روايات

رواية يناديها عائش الفصل الخامس والثمانون 85 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش الفصل الخامس والثمانون 85 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش البارت الخامس والثمانون

رواية يناديها عائش الجزء الخامس والثمانون

يناديها عائش

رواية يناديها عائش الحلقة الخامسة والثمانون

قال الله تعالى: ﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ﴾
[القصص: 5، 6].
~~~~~~~~~~~~~~~
وراء كُل ليلٍ فجرٍ باسم، و العُسر مهما قسى، فاليُسر يَتبعهُ، وعدٌ مِن الله، و هذا الوعدُ يكفينا..
سطر التاريخ يوم أمس أمجادٍ مجيدة؛ حافلة بالنصر و الفرحة التي غمرت كل مُسلم مخلص للاسلام و لإخوانه من المسلمين.. في تلك الحارة، التي ظللت أذكر في كل مرةٍ أنقل لكم أسرار و خبايا حيوات عائلة الخياط، أنها مجرد حارة، و نسيت التوسع الذي أحرزه ” مُجاهد ” ببناء منزله الشبيه بالفيلا فيها، حارتنا لم تعد مجرد حارة بيوتها متقاربة و شارعها ضيق، بل أصبحت أشبه بقرية صغيرة؛ بفضل التغير الذي قام به الابن الأكبر للصعيدي المُهاجر من مركز بني مزار التابع لمحافظة المنيا..
” رشدي الخياط ” و الذي أقام في ضواحي مدينة «المنصورة التابعة لمحافظة الدقهلية» و كانت المنطقة حينئذٍ صغيرة شبيهة بالحارة، أما الآن لم تعد مجرد حارة و كفى، بل أصبحت مزيجًا من الحارة و القرية، فقد اشترى ” مُجاهد” أرض كبيرة بالقرب من تلك الحارة، و أقام عليها منزله، كما فعل بعض الساكنين فيها، و كما أراد أيضًا ” بدر الشباب ” ترميم منزله على خُطىٰ عمه، فأصبحت الحارة في خبر كان و لم يسعنا بعد ذلك التوسع ذكرها بالحارة؛ فلنقل منطقة رشدي الخياط و أحفاده، و لنكتفي بذلك.
يقف صاحب لقب « أجمل وجه» حاز عليه وهو بعمر الواحد و عشرون، أي عندما كان في «أمريكا» و قبل مجيئه لمصر منذ عام؛ أمام تلك الطاولة في صالة منزلهم الواسعة، و حوله أسرته و أصدقاءه الثلاثة
أكبرهم « المهندس زين» ثُم لاعب الكرة الجديد بالنادي الأهلي و طالب السنة الرابعة بالطب البشري « سيف الاسلام» و أصغر الشباب
« إبراهيم إيمير» ابن رجل الأعمال الشهير بتركيا« إيمير إبراهيم».. يحتفلون بيوم ميلاد الذكي ذو الروح المرحة « قُصَيّ» الذي أتم في اليوم الثامن من شهر ديسمبر ( ثلاثة و عشرون عامًا).
” يلا يا حبيب ماما طفي الشمع ”
قالتها ” لين ” والدته وهي تتأمل صغيرها بعيون فَرِحة حنونة، فأردف ” سيف ” ضاحكًا:
” انجز يا عم، عاوزين ناكل التورتة.. أي نعم عارف إن الاحتفال بعيد الميلاد بدعة بس أنا جاي أصلًا عشان صوابع زينب ”
رد ” إبراهيم ” في تساؤل بعفوية:
” مين زينب ؟ ”
” حلويات ”
” الله الله، أنت على علاقة بواحدة اسمها زينب ؟
طلعت نسوانجي ! ”
نظروا لهم جميعًا في استفهام، ثُم علت أصوات الضحك الصادرة منهم، بينما ” سيف ” هتف وهو يضرب رأس ” إبراهيم ” بخفة:
” يا غبي، صوابع زينب دي نوع حلويات بيتاكل ”
” أنتم في مصر بتاكلوا النسوان ! ”
” لأ ده غباء أوفر بقى ! ”
قالها ” زين ” تلك المرة في تعجب مُضحك، و رد ” قُصي ” في مزح:
” طيب سمعت عن أم علي قبل كده ؟ ”
” مش بخوض في أعراض حد ”
كانوا غير مصدقين ما يتفوه به ذلك التركي الدخيل، و لكن في الحقيقة كان يتحدث بجدية و بكل ثقة؛ ظنًا أنهم نساء و ليسوا حلوياتٍ شهية !
أطفئ ” قُصي ” شمعته و هتف بغرور مزيف، وهو يقوم بارجاع شعره الناعم للوراء:
” كل سنة و أنت حلو و بتحلو أكتر يا كوكي ”
صاح ” سيف ” وهو يعطيه هديته:
” كل سنة و أنت بخير يا نجلاء ”
” نجلاء ! صدق نسيتها خالص، خلاص يا عم بقى هو دخل الجيش من هنا و أنا تُبت و مبقتش أسمعه من هنا ”
” هو مين ولا هي مين ؟! ”
تساءل بها ” مُجاهد ” بعدم فهم، و يبدو أنه نسي من يكون ” نجلاء “، مما رد ” أُبَيِّ ” ضاحكًا ضحكته الجميلة، وهو يعطي هدية شقيقه له:
” الواد الكوري اللي ابنك شعره بقى شبهه ده، لحقت نسيت ! ”
” آه قولت لي، أخوك مش بيعجبه غير الناس غريبة الأطوار اللي شبهه ”
” عاجبني يا ميجو، فين هديتي بقى ؟ ”
” إيه ميجو دي ياض ! أنا معدي الستين احترم نفسك ”
قالها والده، وهو يعطيه هديته بتعصب بدا مُضحكًا لهم، مما أردف ” قُصي ” غامزًا له:
” ستين إيه بس، ده أنت شوجر دادي ”
كُنا منذ يومين نقول الفتى صاحب الثلاثة و عشرون، أما الآن صرنا قطعًا نعلم أنه أتم الثانية و العشرون من عمره، و أمس كان أول يوم في عامه الثلاثة و العشرون.. أهدى له الحضور الهدايا، و التي تنوعت ما بين الساعات مختلفة الماركات، و العطور الجذابة، و أما والده أهدى له شيكًا بمبلغ و قدره ( خمسون ألف جنيهًا) عوضًا عن السيارة التي وعده بشرائها له عند التخرج، أو بمعنى أوضح، عند حصوله على المركز الأول.
” مُجاهد ” عادة في أعياد ميلاد أبناءه، تلك البدعة التي يفعلها لهم كلما مرّ عامًا من أعمارهم؛ يهديهم المال كأنه يخبرهم بذلك الفعل فيما معناه
(خد صبر نفسك، أنت داخل على منعطف تاريخي يا معلم).
أقبلت ” شهد ” تلك الفتاة التي لازمها الاكتئاب منذ دخولها الشهادة الثانوية، و اقتراب الامتحانات المتممة لتلك المرحلة.. أعطت لشقيقها هديته، وهي تضع قُبلة أخوية على خده قائلة:
” كل سنة و أنت طيب يا أحلى كوكي ”
” و أنتِ طيبة يا شهدنا ”
أثناء تلك اللحظة، حانت نظرة جانبية من ” زين ”
يصحبها دقة قلب عند اقتراب شبيهة القطط المنحدرة من سلالة ” رَغدُول “منهما، فكان واقفًا بجانب أخيها؛ يختلس النظرات الخفية بين الحين و الآخر عليها دون شعورها هيَ بذلك، أو شعور أحد الواقفين..
لها عينان مستديرتان زرقاوان سبحان الله في خلقهما، برغم ما فعلته المرحلة الثانوية بها من بكاء و أرق و قلة نوم؛ إلا أن ذلك لم ينقص شيء من جمالها.
أعطته هديته، ثُم استأذنت منهم لاستكمال استذكار دروسها، بينما أخذ كل واحد منهم طبق الحلويات الخاص به إلا “زين”؛ بسبب إصابته بمرض السكري، حتى عندما كانت تعد له جدته الكيكة، كانت تعدها بطريقة صحية تخص مرض السكر، غير التي يعتاد صُنعها العامة.
هتف” مُجاهد ” وهو يتناول طبقه بشراهة:
” أحلى حاجة حصلت في اليوم ده، إن سوريا تحررت ”
رد ” قُصي ” في فخرٍ يتبعه ابتسامة واسعة:
” و أحلى حاجة إنه وافق يوم ميلادي، أنا قولت برضو كائن القُصي اللذيذ ده، لازم يحصل يوم ميلاده حاجة تاريخية تفضل في الذكرى دايمًا ”
” إياد زمانه طاير من الفرحة في سوريا دلوقت.. يا بخته ”
قالها ” إبراهيم ” بعيون ناطقة بالفرحة، فتابع
” أُبَيِّ ” عريس شهر أول فبراير من العادم القادم بمشيئة الله..
” إياد كان نفسه يشهد تحرير سوريا من زمان، و سبحان الله كان واحد من اللي طلع اخواتنا من السجون السورية، عقبال تحرير الأسرى في السجون الاسرائلية يارب ”
” آمين ”
رددها الجميع فرحين فرحة صادقة نابعة من قلوبهم، فكان فجر هذا اليوم فجرًا مشرقًا بآمالٍ جديدة لكل ( المسلمين بمعنى الكلمة) و لم تدع
” مفيدة ” صباح اليوم يمر بسلامٍ، فعندما عرفت الخبر؛ خرجت تطلق الزغاريد كأنها واحدة من النساء السوريات، و بالقرب من منطقة تلك العائلة، كان هناك منزل كبير مكون من عدة طوابق يعيش به عائلات سورية، أخذوا يوزعون الحلوى و المشروبات على المارة، و شاركتهم عائلة الخياط الفرحة بالانضمام اليهم في توزيع (الشربات) و غيره، كأنهم جسدٍ واحد، و ما فعله ” مجاهد ” في الصباح يُحسب نقطة بيضاء في حقه، فقد اشترى « بَهيمةً» و أحضر المتخصص في ذبحها و مساعديه، ثُم وزعوا على الأهل و الفقراء بالأخص، و كل من يأخذ ما نابه من اللحم يدعو بالفتح القريب لبيت المقدس و تطهير كل بقاع فلسطين من دنس الصهاينة.
كان صباحًا لا يُنسى بحق، فقد علت التكبيرات في البيوت و على أفواه الناس في الشوارع..
الله أكبر، الله أكبر
لا إله إلا الله
الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد
الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا
افرحوا عباد الله بنصر الله.
الكل في فرحة غَبطة مصريون و سوريون، و ذاعت هذه الآيات من البيوت..
وقال سبحانه: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}
[آل عمران: 160].
و احتجت ” عائشة ” بعدم الذهاب لكُليتها، قائلة لحماتها بسعادة عصفور حر طليق:
” انهارده عيد يا ماما، كُلية إيه اللي أروحها ! فكك ”
أما ” قُصي ” أخذ طبقه، و خرج يجلس في حديقة منزلهم، يتصفح آخر الرسائل التي كانت بينه و بين ” إياد الريحاني ” في الصباح..
***
استيقظ على صوت رنات متتالية صادرة من هاتفه في الصباح الباكر من رقم دولي، ثُم سكتت الرنات و أخذ تطبيق « الواتساب» يتراقص بالرسائل المتتالية، لينهض و يفرك عينيه في نعاس، طار و تبخر فور أن قرأ تلك الرسالة المرسلة من ” إياد “..
” سقط نظام بشار الأسد، عاد حق رفيقي
” حمزة بو ديب ” كنا بنحكي من اشي أربعة شهور نِحن بنيجي نهد المعبد فوق رؤوس أعداء الله، سقط عدو الله اليوم يا صديقي، أنا و اخواني المعارضين حررنا الوطن يا قُصي، رجعت سوريا إلنا، متلها ما بلاقي والله ”
تقشعر بدن ” قُصي ” و اهتز قلبه طربًا، و شعر بأنه يود التحليق من شدة فرحته و سعادته بانتصار اخوانه، أصبح الكون لا يسعه من فرط السرور، كأنه يرَ « فتح بيت المقدس أمامه» أشرق وجهه و انفرجت أساريره هامسًا لنفسه بدموع راحت تمطر جذلًا:
” يارب و فلسطين يارب، يارب و السودان، يارب و سائر بلاد المسلمين حررهم من بطش الطاغية الظالمين ”
أرسل له وهو يبكي من الفرحة:
” عشان كده الفترة اللي فاتت كنت مشغول و مش بتكلمني كتير، سلم لي على أهلنا عندك و قولهم إن أهلكم اللي عندنا في مصر مش طالعين غير لما يعلمونا طريقة التوميه السوري ”
راسله ” إياد ” برسالة صوتية تظهر فيها ضحكاته جلية مجلجلةً محتواها:
” اليوم دِمشق، و غدًا القُدس.. اللهم أتمم النصر، ووحد الصف، و اجمع الكلمة ”
رد عليه ” قُصي ” برسالة صوتية في نبرةٍ بالغة السرور:
” وسوف تستمر مسيرة النصر حتّى يرفرف العلم الفلسطيني في القدس وفي كل فلسطين.. ”
و أخذت الرسائل بينهما تشاركهما فرحتهما:
” اليـوم تُـصلى صـلاة لـم تُـصلى مـنذ ثـلاثـمائة عام
اليوم تُصلى صلاة الفتح في الجامع الأموي بدِمشق يا قُصي ”
” الله أكبـر و لله الحمد، فتح بيت المقدس كان في العام اللي جه بعد فتح دِمشق في عهد خلافة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ”
” بدي بوسك على جبينك ”
” بوسة بس ! ”
” استحي، شو لئيم ”
” أنا قصدي حضن كمان، ها احكي لي كل حاجة بالتفصيل ”
” راح نيجي أنا و أنس خيي لصغير زفاف أُبَيِّ، و راح نشعله بالدبكة السورية ”
” أُبَيِّ أصلًا بيلمح إنه عاوز يعمل فرح مش تقليدي، فخلاص هقول له على فكرة الدبكة.. انجز احكي لي اللي بيحصل دلوقت، صور لي فديو”
” ليش تخطف الكباية من راس الماعون ”
” كباية ! أنت مين يا عم !”
ضحك إياد ضحكة مصحوبة بلذة الانتصار، ثم أرسل رسالة صوتية:
” ليش تستعجل الأمور اصبر لكمل الحكاية ”
أرسل له ” إياد ” صورته وهو يتجول في قصر الأسد، مبتسمًا ملء شدقيه، و يرفع علامة النصر، فـَرد ” قُصي ” ضاحكًا:
” كل دي صور و تماثيل فاكر البلد انستجرام أمه ! ”
ليشاركه الآخر الضحك ساخرًا:
” يفضح عرضه شو نرجسي ”
” أنا رايح أصحي البيت و اعرفهم ”
أنهى معه المحادثة، و طفق يرسل الضحكات بملء فمه وهو يقول:
” سوريا تحررت هيه، سوريا تحررت.. عقبال غزة و الباقي يارب ”
*****
ظل يبتسم بسعادة حقيقية تنمو فقط بداخل المؤمن الصادق المحب لإخوانه، و هو يعيد مرارًا تلك المحادثة التي قام بتثبيتها أعلى الدردشات في الواتس.
بينما في داخل المنزل، وهم يتناولون الحلويات كانوا يتحدثون عن الأحداث الجارية، فقال
” سيف ” قبل أن يلتهم اصبع زينب و تبدأ زينب في البكاء:
” شفت فديو وهما بيهدموا التماثيل في الشوارع، البعيد كان عامل لنفسه و لابوه في كل شارع تمثال، فاكرين نفسهم اللات و العزى ”
ضحك الجميع، و أردف ” مُجاهد ” وهو يأكل ملعقة من أم علي حتى صار علي يتيم الأم:
” أهم اتهدوا زي ما رسولنا اللهم صلِّ و سلم و بارك عليه هد أصنام اللات و العزى ”
عندما ذُكر رسول الله تلقائيًا وضع ” إبراهيم ” يده على قلبه و ردد الصلاة عليه، مما انتبه له
” سيف ” و تساءل في استفهام:
” أنت ليه كل إما نصلي على النبي عليه أفضل الصلاة والسلام، بتحط ايدك على قلبك ؟ ”
” لأن الأتراك ورثوا هذه العادة منذ عهد الخلافة العثمانية، فوضع اليد على الصدر عند سماع أحاديث النبي أو ذكره بغرض ألا يطير القلب من شدة الفرح، و احترامًا و حُبًا للرسول مُحمد صل الله عليه وسلم ”
قالها ” مُجاهد ” الذي عاش خمس سنوات في تركيا، في حين أن ” إبراهيم ” كان يمضغ الحلوى ببطء و لم يستطع إجابة سيف و الأكل في فمه.
قال ” زين ” الذي كان يرتشف القهوة السادة (بدون سكر):
” عام 1956 عندما انقـطع بث الإذاعة المصرية في القاهرة خرج المذيع السوري عبد الهادي بكار ليُصرح «من دمشق هنا القاهرة» و بعد ثمانِ وستون عامًا يردها الشعب المصري
«من القاهرة هنا دمشق.»
ردت ” لين ” باسمة:
” ربنا سبحانه و تعالى قال في كتابه
{إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَة} و ها تفضل أمة واحدة ليوم الدين بإذن الله ”
..
مثلما حالفني الحظ، و وهبني الله عقلًا ناضجًا أستخدمه بطريقة نافعة، و جعلني أسرد لكم الواقع المرير الذي حدث في بلادنا الشقيقة «سوريا» من سنواتٍ عدة على يد الطاغية
«بشار الأسد» و معاونيه، ألهمني مرةً أخرى لأسرد الأحداث المواكبة و الأقوال التي قالها اخواننا الأحرار؛ على ألسنة بعض الشخصيات التي نتابع أحداث حياتها، و عندما أضاء لي القدر نورًا في عقلي، فكان عليّ استخدام هذا النور بطريقته الصحيحة لإنتاج الشخصية الخيالية المناضل السوري «إياد الريحاني» و في الحقيقة تعتبر واقعية أيضًا، فالحمد لله الذي جعلني أشهد تحرير سوريا من بطش أعداء الله و الرواية لا تزال قيد الكتابة، فبما أني سردت ما حدث لهم من سنوات، سأسرد أيضًا انتصارهم و فوزهم ببلادهم ثانيةً، و إنه لشيء رائع أن يتلاعب الكاتب في الزمن و الوقت و المكان بإرادته مع شخصياته دون أدنى عوائق تعيقه من فعل ذلك، فالأهم التنسيق بينهم، كما ساعدني أزرق العينين « قُصي» بادخال الأحداث مع أفكار ملائمة، و جيراننا من عائلة الخياط كانوا مرحبين بتلك الفكرة جدًا عندما عرضتها عليهم، و أوافق الرأي في كل كلمة قالها أحد المهذبون على تطبيق « الفيس بوك»..
حين يسقط عرش ظالم فإن عروش الظالمين جميعًا تهتز خوفًا و رُعبًا لأن الرسالة واضحة: العدالة قادمة وإن طال الزمن ! بيوت الظالمين كبيوت العنكبوت تراها متشابكة و ممتدة و مترابطة لكنها أوهن البيوت؛ تنهار عند أول مسحة من يد القدر .
سقوط ظالم يخيف بقية الظلمة الذين ظنوا أنهم بمأمن، تمامًا كما تلقي حجرًا في بحيرة راكدة فيهتز السطح في دوائر متتالية لتصل الرهبة إلى شواطيء من ظن نفسه بعيدًا عن الموج.
فكلما سقط ظالم علا صوت الحق ليهمس في أذن الظالمين الآخرين: سيأتي دوركم مثله، وإن غدًا لناظره قريب …
(والله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون).
قال ” مُجاهد ” وهو يقتلع عين الست ليأكل رموشها:
” إحنا بقى دورنا إيه في الليلة دي كلها ! دورنا الجهاد، جهاد بالكلمة جهاد بالمال، اللي تقدر عليه جاهد بيه ”
رد ” سيف ” باسمًا:
” أنا الحمد لله مُقاطع لكل المنتجات الأجنبية اللي بتساند اسرائـيل من أول الحرب ما بدأت ”
” جدع يا سيف، المقاطعة جهاد ديني أصبح واجب على كل مسلم شريف حُر يعمله ”
تساءلت الصغيرة ” ملك ” في استفسار عفوي بلهجة ملوثة بالانجليزية؛ نظرًا لمكوثها ببلاد الغرب و عدم تعليمها العربية أو المصرية كاملة:
” مامي، هي boycott مثل جهاد في الاسلام ؟ ”
ابتسمت الأم وهي تربت على ظهر ابنتها الجالسة بجانبها، لتقول في توضيح:
” حبيبتي لوكا، في Prophetic hadith
أنَّ النَّبيَّ ﷺ قَالَ: جاهِدُوا المُشرِكينَ بِأَموالِكُمْ وأَنْفُسِكُم وأَلسِنَتِكُم. ”
رواهُ أَبُو داود بإسنادٍ صحيح.
” يعني The bottom line، من قاطع بضائع الكفار المحاربين وقصد بذلك إظهار عدم موالاتهم ، وإضعاف اقتصادهم ، فهو مثاب مأجور إن شاء الله تعالى على هذا القصد الحسن، لأن هذه الأموال تذهب لشراء الأسلحة لمحاربة المسلمين، و إذا كان مقاطعتهم يضعف الاقتصاد فهذا يعتبر جهاد، لأنكِ بذلك الفعل يا حبيبتي تكوني قد جاهدتِ بما تملكين، ينبغي علينا نحن المسلمون مساعدة اخواننا في كل مكان سواء بالكلمة أو بعدم شراء المنتجات التي يستنفع من مالها أعدائنا…
Do you understand the
point, my dear ? ”
أومأت في براءة:
” Yes mom ”
قال ” إبراهيم ” بنظرة انتقام يشوبها الحُزن:
” الله أونايدن انتقامن ألصن بالذات اللي في تل أبيب عشان عددهم هناك أكتر ”
” مفيش حاجة اسمها تل أبيب، ده وهم فاشل زرعوه جواكم، اسمها قرية الشيخ مؤنس/يافا ”
قالها ” مُجاهد ” الذي عمل جاسوس لسنوات في الموساد و فهم طباع اليهود الصهاينة جيدًا..
” اومال إيه تل أبيب دي ؟ ”
تساءل بها إبراهيم في فضول، فأجاب في توضيح:
” تأسست تل أبيب عام 1909م في العهد العثماني، وكانت عبارة عن حي سكني لليهود في شمالي مدينة يافا يعرف باسم “أحوزات بايت”، وهو اسم النقابة التي بنت الحي، وفي عام 1910 تم تغيير الاسم إلى
تل أبيب، بس لما قامت الحرب العالمية الأولى العثمانيون طردوا اليهود برا يافا و لما جت بريطانيا في أواخر 1917 استولوا عليها و سمحوا لليهود بالعودة للحي و مدينة يافا، بعد كده بدأ العرب في التخاذل عن فلسطين و بدأ اليهود يكبروا في يافا و الحي بتاعهم لحد ما عملوا تل أبيب بطريقتهم، لكن هي في الأصل فلسطينية عربية و ستظل ”
كانوا منشغلين بالحديث عن الأحداث الجارية في البلاد، و ” أُبَيِّ ” في عالم آخر مع ” نورا ” يقوم بارسال الملصقات العاطفية على تطبيق الواتس، ثُم يحك ذقنه النابت باسمًا بحُب، و يعود ليُرسل لها الرسائل الغرامية، غير منتبه تمامًا لوالده الذي مد بصره يقرأ في صمت و يبتسم تزامنًا مع ابتسامة ابنه، كلما أرسل رسالة غرامية لابنة أخيه..
صوب الجميع أنظارهم تجاه ” مُجاهد و أُبَيِّ ” و أخذوا يضحكون ضحكات مكتومة، لينتبه أُبَيِّ أخيرًا لنظرات والده التي تخترق المحادثة، مما شهق في دهشةٍ، و هُنا ركض التلعثم ليقفز على لسانه:
” في.. في.. في إيه ! ”
” طلعت مش سهل، ميه من تحت تبن ”
قالها ” مُجاهد ” غامزًا له غمزةً ذات مغزى، مما نهض الآخر في خجلٍ اقتحم بشرته القوقازية فجعلها وردية، بينما ضحك سيف و إبراهيم عليه، أما ” زين ” ابتسم في صمتٍ، فقد بات يعرف الآن أن ” أُبَيِّ ” يشبهه في عدة طباعٍ، منها الشخصية الخجولة عند الحديث عن الحُب، و في نفس الوقت يخفي بداخله شخصية تعج بالرومانسية، لا تظهر إلا مع المحبوب.
تلجلجَ ” أُبَيِّ ” و قال وهو يهرب لغرفته من نظراتهم:
” سهرة سعيدة، تصبحوا على خير ”
” سعيدة مبارك يا خويا ”
قالها والده وهو يتبعه بنظراته، ثُم تساءل بعد أن شعر بالملل من عدم تواجد أُبَيِّ بينهم:
” هو الواد قُصي فين ؟ حد ينادي عليه عشان زهقان و عاوز انكشه شوية ”
ردت ” لين ” في رفضٍ رقيق:
” سيب الواد في حاله يا مُجاهد ”
” لما بعانده بحس براحة، نادوا عليه اخلصوا ”
زفرت زوجته بقلة حيلة، و راحَ إبراهيم يستدعيه:
” ولاه يا نجلاء، تعالَ كلم أبوك ”
رد “قُصي” يرمق إبراهيم بتحذير مُضحك:
” أنا مش هنا، روح قوله كده ”
” اللي تشوفه يا باشا ”
دلف ” إبراهيم ” يقول لـِمُجاهد:
” قُصي بيقول لك إنه مش هنا ”
” وهو ما يعرفش إنك بتفهم الكلام بالمتشقلب، فبعتك ليا ! طب اقعد أنا طالع له ”
كاد أن يخرج، و لكن فوجئ بظهور قُصي أمامه قائلًا:
” أنا كنت عارف إن فهمه على قده، ها نعم يا بابا ”
” أقعد يا سهر الليالي إما نتكلم شوية ”
مَدَّ نَفَسه و أَخْرجه باتساعٍ، استعدادًا للمجاكرة..
” ما تقوليش كده تاني ”
” أقولك يا نجلاء ! أصل حاسس إنك بتنبسط لما حد يقولك يا نجلاء ”
” استغفر الله العظيم، ما تحسش تاني يا ميجو ”
” ولاه، احترم نفسك.. إيه ميجو دي ! لازم يكون في احترام بين الآباء و اولادهم ”
ابتسم ” قُصي ” ساخرًا، و هتف:
” ما تقول لنفسك ! أما عجايب بصحيح ”
” أنت بتقول إيه ؟! ”
” موته و صلي عليه ”
ضحك الشباب ضحكة مكتومة، و نهض ” زين ” لاجراء مكالمة تخص العمل، بينما ” مُجاهد ” التفت لزوجته بتعصب:
” شايفة دلعك للواد يا هانم ! بيرد عليا الكلمة بكلمة ”
همست ” لين ” بنفاذ صبر:
” ربنا يهديك يا مجاهد ”
لم يستطيع سماعها جيدًا، فاستدار لابنه يوبخه:
” ما أنا معرفتش أربي ”
” ده ذنبك مش ذنبي ”
ضرب والده كفًا بكف في استياء، و حاول التحكم في أعصابه مُردفًا:
” أنا ها اصبر عليك لحد إما تتخرج، و ها تشتغل مع أخوك في الشركة اللي أنا حطيت لك أسهم باسمك فيها، و وريني بقى ها تتعوج ازاي ”
هتف ” قُصي ” في جدية بأعين غاضبة تلك المرة:
” و قولت لحضرتك كذا مرة أنا ليا دماغ لوحدي و ها اشتغل بكيفي، مش عاوز اشتغل مع أُبَيِّ، أنا ما دخلتش قسم الفلك عشان ابقى بيزنس مان ! أنا ليا طموح بسعى أحققها، فأرجوك متبقاش عائق قدامي.. تمام ؟ ”
” أنت مش قادر تفهم ليه إن أنا مش ها اطمن عليك غير و أنت و أخوك شغالين مع بعض ضهركم في ضهر بعض، أنت مش ها تتصرف بدماغك و تشتغل لوحدك، خلص الكلام ”
ما صرح به ” مُجاهد ” أثار أعصاب ” قُصي” و هيّجَه، فمسح على وجهه يستغفر الله بهمسٍ، ثُم قال في هدوء مزيف:
” أنت على راسي يا بابا، بس محدش يفرض عليا حاجة ولا يقولي اعمل إيه و معملش إيه، دي دماغي أنا و أنا اللي أوجها بإرادتي ”
” جاك كسر دماغك، هو أنت فاكر عشان ربنا رزقك الذكاء يبقى تتذاكىٰ عليا ! لا يا عين أمك فوق، أنا ولادي يمشوا تحت طوعي لحد ما أموت، لما أبقى أموت ابقى امشي بكيفك، فاهم ؟ ”
بعد قول ” مُجاهد ” الذي عكر صفو مزاج الجميع، عمّ الصمت عليهم، بما فيهم ” قُصي ” الذي أجفل الغضب عينيه الزرقاء، و أخذ يُحدق النظر في عين والده، مما توتر الأخير و ازداد ارتباك ” لين ” بينهما، و فرّ ” إبراهيم ” يتبعه ” سيف ” للحديقة، بلع ” قُصي ” ريقه الذي علق في حلقه بسبب هدوئه المُوَتَر لهم، و تنفس بهدوءٍ ليقرر مُسَايَرَتُهُ في الحديث؛ حتى ينتهي من الشد و الجذب بينهما، و في النهاية يفاجئ الجميع و يفعل ما يجول في رأسه..
” تمام يا بابا، اللي تقوله هو اللي يتنفذ ”
لم يرد والده بشيء، و ظل يتأمله في صمتٍ، مدرك تمامًا عناد ابنه و إصراره على اتخاذ قرارته و تطبيقها مهما كلفه الأمر، فلا يدعِ أحدًا أبدًا أن يتخذ قرار يخص حياته بدلًا منه.
قال ” مُجاهد ” أخيرًا في محاولة منه لاكتساب لين رأس ابنه الصلب:
” تشرب عصير ؟ ”
” لأ، صودا سودة ”
” إيه ! ”
” عاوز صودا سودة، مش خمرة يعني.. مشروب غازي والله ”
أعطت له والدته كُوبًا، و قالت باسمة للتخفيف من حدة الموقف بين زوجها و ابنها:
” صلوا على النبي، أبوك عاوزك أنت و أخوك مع بعض دايمًا يا قُصي، هو مش قاصده حاجة تضايقك، و أنت يا مُجاهد ابقى اتكلم معاه بأسلوب كويس عشان ما يفهمش الكلام غلط ”
صمتا للحظاتٍ، ليبدأ مُجاهد تغيير الحديث بنبرة مرحة:
” عروستك عندي بعد ما تتخرج إن شاء الله ”
وضع الكوب من يده، و قال في رفضٍ تام:
” عروستي ! أنا مش ها تجوز أصلًا، و لا الزواج نفسه شاغل بالي ”
” طب اسمع مني للآخر ”
” يا بابا الكلام في الموضوع ده بالذات منهي تمامًا ”
مال والده بجسده للأمام، و أردف غامزًا:
” بنت زوجة رجل الأعمال منير الأنصاري، منة يا قُصي، البنت اللي كانت معاك في المهمة إياها ”
اتسعت عين قُصي بعدم استيعاب، و صاح في دهشةٍ لم تكن في الحُسبان:
” مِـنــة ! ده وشها قد كف ايدي، دي لو جيت ابوسها، أوزع بعدها قُرص رحمة و نور.. !
ولا ابوسها واحطها في النيش ! نفترض إني وافقت اتزوج، بس هات لي واحدة طول بعرض كده.. إنما المفعوصة دي مش محصلة صدري، أنت كده بتظلمني و الله ! ”
” طيب ما أمك قصيرة، شوفتني اشتكيت في مرة ! ”
” ها تشتكي ليه و أنت فرق بينك و بينها خمسة سم ! ”
” صدق إنك قليل الأدب ”
” أصدق ! ده أنا أبصم بالعشرة ”
قالها، ثُم نهض يصعد لبيته الصغير فوق سطح المنزل، تاركًا والده في حالة من الاستيعاب البطيء لتصريحات الفتى العنيد بالنسبة له.
______
على أحد المقاعد في الحديقة جلس ” زين ” يتحدث مع ” سيف ” حول ارتياده للنادي الأهلي مؤخرًا، قال ” زين ” بنبرة تحفيز وهو يربت على فخذ ” سيف “:
” اسمع كلام أخوك و كمل تعليمك بجانب الكرة، ما تخليش موهبتك تبقى عائق قدام شهادتك، احضر التدريبات و الماتشات بس حاول برضو تحضر المحاضرات المهمة في الكُلية، المدرب مش ها يمنعك تحضر المحاضرات ! ”
أومأ سيف في تردد:
” الكرة دي كانت حلم طفولتي، و لما أشوفه بيتحقق قدام عيني، أهمله ! أنا عاوز أركز في حاجة واحدة بس، لكن الطب و الكرة صعب يا زين ”
” مش صعب لو عندك إصرار و عزيمة، أنت بعد ما خلصت تلت سنين طب ها تيجي تتنازل بسهولة كده ! متبقاش خايب و كمل تعليمك ”
” أنت و بدر كلامكم صح و مقدرش أعترض عليه، بس خايف حاجة من الاتنين تسقط مني ”
” حُط الجُملة دي نصب عينك و أنت مُقدم على أي شيء « ماخُلقتُ لأنهزم و ما خلق الوصول إلا لي» و استعن بالله و ما تخافش، أنت قدها..
إحنا واثقين فيك إنك تقدر ”
نظر له ” سيف ” مُبتسمًا من أثر كلامه المحفز الذي ترك تأثيره في قلبه؛ فزاده إيمانًا بنفسه، و تفاؤل بالقادم و بقدرته على تخطي الصعاب إذا ما هرولت تعوق طريق تقدمه.. أراحت كلمات
” زين ” التحفيزية قلب ” سيف ” المضطرب، فسكن بين أضلعه مُعلنًا الانصياع لرغبات النجاح و الاصرار على الفوز في الرحلتين، و شكر
” زين ” بابتسامة امتنان، مما بادله الأخير الابتسامة الداعمة، فمن الجميل أن يكون أثرك جميل في حياة من حولك.
بعد لحظاتٍ، أقبلت ” شهد ” عليهما تحمل طبق «جاتو» في يديها و تنظر أمامها بشرود، في حين انتبه ” زين ” لظهورها و ابتسم تلقائيًا فور رؤيتها، ثُم أدار وجهه؛ لئلا ينكشف أمره و تفضحه عينيه المعجبة بها.
اقتربت منه و مدت يدها في خجلٍ تقول:
” اتفضل، ماما بتقولك الجاتو صحي، يعني معمول بسُكر ستيفيا و دقيق صحي ”
تأملها للحظاتٍ مُتناسيًا نفسه، مما أصابها التوتر من نظراته، و وضعت الطبق بجانبه، و قبل أن تذهب وصلها همسهُ يعتذر في خجلٍ:
” شُكرًا، آسف ”
ابتسمت نصف ابتسامة دون النظر لوجهه، و أخذت تحدث نفسها بعدما ولت ظهرها لهما:
” ماله ده كل إما يشوفني يقعد يبص لي ! هو أنا فيا حاجة غلط ؟ ”
ظل ” زين ” يتابعها بنظراته حتى اختفت من أمامهما، و أخرجه ” سيف ” من شروده قائلًا:
” عينك ها تطلع منك في إيه ! بتبص للبت كده ليه ؟! ”
خفض بصره باحراج، و أخذ يأكل في تريث، ليعترف أخيرًا:
” مش عارف لما بشوفها بيحصل لي إيه، و مش ها اقدر أقولك بحبها عشان مفيش أي علاقة تربطني بيها ولا حتى نعرف بعض كويس، بس اللي أقدر أقوله و حاسس بيه، إني معجب بشهد، و هي أول بنت تشغلني، مش عشان جمالها والله، بس لما بشوفها بحس إن الدنيا لسه بخير، ملامحها فيها راحة للقلب و للعين.. ”
تنهّد بارتياح و تابع:
” لما بشوفها، بحس إن هي الأمان اللي مش عاوزه يفارقني أبدًا، قلبي بيطمن في وجودها ”
رفع ” سيف ” حاجبه في ابتسامة خفيفة، و أخذ يومئ برأسه و يقول:
” فاهمك، فاهمك كويس أوي ”
طوق كتفيه و قال بنبرة مرحة جادة:
” ده اسمه الحُب يا زين، إن قلبك يحس بالأمان التام لوجود الشخص ده قدامك، معناه إن قلبك حابب الشخص ده و مش عاوز غيره خلاص، أنت بتحب شهد، الحُب من أول نظرة مش وهم، ده حقيقي، و أنت بتتعايش معاه دلوقت ”
ابتسم ” زين ” خلسة، ثُم اتسعت ابتسامته و تساءل بعيون لامعة حالمة:
” طيب و العمل ؟ ”
” لازم تكلم عمي، هي آه لسه في تالتة ثانوي، بس شهد بنت جميلة و محترمة و العين عليها كتير، أول ما ها تخلص ثانوية ها تلاقي العرسان طوابير، فأنت توكل على الله و اتقدم من دلوقت يا معلم ”
تأمله ” زين ” للحظات يفكر في كلامه، ثُم هز رأسه بالموافقة من ناحية المبدأ، و نهض يستأذن ” مُجاهد ” للانصراف.
كان ” إبراهيم ” قد استمع لنصف حديثهما، وهو يجلس بالقرب منهما، و لكنه كان منشغلًا بمراسلة أشقائه الشباب في تركيا؛ لذا لم يخوض الحوار معهما.. قال قبل انصراف ” زين “:
” و مين قالك إن لو عمو مجاهد وافق شهد ها توافق ؟! ”
” و أنت مالك أنت يا هادم الملذات ”
قالها سيف مازحًا إياه، بينما زين رمقه للحظات يعيد ما تفوه به في رأسه، فوجد أنه ربما يكون مُحقًا بشأن ذلك.. ماذا لو لم توافق شهد عليه ؟
قال ” إبراهيم ” بعفويته المعتادة:
” عشان أنا أعرف شهد لما كان عمو مُجاهد في تركيا من زمان، و أنا و هي بنحب بعض و مستني لما تخلص ثانوي و أتقدم لها، حتى عمو مُجاهد عارف، و بابا قاله إن شهد لإبراهيم لما تخلص ثانوية، و ها تسافر معايا تركيا نعيش هناك ”
نظر له ” سيف ” بعدم تصديق، بينما ” زين ” تصلب مكانه يستوعب ما أردف به ” إبراهيم ” في بُطءٍ، و عقله لا يريد تصديق ذلك.. عقد لسانه عن شرح ما يشعر به للتو، و رج الحُزن قلبه، فتنهّد بألمٍ يقرص معدته و ينخر في قلبه، ثُم همس في تأثر شديد لم يَستطِع إخفائه:
” ربنا يتمم بخير ”
تركهما، و غادر بسيارته دون حتى الاستئذان من صاحب المنزل أو توديع صاحب المناسبة..
التفت ” سيف ” يتحدث لـ ” إبراهيم ” بغضبٍ مِنهُ:
” أنت إيه اللي هببته ده ! أنت ياض مش قولت لي إنك بتحب واحدة جارة لجدك اسمها آلاء ! مالك و مال شهد بقى ؟ ”
هزّ كتفيه في براءة مزيفة ليقول:
” بابا و عمو مُجاهد اللي عاوزين كده ”
” كلمة واحدة و رد غطاها، أنت بتحب شهد ولا لأ ؟ ”
” مش عارف ”
صاح ” سيف ” بنفاذ صبر عليه:
” يعني إيه مش عارف ! يا آه يا لأ ؟ ”
” ساعات بحس إن بحبها و ساعات بحسها أختي ”
” يبقى تصرف نظر عن الحوار ده يا إبراهيم، زين ها يتزوج شهد إن شاء الله، و أنا اللي ها تصدر في الموضوع أو أخلي بدر يحلها و يقنع عمي”
فكر ” إبراهيم ” لثوانٍ، و هتف في حيرة:
” طيب نفترض شهد مش عاوزه زين ! هو الزواج في مصر بالعافية ؟ ”
” ابننا ما يترفضش، شهد لزين و زين لشهد.. خلص الكلام ”
…. هذا ما حدث أمس، و تلك الأحداث الخاصة بسوريا بالتحديد، هي التي جعلت صاحب العيون النيلية؛ يجلس صباح اليوم أمام الضُباط في السفارة بتهمة التعدي على مراقب لجنة.
” قُصي ” الوحيد في أشقائه الحاصل على الجنسية الفرنسية لولادته بفرنسا، أثناء عمل مجاهد التابع للاتتربول في مدينة ليون الفرنسية ولد قُصي هناك، و في دولة فرنسا يحصل المولود بها أيًا كانت جنسيته على الجنسية الفرنسية تلقائيًا، بخلاف الدول الأخرى، فلكل دولة لها شروطها الخاصة للحصول على جنسيتها، فمثلًا ” أمريكا ” لا تعطي الجنسية إلا لمن يتنازل عن جنسيته الأم و تكون جنسيته الأم هي الجنسية الثانية له و أمريكا جنسيته الأولى و الأصلية، أو إذا كان الأب مثل ” مُجاهد ” حامل للبطاقة الخضراء لمدة 5 سنوات على الأقل
عندهم و معه أسرته؛ لذلك صاحبنا من ذوي الجنسيات المزدوجة، أي أنه يحمل أكثر من جنسية، و جنسيته الأساسية هي الدولة الظالمة
” أمريكا “، لهذا السبب لا يستطيع أداء الامتحانات في لجان عادية أو في جامعته، بل يؤديها في السفارة لكونه صاحب جنسية مزدوجة، و بعد الانتهاء من السنة الدراسية الأخيرة، يتجه” قُصي ” إلى بلده الأم لتنفيذ مخططه الذي لطالما حلم به يطبقه على أرض الواقع، و لعلمه جيدًا أن أمريكا و برغم استبدادها للعرب، لكنها تقدم الدعم الكافِ للأذكياء أمثال
” قُصي ” في مقابل تقديم ما عندهم لهم.
حتى أنه لا يؤدي خدمة الجيش بعد التخرج مثل بقية الشباب المصريين، لأنه في الأصل ليس مصريًا برغم كونه من أب و أم مصريين، و ما قدمه من دعم لبلده في الفترة الأخيرة، كان بمحض إرادته العمل مع الجيش المصري كمُجند سري لهم، و عندما علمت أمريكا بالأمر عندما انكشف مخططهم تجاه ” يهوشوع ” خاله
” يوسف ” و رغبتهم بايقاع الزعيم المساند و الداعم للماسونية في قبضتهم، أفرجوا عن بقية الكتيبة التي تم تقديمهم للمحاكمة الدولية، في مقابل البُعد التام عن “قُصي” و اعتباره واحدًا من أبناء أمريكا اللذين سيعودون لها لعلو مجدها كما يظنون هُم، و ما لم يعرفه “قُصي” عن نفسه بعد؛ أنه مُكلل بالحصانة الأمريكية و المصرية معًا، بمعنى حمايته مهما كلفهم الأمر، و بدون أيضًا علمه بذلك؛ لكيلا يستخدم الحصانة لصالحه و بطريقة خاطئة، فقط ” اللواء عزمي و ضابط المخابرات كريم ” هما اللذان يعرفان بهذا القرار، و الذي يتمتعان به أيضًا، و لكن الحصانة الخاصة بهما صادرة من بلدهما الأم فقط ” مصر “.
عندما كان يحرز تقدمًا هائلًا في المدارس بالخارج، و انتبه له المعلمون أنه أذكى طالب في صفه، و أرادوا أن يتخطى الصفوف الدراسية باختبارات الذكاء التي أعدوها له، ليستطيعوا الاستفادة من ذكائه على أكمل وجه؛ خاف
” مُجاهد ” من تحكم الدول بابنه و جعله مثل عرائس الماريونيت في أياديهم، فكان يُزَوِر اجابات ” قُصي ” بطريقته حتى بدأ المعلمون و خبراء اختبارات الذكاء يصرفون نظر عنه، و لكن الآن نضج ” قُصي” و أصبح والده يخاف منه و عليه أيضًا.
عند أداء امتحان نصف العام الخاص به، و الذي يختلف تاريخ أدائه عن الجامعات الأخرى، فهم في الجامعات المصرية يؤدون امتحانات العملي و الشهور قبل أداء نصف العام.. وصلته رسالة من
” إياد ” و كان وقتها قد نسي اغلاق هاتفه و تركه مفتوحًا ببيانات الهاتف أيضًا، أو أنه فعل ذلك بإرادته، لا أعلم.
كان قد أنهى امتحانه بكل بساطةٍ، و شرع يراجع إجابته الأكثر من نموذجية، أي أنه تفوق على المنهج و وضع معلومات من رأسه العبقري، فانتبه للرسالة الصادرة و التي محتواها..
” بشار عامل سجون تحت الأرض مكونة من سبع طوابق، موجود عنا سجون أكتر من عدد البشر، اشي بيشيب الراس، كتير مقهور يا قُصي، اخواني تحت الأرض عم بيموتوا، ما بعرف شو بدنا نعمل، كتير مقهور عليهن، عم نسمع صراخ المساجين و الشباب عم يكسروا الاراضي و الحيطان، بس ما عم نلاقي الباب ! ”
فور قراءته لمحتوى الرسالة، انتفض قلبه و أدمعت عيناه، و خفق قلبه بحُزنٍ ترك أثره على ملامحه الجميلة، فراسله كاتبًا:
” ده ابن حرام مصفي، أكيد بعد الفتح ها يبقى فيه عواقب و أحداث بتقشعر لها الأبدان، بس الأهم إن أهم خطوة حصلت وهي فتح سوريا من جديد الحمدلله، قلها و هون على نفسك يا صديقي ”
في تلك اللحظة سحب منه المراقب الهاتف بقسوة، و صاح عليه بصرامةٍ جعلت قُصي في كامل غضبه:
” التزم بتعليمات الامتحان يا إما تسلم ورقتك و تتفضل ”
لم يُستفز قُصي مما قاله المراقب، بقدر غيظه من طريقة سحبه للهاتف أمام زملاؤه، نهض بجسده الصلبُ، و فقد زمام الأمور وهو ينقض عليه انقضاض الأسد الجامح على فريسته و النمر الكاسر على طريدته، يلكمه في وجهه و يهتف بغلظة القول:
” أنا اللي يوجه لي إهانة أوجهه لجُهنم ”
تناسى أنه في لجنة امتحان، و تناسى موضعه في السفارة، و تصرف بهمجية مع المراقب المسكين الذي نال ما يستحق من إهانته لهذا الشبل الجارح.
جاء الآخرون و سحبوا المراقب من تحت يده، الذي ظل ينزف دمًا من أنفه و ينظر لقُصي في بُغضٍ شديد، بينما جاء ضابط و أخذه بغضبٍ لموقعهم في السفارة، و ليس بقسم الشُرطة.
تركه و ظل يتحدث مع زميله عن بائعات الهوى، و بعد ما تطاول عليه قُصي بجُملته:
” أنا اللي كنت بحمي بلدك لما أنت كنت مع سعاد”
استدار له الضابط السمين
(صفة و ليس استخفاف) و قبل أن يتجه له، جاءهم زميلهم الثالث يهمس لهما:
” الواد ده مَحمي من الكبار، مشوه ”
فهم الضابط على الفور بيت القصيد، و تغيرت لهجته تمامًا ليقول له بأدبٍ:
” حصل سوء تفاهم بينك و بين المراقب، بس مكنش يصح تتعامل معاه كده، على العموم تقدر تتفضل تكمل امتحانك أو تمشي ”
نهض ” قُصي ” الذي كان جالسًا حينها واضعًا قدم فوق الأخرى، و لا يزال يتبادل الرسائل مع صديقه السوري الأبيّ، ليقول بنبرة ضيقٍ:
” جتك نيلة و أنت بـِفخاد ”
” حضرتك قولت حاجة ؟ ”
” بقولك سلامي لـِسُعاد ”
ثُم تركهم، و خرج قاصدًا منزلهم بواسطة سيارة والده، التي أخذها دون علمه في الصباح، و تركه نائمًا دون انتظاره لتوصيله، و عندما استيقظ مُجاهد؛ جن جنونه من سرقة قُصي للسيارة بغير استئذان في كل مرة يخرج من المنزل، و أخذ بالاتصال عليه أكثر من مرة، حتى ملّ قُصي
و وضعه على « الحظر» لحين خروجه من الامتحان.
___________________
في المكان المخصص لتنفيذ مشروع ” بدر ” المُلحق بشركة ” مهندس مرتضى “.. جلس يحتسي الشاي مع العم ” عبده ” و يرتشفه شيئًا بعد شيء، مع تبادل أطراف الحديث عن الأحداث الأخيرة بالدول..
قال ” بدر ” بنبرته الهادئة:
” ربك عادل، و مهما طال الظُلم مسير الحقوق ترجع لصحابها ”
رد العم ” عبده ” بتأكيد:
” و نعم بالله، عقبال فلسطين يارب، أنا قلبي واكلني على اللي في الخيام في عز التلج دول ”
تنهّد بدر بحُزنٍ، ثُم دعا من صميم قلبه:
” يا رب دثر عبادك في الخيام بالدفء، و اجعل الصقيع والمطر والريح دفئًا وسلامًا عليهم ”
” يارب يا بدر، آمين يارب ”
حمد الله بعد انتهائه من كوب الشاي بالنعناع الذي يدمنه، ثُم نهض مُستعينًا بالله ليُكمل عمله الشاق بمساعدة العم عبده و مهندسون آخرون، فكان يعمل بِجِدٍ و جَدٍ و جُهدًا و اجتهادًا، ساعيًا في نجاح مشروعه، داعيًا الله في كل خطواته أن يكلل عمله الشاق بالنجاح.
لقد قطع وعدًا مع خال عائشة و خالتها؛ بشراء نصيبهم في البيت مقابل مبلغ مالي و الذي يعد حقهم الشرعي، و برغم أن ” بدر ” يعلم أحقية
” عائشة” في الميراث، و أنها ترث من ورث أمها مثل ” زين ” الابن الذي جاء من زواج شرعي وليس من زنا مثل أخته؛ إلا أنه لم يجازف بإخبارها بذلك الأمر و لم يفتحه معها، حتى لا يؤلم قلبها، و حتى لو كانت هيَ تعلم ذلك و تخفيه في نفسها، و لكن من ناحية ميراث والدها فهي لا ترثه، و هذا المنزل الذي تركه ” محمود ” لها كان قد سجله باسمها في الشهر العقاري و أصبح ملكية خاصة بها، و ليس ورث ترثه؛ بالإضافة إلى اعترافه بها ابنته من مائه بعد زواجه من ” ناهد “..
في هذا الأمر وُجد اختلاف بين العلماء عليه،
فمذهب جمهور العلماء أن ابن الزنا لا ينسب إلى الزاني ، ولو ادعاه و استلحقه به
«طلب أن ينسب إليه»، وإنما يُنسب إلى أمه فقط، و ذهب جمع من أهل العلم إلى أن الزاني إذا استلحق ولده من الزنا فإنه يُلحق به ، وهو قول بعض السلف ، و رواية عن الإمام أبي حنيفة.
وفي أقوال أخرى تقول « يرث ولد الزنا من أمه ولا يرث من الزاني» و بما أن عائشة ابنة زنا و لكن تم الاعتراف بها بشهادة ميلاد بعد الزواج، فأنها تعامل معاملة ” زين ” في ميراث أمها.
أصبح على كاهل ” بدر ” الشباب الآن، الكثير من المهام الشاقة التي عليه اجتيازها، و نجاح مشروعه هو أول خطوة في درب تلك المهام، و لم يتزحزح ” زين ” عن مساندته، فهو يمتلك عائد مادي تركه له والده لا بأس به؛ لذا قرر إزاحة بعض الحِمل عن زوج أخته، و شراء نصيب خاله و بدر يشتري النصيب الآخر، ليصبح البيت في النهاية مِلك للأخوين، و يتم تحقيق مرادهما بجعله دار لرعاية الأيتام و تحفيظ القرآن، في حين أن ” زين ” قد اشترى مؤخرًا شقة راقية في إحدى البنايات حديثة البناء للزواج فيها.
انتهى ” بدر ” من عمله، و غادر قاصدًا مركز الصحة النفسية و علاج الادمان، الذي وضع به
” عصام ” برفقة ” زين ” بعدما ذهب معهما
” عاطف ” لامضاء بعض الأوراق التي تخص ابنه، ثُم تركه و غادر كأنه لا يشكل فارقًا بالنسبة له، أو قد ارتاح أخيرًا منه.
عندما تم تسليم ” عصام ” للأطباء، قاموا بعزله على الفور لتدهور حالة الادمان عنده، فقد وصل ذروته، و منعوا عنه الزيارة، و لكن لرقة قلب
” بدر ” و حزنه من عدم اكتراث والديه له، حمل نفسه و قرر الزيارة بغرض الاستفسار عن حالته، فهذا هو اليوم الثاني أو بداية الثالث له في المصحة، أخبره الأطباء عن حالته الصعبة و صراخه الدائم؛ بسبب شدة احتياجه لجرعة
« هيروين» مما تألم قلب ” بدر ” و رغمًا عنه أدمعت عينيه أمام الطبيب، و اتجه يقف بالقرب من باب الحجز يستمع لصرخات ” عصام “..
بداخل الغرفة كان ” عصام ” يشعر بضياع و تيه و اكتئاب لا مثيل له، وحيد ضعيف يحك جسده بجنون تارة، و يصرخ بجنون تارةً أخرى طالبًا الهيروين؛ كأنه ملاذه الوحيد و خلاصه من تلك الأزمة.
أسند ” بدر ” رأسه على الباب، تاركًا لدموعه الانهيار وهو يقول بتعبٍ شعر به مثل وخز الصدر:
” حسبنا الله و نعم الوكيل، اللهم انتقم من كل ساعٍ لتدمير الشباب، اللهم احفظ هذا الجيل و ردهم إليك ردًا جميلا يارب ”
ظلمه أباه بتركه يموج في مزالق الحياةِ دون النظر للعواقب الوخيمة التي قد تلحق ضررًا بمستقبل ابنه، عصام ذلك الشاب الذي كان أمس طفلًا خجولًا رقيقًا حسنُ الوجه، عندما لم يجد الرعاية الكافية من والديه، ساقته قدميه للطريق الخطأ منذ نعومة أظافره، و نشب و ترعرع وسط تلك البيئة الفاجرة المليئة بالفسق و الفساد بعلم والديه اللذان انشغلا بجني الأموال من التجارة، خسئت تجارتهما بحق ما فعلاه في هذا الفتى المجروح من والديه، و المجروح من والديه لا يُشفى أبدًا..
كثير من الآباء يخلط بين حق الطاعة من الأبناء وبين استمرارهم للظلم وإيقاع الأذى النفسي لهم،
إن كان الشرع حثنا على برّ الآباء، فينبغي ألا ننسى أيضا حقوق الأبناء فهم أمانة.
و يصرخ الابن المقهور من داخل الغرفة التي تم احتجازه بها، يصرخ بدموع يُصعب وصفها، تنضج عينيه الحمراوان من شدة النحيب و البُكاء، يتحدث قلبه و جوارحه عدا لسانه، تقول بوهنٍ خرّ أمام معاني الظُلم:
” لا تتركني أتخبط في الحياة وحيدًا يا أبي، لا تظلمني يا أبي فأنا سندك في الكبر و أنيسك في أواخر العمر.. آهٍ يا أبتِ ”
____________
بعدما علم ” كريم ” بمعرفة ” بدر ” بصلة الدم التي تربطه مع ” رحيم ” كان في أوج صدمته، ليس لأن رحيم أخوه، و لكن لمعرفة ” بدر ” الحقيقة و كتمانها في نفسه طيلة السنون الماضية، لقد كان ” كريم ” على علم بالحقيقة مُنذ أسبوعٍ مضى، و لم يجد الوقت المناسب لمواجهة والده المستبد؛ بسبب انشغاله في عدة قضايا تخص البلاد، و أخوه الضابط ” رحيم ” قد أخبرته والدته بالحقيقة كاملة، و أن “فهمي عساف” مجرد أب وهمي له، و والده الحقيقي من زواجه دون علم زوجته الأولى هو اللواء المتقاعد
” رياض الكردي ” و لكن رحيم أسرها في نفسه بسبب انشغالهم بالمهمة الصعبة التي مرت الكتيبة بها، و بسبب التدريبات الشاقة التي لم تسعفه على فتح الأمر حتى بينه و بين نفسه، و قد تعجب
” بدر ” من ردة فعلهما العادية، كأنهما على معرفة مسبقة بالأمر، و لكنه فضل الصمت و عدم الحديث فيما لا يخصه أكثر.
و عندما سنحت الفرصة، أخبر رحيم أخوه بكل شيء، و كاد الأخير أن يصاب بنوبة قلبية مما يسمعه من صديق عمره ” رحيم “، و بعد ذهابهم للمشفى لاجراء تحاليل اثبات النسب و تأكيد صحة الكلام، خرّ الاثنان على مقاعدهما في صمتٍ تام استغرق بضع دقائق لاستيعاب الأمر..
هذا ” رحيم ” كان يتمنى بداخله أن تكون والدته تهذي بالكلام أو أن عقلها فسد و لا يحدث له ذلك، و بجانبه ” كريم ” يحاول التمرد على أنفاسه و جعلها تهدئ و تستكين ليستطيع التفكير بحكمة، فلم يقدر، و خرجت منه كلمة قبيحة يسب بها والده، فلَمْ يُبْدِهَا في نفسه و قالها بغيظٍ و غضبٍ أمام المارة، و أمام أخوه ليحاول الأخير تهدئته:
” كريم مش كده ! اهدى عشان نتصرف صح ”
” أنا ما شفتش جحود بالشكل ده، أنا بكره الراجل ده يا رحيم، ظالم و أناني و عمري ما حبيته ولا عمره حسسني إنه أب سوي، و حياة حرقة قلبي و حرقة قلبك لأجيب حقنا منه تالت و متلت ”
صمت رحيم يتأمل كريم الغاضب كالذئب المفترس، و راحت عينيه تبكي في صمتٍ تام و عجزٍ نال منه، فماذا سيقول وهو كان ينادي والده الحقيقي بـ ” عمي، أو رياض بيه ! ” طوال تلك السنوات الشحيحة من وجود الأب و حنان و حُب الأبوة.
في تلك اللحظة، جاءته الرسالة من ” رُميساء ” التي تخبره فيها بطردها من الامتحان، مما نهض في الحال و ترك كل شيء وراءه، و غادر قاصدًا كُليتها.

لم يطردها المعيد لأنها تأخرت؛ بل لأنها منتقبة..
كانت الوحيدة المتقبة في
” السيكشن” وهكذا تعامله مع الطالبات المنتقبات..
يوجد أناس كثيرون من تلك النوعية المختلة عقليًا، و هذا المعيد العنصري واحد منهم..
المساكين أبناء السنة الدراسية الجامعية الأولى، يظلون يعانون طوال السنة من رهبة و قلق و توتر غير طبيعي، مثلما يحدث مع فراشتنا الآن.

كانت تقف أمام بوابة الجامعة تنتظره و تبكي بشدة، حتى اتضح أثار الدموع على النقاب و بلله، بينما ” كريم ” جاء أخيرًا و عندما وقعت عيناه عليها، فتح لها باب السيارة لتركب وهي لا تزال تشهق باكيةٍ خائفة من رسوبها في المادة..

رفع لها النقاب لتتسع عيناه فور أن وقعتا على بركة الدماء تلك، صار وجهها أحمر من كثرة البكاء و الخوف من الرسوب و ضياع مجهودها و تعبها في مذاكرة تلك المادة، فمسح لها دموعها وهو يضغط على أسنانه بغيظ، حتى انتبهت له و خافت من سَحْنَتِهِ الغاضبة، ليقول بنبرةٍ هادئة عكس تعابير وجهه ضاغطًا بأنامله على ذقنها بلُطفٍ، يمنحها الشعور بالأمان:

” الويل ما ينام الليل للي يبكي عيونك الحلوين “

رمشت في قلقٍ، ثم همست:

” خايفة يا كريم، خايفة أسقط “

” و رب كريم لأبكيه بُكاء مُبكي على اللي ها يحصله من تحت ايدي “

ترجل من السيارة، و أخذها في يده يُطمأنها بتدليك يدها بأنامله لتكف عن الاهتزاز من الخوف، يبدو أنها تجهل قوة نفوذ ” كريم ” بعد.

خطى عتبة الجامعة، و قبل أن ينطق رجل الأمن،
أشهر هويته بين اصبعي السبابة و الوسطى بطريقة صارمة لا يأبه للعالم برّمته، و قال في نبرة فاترة دون حتى النظر لوجه الرجل أو الاكتراث للنظرات من حولهما:

” كريم بيه الكردي “

لم يعترف بأنه ضابط مخابرات، لأن ذلك يعد افشاء لعمله السري، و انما تلك الهوية تجعل رجل الأمن معرفة حقيقة عمله بالنظر في هيئتها، و لا يستطيع حتى النطق بافشاء عمل كريم بينه و بين نفسه.. فور أن علموا أمن الجامعة بذلك، أعطوا أمر بابلاغ رئيس الجامعة القابع في مكتبه الفخم لاستقبال
” كريم ”
و عادوا هم لعملهم غير قادرين حتى على التحدث في هذا الأمر بينهم و بين ذاتهم، لعلمهم جيدًا بأن الداخلية و رجالها لا يمزحون.
فور أن كشف كريم عن نفسه لرجال الأمن، لم يجرؤ واحد منهم على المجاكرة أو الاعتراض أو نطق حتى حرف واحد، فلا أحد يقدر على انتحال شخصية ضابط شرطة أو رجل مخابرات، إلا و أصبح في خبر كان.

تعجب بعض الطلاب اللذين شهدوا الأمر ولم يستطيعوا فهم ما يحدث.. كانوا يتابعون فقط بنظراتهم صاحب الملامح الجامدة و تلك المنتقبة ابنة السنة الأولى للطب الصيدلي تسير بجانبه ممسكة بيده كأنه أبيها أو ملجؤها من شرور العالم.

استقبله رئيس الجامعة استقبال بالغ مُبتسمًا بتوتر، فلم يعلم بعد مجيء سبب وجود رجل مخابرات في مكتبه..

جلس كريم واضعًا ساق فوق الأخرى، مُتحدثًا بغضب و بهدوء في نفس الوقت و رُميساء بجانبه تتشبث في كتفه كالصغار الخائفين من مشاهدة
” الدمية تشاكي ” شرح له كريم الأمر، فأمر رئيس الجامعة باستدعاء المعيد فورًا لمكتبه..

قال الرئيس « الدكتور فلان» بأدب مع ابتسامة بسيطة:

” وجود سعادتك في مكتبي شرف كبير ليا و للجامعة والله “

” عارف “

ازداد توتر الدكتور و قال:

” ما تقلقش يا كريم بيه، أكيد ده سوء تفاهم و ها يتحل و مفيش مشكلة أصلًا، زوجة سعادتك هتؤدي امتحانتها بدون أي مشاكل و المعيد ها يتعاقب “

” ده شيء مفروغ منه “

جاء المعيد يجر ساقه بارتباكٍ شديد، و يبدو أن الأمر وصل له..
وقف كالمجرم يرتعد خوفًا أمام كريم من نظراته، لينظر له الأخير بابتسامة ساخرة عقب قوله:

” ابعت اشتري حفاضات البسها، عشان من الرعب اللي ها تشوفه على ايدي لما أخدك زنزانة لوحدك عندي في السجن، ها تعملها على روحك كل شوية، و معنديش حمَّامات لعلمك يعني “

ثُم التفت بنظرة ثاقبة للدكتور يقول بلهجة صارمة:

” قبل ما تعين حد في الجامعة، تكشف على قواه العقلية، مش كل حامل شهادة يبقى مؤهل نفسيًا إنه يبقى مُعلم، دول طلبة صغيرين لسه طالعين من الثانوية مش فاهمين نظام الكُليات عامل ازاي، فرفقًا بيهم عشان ما يطلعوش مرضى نفسيين زي المريض اللي واقف ده “

قال جُملته الأخيرة وهو ينظر للمعيد نظرة جعلته يقضم أظافره من الندم، فيما معناها

” دلوقت تيجي لي السجن و أجننك زي اللي لابسه جن “

انحنى المعيد في الحال على قدمه يبكي في توسل و يترجاه بالسماح، مما رق قلب رُميساء و همست له:

” خلاص يا كريم عفوت عنه “

” أنتِ حقي و أنا لسه مخدتش حقي “

لجمت تلك الجملة لسانها، فلم تعقب بشيء، و ظل المعيد يبكي في توسل لدقائق امتدت لربع ساعة، مما زفر كريم بضيقٍ، و قال للدكتور الجالس بغير حول ولا قوة منه يتابع الأمر:

” ما يجيش الجامعة تاني، يتفصل نهائيًا “

هتف المعيد وهو ينهض و يعتذر بشدة:

” اللي تؤمر بيه يا باشا، بس سجن لأ أبوس ايدك “

” بوس “

مد كريم يده له ليُقبلها المعيد باكيًا، تحت نظرات الدهشة من رُميساء و رئيس الجامعة الذي يملك نفوذًا و سُلطة أيضًا، لكن أمام جهاز المخابرات و الداخلية لا يَعُد شيء، خاصةً و أن “كريم” مهم لدى دولته.

خرج المعيد من المكتب يجر خطى الخيبة وراءه، و أدت رُميساء الامتحان في مكتب رئيس الجامعة، و باقي امتحاناتها في ذلك اليوم، ثُم اصطحبها ” كريم ” ليصلها لبيتها قبل التوجه هو و رحيم و مواجهة والدهما الظالم..

قالت بابتسامة رقيقة، بعد أن اتخذت مكانها بجانبه في السيارة:

” أول مرة أحسن إني مش خايفة منك، أنا كنت خايفة لحد أنت ما جيت.. ياريت تحسسني دايمًا بالأمان يا كريم “

” طول ما أنتِ معايا ها تحسي بالأمان و أبوه كمان.. “

قالها بنبرة عاشقة، و التفت لها بابتسامته المخيفة في استطراد لحديثه:

” هتفكري تبعدي عني، ها تنسي يعني إيه أمان أصلًا “

نظرت أمامها و تنفست بهدوء، قبل سؤالها الذي يغزو قلبه فراشات برقة نبراتها الناجمة من أحبالها الموسيقية الصوتية:

” هو أنا إيه بالضبط بالنسبة لك ؟ “

” أنتِ الوطن يا فراشتي، و الوطن هو الأرض اللي صاحبها بيفضل يدافع عنها لآخر نفس فيه عشان دي حقه، مِلكه و روحه.. و أنتِ وطني يا رُميساء “

قالها وهو يمد أنامله يداعب خدها، فقد رفعت النقاب عن وجهها؛ بفضل زجاج السيارة الذي لا يجعل من بالخارج يرى الشخص بالداخل، أنزلت برقة أصابعه عنها و قالت:

” أنا قرأت عن مرض التملك و فرض السيطرة، و لقيت أعراض بتنطبق عليك، و ده خلاني مترددة في علاقتنا، و برغم حُبي لك يا كريم، لكني خايفة أكمل معاك “

كان يقود السيارة بانتباه، ثُم عندما تتحدث يتجاهل القيادة، و يظل يتأمل وجهها بنظراته الحالمة العاشقة الذائبة في تفاصيل رقة ملامحه النيّر، ليُردف بعفوية:

” أنتِ جميلة بشكل يطير العقل “

” هه ! “

” إيه الجمال ده ! “

تنهدت مطبقة على يدها بتوتر قائلة بكلام مبطّن و دُعاء خفي:

” يارب أعني على تشتيت عقلي، أحيانًا بخاف منه و أحيانًا بحسه إنه الأمان كله، يارب “

___________

في هذا اليوم استقلت ” منة ” سيارتها و قادتها للقاهرة، لتحضر مباراة كرة السلة التي تشارك فيه إحدى صديقاتها، و بعد الانتهاء من المباراة و أثناء عودتها للفيلا الخاصة بزوج والدتها، لمحت من النافذة المفتوحة شاب يشبه ملامح قُصي، اقتربت بفضول من سيارته لتوازيه السير، فأدركت في الحال أنه ليس شبيهًا له، و إنما هو
” قُصي ” بالفعل !

انتبه لها ” قُصي ” عندما اقتربت بالسيارة منه، و ظل ينظر لها للحظاتٍ بدهشة، ثُم أوقف السيارة بجانب الطريق و كذلك فعلت هيَ، لينزل و يتجه ناحيتها في تساؤل يصحبه الدهشة:

” بتعملي إيه في القاهرة ؟! “

ردت بهدوء عكس عادتها و عينيها تأكله من التحديق:

” كُنت بحضر مباراة سلة لواحدة صحبتي “

أومأ في تفهم، ثُم سألها إذا كانت بحاجة شيء فشكرته بنفيٍ، و اتجه هوَ ليقود السيارة لواجهته، بينما هيَ أحست بأن قلبها سيقفز من شدة الفرحة لرؤيته، فقد كانت تفكر فيه سهوًا منذ دقائق !
يا لها من مصادفة رائعة !

ظلت تتابعه من النافذة بغير انتباه للقيادة، حتى اصطدمت بسيارة أحدهما..

ترجل الرجل من السيارة، و أخذ يصرخ عليها:

” طالما مبتعرفوش تسوقوا بتركبوا عربيات ليــه ؟ داهية تاخدكوا “

كادت أن ترد عليه، و لكن الشبه الكبير بين الرجل و والدها، جعلها تقف في تصلب مكانها و تنظر له بخوفٍ شديد.. انتبه قُصي من مرآة السيارة لما حدث، و عاد للوراء بسيارته؛ ثُم نزل و اقترب من الرجل في عبوسٍ يتساءل:

” في حاجة ؟ “

هتف الرجل بتعصب يشير لتلك الخائفة ترتجف مكانها، فهو ليس أبيها بالطبع و لكنه سبحان الله يشبهه في الملامح القاسية كثيرًا..

” الغبية دي دخلت فيا شمال “

” طب احترم نفسك و غور “

قالها قُصي ببرودٍ، ما ازداد تعصب و دهشة الرجل و صاح عليهما:

” أنتوا مع بعض بقى ! شوية عيال سيس “

اقترب منه قُصي أكثر، و دفعه في صدره ليلصقه بباب سيارته، قائلًا بجمود:

” مش ها رد عليك عشان ما يقولوش بيلوك و يعُك مع حُرمة “

” بدل ما تغلطا هيَ ! “

” هي ما بتغلطش “

” أنا ها اطلع من هنا على القسم أعمل فيكم محضر بقى، و عرفت رقم العربية، و روني ها تعملوا إيه “

قالها وهو ينظر لهما بسخرية، مما برم قُصي شفتيه في ملل، و تنهد في ضيق هامسًا:

” كانت نقصاك هي كمان “

ثُم هتف في مللٍ منه وهو يقف بكامل جسده أمام تلك القصيرة، يخفيها خلفه عن أعين الرجل الغاضبة:

” طب يلا كشكشها و متعرضهاش عشان ما ليش في النقاش “

رمقه الآخر في دهشة، مما دفع به قُصي تجاه السيارة يجعله يركب رغمًا عنه:

” اركب ما تتنحش بدل ما اركبك النعش “

ركب الرجل بضعف منه عندما أحس بقوة قُصي و ضعفه أمامه، و قاد سيارته وهو يرمي عليهما بالسباب و التوبيخ..

استدار قُصي لها ليجدها تنظر للأرض بشرود و خوف بدا عليها، تساءل في قلق:

” منة.. ! منة أنتِ كويسة ؟ “

أومأت في هدوء، و قبل أن تركب السيارة، قال متعمد قوله:

” لو احتاجتِ حاجة كلميني، اعتبريني أخوك، و ركزي و أنتِ سايقة.. خلي بالك على نفسك “

نظرت له لثوانِ بقلبٍ مهزوم من ذكره بأنه يعتبرها مثل أخته، ثُم حركت سيارتها مبتعدة عنه وهي تقود باكيةً في صمت.

وصلت الفيلا متأخرًا، و اتجهت لغرفتها دون القاء التحية على أحد، ثُم ألقت بنفسها على الفراش و ظلت تُرسل دموعًا مهزومة في صمت..

ليست مريضة نفسية كما يلقبها البعض، ليست انطوائية تحب العزلة، و لكن ما حدث لها هو من أوصلها لذلك..
لها أحلام وردية كثيرة مثلها كمثل باقي الفتيات، و لكن العالم يأبى أن يحقق تلك الأحلام على أرضه..
اختارت الوحدة و العيش وحيدة، اختارتها بغير رضا منها، اختارها الحزن و قبع في قلبها و جعل الغم و الهم من وتينها مسكن له، فلا هي تستطيع النجاة ولا العالم يرضى بالفرار لها..
فلا أحد يجِد في الوحدة راحتُهَ، إلاِ من فقد الأمل بـِالناس.

تلك هي اقسى اللحظات التي تعيشها و تتعايش معها ” منة ” كل يوم، تبكي على وسادتها بأنينٍ مكتوم يغرق قماشها و الجميع يظن أنها نائمة..

همست أخيرًا وهي تمسح دموعها:

” يارب.. نفسي أفرح، فرحني يارب “

أعلن قلبها الخضوغ للحُب، حب أزرق العينين هذا بالتحديد، و لكن عقلها لا يزال يعج بالرفض، و بين مشادة القلب و العقل يظهر الخيال ملوحًا بالانتصار !

نمت على شفتيها ابتسامة صغيرة وهي تتخيله يخبرها أنه أيضًا واقع في غرامها ولا يعتبرها أخته، بل حبيبته و ربما زوجته أيضًا ! لا أحد يعلم ما يخبئه و يخفيه القدر لنا..

تنهّدت بثقل العالم و بحزن دوى في قلبه، و كساه ألمًا بأكمله حتى الوتين، و شفتيها تتحركا و تردد لنفسها بحسرة و قهره..

” كان ياما كان كان فيه عصفور
قلبه صغير ريشه قصير حلمه يرفرف بره السور
كان إنسان من طين من نور
كان بيدور على اللى يخَضر قلب الناس القاسى البور
كان ياما كان قلب الحدوتة رق و حن
على البنوتة فى زمن اتجن
زمن الناس فى قلوبها وحوش زمن الغاب و الناب و وشوش
تحزن غش و تضحك زور…
كان ياما كان احلام بضفاير قلب و بس
ذنبها ايه لو قلبها طاير حب و حس
بنوتة فى حدوتة تنام و بتجرى وراها الأيام هى و كل بنات الحور.. “

و بقلب مكسور و حلم مبتور و روح متألمة نام العصفور، نامت ” منة ” تلك الفتاة التي لم تذق يومًا طعم السعادة في سنواتها التي مضت هباءً و اقتلعت منها الطفولة بمهارة و استئصلت الفرح بجدارة.

_____

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية يناديها عائش)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *