِنها؟ بس أنا قررت مسكوتش بعد النهاردة، أنا هتكلم وهعلي صوتي كمان عشان أنتِ واللي زيك يعرفوا حقيقتهم بجد، عرفتي تكسـ.ـريني صح أوي يا مدام، لمَ كسـ.ـرتي عيني قدام الناس وقولتيلي أنتَ مش را’جل لمجرد، أنتَ ابن فاشـ.ـل وعا’ق، كسـ.ـرتيني وقـ.ـطمتي ضهري وخليتي عيـ.ـني فالأرض، لا ومش بس كدا، جوزتيني لواحدة مكانتش شيفاني أساسًا ووقفتي فصفها ضـ.ـدي، ضـ.ـد أبنك؛ طب تعرفي كام مرَّة طعـ.ـنت رجو’لتي؟ كام مرَّة قالتلي أنا مش شيفاك را’جل، أنتَ فنظري نُص را’جل، أنا مِن وقتها وأنا مد’اس على أهلي سواء مِنك أو مِنها ومحدش كان حاسس بالنا’ر اللي قا’يدة جوّايا ومش راضية تطـ.ـفي، أنا أتخد’عت فأكبر مغفـ.ـلة فالدنيا، الأم فعيني مش الأمان ولا وجودها هيأ’ثر عليّا عشان منصـ.ـفتنيش قدام نفسي مرَّة، إنما اللي وقف جنبي ودعمني بجد وخد صفي كان أبويا، الرا’جل اللي داق نفس الكاس اللي دوقت أنا مِنُه..
سقـ.ـطت عَبراته كشلالا’تٍ منهمـ.ـرة لا تتوقف، تسارعت وتيرة أنفاسه وبدأ صدره يعلو ويهبط بوضوحٍ أمام عينيها، أرغمته على تذكُّر أشياءٍ سعى لنسيانها ولو لوقتٍ قصير، كانت ضر’بته قو’ية ولم يتحملها خصيصًا مِنها هي، بئـ.ـر الأمان؛ لم يستطع أن يُكمل حديثه بالرغم مِن أن الكلمات مازالت بداخله وتُريد أن تنال حُـ.ـريتها ولكن لم يستطع أن تظل أمامه لوقتٍ أطول مِن ذلك، ولذلك ترجل سيارته وأغلق الباب بحركةٍ عنـ.ـيفة دون النظر إليها أو منحها فرصة أخرى تُبرر أفعالها..
حاوط وجهه بكفيه وسمح لنفسُه بالبُكاء كيفما يشاء، بدأ يبكي بصوتٍ عالٍ وصوته تهـ.ـدج بعد أن فقـ.ـد السيطـ.ـرة على نفسُه فالماضي كو’حشٍ بمخا’لب قا’تلة يسعى خلفه كي ينا’لَ مِنْهُ بأيا طريقة، وهي كانت بالنسبةِ إليه هذا الو’حش، لحظات ورفع وجهه وهو ينظر حوله بوجهٍ باكي وعيناه تكسوها الحُمـ.ـرة، سقـ.ـطت عيناه عليها ليراها مازالت تقف وتنظر إلى زجا’ج السيارة الأسو’د على أملٍ أن يعود لسماعها..
ظلّ ينظر في عيناها وكأنها يبحث عن الند’م، وكأنها تأبى الاعتراف لهُ بخـ.ـطأها وبند’مها على ما فعلته في الماضي، مازالت تُكابر وهو لم يعُد ينتظر مِنها شيئًا، فهي في منظوره أصبحت مـ.ـيتة، لا وجود لها؛ بلحظة حا’سمة إنقـ.ـطع الوصال بين الطرفين، وتعهد على أن تكون تلك المرة هي الأخيرة التي ستجمع بينهما، أدار سيارته وسحب حز’ام الأمان، وفي هذه اللحظة تبدّلت تعبيرات وجهه مائة وثمانون درجة لتُصبح أخرى أكثر قسو’ة وجمو’دًا..
تحرّك بسرعة مِن المكان تاركةً إياها خلفه، رحل وأ’لقى الماضي خلفه بكُلّ أحزانه وأوجا’عه، رحل كي يبحث عن ذاته، عن نفسُه الضا’ئعة، عن حياة جديدة يعيشها كما كان يحُلم دومًا.
____________________________
<“لحظة غير محسوبة تُر’مم قلوبًا مُد’مرة.”>
في منزل عائلة آل مُحَمَّدي..
قُبيل المغرب ولج “عمـاد” بخطى هادئة داخل المنزل، ليس وحيدًا هذه المرة بل يجاوره رفيقًا يخطو لأول مرَّة داخل هذا المنزل، هذه المرة كان وجهه هادئًا ومبتسمًا، عيناه تسرد على الحاضرين عن تلك الراحة التي يلُذ بها لأول مرَّة، كان في هذه اللحظة أخيه “رابـح” يجلس فوق الأريكة وفوق قدميه يستقر حاسوبه ومُنصبًا بكامل تركيزه عليه، خرجت “وجيـدة” في تلك اللحظة لتراه فجأةً ومعهُ “هنـاء” التي كانت تشعُر بالتو’تر..
_يا أهلًا وسهلًا بالغاليين، خلّيها تدخل يا “عمـاد” البيت بيتها.
رحّبت بها “وجيـدة” بوجهٍ مبتسم بعد أن رأتها مِن جديد بعد مدة طويلة مِن الغياب، أنتبه لهم “رابـح” الذي حوَّل عيناه لتستقر فوقهم ليرى امرأة غريبة تقف في عقر داره، أبعد الحاسوب عنهُ وانتـ.ـصب واقفًا دون أن يتحدث يرى أقتراب أخيه مِنْهُ، أمسك بكفه وسحبه خلفه دون أن يتحدث تاركًا “هنـاء” برِفقة “وجيـدة” التي رحّبت بها بحـ.ـرارة، توقفا كلاهما بعيدًا عن أنظار الجميع، وقف “رابـح” قبالة “عمـاد” ينظر إليه وهو مازال يجهـ.ـل ما يحدث حوله..
نظر إليه “عمـاد” وبدأ يسرد عليه حقيقة الأمر بقوله:
_أنا عارف إنك مش فاهم حاجة عشان كُنت بعيد عن الصورة، بُص يمكن تشوفه قرار سريع أو دا جنا’ن مِني بس أنا قررت أتجوز “هنـاء”.
جُعدت معالم وجهه مستنكرًا ما يسمعه مِن أخيه الذي قرر إخباره بما سيحدث بعد أيامٍ قليلة، ردد “رابـح” بنبرةٍ خافتة وكأنه يؤكد لنفسُه أن ما سمعه صحيحًا:
_تتجوز؟ غريبة دا أنتَ لسّه مطـ.ـلق مبقالكش شهر يا “عمـاد”، حصل أمتى كُلّ دا؟ وولادك رأيهم إيه فالموضوع دا؟.
جاوبه “عمـاد” بنبرةٍ هادئة جاعلًا الصورة أوضح أمام أخيه الذي حتى تلك اللحظة مازال لا يفهم ما يحدث حوله:
_بُص هو كُلّ حاجة حصلت فجأة بس أنا لقيت نفسي مع “هنـاء”، هي لوحدها وأنا لوحدي وأنا بدأت أحسّ ناحيتها بحاجة فبعد فترة الموضوع بدأ يزيد وأنا بصراحة صارحتها ولسّه مستني وقت مناسب عشان أتقدملها ولو على ولادي هما معندهمش أي مشـ.ـكلة بالعكس مرحبين بالفكرة أوي وطالما فيها راحتي فهما تمام، أنا قولت أعرّفك عشان تكون معانا فالصورة.
رفع “رابـح” كفه ومسح برفقٍ فوق خصلاته السو’دا’ء وجاوبه بنبرةٍ هادئة يُظهر مِن خلالها قلة حيلته:
_اللي يريحك يا خويا أعمله، هو أنا مِن أمتى بيتاخد برأيي يعني ولا بتفاتحني فحاجة تخصك، أكمن الـ ٨ سنين الفرق اللِ بينا يعني مخلّياك حاططني عالرف.
ر’ماه “عمـاد” نظرةٍ تحمل عتابًا خفيًا بعد أن أستمع إلى حديث أخيه الذي كان يبدو عليه الحزن رفيقًا لهُ، مدَّ “عمـاد” كفه ووضعه فوق كتف أخيه قائلًا بنبرةٍ هادئة:
_إيه اللي بتقوله دا يا “رابـح” كدا هتزعلني مِنك بجد، مفيش بينا كدا وأنتَ عارف كدا كويس أوي، أنا بس مبحبش أتكلم مش أكتر مش الهبل اللي فد’ماغك دا، إياك تقول كدا تاني، وبعدين لو هاخد رأي حد هنا فأول واحد هيكون أنتَ، أنتَ أينعم سِنك مقارب لسِن “يـوسف” بس فاهم الدنيا وأكيد يعني هترضى الخير لأخوك، ولا تكونش بتحـ.ـقد عليّا دلوقتي ولا إيه نظامك.
وأمامه لم يستطع أن يظل ملتزم الصمت كثيرًا، ولذلك بسمةٌ خفيفة أرتسمت فوق شفتيه بعد أن أستطاع “عمـاد” استغلال أخيه كما يفعل دومًا، هزّ “رابـح” رأسه برفقٍ وجاوبه بنبرةٍ هادئة:
_عندك حق، بتعرف تدخلي مِن ثغـ.ـراتي يا “عمـاد” مِن صغرك وأنتَ مش سهل برضوا، عمومًا يا سيدي أنا مش هتمنالك غير كُلّ خير ومِن حقك تشوف نفسك برضوا محدش هيقول حاجة، المهم تكون مبسوط، بس أنا فرد أساسي وأنتَ رايح تتقدم أنا مش هتنازل على فكرة.
قهقه “عمـاد” بخفة بعد أن أستمع إلى شرط أخيه ليوافقه القول بقوله:
_ماشي يا عمّ “رابـح” أنتَ فرد أساسي فالقعدة إن شاء الله، “عامـر” يخطب بس بُكرة على خير وبعدين بقى نشوف الحوار دا، المهم عندي هو دلوقتي.
طمئنه “رابـح” بقوله الهادئ بعد أن رأى توتر أخيه حين تم ذِكر ولده:
_متخا’فش على “عامـر” كُلّها سنة ويتجوز، و “محمـود” ربنا يكرمه ببنـ.ـت الحلال اللي تصونه وتعوضه عن اللي شافه، عيالك رجا’لة يا “عمـاد” ميتخا’فش عليهم صدقني.
تنهيدة عميقة خرجت مِن “عمـاد” الذي تمنىٰ أن يحدث ذلك ويرى ولديه في أفضل حال، أخذه وخرج مِن جديد إلى “هنـاء” التي كانت تجالس “وجيـدة” وتتحدث معها ضاحكة، نظر إليها “عمـاد” وبسمةٌ هادئة أرتسمت فوق شفتيه حينما رآها مندمجة في الحديث مع زوجة أخيه وتقـ.ـص عليها بعض المواقف التي حدثت معها، شَعَر بالطمأنينة وقبل أن يتحدث ولج “محمـود” مِن الخارج يحمل الحُلتان خلف ظهره بكفٍ، والآخر يحمل بعض الحقائب الكرتونية التي تحمل شعارات مختلفة لمنتجات شهيرة..
كان متجهم الوجه وكأنه أرتكب جر’يمة وعاد مجددًا، أتجهت الأعين عليه، وعلى رأسهم “عمـاد” الذي شَعَر بأن شيئًا ما حدث مع ولده جعله بتلك الحالة، ومعه “هنـاء” التي أنذ’رها قلبها بشيءٍ غير عادي سيحدث في تلك اللحظة، تحرّك “عمـاد” يقترب مِن ولده يقطـ.ـع عنهُ طريقه وهو يقف في مو’اجهته مباشرةً وعيناه تتابع تقاسيم وجهه التي لا تُنذ’ر بالخير..
_في إيه؟ مالك راجع مش طا’يق نفسك ووشك مقلو’ب بالمنظر دا كدا ليه إيه اللي حصل؟.
نزل “عامـر” مِن الطا’بق الثاني واقترب مِنهم وهو لا يفهم ماذا حدث ولِمَ أخيه عابس الوجه بتلك الطريقة التي أصا’بته بالر’يبة، وقف بجانب أبيه وهو ينظر إلى أخيه مترقبًا قوله، بينما لم يتحدث “محمـود” أو يفعل شيئًا سِوى التهرُ’ب مِن حصا’ر أبيه بالنظر بعيدًا عن مر’ماه، بينما كان “عمـاد” ينظر إليه وبدأ يتذكّر متى رأى تلك النظرة مِن قبل، فنظرة “محمـود” ليست غريبة عليه:
_أنتَ شوفتها تاني مش كدا؟.
فَهِمَ الجميع سبب تلك الحالة التي عليها هذا المسكين الذي لا يعلم كيف يتعافىٰ ويتناسىٰ ما حدث معهُ، رأى “عامـر” أرتعا’شة يَده الممسكة بالحقائب ولذلك تقدَّم مِنْهُ وأخذ الحقائب والحُلتان قبل أن تنتابه الحالة مِن جديد ويُفسـ.ـد كُلّ شيءٍ، أبتعد عنهُ تزامنًا مع قوله الصا’رم:
_قولتلك قبل كدا متتأ’ثرش بوجودها ولا بأفعالها أنتَ اللي مش راضي تسمع الكلام ومعا’ند ومصـ.ـعبها على نفسك.
_شايفني باقي عليها .!!
صر’خ بهِ “محمـود” بإنفعا’لٍ واضح بعد أن أستفـ.ـزه حديث أخيه كثيرًا، بينما جاوبه “عامـر” بنبرةٍ حا’دة قائلًا:
_لا بس شايفك لسّه تحت تأ’ثيرها، ودي أكبر مـ.ـصيبة.
تقدَّم “محمـود” خطوةٌ مِنْهُ وصر’خ بهِ بإنفعا’لٍ أشـ.ـد بعد أن تمـ.ـلّك الغضـ.ـب مِنْهُ هذه المرة وفر’ض سيطـ.ـرته عليه بالكامل:
_أنا مش فارق معايا هي أو غيرها هي بالنسبة لي مـ.ـيتة أنا يتيـ.ـم أمّ خلاص خلصت متستفـ.ـزونيش أكتر مِن كدا، أنا مش تحت تأ’ثير حد وزي ما رمـ.ـيت “تماسي” رمـ.ـيتها هي كمان، أفهم بقى ..!!
رحل كالإعصا’ر بعد أن أنهى صر’اخه عليهم وأخرج غـ.ـضبه المكبو’ت، كانت حالته صدمة للجميع فلم يكُن أحدهم يتوقع أن يصل بهِ الأمر إلى تلك المرحلة، إنسـ.ـحب “عامـر” بهدوءٍ وذهب مجددًا إلى غرفته فلن يستطيع أن يترك أخيه في تلك اللحظة الصـ.ـعبة فبالتأكيد هو الآن يُريد مَن يواسيه..
اقتربت “هنـاء” بخطى هادئة مِن “عمـاد” الذي شَعَر بثقـ.ـلٍ في صدره بعد أن أستمع إلى حديث ولده ورأى عد’وانيته تجاه أخيه وكيف وصل بهِ الأمر إلى تلك المرحلة، جاورته في وقفته وحاولت مواساته بكلماتٍ بسيطة:
_متخا’فش عليه هو هيكون كويس صدقني، المسألة مسألة وقت مش أكتر، هو متأ’ثر ومصدوم فيها محتاج شوية وقت وهينسى بعدها صدقني.
_يا ربّ يا “هنـاء”، نفسي ينسى ويعيش حياته قبل ما الوقت يعدي ويسر’قه.
ختم حديثه بنبرةٍ خافتة وهو ينظر نحو الدرج، وكأن ما يتمناه سرٌ لا يجب على أحد أن يستمع إليه، وفي كُلّ لحظة يزداد كر’هه لها اكثر وسؤالٌ واحد يدور في عقـ.ـله دون أن يجد لهُ الجواب.
__________________________
<“أنا التائه في أرض الله، أنا هو الغائب المنتظر.”>
رمزي… إذا نطقَ الهدى خجِلَ الهوىٰ،
وتهاوتِ الأهواءُ، وارتفعَ الدُّنا،
وإذا سارَ في الأرضِ، أضاءَ المكان،
كأنّ النورَ يمشي في دربِ الأمان،
كلامهُ بلسمٌ، ووجهُهُ سُكينةُ قلبٍ،
وفي سكوتهِ تُروىٰ ملاحمُ الإيمان.
في أُمسية اليوم، وبينما الأصوات تملئ أرجاء الحارة الشعبية،
كان “رمـزي” يرقد فوق الفراش، يسبح في بحو’ر نومه منذ ما يُقارب ساعة ونصف، الغرفة ساكنة، والد’فء يحاوطها، ألا مِن صوت أنفاسه الهادئة مسموعة، كانت معالمه ساكنة، وكأنه يتذوّق لذة الراحة التي كانت مسلو’بة مِنْهُ منذ أشهرٍ، وبين هذا الظلا’م الذي كان يُحيط بهِ، شـ.ـق النور في الأفق بعيدًا، بدأ يتسع رويدًا رويدًا حتى رأى نفسُه فجأةً في مكانٍ يُشبه الجنة على الأرض..
رائحة المسك تفوح في الأرجاء، وزقزقة العصافير تغرد في الأفق حوله وكأنها تُرحب بهِ على طريقتها الخاصة، ممشى طويل مُزيّن بورود چورية حمر’اء وبيـ.ـضاء، وكأنها تستقبل ملكًا جديدًا على أراضيها، وبدون أن يشعر بدأ يسير خلف هذا القط الذي ظهر في طريقه فجأةً وبدأ يُرشده إلى وجهته، كان “رمـزي” كالذي تم تخد’يره، لا يعي لِمَ يحدث حوله، إلّا فضوله الذي كان يد’فعه لمعرفة ما يحدث في المكان وكيف جاء..
استغرق خمس دقائق حتى رأى مسجدًا يتسع المكان أمامه، بُنـ.ـيَّ مِن الرخام، كان يلمع تحت الأضواء ليلًا، ويتوهّج في الظهيرة تحت أشعة الشمس الذهبية، وقف أمام المسجد مندهشًا، طافَ بعيناه عليه بشمولية وهو يُصّرح لنفسُه أن هذا مِن أفضل وأروع المساجد التي رآها حتى هذه اللحظة، إضاءات ذهبية في الوجهة وقطعة ذهبية مستطيلة الشكل تعلو بابه الضخم، مُدوّن فوقها _مسجـد النـور_ وكأنها رسالة غير معلومة..
_عجبك المكان مش كدا.؟
ألتفت “رمـزي” خلفه ينظر إلى المتحدث، والذي لم يكُن سِوى نُسخته المُصغرة، وكأنه ضميره اليقـ.ـظ الذي دومًا يتحكّـ.ـم فيه، كان يُشبهه بشـ.ـدة ولكن معالمه كانت حا’دة بعض الشيء، يرتدي جلبابه الأسو’د، ويعلوها عباءته الكحيلة الناعمة المطرزة بخيوطٍ ذهبية، يرتدي قبعة بيـ.ـضاء تُشبه تلك القبعات التي يرتدونها شيوخ الأزهر، وبين أنامله تتحرّك حبّات مسبحته البُنية بإنتظامٍ، نظر إليه “رمـزي” بشمولية وكأنه يُحاول معرفة ما يحدث مِن حوله:
_أنتَ مين.؟
سأله “رمـزي” بنبرةٍ هادئة مترقبًا تلقي الجواب وهو ينظر إليه بطرف عينه، بينما أبتسم الآخر بسمةٌ هادئة وقال:
_أنا تقدر تقول عليّا ضميرك، ضميرك اللي عُمره ما قبل بالظُلـ.ـم، ولا إن مكسبه المادي يكون مِن مصدر حر’ام، ولا إنُه يسيبك تنام مثلًا مِن غير ما تقيم الليل، حتى فأشـ.ـد لحظات مر’ضك، بفضل أأ’نبك لحد ما تقوم وتصلي، أنا ضميرك الحـ.ـي اللي لولاه مكُنتش وصلت للمرحلة دي يا شيخ “رمـزي”.
وقف “رمـزي” في مواجهته مباشرةً وعيناه تصطد’م بعينان الآخر، ضم كفيه خلف ظهره ورفع رأسه بشموخٍ وقال بنبرةٍ هادئة:
_برضوا مش فاهم أنا هنا ليه، محتاج أعرف السبب.
أبتسم الآخر بزاوية فمه وكأنه كان ينتظر تلقي هذا السؤال، تنهد بعمقٍ وقال بنبرةٍ هادئة:
_أنتَ هنا عشان تعرف أنتَ لأي مرتبة وصلت يا “رمـزي”، أنتَ وصلت لمكانة كبيرة أوي عند ربنا، مكانة صـ.ـعب تتخيلها، المسجد اللي وراك دا أسمه مسجد النور، مسجد النور دا يا شيخ “رمـزي” ليه معنى، المسجد يُعبر عن مكانتك، يعني الشيء اللي بيخليك جنب ربنا على طول، أول ما عينك تشوفه يفكرك بربك فبتلاقي نفسك بتروح المسجد عشان تصلي حتى لو ركعتين، النور فهو طريقك فالدُنيا، يعني طريق النور، المسجد دا ملاذك، والنور هو طريقك، أنتَ أتولدت زاهِد، ومكتوب عند ربنا إنك تكون مِن عباده المقربين، دا جزء بسيط مِن اللي هتحصده، لأن زرعك كان صالح ومشيت عالصراط المستقيم، فالنهاية هتكون جنة الفردوس الأعلى إن شاء الله.
كان “رمـزي” ينظر إليه وهو يشعُر بمشاعر مضطـ.ـربة بداخله، صرا’عاتٍ قو’ية نُشِـ.ـبَتْ بداخله جعلته لا يستطيع الفوه بكلمةٍ واحدة، مدَّ الآخر كفه واستقر فوق مو’ضع قلبه النا’بض، يشعُر بنبـ.ـضه السريع تحت راحة كفه، نظر في عيناه مباشرةً وقال:
_دا اللي هيقرّبك مِن ربك أكتر.
تا’ه “رمـزي” وشَعَر بالتردد، وكأنه بين عالمٍ لا يعلم عنهُ شيئًا سِوى هذا المسجد الكبير الذي كان يلمع تحت الأضواء الذهبية، نظر في عيناه وهمس لهُ وكأنه يترقب الجواب بحذ’رٍ شـ.ـديدٍ:
_أنتَ مين.؟
أبتسم لهُ بخفةٍ، وتوهجت لمعة عيناه بوميضٍ يُعلن عن طريقٍ جديدٍ لا يعلمه سِواه وقال:
_أنا أنتَ يا “رمـزي”.
وهُنا سكتت الأصوات وبدأت الأضواء تتخا’فت مِن حوله، وكُلّ ما كان يُسمع ويتردد في عقله عبارة لن ينساها بسهولة، عبارة ستظل عا’لقة في ذهنه سواء في أحلامه أو يقظته وكأنها حُفِـ.ـرَت في قلبه، _فقلت لهُ مَن أنت قال أنا أنت_ ..
بدأ يتقلّب على جانبيه، وكأنه يعود تدريجيًا إلى أرض الواقع، لحظات وأستيقظ فجأةً مِن غفلته، فتح عيناه لتظهر الرؤية مشو’شة أمامه لثوانٍ معدودة، ثمّ بدأت تتضح؛ ليرى نفسُه فوق فراشه والغرفة ساكنة ومظـ.ـلمة بعض الشيء، لم يكُن ذلك سِوى حُلمًا إليه لا يعلم إيلاما يُشير، ولكنهُ كان يعلم أنَّهُ خيرًا إليه، فربُّ الخير لا يأتي إلّا بالخير..
أخرج تنهيدة عميقة وحاوط وجهه بكفيه، يمسح فوقه عِدة مراتٍ وكأنه يُزيح أعتا’ق الماضي، رفع نصفه العلوي بتمهلٍ ثمّ انتصـ.ـب واقفًا، تمطأ قليلًا؛ ثمّ تحرّك خارج الغرفة بعد أن تقدّم مِن الباب وفتحه بهدوءٍ، سكونٌ غير عادي في المكان لم يعتاد عليه، وكأن ساكني المنزل يتآ’مرون ضـ.ـده، وجهته كانت معلومة، المطبخ؛ كانت “تسنيم” تقف أمام الرخامية تُعد لنفسها كوب قهوة بعد أن بدأ أ’لم رأسها ينتشـ.ـر رويدًا رويدًا كاللـ.ـص الها’رب..
ولج بخطى هادئة ووقف على عتبة المطبخ يشاهدها دون أن يُشـ.ـتت انتباهها، تسـ.ـللت رائحة المسك في الأرجاء كهمسةٍ د’افئة، تتراقص في الهواء حتى عانقتها برفقٍ، كأنها خُلقت لتصل إليها وحدها، وبلحظة شَعَرت بذراعين دا’فئين يحاوطان خصرها، وقبّلة د’افئة تركت إثرها فوق صفحة وجهها، في لُجَّة السكون خفتت الأصوات ونُثِرَ الد’فء في كُلّ مكانٍ، والشاهد على تلك اللحظة كان القمر الفضي الذي توسط السماء الكحلية..
لحظات ورفعت رأسها كي تُتيح إليها رؤيته بشكلٍ أوضح، اصطد’مت الأعين وتناغمت دقات القلوب تعزف أجمل الألحان، ذ’ابت نظراته في عينيها كأن الزمن توقف عند هذا المشهد، وأمام حضرة تلك اللحظة لم يجـ.ـرؤ شيئًا على فصـ.ـلها، لحظات أخرى وتسـ.ـلل صوته إلى قلبها كنسمة دا’فئة تكسـ.ـر حِدَّ’ة الصـ.ـقيع في فصل الشتاء:
_فيوم عقد القرآن ومع أول حضن قولتلك إنك هتكوني كُلّ الخير اللي هيجيلي بعدين، وقتها أنتِ استغربتي ومفهمتيش قصدي، بس وقتها أنا تفائلت بيكي وحسيت إنك مكافأة ربنا ليّا، النهاردة أنا بأكدلك على كلامي دا للمرة السابعة، كُلّ ما عينك تيجي فعيني بحس إنِ بقـ.ـع فحُبّك للمرة الأولى، أنا شوفت منام حلو أوي، هو غريب حبتين آه وأ’ثّر فيّا بس حلو أوي وبسطني، أعمليلي كوباية قهوة مِن إيديكي الحلوين دول معاكي وتعالي نقعد فالبلكونة وهحكيلك اللي شوفته.
بسمةٌ حنونة أرتسمت فوق شفتيها، ولمعة الحُبّ عادت تفر’ض نفسها وتُعلن إليه عن شغف صاحبتها بهِ، بأبسط كلماته يأ’ثر قلبها، وبنظرة حبيب تُذ’يب رو’حها، وبعد أنتهاء يوم وبداية يومٍ آخر تتأكد أنَّهُ العوض الذي كان ينتظر اللحظة المناسبة كي يأخذ مكانه، بدأت تُعِد القهوة بكُلّ حُبّ إليه وابتسامة خفيفة تُرسم فوق شفتيها، وهو ألتزم مكانه؛ عيناه تتابعها بشغفٍ دون أن يتحدث، وقفت أمام مشـ.ـعل الغا’ز وبدأت بتقليب القهوة بهدوءٍ، وبلحظة أخذتها الذكريات وعادت بها ليوم زفافها..
مازالت تتذكّر كيف كان حالها بعد أن أصبحت زوجته بشكلٍ رسمي، كانت يومها أميرة مِن عالم الأميرات، فستانها الأبيـ.ـض، يُزينه خيوطٍ فضية تلمع تحت الأضواء المعاكسة، كان بسيطًا للغاية، وزينة وجهها كانت تكاد لا تُرى لبساطتها، ولمسة حجابها الأبيـ.ـض أعطت لها رونقًا مختلفًا عن غيرها، كانت تراه بعين الحبيب، حين أقترب مِنها لأول مرَّة دون أن يكون هناك عا’ئقًا بينهما يمـ.ـنع ذلك، بحُلته السو’دا’ء وقميصه الأبيـ.ـض ور’بطة عنقه التي كانت بلو’ن الحُلة، ولكن هيئته كانت كفيلة بأن تأ’ثر قلبها لسنواتٍ طويلة..
تتذكّر كيف تم الإمساك بهِ بالجُر’م المشهود حين أن كاد يُلثم وجنتها، وكيف أصا’به التو’تر وجعله ينسىٰ أنها أصبحت زوجته، وفي لحظة صفاء بينها وبين نفسها ضحكت بخفةٍ، نظر إليها بعد أن جذبه صوت ضحكتها ليرفع حاجبه تزامنًا مع قوله:
_مالك بتضحكي ليه؟ ضحكيني معاكي طيب.
رفعت عيناها لتقابل عيناه المترقبة، وبوجهٍ مبتسم قالت بنبرةٍ ضاحكة ممزوجة ببعض الخجـ.ـل:
_أفتكرت يوم كتب الكتاب، لمَ جيت تبو’س خدي واخويا “بهـاء” قـ.ـفشك بالجُر’م المشهود، وقتها لو’نك اتخـ.ـطف ومعرفتش ترد، كُلّ ما أفتكر منظرك بقعد أضحك ومبقدرش أمسك نفسي.
وحين شَعَر أن هيبته سوف تُد’هس أرضًا شـ.ـد نفسه ووقف بشموخٍ لا يليقُ بهِ في تلك اللحظة، شـ.ـبك كفيه ببعضهما خلف ظهره ورفع رأسه بكبرياءٍ وقال:
_على فكرة أنا كُنت عادي، مجرد بو’سة عالخد أخوكي هو اللي طلعلي فجأة وكأنه بيخـ.ـطط يقفـ.ـش حرا’مي غسيل، أينعم خـ.ـضني وكنت هقـ.ـطع الخَلَف بسببه بس أنا مكُنتش بعمل حاجة غـ.ـلط يعني دا كان الشيخ لسّه بيلم فالورق.
عادت تضحك مِن جديد بعد أن تذكّرت كيف كان يُحاول التماسك بحبا’لٍ ذا’ئبة حتى لا يضع نفسُه في ذلك الموقف المخجـ.ـل أمام شقيقها، بينما كان هو ينظر لها نظرةٍ ذات معنى، يعلم على ماذا تضحك ولكن لم يُحبذ أن يُقا’طعها ولذلك تركها تضحك كيفما تشاء، وهو ترك عيناه تتأملها وكأنه يرى الجنة فوق الأرض، لحظات واقتربت مِنْهُ، سـ.ـكبت إليه كوب قهوته وعادت تُعِد أخرى لنفسها دون أن تتحدث، فقط الابتسامة اللطيفة كانت تُزين شفتيها..
بعد مرور دقائق قلائل..
كانا يجلسان في الشرفة، بجانب بعضهما، فوق مقعدين مِن الخشب البُـ.ـني، رائحة القهوة منتشـ.ـرة في الأجواء، وصوت موسيقى هادئة مِن الزمن الأصلي الجميل للمطربة الشهيرة “كوكب الشرق” يصدح مِن مذياع أحد الجيران المرافقين لهم، بسمةٌ هادئة أرتسمت فوق شفتيها، ولمعة توهجت في عينها تحت ضوء القمر الفضي، نظر إليها “رمـزي” بعد أن شَعَر بهدوءها الذي لم يعتد عليه، يراها في حالة صفاءٍ لم يرها مِن قبل وكأنها ليلة مميزة لها..
_الغزالة مش بس رايقة النهاردة.
كسـ.ـر هذا الصمت القائم بينهما بنبرته الهادئة، وكأن هذا كان يترتب على أحدٍ مِنهما، ولذلك بادر هو تلك المرة وكسـ.ـر حِدَّ’ة هذا الصمت بسؤاله الخـ.ـفي، أرتفع صد’رها بعلوٍ واضح ثمّ هبط ببطءٍ في تنهيدة عميقة، ثمّ تلاقت الأعين وتم الوصال بين حبيبين، ابتسمت لهُ وجاوبته بنبرةٍ هادئة مُنعمة:
_بصراحة آه، مش بس حالة روقان، راحة، راحة نفسية عُمري ما حسيت بيها قبل كدا، كأن في حاجة مُميّزة بتميز اليوم دا بس أنا مش عارفة إيه هي، بس عشان أكون صادقة معاك، القعدة دي زادت مِن سعادتي، كأننا أول مرَّة نقعدها بجد.
أبتسم “رمـزي” ونظر إليها نظرة عاشقٍ ولهان لم يَعُد يحتمل السير على منوالٍ موّحد وأصبح يُطالب بالتنوع، أخرج زفرة عميقة وبدأ إبهامه يسير بحركةٍ متناغمة فوق الكوب، نظر في نقطة محددة وقال بنبرةٍ هادئة:
_أنا كمان حاسس زيك بالظبط، ولأول مرَّة يحصل معايا موقف غريب زي اللي حصلي مِن شوية كدا، شوفت منام غريب، بس حاسس إنُه حلو، مكان واسع، ريحته كُلّها مسك، كُله خضا’ر، وعصافير رايحة جايّة تصوصو كأنها بترحب بيا، وممشى طويل قدامي يا “تسنيم” مفروش على جوانبه ورد چوري أحمـ.ـر وأبيـ.ـض، كأن الجنة قدام عيني، فجأة ظهر فوشي قط أبيـ.ـض، كُنت متفاجئ شوية بس جوايا حاجة قالتلي أمشي وراه، وفعلًا أنا مشيت وراه، لحد ما وصلت ولقيت نفسي قدام مسجد كبير أوي..
إلى هُنا وانجذب انتباه “تسنيم” أكثر إليه، مِمَّ جعلها تعتدل في جلستها وتصـ.ـب كامل تركيزها فوقه تنتظر سماع المزيد بشغفٍ وفضول، وقد جاء المنتظر حينما قال:
_مسجد واخد مساحة كبيرة أوي مِن الأرض، فيه ساحة واسعة مِن الرخام، هو أصل المسجد رخام مش طو’ب، رخام ر’مادي لا’مع، كان بيلمع بطريقة غريبة تحت النور، ونوره كان دهبي، فوق الباب بتاعه لو’ح عريض مِن الدهب ومكتوب بخط عربي مسجد النور، أنا كُنت منبهر أوي بالمسجد، أول مرَّة أشوف مسجد بالجمال دا كُلّه صدقيني، فجأة جه صوت مِن ورايا بيقولي عجبك المكان مش كدا، أول ما لفيت لقيت واحد نسخة مِني يا “تسنيم”، لابس جلابية سو’دة وفوقيها عباية كحلي مطرزة بخيوط دهبي ولابس طقية بيـ.ـضا شبه بتوع الأزهر كدا وماسك سبحة بُنـ.ـي بيحرك حباتها، الفرق الوحيد اللي بينا إن عيونه كانت حا’دة شوية عني..
بسمةٌ ارتسمت فوق شفتيها بتلقائية، وعقـ.ـلها يُصوِّر لها الحُلم وكأنها تعيش بهِ في تلك اللحظة، وبرغم ذلك لم تتحدث؛ بل أنتظرت سماع المزيد مِنْهُ، بينما أكمل هو حديثه وقال:
_حصل بينا حوار، سألته عن هويته قالي أنا ضميرك الحـ.ـي يا “رمـزي”، اللي بيأ’نبك كُلّ شوية على أقل حاجة، أنا اللي وصلتك للمرحلة دي، وشرحلي عن المسجد، كإنه رسالة مخـ.ـفية مش سهل أعرفها ولا إنِ أفسرها بس كان المعنى إن المسجد دا هو طريقي لربنا فالدنيا، والنور هو طريق الخير اللي أخترته لنفسي، بعدين حط إيده فوق قلـ.ـبي وقالي دا اللي هيوصلك، أتكلم معايا كتير بس أنا فالآخر سألته وقولتله أنتَ مين، خو’فت مِنْهُ شوية..
_ورد عليك قالك إيه.؟
سألته “تسنيم” بنبرةٍ هادئة وهي تنظر إليه وابتسامة جميلة تزين شفتيها، لتأتيها الإجابة مِن “رمـزي” الذي نظر في عينها وقال:
_قالي أنا أنتَ يا “رمـزي”، بس أول ما صحيت حسيت إني لسّه عايش فالحلم، وفي جُملة عمالة تتردد فوداني مِن ساعة ما صحيت مش عايزة تروح مِن بالي.
_إيه هيَّ.؟
سألته بنبرةٍ هادئة ونا’عمة، وبسمتُها مازالت تُزين ثَغرها؛ نبـ.ـضات قلبها تسارعت في لحظة، وكأن شيئًا ما تحرّك بداخلها لا تعلمه، نظر “رمـزي” في عيناها وقال بنبرةٍ هادئة:
_فقلتُ مَن أنت قال أنت.
وكأن حدسها كان صحيحًا؛ ليست جُملة عادية وليست سِوى رسالة مُبهمة لهُ، رفعت الكوب إلى شفتيها وأرتشفت مِنْهُ رشفة صغيرة، تنهيدة هادئة أخرجتها؛ ونظرة مُبهمة كانت مِن نصيبه، تحدثت بنبرةٍ هادئة وقالت:
_الشخصية اللي شوفتها فالحلم هي نفسها الشخصية اللي عايشة جوّاك يا “رمـزي” ويُعتبر بترشدك أو بتمشيك، دا ضميرك الحـ.ـي اللي لحد اللحظة دي بير’فض أي طريق مش طريقه وأي سكة مش سكتُه، حلمك جميل أوي يا “رمـزي”..
لا’نت نظرتها وظهر التأ’ثر في نبرة صوتها حينما أكملت قولها:
_نفسي أوصل للمرحلة دي زيك.
مدَّ كفه الأيمن واحتضن كفها بين راحتيه، ثمّ نظر في عيناها وقال بنبرةٍ هادئة تملؤها الطمأنينة:
_متقلقـ.ـيش، طول ما أنا جنبك وعد هتوصلي للمرحلة دي، مش هسيب إيدك ولا هخليكي تفوتي لحظة بدون ما تكوني قريبة مِن ربنا فيها، وأهو إحنا سوى فنفس الطريق … أنا جنبك طول الوقت.
أسلوبه وكأنه بلسمًا على الجر’ح، ونبرته وكأنها تحتويها مِن قسو’ة العالم مِن حولهم، حاوطها بذراعه الأيمن إلى أحضانه ومسّد برفقٍ فوق ذراعها وكأنه يُطمئن قلبها قبل أيُ شيءٍ، بينما وضعت هي رأسها فوق كتفه ونظرت إلى القمر الذي توسّط السماء وكأنه يشهد على هذا الحُبّ النقـ.ـي وتلك اللحظة الهادئة التي تغسل قلوبهم مِن أيُ فو’ضى خلّفتها الحياة.
___________________________
<“عودة الزمان مِن جديد، عودة الأمان.”>
الأمان ليس فقط في الكلمات البسيطة،
بل في أفعال المرء مع مَن يُحبّ.
بحلول المساء على الحارة وبالتزامن مع إنتشار الأضواء في الأروقة، كانت هُناك شقة تشهد على حُبّ الزمن الأصيل، حُبّ ثنائي لا ينتمي لهذا الجيل الجديد، بل هو ثنائي نادر الذِكر، قليل الكلام؛ وبين روائح الطعام الشهية التي تتراقص في الأجواء، وصوت المذياع القديم يُرسل كلمات أغنية قديمة لمطربٍ شهيرٍ، كان الد’فء يملئ المكان وكأنه يرى شيئًا لا يُمكن رؤيته بالعين المجردة..
كانت “زينة” تقف في المطبخ تُعد الطعام اللذيذ لزوجها الذي ألتهى بعمله منذ صبيحة اليوم وحتى حلول المساء، فبالأمس قد عادوا مِن رحلة طويلة وثقّت لهن لحظاتهما المفضّلة التي لا تُنسىٰ بسهولة، لحظات وصدح رنين الجرس في الخارج يُعلنها عن وصول زائرٍ لها، تركت ما بيَدها وخرجت كي ترى مَن الزائر، فتحت الباب بتمهلٍ وهي تطرأ برأسها مِن خلف الباب لترى حفيدتها في مقابلتها مُحملة بين يَدي أبيها الذي أبعدها قليلًا ودندن بنبرةٍ هادئة مبتسم الوجه:
_حبيبي كان هنا مالي الدُنيا عليّا بالحُبّ،
حبيبي يا أنا يا أغلى مِن عينيا نسيت مين أنا.
ضحكت “زينة” وألتمعت عيناها بالعَبرات بعد أن تأ’ثرت بتلك اللحظة الفريدة مِن نوعها، اقتربت مِنْهُ بخطى هادئة تفصـ.ـل المسافة القائمة بينهما بعناقها الد’افئ إليه الذي مِن خلاله يُعلن لنفسُه أنَّهُ أفتقـ.ـده وبشـ.ـدة، ربّت فوق ظهرها برفقٍ تزامنًا مع قوله الهادئ:
_وحشتيني أوي يا حبيبة قلبي، “فيـرو” خطـ.ـفك مِني بالقو’ة وسابني بعا’ني عشان يتبسط هو على حسابي.
أبتعدت “زينة” قليلًا ونظرت في عيناه السو’د’اء التي كانت تلمع بوميضٍ يشـ.ـع مِن خلاله الأمل وجاوبته بنبرةٍ هادئة:
_وحشتني أكتر يا حبيبي، مقدرش على زعلك يا نو’ر عيني، حتى أنا ساعات كُنت بحسّ بعد’م الراحة عشان عارفة إنك مش مرتاح ولا متعود على بُعدي، وعشان كدا برضوا أنا جيت، قولتله كفاية لأن “مُنصف” أكيد مش مرتاح ومحتاج يقعد معايا زي ما كان بيعمل زمان.
أبتسم “مُنصف” بسمةٌ هادئة وترقرق الدمع في عيناه متأ’ثرًا بحديثها ونبرة صوتها التي كانت تحمل د’فئًا لا مثيل لهُ، رفع كفها الدا’فئ نحو شفتيه يُلثمه بحنوٍ تزامنًا مع قوله:
_وحشتيني أوي يا “زينة” أقسم بالله.
ربّتت “زينة” فوق خَدِّه برفقٍ ثمّ نظرت إلى “وتين” التي كانت منهمكة في اللعب بخصلا’ت شعـ.ـر “مُنصف” وبسمةٌ حنونة أرتسمت فوق شفتيها، قرّبها “مُنصف” مِنها بدعوةٍ صامتة لحملها على صد’رها والشعور بها، ولذلك هي لم تنتظر كثيرًا وأخذتها بالفعل فوق ذراعيها تربّت فوق ظهرها بحنوٍ، كسـ.ـر هذا الصمت صوت أقدام فوق الد’رج البلاطي، وظهرت بعد ثوانٍ “شيرين” في الصورة مبتسمة الوجه مُرحبةً بها..
_الغالية حبيبة قلبي.
نطقت بها “زينة” وهي تضمها إلى د’فء أحضانها لتبادلها “شيرين” الفعل قائلة بنبرةٍ حنونة:
_ليكي شوقة واللهِ يا “زوز” مكُناش متعودين عالغياب دا مِنك على فكرة.
ابتسمت “زينة” ودعتهما للولوج تزامنًا مع قولها الهادئ:
_واللهِ يا “شيرين” ولا أنا، كُنت مفتقداكم أوي واللهِ مصدقت رجعت الحارة تاني.
جلسوا جميعًا في غرفة المعيشة ليأتي صوت “مُنصف” الذي د’اعبت الروائح أنفه بقوله:
_إيه الروايح الحلوة دي يا “زوز”، وحشني أكلك واللهِ تصدقي.
تركت “زينة” الصغيرة في أحضان ولدها وردت عليه بوجهٍ مبتسم بقولها:
_حظك حلو عاملة الأكل اللي بتحبه، يا دوبك “فريد” شوية وتلاقيه طلع أول ما يطلع هنقعد نتعشى كُلّنا سوى.
ضم “مُنصف” صغيرته بذراعيه إلى صدره وجاوبها بنبرةٍ لا تُنذ’ر بالخير وعيناه ترافقها قائلًا:
_حبيبي شوف قلة الأد’ب والقيمة اللي هيستقبلني بيها جوز أمّي، إيش حال لو مش أنا اللي مجوزهولك بقى.
ضحكت “زينة” مِن داخل المطبخ وجاوبته بنبرةٍ هادئة بقولها:
_”فريد” بيحبك يا “مُنصف” بس أنتَ وشوية العصا’بة اللي معاك دول عاملين تحا’لُف ضـ.ـده، على فكرة قعد اشتـ.ـكالي منكم لولا أنا طايبت بخاطره بكلمتين حلوين ومشيت الدُنيا، أتـ.ـلموا وخفوا عالرا’جل شوية، أنا بصراحة مش عارفة إيه اللي جا’بره يستحملكم.
صُدِمَ “مُنصف” مِن دعمها إليه ووقوفها ضـ.ـده ليُقرر الد’فاع عن نفسُه وتو’عده بنفس الوقت إلى الآخر بقوله:
_يا عيني، دا بحبح ورحرح وبرطح وقال واشـ.ـتكى كمان، ما كان أختصر الطريق وجه اتصا’فى معايا وش لوش، بس ملحوقة يا عيني، يطلعلي وأنا هخلي ليلته ألو’ان الطيف، ماشي يا “هيـرو” حسابك معايا تقيـ.ـل أوي.
رفعت الصغيرة رأسها عاليًا لترى وجه والدها الذي كان يتو’عد إلى زوج والدته وكأنه أقسم على عد’م رحمته مهما كان الأمر، اخفض بصره لها ثمّ منحها قبّلة عميقة بعض الشيء فوق خَدِّها الصغير الممـ.ـتلئ بعد أن فشـ.ـل في مقاو’مة تلك النظرة البر’يئة مِنها، رفعها بين ذراعيه ونظر لها وبدأ يُحادثها قائلًا:
_يرضيكي كدا يا “وتين”؟ شوفتي العجوز دا مبيحبش بابا حبيبك أزاي وعلى طول بييجي عليّا؟ يرضيكي بابا يزعل.
نظرت إليه “وتين” قليلًا وكأنها تُحاول أن تفهم ما يقوله والدها الذي يبدو عليه الحزن كما رأت وشَعَرت بهِ، لانت معالم وجهها النا’عمة ومنحته أبتسامة بر’يئة وناعمة وكأنها تُربّت فوق قلبه بها، وأمام حركاتها البسيطة لم يستطع تجا’هلها، قرّبها مِنْهُ ومنحها قبّلة أخرى شغوفة فوق خَدِّها الصغير وقال بنبرةٍ دا’فئة:
_حبيبة بابا ودُنيته كُلّها، واللهِ ما في حاجة بتهوِّن عليّا غير ضحكتك السُكّر دي.
عاد يغدقها بقبّلاته اللامتناهية وما كان عليها سِوى أن تضحك بنبرةٍ عالية تملؤها الطفولة والبراءة والنعومة، وكأنها رسالة غير مرئية للجميع، ولكن كانت إليه واضحة ومعلومة فلا أحد يشعُر بهِ بد’قةٍ إلّا تلك الأميرة الصغيرة صاحبة الخمس أشهرٍ، وما كان على “شيرين” سِوى متابعة هذا المشهد اللطيف الذي لم يفشـ.ـل يومًا أن يأ’ثر قلبها.
_________________________
<“محاولة في زرع المحبة حتى لو بين أشو’اكٍ حا’دة.”>
لا بأس مِن المحاولة في زرع نبتة تنبـ.ـض بالحياة،
حتى وإن كانت بين كومة مِن الأشو’اك الحا’دة.
في غرفة يسودها الهدوء الممـ.ـيت..
كان “محمـود” يجلس على طر’ف الفراش منذ ما يُقارب الساعتين ونصف وحيدًا، بعد أن فشـ.ـل “عامـر” و “عمـاد” في الجلوس معهُ والتحدث إليه، كان شارد الذهن، وقلبه ينزُ’ف دون توقف، وكأن الأ’لم عاهده على البقاء مدى الحياة، كان يتذكّر الماضي بجميع آلا’مه، وكأنه لا يحمل لهُ في مكنونه شيئًا إلّا إياه، خصلا’ته السو’د’اء الد’اكنة مبعثـ.ـرة، وعيناه تا’ئهة في بحـ.ـرٍ عمـ.ـيقٍ وممتدٍ إلى أمدٍ لا آخر لهُ، وعقله أخذه بجولة إلى الماضي جعلته يتغـ.ـيّب عن الحاضر..
صدحت دقات خافتة فوق الباب وكأن الطارق يحترم حضرة تلك الجلسة ويعلم تأ’ثيرها عليه ولذلك يخشى أن يُفسـ.ـدها بفعلٍ متهو’رٍ مِنْهُ، عادت الطرقات تر’تفع قليلًا هذه المرة تنتشـ.ـله مِن بئـ.ـرٍ عميـ.ـقٍ لا آخر لهُ، أخرج زفرة عميقة وقبل أن يرفع صوته ويُعـ.ـنف الطارق جاءه صوت أنثو’ي رقيق مِن خلف الباب يقول:
_”محمـود” ممكن أقعد معاك شوية لو سمحت؟ ولو مش حابب قول عادي أنا مش هزعل بالعكس هحترم ر’غبتك جدًا وهمشي.
كان المتحدث “هنـاء”، بعد أن شَعَرت بمعا’ناته قررت التدخل والمحاولة لإصلا’ح ما قامت غيرها بإفسا’ده حتى لو وقفت العو’ائق في طريقها ندً’ا، ر’فع صوته مختـ.ـنقًا بقوله:
_لا مش عايز وسيبوني لوحدي محدش لُه دعوة بيا.
جاءه الرد حاضرًا مِنها حينما قالت بنبرةٍ هادئة:
_حاضر، المهم إنك كويس، أنا قولت بس أتطمن عليك قبل ما أمشي، خلّي بالك مِن نفسك.
ضغـ.ـطت على كفيها وهي تشعُر بصر’اعٍ طا’حنٍ بداخلها لأجل هذا المسكين الذي يبدو أنَّهُ تلـ.ـقى صدمة قو’ية جعلته عد’وانيًا أمام الجميع، أخرجت زفرة عميقة وبدأت تبتعد عن الباب بخطى هادئة تجاه الدرج وهي في حيرةٍ مِن أمرها فقلبها يُخبرها أن تظل قليلًا على أملٍ أن يحدث شيئًا آخر يُخا’لف توقعاتها..
بينما كان “محمـود” مازال كما هو، في صرا’عٍ أيضًا مع نفسُه، لا يعلم ماذا عليه أن يفعل، فصوتٌ بداخله يصر’خ ويُطالب بها، والآخر ير’فض حدوث ذلك والابتعاد عن الجميع، وبينهما كان هو ضا’ئعًا، لا يعلم ماذا يريد، ولكن احتياجه لرفيقٍ لهُ كانت أقوى مِن أيُ شيءٍ آخر ولذلك انتـ.ـصب واقفًا بحركةٍ عـ.ـنيفة بعض الشيء وكأنه مازال يُعا’ند ويُصار’ع نفسُه، اقترب بخطى و’اسعة مِن الباب يفتحه بحركةٍ عنـ.ـيفه..
وقف على عتبة الغرفة ونظر في إثرها، كانت في منتصف الطريق، ظهرها موليًا لهُ، وكأنها تشعُر بهِ وتعلم أنَّهُ سوف يتحدث إليها في أيا لحظة، حا’رب نفسُه هذه المرة ور’فض الخضو’ع والاستسلا’م، ولذلك رفع صوته فجأةً وقال:
_استني ..!!
توقفت “هنـاء” بالفعل لحظات لا تُصدق أنَّهُ قرر أخيرًا التحدث والخروج مِن تلك الدائرة العمـ.ـيقة، ألتفتت إليه برفقٍ لتصطد’م عينها بعينه وكأنه تُرسل أحاديثًا صامتة لا يجر’ؤ الفم على النطق بها، لحظات مِن الصمت والصرا’ع الداخلي كسـ.ـره صوته المضطـ.ـرب حينما قال:
_محتاج أتكلم معاكي لو مش هضا’يقك.
بسمةٌ هادئة أرتسمت فوق شفتيها بعد أن تلقت الرد الذي تمنته ولم تنتظر كثيرًا، عادت إليه مِن جديد ووقفت أمامه تنظر في عيناه والبسمةُ مازالت ترافقها قائلة:
_أنا موجودة يا “محمـود”، ومستعدة أسمعك مهما طالت الجلسة بينا، أنا عارفة إنك محتاج تتكلم وتفضفض ومش عارف تعمل كدا مع مين، أنا هنا عشانك.
لأول مرَّة يشعُر أن ثمة أحدهم مازال يهتم لأجله ويُريد سماعه، لأول مرَّة يشعُر وكأنه محور الاهتمام لأحدهم، فوالدته لم تفعل ذلك معهُ مِن قبل ولم تكُن تهتم لأمره كثيرًا، شعورٌ جديد بدأ يتكوّن بداخله تجاهها، وكأنها البداية لعلا’قةٍ صا’فية بين الإبن وزوجة الأب، تلك العلا’قة التي لطالما تم تشو’يهها بأفعا’لٍ غير إنسا’نية وكأن ابن الزوج حيو’انٍ لا يستحـ.ـق الحياة..
جلسا سويًا في الشرفة الخاصة بغرفته، الصمت هو المسيطـ.ـر على الطر’فين، والصرا’ع الداخلي نشـ.ـب بداخله مِن جديد وجعله يشعُر بالتشـ.ـتت، نظرت إليه “هنـاء” وابتسمت بسمةٌ هادئة وقد بادرت هي وكسـ.ـرت حِدَّ’ة هذا الصمت بقولها الهادئ:
_أتكلم يا “محمـود” وقول كُلّ اللي حاسس بيه فاللحظة دي، الكلام حلو والفضفضة بتريّح البني آدم وبتشيـ.ـل عنُه شوية هـ.ـمّ، حتى لو كلامك ملـ.ـغبط ومش راكب على بعضه أتكلم عادي وأنا الطرف المستمع مش هقا’طعك لحد ما تخلّص خالص.
أخرج زفرة عميقة بعد أن وجد شخصًا آخر يهتم لسماعه، فتلك كانت أكبر عوا’ئقه؛ ولكن يبدو أن “هنـاء” قد جاءت غوثٍ لهُ مِن السماء حتى لا يظل داخل تلك الدائرة كثيرًا، أخذ نفسًا عميقًا وزفره بتروٍ ثمّ بدأ حديثه الطويل في محاولةٍ مِنْهُ لإخراج ثقـ.ـلٍ فوق صدره يأبى تركه:
_أنا مخنو’ق ومش قادر أكمل، إتأ’ذيت مِنها أكتر مِن أي حد، المفروض إنها أطيب حد وأحن حد عليّا، دا’ست عليّا وكسـ.ـرتني مِن صغري، أنا مكُنتش كدا على فكرة، أنا كُنت صعـ.ـب فكُلّ حاجة، كُنت عـ.ـنيد اللي فد’ماغي بيتنفـ.ـذ وليّا رأيي وقراراتي وحياتي، بس هي معجبهاش الوضع، فكسـ.ـرتني بدري أوي، قالت كلام أنا مش هقدر أقوله بس كفيل إنه يقتـ.ـل را’جل بجد، بعدين لمَ نجحت جوزتني واحدة أنا معرفهاش ولا ليّا مشاعر ناحيتها، برضوا كسـ.ـرتني بالكلام والأفعال، كانت شيفاني نُص را’جل؛ وقتها أنا الدُنيا سكتت مِن حواليا، وبقيت زي الطو’ر الها’يج قدامها بكسـ.ـر أي حاجة تقابلني، بس الحاجة الوحيدة اللي معرفتش أعملها إنِ أجيبها مِن شعـ.ـرها، أتربيت على إنِ ممد’ش إيدي على واحدة، كانت بتعاملني على إنِ مش أبنها، أو مجبو’رة تتعامل معايا وكانت عاملة مشا’كل كتير أوي مع البيت هنا، حتى بابا؛ على طول خنا’ق معاه وز’عيق، كانت قعدة بس عشان خاطر الفلوس واللي هتطلع بيه مِن ورا أبويا..
بتـ.ـر حديثه فجأةً؛ وأخرج زفرة عميقة وكأنه يأخذ استراحته بعد رحلة طويلة مِن البحث عن بـ.ـر الأمان، دام الصمت بينهما قليلًا ثمّ أكمل حديثه بقوله:
_بابا طيب أوي، بشوفه إنُه ميستاهلش المُعاملة دي مهما كان السبب، بيصـ.ـعب عليّا وبشـ.ـيل مِن ناحيتها أكتر لمَ أشوفه عاز’ل نفسُه وقاعد مضا’يق، هو عُمره ما اتبسط معاها آه هي كانت كويسة فالأول بس فجأة بدأت تكون واحدة تانية، أنا حسا’س أوي تجاه بابا يعني لو حد بيعامله حلو وشا’يله فوق رأسه أحبه العُمر كُلّه، غير كدا مبقدرش أعمل عكس كدا بصراحة، أنا فأخر مرَّة كانت فيها هنا، كانت راجعة تنكـ.ـد على بابا وتقلـ.ـب علينا مو’اجع بنحا’رب عشان نتخـ.ـطاها، أنا معرفش عملت كدا أزاي، بس أنا جبت أخري معاها فخدتها مِن إيديها لحد الباب بعـ.ـنف وخرّجتها برّه، وبنفس اللحظة صر’خت فيهم وقولتلهم أنا أمّي ما’تت، أنا يتيـ.ـم الأم مِن اللحظة دي، أنا مش عارف ليه حياتي مكـ.ـركبة كدا ومش عارف أعمل إيه حاسس إنِ تا’يه ومخنو’ق، حتى مش عارف أفرح لأخويا اللي خطوبته بُكرة.
_خلّصت.؟
سألته بنبرةٍ هادئة وبسمةٌ صا’فية ترتسم فوق شفتيها، نظر إليها قليلًا ثمّ هزّ رأسه برفقٍ يؤكد على حديثها، أعتدلت في جلستها وقالت بنبرةٍ هادئة:
_كُلّ دا قسمة ونصيب، دا نصيبك فيها؛ أولًا هي مش سوية نفسيًا فعشان كدا صعـ.ـب إنها تتأقلم مع أهل البيت هي معرفتش تكسب محبة اللي حواليها لإن هي مش صا’فية مِن جوّاها لأي حد، هي كان غرضها الفلوس وبس ميفرقش معاها حد، هي كانت عايزة تحس إنها عندها سُـ.ـلطة فأول حد كسـ.ـرت غر’وره هو أنتَ، لأن هي مش هتقدر تعمل كدا مع باباك مهما حصل، بُص اللي عدى عدى خلاص لازم تبدأ مِن أول وجديد وتشوف حياتك، أنتَ را’جل يا حبيبي وسِيد الرجا’لة واللي يقول غير كدا أديه فوق د’ماغه، الرجو’لة بالأفعال مش شوية كلام كدا وخلاص، فإيدك تختار البـ.ـنت اللي قلبك يحبها وتبدأ حياتك الزوجية صح وتاخد اللي تصونك مش دايمًا أول العلا’قات بتنجح، أنسى الماضي وخُد قرار حاسـ.ـم مع نفسك ورجّع “محمـود” القديم تاني عشان نفسك قبل أي حد، هي مبسوطة عشان قدرت تكسـ.ـرك، خليك أنتَ أحسن مِنها وبينلها إنك مبتكسـ.ـرش بسهولة، أقف على رجلك يا “محمـود” تاني، وأنا وأبوك وأخوك فضهرك، لو مش هضا’يقك يعني.
لا يعلم مِمَّ تكون هي، ففي هذا الزمان لا يوجد مرءٌ بذلك الفِكر والنضج بتلك الطريقة، وكأنه بدأ يُدرك لِمَ أختارها والده خصيصًا لأن تكون زوجة لهُ، أخرج زفرة عميقة وأبتسم بهدوءٍ لأول مرَّة، نظر إليها وقال بنبرةٍ هادئة:
_أنا دلوقتي عرفت ليه بابا أختارك مخصوص عشان تكوني زوجة لِيه، بصراحة حقه، أنا أينعم أول مرَّة أقعد معاكي بشكل ودي كدا بس لأجل الأما’نة أنا أرتحتلك بطريقة غير طبيعية، شوفت فيكي نُضج غير طبيعي، وشوفت أمّ سوية وعاقلة وحنينة زيك، كلامك صح على فكرة، أنا كُنت محتاج حد يشجعني وياخد بإيدي يرجعني لأول الطريق تاني، وأنتِ عملتي كدا وبزيادة … طنط “هنـاء”، أنا موافق على جوازك أنتِ وبابا، أنا واثق إنك هتسعديه وتعوضيه عن اللي شافه معاها، وهو هيعوضك عن السنين اللي فاتت دي كُلّها، وعلى فكرة أنتِ لازم تكوني موجودة بُكرة أول واحدة، قبل بابا شخصيًا.
قهقهت “هنـاء” بخفةٍ بعد أن أستمعت إلى حديثه بالكامل، نظرت إليه بحنوٍ وجاوبته بنبرةٍ هادئة قائلة:
_شاطر، كدا أنا أتبسط مِنك واطمن إن كلامي جه معاك بفايدة، ومش هكسـ.ـرلك كلمة هتلاقيني بُكرة أول واحدة فالخطوبة، المهم تعمل باللي قولت عليه وترجع تاني لـ “محمـود” القديم، أهم حاجة سعادتك وبس وراحتك.
شَعَر بالتأ’ثر أمامها لأول مرَّة، رأى فيها المرأة التي ستسعى لأجل عائلتها مهما كلفها الأمر، رأى الزوجة الحنونة والأم التي تسعى لراحة أولادها، سمعها وهي تختم حديثها بوجهٍ مبتسم:
_أنا مِن النهاردة بقى عندي ولدين زيادة، زيكم زي ولادي بالظبط عندي، وقت ما تحتاجني هتلاقيني فأي وقت تحبه، وأنا هتكلم مع “عامـر” برضوا وأي زعل بقى أر’ميه وراك وقوم روح لأخوك جهّز نفسك وشوفه محتاج إيه.
نظر إليها قليلًا دون أن يتحدث، ثمّ بادرها برده بعناقه المفاجئ لها، وكأنه رأى بها ما كان يبحث عنه طيلة حياته ولم يجده إلّا فيها، تفاجئت “هنـاء” قليلًا ولكنها ابتسمت وربّتت فوق ظهره برفقٍ دون أن تتحدث، فالأمومة ليست بالد’م؛ بل كانت بالقلو’ب، واليوم أصبح لديها عائلة كبيرة، ورجا’لًا كالخيول الحُـ.ـرة تر’مح في الأرض.

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية جعفر البلطجي 3)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *