روايات

رواية عابثة باسم الأدب الفصل الرابع 4 بقلم سارة أسامة نيل

رواية عابثة باسم الأدب الفصل الرابع 4 بقلم سارة أسامة نيل

رواية عابثة باسم الأدب البارت الرابع

رواية عابثة باسم الأدب الجزء الرابع

عابثة باسم الأدب
عابثة باسم الأدب

رواية عابثة باسم الأدب الحلقة الرابعة

سبعة أيام مروا وكأنهم سبع سنواتٍ عجاف، تعتكف غرفتها المظلمة إلا من شعاعٍ ضئيل تكتفي ببعض لُقيمات قليلة تُبقي الجهد بها حتى هزل جسدها وشحب لونها، وحيدة رافضة محاولات والديها وأشقاءها، تجلس بصحبة أثامها وما صنعته يديها، اعتزلت الهاتف ولشدة خوفها منه قامت بدفنه أسفل الفراش، تعجب الجميع من حالتها حتى أصدقاءها عندما لم تذهب للجامعة ولم تُجيب على مهاتفتهم أتوا لمنزلها لكنها رفضت مقابلة الجميع..
تارة تبكي، وتارةً ترتجف خوفًا، أما الليل فشيءٌ أخر … تخشاه .. تخشى الليل وترتعب منه لتظل مستيقظة خشية الكوابيس اللعينة التي تهاجمها..
والدتها التي دلفت إليها تبكي على تلك الحالة التي أصبحت عليها ابنتها، ترتجيها لمعرفة السبب وترجتها لتخرج من قوقعتها وظلت تُحدثها عن أشياء جيدة وعدم دوام الحزن وأن بعد العسر يسر..
وأخيرًا ترجلت من منزلهم وهي منكمشة من الداخل لترى نور الشمس الساطعة، ظلت تتمشى بشرود على هذا الطريق الصخري المجاور للبحر الهائج الذي تتصادم أمواجه مع الصخر.
جلست فوق الحاجز الحجري وهي تنظر للسماء بشرود والكلمات التي قرأتها مكتوبة عنها لمهاجمتها تلف عقلها..
-إللي زي دي ملهاش توبة .. ربنا مش هيقبلها أبدًا … هي مسلمة معقول .. حسبي الله ونعم الوكيل فيها .. أختي ماتت وهي بتقرأ رواية قذرة لعاشقة الليل .. دي شيطانة.
والكثير والكثير … ماذا لو علم والديها بهذا الأمر وبحقيقتها … ماذا لو علم أصدقاءها ومن يعرفوها بأنها هي عاشقة الليل؟!
الذنوب والمعاصي تدثرها .. هل لها من عودة .. هل سيقبلها الله .. هل سيغفر لها، هل ستمتلك الشجاعة لترفع أعينها نحو السماء وتطلب الغفران؟!
خجلة … تخجل أن تناديه، هم قد قالوا أن أمثالها الغارق بالذنوب تحجب الملائكة صوته عن الله ..هل هذا صحيح؟!
وبتردد وأعين مليئة بالخجل والتردد رفعت بصرها نحو السماء الممتدة فوق البحر فارتعشت شفتيها ونبض قلبها بشدة قبل أن تسقط دموعها..
وفي غمرة تذبذبها وخجلها وخوفها .. ارتفع فجأة صوت المذياع الخاص بالمسجد في تلاوة قبل أذان العصر بمكبر الصوت..
آية كريمة، لا بل رسالة من السماء لم تخترق أسماعها فقط، بل مداركها وقلبها لتُحدث هزة عنيفة بكل ذرة داخلها…
ارتفع صوت القارئ بصوت خاشع يُزلزل القلوب…
((نَبِّئْ عِبَادِىٓ أَنِّىٓ أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ))
لم تكن إجابة من صديقة أو واعظة أو أي بشر .. بل كانت من الملك .. من السماء.
انتفضت دُرّ كالملسوعة وقلبها ينتفض بجنون للبحث بأعينها عن هذا المسجد الذي صدع منه الصوت … تبحث بلهفة عن الملجأ الذي ستحتمي به للأبد، ولن تترك بابه ما حَيت .. الله .. وأيقنت هي أنها لن تجد من دون الله ملتحدًا.
رأت مسجد بالجهة الأخرى على أحد الزوايا فأخذت تقطع الطريق ودموعها تنهمر فوق خديها تهرع بجسد مرتعش نحوه وقد انبلج النور بداخلها..
إذًا تستطيع أن ترفع رأسها وصوتها إليه، إذًا لديها فرصة ليُغفر لها، هناك فرصة أخرى .. لقد أخبرها الله أنه غفورٌ رحيم .. لقد نادها .. هي شعرت بذلك .. وللمرة الأولى تُلبي دُرّ النداء ولم تكن تعلم أنه نداء مليء بالرحمة والحنان وأنه تلبية هذا النداء سيُغير مجرى حياتها، سيكون باب خير يفتح لها ولن يُغلق..
وقفت دُرّ أمام المسجد تنظر له ودموعها لم تتوقف ثم اتجهت نحو مُصلى النساء ودلفت بأنفاس متسارعة، تخجل من أن تكون لذنوبها ومعاصيها رائحة تفوح بين الناس، كان المسجد به بعض الفتيات ومن الواضح أنهم أصدقاء يعرفون بعضهم البعض، نظروا نحوها يتأملونها ليدب الخوف بداخلها أنهم يعلمون حقيقتها أو اكتشفوها ومتعجبون من وجودها بمثل هذا المكان الطاهر..
لكن الآن هي تستند على ركن شديد، هي الآن ببيت الله .. الله من نادها، لا أحد يستطيع إخراجها من هنا..
إلا أن هؤلاء الفتيات ابتسموا لها برقة وودّ ليرتاح قلبها، أخذت ركن بجانب الجدار الخشبي القصير الذي يفصل مصلى الرجال عنهم حيث كان مصلى النساء في الأعلى والرجاء أسفل وهناك جدار خشبي قصير تستطيع أن ترى المسجد من أسفل..
انكمشت حول نفسها وهي تمسح دموعها بأكمام فستانها لتشعر براحة عجيبة وسكينة تتغشاها، نعم تلك ليست المرة الأولى التي تدلف بها لمسجد ولكنها المرة الأولى التي تشعر بتلك السكينة عندما تدخل لهنا..
تأملت الفتيات الذين يجسلون ملتفين ويتمازحون مبتسمين وكأنهم لا يحملون همًا، نعم هم ليسوا مثلها، ليسوا ملطخين بأثامها، شعرت بالراحة التي يشعرون بها والسكينة التي على وجوههم..
يدور حديثهم حول ما استطاعوا حفظه من القرآن..
قالت إحداهنّ بسعادة:-
-أنا ختمت تدبر سورة البقرة يا بنات، حقيقي أنا حاسه إن هيطلعلي جناحين وهطير، يا ولاد السورة دي كنز .. متشبعش منها حرفيًا وناوية أكررها تاني إن شاء الله..
قالت أخرى:-
-أنا إللي فرحانة فرحة ملهاش زيّ، بحمد ربنا كل يوم إن دلني لصحبة صالحة زيكم يا بنات، دي نعمة من ربنا .. حياتي اتبدلت وحسيت بقيمة نفسي وقيمة وجودي في الحياة .. شجعتوني أبدأ حفظ قرآن والحمد لله النهاردة هختم الجزء الخامس .. أنا حقيقي مش مصدقة نفسي .. الحمد لله الفضل لله وللمعلمة ولكم يا بنات..
رددت أخرى تُجيبها:-
-علشان بس قلبك جميل يا نرمين .. إحنا إللي محظوظين إننا اتعرفنا عليكِ، أنتِ مجتهدة وحابه تعرفي وتتعلمي وقلبك صادق علشان كدا ربنا بيعينك وييسرلك أمورك وبيرشدك لما يحب ويرضى، وشدي الهمة بقاا كدا علشان قبل ما نتخرج من الجامعة تكوني ختمتي كمان خمس أجزاء إن شاء الله..
رفرفت نرمين من سعادتها وقالت بحماس:-
-إن شاء الله يا بنات، وإحنا مع بعض .. وخلاص هانت ونخلص حلقات الأحاديث القدسية .. يا الله أنا قلبي ذاب فيها ذوب فعلًا..
أجابتها فتاة ثالثة تُدعى تسنيم:-
-عندك حق يا نيمو، أنا كل حلقة والمعلمة بتشرح مش بقدر أمسك نفسي من كتر العياط، بحاول أكتم نفسي كل مرة بس مش بقدر حقيقي..
قالت رابعة تُدعى حبيبة:-
-ربنا ينفع بينا يارب ويحبب لقلبنا كل ما يُحب ويرضى يارب، المهم يا بنات الحواوشي ده جميل أوي .. هنجيب منه تاني الأسبوع الجاي علشان المزانية اتخربت خالص … زي ما اتفقنا لنا يوم واحد بس في الأسبوع .. سامعة يا ست نرمين..
ضحكت نرمين وأردفت:-
-خلاص يا ست بيبا هي مرة بس اعملي حسابك أنتِ إللي عليكِ بكرا تعملي الوليمة بتاعت الشلة .. شوفي هتعملي أيه..
فكرت حبيبة قليلًا وتوجهت أنظارها نحو الجميع ثم تسائلت:-
-أيه رأيكم أعملكم أيه لبكرا …. عايزين تكلوا أيه بكرا .. أيه رأيكم بيتزا، وبكرا الجمعة أصلًا وهنتجمع ونخرج كمان.
أيدها الفتيات بحماس:-
-يا سلام بقاا على بيبا .. أيوا بقاا دلعينا، وإللي عليه بعد بكرا الست تسنيم وهتعملنا كيك بالشكولاته ..
وافقها الجميع لتقول أحدهم وتدعى فردوس:-
-عندنا جيم بكرا يا بنات صح..
– إن شاء الله يا حلوين..
من ضمن هؤلاء الفتيات كانت هناك خديجة تجلس بينهم لكن عقلها مع تلك الفتاة الباكية التي تنكمش حول ذاتها، تبكي بحرقة شعرت بها، ترمقهم بين الحين والأخر بتمني وحزن.
تركت أصدقاءها اللاتي نظروا لها بتعجب ثم اتجهت نحو دُرّ المتكومة حول نفسها وجلست أمامها، ابتسمت لها إبتسامة رقيقة هادئة وأردفت بودّ:-
-أنا خديجة .. ممكن نتعرف وأقعد معاكِ..
اسم ((خديجة)) جذب انتباهها لتبتسم دُرّ بشحوب وقالت بشرود:-
-أمي اسمها خديجة..
ورفعت أعينها السائل منها الدموع وهي تحاول مسح وجهها قائلة بتعجب وهي تغلق الحديث مع الفتاة تحاول ألا تنجرف معها بسبب هالتها المريحة التي تنم عن الطيبة:-
-أنا مش عرفاكِ .. وأنتِ عايزه تتعرفي عليا ليه وأنتِ عندك أصحابك كتير أهم..
احتفظت خديجة بابتسامتها وقالت:-
-حبيت أتعرف عليكِ .. دخلتي قلبي كدا من أول ما شوفتك .. وبعدين مش تحاولي تمسحي دموعك وتوقفيها .. عيطي براحتك، أيوا أنا عندي أصحاب وعادي إحنا كمان نبقا أصحاب ورُفقاء كمان لو قبلتي..
تريد رفقتها!! وماذا لو علمت بمن تكون وما هي حقيقتها القذرة!!
لا .. لا يجب عليها الإختلاط بأحد..
انزوت دُرّ أكثر لنفسها ونظرت للجهة الأخرى حيث الثقوب الصغيرة التي تملئ الحاجز الخشبي..
مدت خديجة كفها تربت فوق ذراع دُرّ وأكملت بإبتسامة:-
-على فكرا هو هيقبلك، أيًّا كان أنتِ أيه ولا إللي حصل، هو مادد إيده دايمًا لنا علشان نجري عليه مهما كانت ذنبنا، هو طبيبنا وحبيبنا، بيبتلينا بالمعاصي علشان يطهرنا من ذنوبنا..
رفعت دُرّ أعينها السائل منها الدمع لتنظر لوجه خديجة الهادئ ببعض الدهشة فقالت خديجة وهي تشير لنفسها ونحو أصدقاءها:-
-كلنا مذنبين .. وكلنا عندنا ذنوب، إحنا مش معصومين، أنت نظرتك لينا كأننا ملايكة مش بنرتكب ذنوب … محدش بيلاقي نفسه حلو عالطول ولا وحش عالطول بس بنجاهد .. متخليش خجلك ووساوس الشيطان تقولك لا توبة أيه بعد كل إللي عملتيه … باب التوبة مفتوح دايمًا حتى تشرق الشمس من مغربها، أوعي تسمعي كلام الشيطان دا ذريعة هو بيعملها علشان مترجعيش، ومهما كان ذنبك مش تقوليه لحد وتفضحي نفسك … خليه بينك وبين ربنا وتوبي ومتفكريش نفسك كدا منافقة، ربنا مش بيحب العبد إللي بيفضح نفسه وبيغضب من كدا، أمرنا بالستر..
أنا حاسه بإللي أنتِ حاسه بيه، أنا معرفكيش بس حبيت أقولك الكلمتين دول من واقع تجربتي واحساسي..
ويلا قومي اتوضي وصلي معانا، العصر هيأذن، والمعلمة جات أهي أحضري معانا الدرس النهاردة هتستفادي أووي حقيقي.
✲ ✲ ✲ ✲
في نفس التوقيت كان حارثة بصحبة والده يدلفون للمسجد لصلاة العصر، والد حارثة الذي ينظر لولده بفخر ويحمد الله بداخله لإفاقته قبل فوات الأوان..
رُفع الأذان وأُقيمت الصلاة واصطف المصلون خلف الإمام للصلاة وهكذا كان النساء بالأعلى ومن بينهم بجانب خديجة .. دُرّ .. دُرّ التي كانت تقف وكل خلية بجسدها ترتعش ولا تستطيع كبح الدموع من الهطول، كانت القلة التي في مصلى النساء يعلمون سبب تلك الدموع فتركوها ولم ينظروا إليها كي لا يتسببوا بإحراجها، وفي حقيقة الأمر هم كانوا سعداء لتلك الدموع، دموع العودة لرب العالمين..
عندما سجد حارثة ولامست جبهته الأرض لا يعلم لماذا وكيف! انطلق لسانه يدعو بتلقائية لعاشقة الليل .. يدعو لها أن يهديها الله للصراط المستقيم، أن يرشدها الله وينور بصيرتها، منذ أن علم بأمرها وهي تشغل حيز كبير من تفكيره، لم يبغضها وإنما دعا لها بسجوده بتلقائية غريبة .. دعا لها بالرشاد وأن يتوب الله عليها..
بينما في الأعلى عندما لامست جبهة دُرّ الأرض ساجدة .. وفجأة انقشع السواد الذي كان يملأ عقلها وشعرت بأشياء عجيبة تحدث بداخلها، انفجرت الدموع من أعينها بشهقات مكتومة وجسدها يرتعش، وهمست دُرّ بغصة ولم تعد تشعر بأي شيء حولها:-
-يا …… الله … يارب … أنا دُرّ .. أنا هنا يارب، أكيد أنت سامعني … أنا مكسوفة منك أووي .. أنا دُرّ إللي كل صحيفتها ذنوب .. أنا دُرّ إللي مفيش أي عمل صالح لها بيُرفعلك … أنا دُرّ الداعية للضلالة .. أنا دُرّ إللي بسببها في ناس شالت ذنوب بالكوم .. أنا دُرّ إللي في بنوتة ماتت واتقبض روحها وهي بتقرأ القذرات إللي كتبتها إيدي إللي أنت أنعمت عليها بيها .. إيدي إللي أعطتها ليا وأنا عصيتك بيها .. أنا دُرّ إللي كلها ذنوب .. أنا دُرّ الوحشة .. العاصية .. المُعرضة .. أنا جيت يارب وواقفه على بابك يا كريم … ممكن تفتحلي .. جيالك غرقانة يا غفور يا رحيم بترجاك ما ترجعنيش .. أنا عايزه أكون معاك .. مش عايزه أسيبك .. أنا عايزه أقرب منك، أنا محتجاك يارب.
سامحني يارب .. سامحني وتوب عليا .. أنا معدتش هعمل كدا تاني، بس قولي أكفر إزاي عن ذنوبي وإللي عملته .. هو حق زي ما قالوا مستحيل أنت تسامحني، هما قالوا كدا …. بس أنت قولت إني أنا الغفور الرحيم، سامحني يارب .. سامحني يارب … سامحني يارب..
وظلت تكرر طلب السماح وهي تبكي بشدة دون شعورها ولم تدرك إنتهاء الصلاة..
تعجب الفتيات من حالتها وانتابهم القلق وسارعوا يحركونها لكن أوقفتهم خديجة بقولها:-
-سيبوها يا بنات .. سيبوها تكمل صلاتها..
رددت حبيبة:-
-دي بقالها كتير أوي ساجدة يا خديجة، طب هي محسيتس إن الصلاة خلصت ولا بالركوع والقيام..
ابتسمت خديجة وأردفت بسعادة:-
-لا .. هي دلوقتي مش حاسه بالدنيا وإللي فيها يا بيبا .. هي معاه ..
واصلت دُرّ صلاتها وأفرغت كل ما بداخلها لله، لقد حدثته بكل شيء، تابت إلى الله وعزمت على عدم العودة، وبقى بداخلها خوفٌ .. خوف من عدم العفو، ارتعاب من ألا يقبلها الله..
لكن فجأة تذكرت الآية الكريمة التي سمعتها، حديث الله، وتذكرت حديث تلك الفتاة التي تُدعى خديجة، وذاك المنشور الإيجابي الأوحد على منصة الفيس بوك، ذاك الشخص الذي يُدعى حارثة، فترعرع الأمل بداخلها، ازدهر وجهها لكن زادت رقعة الأمل بداخلها وتبدلت أحوالها من البكاء بحسرة للبكاء بفرحة…
الحديث الذي وضعها على أول الطريق..
بالأسفل بعد أن انتهى حارثة من الصلاة وجلسوا وبعض الأصدقاء في حلقة بعد الصلاة بينما كان والده يجلس على مقربة منهم يستمع إليهم وإلى نقاشهم، الحديث الذي جعله يشعر بالخجل ويضعه على بداية طريق النور، ولا يخجل من أن هذا الحديث كان من فم ولده..
كان أحد الشباب يجلس بينهم مهمومًا ويوزع أنظاره بينهم، فسأله حارثة بمزاح:-
-مالك يا عم محمود متنشن كدا .. أنت زعلان مننا في حاجة ولا أيه يا باشا..
رفع محمود أنظاره نحو حارثة وتنهد بثقل قائلًا بانطفاء:-
-زهقت من نفسي يا حارثة، بمشي على سطرين وأسيب عشرة، لما بفتكر ذنوبي الشيطان بيدخلي يقول ما ممكن ربنا مش سامحك، بحس بنفاق وخايف أكون منافق، حاسس إن مخنوق..
شعر حارثة بالعصبية والتزم الهدوء وردد بكل قوة وهو يضغط على كتف صديقه بدعم:-
-محمود … دا الشيطان .. هتسمح ليه يدمرك ويرجعك تاني، الشيطان يا محمود غرضه يحطم نفسيتك وتحسّ الإحساس إللي أنت حاسس بيه ده، يا محمود كون إنك عُدت فدا رحمة من ربنا بيك، أنت مرجعتش شطاره منك .. دي رحمة ربنا، يا محمود ربنا قال على نفسه في القرآن .. قابل التوب جمع توبة، خد بالك قال التوب علشان لو وقعت ألف مرة ورجعت ألف مرة هيقبل توبتك، حارب المعصية بالطاعة أوعى تحاربها باليأس، الإحباط عند الله كبيرة أكبر من كبيرة المعصية، أوعى تقفل الباب بينك وبين ربنا خليه موارب وفي يوم من الأيام هيتفتح على مصرعيه، اتبع السيئة الحسنة تمحوها، وربنا قال في القرآن وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون، يا محمود، خالد بن الوليد من أكبر الصحابة وقبل إسلامه كان أيه، كان معادي للأسلام وحارب الإسلام كتير وكان سبب في هزيمة المسلمين في غزوة أُحد، وقتل أربعين صحابي على جبل الرماة ومع ذلك لما أسلم كان أيه … سيف الله المسلول…
الذنوب سِلمة بتطلع بيها لربنا، السيئات يُريد الله بها أن تعود إليه، وبلوناهم بالحسناتِ والسيئاتِ لعلهم يرجعون، السيئات علشان ترجعله يا محمود، ربنا إللي شرح صدرك للكلام فأوعى أوعى تعيش في عُقدة الذنب، أوعى تقول ذنبي صعب مش هيتغفر، أوعى تقول ذنوبي كتير، دا مش دين أبدًا .. ربنا عفو وسمى نفسه الغفور الرحيم ..
مهما كانت ذنوبك أوعى تيأس من ذنوبك، مهما كان الماضي بتاعك أوعى تيأس إن ربنا يتوب عليك ويستعملك في دينه ويفتح عليك، مهما كنت بعيد ربنا مش بيسيبك، ممكن اللحظة إللي أنت في ذنوب ومعاصي كتير .. اللحظة إللي المفروض كانت تنزل صاعقة من ربنا علينا، اللحظة وإحنا في غمرة معصيتنا لله والمفروض إنتقام ربنا ينزل علينا كانت اللحظة إللي رحمة ربنا نزلت علينا فيها علشان ربنا التواب، اسماءه بتعطينا أمل إننا نبدأ من جديد ونجري عليه وساعتها هنتفاجئ بإللي عند ربنا..
وأكمل يقول وهو يحدث نفسه قبلهم:-
-مدورش على أي حاجة بعيدة عن ربنا، كل حاجة في حياتك خليها متصلة بيه، نجاحك بيه وعنده، النجاح بمعصية مش نجاح، عايز توصل لأعلى المراتب في أي حاجة خليك معاه، عنده هتلاقي كل حاجة … يا شباب مفيش فشل في الدنيا، دي كلها إخفاقات .. الفشل الحقيقي إنك تيجي يوم القيامة تلاقي نفسك في النار، أترك أثر والأثر الحقيقي عند الله، أترك أثر عند الله، خلينا نحارب الشيطان بكل قوتنا ومنسمحش ليه يهزمنا يا شباب .. إحنا أقوى منه..
بالأعلى كانت دُرّ التي تلتصق بالجدار الخشبي قد استمتعت لجميع الحديث، كانت كل كلمة تسقط على مسامعها تفتح لها أبواب الأمل على مصارعها، تستمع إلى رحمة الله وعفوه وعن حبه لعباده وتتذكر ما كانت تفعله، بينما هؤلاء هنا يجذبون بعضهم البعض ويحاربون الشيطان ويدعون إلى الله .. كانت هي خلف شاشتها في جنح الظلام تدعوا للغواية..
هم يجاهدون بكل قواهم أنفسهم الأمارة بالسوء، وهي بالجانب الأخر تجاهد للنجاح بأي سبيل وإن كان سبيلها مليء بالفسق..
كيف لم ينتقم الله منها وهي في غمرة تلك المعاصي، فبدلًا من أن ينتقم منها وتنزل عليها صاعقة نزلت رحمة الله .. وساقتها ذنوبها لله..!
رغم ما كانت ترتكبه كانت رحمته تحاوطها والستر يحفها، هو يحبها رغم اتباعها شيطانها وسيرها وإصرارها على طريق الفجور المؤدي للنجاح والشهرة التي كانت ترسمها، أي غشاوةٍ هذه!!
تعصيه وتجعل الكثير والكثير من عباده يعصونه وتكون هي سبيلهم للمعصية وهو يرحمها لم ينتقم منها!!
وهنا انفجرت دُرّ باكية أكثر وأكثر لم تتمالك نفسها، بكاء يمزق القلوب، بكاء مكتوم به كمًا هائلًا من الحسرة والندم .. رغم أنه بكاء صامت إلا أنه كان مليء بالكلمات التي يفهمها العائدون لله … وهي قد آبت إلى الله .. حبيبها .. ناصرها .. الرحمن الرحيم..
وصل بكاءها المتواصل للأسفل .. بكاءها المؤلم وشهقاتها المتقطعة .. انتشر الصمت بينما هرعوا إليها الفتيات وعلى مقدمتهم خديجة يحتضونها باحتواء..
بالأسفل انتشر الصمت الخاشع وعلموا أن ربما حديث حارثة قد لامس الجُرح بقلب أحدهم، هذا البكاء الوحيدة الذي يجلب السعادة .. البكاء لله وبين يديّ الله..
شعر حارثة بشعور غريب وألامه قلبه لهذا البكاء لتهبط دمعة ساخنة من عينه رغم شعوره بالسعادة الداخلية، نعم فنحنُ قوم نسعد بعودة التائبين إلى الباري، نسعد لعودة أحدهم للصواب وطريق الرشاد..
بينما دُرّ فظلت على هذه الحالة تبكي بعنف شديد وجسدها يرتجف حتى فقدت وعيها بأحضان الفتيات … فقدت وعيها وهي ترجوا أن تفقد معه كل أثامها…

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية عابثة باسم الأدب)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *