روايات

رواية ضبط وإحضار الفصل الثامن عشر 18 بقلم منال سالم

رواية ضبط وإحضار الفصل الثامن عشر 18 بقلم منال سالم

رواية ضبط وإحضار البارت الثامن عشر

رواية ضبط وإحضار الجزء الثامن عشر

ضبط وإحضار
ضبط وإحضار

رواية ضبط وإحضار الحلقة الثامنة عشر

تحولت صالة المنزل إلى حيزٍ ضيق بعدما امتلأت بعشرات الصناديق والكراتين المتراصة فوق بعضها البعض. تفاجأت “بهاء” من كم المنقولات التي اشترتها لها زوجة عمها، وخزنتها من أجلها على مدار أعوام ممتدة إلى أن حانت اللحظة التي تنتظرها، لم تتوقع قيامها بذلك، فوقفت بينهم مدهوشة، مصدومة، لا تصدق ما تراه عيناها. التفتت ناظرة إليها عندما حادثتها:
-أنا عملت قايمة بكل حاجة موجودة، احنا نراجعها ونشوف الناقص ونشتريه.
ردت في امتنانٍ، وقد التمعت في عينيها دمعة خفيفة:
-تعبتي نفسك يا طنط.
احتضنتها “فادية” من كتفيها قائلة:
-إنتي بنتي، وبعدين عمك موصيني أجيبلك أحسن حاجة.
انضم إليهما “سليمان” مردفًا في جدية:
-دي مواعيد الأيام الفاضية في قاعات الأفراح، ظبطي الميعاد مع “عمر”، علشان نلحق نحجز.
بدت لبقة إلى حدٍ ما وهي تطلب منه:
-مالوش لازمة نعمل فرح، نخليها حاجة على الضيق؟
احتجت عليها زوجة عمها باستنكارٍ:
-واحنا عايزين نفرح بيكي، يعني إيه نعمل فرح على الضيق؟
جاء ردها منطقيًا:
-زيادة تكاليف على الفاضي، ولسه ورانا التزامات كتير.
أضاف عمها مؤكدًا بحبورٍ:
-ماتشليش هم حاجة طول ما احنا موجودين.
لولا وجودهما في حياتها لربما عانت الأمرين، من شعور الوحدة واليتم؛ لكنهما كانا بمثابة الدعم والسند. ظهر التأثر في نظرتها إليهما، لتقوم بعناقٍ مشترك بينهما وهي تهتف:
-ربنا يخليكم ليا.
……………………………………..
انتهت من تصفيف شعرها المبتل بالمصفف الكهربي أمام مرآتها العريضة الموجودة في غرفة نومها، لتجرب ارتداء ثوب النوم الجديد الشفاف على جسدها المشدود، ابتسمت في زهوٍ لأنها تمتلك قوامًا ممشوقًا، ومفاتنًا مغرية. تمايلت على الجانبين وهي تطالع نفسها بإعجابٍ قبل أن تقول:
-محتاجة أصور نفسي كام صورة بالطقم ده.
الرنة المميزة لرسائل هاتفها المحمول جعلتها تتوقف عن الإعجاب بنفسها، فالتقطته من على الشاحن، لتتفقد فحوى هذه الرسالة المريبة من إحدى صديقاتها، قرأتها بلا صوتٍ:
-أنا شوفت صورك على الموقع ده، متركبة على حاجات وحشة خالص، شوفي هتتصرفي إزاي.
تجعد أنفها، وانزوى ما بين حاجبيها باستغرابٍ، لتردد مع نفسها:
-إيه الرسالة دي؟
بتهورٍ ضغطت على الرابط الإلكتروني المرفق في الرسالة، وملأت بلا اكتراثٍ بيانات التحويل إلى ذلك الموقع المريب؛ لكنها لم تجد مثلما ادعت رسالة صديقتها، فقط صفحة بيضاء، لا تحوي شيئًا، لتتفاجأ بعدها بأنها غير قادرة على الولوج إلى حساباتها الشخصية. انقبض صدرها، وجلست على حافة الفراش، محاولة لعدة مرات استعادة حسابها المفقود، لعنت في حنقٍ، ودمدمت:
-حصل إيه للأكاونت بتاعي؟ أنا مش عارفة أدخل عليه ليه؟
لوهلةٍ ظنت أن ما حدث مجرد عطل عالمي، مثلما يتم إخبار الجميع في كل مرة تحدث فيها مثل هذه المشكلات الطارئة، ولتتأكد من صحة شكوكها، هاتفت إحدى رفيقاتها، لتقع صدمة أخرى قاسية على رأسها بأن الأمور بخير، ولا توجد أزمة في وسائل التواصل. ما زاد من توترها وضاعف الهواجس برأسها ورود رسالة أخرى إلى هاتفها تفيد بأنها ستدفع ثمن جرائرها. تصلب كتفاها وصاحت في عصبيةٍ:
-إيه الجنان ده؟
مررت يدها أعلى شعرها المصفف في توترٍ، وأخذت تعتصر ذهنها عصرًا لتفكر في الطريقة الملائمة لاستعادة ما فقدته، خاصة مع عدم معرفة أي فرد بالجانب الخفي من شخصيتها المتمردة، بجانب وجود بعض الرسائل الشخصية المتجاوزة، وصورها شبه الفاحشة، والتي من الممكن أن تورطها فيما لا يُحمد عقباه.
……………………………………….
في مكانٍ آخر، وأمام أحد أجهزة الحاسوب الحديثة، تولى ذلك الشاب مهمة نقل كافة البيانات الموجودة على ذلك الهاتف، والذي تمكن من سرقة معلوماته بالكامل، مستغلًا سذاجة الضحية وفضولها الذي دفعها لاتباع تعليماته الوهمية، من أجل سهولة الاستحواذ على كل ما يخصها. أرجع ظهره للخلف وخاطب “أنس” مبتسمًا بانتصار:
-كده يا باشا إنت ركبت على جهازها، وكل حاجة محطوطة عليه بقت موجودة عندك.
أبدى إعجابه ببراعته ممتدحًا إياه:
-الله ينور.
ناوله الذاكرة الصغيرة التي خزن عليها بياناتها كافة إليه قائلًا:
-شوف حابب تربيها إزاي.
ضحك ضحكات شيطانية مرددًا بعدها بوعيدٍ خبيث:
-ده أنا هلعبها على الشناكل.
ضم “أنس” الذاكرة في قبضته، وراح يبتسم في نشوة عارمة لكونه أصبح قادرًا على الانتقام من تلك التي تسببت في تدمير مستقبله.
……………………………………………
لم تعرف لماذا قبلت بالذهاب مع رفيقتها وخطيبها هذه المرة؛ لكنها رضخت في النهاية أمام إلحاحها الغريب، وذلك لكونها لا تحب أن تظهر بمظهر الشابة المتطفلة عليهما خلال فسحتهما الرومانسية. تفاجأت “بسنت” بقدوم “أمير” أيضًا وانضمامه لهم في المطعم. نظرت بتحير إلى رفيقتها، فأخبرتها “بهاء” باستمتاعٍ:
-دلوقتي هتعرفي.
توجست خيفة من احتمالية اقتراح ضمها لواحدٍ من التدريبات العجيبة التي اعتادت الاشتراك بها، فصاحت في تحفزٍ:
-أوعي تكوني ناوية على حاجة ليها علاقة بالدراسة تاني؟
وقبل أن تنطق بكلمة أعلمتها بنبرتها الحاسمة وهي تشير بيدها:
-أنا عملت اكتفاء ذاتي خلاص.
ابتسمت في نعومةٍ، وقالت:
-اطمني، دي حاجة هتبسطك.
لم تسترح لطريقتها تلك، وهمهمت في قلقٍ بائن على تقاسيم وجهها:
-استر يا رب.
دقائق وطلب “أمير” الانفراد بها ليجلسا معزولين نسبيًا، استطرد متحدثًا إليها في وديةٍ لا تخلو من الاحترام:
-أنا طلبت أشوفك النهاردة يا أستاذة “بسنت” علشان أكلمك في موضوع مهم.
ظنت أنه يلعب دور الوساطة في مسألة التدريب الغامضة، فانطلقت تخبره بانفعالٍ طفيف:
-شوف حضرتك يا سيادة الرائد تدريبات مابخدش، كورسات واعتزلت، أنا واحدة بيتوتية، وعايزة أتستت وأقعد في البيت.
بالكاد منع نفسه من الضحك، وقال باسمًا وهو يحتويها بنظرة دافئة من عينيه:
-ما أنا عايزك علشان كده.
رفعت حاجبها للأعلى مرددة بدهشةٍ:
-أفندم؟
أوضح لها في طرافةٍ مقبولة:
-أستتك، قصدي أتجوزك وأخليكي ملكة في بيتك.
في التو أدارت رأسها نحو رفيقتها لتجدها تبتسم بانشكاحٍ، وكأنها على علمٍ مسبق بهذا الأمر، عاودت النظر إليه تسأله لتتأكد مما سمعت:
-ده بجد؟
أومأ برأسه مؤكدًا لها:
-طبعًا، أنا بس بشوف رأيك الأول، قبل ما أتقدم رسمي وأخطبك.
أحنت رأسها خجلًا، فسألها في مرحٍ:
-بيقولوا السكوت علامة الرضا.
لم تمتلك الشجاعة لتنظر إليه في عينيه وهي تخاطبه:
-خلاص بقى ما تكسفنيش!
أشار لها بيده متسائلًا، وابتسامته تزداد اتساعًا:
-تحبي تشربي لمون، ولا نخليها شربات؟
تنحنحت قائلة وهي لا تزال تتجنب النظر تجاهه:
-أنا عايزة كوكتيل.
هز رأسه معقبًا وهو يفرقع بإصبعيه ليستدعي النادل:
-عينيا، اللي تؤمري بيه.
شعرت بالدلال وهي في حضرته، ومع ذلك أجادت إخفاء ما تكنه ناحيته ريثما تتأكد من جدية مسعاه نحوها.
……………………………………….
مكالمته الهاتفية التي وردت إليها ليلًا، جعلتها تقضي الساعات المتبقية منه بلا نومٍ، منتظرة بصبرٍ نافد سطوع الشمس حتى تذهب إليه لتحل معضلتها العويصة معه، فما يمتلكه الآن عنها يمكن أن يحيل حياتها إلى جحيم مستعر!
في بقعة نائية، بعيدًا عن زحام المدينة الصاخب، أوقفت “ميرا” سيارتها على مقربةٍ من خاصته، حيث ينتظر “أنس” بداخلها، ترجلت على الفور، وهرعت تجاهه، لتدق على نافذته المغلقة بعصبيةٍ وهي تسأله:
-إنت عايز إيه مني؟
خفض من نافذته يأمرها ببرودٍ:
-اركبي الأول…
وقبل أن تفكر في عدم الانصياع له هددها:
-وأحسنلك تنفذي أوامري بهدوء، ده لو مش عايزة الوالد المصون يعرف أسرار بنته المحترمة.
اضطرت مرغمة على الرضوخ له، فالتفَّت حول مقدمة سيارته، لتجلس بجوار مقعده، ثم صاحت غاضبة في وجهه:
-مكونتش أتخيل إنك بالقذارة دي.
لوى ثغره معلقًا بسخطٍ مهين:
-الحال من بعضه يا .. آنسة .. ولا نقول مدام؟ يعني الصراحة مش متأكد.
استفزها بوقــاحة كلماته الفجة، فرفعت كفها للأعلى تمهيدًا لصفعه وهي تنعته:
-إنت ســـــــافل.
قبل أن تلمس صدغه أمسك بقبضتها بيده، واعتصرها تحت أصابعه مواصلًا تهديده لها:
-لمي لسانك بدل ما أقصه.
انتزعت رسغها من بين يده، لتخبره في حدةٍ:
-احنا الاتنين كنا بنتسلى سوا، وخلاص حكايتنا خلصت.
في البداية تطلع أمامه لهنيهة، ثم نقر بأصابعه على عجلة القيادة، ليدير رأسه تجاهها ناظرًا إليها وهو يكلمها بما لم يرحها:
-ده بالنسبالك، قبل ما أتأذى في شغلي.
ردت عليه بانفعالٍ:
-أنا مقولتلكش تتصرف بالشكل ده، إنت اللي كبرت الموضوع…
ثم حاولت مراوغته بادعائها الكاذب:
-ووعدتك هتصرف، وإنت معندكش صبر.
افتعل الضحك ليبتر ضحكاته اللزجة قائلًا:
-أها، ده قبل ما روحك تبقى في إيدي.
غامت ملامحها كليًا متسائلة:
-قصدك إيه؟
استدار ناحيتها ليكلمها بثقةٍ جعلت دمائها تتصاعد حنقًا بداخلها:
-قصدي يا حلوة، إنتي بالنسبالي زي الفانوس السحري، اللي هيحقق كل أحلامي، ليه ما استفيدش منك على أد ما أقدر؟
بذلت جهدًا لتبدو هادئة، وهمهمت:
-مش فاهمة.
في جراءة وقحة مد يده ليمسك بخصلة من شعرها، لفها حول إصبعه، فانتزعتها منه بغيظٍ، ليبتسم لها مسهبًا في حديثه:
-احنا ببساطة كده هنتجوز، وإنتي مسئولة تقنعي أبوكي بيا، وبعدها هتساعديني أفتح شركة أمن وحراسات، حاجة أكون فيها الآمر الناهي.
سددت له نظرة نارية قبل أن تضع يدها على مقبض باب السيارة صارخة باهتياجٍ:
-إنت عايش في الوهم، ده استحالة يحصل.
ترجلت منها صافقة الباب خلفها بعنفٍ، ليتابعها بنظراته المتسلية وهي ترحل مبتعدة؛ لكنه أجبرها على الوقوف عندما صاح بتهديدٍ صريح:
-وماله، يبقى تستحملي اللي هعمله فيكي، نجمة النت والفضائيات كلها، ومش بعيد أطلع نفسي ضحية ألاعيبك النجسة.
استدارت دفعة واحدة لتنعته من بين أسنانها المضغوطة:
-إنت آ….
ترجل هو الآخر من سيارته وحذرها مشيرًا بسبابته ناحيتها:
-أحسنلك تاخدي بالك من كلامك.
ثم غمز لها بطرف عينه مكملاً:
-وإنتي بإيدك تختاري.
تيقنت “ميرا” أنه يضمر لها شرًا عندما أنهى تهديده بتبجحٍ:
-هديكي يومين تتصرفي فيهم، يا إما كل حاجة بينا تبقى رسمي، يا إما الفضايح كلها هتكون علني، وماظنش هترضي تكوني في عيون الناس واحدة آ…
بتر كلمته عن عمدٍ ليثير أعصابها أكثر، ثم أضاف بخبثٍ:
-إنتي فاهمة بقى.
لم يكن أمامها مفرٍ من مجاراته، وإلا لخسرت كل شيء، وأهمها نقاء سريرتها، تلك التي ستؤثر حتمًا على سمعة ومكانة أبيها، بجانب منزلتها الاجتماعية الرفيعة بين الجميع، فتبدو أقرب للعاهرة الوضيعة عن الشابة الراقية الرقيقة. عجزت عن الرد عليه، واتجهت إلى سيارتها لتغادر في الحال لاعنة ذلك اليوم الذي فكرت في الارتباط به لمجرد التسلية وإضاعة الوقت، وها هي تجني في حاضرها ثمار سوء تصرفاتها العابثة.
……………………………………….
مستخدمة وسائل التهديد بالانتحار، تمكنت “ميرا” بأعجوبةٍ من إقناع والدها بقبول “أنس” كزوجٍ لها، ليقوم الأخير بالاستقالة من وظيفته الحالية ليتفرغ تمامًا لتأسيس عمله الجديد، وما زاد من تسليط الأضواء على ذلك الثنائي الغريب انتشار خبر زواجهما كالنار في الهشيم. كانت “بهاء” لا تزال تتفقد منزلها الجديد، وتتأكد من تنفيذ الديكورات التي طلبتها حينما علمت بالأمر من “عمر”، أبدت دهشة حائرة وهي تعلق عليه:
-غريبة أوي، فجـأة كده؟
رد عليها بتحيرٍ مماثل لها:
-مش عارف بصراحة، معنديش تفاصيل، بس هو باعتلي دعوة الفرح.
تغيرت ملامحها إلى شيءٍ من الضيق مقتضبة في الرد عليه:
-براحتك.
فهم سبب انزعاجها دون الحاجة للنطق بهذا بوضوح، فقال منهيًا الجدال حول هذه المسألة السخيفة:
-أنا مش عايز أحتك بيه أصلًا.
ليراعي مشاعرها أكثر، حول مجرى الحديث كليًا إلى ما يخصهما، فاستطرد:
-المهم العفش هنستلمه على الأسبوع الجاي، وبعدها نكمل اللي ناقص ونحدد ميعاد الفرح.
حركت رأسها بإيماءة صغيرة معلقة:
-ربنا يسهل.
وقفت وهي توليه ظهرها، فدنا منها ليقف خلفها، شعرت بأنفاسه الحارة تلامس أذنها وهو يهمس لها:
-نفسي أخدك في حضني وأقولك كلام كتير جوايا.
انتفضت مبتعدة عنه، وهي تشعر بحمرة الخجل تغطي كامل وجهها، ومع ذلك استمر في الاقتراب منها، ونظرة متألقة تنبعث من عينيه، مما جعلها في غاية الارتباك، حذرته بنبرة أقرب للتوسل قبل أن يتمادى في التصرف بحماقةٍ:
-عيب، مايصحش كده، اصبر شوية.
تخشب في موضعه قبل أن يُقدم على خطوة تجاهها، عندما سمع صوت زوجة عمها تتساءل:
-ها يا ولاد محتاجين حاجة؟
كانت “بهاء” ممتنة لأنها جاءت في الوقت المناسب، وإلا لما استطاعت مقاومة تأثيره المغري عليها. ابتسم “عمر” بتصنعٍ، ورد:
-لأ، كله تمام.
انتهزت الفرصة لتقبل نحو زوجة عمها، تأبطت ذراعها قائلة، وهي تحاول إخفاء ابتسامتها المستمتعة بإغاظته:
-يالا يا طنط، “عمر” هيتابع اللي ناقص بنفسه.
ثم لوحت لها بيده لتودعه، لينظر إليها بضيقٍ، ضرب بكف يده على الحائط المطلي مهمهمًا:
-هون يا رب.
…………………………………..
مضت الأيام سريعًا، وحانت اللحظة المنشودة، ليجلس العروسان معًا وهما في أبهى حلة على الكوشة، وجميع أحبائهم يلتفون من حولهما. التقطت الصور التذكارية واحدة وراء الأخرى، وظلت أصوات الزغاريد تتردد في الخلفية. مال “عامر” على شقيقه الأصغر يداعبه بمزاحٍ:
-عايزك تشرفنا النهاردة يا باشا، اقتحم ومايهمكش.
علق باستظرافٍ ساخر:
-هي معركة حربية.
أكد له بجدية عجيبة وهو يستخدم كلا ذراعيه في الإشارة:
-أنأح، دي معركة البقاء للأقوى.
تبسم ضاحكًا، فواصل “عامر” نصحه:
-اسمع مني، أحسن وسيلة للدفاع هي الهجوم المباشر.
جاءت زوجته “سلمى” لتفسد عليه ما يقوم به، وأعطته تلك النظرة المحذرة وهي تسأله:
-بتقوله إيه؟ أنا عارفاك!
قوس شفتيه عن ابتسامة متكلفة، وأخبرها:
-أنا بوصيه على العروسة القمر، دي بقت أختي الصغيرة.
بدت غير مقتنعة به، والتفتت تخاطب “عمر” في لهجة حازمة:
-بص ماتسمعش كلامه في حاجة، واتهنى مع عروستك.
أدى لها التحية العسكرية مرددًا في مرحٍ:
-عُلم وينفذ.
في تلك الأثناء، لامست “بهاء” بحركة عفوية طرحة ثوبها التي تتدلى من أعلى رأسها لتتأكد من ضبطها على كتفها الأيمن، ثم طالعت رفيقتها المتأنقة كعادتها بعينين مملوءتين بالسعادة، وراحت تخبرها بمحبةٍ صافية بعدما علمت بتأكيد إتمام خطبتهما قريبًا:
-مش قولتلك “أمير” كان حاطط عينه عليكي.
ردت بخجلٍ وهي ترمش بعينيها:
-ما أنا كنت عارفة بس بتقل.
لكزتها بخفةٍ في ذراعها مرددة ببسمةٍ مسرورة:
-يا جامد إنت.
عبرت لها صراحةً عما يعتمل في نفسها من مشاعر شبه متضاربة:
-أنا أصلًا مش مصدقة إني هتخطب، ده أنا كنت ضد مبدأ الارتباط بأي راجل.
غمزت لها قائلة، دون أن تخبت ابتسامتها الرقيقة:
-ما هو جه اللي يغير أفكارك عنهم.
ضحكت على جملتها الأخيرة، وعقبت:
-على رأيك.
نصحتها “بهاء” بعدئذ:
-بس يا ريت ما تتطولوش في الخطوبة، علشان المشاكل وكده.
ردت بهزة صغيرة من رأسها:
-ربنا ييسر.
………………………………………
انقضى الحفل على خير، وتفرق الجمع، ليصبح الزوجان بمفردهما، تنهد “عمر” بعمقٍ، وفرك كفيه معًا، ثم نزع عنه سترته، ليقوم بحل رابطة عنقه قائلًا بنبرة أربكت عروسة الواقفة في منتصف الصالة:
-أخيرًا اتقفل علينا باب واحد.
نظرت إليه “بهاء” بتوترٍ، لتشير له بسبابتها هاتفة بصوتٍ جاهدت ليبدو جادًا، وهي تتراجع بظهرها للخلف في خطواتٍ بطيئة حذرة:
-أنا عايزة أقولك على حاجة مهمة الأول.
سألها وهو يواصل التقدم تجاهها، وهذه النظرة اللعوب تتراقص في حدقتيه:
-خير؟
أعلمته دون مقدماتٍ تمهيدية:
-في تدريب جديد قدمت عليه، وآ…
قاطعها في الحال مبديًا تبرمه من تطرقها لما يخص البحث والاستذكار في هذه الليلة المميزة:
-وده وقته؟!
تصنعت العبوس، وحادثته بقليلٍ من الضيق:
-ما إنت لازم تبقى فاهم إني بحب الدراسة ولا يمكن أبطلها.
حل أزرار قميصه، ومازحها مبتسمًا بطريقة زادت من تلبكها:
-وماله، أنا مش ممانع، بس خلينا دلوقت في كورس الحياة الزوجية السعيدة.
تمنَّعت عليه بتدللٍ قائلة:
-استنى بس.
حاولت الفكاك منه؛ لكنه لم يمهلها الفرصة وحاصرها عند الزاوية، لتصبح أسيرة ذراعيه القويتين، شعرت بأنفاسه الحارة تلاطم صفحة وجهها لتلهبها، وتنشر رعدة خفية في كامل أوصالها، وهو يعترف لها:
-ده أنا مستني وصابر بقالي أد كده.
نادته بصوتٍ شبه هامس، يحوي غنجًا مثيرًا:
-يا “عمر”!
وجدته يميل بوجهه عليها ليلتقم شفتيها بخاصته، قبلها ببطءٍ، ثم عمق من القبلة بالتدريج، ليشعر بها تتجاوب مع ما يبثه من أشواقٍ ورغبة، ابتعد عنها ليلتقطا أنفاسهما، ثم مرر ذراعيه من أسفلها ليقوم بحملها، تأوه بصوتٍ خفيض، وتساءل في طرافةٍ وهو يسير بها نحو غرفة نومهما:
-الفستان ده تقيل كده ليه؟ حاطين فيه ألغــــــــام؟
أطلقت ضحكة عالية قبل أن تقول:
-دي البطانة.
واصل المزاح ليستمتع أكثر بضحكتها الرنانة:
-هي معمولة من أسمنت مُسلــح؟!
كورت قبضتها ولكزته في كتفه قائلة:
-بطل هزار.
تابع سيره إلى داخل الغرفة وهو يربطم مع نفسه:
-كويس إن الواحد لسه بيتمرن على رفع الأثقال، وإلا كان زماني اتفضحت.
………………………………………..
مؤخرًا، ساءت أحوالها النفسية كثيرًا، فما كانت عليه في بداية زواجها من اهتمام ومشاعر عاصفة جامحة، تبدل بالتدريج إلى شيءٍ من الواجب والروتينية، إلى أن أصبحت كالهم الثقيل على قلب زوجها، مجرد وسيلة للتربح المادي وتحقيق المنفعة والشهرة من خلال معارف أبيها ووساطاتها الكثيرة، ظلت على هذه الحال لشهورٍ متعاقبة، لا أمل في تغيير طباعه، ولا بريق مشرق في مستقبلها معه.
تابعت “ميرا” وهي مستلقية على فراشها بجوار زوجها الغارق في نومه، ما يبث من تحديثات شخصية لرفيقاتها بشأن ارتباطهن على وسائل التواصل الاجتماعية بمشاعر جمعت بين الحقد والغل، ألقت نظرة جانبية مشمئزة عليه، فبدلًا من أن تنعم مثلهن بالاستقرار الأسري والعاطفي، كانت تعاني من الجفاء والنبذ، بل إنها عجزت حتى عن البوح بما تحبسه في داخلها لأيٍ منهن، وإلا لصارت كالعلكة في أفواههن باعتبارها مادة ثرية للسخرية والاستهزاء فيما بينهن.
الجميع يظنها تعيش في أوج سعادتها، وهي تكافح للحفاظ على صورتها هكذا، بالكاد حاولت التأقلم مع وضعها ريثما توفق أوضاعها وتتخلص من هذه الزيجة الخانقة باستعادة ما يحتفظ به عنها ليهددها به ويبقيها تحت سطوته، مجرد وسيلة للربح والتربح. ما أثار حنقها كذلك رؤيتها لصورة تجمع بين “بهاء” و”بسنت” وهما تعلنان باستمرارٍ عن أخبارهما المتعلقة بالحمل، شعرت بالغيرة منهما، فهي حُرمت من هذه النعمة أيضًا، ولم تطلع “أنس” على ذلك، رغم يقينها بأنه لا يكترث لهذه المسألة، فهو مشغولٌ بأشياءٍ أخرى أهم منها.
تنبهت لصوت رنين الرسائل في هاتفه، كان الوقت متأخرًا لذلك، تأهبت حواسها، واستحثها فضولها على رؤية ما أُرسل إليه، فمدت ذراعها من فوقه، وتجرأت على الإمساك بهاتفه، وتفقده، خاصة مع استغراقه في النوم العميق.
اشتعل وجهها غضبًا بمجرد أن قرأت الرسائل من الخارج، عبارات فاحشة من إحداهن، تستحثه على تمضية ليلة (حمراء) معها، ووعود بمتعٍ لا حصر لها في أحضانها الدافئة، بجانب نعت زوجته بألفاظ نابية مشينة، أوشكت أن تلقي هاتفه أرضًا لتحطمه قبل أن توقظه وتتشاجر معه؛ لكنها كبحت نفسها في اللحظة الأخيرة، ربما جاءتها الفرصة أخيرًا لمساومته، وإنهاء ذلك العــــذاب كليًا، واستعادة ما يجبرها على البقاء في عصمته.
……………………………………………
عقدت “ميرا” العزم على المضي قدمًا فيما انتوت على فعله، لاقتناص الفرصة المناسبة للإمساك بزوجها بالجرم المشهود. حرصت كل الحرص على ألا يلاحظ متابعتها له، لن تنكر أن الشكوك ساورتها مؤخرًا من تبدل طريقته الحميمية المهتمة في بداية زواجهما إلى أخرى باردة، فاترة، وشبه متعجرفة، تكاد تخلو من أي ودية، فقررت مراقبته، لمعرفة ما الذي أصابه ليغدو بهذه الصورة المريبة معها، وكأنه يقصيها عنه بشكلٍ غير مباشر، حينئذ اكتشفت حقيقته الصادمة، كان يداعب غيرها، يُجالسها بنفس الطريقة القريبة الدافئة في سيارته الجيب السوداء، تلك الطريقة المغرية التي اعتاد أن يفعل مثلها معها، ليبث لها أشواقه، وتنهيداته، وحرارة مشاعره، وقتها فقط أدركت أنها كانت حمقاء لتصدق إخلاصه ووفائه لها.
لم تتحمل رؤيته في هذا المشهد الوضيع الفاحش، فاندفعت تجاه سيارته تطرق بعنفٍ عليها، وصوت صراخها يجلجل في الأرجاء مسببًا فضيحة مشينة له:
-انزل يا بيه يا محترم من العربية، إنت والقذرة اللي معاك.
في التو فتح الباب ليخرسها بوضع يده على فمها هاتفًا بقلقٍ:
-إنتي اتجننتي؟ إيه اللي بتعمليه ده؟
كاللص الوضيع هربت المرأة اللعوب من السيارة في الحال، تجنبًا للقبض عليها، وقد راح المارة يتجمعون بفضولٍ لرؤية ما يحدث من شجار ملفت، في حين أبعدت “ميرا” يده عن فمها بتشنجٍ، وواصلت صراخها المنفعل به:
-خلي الناس تشوف وتتفرج عليك يا محترم.
دفعها دفعًا وبقساوة إلى داخل السيارة صائحًا بها في غضبٍ:
-اسكتي بقى، إنتي غاوية فضايح؟
أجبرها على ركوب السيارة معه، فأجهشت بالبكاء المرير وهي لا تزال على صراخها:
-خلاص أنا جبت أخري، طلقني وسبني لحالي.
كانت تلك إحدى نوبات غضبها المتكررة، تلك التي تنفجــــر مشاعرها المستثارة فيه بجموحٍ، لمجرد التنفيس عن كرهها المكبوت ضده، وما أكثر حدوث ذلك! لهذا قابل عصبيتها ببرود اكتسبه من معاشرته لها:
-مش هيحصل، أنا مبسوط كده.
ولما لا يتعامل بهذه الطريقة الهادئة معها وهو أكبر المستفيدين منها؟ قاد السيارة بعيدًا، وهدير صوتها المهتاج يرن في أذنيه مسببًا له الصداع:
-مش خدت اللي عايزه؟ مال وسلطة، فاضل إيه تاني؟
انحرف “أنس” عند المنعطف المؤدي للطريق السريع، وأجابها في سماجةٍ، وبما أغاظها:
-فاضل إني عايز أضمن بيكي مستقبلي.
احتقن وجهها أكثر من استفزازه المتعمد، خاصة وهو يكمل مهددًا إياها بوقاحةٍ، وقد استرخى في جلسته محركًا المقود بيدٍ واحدة فقط:
-وما تنسيش معايا لسه اللي يدينك.
فقدت أعصابها كليًا، ولم تعد قادرة على الاستمرار في العيش هكذا، تعيسة، ومحطمة، وعلى هامش حياته. صرخت فيه باهتياجٍ مخيف:
-أنا جبت أخري خلاص، ومش هفضل لعبة في إيدك.
ثم انقضت على عجلة القيادة لتديرها في جنونٍ، وقدمها تدعس فوق ساقه وبكل قوةٍ على دواسة البنزين، مما أدى لانزلاق السيارة وانحرافها يمينًا ويسارًا على الطريق وتحركها بسرعة مخيفة. تفاجأ “أنس” بفعلتها المتهورة، ولم يستطع إيقافها، وما زاد من استحالة الأمر عليه ظهور إحدى الشاحنات ذات الحجم الضخم من المنعطف، لم يتمكن من تفاديها في الوقت المناسب، لتصطدم بهما في عنفٍ، فأطاحت بسيارته نحو الجانب الآخر من الطريق بعدما التفت ودارت لعدة مرات، ليسحق البدن المعدني جسديهما بلا رأفة، وتُفنى حياتهما معًا في التو واللحظة.
………………………………….
تم ترشيحهما ضمن بعض الأسماء الأخرى للتطوع بالقيام بعمل إحصائيات ميدانية دقيقة لبحث ما يخص الأكاديمية، بناءً على توصيات زوجها وقائده. قبلت “بهاء” بهذه المهمة بكل سرور، وتواجدت بشكلٍ يومي في الوحدات العسكرية المعنية في ذلك البحث، لتجمع المعلومات وتكتب التقارير المفصلة. سارت “بسنت” إلى جوارها بخطواتٍ كسولة متعبة، فها هي تقترب من منتصف أشهر حملها؛ لكنها كانت تعاني من تبعاته المزعجة، على عكسها بدت “بهاء” في قمة نشاطها، رغم أنها توشك على وضع جنينها.
من جديد تلكأت “بسنت” في خطاها لتقول بنبرة تميل للرثاء:
-عرفتي باللي حصل لـ “ميرا”؟
تنهيدة بطيئة خرجت من جوف “بهاء” ليتبعها تعليقها الحزين:
-أيوه، قريت عنه، ربنا يرحمها، ويغفر لها.
استطردت متابعة بتعاطفٍ:
-مين كان يصدق إن نهايتها تكون كده.
رجتها بهدوءٍ:
-معدتش ينفع نتكلم عنها، احنا مقدمناش غير ندعيلها بالرحمة.
سكتت عن الكلام في شأنها، وتابعت تدوين ما تمليه عليها في المفكرة التي بحوزتها، لتلهث بعد برهةٍ، وتبحث عن أقرب مقعد لتجلس عليه، فكان في مواجهة صالة التدريب على المصارعة. اشتكت لها رافعة ذراعها للأعلى في اعتراضٍ واضح:
-أنا تعبت مش قادرة أكمل.
جلست “بهاء” إلى جوارها تستعتبها:
-عيب عليكي، عايزاهم يقولوا عننا مش أد المسئولية؟
الصياح الذكوري المتردد حولهما أجبرهما على النظر إلى ما يقوم به هؤلاء الرجال الأشداء من تدريبات قتالية عنيـــفة، لحظتها صرخت “بسنت” متسائلة في ذعرٍ:
-ما تقوليش هناخد معلومات من وحــــوش المصارعة دول؟
ردت عليها رفيقتها تطمئنها بابتسامة مرحة لم تستطع تخبئتها:
-هما كلمتين على الطاير.
أمعنت “بسنت” النظر في أحدهم والآخر يرفعه للأعلى بخفةٍ، وكأنه لا يزن شيئًا، ليطرحه بخشونةٍ أرضًا، قبل أن يجثو فوقه ويقوم بتثبيت كامل جسده في حركة مؤلمة أجبرته على الاستسلام فورًا. ابتلعت ريقها، وهسهست بتوترٍ:
-هو من ناحية طاير، فهو طار فعلًا!
ثم نظرت إلى رفيقتها بتوسلٍ قبل أن تستعطفها:
-مافيش استثناء للحوامل؟
جاء ردها قاطعًا، ومخيبًا لآمالها في الظفر براحةٍ فورية:
-لأ.
رسمت تكشيرة متبرمة على تعبيراتها هاتفة بنقمٍ:
-حسبنا الله، أنا إيه اللي خلاني أوافق أشترك معاكي في حاجة تاني؟!
لفت “بهاء:” ذراعها حول كتفيها لتدفعها للاستمالة عليها قائلة في تدللٍ:
-هو احنا لينا غير بعض يا “بسبوسة”.
بملامحها الوديعة، ونظراتها المنزعجة استمرت “بسنت” على شكواها المازحة، ويدها تتحسس برفقٍ –وفي حركات دائرية- بطنها المنتفخ:
-أنا حاسة إن البحث الجاي هولد وأنا جوا الدبابة، يا إما على المدفع!
-تمت-

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية ضبط وإحضار)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *