روايات

رواية اليمامة والطاووس الفصل السابع عشر 17 بقلم منى الفولي

رواية اليمامة والطاووس الفصل السابع عشر 17 بقلم منى الفولي

رواية اليمامة والطاووس البارت السابع عشر

رواية اليمامة والطاووس الجزء السابع عشر

اليمامة والطاووس
اليمامة والطاووس

رواية اليمامة والطاووس الحلقة السابعة عشر

تطلع له يوسف بصدمة وهو ينظر لخلف ياسين بحيرة، لتلك التي تتابعهما من خلف الستار منذ سماعها لسؤاله عن صغيرها، وصدمتها لا تقل عن صدمة أخيها.
❈-❈-❈
ابتسمت فاطمة وهي ترى ذلك الأسم ينير شاشتها معلنا عن تلقيها مهاتفة من صديقتها، لتجيبها وهي تهتف بسعادة: تونة حبيبة قلبي، وحشاني.
أجابها صوت فاتن الحماسي على الطرف الأخر: بطوطة الرايقة، أزيك يا قلبي وحشاني قوي.
ضحكت فاطمة بنعومة: أخبارك أيه، شوفت الصور وعرفت أنك خرباها.
ضحكت فاتن بسعادة: يا ناس يا شر كفاية قر، طبعا ما أنت مكتومة ومفيش رقص ولا زغاريط، من ساعة ما روحتي بيت حماتك.
ضحكت فاطمة وهي تتمتم صادقة: والله أنا واخدة راحتي على الأخر، وبالعكس أكتر من الأول بعد ما شالوا عني هم العيال، دي جدتهم روحها فيهم، ياريتني سمعت كلام يوسف وجيت من زمان.
أجابتها فاتن بضيق: منها لله بقى شوقية هي اللي قعدت تزن على ودانا لحد ما كانت هتخرب علينا.
استغفرت فاطمة وهي تلومها بلطف: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} هي صحيح كانت شورتها غلط وكلامها مؤذي، بس هي مضربتش حد منا على أيده عشان يسمع كلامها ويمشي وراها.
أجابتها فاتن بمكابرة: بس متنكريش أنها كانت بتقومنا وتزن على ودانا.
أجابتها فاطمة بتعقل: طيب ماهي ياما زنت على ودن رانيا واتريقت عليها، لكن لا عمرها سمعت لها ولا اهتمت بتريقاتها.
سألتها فاتن متهكمة: يعني أنت شايفة أنها مش غلطانة.
أجابتها فاطمة ببساطة: طبعا هي غلطانة بس الغلط الأكبر علينا احنا.
سألتها فاتن معترضة: أزاي يعني.
أجابتها فاطمة ضاربة المثل بنفسها أولا لتمتص حدتها: مثلا أنا مسلمة وداني لكلام البنات عن بيت العيلة والحماوات، من قبل حتى ما أعرف شوشو، مبنكرش أن قصص كتير صح وأني لسه مبفضلش لحد يتجوز ببيت عيلة، بس مينفعش ناخد الكلام بالمطلق، والمفروض كل واحد يقيم الناس اللي هيعيش معهم وبس.
لتستطرد بعدها بوضعها هي: وأنت كمان مصدقتي تقعدي ومتسفريش أول ما عرفتي أن سكن هاشم في منطقة شبه مقطوعة، وكلام شوشو جه على هواكي.
أجابتها فاتن مستلمة: عندك حق.
لتجيبها فاطمة مغيرة مجرى الحديث: عامة ربنا يصلح حالنا وحالها، المهم قوليلي الحمل عامل معاكي أيه.
اندفعت فاتن تحكي لها بحماس عن حملها وسعادة زوجها به، لتسعد صديقتها لسعادتها واستقرار حياتها.
❈-❈-❈
جلس زينهم بغرفة المكتب بالدار بانتظار آية، لتدلف إليه وقد خدش وجهها، وتمزق طرف ثوبها لتبدو كمن خرجت لفورها من مشاجرة حامية، ليسائلها بلهفة: مالك يا آية، مين عمل فيكي كده.
لم تخيب ظنه وهي تجيبه: اتخانقت.
انتفض غاضبا، وهو يصيح بحمية: مين ده اللي خانقك وبهدلك كده، شوريلي بس عليه.
التفتت إليه وقد احتقنت عينيها بغضب: أشاورلك على مين، عايز تشوفها ليه؟
تمتم مندهشا وهو ينظر لمظهرها: هي مين دي، هو أنت متخانقة مع بنت، وهي اللي شلفتطك كده.
صرخت به وقد احتد صوتها: كله من تحت راسك، متجليش هنا تاني.
انتفض قلبه مذعورا، هل طلبت منه للتو الابتعاد، لقد كان يظن أن الفترة الماضية قاربت بينهما، ولم يعد سبب زواجهما مقتصر على حاجتهما للتواجد معا بطريقة شرعية، بل لقد وجد بها ما يرجوه بشريكة عمره، حتى أنه توهم أنها مثله تقبلت ارتباطهما كخطيبين، لا كأخين تربيا سويا، ولكنه كان واهما، وها هي ترفض زواجه، بل ترفض رؤيته ثانية، فهل السبب عدم تقبلها لوضعهما أم أنها قد مالت لغيره، أشتعل قلبه للخاطرة الأخيرة، ليسألها بحدة: ليه؟
اشتعلت الغيرة بعينيها وهي تجيبه بشراسة: الهانم بتقول عليك قمر، وياريتها هي اللي تاهت وأنت لاقيتها، بس تستاهل اللي عملته فيها، أنا قولتلك أهو، متجليش هنا تاني ويفضلوا يبصوا عليك، رن عليا وأنا هاخرجلك.
فغر فاهه بصدمة، آية تغار، تعاركت مع تلك الشرسة رغم طبيعتها الهادئة، لأنها تغزلت به، وكلماتها التي ظنها نفورا ما هي ألا رغبة منها بحجبه عن من سواها.
طال صمته ولم يصلها رده، فسألته متشككة: قولت أيه، هتبقى ترن علي.
نظر لها بحب متمنيا، أن يضمها إليه، ولكن عليه الانتظار، ولعجبه فاجأها وتفاجأ هو بنفسه، بأنه قد انفجر ضاحكا، فقد مر وقتا طويل، منذ أن كان سعيدا حقا، وهو الأن سعيد، سعيدا جدا.
❈-❈-❈
صرخة ملتاعة شقت السكون أطلقتها خلود لتصرخ بعدها لاعنة: قتلوه، قتلوه يا سامي، بناتك قتلوا مودي.
أجابها سامي محاولا تهدئتها: أهدي يا خلود، ربنا يرحمه يا حبيبتي.
صاحت هادرة: أهدى أيه؟ منهم لله، حسبي الله ونعم الوكيل بإذن الله أشوفهم متعلقين على حبل المشنقة؟
انقبض قلبه لتلك الدعوة ولكنه نفض عنه بقايا انسانية منشغلا بهمومه: يا خلود اللي أنت بتعمليه ده ممنوش فايدة، أنا عملت اللي أنت عايزاه والحاوي أكدلك أنهم هياخدوا جزاتهم، خلينا بقى نشوف المصيبة اللي ورانا.
صرخت مولولة: هو في مصيبة أكبر من موت الغالي.
زفر بضيق محاولا إشراكها فيما يواجه: الشيخ وهدان قالب الدنيا علينا، وبيقول لنجيب العروسة زي ما وعدناه، يانرجع له فلوسه.
هدرت صارخة بضيق: يخبط راسه في الحيط، هو لعب عيال، الفلوس واتحطت في المناقصة،أول ما الشغل يخلص هنديله فلوسه بالأرباح.
زفر بنفاذ صبر: يا خلود ركزي، ده هيخبط راسنا احنا في بعض لغاية ميجيب اجلنا، أنت ناسية أن الراجل دافع أكتر من نص مليون في الجوازة دي، وصمم أننا نمضي شيكات وأن توثيق الشراكة بعد توثيق الجواز.
غمغمت بصدمة: يعني أيه؟!
وضح لها الحقيقة الغائبة عنها:يعني رسميا هو مداينا مش شريكنا، ومن حقه يطلب فلوسه في أي وقت وده راجل حبايبه كتير واحنا مش قده.
تسائلت بقلق: والحل؟
أجابها بتردد: مفيش غير حل واحد.
تسائلت بلهفة: أيه.
أجابها بلا مواربة: يتجوز شاهندة.
صرخت مستنكرة: شاهي بنتي، لا يمكن طبعا، هو أنا اتجننت عشان أرمي بنتي رامية زي دي.
نظر لها مندهشا، فالأن تقول ذلك، بعدما اقنعته بأن تلك المصاهرة حلم يجب أن يسعى لتحقيقه، لتلتقط نظرته، فتبرر متوترة: بناتك كانوا متجوزين، ده غير عملتهم السودة في اجوازهم لكن أنا بنتي لسه آنسة.
نظر لها متهكما، فهو من يعلم خفايا أولادها ويتحمل عبء سترها، لتشتعل عينيها بغضب وهي تعلم سر تهكمه: شاهي متجوزتش رسمي ومحدش يعرف وعملية صغيرة وتقدر تعيش حياتها، مش هدفنها بالحيا عشان غلطة، على الأقل مهياش قتالة قتلة.
ضاق صدره بحديثها ثانية، لينهي هذا الأمر برمته لائما: الفكرة كانت فكرتك من البداية، وأنت اللي صممتي أني أقدم للمناقصة مع أني قولتلك أني معنديش سيولة.
تركها وخرج دون كلمة أخرى، لتلعن بنتيه اللتان لم تكتفيا بقتل وحيدها، بل أصبحت ابنتها ملزمة بمواجهة ما أعدته لإحداهما.
❈-❈-❈
تقدمت وفاء تحمل كأس عصير تقدمه لياسين المنشغل عنها وعن العالم بأسره بمداعبة صغيرها واللهو معه، تطلعت إليه للحظات بأعين تنطق بالحب، متمنية ان يأتي يوما تشارك صغيرها بحنانه واهتمامه، قبل أن تغض بصرها مستغفرة وهي تحمد الله على أن سخر لصغيرها قلبا محب يهتم لأمره على هذا النحو، لتنصرف تحت أنظار أخيها المتألم لألمها.
لم يكن بحسبانه عند موافقته على زيارات ياسين لمهاب بعد معرفته بظروفه وحرمانه من نعمة الأبناء، أن يتعلق قلب شقيقته به، وها هو بين المطرقة والسندان، أيمنع تلك الزيارات محطما قلب ياسين بفراقه للصغير، على الرغم من أدبه الجم وأنه لا ذنب له بمشاعر شقيقته التي من الواضح أنه لم يشجعها أو ينتبه لها من الأساس، حارما الصغير من حنانه المفرط الذي زاد من تعلقه به مما زاد من استجابته ووعيه بما حوله.
أم يدع الأمور كما هي، ليزداد تورط شقيقته بمشاعرها التي تظن أنها غير واضحة، بينما لا تخفي على أعين مهتمة.
حاول طرد تلك الأفكار المنهكة، وهو يرحب به: اتفضل العصير يا دكتور.
أجابه ياسين بغير انتباه، وهو يمسك بيد الصغير ضاغطا على إحدى قطع المكعبات لتكوين شيئا ما: ها، عصير أيه!
ابتسم يوسف بمرارة، لتيقنه من حدسه، وغفلة ياسين عن المشروب ومن أتت به، داعيا الله ان يلهمه الصواب، وأن يكتب لشقيقته الخير أينما يكن.
❈-❈-❈
تطلع زينهم حوله بانبهار، فقد تحول السطح الخرب لحديقة غناء، رغم تقلص حجمه لصالح الحجم المبني منه.
انتبه من تأملاته على صوت ياسر المرحب: السلام عليكم، أزيك يا زينهم، عامل أيه.
ابتسم زينهم بود وهو يصافحه بتقدير: وعليكم السلام يا أستاذ ياسر، الحمد لله بخير، أزي بودي.
ابتسم له ياسر وهو يشير له بالجلوس، ليجلس بمقابله مجيبا: الحمد لله، كويس، عقبال ما نفرح بعيالك أنت وآية.
ابتسم بسعادة للفكرة مآمنا عليها بداخله قبل أن يغمم بحرج: تسلم يارب، ماهو أنا كنت جاي أقابلها عشان كده.
شهق ياسر مشاكسا: أنت جاي تقابلها في بيتي، عشان تجيب عيال، أنت فاكرني أيه.
صدمت ملامح زينهم، الذي لا يتفهم كثيرا مشاكسات ياسر، وهو يندفع مبررا: لا طبعا والله، أنا أقصد أني جاي أتكلم معها في ميعاد الجواز، كتر خيركم، شايلنها بقالكم أسبوع.
انفجر ياسر بالضحك لعفويته وبراءته: أهدى أنا بهزر معك.
ليكتسي صوته بجدية مفاجأة: بس اللي مش هزار ويزعل بجد كلامك البايخ ده، كتر خيركم، وشيلتوها ومشلتوهاش.
نكس زينهم رأسه محرجا: أنا بس كنت متقل، عشان هي قاعدة عندك من يوم ما خرجت من الملجأ، لحد ما نكتب الكتاب.
نهره ياسر عاتبا: أهو ده كلام أبوخ من اللي قبله، وعامة عشان تبطل كلامك ده وتبقى عارف النظام، دكتور ياسر قرر أنه المسئول عن آية وأنه هيكون وكيلها في كتب الكتاب.
نطقت عيني زينهم بالسعادة وهو يرى تشريفهم بعروسه، ومحاولتهم أن يمحو عنها آسى اليتم، ليغمغم ممتنا: ربنا يسعدكم يارب ويجبر بخاطركم، زي ما بتجبروا بخاطرنا.
ابتسم ياسر سعيدا لسعادته، وأن كان يعلم برفضه لما هو آت: الجواز هيكون بعد شهرين تكون أنت جهزت نفسك واحنا كمان جهزنها باللي يليق بيها وبوكيلها، وبناء عليه هي من الأسبوع الجاي هتسافر حوالي أسبوع هي ودعاء وهيقعدوا في بيت حماي؛ عشان ينقوا هدومها وجهازها وحاجات الستات دي، وبعدين أنا وأنت نحصلهم عشان تنقوا الموبيليا سوا.
انتفض زينهم رافضا، فأن رحب بدعمهم المعنوي،فهو يآبى مثل ذلك الدعم المادي: لا طبعا ما ينفعش، وبعدين ماهي الشقة تحت جاهزة من مجاميعه وكله برضو من خيركم.
زجره ياسر متآففا: وأنت مالك، احنا كنا أديناك حاجة دي هدية الدكتور للعروسة بصفته وكيلها المسئول عنها.
ظل مصرا على رفضه بعزة: معلش يا أستاذ ياسر كلامك أنت والدكتور على راسي من فوق، بس أنا مش موافق على الكلام ده.
تحداه مشاكسا: ابقى أتكلم مع الدكتور في الحوار ده لو تقدر عشان يطبق عليك محاضرات التشريح، أنت عندك ميعاد معه النهاردة عشان تتفقوا على التفاصيل ونشوف أنت عليك أيه واحنا أيه، وكمان تحددوا القايمة والموخر ما احنا لازم نحفظ حق بنتنا.
رقص قلبه لتشريفهم لصغيرته على هذا النحو، ولكن كبرياءه تمسك بالعناد الذي التمع بعينيه: أن الدكتور يكون وكيلها ده شرف ليا وليها، لكن ده مش معناه….
كان يعلم بمدى عنده بكل ما يتعلق بكرامته، ولكنه أصبح خبيرا بالتعامل معه ويدري كيف يشتته عندما تتصلب رأسه، ليقاطعه بغرور مفتعل: على فكرة بمناسبة الوكالة دورلك على شاهد غيري لأني مش فاضيلك، أنا شاهد العروسة لأني كده في مقام عمها بما أنها وكلت أخويا.
وقبل أن يعلق على كلماته عاجله مستطردا: بس مدورش بجد لان علي باشا حالف يحبسك لو اختارت شاهد غيره.
التمعت الدموع بعينيه لا يصدق كل ما يفعلوه من أجله، أترى هي أفعال جدته الصالحة وسترها لصغيرته هي السبب بذلك الفيض من نعم الله عليه، وأن يسخر له هؤلاء ليكونوا سندا له بعدما أن قهر اليتم طفولته، وكسر السجن ظهر شبابه.
شاكسه ياسر محاولا تبديد تلك الحالة من التأثر: أجمد كده العروسة زمانها جاية، ومش عايزينها ترجع في كلامها.
لم يكاد ينهي كلماته حتى ارتفع صوتها الرقيق محييا: السلام عليكم.
ارتفع صوت ياسر محييا: وعليكم السلام يا عروستنا، هاسيبكم أنا عن أذنكم.
بينما رد زينهم تحيتها بخفوت فمازال متأثرا بكرمهم تجاهه، كما تأثر برؤيها بهذا البهاء، وكأنما دفئ البيوت ينعكس على ملامح الشخص وروحه.
حيرها صمته، فسألته: أزيك يا زينهم عامل أيه؟
خشى أن يثير قلقها فأجابها برفق: الحمد لله أنا في أحسن حال، المهم أنت مبسوطة معنا هنا.
أجابته بحماس وسعادة: جدا الأستاذ ياسر رجل محترم قوي، من ساعة مقعدوني في أوضة الضيوف تحت وهو بيخرج ويدخل من باب الروف عشان ابقى براحتي.
ابتسم لها، فانطلقت تشاركه أخبارها: ومدام دعاء حتة سكرة، رافضة أني أساعدها في أي حاجة وأول ما بيمشي بتنزلي وتقعد تعملى ماسكات وحاجات وتقولي عشان وشك يبقى منور في الفرح.
لتختفي ابتسامتها فجأة وهي تسأله بأعين امتزج بها التوجس بالرجاء: هو قالي أنه هيبلغك بحكاية السفر ولو عايزني مسافرش مش هسافر.
سعد بتفضيلها لرأيه على حماسها الواضح للفكرة، متذكرا تلك الصغيرة التي لم تعصي له أمر يوما، ورغم ثقل الأمر على نفسه، رق قلبه لسعادتها البادية بإعدادت عادية لمن سواها ولكنها كانت كحلم بعيد المنال لها؛ بسبب ظروفها الخاصة، وعز عليه أن يحول بينها وبين تعويض ما افتقدته بحياتها، ففكر أنه لا بأس أن نفذ خطوات ياسر، شريطة أن يكون ذلك في شكل دين يسدده من راتبه، لذا حسم صراعه الداخلي لصالحها وهو يجيبها مبتسما: لا متقلقيش أنا عارف، وبعد ما تشتري حاجتك هاجيلك عشان ننقي العفش.
كادت أن تطير فرحا بقراره، وقد ندت عنها صرخة فرحة، قبل أن تكتسي ملامحها بالجدية، وهي تخرج تلك البطاقة من جيبها متذكرة، وهي تخبره باهتمام: أه صحيح، أستاذ ياسر قالي أديك الكارت ده عشان هو ممكن ينسى، هو أنت تعبان ولا حاجة.
كز على أسنانه بغضب وهو يلعن مشاكسات ياسر، فبماذا يخبرها عن سبب أن إرساله لبطاقة طبيب أنف أذن له معها.
❈-❈-❈
ارتعبت هناء وهي تسمع صوت المفتاح يدور بباب شقتها، قبل أن تزفر براحة وهي تتطلع لوجه زوجها، لتهتف له بسعادة وهي تهرول لترتمي بأحضانه: حمد الله على السلامة يا فهمي، مقولتش ليه أنك جاي النهاردة.
شدد من احتضانها بسعادة، فبالفترة الأخيرة تحسنت نفسيتها ومعاملتها له كثيرا: مش جننتيني وقعدتي تقولي عندك مفاجأة ومش هتقوليها قبل ما أجي، أديني جيت يا ستي قولي بقى.
ضحكت بطفولية وهي تشاكسه: لا مش هاقول حاجة قبل ما تتغدى وتستريح شوية.
ابتسم سعيدا لطفولتها التي آسرته منذ رآها: ماشي، أنا عارف أنك مكنتيش عاملة حسابك أني جاي، أقلي بيضيتن ولا شوية بطاطس، أو أي حاجة.
انتفضت تهرول للمطبخ بحماس: بيض أيه بس، اصبر دقايق وأنت تشوف.
وفعلا ما هي إلا دقائق معدود، وكنت قد أعدت له مائدة بها عدة أطعمة شهية، ليهتف متعجبا: أيه ده كله حمامة وحتتين كباب، وكفتة وبسبوسة وكمان عصير مانجة، وعصير برتقان، جبتي الحاجات دي منين، وعملتيها امتى.
اجابته بسعادة: الحاجات دي كنت باجيبها يوم السوق مرة حمامتين ومرة نص ضاني وكده، بس لما كنت باجي أكل، مابيهنش عليا أكل من غيرك، وبشيلك نصها بالفريزر، ودلوقتي سخنتها بالميكرويف.
أجابها متعجبا: بس أنت عمرك ما عملتي كده، ولا سيبتي لي من الأكل اللي بتعمليه وأنا مش هنا.
اختفت ابتسامتها وهي تتذكر معاناتها مع طبعه السابق: الأول أنت اللي كنت بتبقى شاري الحاجة يعني لو عايزها هتاكل منها عادي، لكن دلوقتي أنا اللي بشتري، وممكن لما احكيلك أنا أكلت أيه نفسك تروحلها.
صدم لردها ولبراءتها، فهو كان يمنع عنها المال متخيلا أنها كوالدته التي تخلت عن والده وعنه بمجرد أن آل إليها بعض الآرث، ولكنها فجأته بأنها كلما زاد ما ملكت زاد عطاءها، لذا أخبرها محاولا تعويضها عن حرمانها السابق: يبقى هزودلك مصروفك عشان تعملي حسابي بدل ما تشيلي من أكلك، وعشان كمان تعرفي تجيبي كل اللي نفسك فيه من السوق.
أجابته بابتسامة غامضة: بس أنا مش رايحة السوق الجاي، ولا عدت هاروح السوق تاني، أنا اتفقت مع رانيا هاديها فلوس، وهي تتصل تقولي على الحاجة اللي في السوق وأنا هاقولها تجيبلي أيه.
احتد صوته وقد اشتعلت غيرته: ليه في حد هناك ضايقك ولا عاكسك.
مسحت على بطنها بسعادة طفولية: لا عشان مش هينفع اتعب نفسي في مشوار السوق، ماهي دي المفاجأة، أنا حامل.
تصنم للحظات قبل أن يصرخ بسعادة وهو يعتصرها بين أحضانه، سعادتها بحملها وخشيتها عليه اراحت قلبه من أخر هواجسه، فلطالما خشى أن تكون قد تزوجته رغم فارق السن بينهما، مرغمة بسبب ظروفها وحاجتها، وأنها سترحل بمجرد أن يشتد عودها، ولكن تلك الفرحة التي يراها بعينيها أخبرتها بصدق مشاعرها تجاهه، ليحمد الله على تلك الصغيرة التي دخلت حياته فانارتها مبددة ظلمة الذكريات، واكتملت نعمته بصغير تحمله بأحشاءها سيكون فرحة المستقبل التي ستمحو ألم الماضي.
❈-❈-❈
ابتسم لها وهو يجدها تتأمله بشرود، ليشاكسها رافعا حاجبيه: معجبة ولا أيه.
ابتسمت له بحب وهي تجيبه مؤكدة: جدا.
اقترب يواجه عينيها: بجد يا دعاء، يعني مش ندمانة أنك صدقتيني وجيتي معايا هنا.
نظرت لعينيه وهي تتمتم بصدق: مش هاكدب عليكي وأقولك أني مكنتش خايفة، ورغم كل وعودك قلبي كان بيقولي أنك في أقرب فرصة هترجع لعادتك ومش هتراعيني ولا تراعي مشاعري، ومش هلاقي ياسر اللي حبني وعمل المستحيل عشان يتجوزني.
توترت ملامحه وهو يسألها بتوجس: ويا ترى لاقيتيه ولا لا.
أجابته بسرعة: لا.
نكس رأسه بندم ينعي حبا أضعاه بيده، لتنفرج أساريره وهو يسمعها تستطرد: بس لاقيت اللي أحسن، ياسر اللي حبني وعمل المستحيل عشان يتجوزني كان متهور وحبه ليا جزء من حبه لنفسه، لكن ياسر اللي معايا دلوقتي راجل بمعنى الكلمة، راجل عارف يعني أيه حب.
سألها بلهفة: بجد يادعاء.
أجابته وهي تربت على يده بحنان: بجد يا قلب دعاء، أنت مش متخيل كبرت في نظري قد أيه وأنا شايفك مش بس معتمد على نفسك، ده أنت كمان بتساعد غيرك، وبتفتح بيوت.
التمعت عينيه بسعادة وهو يرفع يدها لفمه يقبلها بحب: ربنا يخليكي ليا ولا يحرمني منك، أحساسي بأني ممكن أخسرك، كان أكبر دافع ليا عشان اتغير وأكون جدير بيكي.
ضغطت على يده الممسكة بيدها بحب: ربنا ما يحرمني منك، أنت مكنتش محتاجني يا ياسر عشان تتغير، لأن معدنك أصيل والخير جواك من الأول، بس كلنا كنا محتاجين المحنة دي، عشان كل واحد معدنه يبان وتنكشف حقيقته اللي ممكن تكون تايهة عنه هو نفسه.
ضمها إليه بشوق، وقد لمست كلماتها شغاف قلبه، كما تربعت هي على عرشه منذ رأها أول مرة.
❈-❈-❈
انهى المأذون عقد القران مهنئا العروسين بتحفظ، ففارق السن ضخم مابين تلك الشابة وذلك العجوز، ولكن لا شأن له بما أن العروس أبدت موافقتها وأن سكنت الدموع عينيها.
بمجرد انصرافه تحرك سامي غاضبا بطريقه للإنصراف لتلحق به خلود مستاءة من تصرفه: سامي، أنت رايح فين في وقت زي ده.
التفت إليها غاضبا: مبروك يا أم العروسة، مبروك على الجوازة وعلى مكتبي وفلوسي اللي أخدتيهم بلوي الدراع.
أجابته متصنعة الصدمة: فلوس أيه، ولوي دراع أيه اللي بتتكلم عليه؟!
رفع حاجبيه بحدة: وهو لما تجبريني أكتب لبنتك نص شركتي مقابل ديني للعريس ده يبقى أسمه أيه.
أجابته ببساطة: أسمه حقها، كفاية أنها ضحيت بمستقبلها عشان تنقذك، مش المفروض كمان أنها تضحي بحقوقها، وفي الأخرى يورثوك اللي قتلوا أخوها، ولا أنت ناسي أن الهوانم هما اللي بناتك، وبنتي غريبة.
ابتسم متهكما، فالأن فقط تتذكر بأنهما ابنتيه وأنهما أقرب له من ابنتها، لما لم تتذكر ذلك وهو يبذل النفيس في سبيل إسعادها هي وشقيقها الفقيد، باذلا أقصى ما لديه لسترهما وإصلاح كوارثهما، بينما ترك ابنتيه كما تدعوهما الأن بلا سند بعهدة الغرباء.
❈-❈-❈
غمغم ياسين مستاءا: كل شهر تزهقني كده، أنا مش عارف أيه الغلاسة اللي بقيت فيها دي.
أجابه ياسر: فلوسك وحقك، ولازم تبقى عارف راسك من رجلك.
تأفف ياسر: مش كفاية صممت فيلا المزرعة تتكتب بإسمي لوحدي، عشان فلوسي كانت أكتر، من أمتى وفي فرق بينا، خلي الأمور تمشي عادي زي زمان.
صاح ياسر بغضب مستعيدا ذكرى ما فعله به تواكله عليه: لا يا ياسين مش هنعيده تاني، وكل واحد فينا فلوسه هتفضل مفصولة عن فلوس أخوه، وبيتي مش هيتصرف عليه غير من نصيبي أنا.
نفخ ياسين بضيق: يابني ماهو في الأخر كله ليك ولبودي.
اندفع ياسر قائلا: بعد الشر عليك يا حبيبي، تعيش وتتهنى [مستطردا بخبث] وبعدين ليا أنا وبودي ليه، مبتفكرش تتجوز.
ضحك ياسين متهكما: وهي مين دي اللي أمها هتكون داعية عليها للدرجة دي.
تسائل ياسر بشك: أنت بجد مش واخد بالك، ولا عامل نفسك مش واخد بالك.
أجابه ياسين صادقا:عامل مش واخد بالي.
زفر ياسر بضيق: بس كده مش هينفع يا ياسين واضح جدا أنها معجبة بيك، وميصحش تلعب بيها، دي برضو أخت يوسف.
انتفض واقفا بغضب وهو يهتف مستنكرا: أنا لعبت بيها، أنا عمري ما لمحتلها بحاجة.
هادنه ياسر معتذرا وموضحا: لا طبعا مقصدش، بس أنت اتعلقت بالولد جدا، وتقريبا بتزوره بشكل مستمر، مرة بحجة تكشف على جدته ومرة عليه، وطبيعي أنها تفهم اهتمامك غلط وتعشم نفسها، فلو الخطوة دي مش فنيتك، فسيبها هي وابنها وأبعد.
زفر بضيق، فكيف يبعد عن ذلك الصغير الذي ملك قلبه وروى أبوته العطشة.
❈-❈-❈
كانت جميع نساء المزرعة يلتففن حول آية بثوب عرسها الرائع، بينما الشباب يحملون زينهم تتقافزه إيديهم صعودا وهبوطا.
كان ياسر ينظر لهم سعيدا لصديقه، بينما يقف بعيدا يحمل صغيره بيد واليد الأخرى تحيط كتف حبيبته تضمها إليه بحب، نظر حوله يبحث عن شقيقه، ليجده جالسا إلى الطاولة يداعب مهاب بسعادة، همس ببعض كلمات بإذن زوجته، قبل أن يتركها حاملا طفله باتجاه شقيقه وهو يقول: يا بختك ياعم مهاب الدكتور مبيضيعش فرصة ممكن تكونوا سوى فيها.
ابتسم له ياسين مشاكسا: أنت بتغير ولا أيه.
أجابه ياسين مشير بطرف خفي لوفاء التي تراقبهما من بعيد: مش أنا لوحدي اللي غيران.
همس ياسين زاجرا: ياسر ميصحش كده.
أجابه ياسر مشاكسا: أنا قصدي شريف والله.
فجأته إجابة ياسين الصادمة: قريب جدا أن شاء الله، أنا فاتحت يوسف النهاردة وأكيد هيسألها بعد الفرح.
اتسعت عيني ياسر بصدمة لتلك البساطة التي يخبره بها عن نيته بالزواج دون إخباره مسبقا: أنت بتتكلم جد.
أجابه ياسين بجدية: وهو الجواز فيه هزار.
نظر له ياسر مترجيا: أوعى تظلمها يا ياسين، لو مش هتقدر تحبها أبعد أحسن.
تسائل ياسين مستنكرا: ومين قال أن الحب هو الأساس الوحيد للجواز.
تلجلج ياسر محاولا تجنب ذكر الماضي: مش قصدي، بس أكيد مش من العدل أنك تتجوز واحدة وقلبك مشغول بغيرها.
أجابه ياسين بهدوء وثقة: ممكن أكون مبحبهاش حاليا، بس مين قال أني بحب غيرها، مش هانكر أني كنت باحب سلوى، لكن أي حب من طرف واحد مصيره ينتهي في يوم، خصوصا لو الطرف التاني استغل حبك أسوء استغلال.
دهش ياسر لذكره سلوى بتلك البساطة، ليتسائل بفضول: يعني ممكن تحبها في يوم.
اجابه ببساطة وهو يضم مهاب لصدره: وليه لا، هي فيها كل اللي أنا محتاجه، أنا أديت كتير قوي، وحاسس أني محتاج أخد، مش معنى كده أني عايز العكس، وهاخد ومديش، بالعكس أنا عايز أعيش علاقة سوية، الطرفين بيحافظوا عليها وحريصين أنها تنجح، وحاليا انا باحترمها وبقدرها وحاسس أني دي أفضل بداية للعلاقة دي.
❈-❈-❈
دلف لشقته يحمل صغيره، ليذهب به لفراشه، بينما تفك زوجته حجابها أمام المرأة وهي تعاتبه بدلال: كان هيحصل أيه لو كنت سيبتني أحط ميك آب خفيف كل الستات كانت حاطة.
اقترب يحتضنها من الخلف وهو يهمس بإذنها بحنان: حبيبتي مش محتاجة الوان زي الطاووس عشان يبان جمالها، حبيبتي يمامة رقيقة، مش محتاجة أي ألوان تزينها كفاية رقتك والبراءة اللي في عينيكي دي.
ابتسمت بحب: ربنا يخليك لي، أنا مبسوطة قوي من ساعة ماجينا هنا، الناس هنا طيبين قوي [لتضحك فجأة] ولا المجنونة هناء عاملة زي الأطفال طول ما احنا ماشيين في السوق بتقعد تشتري آيس كريم وشيبس، بتفطسني من الضحك.
لتستطرد بحماس وقد تذكرت أمرا: مش تتخيل مسمياه رانيا أيه، تخيل مسمياها روقة.
لفها إليه وهو، يحتضنها برقة بينما همس بإذنها، مش عايز أسمع سيرة أي ست غير انت وبس.
غمغمت معتذرة بحرج: أسفة حبيبي، رغم أن إستشاري العلاقات كانت فكرتي، لكن أنت أشطر مني بكتير، أنا نسيت أنه قال أن مش المفروض حد منا يجيب سيرة أصحابه قدام التاني.
ابتسم بحب: ولا يهمك حبيبتي.
أشاحت بأصابعها فوق أذنيه بمشاكسة كأنما تبعثر حروف ما قالته بأذانه: خلاص مفيش هناء ولا روقة.
ضحك مشاكسا وهو يتذكر عفوية زينهم: روقة مين، ده أنت اللي روقة وستين روقة.
❈-❈-❈
تمت بحمد الله

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية اليمامة والطاووس)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *