روايات

رواية سجينة جبل العامري الفصل الثالث والعشرون 23 بقلم ندا حسن

رواية سجينة جبل العامري الفصل الثالث والعشرون 23 بقلم ندا حسن

رواية سجينة جبل العامري البارت الثالث والعشرون

رواية سجينة جبل العامري الجزء الثالث والعشرون

سجينة جبل العامري
سجينة جبل العامري

رواية سجينة جبل العامري الحلقة الثالثة والعشرون

“ثار بركان الغضب داخل أعماق قلبي أثناء معركة ضارية والطبول المُطالبة بالنجدة تُقرع دون توقف في محاولة منها لإنقاذ ذلك الفُتات الذي تبقى منه، ولكن مع كل مرة تُقرع بها ينطبق القفص الصدري على فُتات قلبي المُتبقي ليسحقهُ أكثر وأكثر مُصرًا على أن يقوم بتدميرهُ، فلم يكن هناك فرصه للهروب من تلك الحمم البركانية فوقع قلبي قتيلًا أثر هذه المعركة الخاسرة، ليأتي قائدها ينعم بجمع الغنائم من بينهم قلبي الذي أراد أن يعيد له حياته، وبقيٰ السؤال هل يستطيع!؟ ”
لحظات والصمت يجتاح جسده، نظرات عينيه، أنفاسه، الصمت والصدمة تتخلله سويًا يعبثون به إلى المنتهى، فبقيت هي تطالعه بضياع وعقلها مُشتت مُغترب عن أرض الواقع، تجرأت ورفعت أنامل يدها إلى ذراعه بضعف تنظر إليه بتمعن..
شعر بلمساتها على ذراعه فاستدار ينظر إليها بذهول وعيناه مثبتة على عيناها مباشرة فلم تستطع الصمود أمام نظرته وتفوهت قائلة:
-في ايه يا جبل؟ مين مات!
حركت عقله مرة أخرى عندما ذكرت الموت فاستفاق عليها بقوة، أدمعت عيناه أمامها والصدمة تحتل كيانه، وكأن الرعشة سارت في أنحاء بدنه كطفل صغير فقد لعبته المحبة إلى قلبه، أو كطفل ضل الطريق ليصل إلى والده..
حركت عيناها عليه بقلق ورفعت أصابعها إلى وجنته تزيل تلك الدمعة التي هبطت من عين واحدة وكأنها هاربة من سجن أبدي، تحدثت بخفوت:
-جبل.. مالك؟
دومًا نرى الرجال رجالًا قولًا وفعلًا هم رجالًا، عندما يتصرف بعقلانية في أصعب الأوقات، عندما لا يترك دمعات عينيه تفر هاربة في المِحن، عندما يقف شامخًا في مهب الرياح، دومًا نردد “اللهم إني أعوذ بك من قهر الرجال” أتدري أي قهر مر على رجل قضى عمره شامخًا كالجبال!..
كانت نظرات عينيه مؤلمة للغاية، مقهورة إلى أبعد حد، يحمل داخل قلبه أسرارًا وأسرار، يحمل أشياء تشكل عبئًا ثقيلًا على صدره وكأنه حاكم دولة ليست جزيرة يحمل أرواح الآلاف على أكتافه..
يشعر بقلبه يعتصر من شدة الألم، الذي يصبح أضعاف كلما استوعب ما حدث..
دق جرس الإنذار في عقله يدوي عاليًا يحذر من احتراق الأخضر واليابس أن اهتز الجبل الشامخ، وقد كان.. فلا جبال ستصمد وتبقى راسخة صامتة ولا بشر سيتحمل انهيارها..
نهض من الفراش بحركات هوجاء يلتقط ملابسه وهو يعرف وجهته إلى أين ستأخذه ضاغطًا على قلبه أكثر وأكثر مغلقًا على آلامه وتلك الصدمات موصدًا أبواب الحزن إلى أن يأتي بثأره..
يرتدي الثياب على عجله من أمره فوقفت “زينة” سريعًا وهي تبادله ما يفعل تستر جسدها تهتف بذعر وخوف:
-جبل فهمني في ايه
لم تتلقى منه ردًا، ولم يُعير حديثها اهتمام وكأنه لا يستمع إليه فقالت تكرر محاولة فهم ما الذي حدث وجعله يصل إلى هذه الحالة الغريبة:
-جبل أنا بكلمك
أمسك بهاتفه بعدما انتهى من ارتداء ملابسه، لا تدري كيف والده توفى أو هي استمعت خطأ وفهمت خطأ أكبر، أقتربت منه تحيط ذراعيه بأناملها الضعيفة تقف أمامه بقلق بالغ:
-طيب استنى علشان لو حد بره
دفعها بغلظة وهو يتوجه إلى الخارج صارخًا وصدره فارغ وكأن قلبه نزع منه:
-أنا عايز الكل يبقى بره.. جه وقت الحساب
هندمت ملابسها وخرجت خلفه سريعًا تخطو خطوات واسعة أشبه راكضة خلفة وهي تراه يهبط إلى الأسفل مُتوجه إلى مكان جلوسهم..
انقبض قلبها خوفًا مما سيفعله أنه الآن في أسوأ حالاته وإن تركته سيضيع كل شيء فعلونه سويًا كي يصل في النهاية إلى ما يريد ويتخلص من ابنة عمه وذلك العدو الأكبر له
حاولت النداء عليه وهي خلفه لكنه لم يعيرها اهتمام تلك النيران تشتعل داخل صدره تحرق الأخضر واليابس به، تعجل في ملاقاه مصرعه بطريقة بشعة للغاية..
تلك الندوب التي تركها والده في حياته لم تكن عادية مُيسرة إلى الدرجة التي يترك حقه بها متنازلًا عنه يمرر ما يحدث وكأنه لم يكن، لم يصل إلى هنا إلا بدمائه ودماء المحيطون به، لم يصل إلى هنا إلا بعد إرهاق ومشقة دامت للكثير..
لم يكن يرى أمامه سواها، هي الوحيدة الآن التي ستكون الطريق إلى النجاة والأخذ بالثأر، قبضت يده الغليظة على خصلات شعر “تمارا” التي كانت جالسة أمام التلفاز معهم ولم يكن في حسبانها ما سيحدث على يده..
صرخت بقوة وهي تقف رغمًا عنها بفعل يده التي تجذبها إليه بقوة وقسوة شديدة تكاد تقتلع خصلاتها من جذورها تاركه فروة رأسها صلعاء..
وقفت أمامه تنظر إليه بغرابة لا تستوعب ما الذي يفعله بعد أن كان وديع محب حنون إلى الغاية، خرج صوتها بخوف تحاول مداراته:
-في ايه يا جبل اوعا
أجابها بكف يده الآخر وهو يترك خصلات شعرها ليهبط كفه الغليظ على وجنتها يجعلها ترتد إلى الخلف صارخة بعنف وقوة تحتل الصدمة كيانها..
لم تستطع أن تقف معتدلة لتنظر إليه فلم يترك إليها الفرصة لفعل ذلك في لمح البصر تقدم منها يأخذ خصلاتها على ساعده ملتفه بقوة يجذبها بعنف وقسوة ضارية يجعلها تصرخ أكثر يلطمها مرة خلف الأخرى بكل عنف وشدة لتخرج الدماء من جانب شفتيها وأنفها بغزارة..
تقدمت والدته سريعًا بعدما رأته فاقد السيطرة على نفسه تنظر إلى زوجته التي كانت تقف بعيدة لا تستطيع الإقتراب وتبدل الحال بينهم يظهر هذا على ملامحهم وأجسادهم، جذبتها منه بقوة تأخذها خلف ظهرها لتصرخ به بقسوة:
-فهمنا في ايه بدل ما أنت نازل ضرب فيها
أبتعد عن وجه والدته وأقترب منها قابضًا على ذراعها بعنف يأخذها مرة أخرى ينظر إليها بكره شديد قائلًا بغضب:
-أنتي فاكرة نفسك بتستغفليني؟ فاكرة إني رجعتك الجزيرة علشان اتجوزك بجد
أكمل ضاغطًا على ذراعها ينظر إلى عينيها نظرة ارعبتها:
-أنا استغفل مليون واحدة زيك يا بت العامري، الله وكيل ما هرحمك.. الله وكيل ما هيطلع عليكي صبح وأنتي واقفة على رجلك
ارتعشت حقًا وسارت القشعريرة في أنحاء جسدها تنذرها عما سيفعله بها قادمًا على الرغم من أنها لا تدرك لما تحول هكذا، تحدثت بصوت مرتجف خافت:
-أنا عملت ايه يا جبل.. والله معملتش حاجه دا أنا بحبك
رفعت يدها الأخرى تزيل الدماء الهابطة على عنقها من شفتيها وأنفها تبكي بغزارة وجنون نظراته نحوها تشعرها بالذعر:
-والله بحبك وجيت الجزيرة تاني علشانك وعلشان عايزة ابقى معاك يا جبل حرام عليك ليه بتعمل فيا كده
ابتسم ساخرًا وعيناه المخيفة ترسل إليها هستيرية الانتقام ليخرج صوته حاد كنصل السكين:
-صدقتك أنا كده.. صدقتك يا بت الكلب
أنهى كلماته وهو يلطمها بقسوة شديدة دافعًا إياها للخلف متسائلًا حابسًا حزنه ودمعاته المطالبة بالخروج:
-طاهر فين
ابتلعت لعابها وتمكن الذعر منها، هنا فهمت ما الذي يريده ولما يفعل هذا، هنا أدركت سبب تحوله ومقصده من قدومها إلى هنا، كم أنك ذئب يا “جبل العامري”
نظراته نحوها لم تكن إلا كرهًا وبغضًا تُخيفها إلى الجنون ولكن ما يخفيه بالداخل لم يكن سوى ضعف مميت يقضي عليه تدريجيًا، قهر احتل أعضائه الداخلية وتشابك مع روحه ليأخذه إلى النهاية المطلقة الحرة ولكن وحده في واقع غير هذا..
حركات جسده وذلك التشنج الذي يصيبه، همجية أفعاله ونظراته المجنونة التي تدفعه لقتلها لا تنبعث إلا من داخله، من داخل قلبه المطعون بسكين تارة حاد وتارة تالم فلم يعد يشعر بأي منهما الأصعب في الألم..
الجميع يقف مذهولًا، لا تدري “زينة” لما الآن قرر التخلي عن خطته التي رسمها معها وأصبحت ناجحة للغاية ستؤدي به للطريق الذي يريده وتلك الكلمات التي نطق بها في نهاية مكالمته تتردد على مسامعها ولكنها تخاف التحدث وترى ما يفعله بقلة عقل لا يأتي إلا من قهر أصابه وألم لا يستطيع تحمله..
بينما والدته التي استمعت إلى كلماته البسيطة معها أدركت منها أنه أعادها إلى الجزيرة بسبب ما غير الذي قاله لهم، غير الذي بدى عليه وأتى ظنها في محله ويبدو أن هذه المرة لن تمر مرور الكرام على “تمارا” التي لازالت مصممة على إنهاء حياتها هنا على يد ابنها..
تعلثمت متحدثة بضعف مصطنعة عدم المعرفة:
-طاهر.. طاهر مين!
أقترب يضع يده الاثنين حول عنقها يحيطهم بقسوة شديدة يضغط عليها بعنف وضراوة مصرًا على قتلها وهو يصرخ بها:
-لما تستهبلي عليا هسيبك!.. لأ أنتي كده كده ميته يا تمارا
ركضت “زينة” نحوه تقبض على ذراعيه محاولة أن تجذبه للخلف صارخة به:
-جبل سيبها.. سيبها كده مش هتعرف منها حاجه
شعر بها تختق حد الموت شفتيها تحولت إلى اللون الأزرق وأحمر وجهها بشدة فابتعد عنها ممتعضًا غاضبًا:
-اتكلمي
سعلت بشدة وهي تضع يدها حول عنقها لا تصدق أنه تركها فقد قاربت على الموت بين يديه، أدركت مدى تهوره واستعداده التام لقتلها في الحال فقالت باكية:
-أنا ماليش دعوة بحاجه يا جبل صدقني
انتحبت أكثر محاولة أن تفعل أي شيء تجعله يشفق عليها ويرق قلبه ناحيتها فلم تجد إلا أن تتحدث بخوف قائلة:
-هو ضحك عليا.. ضحك عليا بعد ما مشيت من هنا والله
تمعن في النظر إليها بعيون مليئة بالغضب والكراهية، خرج صوته بحدة متسائلًا:
-مكانه فين؟
ارتعشت بخوف وهي تبتعد للخلف قائلة بمراوغة:
-معرفش
جز على أسنانه وهو يقترب تلك المسافة التي ابتعدتها قائلًا:
-أخر مرة هسألك مكانه فين؟
نظرت إليهم واحدًا تلو الآخر، أنها هنا بينهم وحدها، وقعت بين يدي “جبل العامري” مرة آخرى كانت الأولى قد مرت وتركها ورحلت سالمة، الآن بعد أن أدرك أنها تعاونت مع “طاهر” ضده لن يتركها إلا عندما يشفي غليله منها!..
تفوهت تخبره بنبرة خائفة:
-هو.. هو كان باعتلي عنوانه الجديد في رسالة بس أنا مرحتوش والله ولا أعرفه
أقترب يمد يده نحوها ليتمسك بخصلات شعرها صائحًا بقسوة:
-بتكدبي عليا ها.. مـروحـتـيـش
أمسكت يده “زينة” سريعًا محاولة تهدئته وهي تنظر إليه برجاء أن يتركها فاستمع إلى صوتها يخرج بذعر مرتعشًا:
-روحت.. روحت والله بس كنت بقابله في النيل مش العنوان ده
أشار إليها بحدة:
-هاتي العنوان
أخرجت الهاتف من جيب بنطالها بأنامل مرتعشة فتحته على الرسالة الخاصة بالعنوان لتريه إياه:
-أهو
لكنه جذبه من يدها ينظر إليه يقرأ محتواه جيدًا ثم وضع الهاتف بجيب بنطاله تاركًا إياها بينهم متوعدًا لها وهو يخرج بهمجية وتعجل.. ذهبت خلفه والدته التي صاحت بقسوة تسائلة بعصبية لا يروق لها أن تكون مشاهد:
-جبل.. فهمني ايه اللي بيحصل
وقفت أقدامه على الأرضية واستدار ينظر إليها بعمق قائلًا بإيجاز:
-لما خرجت من الجزيرة غدرت بيا واتفقت مع أكبر عدو ليا عليا، وأنا لما رجعتها كان علشان أعرف طريقه مش علشان اتجوزها زي ما قولت
ابتلع مرارة الخبر الذي استمع إليه منذ قليل، جف حلقه وهو ينظر إليها يفكر هل عليه أن يجعلها تحزن مرة أخرى أم يكفي المرة الأولى وهو يقف صامدًا إلى الآن لم يهتز ولم يبكي على والده!..
تركها تنظر إليه باستغراب تحاول استيعاب ما قاله وذهب خارجًا تاركًا إياهم فذهبت “زينة” خلفه ركضًا تناديه بلهفة وقلق..
وقف ينظر إليها لتذهب إليه سريعًا متسائلة بقلق جلي يظهر على كافة ملامحها:
-أنت رايح فين يا جبل
وضع كف يده على وجنتها يحرك أنامله الحنونة عليها ينظر إلى عينيها السوداء يلقى بها الموت والحياة، قال بجدية:
-متخافيش.. مشوار وراجع
سألته تتابع عيناه باهتمام شديد تشعر بأنه لا يستطيع الوقوف بهذه الطريقة الشامخة وكأن هناك ما يحرك حزنه وهو محاولًا ردعه:
-مين اللي مات
وضع يده على شفتيها سريعًا محذرًا إياها بعيناه بقوة ثم تحدث:
-متجبيش سيرة باللي سمعتيه.. متفكريش فيه حتى، لما أرجع هحكيلك
تركها وذهب ليقف مع “عاصم” تحت أنظارها يتحدث معه قبل الرحيل، مرت دقائق عليهم ثم رحلوا سويًا ومعهم بعض من الحراس..
فكرت قليلًا فيما استمعت إليه وهو معها أيعقل أن يكون والده كان على قيد الحياة ولا أحد يدري بهذا والآن لقى حتفه!.. يبدو أن الوضع هكذا بالأخص عندما حذرها من الحديث عنه أو حتى التفكير به، نظرت في الفراغ شاعرة بالحزن لأجل كل ما يمر به، سابقًا كانت تشعر بالسعادة عندما تعلم بتورطه في شيء ولكن الآن بعد أن أصبحت الحقيقة بكتاب مفتوح أمامها، بعدما شعرت بأنها لا تحب أحد غيره ولا تستطيع العيش بدونه لا تجد إلا الحزن يدق بابها لأجله.. لأجله هو فقط ذلك الذي تربع على عرش قلبها دون سابق إنذار..
دلفت إلى الداخل وما كادت إلا أن تغلق الباب إلا أنها وجدت أحد الحراس يقف أمامها فسألته باستغراب:
-في ايه؟
تحدث بجدية يجيبها:
-هاخد تمارا.. أوامر جبل بيه
دلفت إلى الداخل تنظر إلى “تمارا” الجالسة على الأريكة في زاوية الغرفة بعيدًا عن الجميع والذين بقيوا داخل حجرة الصدمة يفكرون فيما قاله وما فعلته تلك التي تعيش بينهم..
أقتربت من “وجيدة” تنظر إليها بجدية ثم هتفت قائلة:
-طنط.. تعالي شوفي الحارس اللي بره
ذهبت معها إليه لتعيد عليه نفس السؤال الخاص بزوجة ابنها فأجابها مرة ثانية:
-أوامر جبل بيه ناخد تمارا من هنا
سألته باستغراب مضيقة عينيها عليه:
-هتودوها فين
أجابها بجدية:
-الجبل
دلفت إلى الداخل دون حديث، نظرت إلى ابنتها “فرح” بقوة وحدة تصيح بها:
-قومي اطلعي على فوق
وقفت على قدميها سريعًا وتحركت مبتعدة تنصاع إلى حديث والدتها الحاد دون أن تنظر خلفها حتى يكفي ما مرت به هي وفي نفس اللحظات كانت “تمارا” تخلت عنها.. تعرف ما الذي ستخضع له على يد شقيقها ولكن كما قالت “تمارا” سابقًا أنها لا تستطيع المخاطرة بعد أن حذر بأن لا أحد يتدخل..
بعدما رحلت أشارت إليها بقوة:
-تعالي يا تمارا معايا
نظرت إليها برعب احتل أوصالها ولعب على أوتار عقلها الباقية للتفكير بها، تابعتها بخوف شديد. ورهبة قاتلة فخرج صوتها بتعلثم:
-اجي معاكي فين
أجابتها وهي تقترب منها لتقبض على معصم يدها تجذبها لتقف عنوة عنها:
-تعالي متخافيش
وقفت تسير معها وهي تنظر إليها مرة وإلى “زينة” مرة أخرى بعيون التهمها الخوف ودقات قلبها المتعالية لا تنذرها إلا عن الأسوأ القادم مع أقترابها من الخارج.. تلك الذكريات الغريبة تحوم حول عقلها وكأن النهاية اقتربت ومالك الموت واقفًا في انتظارها ليقبض روحها.. ارتعش بدنها من تلك الرهبة المتعلقة بعنقها عازمة أمرها على التكملة إلى أن تؤدي بحياتها..
وقفت أمام الحارس معهما تنظر إليهم بحيرة ورجاء في ذات الوقت ولكن “وجيدة” استعادت سابق عصرها بقسوتها وحدتها ولم تترك إليها الفرصة لتنظر إلى أحد تطالب منه بشفقة أو تعاطف دفعتها للخارج بقوة وعنف ليأخذها الحارس عنوة وقهرًا فأغلقت البوابة خلفها تستمع إلى صراخها المميت المقهور تناجيهم أن يرحمونها..
لم ترحم هي نفسها كيف تنتظر من الآخرين الرحمة؟ لم ترحم بدنها وتفكيرها وقلبها، لم تفكر في روحها العزيزة بل وجدت أن الانتقام الحل الأمثل وعادت كالبلهاء إلى بلدة تنتظر ذبح فقير العقل ووقع الاختيار عليها.. كالبهاء عادت معتقدة أنه حن إليها وعاد شغفه إلى السنوات السابقة.. كالبهاء اعتقدت أن من تركته في أكبر المحن الخاصة به.. من تركته في أكبر الأزمات والمصائب وحده هو والليل يعاني من الممكن أن ينظر إليها كسابق عهده!.. كالبهاء عادت إلى يد “جبل العامري” القاتلة..
❈-❈-❈
بعد ساعات وصل “جبل” و “عاصم” إلى العنوان الذي أخذه من ابنة عمه، وقف أسفل العمارة ينظر إلى الأعلى وطلب من رجاله أن يبقون في الأسفل صعد فقط هو و “عاصم” بعدما قام “عاصم” بالتواصل مع الشرطة
وقف أمام باب الشقة ثم دق عليه بقبضة يده أكثر من مرة، لحظات مرت عليهم وهم يقفون ثم فُتح الباب وظهر من خلفه “طاهر” الذي احتلت الصدمة ملامحه فور أن وقعت عيناه عليهما أمامه..
دفع “عاصم” الباب بقوة وتقدم إلى الداخل ومعه “جبل” تحت نظرات الآخر القلقة منهم، نظرات غريبة تبدو خائفة وكارهه، يحاول أن يبعث الثبات إليهم كي يروه وهو واقف متزن أمامهم..
ولكن “جبل” لم يترك له الفرصة وهو يتقدم منه يمحي ثباته وقوته وهو يلكمه بقوة شديدة جعلته يسقط على الأرضية يضع يده على أنفه الذي نزف بغزارة من لكمة واحدة ولكنها خرجت منه بغل وحقد كبير قبع داخل قلبه كثيرًا..
انحنى عليه يجذبه بقوة يرفعه ناحيته بجذعه العلوي يسدد له الضربات الموجعة والقاتلة، كان يعرف أين وجهته وأين تأتي ضربته القادمة..
كل هذا كان يخرج من صميم قلبه المقهور، وعقله النازف، كل هذا من روحه المطعونة بموت والده غدرًا على يد أحد رجال هذا الحيوان الحقير..
سدد إليه الكمات والضربات دون أن يجعله يأخذ الفرصة ليدافع عن نفسه ووقف “عاصم” مشاهدًا فقط يرى ما يفعله “جبل” به..
استمع إلى صراخه المقهور يخرج ما كنه قلبه وكتمه أمام الجميع:
-بتاخد حقك مني في أبويا.. بس أنت اخدته غدر معرفتش بردو تقف قصادي وترفع سلاحك عليا.. معرفتش تبقى جبل العامري ولا عرفت تمسني بحاجه
ابتسم “طاهر” الغارق في دمائه قائلًا بسخرية وصوت ضعيف:
-لو كنت اتأخرت شوية كنت قلبتها عليك بس أنت حظك حلو
لكمه مرة أخرى وأخرى وهو يصرخ بحقد:
-مهما عملت مش هتعرف تبقى أنا.. ولا هتعرف تعملي حاجه.. بقالك قد ايه عدوي.. طول عمرك كلام وبس
أكمل ساخرًا مبتسمًا بتهكم:
-سمعت قبل كده عن الصامت في رواية أحدهم.. أنت كنت المتحدث في روايتي.. مالكش أي قيمة غير إنك تتكلم لكن تنفيذ مافيش.
ارتفع صوت ضحكاته غير قادرًا على مجابهة الضربات التي تأتيه منه فلم يعطيه الفرصة من البداية للرد فتزايدت عليه إلى أن وقع أسفله:
-ما قولتلك لو اتأخرت شوية كانت جزيرة العامري كلها ولعت باللي هعمله
بقي يلكمه بغل وقهر على والده، وعلى حياته ورجاله الذين لقوا حتفهم بسببه، ظل يضربه بحقد وغضب ضاري وهو يصرخ به وأصبحت الدماء تغرق وجهه وجسده فتقدم “عاصم” سريعًا منه يجذبه بعيدًا عنه مذكرة أنهم يريدونه على قيد الحياة..
ابتسم “جبل” وهو يقول ساخرًا:
-اللي جاي صعب عليك.. هتلعن الساعة اللي سولك فيها عقلك تقف قصاد جبل العامري
أكمل بجدية شديدة وصدق:
-طول عمري بحب اللعب، وكنت كفيل بيك لوحدي وأعرف أجيب أجلك بس كنت سايبك تحلي اللعب معايا.. كنت سايبك تخليني استمتع في الملعب.. جه الوقت اللي تستقيل فيه من اللعبة كلها
ضربه بقدمه لآخر مرة عندما استمع إلى الدق فوق الباب الذي كان أغلقه “عاصم” تقدم مرة أخرى ليفتحه فدلفت عناصر الشرطة متناثرة في كل مكان وتقدم اثنان منهم يقبضون على “طاهر” الملقى أرضًا لا حيلة له..
لم يستطع الوقوف بسبب ما فعله به “جبل” خسر كل شيء أمامه ووقع قتيلًا أسفل قدميه، كيف فعلها ابن “العامري” لا يدري ولكن قدره السيء هو الذي ألقى بكل ما فعله في مهب الريح ليبقى الآن ذليل أمامهم وبين يديهم يعرف المصير القادم إليه سيبقى في السجون إن لم يحصل على الإعدام..
تحدث الضابط بعملية شديدة:
-مقبوض عليك بتهمة قتل زهران العامري.. غير التهم التانية أظنك عارفها كويس
أشار إلى عناصر الشرطة:
-خدوه
ثم أبعد نظره إلى “جبل” قائلًا بمواساة:
-البقاء لله يا جبل..
أجابه شاعرًا بالحزن يتخلل داخله:
-ونعم بالله
ذهب “جبل” و “عاصم” مع عناصر الشرطة، كان من السهل عليه قتلة بمنتهى السهولة ولم يكن سيحاسب على قتله ولكن في حالة القتل راحة وهو لا يريد له الراحة بل يريده أن يتعذب كما عذب والده، يريده أن يتجرع كؤوس المر والحزن.. يريده أن يتمنى الموت ولا يحصل عليه..
❈-❈-❈
بعد أن أشرقت الشمس عاد “جبل” القصر مرة أخرى، ملابسه مليئة بالأتربة، وجهه وملامحه تحمل حزن ومأسي العالم أجمع، جسده متهدل منحني إلى الأسفل ليس ذلك الجبل الشامخ طيلة الوقت.. هناك تغيير كبير حدث في حياته فقط في بضع ساعات جعله من شخصًا صلب حاد لا ينهزم بالصعاب إلى آخر لين يسهل حزنه وكسره..
دلف إلى الداخل وقارب على الصعود إلى الأعلى لينال بعض من الراحة بين أحضانها، لينال بعض من الهدوء بين طيات قلبها النقي يبكي ويفرغ ما داخله دون خوف دون أن يرى أن كسرته أمامها ككسرته أمام الجميع..
لم يستطع الصعود إلى الأعلى عندما وجد والدته تناديه بصوت حاد قاسي، لم تنم بعد منذ ليلة الأمس، تنتظر عودته من الخارج ليجلس أمامها كطفل صغير يخطئ ويخفي خطأه عنها والآن حان وقت المحاسبة ومراجعة كل ما فعله في الأيام المنصرمة دون علمها واللجوء إليها وأخذ حديثها بعين الاعتبار..
عاد زافرًا الهواء من رئتيه بضيق شديد فلا يستطيع التحمل أكثر من ذلك، يكفي ما تحمله إلى الآن يود الجلوس ليفرغ ما بداخله ثم يستقبل صدمات أخرى وأفعال غير الذي قابلها..
أشارت له بالولوج إلى الغرفة ففعل ليجلس على الأريكة، أتت لتجلس أمامه متحدثة بجدية:
-أنا عايزة أفهم كل حاجه حصلت يا جبل من البداية لحد دلوقتي..
أومأ إليها برأسه موافقًا على حديثها، الآن أتى الوقت المناسب للبوح بكل سر أخفاه عنها، حرك رأسه مفكرًا قليلًا تحت أنظارها، يبدو أنه لن يبوح عن كل الأسرار لا يجوز أن يفعل هذا، إن كان هناك حزن مرة سابقة فلما سيكون هناك حزن للمرة الثانية على نفس السبب!..
تحدث متنهدًا بعمق:
-أنا مكنتش بكمل مسيرة أبويا المشرفة في تجارة السلاح
قطبت جبينها باستغراب تتابعه بعينيها قائلة مستفهمة:
-يعني ايه
تنهد مرة أخرى يخرج ما بجوفه بجمود يلقي عليها الحديث بطريقة باردة وكأنها لا يشيء:
-أنا كنت شغال مع الحكومة بساعدهم في القبض على تجار السلاح
ولكن أثر الكلمات عليها كانت صاعقة لم تتحملها وهي تناظره بحدة وذهول تام تسأله:
-أنت بتقول ايه يا جبل
أومأ إليها يؤكد على حديثه مُكملًا بجدية:
-اللي سمعتيه، أنا مش تاجر سلاح ده اللي انتوا تعرفوه والجزيرة والكل لكن الحقيقة هي أن أنا شغال مع الحكومة
حرك يديه بارهاق يُشير إليها موضحًا ما حدث في الأيام الماضية:
-مكنش حد يعرف غير عاصم وبعدين زينة، سمعتنا تمارا وبعد ما خرجت من الجزيرة قالت لطاهر ولو هو متأخرش في أنه يوديني ورا الشمس مكنش زماني هنا دلوقتي
سألته بعينان مُتسعة عليه ترى كذبه وخبثه عليها:
-كل ده كنت بتكدب عليا
نظر إليها بجدية وعمق ثم سألها وهو يتقدم للأمام منها:
-فرحانه ولا زعلانه بالكدبة
لم تجيبه وبقيت تنظر إليه باستغراب، أليس من المفترض أنه أكمل مسيرة والده كي يأتي بحقه، أليس من المفترض أنه يثأر لوالده الذي قتل على يد الشرطة منذ سنوات وشقيقه الذي ذهب غدرًا وحرمت منه وهو في ربيع شبابه..
كان يعلم ما الذي تفكر به وهو تناظره بهذه الطريقة القاسية فتحدث ساخرًا مبتسمًا بارهاق شديد:
-مبتردش ليه؟ كنتي فخوره بابنك تاجر السلاح ومستنية مصيره يبقى زي أخوه وأبوه
أجابته بقسوة وعنف تنظر إليه بحدة خالصة:
-أبوك اللي الحكومة قتلته وأخوك اللي اتاخد غدر
انفعل وهو يقترب للأمام أكثر بجسده يبغض ما تتحدث عنه ويبغض الخروج عن القانون، يبغض ما فعله والده وشقيقه وتلك السمعة التي تركوها له من بعد رحيلهم.. يبغض أنه رجل قانون وهم خارجين عنه، يبغض أنه تخلى عن حلمه لأجلهم:
-أبويا اللي قتل نفسه لما مشي في الطريق ده، وأخويا مصيره كان لازم يبقى زيه لأنه شجعه وسهل ليه شغله بره وجوا مصر
سخرت منه وهي تعود بذاكرتها للخلف، تتذكر شجاره الدائم مع والده وشقيقه، تتذكر كم كان يكره ما يفعلونه، وذلك اليوم المشؤوم الذي ترك الجزيرة به متخليًا عن الجميع لأجل أن يسير في طريق نظيف:
-أنت راجل القانون اللي مكانش عاجبك حالهم
تابعها وهو يرى سخريتها المميتة منه، ألا يحق له أن يكون رجل ناجح نظيف برئ من كل التهم المنسوبة إليه؟ ألا يحق له أن يكون شاب يسير في دروب الحقيقة والعدل! لقد وقع في طريق الظلام عنوة عنه وعندما أراد الخروج ترك ما يحبه ويبغاه:
-اديكي قولتي، راجل القانون
أشار إلى نفسه بحدة كبيرة يتحدث بقسوة وغلظة يخرج النيران الحبيسة داخل أعماقه منذ الكثير من السنوات ينتظر أن تعبر عن رضاها عما فعله:
-لازم تبقي فخورة بيا.. لازم تحسي إن ابنك مافيش زيه.. أنا حميت ناس كتير ووقفت مع ناس كتير.. أنا مستني نظرة رضا منك عن كل اللي عملته
صمتت قليلًا تنظر إلى الأرضية تبعد عيناها عنه، تتذكر كل شيء مر عليهم منذ سنوات وكأنه حدث بالأمس يمر أمامها شريط سريع لكل شيء ولكن قلبها يقول غير الذي حفظته عن ظهر قلب، يقول إنها خسرت اثنان وبفضل الوحيد المتبقي جعل رائحة الراحل معها، وأتى بابنته إليها ليفعل كل ما يرضيها، أتى بها بالحب والحنان وأصبح والد آخر لها، أتى بها إلى جدتها لتشعر بأن ولدها مازال معها وهو في الحقيقة تركها منذ زمن..
تنهدت زافره الهواء بهدوء ونظرت إليه بعد أن فكرت في حديثه لدقائق بسيطة ينتظر بها ردها الفاصل لكل ما فعله:
-وأنا راضية عنك يا جبل مهما عملت.. صحيح أنت ذكي ومخلتنيش أشك فيك ولا مرة بس كنت حاسه أنك بتعمل حاجه صح..
ابتسمت بحب قائلة وهي تقترب تضع يدها تربت على فخذه:
-ربنا يرضى عليك
ابتسم بارهاق وهو ينظر إليها بضياع، لو تعلم أن والده كان على قيد الحياة منذ سبع سنوات واليوم حتى لقى حتفه على يد “طاهر” لو تعلم أنه هو الذي طلب منه إخفاء هذه الحقيقة، لو تعلم أن الجالس أمامها يموت قهرًا، روحه تنزف ألمًا وقلبه يبكي بدلًا من عينيه الظاهرة للجميع دماء..
تنهد بعمق محاولًا الثبات أكثر، تركها وصعد إلى الأعلى غير مصدقًا أنه وصل إلى باب الغرفة، فتح الباب وولج إلى الداخل لينظر إليها نائمة على الفراش، يبدو أنها تغط بنوم عميق فالصباح أشرق منذ القليل..
تنهد للمرة التي لا يعلم عددها وهو يشعر بالعجز دالفًا إلي الداخل يجلس على الفراش يعطيها ظهره..
وجد من يحيطه من الخلف فاستدار ينظر إليها ليجدها جلست على الفراش تغمره لا يدرى متى استيقظت فسألها باستغراب:
-كنتي نايمة
حاوطته بيدها وغمرته بقلبها تجيبه بهدوء تحاول أن تزيل النعاس:
-لأ أنا صاحية لحد من شوية بس غفلت.. كلمتك كتير أوي موبايلك كان مقفول
تابعت مظهره الغير مهندم وملابسه المتسخة غير مظهره الذي لا يوحي بالخير فتفوهت مستفسرة:
-عملت ايه؟ مال شكلك متبهدل كده
جذبها من معصم يدها لتبقى جواره ثم مال بجسده عليها يلقي برأسه على صدرها ويلقي بأحزانه في محرابها تستقبل هي عباراته بكل رحابة صدر تبتسم لأنها المكان الأمن والمحبب بالنسبة إليه..
خللت أناملها بين خصلات شعره تفعل ما يحب تلتزم الصمت ليعبر عن مكنون قلبه وما يريد البوح به هو..
بقيٰ هكذا لوقت طويل، يتنفس بعنق تخرج العبرات من عينيه دون صوت فقط تستمع إلى أنفاسه الخارجة منه يشعر بقلبه يعتصر داخل صدره ولكنه يستمر دون حديث ودون أي شيء منها ينتظر قائلًا ليفرغ شحنة غضبة وحزنه وحرمانه ثم يعود واثقًا شامخًا ينظر إليها وهو رجل قادر وواثق..
حركت يدها الأخرى عليه بحنو ولين تحسه بالاطمئنان والأمان، تجعله يشعر بأنها جواره في كل الأحوال تنتظر الحديث لتستطيع أن تخفف عنه وتواسيه.. وهو هكذا فقط تربت على أحزانه ونظراته المنكسرة لا شيء غير ذلك.. فقط تنظر إلى ما يصدر عنه تشعر بأن هناك حمل ثقيل يحمله وحده فوق أكتافه ويبدو أنه أكبر بكثير من المرة السابقة..
إلى هذه الدرجة تخلل الحزن قلبه وتغلب عليه الألم والقهر، إلى هذه الدرجة لم يعد قادرًا على التحمل ليلقي كل آلامه هنا بين أحضانها صامتًا لا يخرج منه شيء سوى أنفاس وعبرات محترقة لا يسمح لها بالخروج أبدًا مهما حدث..
بعد وقت آخر مر وهو على نفس الحال رفع وجهه إليها بعدما شعر أنه أصبح أفضل من ذي قبل، ينظر إليها بألم تنساب الحرقة من عيناه دون أي مجهود منه ليصل إليها..
سألته واضعه يدها أعلى كف يده على الفراش تضغط عليه لتشعره بوجودها:
-ايه اللي حصل
تنهد بعمق ناظرًا إليها بسخرية:
-ايه اللي حصل.. سؤال بسيط بس الإجابة صعبة أوي يا غزال
ابتسمت بهدوء قائلة برفق:
-هسمعك
زفر الهواء بحدة وعاد للخلف يستند إلى ظهر الفراش ينظر إليها ثم بدأ في الحديث يقص عليها كل شيء من البداية، بعد أن انكشف سره إلى الجميع لما هي لا:
-أبويا هو اللي كان تاجر سلاح.. بيساعده يونس، يونس اللي طمع في الفلوس والجاه والغنى وأنه يبقاله كلمة مسموعه وسط الناس، كبرها في دماغه ووسع نشاطه بقى أكبر تاجر سلاح في البلد..
كانت تستمع إلى حديثه بعينان دامعة، وقلب ينزف كرهًا، إلى هذه الدرجة كانت غبية مخدوعة به، إلى هذه الدرجة مر عليها سنوات معه ولم تستطع أن تفهم ولو مرة واحدة أو تشك بأنه يفعل أشياء غير قانونية يطعمها هي وابنتها بمال مُحرم مغطى بدماء الكثير من الأبرياء.. ودومًا كان يحذرها من “جبل” وكأنه هو الذي يأخذ مكانه وذلك البرئ “يونس” لا يوجد مثله رجل وقور مثقف ومهذب!..
شعر بما تفكر به ورأى نظرة الألم والحسرة مرتسمة على عيناها الدامعة ليكمل بجدية حزينة ونبرة خافتة ساخرة:
-محسوبك كان محامي، كان حلمي إني ابقى محامي أدافع عن المظلوم وابقى عادل وأدين الظالم، محسوبك كل الناس وقفت ضد رغبته أولهم يونس وأبويا بس بعدين أبويا وافق قالك علشان لما يقعوا أنا الحقهم..
تابعته وهو يتحدث وتعمقت في حديثه تتذكره وهو حاكم عادل بين الجميع يأخذ بالثأر من الظالم ويرد للمظلوم حقه، أكمل بجدية وهو ينظر إلى الفراغ:
-كتير حاولت ابعدهم عن الطريق ده ولما يأست حاولت أنا أبعد..
رفع بصره إليها خجلًا عيناه تمطر عليها نظرات الخيبة ليكمل بصوت خافت:
-بس.. أبويا، أبويا اتمسك متلبس واتصاب كان بيموت، بس مماتش وأنا مقدرتش أعمله حاجه، لما حس أن حياته بتروح وفهم أن اللي عمله كان أكبر غلط في حياته اعترف.. اعترف على نفسه..
اسطرد يكمل بحزن تخلل داخله ووصل إلى أعماق قلبه:
-اعترف بكل حاجه عملها ومكانتش تجارة سلاح بس.. خد مؤبد، كل ده ومحدش يعرف غيري أنا.. أنا بس
قطبت جبينها عليه مضيقة عينيها تتسائل داخلها كيف حدث كل هذا وهو الوحيد الذي يعلم!؟ خرج السؤال من بين شفتيها باستغراب:
-إزاي
تفوه بجدية وإيجاز:
-مات.. قولنا إنه مات
سألته مرة أخرى باستغراب أكبر لا تفهم ما الذي يقوله ولا تستطيع أن تستوعبه ويوافق به عقلها:
-إزاي الكلام ده أتصدق
أومأ برأسه يتفهم أن ما يقوله صعب التصديق ولكنه بالفعل ما حدث يكمل بصدق وهدوء:
-هنا في الجزيرة الكلمة اللي أنا بقولها هي اللي بتبقى الحقيقة، أبويا اتحبس بره الجزيرة وطالما بره الجزيرة مستحيل حد يعرف ده غير أن أنا كنت متفق مع الحكومة
لا يقف عقلها عن إلقاء الأسئلة عليها وبدورها هي تخرجها من شفتيها تعرضها عليه لتلقى منه إجابة مقنعة:
-إزاي اشتغلت معاهم وأنت ابن تاجر السلاح
نظر إليها للحظة بعمق وجدية شديدة لتخرج الكلمات من بين شفتيه بحدة:
-أنا اللي بلغت عنهم
نظرت إليه بقوة، اتسعت عينيها من أثر الصدمة التي ألقاها عليها بمنتهى الجدية والثبات وكأن ما قاله أمر عادي قابل للتصديق والصمت من بعده..
ابتسم على نظرتها نحوه ولكنه أكمل بجدية:
-من بعدها شغلي كان مع الحكومة سري لأبعد حد، لحد النهاردة محدش يعرف إني بلغت غيرك.. أنتي بس حتى عاصم مايعرفش
وجدها مازالت تنظر إليه نفس تلك النظرة الغريبة كليًا وكأن عقلها لا يصدق ما قاله فسألها بخفوت ورجاء ينبعث في نبرته ألا تشعره بالذنب:
-أنا غلطت؟
ابتسمت وهي تقترب منه تقبض على يده بقوة تنظر إليه بابتسامة كبيرة لا تصدق أنه فعل هذا ويشعر بأنه المخطئ، بعد كل ما قدمه إليهم مازال يشعر أنه المخطئ، قالت برفق وهي تضع يدها على وجنته تمررها برفق:
-لأ يا جبل مغلطتش.. أنت عملت اللي عليك يا حبيبي حاولت تبعدهم عن الطريق ده ومعرفتش.. انتمائك لبلدك وحبك ليها هو اللي خلاك تعمل كده.. كرهك للظلم هو اللي خلاك تعمل كده
قال بخفوت وحزن:
-كتير من الأوقات بحس بالذنب
أومأت إليه برأسها بالرفض الشديد لما يقوله متحدثة بصراحة وقوة:
-ماينفعش تحس بالذنب أنت صح..
نظرت إلى أعماق عيناه الخضراء تتذكر ذلك الوحش الذئب البشر الذي قابلته عندما أتت إلى هنا وتحملت منه ما لا يتحمله أحد لينقلب في لمح البصر إلى آخر غيره تمامًا لا يشبهه بتفصيله واحدة..
-إزاي قدرت تعمل كده أنا مشكتش ولا لحظة من وقت ما جيت الجزيرة أنك تكون حد تاني للدرجة دي، أنت كنت شخص غير اللي قدامي.. مش قادرة اشرحلك أنا كنت بشوفك إزاي
رفع كف يده يحتضن يدها بأنامه الغليظة التي تمررها على وجنته ينظر إليها بحزن ورجاء، يتابع بندم خالص لها ونبرته مرهقة تخرج بطريقة تحزنها هي:
-أنا آسف.. آسف على كل اللي عملته عارف إني غلطت فيكي كتير بس أنا.. أنا أول يوم بينا كان لازم أعمل كده معاكي علشان تعرفي إني مش سهل، متشكيش فيا ولا تحسي إني حد تاني.. كان لازم أخاف منك وابقى حويط حتى لو عارف إنك متقدريش تعملي حاجه.. الغلطة كانت هتبقى بموت الكل
أومأت إليه برأسها وفرت دمعة من عينيها وهي تتابع حديثه:
-أنا سامحتك خلاص بلاش نتكلم في الموضع ده
أكملت بجدية تتوق لمعرفة ما الذي حدث بعد ذلك:
-كملي اللي حصل
أخذ نفسٍ عميقٍ وزفره بحدة يكمل متذكرًا ما حدث وكأنه كان بالأمس:
-يونس مات وأبويا مات وتمارا مشيت وسابتني، اتخلت عني لما لقيتني بخسر ومهزوم ومش عارف أقف مرة واحدة.. وأنا اشتغلت وبقيت زي ما أنتي شايفه دلوقتي.. الكل فاهم إني تاجر سلاح حتى أهل الجزيرة كانوا بيساعدوني ويقفوا جنبي.. الاتفاق كان سري لدرجة أن لما كان بيجي حملة تفتش هنا كانت بتبقى حقيقية وكان أهل الجزيرة بيساعدوني اخفي السلاح..
شعر بارتياح قلبه بعدما أفرغ تلك الشحنة الغليظة التي كانت تتكأ عليه تود الفتك به، قال بنبرة جدية ثم حزينة للغاية:
-لحد ما أنتي جيتي وشوفتي كل حاجه، لحد ما طاهر قتل أبويا امبارح في السجن
اتسعت عيناها أكثر بصدمة كبيرة تتذكر ما استمعت إليه منه في الأمس:
-ايه
أومأ برأسه يكمل شاعرًا بأنه تجرع الأسى أضعافًا من تلك السهولة التي تخرج الكلمات بها:
-مات امبارح.. وطاهر اتقبض عليه وأنا وعاصم.. دفنا أبويا هنا في الجزيرة من غير ما حد يعرف
فرت الدمعات من عينيها حزنًا عليه تنظر إليه باستغراب تام واجهشت بالبكاء تنظر إليه بضعف وقلة حيلة قائلة:
-أنت إزاي مستحمل كل ده لوحدك
اقتربت منه سريعًا ترتمي بأحضانه تجذبه ناحيتها تأخذ منه القدر الكافي من الحزن والأسى حتى تجعله سعيدًا، تأخذ منه الشقاء والعناء الذي شعر به وهو وحده بين الجميع يدافع عن الحق مسلوب الإرادة ثم أصبح مرة واحدة ودن سابق إنذار ذلك الخارج عن القانون وهو الذي يحميه..
كانت ذكية في كل المرات التي فكرت بها بشيء يخصه ولكن أبدًا لم تكن تتوقع أن هذا ما حدث معه، لم تكن تتوقع أن المثقف الراقي المحترم زوجها “يونس” تبادل الأدوار مع ذلك الذئب البشري الذي قال أمامها وضحى بالابرياء وفعل أشياء لا تغتفر..
علمت الآن أن ذلك الرجل الذي كان يسجل كل شيء ورأته يفعل مثلها كان معه، بينما هي كانت تفعل ذلك لتدينه هو كان يفعل ذلك ليقع المجرم دون أن يكون هناك ثغرات تخرجه من حكمه المؤبد عليه..
همس بجانب أذنها:
-أنا اتخليت عن الشغل معاهم.. حمدت ربنا أن خبر شغلي متسربش وإلا كنت هخسر كل حاجه وأولهم انتوا.. بس أنا خلاص انسحبت.. عايز أعيش معاكي يا زينة وأنا مطمن
ابتسمت باتساع تربت على ظهره بيدها الرقيقة ومازالت تدفن بدنها به تنظر إلى الحياة القادمة عليهم بسعادة.. تستمع إلى دقات قلبها المتسارعة تبادله وتشعر به.. يتحدث العشق بينهم بجنون هستيري تراه مقبل من بعيد على حياتهم سويًا ليخلف من بعد الدمار حياة وليست أي حياة، بل مليئة بالعشق والجنون، الشغف ولهفة الاشتياق القاتلة..

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية سجينة جبل العامري)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *