روايات

رواية سجينة جبل العامري الفصل السابع عشر 17 بقلم ندا حسن

رواية سجينة جبل العامري الفصل السابع عشر 17 بقلم ندا حسن

رواية سجينة جبل العامري البارت السابع عشر

رواية سجينة جبل العامري الجزء السابع عشر

سجينة جبل العامري
سجينة جبل العامري

رواية سجينة جبل العامري الحلقة السابعة عشر

“لا أخفي عليك سرًا عزيزي، قد تألمت كثيرًا في قربك، آن قلبي بغضًا وقهرًا ولكن الألم أضعاف في فراقك”
اخفضت “إسراء” وجهها إلى الأرضية بخجل شديد لا تستطيع النظر إلى وجه شقيقتها بعدما قالت أنها تحبه وهو يبادلها نفس الشعور وكل هذا دون علمها ولم تعطي لها الفرصة حتى في تقديم النصحية، خجلت من نفسها عندما اعترفت لها وبقيت نادمة شاعرة بالضيق الشديد بسبب نظرات شقيقتها نحوها
ولكن الأخرى كانت في عالم آخر تفكر في شقيقتها التي عشقت ذلك المتجبر، القاسي أيضًا مثل زوجها، ذلك القـ ـاتل، المجرم الذي يعمل في أبشع الأشياء..
سألتها “زينة” باستغراب ولم تبتلع حديثها بل وقف على باب عقلها ولم تقوى على استيعابه لتتفوه قائلة:
-بتحبي مين أنتي اتجننتي!
رفعت وجهها إليها ببطء وهدوء ودمعات عينيها تغلفها برقة وتوتر لتجيبها قائلة بخوف:
-بحب عاصم وهو كمان والله
صرخت “زينة” بعنف وهي تسير في الغرفة بهمجية وجسدها ينتفض بانفعال:
-أنتي تعرفي ايه عنه أصلًا.. تعرفي ايه عن أهله ولا شغله ولا حياته
وقفت إسراء محاولة الثبات، أجابتها قائلة برفق ما تعرفه عنه:
-مالوش أهل وليه بيت على الجزيرة وشغال مع جبل
وقفت أمامها وسألتها بضراوة ناظرة إلى عينيها مباشرة بحدة:
-شغال ايه مع جبل
حركت كتفيها تتابعها وهي حقًا لا تدري هي تفوهت بكل ما تعرفه عنه لتقول بخفوت:
-معرفش
خرجت نظرات شقيقتها نحوها بحدة وجمود تسألها تُشير إلى نفسها قائلة بقسوة:
-تحبي أقولك أنا شغال ايه
أكملت موضحة بعنف وقسوة شديدة ألقتها عليها مع خروج تلك الكلمات من فمها:
-شغال تاجر سـ ـلاح
اعتدلت في وقتها تنظر إليها باستغراب تسألها:
-ايه اللي بتقوليه ده يا زينة
أشارت إليها بيدها بمنتهى البساطة والسهولة قائلة بجدية تامة:
-اللي سمعتيه.. البني آدم اللي أنتي بتحبيه بيشتغل مع جبل في السـ ـلاح
لم تستوعب ما تقوله، نظرت إليها بقوة تتابع ما يصدر عنها تفكر بعقلها أيعقل أن يكون كما قالت؟ لا من المستحيل أن يكون هذا عاصم إنه أنقى من ذلك ولم يظهر عليه يومًا ومؤكد لن يخدعها بعد أن أعترف بحبه لها وبادلته ذات الشعور..
رفعت رأسها إليها وباغتتها بسؤال لم يخطر على بال “زينة” أنها ستسأله:
-ولما هو كده أنتي ليه وافقتي على جبل
راوغت في الحديث لا تستطيع أن تفصح عن كل شيء وتتحدث معها فيما حدث سابقًا وإن وجدوهم هنا تحت التهديد منذ البداية فقالت كاذبة:
-مكنتش أعرف.. مكنتش أعرف حاجه
اقتربت منها تتمسك بيدها راجية إياها بنظرات عينيها المتلهفة وملامحها التي بهتت أكثر قائلة برجاء:
-يعني ايه الكلام ده لأ مستحيل عاصم يكون كده أنتي أكيد متلغبطة أو ممكن بتقولي كده علشان خايفة عليا
أومأت إليها بثبات معقبة على حديثها بصدق:
-أنا فعلًا خايفة عليكي لكن دي الحقيقة ولو ربنا نجده من اللي هو فيه ابقي اسأليه مظنش أنه هيكدب
ابتعدت عنها غير مصدقة أنه يصدر منه ذلك.. كيف له بهذه السهولة أن يكون كما تقول شقيقتها كيف خدعها.. مؤكد لن تكون مع شخص مثله ولكن.. إنها تحبه:
-لأ لأ.. ده أكيد كلام غلط
صرخت بها “زينة” عندما وجدتها تأبى قبول الحقيقة:
-الكلام مش غلط.. الجزيرة دي مش بتاعتنا ولا لينا فيها حاجه
جلست على الفراش غير قادرة على أن تقف أمامها خارت قواها بعد كل ما حدث ليأتي في النهاية هذا الخبر المُشين عنه:
-إزاي إحنا عايشين فيها
ابتعدت زينة قائلة بحزم وهي تُشير إليها بقوة:
-أنتي هتسافري.. لازم تسافري مستحيل اخليكي تتمادي مع الحيوان ده
هبت واقفة سريعًا تتقدم منها قائلة بلهفة ورجاء تبكي بضعف لا تريد النزوح عن هنا إلا بعدما تراه وتتأكد منه:
-لأ.. لأ يا زينة مش عايزة أمشي علشان خاطري
أمسكت شقيقتها يدها بقوة تنظر إليها بصرامة وخرجت الكلمات منها حادة للغاية:
-وأنا مش هضيع مستقبلك وحياتك مع واحد زي ده وأكبر منك بكتير ويختلف عنك كتير أنتي لسه قدامك حياة.. تقدري تختاري فيها شريك مناسب..
أكملت بنبرة ضارية محاولة إقناعها بما تقول:
-تتجوزي دكتور مهندس، محاسب ظابط صيدلي.. حاجه مشرفة مهنة بجد مش مهنة بيقتل فيها الناس
بكت مرة أخرى وهي تنظر إليها تحاول أن تستعطفها لترق ناحيتها تطلب منها البقاء معها:
-علشان خاطري مش عايزة أمشي يا زينة.. علشان خاطري خليني معاكي على الأقل شوية بس
تركتها وأومأت إليها تحرك رأسها بالإيجاب قائلة بفتور:
-أنا هشوف أنا هعرف أعمل ايه..
ابتعدت عنها تاركة إياها وحدها ولكن قبل أن ترحل استدارت تنظر إليها بحب وحنان توضح ما تريده وما سيكون إلا سعادة وحياة أفضل لشقيقتها:
-أنا مش بحجر عليكي يا إسراء.. أنا خايفة عليكي وبقرر عنك علشان عارفه أنك مش هتعرفي تاخدي القرار الصح.. ممكن حبك ليه يخليكي تتنازلي عن حاجات كتير بس كده غلط.. أنتي تستاهلي أحسن منه بكتير.. عاصم قاتل زيه زي جبل
ابتسمت إليها بحنان قائلة بحب:
-أنا بحاول أشوف الصح.. إذا كان بجد كده أو لأ، لو اتأكدت إني غلط أنا بنفسي هعملك اللي عايزاه غير كده لأ
تركتها وذهبت إلى الخارج وعقلها يتخبط بها في كل مداراته ومساراته، ألم تكتفي من زوجها كي تخرج شقيقتها بقصة أخرى أسوأ مما تقابله..
جلست “إسراء” على الفراش تبكي بضعف وقلة حيلة، في البداية كانت تبكي لأجل أنه غُدر به واتهم بجريمة لم يفعلها ووقف متهم في قفص “جبل العامري” وإلى الآن لا تعلم عنه شيء ولكن إن لم تثبت براءته عند “جبل” تعلم أنه سيكون هالك لا محال.. أما الآن..
هي من غدر بها ولم يكن من أحد سواه، تقدمت تاركة ضعفها وخوفها خلف ظهرها، ألقت البراءة الخاصة بها ورقتها المعهودة عرض الحائط وخرجت تصرخ على الجميع لأجله دون خوف معرضه نفسها للخطر لتفديه بروحها وفي المقابل هو يخدعها! يغدر بها؟ لم يذكر يومًا ما مضمون عمله لأجل ذلك؟
لم يتحدث أبدًا لأجل أن تبقى معه، يخدعها، ولكنه غبي للغاية أيعتقد أنها إذا بقيت معه وأحبته حد النخاع ثم أدركت ما يقوم به وتأكدت منه ستبقى معه؟ ستكمل نفس الدرب وتسكله معه؟ هذا من رابع المستحيلات لن تفعل ذلك لن تكن أحد المشاركين في قتل البشر، أليس الساكت عن الحق شيطان أخرس؟ هل ستكون على علم بقتل الناس وتبقى صامته دون حتى أن تبلغ عنه ليأخذ جزاءه..
يا الله.. كل هذا حدث في ليلة واحدة، ليلة أحبت وشعرت بها بالشك ناحيته والخوف منه، الرهيبة من الإقتراب ثم لحظة واحدة تحولت وكانت فراشة طائرة على كل وردة زرعت في الجزيرة تغرد بحبها له واعترافه لها بالعشق المتبادل.. لم تحظى بالفرح لكثير بما حدث بل مرة أخرى تلجلج قلبها بالخوف ولكن هذه المرة كانت عليه وليس منه.. شعرت بالحزن والفزع وأدركت حينما فرت العبرات هاربة من عينيها لأجله أنها تعشقه حقًا ولا تريد غيره فضربت كل ما بها أرضًا وتقدمت مدافعه عنه في أرض المحكمة.. ولكن هل شفع كل هذا!؟
❈-❈-❈
عاد “جبل” إلى القصر ورأسه ملئ بالأفكار السوداوية، لا يستطيع التحكم بها أو الإمساك بطرف فكرة واحدة منهم ينظر إليها يتمعن بها كي يستطيع فهم ما يحدث حوله..
أول شيء فكر بفعله عندما ولج إلى القصر التوجه إلى تسجيلات الكاميرا التي ضربت رأسه بحائط صنع من الحديد وليس الحجر ليقترب رأسه على الانفجار بعدما تأكد من أن حديث شقيقته كاذب….
كيف!.. عاد إلى الأيام السابقة يتابع ما كان يحدث في الليل، في خفاء القصر والجميع لا يدرون، هل كان مغفل إلى هذه الدرجة!؟
هل كان هذا الشخص الغبي الذي يلعبون من خلف ظهره بشرفه وعرضه وهو يأمن ببساطة! من شقيقته؟ لما فعلت كل هذا لما؟ وذلك الحقير “جلال” الذي لم يفعل ذلك بأحد إلا صديق عمره!.
وهو الذي ختم فرمان إعدام الصداقة بينهما دون حتى النظر بما كُتب به؟ يا له من أحمق غريب يستحق الإعدام بدلًا منه.. لقد صدق ما قيل في لحظات ووقف أمامه يلعنه يلقي عليه تهمه حقًا كما قال لا تناسبه إنه “عاصم”!..
توجه إلى الداخل وكأن بركان يفور خلفه يتسابق في الوصول إليها قبل أن تبتلعه الحمم النارية التي تتشابه مع عينيه تندلع النيران منها بطريقة لا تبشر بالخير أبدًا على ما هو قادم وبالأخص على شقيقته تلك الخبيثة التي قتلت صداقته مع رفيق عمره ولكنه لن يسمح لها بالتمادي أكثر أنه “جبل العامري”.. من يحكم، يعدم ويعدل، من يقتل ويحيي، ألن يستطيع السيطرة عليها؟ هذا من المستحيل
فتح باب الغرفة على مصراعيه دارت عيناه في الغرفة بقسوة وشر لتقع عليها تجلس على الفراش مكومه حول نفسها رفعت وجهها إليه منتظرة موتها الحتمي على يده ترتعش بضراوة خائفة للغاية
تقدم للداخل ببطء تاركًا باب الغرفة مفتوح ينظر إليها بتمعن شديد وخرج صوته الخافت الذي أشبه الفحيح بعدما أقترب ليبقى أمام الفراش:
-قولتيلي أن عاصم اللي عمل كده.. ها
استند بقدمه اليمنى على الفراش يقترب منها ثم في لمح البصر وبعد نظرته الهادئة التي لم تكن توحي إلا بهدوء ما قبل العاصفة قبض على خصلات شعرها لتميل على الفراش وهو يجذبها صارخًا:
-عاصم يا بنت الكلب.. عــاصــم
اشتدت يده على خصلاتها وهو يقوم بلفها عليه لتسمح له الفرصة بالتحكم بها أكثر يكرر حديثه صائحًا:
-عاصم غصبك
ارتعشت بين يده أكثر، هوى قلبها جوارها بعدما رأت مظهره وأقترابه المهيب منها لتقول ببكاء حاد محاولة تخفيف الحكم عنها:
-ارحمني يا جبل والله جلال اللي قالي أعمل كده
صفعها بكف يده الغليظ وهي نائمة أمامه تحت رحمته مكبلة بيده المتمسكه بخصلاتها قائلًا متهكمًا بغضب:
-يعني أنتي معرضتيش نفسك على عاصم ورفضك يا وسخه
لم يأخذ منها ردًا يستمع فقط إلى بكائها الحاد الذي يخرج من أعماقها فصاح بعنف:
-ردي يا بـت
أومأت برأسها ترفع يدها إلى يده تتمسك بها بعدما شعرت بخصلاتها تخرج معه تشعرها بألم حاد، أجابته بخوف شديد:
-حصل.. بس أنا كنت صغيرة والله مكنتش فاهمه حاجه وهو قالي إني لسه صغيرة وأنا سمعت كلامه وسكت
رفع وجهها إليه ينظر داخل عينيها متسائلًا:
-الصغيرة دي كان عندها كام سنة
أجابته بضعف وخفوت:
-تلاته وعشرين
دفع برأسها على الفراش بضراوة وقسوة مغتاظًا منها ومما فعلت تلك الحقيرة صارخًا:
-صغيرة يا بنت الكلب.. صغيرة من أنهي إتجاه
أشتد بكائها، خرجت عبراتها بغزارة وجسدها بالكامل يرتجف كل لحظة والأخرى تنظر إليه بضعف وقلة حيلة تطالبه بالرحمة:
-والله مكنتش عارفه حاجه ارحمني أنا أختك
رفع وجهها ثانيةً إليه يصفعها بغلظة وخشونة، يوزع عليها نظراته الكارهة قائلًا باستنكار:
-أختي الوسخه اللي باعت شرفها وشرف جزيرة العامري كلها.. أنا أختي تبقى وسخه ويجيلها يوم تتحاسب زي ما بحاسب غيرها
كانت على علم أنه عادل رحيم مع الجميع فترجته بضعف وبكاء:
-اعتبرني زيهم وغلطت أنت بتبقى رحيم معاهم
جذبها من خصلاتها لتعتدل جالسة على الفراش ثم دفع برأسها إلى ظهر الفراش الخشبي يصيح دون رحمة:
-رحيم مين دا أنا هطلع قلبك من مكانه وأهرسه تحت رجلي
خرج صوتها الصارخ مُتألمًا تدري أن هذا لا شيء من القادم:
-علشان خاطري يا جبل خلاص
نظر إليها بقوة ليجعلها تعتدل أمامه ومازالت بين يديه قائلًا بصرامة:
-قولي اللي حصل من الأول.. اتكلمي
تمسكت بيدها الاثنين بيده التي تقبض على رأسها وأردفت تبكي بغزارة يخرج صوتها مُتعلثم:
-والله هقولك كل حاجه من غير كدب بس ارحمني
خرج صوته بخشونة:
-اتكلمي
حاولت استماع شتات نفسها وهي تنظر إلى والدتها التي أتت إلى الغرفة بعد استماع صياحها وخلفها “زينة” خوفًا منه أن يقتلها
أردفت بصوت ضعيف متوتر:
-أنا كنت بحب عاصم والله بحبه.. بس هو مكنش باصصلي ولما روحتله قالي إني أخت صاحبه وإني لسه صغيرة أنا زعلت أوي والله وحسيت إني قليلة
صمتت ولم تعد تكمل ما بدأته فدفعها بقوة بيده قائلًا بشراسة:
-كملي
نظرت إلى الأرضية يعلو بكائها خوفًا من تكملة ما بقيٰ ولكنها على كل حال أكملت موضحة:
-كان جلال سامعنا بعدها قالي أنه بيحبني بس مقاليش أنه سمعنا أنا فضلت معاه لحد من سنة اتجوزنا عرفي
لطمها بقوة على وجهها يفاجأها لترتمي في الخلف بعدما ترك خصلاتها فتقدم على الفراش يمسك بها مرة أخرى ليلطمها ثانية على وجنتيها الأخرى يقول بذهول مما فعلته:
-عرفي من سنة.. وأنا فين وأمك فين.. ملبساني العمه أنا جبل العامري حتة عيلة زيك تقرطسني كده
خرجت صرخاتها المكتومه بسبب يده التي كانت تلطمها كلما صرخت، تحدث لاهثا:
-كنتوا بتتقابلوا فين
وضعت يدها الاثنين على وجهها تحميه من بطشه بعد أن تجيبه:
-في بيته
تغاضى عن فعلتها وأعطى لها الأمان وهو يكمل حديثه بجدية وحدة:
-كنتي بتخرجي إزاي
اخفضت يدها من على وجهها عندما وجدته لم يفعل لها شيء وقالت بخفوت:
-كنت بمشي الحرس اللي معايا
لم يطول الأمان الذي قدمه لها حيث أنه دفع برأسها في ظهر الفراش مرة أخرى لتخرج صرخاتها مع حديثه:
-كملي
انتحبت بكثرة ولم تعد ترى من كثرة البكاء وكثرة ضرباته لها، يؤلمها رأسها بقوة مرة من صفعاته وأخرى من ضرباته لها في الفراش وأخرى من جذبه لها من خصلاتها بعنف دون رحمة.. خرج صوتها متقطع أثر البكاء الحاد:
-بس والله بعدين أنا كنت متغاظه من عاصم علشان مقرب من أخت زينة ومش باصص عليا أبدًا ومحسسني إني أقل منها فبعدين جلال قالي أعمل كده علشان هو يلبسها وتجوزهولي
نظر إليها باستغراب وتركها عائدًا للخلف يسألها بخشونة وغلظة:
-اجوزهولك إزاي وأنتي متجوزة جلال
قالت بصوت خافت لا تريد أن يصل إليه:
-ماهو طلقني وقطع الورقتين
قارب على النيل منها بعدما فارت عروقه أكثر مما كانت عليه، يشعر لو أنه رجل مجرد من ملابسه متعري أمام أهل قرية شامتون به، غضبه أعمى عيناه وأراد أن يقتلها في الحال بعد أن تخطت كل مراحل الأدب أو حتى الاحترام لشقيقها ليس لأجل نفسها..
وقفت أمامه “زينة” في لمح البصر تتمسك بذراعيه الاثنين تتحدث بنبرة مرتجفة خوفًا منه ولكن لن تستطيع أن تقف هكذا وهو يقوم بضربها بهذه الطريقة الوحشية:
-جبل كفاية علشان خاطري، دي حامل كلمها بهدوء
دفعها للخلف ناظرًا إليها بقسوة ضارية وقاتلة مجردًا أمامها من هيبته واحترامه بعد فعلة شقيقته وهو الذي كان أمامها كبير الجميع، من يخطأ يُحاسب ومن يُحاسب لا يخطأ
صرخ بوجهها بغضب جامح:
-قولتلك متدخليش.. سمعتي
أومأت برأسها وعادت للخلف خطوة فتقدم هو من شقيقته يهبط لمستوى جلوسها على الفراش سألها ناظرًا إليها بشر يخرج صوته كالفحيح:
-أنتي حامل ولا لأ يا بت
نظرت إليه بخوف شديد، الكلمة وقفت على أعتاب فمها ولكنها لا تستطيع أن تخرجها فإن قالت الحقيقة ستكون نهايتها.. ولكن على أي حال أجابته:
-لأ
انهال عليها بالضربات الموجعة ولم يشفق عليها أو يرق قلبه ناحيتها، أنها هي من فعلت كل ذلك حتى أنها اتهمت نفسها بشيء بشع، قالت أنها حامل وهي ليست كذلك، كانت هي المتسببة في مقتل صديقه على يده بدون أي ذنب ارتكبه:
-كمان يا بت الكلب، كنتي عايزة تلبسي الراجل مصيبة مش بتاعته لولا أخت زينة سمعتكم كان زماني قاتله
صرخت بعنف وهي تتلوى بين يده:
-ارحمني يا جبل
قابلها هو الآخر بصراخ حاد مقهور على ما بدر منه وما حدث بينهم لأجل تلك الحقيرة التي باعت كل شيء فقط لأجل نفسها:
-هو أنتي تعرفي يعني ايه رحمة.. أنا لسه هوريكي
بقيت والدتها تقف تنظر عليها يرتسم الجمود على ملامحها تتابع ما يفعله ولدها وإن لم يكن يفعل ذلك لكانت فعلته هي، ابنتها وضعت رأسهم في قاع الأرض يدهس عليها البشر هنا وإن خرج الخبر لن تكون سيدة الجزيرة ولن يكن ابنها كبيرهم بعد اليوم..
بينما “زينة” كانت خائفة تريد القرب منها ومساعدتها ولكنها تخاف من بطشه عليها في هذه الحالة لا تضمن هدوءه من ناحيتها أو أي أحد تابع لها، تنظر إليه بخوف شديد تشعر وكأن العالم قاسي إلى حد ما وهو قساوته بحجم العالم.
أبتعد عنها بعدما نزفت من أنفها وفمها وجسدها هامد على الفراش يخرج منها أنين خافت لم تعد تقوى على الصراخ لينظر جواره على الكومود يرى هاتفها مد يده ليأخذه بجيب بنطاله ثم أردف لوالدته بقسوة:
-متخرجش من الاوضه ومحدش يجبلها أكل غير لما أنا أقول
أبتعد بنظرة إليها مرة أخرى ليقول بشراسة:
-كان زمانك مرمية في الجبل مش هنا دلوقتي زيك زي غيرك.. بس أنا لو عملت كده والخبر أتعرف هبقى عيل وسط أهل الجزيرة.. لكن أنا كفيل بيكي
بصق بعنف على وجهها وذهب خارجًا من الغرفة بغضب وانفعال حاد، جسده يشتعل بالنيران المتأهبة داخله بكثرة، وكل شعوره لا ينم إلا عن الألم والحزن، الغضب والعصبية وما شابه.. ما حدث لم يكن هين أبدًا عليه ولن يكن..
لأول مرة يشعر أنه صغير، طوال حياته كان هو الكبير، ذلك الشخص الذي لا يخطأ ولا يعود بحديث، الكبير على الجميع صاحب الكلمة المسموعة والحكم المجاب تنفيذه دون الرجوع لأحد.. اليوم كُسر ظهره وشعر بالعجز الشديد وهو يقف وحده أمام معالم الفضيحة والاتهامات الموجهة نحو شقيقته منها وإليها..
لأول مرة يقف هكذا مسلوب الإرادة، لا يستطيع وصف شعوره أو تحديده ولكن الشيء الوحيد المُتأكد منه أنه كُسر على يد شقيقته التي باعت عرضها وشرفها بأرخص الأتمان، عرض “جبل العامري” وجزيرة العامري بأكملها، المُتأكد منه أنه يشعر بالغضب تجاه نفسه لأنه كان المغفل وسط كل هذا ولم يدري أن شقيقته تعرف رجل وليس هكذا فقط بل متزوجه منه..
المتأكد منه أيضًا أنه لا يستحق لقب الصداقة، يأخذه من شخص مثل “عاصم” الذي أفداه كثيرًا ووقف جواره أكثر، اليوم هو باع كل هذا كما فعلت شقيقته مع عائلتها وأشترى الفتنة بينهم والعداوة وكذبه على الرغم من أنه صادق..
شعور بالعجز الشديد يجتاح كيانه بعدما فضح أمام نفسه ورأى أنه يخدع ببساطة من قبل شقيقته وذلك الحقير جلال، شعر بالحزن على نفسه لأنه ابتلع الطعم ولم يستطع كشفه سابقًا وهو الذي يعلم كل شيء صغير وكبير يدور على الجزيرة.. هل عجز عن معرفة ما يدور داخل قصره؟
بقي جالسًا على الفراش ينظر على الأرضية ليجدها أتت إلى الغرفة خلفه وأغلقت الباب، تقدمت تجلس جواره، لم يكن يستطيع أن يرفع رأسه لها فقد ضاعت هيبته وكرامته أمامها وما كان يهددها بفعله في شقيقتها قامت بفعله شقيقته يالا السخرية..
خرج صوتها بهدوء متقدمة بيدها إلى فخذه تضعها عليه:
-أنت كويس
مال برأسه على صدرها، لا يدري لما وكيف فعلها ولكنه ربما يحتاج إلى ذلك، يحتاج إلى من يحنو عليه، ويقابل قسوته باللين، وكرهه بالحب، لن يجد أحد غيرها يميل بكسرته عليه ألا يحبها؟ وأعترف بهذا إلى نفسه!.. ليس هناك غيرها تقابل كسرته وقسوته برحابة صدر حتى لو لم تحبه..
خرج صوته خافت بعدما صرخ كثيرًا يفرغ بركان غضبه في الخارج، هنا بدأ كطفل صغير تائه بين اروقه الحزن والمعاناة:
-حاسس إني مكسور.. مغلوب على أمري
وضع يده الاثنين حول خصرها يضم نفسه إليها بالقوة يكمل مغمضًا عيناه مسترسلًا في الحديث بهدوء:
-فرح غلطت غلط كبير أوي تستاهل عليه القتل بس أنا مقدرش اقتلها.. تبقى أختي وزي بنتي
كان حديثه عفوي للغاية وكأن هناك من يسحبه منه، يؤثر عليه حزنه وضعفه وكسرها ظهره بعد فعلة شقيقته يقول بأسى:
-حاسس إني عريان قدام الناس، جبل العامري الكبير اللي كان بيحاسب على الغلط وقع هو فيه
اخفضت وجهها للأسفل تنظر إليه فلم ترى إلا خصلات شعره الظاهرة إليها ورأسه موضوعة على صدرها يقرب نفسه إليها، مستغربة تمامًا مدهوشة بفعلته وحديثه الذي يلقيه عليها لأول مرة بضعف وانهيار وكأن “جبل العامري” وقع بأرضه..
حركت يدها بتردد ولكن لم تجد شيء تفعله إلا ذلك تحيطه بذراعيها لتقدم إليه الدعم في لحظة سقوطه فحتى لو كان غريب عنها لفعلت ذلك، قالت بجدية:
-أنت مالكش ذنب في اللي حصل.. وبعدين كل الناس بتغلط وهي اتعاقبت بما فيه الكفاية
ضغط على عيناه بضراوة يوبخ نفسه لأنه لم يقوى على النيل منها بالطريقة المناسبة بل كان رحيم للغاية معها بعد فعلتها الدنيئة، قال بصوت خافت تملئه القسوة ثم الضعف:
-اللي خدته مني مش عقاب.. هي تستاهل أكتر من كده بكتير بس أنا اللي مش قادر
شعرت بالقسوة المكبوتة داخله، وتذكرت ما ارتوته على يده فقالت مجفلة:
-متقساش أكتر من كده
شدد من احتضانها وهو يضغط بيده على خصرها دون الشعور بها مما جعلها تتألم يقول بغلظة:
-هي اللي قسيت لما عملت فينا كده
تنهد بعمق، مازال لا يدري كيف يتحدث معها بهذه الأريحية والبساطة، مازال مغيب عن الواقع، سقط القناع الذي كان يضغه على وجهه طيلة الوقت قائلًا أنه ذئب لا يخشى أحد، الآن هو طفل.. لا تراه إلا طفل صغير أضل الطريق.. يريد العودة إلى رفيق دربه ولا يستطيع..
خرج صوته بنبرة حزينة متوترة، يلوم نفسه على ما فعله يندم على كل ما بدر منه:
-أنا مش عارف هقف قدام عاصم إزاي.. أنتي مش فاهمه علاقتنا دي ايه.. عاصم يبقى أخويا وقف في ضهري في كل حاجه قليلين كلام آه بس اللي في قلوبنا لبعض معروف
ضغط مرة أخرى عليها متألمًا مما فعله يعلن أن نتيجته لن تروق له مهما حدث:
-خلتني اشك فيه وأنا متأكد أنه برئ، دخلت الشك بينا وهو عزيز الكرامة مش هيوافق يفضل معايا تاني بعد اللي عملته فيه قدام الكل
تجعدت ملامح وجهها ألمًا بسبب كثرة ضغطه على خصرها بقوة وقسوة حاولت أن تحتويه وتحتوي الموقف وهي تقربه منها تفعل دورها كزوجة على أكمل وجه حتى وإن كانت العلاقة بينهم غير ذلك..
قالت بجدية تنظر إليه باستغراب:
-أتكلم معاه بهدوء ماهو مش معقول بردو كنت هتصدق صاحبك وأختك لأ
تألم أكثر بعد حديثها فهو كان على دراية تامة أنه ليس شخص كاذب، عقب على حديثها بقوة:
-صاحبي مش بيكدب يا زينة وأنا كنت عارف كده
أومأت برأسها وحاولت بكلمات أخرى تخفف عنه:
-أكيد مش هيهون عليه اللي بينكم يا جبل
باغتها بحديثه الذي اخترق قلبها.. يهتف بيقين متهكمًا على ما قالته:
-أنتي نفسك هيجي يوم ويهون عليكي كل شيء.. تفتكري هو لأ؟
والله لا تدري لما خفق قلبها بهذه الطريقة عندما أتى الحديث ناحية الرحيل وتركه، لا تدري لما ارتجفت فجأة وشعرت أنها تريد البقاء لأجل ذلك الطفل الذي ألقى نفسه داخل أحضانها تشعر بأن عليها إخراج القسوة المزروعه به عنوة من داخله..
حاولت التبرير قائلة:
-قولتلك إني…
قاطع حديثها لأنه يعرف ما الذي ستقوله كما كل مرة لن تتركه وتترك الجزيرة، تعتقد أنه غبي لا يفهم ما تريده فقط لأنه يجاريها:
-مش هتسيبيني عارف.. بس أنتي موجودة لغرض تاني غير جبل العامري.. أنا مش صغير يا زينة بس مع ذلك أنا مبسوط أننا بنتعامل أحسن من الأول
ربتت بيدها على ذراعه قائلة محاولة الهرب من محاصرته:
-هون على نفسك دلوقتي وخلي موضوعنا بعدين
زفر بهدوء يجيبها بنبرة حانية لم تستمع إليها من قبل أبدًا تخرج من بين شفتيه:
-موضوعنا دلوقتي وبعدين وفي كل وقت
حاولت الفرار مرة أخرى من الحديث عنهم، يبدو أنه الآن في حالة لن تتكرر عليهم مرة أخرى:
-هتعمل ايه طيب مع عاصم؟
ألمه قلبه وهو يقول بحزن طاغي:
-مش هعرف أقف في وشه
اعتدل في جلسته يعود للخلف على الفراش يتمدد عليه ناظرًا إليها ثم أشار بيده قائلًا:
-تعالي
اقتربت منه على الفراش تجلس جواره ممددة القدمين فابتعد عن الوسادة ورفع رأسه على فخذها يريد الشعور بأن هناك ملجأ له، مكان كلما وقع احتواه، مكان يكن الأمان عند الدمار، يكن الحب عندما يجتاحه الكره والقسوة.. يريد مأوى بين أحضانها ولا يريد غيره في تلك اللحظات..
أمسك بيدها يرفعها إلى رأسه لتبتسم بهدوء وهي تحرك أصابع يدها بين خصلاته متغلله في فروة رأسه، تشعر بأنه كسر حقًا بسبب شقيقته، هدم جبل العامري، وقع بعنف وأثر خلف اهتزاز الجزيرة بأكملها.. تشعر بحزنه وألمه على ما حدث لصداقته الوحيدة.. لأول مرة يتحدث بهذه الطريقة يلقي نفسه بين يديها ويترك لها الحرية في التفكير والتعبير.. منذ متى وهو هكذا.. كل هذا أثر صدمته
والله لم تراه إلا طفل صغير خطأه أعمى عيناه عن الدنيا وما فيها، وبين تلك اللحظات لم يتركها تفكيرها مقررة المكوث هنا أكثر وقت ممكن لكي تخرج ذلك الطفل وتقتل “جبل العامري” قاتل البشر..
لماذا؟ لا تدري ولكن القلب والعقل يريدون هذا وهي لن تكون العائق، لن تكون إلا “زينة مختار” الذي وعدته بالبقاء إلى أن تأتي عليه بما تريد من شعور وغيره..
وهو كان هناك ألم كبير يجتاح قلبه، يفتت كل ركن به بالدق عليه وكأن الطبول تقرع داخله..
تلك الحرب الضارية ستبدأ وتنشب بين قلبين إحداهما اعترف بما به والأخر مازال لا يدري ما يصيبه..
❈-❈-❈
“في الصباح”
ذهب إلى الجبل وهو خجل من نفسه ومن صديقه، لا يدري كيف سيرفع وجهه إليه وينظر داخل عيناه، وهل إذا اعتذر عما فعله سيقبل “عاصم” الاعتذار.. ذهب وحده دون حراسه فليس هناك حراسه من الأساس أنهم عادوا في الأمس جميعًا..
ولج إلى الداخل ليجد الغرفة المتواجد بها “جلال” بابها مفتوح، وهو قد أُغلق بالأمس دلف إلى الداخل ليرى الغرفة فارغة ليس بها أحد والأحبال الذي كان مربط بها ملقاه على الأرضية وجوارها سكين حاد كان هنا بين الأدوات.. استطاع أن يقطع الحبل ويفكر أسر نفسه وهرب من الجبل لأنه على علم بكل ما به.. وخرج من الجزيرة مؤكد لأنه من أكثر الأشخاص دراية بمداخلها ومخارجها
بسبب الحالة الذي كان بها في الأمس لم يفكر أن كان هناك أحد سيهرب أو لا.. كل ما فكر به هو شقيقته و”عاصم” وهو آخر وما حدث بينهم من من إلقاء تهم من كاذب إلى صادق.. لا احد يلومه فهو إلى الآن لم يستطع جمع شتات نفسه..
أبتعد عن الغرفة ليذهب إلى “عاصم” ولكن يبدو أن هناك من يراقبه في الجزيرة أيضًا من بعد “جلال” كي يرسل إليه عبر الهاتف ما يريد “طاهر” في الوقت المناسب..
أخرج هاتفه من جيبه ليجد هذه المرة الرسالة اتيه من “طاهر” محتواها صورة تجمعه مع “جلال” بعد هروبه ورسالة مرفقة لها تنص على “مش عاصم بس اللي خاين”
أغلق الهاتف وبقي واقفًا قليلًا.. ما فكر به طوال الليل كان صحيح.. أنه “جلال” ذلك الخائن الذي كان مزروع بينهم يرسل المعلومات إلى “طاهر” ويغدر به غدر لا مثيل له..
خرجت ضحكة ساخرة من بين شفتيه يحرك رأسه يمينًا ويسارًا وهو الذي كان يعتقد أن لا تفوته كبيرة أو صغيرة أتضح أن الخائن الذي كان بينهم كان من داخل القصر وهو الذي غدر به وبشقيقته وأوقعه بصديقه..
تحرك متجها إلى “عاصم”، دلف عليه رفع نظره إليه ليجده جالسًا على الأرضية كما تركه فقط يستند بظهره إلى الحائط، لم يقوى على النظر إلى عيناه، دلف إلى الداخل وانحنى بجذعه إلى الأسفل ليبقى في مستواه تحت نظرات الآخر المستغربه مما يفعله ليجده يقوم بفك أسره من تلك الأحبال المكبلة إياه
خرج صوته ينظر إليه قائلًا:
-يا ترى هموت دلوقتي ولا ظهرت براءتي
رفع رأسه إليه ببطء ووقفت عيناه تقابله مباشرة لم يقوى على الحديث فقط الأعين تتحدث بالندم الشديد والحزم البالغ لما صدر منه يرسل إليه عبارات الندم والقهر والآخر يبادله الخذلان والعتاب..
خرج صوت جبل مبحوحًا:
-أنا ماليش غيرك يا عاصم
تهكم الآخر يخرج صوته بسخرية شديدة ينظر إليه بقوة:
-يبقى عرفت إني معملتش حاجه
أومأ برأسه إليه وأبتعد بعينه مرة أخرى لا يمتلك الجرأة التي تجعله يتحدث أمام عيناه بتلك السهولة:
-عرفت كل حاجه.. جلال هو اللي عمل كده في فرح وهو الخاين.. وهرب
انتفض بدن “عاصم” وهو ينظر إليه بصدمة يسأله بقوة واستنكار:
-هرب!؟
استدار بوجهه إليه يرفع يده على كتفه يربت عليه قائلًا بندم شديد وأمل في أن يسامحه ويغفر له ما حدث:
-عاصم.. أنا مش عارف أقول ايه، قرفان من نفسي علشان شكيت فيك بس دي أختي.. ندمان على اللي عملته بس أنت أخويا أكيد هتسامحني
شعر بأنه نادم حقًا فقال بجدية وخشونة:
-هسامحك يا جبل لكن مش هكمل معاك
وقف على قدميه ينظر إليه بعتاب ثم قال بحزن:
-مسموح ليا أمشي أكيد بعد ما عرفت كل حاجه
تحرك من أمامه يبتعد ليذهب تاركًا إياه وحده كما قال له في الأمس، بعد النيل منه والدعس على كرامته وتدنيس الصداقة بينهم لن يبقى معه ولن يكن صديقه مرة أخرى فهو عزيز.. عزيز للغاية
اخترق صوت “جبل” أذنه الذي وصل إياه بحزن واحتياج شديد:
-عاصم أنا محتاجلك
وقف في مكانه ثابتًا واستدار ينظر إليه بعمق وقوة، تلقي الأسهم بانفسها على كل منهما، إحدى الأسهم نادمة حزينة راجية السماح والعفو، والأخرى مستنكرة لا يهون عليها كل ما بينهم ولكنها تتقابل بالعتاب الممزوج بالحزن..
لحظات يتبادلون فيها النظرات تعود على ذاكرة كل واحدًا منهما لحظات طفولتهما سويًا وشبابهما معًا، عملهم وإطلاق النيران على الجميع وهما في ظهر بعضهم البعض لا يترك أحدهم الآخر.. لا يجوز أن ينتهي كل هذا بهذه السهولة.. لا يجوز أن يفوز “جلال” بما فعله ولا يفوز الشك باعدهما عن بعضهم ليبقى كل منهم ظهره منحني وحده..
اقتربوا الاثنين من بعضهم البعض ليتقابلون في عناق حاد خرج من أجساد قوية ذو عضلات قاسية شرسة، كل منهم سحق الآخر لا يود تركه وادمعت عيني “جبل” وهو يقول نادمًا:
-سامحني يا صاحبي
استشعر الآخر ما به فبادله تلك الدمعات التي لا تخرج إلا من رجال أقوياء تعبر عن قهرهم ليقول بحب:
-انسى
لحظات مرت بينهما ليفرغ كل منهما ما بقلبه ولا يحمل ذرة بغض ناحية الآخر، يعودون مرة أخرى إلى العهد السابق وما قبله.. يعودون إلى عهد “جبل العامري” والقوة عائدة معهم من جديد
“جبل” هو ذلك الثبات والرسوخ، ويأوي إليه البشر للحماية ويعتصم به الخائف، لا يتزحزح إلا في لحظات الانهيار كما حدث معهما أما “عاصم” كان الحصن لـ “جبل” والملجأ الذي يحتمي به من أي ضرر.
❈-❈-❈
“بعد مرور فترة”
تحسنت الأوضاع قليلًا، منذ أن هرب “جلال” من الجزيرة بعد أن تم اكتشاف خيانته وهناك حراسة مشددة على القصر والجزيرة بأكملها، لا يتم تسليم أو استلام أي شحنات وتوقف العمل تمامًا بأمر من “جبل” بعد أن فكر قليلًا فيما حدث وما سيحدث في الأيام القادمة إن لم يأخذ الحذر هذه المرة..
عاد “عاصم” إليه مرة أخرى وحاول أن يمحي أثر ما حدث بينهم، ولكن الأثر لا يمحى أبدًا حتى وإن تناسى وإن غفر..
بعد أن أقر “جبل” بما في قلبه وتحركت شفتيه بعفوية شديدة مع “زينة” قائلًا كل ما يعتري صدره وجد نفسه أنه مجرد من كل شيء أمامها، لم يعلم أحد من أهل الجزيرة بما حدث ولم يخرج الخبر، لم يقع “جبل العامري” ولم يهتز ولكنه تعرى أمام زوجته بطريقة أحرقت قلبه وندم أشد الندم لأنه لم يستطع إمساك جوفه عن الحديث.. بقى أمامها مجردًا من كل شيء، محى قسوته في الحديث وكبريائه تركه وحيدًا، العنف والشراسة المتواجدين داخله دائمًا لم تراهم في هذا اليوم
لم يخرج منه إلا الضعف والحزن، صوته الخافت وهدوءه العاصف، لم يخرج منه سوى شعوره بالقهر والخذلان من شقيقته وحزنه على ما فعله بصديقه، تجرد أمامها من كل صفة قاسية عرفتها به يومًا وأصبح لا يمتلك إلا الرحمة والمغفرة، الهدوء والضعف ليمحى من أمامها “جبل العامري” الذي عرفته
حتى أنها أصبحت تتعامل معه بهدوء ولين تبتسم إليه بين حديثها الهادئ معه وكأن ما قاله عنهما أثر بها يشعر أنها تود التكملة معه حقًا ولكن لن تحبه وهو بهذه الحالة، لن تحبه وهو ذلك التاجر رجل العصابات، يمكن أن تظل هنا ولكن لن تبادله شغفه نحوها ولن تجعله يقترب منها إلى الحد الذي يريده،
هناك حل واحد لا يعلم إن كان سيندم عليه بعدما يفعله أو لا ولكنه وعد نفسه إن وقع بحبها لن يحرم قلبه منها ولن يخاطر بها، ستكون له رغمًا عن الجميع ولكن بموافقة منها.. وهي لن توافق عليه إلا إذا اعترف لها بكل شيء.. كل شيء يجعلها تحبه وتبغاه بعد أن تناست شقيقه الذي لم تكن ستنساه أبدًا إن لم تعرف أنه كان قـ ـاتل ومجرم شريك بكل شيء قبله.. وبعده..
بينما هي حقًا كما وصفها، رأته مجردًا من كل شي فشعرت أنه إنسان غير الذي تعرفه وعليها أن تجعله هو الآخر أن يعترف بذلك، يقف أمام نفسه يعترف قائلًا أنا “جبل العامري” ذو القلب الرحيم والنظرة الرقيقة لا المخيفة.. أنا “جبل العامري” المحب لا القاتل، أنا القاضي العادل لا الجاني المجرم.. أنا “جبل العامري”..
لا تدري كيف اقتربت منه إلى هذا الحد في تلك الفترة الصغيرة ولكن حقًا وهذا شيء وجب الاعتراف به، أنها يومًا عن يوم تقترب منه تتعمق بالنظر إليه ليس كالسابق بل نظرات أخرى غريبة كليًا عليها وعلى ما تشعر به تجاهها..
صارحت نفسها فجأة أنها بدأت تميل إليه، لا تدري كيف ولكنها حقا بدأت في التقرب منه والحديث معه بطريقة أفضل من السابق بكثير والنظر إليه بلين وهدوء وهو يبادلها ذلك من بعد آخر جلسه حدثت بينهم.. ترى من الممكن أن تستكمل مسيرتها معه هنا إلى الأبد! كانت إجابتها على نفسها أن ذلك لمن المستحيل، لن تبقى معه ومكتوبة على اسمه إلا عندما تتأكد من أنه برئ من كل التهم المنسوبة إليه.. غير ذلك لا تستطيع أن تكون شريكته في كل حرام يفعله..
جعلت شقيقتها تقطع علاقتها مع “عاصم” من أحبته وتمنت القرب منه بمنتهى البراءة، منذ أن عاد إلى القصر وامتعت عينيها بالنظر إليه من بعيد وهي راضية تمامًا ولكن تفيذًا لأوامر شقيقتها قامت بوضع رقم هاتفه في قائمة الحظر وعندما تقابلهم الصدفة لا تصغى إليه.. ابتعدت عنه كل البعد بعدما علمت بمجال عمله من شقيقتها، كانت تريد فقط أن تواجهه وتستمع إلى الحقيقة منه ولكن حديث شقيقتها أتى عليها بصرامة وحزم غير قابل للنقاش ففعلت
وهو كان يحاول كلما رآها تنظر من الأعلى أن يتحدث معها يشير إلى أذنه دليل على أنه حتى يريد مهاتفتها ولكنها لا تعيره اهتمام، لا يفهم ما الذي حدث لها جعلها تتحول من ناحيته بهذه الطريقة.. لم يجد إلا سببًا واحدًا وهو أن تكون علمت شقيقتها بما بينهم من بعد ذلك اليوم وهي من قامت بمنعها عنه.. ولكنه لن يمل ولن يكل، لن يتركها إلا عندما يتحدث معها ويصل إلى نقطة ترضيه ويعود بها إلى آخر ممر كانوا به سويًا بين ورود الغرام وجدران الخجل..
لم يكن أحد في تلك المدة يدلف إلى فرح أبدًا إلا العاملة “ذكية” كما أمر “جبل” مرة واحدة في اليوم بالطعام.. ولكن “زينة” ضربت حديثه عرض الحائط وكانت تدلف إليها يوميًا مرة أخرى بعد العاملة تأخذ إليها الطعام وتجلس معها قليلًا وهي من قامت بجلب الأدوية المناسبة لحالتها المذرية في ذلك الوقت فقد كان جسدها بالكامل ملئ بالكدمات وحالتها يثرى لها..
زينة فقط من بقيت جوارها، عالجتها وتأتي إليها بالطعام لأنها تعلم مؤكد ستتضور جوعًا فمن يستطيع أن يأكل مرة واحدة في اليوم بكمية قليلة للغاية لا تناسب طفل؟ فعلت هذا أيضًا من قلبها دليل على أصلها الطيب وتعاملها المحب المعطي إليهم جميعًا حتى وإن قابلتها منهم القسوة والحقد..
❈-❈-❈
دقت تمارا على باب مكتب “جبل”، كانت تعلم أنه بالداخل، انتظرت كثيرًا إلى أن استقرت الأوضاع واتت الفرصة المناسبة لها..
أذن لها بالدخول فولجت إلى الغرفة تدفع الباب خلفها، سارت إلى أن جلست على المقعد أمامه تحت أنظاره الثاقبة عليها..
خرج صوته حاد ينظر إليها بقوة:
-نعم
توترت قليلًا، تمسكت يدها ببعضهم البعض نظرت إلى الأرضية ثم إليه قائلة بخفوت:
-جبل.. أنا عايزة أتكلم معاك
أشار إليها بيده يعود إلى الخلف يستند بظهره إلى ظهر المقعد قائلًا بجمود:
-اتكلمي
تنفست بعمق وهي تنظر إليه لا تدري من أين تبدأ حديثها معه، تتابع عيناه الثاقبة فوقها التي توحي أيضًا بالبرود وكأنه ليس مهتم بها، أردفت تسائلة بندم وحنين:
-ممكن تقولي ايه اللي غيرك كده؟ جبل أنا تمارا حبيبتك.. معقول نسيت كل اللي كان بينا، نسيت حبك
أومأ إليها برأسه ليستند بيده على ذراع المقعد يضع إصبعيه السبابة والابهام أسفل ذقنه وأردف ببرود:
-آه.. نسيته
حركت رأسها نافية تقول بجدية وحرقة:
-لأ يا جبل أنا مش مصدقة، أنا عارفه أنت اتجوزت زينة إزاي وليه متحاولش تبينلي إنك بتحبها
ابتسم بهدوء وهو يجيبها صدقًا قائلًا بشغف ولمعة غريبة ظهرت بعينيه على أثر نطقه بتلك الكلمات:
-أنا فعلًا بحبها
وضعت يدها على المكتب تتابعه بعينان حزينة للغاية تحرك أهدابها بكثرة تحاول منع الدموع من النزوح عن مقلتيها فهي خسرت كل شيء عندما تركته بأنانية:
-ده كدب.. أنا عارفه إنك بتحبني بس زعلان من اللي عملته لما سيبتك ومشيت
اعتدل على المقعد يتقدم للأمام يستند بيده الاثنين على المكتب، نظر إليها بقوة وجدية وتحدث بفتور غير مبالي بمشاعرها:
-للأسف يا تمارا جه الوقت اللي اشكرك فيه علشان مشيتي.. صحيح سببتيلي وجع وحسيت بالوحدة من بعدك بس لولا اللي عملتيه ده كان زماني دلوقتي متجوزك وزينة مش معايا
ابتسم إليها رافعًا يده إليها يقول مبتسمًا:
-يعني أنا بقولك شكرًا علشان بسببك أنا اتجوزت زينة وبقت مراتي
تحولت نظرته وتلك الابتسامة إلى الجمود والحدة وهو يقول بقسوة وغلظة احرقتها:
-محتاوليش معايا يا تمارا أنا بحب مراتي.. بحبها أوي فوق ما تتخيلي
-جبل..
نطقت اسمه محاولة التحدث بلين ورقة ولكنه قاطعها مبتسمًا يقول بشغف وفي ذات الوقت مهينًا إياها معبرًا عن أن حبه لها لم يكن له قيمة:
-واكتشفت معاها أن الحب اللي كان بيني وبينك ده ميجيش جنب حبي ليها حاجه
تعمقت بالنظر إلى عيناه، غاصت داخلهما ولم تجد لها عنده أي تعبير أو رسالة، لم تجد ذكرى واحدة أو لحظة مرت بينهما تشفع لها، يبدو أنه أحبها حقا متمسك بها حد الموت.. كيف حدث هذا؟ كيف جعلت “جبل العامري” يتحول بهذه الطريقة ويعشق غيرها.. ما السحر الذي جعلته يرتشفه من يدها.. ما الذي قدمت له أكثر منها كي يتحدث عنها بهذه الطريقة دون خجل..
أنه لم يعبر عن حبه لها يومًا إلا عندما تطلب ذلك منه ولم يهتف بكلمات الحب لحظةً ولم يقف أمام أحد يقول إنه يعشقها.. كيف يا “زينة” فعلتِ به ذلك؟
كان الباب لم يغلق إلى آخره، دفعته “زينة” ودلفت إلى الداخل وعلى وجهها ابتسامة عريضة بعدما استمعت إلى كلمات جبل عنها واستشعرت صدقه بها ليس مجرد تمثيل وعندما استمعت إليه دق قلبها بعنف وقوة لا تدري لما! ولكن يبدو أن ما حدثت نفسها به صحيح..
سارت إلى الداخل ولم تزحزج عينيها من على غريمتها إلى أن وقفت “جواره” تضع يدها على ظهره مقتربة منه فرفع بصره إليها بابتسامة باتت معهودة بينهم.. بعدما رفع رايته إليها وحدد مصيره معها..
أمسك بيدها الأخرى يرفعها إلى فمه مقبلًا إياها فنظرت إليه ثم عادت إلى ابنة عمه تنظر إليها بشماته ترسل إليها من خلال أعينها أنها لا مكان لها هنا.. هي صاحبة المكان ومن فيه!
احترقت الأرض من أسفل تمارا.. لم تجد شيئًا تفعله إلا أن تقف على قدميها وتتقدم ذاهبة إلى الخارج دون حديث، دون حتى أن تحدث نفسها.. حقًا الصدمة كبيرة والتفكير في الأمر مرهق للغاية..
لم تقوى زينة على الحديثة وسؤاله عما هتف به إليها بقيت صامتة وهو الآخر لم يريد أن يسبق الأحداث ويفتح معها حوار لا يعلم أين يذهب منهما.. بات الوقت قريبا للغاية لكي يتحدث..
❈-❈-❈
“في المساء”
جلس “جبل” على الفراش بعد أن قرر أخيرًا ولن يعود عما يريد فعله مهما كانت العواقب..
كان ينتظرها أن تأتي من الأسفل يجلس يفكر فيما سيفعله وكيف يبدأ معها ومن أين، الأمر يطول شرحه والحديث به، يطول فهمه واستيعابه ولكن لأجل حبه وقلبه، لأجل أن تبقى معه ويعيش ما لم يستطع الشعور به سابقًا سيفعل أي شيء
فُتح باب الغرفة، لتطل عليه منه، أبصرته باستغراب فرفع بصره إليها، أشار إليها بالجلوس جواره قبل حتى أن تدلف..
أغلقت الباب ودلفت لتفعل كما طلب منها
جلست بجواره على الفراش تنظر إليه فباغتها بحديثه دون مقدمات ونظرته نحوها قوية متمعنة، تحدث بجدية:
-كنتي عايزة تسمعي مني كل حاجه صح؟
أومأت برأسها إليه سريعًا دون التفكير بالأمر، فتنهد بعمق وهو يراها تعتدل تتوجه بنظرها عليه تصب تركيزها معه..
قال بصوت خافت:
-أنا عايز اعترفلك بحاجه
سألته باستغراب:
-ايه
مرة أخرى تنهد بصوت مسموع، الحديث ثقيل على قلبه ولا يستطيع إخراجه بتلك السهولة، أمسك بيدها محاولًا أن يأخذ الدعم منها إليه ليتذكر أنه يريدها ولكن ما يشتهيه المرء لا يحدث دائمًا ما كاد إلا أن يتحدث معها مخرجًا مكنون قلبه إلا أنه استمع إلى أصوات طلقات نارية تهب عليهم من كل مكان
انتفض من مكانه بعدما اخترق زجاج الغرفة رصاصة ليهبط على الأرضية متهشمًا، وقع قلبها بين قدميها تطلق صرخة مدوية بعدما اخترق الرصاص الغرفة، هوى قلبه هو الآخر معها خوفًا عليهم فجذبها إلى الأرضية يجعلها تهبط يخفي جسدها خلف الفراش صارخًا:
-خليكي هنا
جذب سلاحه بيده وسار منخفضًا بجزعه يذهب ناحية الشرفة مخرجًا رأسه من خلف الحائط دون الخروج ليرى حالة من الهرج والمرج خارج القصر وحراسه تحاول السيطرة عليها مستمعًا إلى صراخ “عاصم” من بينهم..
علم أنها حالة هجوم شديدة قد تمكنوا من دخول الجزيرة بعدما أخبرهم ذلك الحقير عن كل خباياها.. إلى الأمس لم يستطع أحد بتاريخ حياته وفعلها..
عاد مرة أخرى إليها يهبط بجسده فوجد العبرات تهبط من عينيها ترتجف بخوف ورهبة، قتلها الخوف على ابنتها وشقيقتها ولكنها ارتعبت أن تتحرك دون أذنه يحدث لها شيء وتضيع شقيقتها مع ابنتها..
رأى عبراتها تهبط وكأنها نيران تلجمه حاول استجماع نفسه قائلا بقوة:
-اهدي متخافيش
عقبت ببكاء حاد:
-إسراء ووعد
أجابها محاولًا أن يطمئنها:
-متخافيش هوديكم مكان أمان
فتح الخزانة الخاصة به وهو منخفضًا للأسفل، فتح خزنته الموجودة داخلها ليخرج منها سلاح آخر وحقيبة صغيرة وضع بها بعض النقود ثم أغلقها ثانية..
جذبها من يدها بقوة صارخًا بها أن تسير معه ليخرج بها من الغرفة منحنين إلى الأسفل كي لا تطولهم الطلقات، وجد والدته في الأعلى تأخذ “فرح” و “تمارا” وسألته بخوف وقلق:
-هاخد وعد وزينة معانا
لم يقف بل أجابها يُسير سريعًا شاعرًا أن الموت يلاحقهم:
-روحوا انتوا.. أنا هتصرف معاهم
أردف بصوت عالي وهو يدفع زينة للأمام:
-هاتي إسراء ووعد بسرعة
قد فعلت سريعًا على الرغم من أن قدميها لا تحملها بسبب الذعر الذي انتابها، حملت ابنتها على ذراعها وهي تبكي بقوة خائفة متشبثة بها وإسراء الخائفة بضراوة..
سارت خلفه إلى أن هبط ليتجه بهم إلى خلف درج القصر، رفع السجادة الموضوعة على الأرضية وقام بالتقدم إلى الدرج من الخلف ليضغط على شيء به ففتح باب خشبي من الأرضية!!..
نظرت إليه بذهول واستغراب وفهمت أنه سيخفيهم هنا وجدته يهبط إلى الداخل عبر درج آخر خشبي نزل عليه وظهر إليها بعدما أشعل ضوء هاتفه، ألقى بما كان معه في الأسفل ورفع يده الاثنين إليها قائلًا بعجلة وتوتر:
-هاتي وعد
قدمتها إليه فهبط بها إلى الأسفل ليتركها ويعود يأخذ “إسراء” ممسكًا بيدها يساعدها في الهبوط وأخيرًا “زينة”، جذب الباب خلفه بعد أن وقف معهم في الأسفل..
نظر إلى “زينة” بعينين مشتاقة راهبة فقدانهم، عاجز عن أن يجعلها معه وملكه يرى النهاية قريبة للغاية منه ففعل ما أملاه عليه قلبه كي لا تحمل ذرة بغض له بقلبها
سألها مضيقًا عينه عليها:
-معاكي موبايلك
وضعت يدها على جيب بنطالها واومات له بالإيجاب
ابتلع ريقه وخرج صوته بتوتر ناظرًا إليها بعمق يرفع من على الأرضية الحقيبة التي كانت معه يقدمها إليها:
-الشنطة دي فيها جوازات السفر بتاعتكم، وفيها فلوس
ابتلع غصة مشتعلة وقفت بجوفه شعر بها وهو يأبى خروج الكلمات المفارقة لها منه:
-موبايلك معاكي.. لو طلع الصبح عليكم وأنا مرجعتش اخدك.. يبقى أنا مش موجود يا زينة
شهقت بعنف واضعة يدها الاثنين على فمها تنظر إليه يخرج شلال بكاء من عينيها شاعرة بنفس تلك الغصة التي داهمته، لا تريد الفراق بهذه الطريقة.. لا تريد الإبتعاد عنه فما قاربوا عليه سويًا ليس هينا أبدً
ضغط على شفتيه قائلًا بجمود لا يود التأثر بما يصدر عنها:
-اسمعيني كويس..
أشار بضوء الهاتف خلفهم قائلًا بجدية:
-في باب وراكم أهو افتحيه هتمشي في ممر طويل هيطلعك على الغابة، تفضلي ماشية على طول على نفس الطريقة لحد ما تطلعي بره الجزيرة اركبي من هناك وانزلي مصر وبعدها سافري على طول
انخفض بجذعه إلى الأرضية يرتفع إليها بالسلاح بيده ثم أمسك بيدها التي كانت مازالت موضوعة على شفتيها يضعه به:
-لو قابلك حاجه في الغابة اتصرفي
أمسكت بيده بقوة وبكت بقهر شديد يخرج صوتها مبحوحًا متعلثم:
-متسبنيش
أقترب منها جاذبًا إياها بضراوة في عناق حاد هشم به ضلوعها ولم ترفض ولم تعترض بل قابلته تجذبه إليها شاعرة بالأمان داخل جسده تبكي وتنتحب بقهر يداهمها الإحساس بالخوف والذعر بشراسة تآن بألم داخل أحضان صدره تأبى فراقه، يحتل الأسى كيانها فقط من فكرة عدم وجودة..
همس بجانب أذنها بضعف وشغف، ضاغطًا على عيناه بقوة:
-أنا بحبك.. سامحيني على اللي عملته
تسمرت في أرضها وارتخت يدها من حوله غير قادرة على استيعاب ما يحدث ولكنه لم يكن معه الوقت الكافي لكل ذلك بل أبتعد عنها متقدمًا من “وعد” يحتضنها قائلًا:
-هتوحشيني
لم يعطي الفرصة لأحد كي يجيب عليه بل أتجه ليأخذ سلاحه ثم تركهم يصعد مرة أخرى على الدرج يلقي عليها نظرة أخيرة محبة شغوفه، حنونة مليئة بالندم على كل شيء عبر من جواره معها ولم يستمتع به ذاهبًا ليقابل مصيرة الحتمي الذي لم يستطع الهروب منه اليوم..
أغلق الباب الخشبي بعدما اختفى عنهم ليظهر الضوء من جوانبه ولكنه اختفى أيضًا عندما أعاد السجادة إلى موضعها ليتركها في ديجور الألم وحدها..

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية سجينة جبل العامري)

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *