رواية ضبط وإحضار الفصل الخامس عشر 15 بقلم منال سالم
رواية ضبط وإحضار الفصل الخامس عشر 15 بقلم منال سالم
رواية ضبط وإحضار البارت الخامس عشر
رواية ضبط وإحضار الجزء الخامس عشر
رواية ضبط وإحضار الحلقة الخامسة عشر
رغم انشغاله بمتابعة كل شاردة وواردة تخص جميع دارسيه، إلا أنها بقيت على قائمة اهتماماته، فظل يراقبها خلسة، متابعًا عن كثب ردات فعلها تجاه تصرفات الشابات المتجاوزات مؤخرًا في معاملتهن معه، حرص تمام الحرص على أن يبدو صارمًا ملتزمًا في تعاملاته، لئلا يفسر تصرفه بشكلٍ خاطئ، ومع هذا لم تتوقف الشابات عن ممارسة حيلهن المكشوفة له لاستمالته، حقًا لو كان “أنس” في محله لانتشى واستمتع بما يُقدم له على طبقٍ من ذهب، غير مكترث بجرائر انسياقه وراء أهواء النفس.
انحدرت المروحية بتباطؤ لتستقر على المدرج، وصياح “بسنت” مسموع للجميع:
-يا رب أنا لسه صغيرة، مش عايزة شبابي يروح هدر.
ضحكت الشابات على ما تقوم به من تصرفاتٍ خرقاء، ووصفن إياها بالشابة البلهاء، المحبة للفت الأنظار؛ لكنها لم تعبأ بهن، بينما دافعت عنها “بهاء” في تعصبٍ:
-لو أي واحدة في مكانها طبيعي هتحس كده.
ردت عليها إحداهن في تأففٍ وهي تهم بالخروج من باب المروحية:
-بس مش بالأفورة دي.
اتخذت موقفًا دفاعيًا صارمًا عنها بقولها المتحيز:
-مالكوش دعوة بيها، إنتو شاغلين بالكم بيها ليه؟
قالت أخرى في استحقارٍ:
-أصله باين أوي إن اللي بتعمله fake، وكل ده علشان هي عايزة تخلي كل الظباط حواليها.
ضحكت ثالثة مضيفة في استهزاءٍ:
-ما هما بيحبوا اللي تبات ضعيفة ومحتاجاهم.
اغتاظت “بهاء” من تحاملهن على رفيقتها، فأشارت إليهن بأصابع الاتهام:
-كفاية اللي إنتو عاملينه، ما إنتو الصراحة مقصرتوش؟
كلماتها بدت مستفزة لإحداهن، فسألتها في نبرة هجومية:
-بتقولي إيه؟ وضحي كلامك!
لم ترغب “بهاء” في إثارة أي نوعٍ من الفضائح، لهذا أثرت التراجع عن حدتها، وقالت بسخافةٍ:
-إنتو جامدين أوي، هي لأ.
من ورائها أهانتها أخرى بطريقة فجة:
-سيبكم منها، ما هما معروفين إنهم المهزقين بتوع التدريب ده.
كادت أن ترد عليها لولا أن ظهر “عمر” في محيطهن ليتساءل بصرامةٍ:
-إنتي بتتكلمي عن دول؟
تجمدت عينا “بهاء” عليه، فرأت كيف قست تعابير وجهه، واحتدت نظراته، خاصة والشابة تحاول التبرير:
-أنا…
قاطعها في غلظةٍ:
-اعتذريلها فورًا، وإلا هتطلعي برا التدريب.
على مضضٍ برطمت وهي تنظر إلى “بهاء” بحنقٍ:
-سوري.
صاح “عمر” محذرًا في صوتٍ قوي جهوري:
-مش مسموح نهائي إن حد يغلط في التاني.
لم تعقب أي واحدة بشيءٍ، فواصل حديثه الصارم:
-ومش معنى إنكم قادرين تتحملوا الضغط يبقى الباقي زيكم، في حاجة اسمها فروق فردية وقدرات.
انعكس الحرج على محيا الشابات، فأكمل:
-والمفروض تحترموا الاختلاف بينكم، ده لو فعلًا جايين تتعلموا.
اعتذرت منه إحداهن محاولة البحث عن حجة مناسبة لتبرير رعونة تصرفهن غير المحايد:
-سوري يا سيادة الرائد، احنا منقصدش حاجة، بس هي كانت مأفورة حبتين، والموضوع مش مستاهل.
أعطاها نظرة قاتمة قبل أن يقول:
-ده بالنسبالك، لكن هي لأ!
لم ترغب “بهاء” في سماع المزيد، شعرت بالحرج الشديد من الموقف برمته، لذلك تراجعت بخفةٍ نحو الجانب الآخر لباب المروحية، لتساعد رفيقتها على الهبوط، لفت ذراعها حول كتفيها لتسندها قائلة:
-تعالي يا “بسبوسة”.
ما إن لمست قدماها الأرض الصلبة حتى هللت فرحًا:
-أخيرًا، احنا على الأرض، أنا مش مصدقة نفسي.
كانت تبدو خائرة القوى، غير متوازنة الحركة، فطلبت منها “بهاء” الاتكاء عليها، ومحاولة السير باتزانٍ؛ لكنها أخبرتها:
-مش قادرة، مفاصلي سابت من بعضها.
شعرت “بهاء” بثقلها على كتفيها، وعجزها عن مساعدتها دون أن تتعثر، فأخبرتها:
-طب ما ترميش حملك كله عليا، أنا مش عارفة أمشي خالص.
قبل أن تتذمر عليها “بسنت” ظهر “أمير” من ورائها ليقول بغموضٍ مربك لكلتيهما:
-عنك.
تفاجأت به يسحب ذراع رفيقتها من على كتفيها، ليقوم بحملها بين ذراعيه، فتذمرت “بسنت” في ذهولٍ خجل للغاية:
-إنت بتعمل إيه؟
نظر أمامه قائلًا بغير مبالاة:
-السكة طويلة شوية، وهي مش هتقدر تسندك.
من وراء كتفه نظرت “بسنت” إلى رفيقتها تتوسلها في حرج بالغ:
-“بهاء”.. الحقيني.
هزت كتفيها مبدية عجزها عن مساعدتها، وتمتمت بابتسامة خجلى:
-أنا عايزة اللي يشلني!
…………………………………………………..
استقر الجميع بعدما هبطت المروحية الأخيرة في مبنى الخدمات المحلق بالقاعدة الجوية، حيث تتوافر به كافيتريا رئيسية، تقدم للزائرين كافة ما يحتاجون إليه. كانت غالبية الشابات مجتمعات حول “عمر”، يتحاورن معه بألفةٍ ومودة زائدتين عن المعتاد، ولما لا وقد أوشك التدريب على الانتهاء تمامًا، وهن بحاجة لتوطيد الصلات به، لعل وعسى تظفر إحداهن به كخطيب مستقبلي محتمل!
على مائدة دائرية صغيرة، تكفي لفردين، جلست “بهاء” ومعها “بسنت” معزولتين عن الجميع، لكون الأخيرة تعاني من اضطراباتٍ وتقلصات بالمعدة، جراء معاناتها من تبعات رحلتها الجوية، ففضلت الجلوس بعيدًا عن أي صخب، لئلا تثير الفضائح في حالة ازدياد وثيرة شعورها بالغثيان، وتصاعد سوائل معدتها للأعلى وخروجها على هيئة قيء، وما أقرب حدوث ذلك! بدت سحنتها منقلبة للغاية، ونظراتها شبه زائغة، ولم تكف عن الشكوى لرفيقتها، فاستطردت بلومٍ صريح:
-لو قولتيلي تاني في أي تدريب في أي حتة، أنا مش هعرفك، كفاية اللي حصل طول اليوم.
نظرت إليها “بهاء” في صمت، ليس لأنها غير قادرة على الرد عليها، بل لكون عقلها مشغولًا بالتفكير في أمر بعينه، وشعورها بالضيق يتعمق في وجدانها. استمرت “بسنت” تخاطبها على نبرتها اللائمة:
-بجد أنا جسمي ساب من بعضه، وبطني قالبة عليا، لأ والتاني جاي يجامل ويشلني، هيتقال عني إيه أكتر من كده؟
ضغطت “بهاء” على شفتيها متمتمة، وعيناها تتجهان تلقائيًا إلى حيث يقف “عمر” وسط الشابات المتحلقات من حوله:
-وأنا هعرف منين إن كل ده هيحصل؟ ما أنا زيي زيك.
مسحت صديقتها بمنديلها الورقي عرقها البارد من على جبينها، وأنذرتها بغير تساهلٍ:
-أهوو تحذير للي جاي، احنا كفاية علينا دراسات عليا وتعليم.
سرعان ما رفعت “بسنت” رأسها للأعلى عندما جاء “أمير” ساحبًا مقعدًا من الطاولة القريبة ليضعه في مواجهتها حتى يجلس عليه، ابتسم لها متسائلًا في نبرة مهتمة:
-عاملة إيه دلوقت؟
كانت ترسل له نظرات حادة، كأنها عائدة من رحلة موت، لا رحلة تدريبية مألوفة، تصلبت في جلستها، وجاوبته بتذمرٍ:
-مش كويسة خالص.
مد يده ناحيتها بشريطٍ دوائي موضحًا لها:
-الدوا ده هيساعدك تبقي أحسن، هو علشان غثيان المعدة.
أخذته منه قائلة في تبرمٍ منزعج:
-يا ريت تبطلوا مفاجآت تاني، أنا جبت أخري.
اتسعت ابتسامته اللطيفة نسبيًا وهو يعلق بهدوءٍ:
-خلاص معدتش فاضل في تدريبنا إلا المحاضرة الختامية وتسليم الشهادات.
في التو همهمت وهي تدس قرص الدواء في فمها بتعجلٍ:
-الحمد لله يا رب، ربنا ما يعودها أيام.
عاتبها في رقةٍ، قاصدًا التعبير عما يجوس في نفسه:
-ليه بس كده؟ ده أنا حتى مبسوط بوجودك فيه.
رمشت بعينيها مرددة بلا صوتٍ، وكأنها لم تستوعب بعد اعترافه الغريب:
-هو بيعاكسني ولا إيه؟
في تلك الأثناء غزت الحمرة وجه “بهاء” عندما أمسك بها “عمر” وهي تنظر إليه بتركيزٍ، لم يحد ببصره عنها، وظل يُطالعها بنظرات قوية ثابتة، أجبرتها في النهاية حينما تداركت أنها أطالت التحديق به على إشاحة عينيها بعيدًا محاولة التغلب على شعور الضيق الذي ما زال يلازمها منذ أن كانت على المروحية، وشاهدت غيرها تغازله بأريحية واستمتاع. أرادت أن تبدو غير مبالية بما يقوم به من تصرفات، لأن شأنه ببساطة لا يخصها، مثلما كانت من قبل معه؛ لكنها وجدت صعوبة في العودة إلى نقطة البداية، وكيف تعود وفي أعماقها انتفض شيء ما من أجله؟ تضاعفت خفقة قلبها بعنفٍ عندما سمعت صوته قريبًا للغاية يسألها، لترفع وجهها دفعة واحدة للأعلى ناظرة إليه:
-إيه الأخبار؟
لم تنطق بكلمة، وكأن الكلمات قد تبخرت من على طرف لسانها، في حين تولت “بسنت” الرد باندفاعٍ مبرر:
-مش تمام، هو احنا مزعلينك في حاجة يا سيادة الرائد؟ لسه شايل مننا من ساعة اللي حصل؟!!
أجابها في هدوءٍ وقد حول نظره تجاهها:
-لأ، بالعكس، أنا نسيت الحوار ده…
ثم عاد لينظر بإمعان نحو “بهاء” وهو يكمل جملته بنبرةٍ ذات مغزى:
-وبعدين إنتو من أحسن الناس عندي، وليكم مكانة مميزة كمان.
في طريقته المبطنة لوصف أهميتهما لديه، استشعرت “بهاء” أنه يحتفظ بمشاعرٍ خاصة لكلتيهما، ربما زائدة إلى حدٍ ما تجاهها، فكانت راضية نسبيًا. استمرت “بسنت” في عتابه:
-أومال لو مكونتش بتعزنا!
على نفس النبرة الجادة أخبرها:
-كل ده لمصلحتكم، وعلشان عضمك ينشف، ويبقى عندكم خبرة تفيدكم.
انتقدته في مزاحٍ:
-ده معدتش في عضم خالص.
قال مترفقًا:
-بكرة هتعرفي إن ده كان في مصلحتكم.
كانت على وشك التفوه بشيءٍ لولا أن اقتحم جلستهم هؤلاء الشابات المتطفلات، حيث قامت إحداهن بالإلحاح على “عمر” بقولها المتدلل:
-عايزين نتصور مع حضرتك يا سيادة الرائد، بليز ما ترفضش.
شبك يديه خلف ظهره ليبدو منتصبًا في وقفته الشامخة، وقال بلا ابتسامٍ:
-مافيش مشكلة، خلونا ناخد صورة جماعية.
وافقه “أمير” في الرأي معلقًا:
-فرصة نوثق اللحظة.
لحظتها رفعت “بسنت” يدها معترضة:
-أنا مش معاكو في الصورة دي.
غامت تعبيرات “أمير” بشكلٍ ملحوظ، وسألها مستفهمًا بتوجسٍ:
-ليه بس؟
أتى ردها عفويًا وهي تشير إلى هيئتها:
-أتصور إزاي وأنا في أسوأ حالاتي؟
دون أن تفتر ابتسامته العذبة أخبرها، وكأنه يتغزل بها بصورة متوارية:
-بالعكس، ده إنتي جميلة مش محتاجة حاجة تحليكي بزيادة.
حملقت فيه بعينين متسعتين، فبادلها نظرة مهتمة جعلتها تخجل في الحال، لتدير رأسها بعيدًا عنه عندما تكلمت إحدى الشابات في دلالٍ مصطنع:
-يالا يا سياة الرائد.
آنئذ تجاهلها “عمر” ليوجه كلامه إلى من يهتم بأمرها حقًا:
-تعالي يا أستاذة “بهاء” معانا.
ازدردت ريقها رافضة بتجهمٍ ملحوظ:
-مالوش لزوم.
أوضح لها عن قصدٍ، ونبرته لا تبدو ممازحة على الإطلاق:
-دي صورة جماعية، مش حاجة فردي أو خاصة.
لحظتها نظرت إليه مرة ثانية بتحيرٍ، لتجده يرمقها بنظرته القوية، فاستسلمت قائلة بحرجٍ طفيف:
-حاضر، هجيب صاحبتي وأجي.
……………………………………………..
انتظر انتظام الجميع في صفين متوازيين، الشابات تقفن في حذا بعضهن البعض في الخلفية، ومن أمامهن الشباب يركعون على ركبة واحدة، متأهبين لالتقاط الصورة التذكارية الخاصة بانتهاء جولتهم في القاعدة الجوية. تأكد “عمر” من جعل الجميع يتمركزون في أطوال متناسقة، لغرضٍ ما في نفسه، ثم أفسح المجال له ولمن عاونه في ذلك التدريب بالوقوف في المنتصف. تفاجأت به “بهاء” ينقلها من موضع وقوفها المتطرف إلى جواره، فرفعت حاجبيها للأعلى متطلعة إليه في ذهول مشوب بالاحتجاج، فأخبرها دون أن يبتسم:
-ده أفضل.
اعترضت عليه بصوتٍ خفيض:
-بس في أطول مني، وكده الـ…
قاطعها بصوته الحازم:
-أنا القائد وأحدد مين يقف جمب مين.
ضيقت عينيها باسترابةٍ، خاصة حينما تكلم بأسلوبه الغريب:
-وبعدين كده وشك هيبان أكتر.
زحفت الحمرة الدافئة إلى وجنتيها لتشعرها بسخونةٍ عجيبة تجتاح أوصالها، ما لبث أن تضاعفت وهو يخبرها بخفوتٍ:
-وأنا عايزك جمبي!
تخشبت في موضعها مصدومة، لا تعرف بماذا تجيب أو تعلق، اكتفت فقط بالترديد في عقلها:
-أكيد اللي أنا حساه ده مش أوهـــام!
حاولت التظاهر باللا مبالاة، آملة ألا يحس بالارتباك الذي يختلجها وهي تجاوره في وقفته المعتدة بنفسه، ومع هذا أحست بالتفرد، والتميز، وبكونها استثنائية، رغم كون تصرفه قد يبدو عاديًا للبعض.
…………………………………………
حينما وصل الجميع إلى الأكاديمية، بدأ الحشد في الافتراق، كلٌ متجه إلى سيارته أو إلى منطقة ركوب الحافلات من أجل العودة إلى المنزل والاسترخاء. كعادتهما وقفت “بهاء” مع “بسنت” في الجراج الخارجي، تثرثران عن موجز ما دار، قبل أن تتساءل الأولى باستغرابٍ وعلامات الحيرة تكسو وجهها:
-مش كانت معاكي العربية؟ إنتي ركناها فين؟
أجابتها بعد تنهيدة سريعة:
-أيوه، بس أخويا جه وخدها، وعايزني أحصل العيلة على النادي، الظاهر هيتقابل مع العروسة الجديدة.
بدت نبرتها ساخرة نوعًا ما وهي تسألها:
-وإنتي هتروحي بالشكل ده؟
ردت بتهكمٍ ناقم:
-تخيلي! علشان الأناقة تكمل…
ثم تشبثت بذراع رفيقتها تطلب منها بوجه متوسل ونبرة مستعطفة:
-ما تيجي معايا، أهوو نقعد نرغي سوا، ونفضنا من جو الشجر والليمون اللي حاصل.
انتشلت ذراعها منها لتستعيده قائلة وهي تبتسم:
-ماحبش أكون عزول.
زمت شفتيها مرددة:
-ماشي يا “بيبو”، سبيني لوحدي في الأزمات…
ثم غمزت لها بطرف عينها قائلة في لؤمٍ:
-لو في جديد عرفيني.
رغم فهمها إلى ما ترمي إليه صديقتها في سؤالها المتواري، إلا أنها ادعت الجهل، وزوت ما بين حاجبيها متسائلة:
-جديد في إيه؟
ضحكت في مرحٍ قبل أن تخبرها:
-وربنا إنتي فاهمة بس غاوية تعملي عبيطة!
لكزتها برفقٍ في ذراعها هاتفة:
-خلاص بقى.
لوحت لها “بسنت” بيدها لتودعها:
-سلام يا قلبي.
بادلتها التحية، وانتظرت في مكانها تبحث في هاتفها عن أقرب سيارة أجرة يمكن أن تقلها إلى منزلها.
سألها في اهتمامٍ:
-إنتي مش هتروحي مع صاحبتك ولا إيه؟
جاوبته وهي تبتسم:
-لأ عندها مشوار، وهطلب عربية تجيلي.
تفاجأت به يقترح عليها في لباقةٍ:
-أنا ممكن آ….
لم يتمكن من عرض اقتراحه، حيث رن هاتفها فجــأة باتصالٍ غريب من زوجة عمها، فطلبت منه بخجلٍ:
-ثانية معلش، هرد على مرات عمي.
تفهم مقاطعتها له، وأصغى إليها وهي تخابرها:
-أيوه يا طنط “فادية”..
رأى كيف تبدلت تعبيراتها المتوردة إلى أخرى شاحبة في طرفة عين، وصوت زوجة عمها يصرخ من الهاتف:
-إلحقي يا “بهاء” عمك وقع من طوله، ونقلناه على المستشفى.
قذف قلبها رعبًا، وسألتها في فزعٍ:
-بتقولي إيه؟ عمي ماله؟
استمرت نبرة “فادية” على صراخها وهي تُعلمها:
-معرفش، أنا لواحدي، حصليني يا بنتي أوام.
سألتها، وقد بهتت كامل تعبيرات وجهها:
-طب هو في مستشفى إيه؟
أنهت معها المكالمة لتدور حول نفسها في توترٍ وقلق، فالصدمة جعلت عقلها يتوقف عن التفكير بمنطقية للحظاتٍ، اعترض “عمر” طريقها متسائلًا في استرابةٍ:
-في إيه اللي حصل؟
بدأت الدموع تنساب من مقلتيها خوفًا وهي تجاوبه:
-عمي تعب، ووده المستشفى، أنا معرفش ماله.
أشار لها بيده لتهدأ قائلًا:
-إن شاء الله خير، ما تقلقيش.
ثم أخرج مفتاح سيارته من جيبه متابعًا في لهجته الآمرة:
-تعالي معايا، أنا هوصلك.
لم تعترض عليه، وانصاعت صاغرة لتلحق به، وقلبها يدق في ارتعابٍ شديد. لم يتوقف لسانها عن الدعاء له بظهر الغيب طوال المسافة إلى المشفى، راجية المولى عز وجل أن ينجيه من محنته الصحية الطارئة.
…………………………………………
طوال الطريق إلى المشفى المتواجد به عمها، حاول “عمر” مواساتها بالكلمات المطمئنة ليخفف من وطــأة الأمر عليها، خاصة حينما تصل إلى هناك وتعرف أكثر عن طبيعة حالته المرضية، فتبدو متهيأة نسبيًا لما يمكن أن تواجهه .. حقًا بدت “بهاء” ممتنة لوجوده، وإلا لما تماسكت أمام زوجة عمها المغلوبة على أمرها. فور أن استعلمت من استقبال المشفى عن مكانه، استقلت المصعد في الحال، لتتواجد في الطابق الماكث به، ركضت حتى نهاية الرواق المستطيل عندما لمحت “فادية” واقفة أمام باب مغلق، وصلت إليها وراحت تسألها في صوتٍ لاهث قلق للغاية:
-هو عامل إيه دلوقت؟
وزعت زوجة عمها نظراتها بينها وبين “عمر” الذي تفاجأت بوجوده قبل أن تجاوبها في تنهيدة ارتياحٍ:
-الحمد لله الدكتور طمنا.
سألها “عمر” مستفهمًا:
-حصله إيه؟
اتجهت ببصرها نحوه لتجاوبه:
-كانت غيبوبة سكر، ولو مكونتش لحقته كان راح فيها.
أومأ برأسه معقبًا:
-قدر ولطف.
بينما همهمت “بهاء” شاكرة، وقد تراخى جسدها المتصلب نسبيًا:
-الحمد لله يا رب.
التقطت أنفاسها لتسألها:
-هو الدكتور قال نقدر نشوفه امتى؟
أجابتها وهي تنظر نحو الباب المغلق:
-كمان شوية.
تكلم “عمر” بشكلٍ آلي:
-حمدلله على سلامته.
ردت مبتسمة في امتنانٍ:
-كتر خيرك يا ابني، دوشناك على الفاضي.
في عتابٍ مشوبٍ بالتهذيب عقب عليها:
-مايصحش الكلام ده، عم “سليمان” غالي عندي.
أضافت “بهاء” قائلة بتحرجٍ:
-احنا عطلناك معانا يا سيادة الرائد.
قال بجديةٍ:
-أنا مورياش حاجة، وبعدين هفضل معاكو لحد ما أوصلكم البيت.
شكرته “فادية” بصدقٍ:
-والله ما عارفة أقولك إيه، إنت يعتبر من العيلة دلوقت.
ابتسم بلباقةٍ وهو يرد:
-ده أكيد.
انسحب بعدها متراجعًا عدة خطوات للخلف، ليترك لهما مساحة من الخصوصية للحديث، فاستغلت “فادية” الفرصة، وتحركت في خفة نحو “بهاء” لتجذبها قليلًا تجاهها حتى تتمكن من الهمس لها:
-شايفة ابن الأصول بيتصرف إزاي؟
سددت لها الأخيرة نظرة محذرة، قبل أن ترد بصوتٍ خافت:
-مش وقته يا مرات عمي.
في نفس الصوت الخفيض فاهت بتفاخرٍ:
-ربنا يحميه لشبابه، هو ده اللي يقدر يصونك.
قصف قلب “بهاء” بقوةٍ من تصريحها العفوي، ونظرت تلقائيًا تجاهه، لتجده مرتكنًا بظهره على الحائط، فتأملته في إعجابٍ قبل أن يمسك بها مجددًا وهي تحدق به بهذه الطريقة الهائمة، سرعان ما خفضت من عينيها مستشعرة موجات الخجل والارتباك التي اجتاحتها من كل صوبٍ، وكأنها ارتكبت ما يحرجها ويكشف عن مشاعرها علنًا؛ لكنه كان مسرورًا من داخله، لأنها -وإن ادعت العكس- كانت تظهر اهتمامًا ملحوظًا به.
…………………………………………..
لم تتوقف عن الإطراء عليه، وعن مدح تصرفاته اللائقة مع العائلة منذ أن عادت إلى المنزل مع زوجها الذي استعاد عافيته، لينظر إليها مليًا وهو متعجب من مدى اهتمامها بشأن هذا الشاب المثابر. جمعت “فادية” المتسخ من الثياب في كومة صغيرة فوق طرف الفراش، لتستمر في ثنائها على “عمر” هاتفة:
-وإنت شوفت بنفسك شهامته وجدعتنه، وده مش من دلوقت، لأ من زمان.
هز “سليمان” رأسه معقبًا:
-فيه الخير، متربي على الأصول.
سألته دون تمهيدٍ، كأنما تفكر بصوتٍ مسموع:
-تفتكر ممكن يتقدم لـ “بهاء” ويخطبها؟
استغرب من تطرقها لهذا الموضوع تحديدًا، وعلق بردٍ دبلوماسي:
-الله أعلم!
تنهدت قائلة في نبرة حالمة:
-أنا حاسة إن عينه منها.
سألها متعجبًا:
-وإنتي إيش عرفك؟
أكدت له عن يقينٍ:
-إحساسي عمره ما يخيب أبدًا.
نصحها قائلًا بشيءٍ من المنطقية:
-أنا رأيي بلاش نتعشم في حاجات احنا مش متأكدين منها لسه، استني لما يكون في حاجة الأول.
رفعت بصرها للسماء مرددة بنبرة متضرعة:
-يا رب يجعلها نصيب معاه.
………………………………………….
كانت ممتنة لأنها تتحدث هاتفيًا وليس عبر مكالمة مرئية، فلا ترى رفيقتها ما يطغى على قسمات وجهها من تعابير سارة ومبتهجة، لمجرد تطرقهما للحديث عنه، فقد تشاغلت “بهاء” به مؤخرًا، وأصبح بالنسبة لها إدمانًا لا تود أبدًا التعافي منه، فراحت تستفيض في الحديث عما يخصه بغير كللٍ أو ملل. مجددًا أكدت “بسنت” بما لا يدع مجالًا للشك:
-اقسم بالله شكله واقع لشوشته فيكي.
ردت عليها في تحرجٍ وهي تتقلب على فراشها:
-بلاش تحلفي.
أخبرتها في نفس اللهجة المؤكدة:
-هو مش مجبر يعمل كده معاكي إنتي بالذات، بس إنتي فارقة معاه أوي.
في تحيرٍ غلف نبرتها تساءلت “بهاء” وهي تضم وسادتها إلى صدرها:
-طب وبعدين؟ المفروض اللي يحصل بعد كده إيه؟
صمتت قليلًا لتفكر قبل أن تقول:
-أكيد مش هيفوت آخر يوم في التدريب إلا لما يفاتحك في حاجة.
سألتها بغير اقتناعٍ:
-تفتكري؟
جاء ردها حاسمًا:
-طبعًا، وإلا هتضيع الفرصة عليه.
حررت زفرة بطيئة من رئتيها، لتعلق بعدها بنبرة متمنية:
-أما نشوف.
حلقت بنعومةٍ في فضاءات الخيال الوردية، طامعة أن يكون ما تصبو إليه حقيقة واقعة، وليس افتراض رغبات نفسها المتلهفة عليه.
………………………………………….
غير عابئ بما تعرضه شاشة التلفاز، جلس “عمر” على الأريكة المبطنة شاردًا في صالة منزله، وعقله مزدحم بعشرات الأفكار المتحيرات، تحصن بصمته رغم الصخب الدائر في دواخله، فاقتراب نهاية التدريب يعني حرمانه من فرصة رؤيتها مرة أخرى، وكيف يتسنى له لقائها في الخارج؟ وبأي حجة أو عذر؟ أحس بالإحباط والأسى لكونه عاجز عن فعل ذلك. لاحظت السيدة “نهيرة” سكوته، واستغراقه في التفكير العميق، فانتشلته من سرحانه الغريب بسؤالها المرتب:
-أنا ملاحظة إنك بتسرح كتير الأيام دي!
تنبه لها واعتدل في جلسته، فاستأنفت حديثها إليه:
-في واحدة شاغلة بالك ولا إيه؟
الهروب من الاعتراف بما يضمر في صدره لن يُفيده بأي حالٍ، لذا لم ينكر الأمر، وأجابها باقتضابٍ حائر:
-يعني.
بدت سعيدة إلى حدٍ ما لكون إحداهن قد نجحت في الاستحواذ على اهتمام ابنها، ولهذا انتقلت لسؤالها التالي بحذرٍ:
-أعرفها؟
لم يراوغها في الرد حينما أجاب:
-هي بنت أخو عم “سليمان”، صاحب بابا الله يرحمه.
انفرجت أساريرها مرددة باهتمامٍ وفضول:
-أه عارفاه، ده راجل محترم، مش هي اللي أخوك كان بيتكلم عنها ساعة الفرح؟
جاء رده مؤكدًا رغم اختصاره:
-أيوه.
سألته في تحمسٍ:
-وهي رأيها إيه؟
تهدل كتفاه مرددًا بملامحٍ قلقة:
-لسه مش عارف.
كعادته تطفل “عامر” على حوارهما متسائلًا وهو يقضم ثمرة التفاح:
-بتتكلموا عن مين؟
رفع “عمر” عينيه ناحيته معقبًا بتساؤل منزعج:
-إنت هتروح وحدتك إمتى؟
ارتمى بجسده على الأريكة ليجاوبه بأريحيةٍ:
-أنا أجازة يا سيدي…
مستخدمًا أسلوبه الفضولي تابع متسائلًا:
-برضوه ماقولتوش مين دي اللي بتتكلموا عنها؟
هذه المرة أجابته السيدة “نهيرة” مبتسمة في حبورٍ:
-قريبة عم “سليمان”.
هلل في غبطةٍ:
-المُزة إياها، مش أنا قولتلك يا ماما هينخ، ويقولك عايزها؟
هزت رأسها توافقه:
-مظبوط.
وجه بعدها سؤاله لشقيقه الأصغر متسائلًا باهتمامٍ:
-والمُزة رأيها إيه؟
قال بفمٍ مقلوب:
-معرفش!
فيما يشبه النصيحة أخبره:
-طب ما تجس نبضها، وتشوف الدنيا.
رد في إيجازٍ:
-هحاول.
استحثه على عدم التراخي محفزًا إياه بنبرة حماسية غريبة:
-جرى إيه يا سيادة الرائد؟ مش معقول خططك الجهنمية في الهجوم والاقتحام مجابتش نتيجة معاها.
فسر له سبب تردده في اتخاذ خطوة جادة معها بقوله:
-ما هو أنا ماتكلمتش معاها نهائي في أي حاجة غير الدراسة وبس.
في تهكمٍ بائن علق:
-فالح.
بنبرة متحيرة سأله “عمر”، مبديًا حاجته لدعمه:
-شور عليا أعمل إيه؟
في استرخاء أكبر تكلم “عامر” وهو يلوك ما تبقى من ثمرة التفاح في جوفه:
-عينيا، أنا في الحاجات دي خـــــــدوم!
…………………………………………….
اليوم كان استثنائيًا بالمرة في الأكاديمية، فقد كان ختام التدريب، وفيه تلقى الجميع الشهادات الموثقة التي تفيد اجتيازهم له بتفوقٍ وبراعة. تفرق الدارسون المتأنقون في ثياب رسمية هنا وهناك لالتقاط الصور التذكارية مع القادة والضباط. التصقت “بهاء” برفيقتها لتلتقطا معًا صورة شخصية (سيلفي) وهما ترفعان الشهادتين للأعلى في زهو وتفاخرٍ، والأولى تهمهم بصوتٍ مستاء:
-صاحبنا مظهرش لسه، ولا عمل حاجة.
ردت عليها “بسنت” بلا شكٍ:
-أكيد هيجي، بس الزحمة تخف شوية.
بدت غير واثقة تمامًا من حدسها، فأفصحت عما يجول في طيات نفسها:
-خايفة أكون عايشة في الوهم.
راحت “بسنت” تؤكد عليها بيقينٍ لا يتزعزع:
-والله ما شال عينه من عليكي.
تلقائيًا تنقلت “بهاء” ببصرها باحثة عنه وسط الجموع، رأته محدقًا بها، فتورد وجهها في التو، لتدعي انشغالها بمطالعة انعكاس وجهيهما في عدسة كاميرا هاتفها المحمول طالبة من رفيقتها:
-طيب اضحكي.
تفاجأت الاثنتان بوجود “أمير” في خلفية الصورة، فالتفتتا نحوه لتسأله “بسنت” في استنكارٍ:
-حضرتك عايزك تتصور معانا ولا حاجة؟
قال مبتسمًا بابتسامته العريضة:
-يا ريت.
سددت له هذه النظرة العجيبة، فوقف مجاورًا لها ليطلب من “بهاء” بأدبٍ وهو يعطي باقة من الورد إلى “بسنت”:
-معلش ممكن تصورينا سوا.
صدمت الأخيرة مرة أخرى لفعلته، بينما رحبت “بهاء” بتصرفه اللطيف قائلة:
-أكيد.
ظلت تعابير “بسنت” ذاهلة بدرجة كبيرة، تطالعها من زاوية وقوفها بتعجبٍ، و”أمير” في حالة من النشوة العارمة، نظر إليها من طرف عينه ليجدها على تلك الحالة، فأمرها:
-اضحكي.
ظهرت تكشيرة عظيمة على وجهها، فقال ملطفًا:
-وشك بينور لما بتضحكي.
أحست بالبلاهة تسيطر عليها، وتساءلت مع نفسها:
-هو إيه اللي بيحصل بالظبط؟
……………………………………………..
بناءً على تخطيط مسبق من شقيقه الأكبر بخلق أجواء مناسبة للاعتراف بمدى انجذابه إليها، طلب “عمر” من رفيقه مساعدته في التودد إلى “بهاء” دون أن يثير الريبة، فوافق الأخير على الفور، لرغبته هو الآخر في الاقتراب من صديقتها، وتوطيد صلته الجادة بها، لهذا أخبره بدعوتهما إلى الحفلة الغنائية التي سبق له حجز تذاكرها، والتأكد من حضورهما، ليتمكن من البوح عما يكنه لها بعيدًا عن محيط الدراسة.
نفذ “أمير” ما طُلب منه، وتحين الفرصة التي بقيت فيها الاثنتان بمفردهما، ليتمكن من إخبارهما بمسألة الحفلة، فاستطرد في هدوءٍ جاد:
-أنا معايا تذاكر VIP لحفلة في الأوبرا، فيها مطربين من الفرقة العربية للموسيقى، إيه رأيكم تحضروا فيها؟
اعترضت عليه “بسنت” بنبرة مرتابة:
-حفلة! مش مرتاحة!
سألها، وهذه النظرة المعاتبة تطل من حدقتيه:
-ليه بس؟
في اندفاع مملوءٍ بالاتهام أجابته:
-أصل إنتو الحفلات عندكم بتقلب بانفجــــــارات، وخطف، ورهاين، وجو أكشن أنا صحتي معدتش أده.
ضحك على لطافتها معقبًا:
-لا والله، دي هتعجبك أوي، وعلى ضمانتي.
ظلت أسيرة التردد لعدة لحظات، لتحسم أمرها بسؤال رفيقتها:
-إيه رأيك يا “بهاء”؟
لم تكن الأخيرة ممانعة من الذهاب إلى هناك، فأبدت ترحيبها:
-مافيش مشكلة بالنسبالي.
ليأتي تعقيب “أمير” صادمًا للاثنتين:
-ما تيجي معانا يا سيادة الرائد الحفلة دي؟
في التو التفتتا ناظرتين للجانب، حيث تواجد “عمر” قريبًا من “بهاء”، فتلبكت من حضوره، وتحركت خطوة بعيدًا عنه، لتترك مسافة بينهما؛ لكنه قلصها بتقدمه تجاهها، جاعلًا عيناه ترتكزان عليها فقط، ادعى جهله بما يتحدث عنه رفيقه، وسأله:
-حفلة إيه؟
أجابه “أمير” بهدوءٍ:
-بتاعة الموسيقى العربية.
هز رأسه مضيفًا في استحسانٍ:
-أها، دول بيعملوا شغل عالي فيها.
أيده رفيقه في رأيه:
-جدًا.
بنفس النبرة الثابتة أعلن “عمر” موافقته على التواجد بها:
-معنديش مانع.
انتهزت “بسنت” الفرصة لتتعلق بذراع رفيقتها، وهمست لها في أذنها بمرحٍ:
-مش قولتلك هيدور على أي حجة يشوفك بيها.
حاولت “بهاء” أن تخفي سعادتها، وقالت بخجلٍ:
-بس لأحسن يسمعنا.
مد “عمر” يده بباقة الورد إلى “بهاء” قائلًا في نبرة جادة:
-اتفضلي دي علشانك.
فاجأها بذلك، ورددت في غير تصديق:
-علشاني؟
راح “أمير” يقول في اعتزازٍ، كأنما يدعمه:
-طبعًا “عمر” باشا ما بيعملش كده مع أي حد، ده أنا بتعلم منه أصول الذوق.
مالت “بسنت” على رفيقتها تهمس لها في عبثيةٍ:
-وتقوليلي مش مهتم!
انتشت “بهاء” للغاية من حركته تلك، وأحست بتميزها معه، لتنظر إليه حينما أشار بيده نحو شاشة العرض المعلقة على أحد أركان قاعة الاحتفال قائلًا:
-الفيديو بتاع التدريب هيتعرض أهوو.
اتجهوا بأعينهم ناحيته، ليتابع موضحًا لهم:
-مجمعين فيه لقطات مختلفة من كل حاجة شاركنا فيها.
قوست “بسنت” شفتيها لتهمهم لرفيقتها بخفوتٍ:
-ده احنا شكلنا هيبقى هزوء أوي.
ردت عليها “بهاء” بنفس النبرة الخفيضة:
-واحنا كنا مبدعين فيه على الآخر.
عُرضت لقطة لـ “بسنت” وهي تفترش الأرضية بعد التدريب على فك الألــــغام، فكانت تبدو كالخرقــاء، وبقع الطين تغطي وجهها، وثيابها، تحرجت للغاية من حالتها المزرية، ورددت:
-ياختاي بصي على منظري.
رأت “بهاء” صورة لها وفمها مفتوح على اتساعه، وكأنها توشك على ابتلاع وحش ما، فخجلت هي الأخرى من هذه اللقطة، لتبرطم بحرجٍ:
-يادي الفضايح، ده مَعبر مش بؤ!
ضمت غالبية الصور المعروضة لقطات عفوية لكافة الدارسين في مواضع متنوعة طوال فترة التدريب، ضحكوا فيها على هيئتهم الطرفية، إلى أن تبدلت هذه اللقطات إلى مشهد بعينه، تم تسجيله بواسطة كاميرات المراقبة، عُرض من زاويا مختلفة، لذلك الصدام السابق بين “بهاء” و”عمر” في النادي، حينما التقت به أول مرة. للغرابة وضعت علامة تشويش على “بسنت” لتبدو غير ظاهرة فيه، وكأن لا وجود لها من الأساس.
جمدت الصدمة تعابير وجه “بهاء”، فحدقت بنظرات مصدومة مرتعبة لما يُبث على مرأى ومسمع من الجميع عبر شاشة العرض، بينما تساءل “أمير” مستفهمًا بتحيرٍ:
-إيه ده كمان؟
انزعج “عمر” للغاية من قيام أحدهم بعرض ذلك علنًا، وكأنه يقصد فضحهما بشكلٍ فج، فصاح في استنكارٍ جلي:
-هو إيه اللي بيحصل هنا؟
اعتلى الذهول والاستغراب أوجه الحاضرين، وتحولت أنظارهم تجاه “عمر” و”بهاء” لتصبح علامات الاستفهام المريبة والتكهنات غير البريئة حولهما. انطفأت الشاشة، وبدت “بهاء” في حالة من الرعب، لتقوم رفيقتها بتهدئة روعها بقولها المهتز:
-أكيد ده مقلب سخيف.
وكأن أحدهم قد سكب دلوًا من الماء البارد فوق رأسها، تلفتت “بهاء” حولها في نظرات جمعت بين الحرج والخوف، وصوتها المرتعش يردد:
-أنا مش فاهمة حاجة!
سمعت “عمر” يتوعد في حنقٍ:
-اللي عمل كده هيتحاسب، الحكايات دي مافيهاش هزار!
سرعان ما سطت الصدمة على وجوههم حينما ظهر “أنس” في مرمى بصرهم، وعلى قسماته هذه النظرة الشامتة، ليقول باسمًا في ابتسامة خبيثة للغاية:
-يا رب مفاجئتي تكون عجبتكم!
علم مسبقًا بأن القيادة العليا تنتوي اختيار بعض المتميزين من ترشيحات الضباط للدارسين في كافة التدريبات المقامة على مستوى الأكاديمية للمشاركة في تدريب تفاعلي بالخارج، فأراد “أنس” إفساد الفرصة عليها لاختيارها، بعرض مشاجرتها السابقة مع “عمر” على الملأ خلال فقرة بث فيديو التدريب، ليتم استبعادها على الفور إن فكر وقام بترشيحها.
استغل نفوذه وسطوته، فطلب من القائم على تحرير الفيديو إدراج المشهد ضمن الصور المعروضة، ليجعلها أولًا في أوج حرجها، وثانيًا مثارًا للجدال والسخرية، وثالثًا ليحقق انتقامه الأرعن منها …………………………….. !!
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية ضبط وإحضار)