روايات

رواية مملكة سفيد الفصل الثامن والأربعون 48 بقلم رحمة نبيل

رواية مملكة سفيد الفصل الثامن والأربعون 48 بقلم رحمة نبيل

رواية مملكة سفيد البارت الثامن والأربعون

رواية مملكة سفيد الجزء الثامن والأربعون

مملكة سفيد
مملكة سفيد

رواية مملكة سفيد الحلقة الثامنة والأربعون

شعر سالار بأطرافه تتجمد وهو يرى تلك المشاهد التي تتابع خلف ظهر زوجته، مشاهد ومناظر لا يدرك لها تفسيرًا هل هذه خيالات حرب أم حقيقة أم ماذا ؟!
” ما هذا ؟؟ ما الذي يحدث هناك ؟!”
صمت وقد بدأت حدقتيه تتسع أكثر أكثر بشكل مرعب، يشاهد مشاهد مروعة لأشخاص تصرخ ومنازل مدمرة، اطفال مشردة، ونساء تولول، بشر مبتوري الأطراف وغيرهم من مشاهد الحروب التي شاهدها من قبل، لكن الآن يبصرها بشكل أكثر قسوة ..
وتبارك صمتت ولم تدرك ما يجب قوله وهي ترى أعين زوجها معلقة بالتلفاز خلفها والذي كان يعرض القليل فقط من المشاهد اليومية لشعبٍ تلقى من الحياة ما تشيب له الرؤوس .
” هذا؟! هذا واقعنا الذي نحياها هنا سالار ”
نظر لها سالار بانتباه يردد الكلمة كأنه يحاول استيعاب ما تقصد :
” واقعكم ؟؟ هذا واقعكم ؟! أنتم أيضًا ؟؟”
هزت رأسها تراقب الطبيب الذي عاد بالأدوية تهمس له بصوت منخفض وقد ارتعش جسدها من نظرة سالار التي وجهها لها، وكأنه يسألها وماذا بعد ؟؟ ماذا بعد هذا ؟؟ لكن وهل تمتلك إجابة ؟؟
ابتلعت ريقها تنظر صوب الطبيب الذي انتبه لنظرات سالار لينتهد بحزن وهو يخرج علب الدواء يدون عليها الأوقات الخاصة بالجرعات:
” حاجة تحزن، كل يوم حصار اكبر من اللي قبله وكل يوم مجازر ابشع من اللي قبلها، الموضوع إبادة عرقية ومحدش عارف يوقف اللي بيحصل”
استدار له سالار بقوة يحدق فيه بعدم فهم، ما الذي يقصده أن لا أحد يستطيع إيقاف مايحدث ؟؟ ونظراته لتبارك كانت مليئة بالاسئلة وهي لا تمتلك إجابة لها فقط قالت بصوت منخفض :
” ربنا ينصرهم يارب ”
” من هؤلاء ؟؟”
وكان هذا السؤال المريب خارج من فم سالار الذي لم يدرك حتى ما الذي يحدث، من هؤلاء وما سبب هذه المشاهد المرعبة التي يراها، يا الله لتكن فقط مجرد تخيلات أو تقنية حديثة يعرضون بها صور خيالية ليس إلا، فما يراه الآن، هو صورة لما حدث مع اهل مشكى، لكن بشكل أكثر حداثة، وأكثر إيلامًا .
رمقه الطبيب باستنكار، ثم نظر صوب تبارك يقول بجدية يهز رأسه مقتنعًا :
” أنا بدأت اصدق أنه من ريف روسيا، بس معقولة روسيا مش عندهم تلفزيون يعرفوا الاخبار منها ؟!”
نظرت له تبارك، ثم نظرت صوب سالار الذي كانت عيونه معلقة بالتلفاز خلفه، وهو لا يفهم الكثير، يريد فقط معرفة من هذا الشعب المُعذب وما جرمه ؟؟ لا يُعقل أن هذه الإبادة التي يشهدها دون أن يرى اي تدخل للدفاع لأجل لا شيء .
” دول يا خواجة أهل فلسطين، أنت مش متابع ولا ايه ؟؟ الدنيا بقالها فترة صعبة اوي معاهم ”
نظر له سالار بعدم فهم وقد ازدادت حيرته :
” فلسطين؟؟ القدس ؟؟ أي أنهم مسلمون ؟؟”
” امال طبعًا مسلمين وعرب ”
رفع سالار حاجبه بعدم فهم :
” وما الذي يحدث لهم ؟! هذا …هذه المجازر ما سببها ؟؟”
نظرت له تبارك وبدأت تجمع الأدوية داخل الحقيبة البلاستيكية تجيب بكل بساطة واختصار :
” لنقل أنها مشكى هذا العالم سالار، نفسه ما حدث مع مشكى يحدث هنا معهم، لكن الفرق بينهما أن مشكى وجدت سفيد وأبى وسبز تساعدها، وهذه لا ناصر لها سوى الله ”
تتحدث وتتحدث وهو فقط يراقب ما يحدث، لا يصدق ما يرى، ازداد العالم تطورًا وزاد التطور من قسوة الإبادة، مشاهد مخيفة، وإصابات غريبة لا يمكن أن تكون ناتجة عن مجرد ضربة سيف أو ما شابه .
وتبارك التي كانت تراقب تباين ملامح سالار تدرك الآن ما يعيش .
المؤلم في الأمر والمثير للسخرية في الوقت ذاته، أن هذه كانت ملامح رجل حرب قضى ثلثي عمره، بل عمره بأكمله إلا أيام قليلة بين الحروب والجثث، رجل حرب يستنكر كل ما يرى، وقد بُهتت ملامحه، فما بالك بصغار يحيون هذه المشاهد يوميًا ؟!
انتهت تبارك مما تفعل وهي تنظر لسالار بشفقة عليه من نظراته، كان فقط يحدق أمامه في شاشة التلفاز دون ردة فعل، تحدثت بصوت منخفض:
” سالار ..سالار هل يمكنك اعطائي بعض الأموال ؟؟”
لكن لا رد من سالار الذي كان محبوسًا في المشاهد أمامه، تتباين ملامحه مع كل حدث، وكأنه يحياه معهم، ولا عجب، رجل تربى على الدفاع عن الضعفاء، يقاتل لأجل الحقوق، لا شك أن يستنكر كل ما يرى، لكن أباليد حيلة ؟؟
حتى وإن امتلكت اليد حيلة، فاليد قُطعت والافواه كُممت وانتهى الأمر ….
تنهدت تنظر صوب صامد وصمود اللذين كانا ينتهيان من تناول نصف الأدوية المعروضة أمامهما ظنًا أنها حلوى، وحقًا لا تدري أتبكي ما يحدث أم تضحك من هذين الغبيين ؟
” هم يبكي وهم يضحك صحيح ”
تنهدت تقول تاركة زوجها في صدمته يتجرعها ببطء وهي تقول :
” صامد، اعطني بعض الأموال التي أعطاك إياها سالار ”
رفع صامد رأسه عن علبة الدواء ينظر لها باستنكار :
” ماذا ؟؟ هذه أموالي ”
” بل أموال زوجي، اعطني بعض الأموال كي ادفع ثمن ادويتي، وتلك الأدوية التي تناولتموها”
صمتت ثم أضافت :
” وكمان اشتري ليكم أي مطهر معوي لأجل البلاوي اللي سفتوها دي ”
وملامح الرفض والتعنت علت وجه صامد الذي أبى أن يترك تلك الأموال لها يشير صوب صمود قائلًا :
” لا امتلك أموالًا كافية خذي من صمود ”
تشنجت ملامح تبارك وهي تنظر صوب صمود تقول بعد تنهيدة قصيرة :
” صمود اعطني أنت بعض الأموال ”
رفض صمود بشكل واضح :
” لماذا أنا ؟؟ خذي من صامد ”
زفرت تبارك بصوت مرتفع وهي تستدير صوب سالار، ترى أنه أملها الوحيد، اقتربت منه تهمس بصوت منخفض :
” سالار …سالار اعطني أنت بعض الأموال ”
وسالار كان ما يزال يحاول ابتلاع ما يرى وجسده بأكمله يرتجف لا تدري تبارك أكانت رجفة غضب أم صدمة ..
تحرك بعيونه صوبها ينظر بشرود وكأنه لا يعي ما يحدث، وهي فقط مدت يدها للحقيبة التي يحملها :
” اعطني الحقيبة سالار ”
وهو فعل بكل بساطة لا يعي حتى ما تريد، فقط أعطاها الحقيبة كما أخبرته، وهي أخرجت منها بعض الأموال تقول بجدية :
” كده الحساب كام لو سمحت ؟!”
والطبيب كان شاردًا مع ملامح سالار، يقول بجدية :
“٥٧٦ جنيه، هو جوزك ماله كده ؟؟ هو بجد مكانش يعرف ؟؟ أنا اسمع إن الغرب ميعرفش اللي بيحصل فعلا بس مكنتش بصدق، اصل مين اللي ميعرفش اللي بيحصل بقاله سنين ؟!”
سنين ؟؟؟ رنت تلك الكلمة برأس سالار ليشعر بالصدمة تتمكن أكثر منه .
رمقت تبارك سالار نظرة صغيرة قبل أن تقول وهي تعد الأموال المطلوبة له :
” صدقني محدش يعرف قده مرارة اللي بيمروا بيه، هو بس مستغرب أن البشاعة وصلت للدرجة دي ”
ختمت حديثها تضع له الأموال على الطاولة أمامه، ثم أخذت حقيبة الأدوية الخاصة بها تمسك يد سالار، ثم جذبته للخارج وهو ينظر لها بشرود لتبتسم هي له بسمة صغيرة :
” هيا عزيزي ”
تحركت صوب الخارج وهي تسحب يد سالار الذي كان شبه واعي لما يحدث، وحينما مرت بصامد وصمود رفعت حقيقة سالار تضربهما بها بحنق :
” الحقا بنا أيها الحمقى، والله لو أننا احضرنا ارنبين لأفادونا أكثر منكما….”
وبالفعل تركا كل ما كانا يعبثان به وتحركا خلف القائد وزوجته بسرعة، وتبارك فقط تقود سالار صوب مكان تجلس به معه للتحدث بهدوء، فحالته هذه كانت غير مطمئنة الأمر بدا كما لو أنه تلقى للتو خبر احتلال مشكى للمرة الثانية .
وللعلم، كان الواقع أشد مرارة من هذه الحقيقة، على الأقل إن حدث وأُحتلت مشكى مجددًا ما كانت لتحزن أو تحمل همًا، فعلى الأقل مشكى تمتلك من يدافع عنها، لكن ماذا عن مشكى عالمها ؟! وحيدة في ساحة المعركة، عزلاء وسط مسلحين….
____________________
” مهيار، هيا انهض وعد لمنزلك لترتح قليلًا، مهيار، مهيار ”
انتفض جسد مهيار بقوة وهو ينظر حوله بفزع شديد يحاول معرفة أين هو وما الذي يفعله، تنفس يحاول إدراك محيطه، حتى أبصر وجه والد ليلا، ليتنفس بشكل طبيعي وهو يردد يمسح وجهه ببطء :
” هل هي بخير ؟؟”
هز له والدها رأسه، ليشعر مهيار بأنه واخيرًا يتنفس الصعداء، تنهد بصوت مرتفع وهو يميل دافنًا وجهه بين كفيه :
” لا تقلق يا عم دقائق وارحل ”
” يا بني وهل أخبرتك أنني استثقل وجودك هنا، أنا فقط أشفق عليك، اضطررت لترك عقد قرآن شقيقك وجئت مفزوعًا، والآن هي بخير، عد صوب شقيقك وشاركه سعادته فهو له عليك حق كذلك ”
ابتسم له مهيار ولم يجادله، فقط نهض يستأذن بصوت منخفض :
” هل يمكنني غسل وجهي فقط قبل الرحيل ؟”
ابتسم له الرجل يشير صوب طريق المرحاض يعلم أن جميع نساء المنزل في غرفهن في هذه اللحظة :
” بالطبع خذ راحتك فالمنزل منزلك ”
شكره مهيار يسير خلفه ببطء يخفض رأسه يحترم حرمة المنزل، حتى تركه الرجل أمام المرحاض يردد بحنان :
” هيا اغتسل ريثما أعد لكَ مشروب اعشاب سيفيدك”
هز له مهيار رأسه وهو في الحقيقة فقط يود الاختلاء بنفسه بعيدًا عن الاعين، فقط يود إفراغ كل المشاعر التي تعتمر صدره.
وبمجرد تحرك الرجل اغلق الباب بهدوء ثم تحرك لينهار جانبًا وهو يدفن وجهه بين يديه، ثواني وبدأت دموعه تهبط ببطء، صوت شهقاته بدأ يعلو شيئًا فشيء حتى كبته بسرعة قبل أن يخرج للجميع.
يا الله مر منذ ساعة تقريبًا باسوء كابوس قد يحياه، في يومٍ ظنه سيكون اسعد أيام حياته لأجل شقيقه ..
عاد برأسه للخلف وهو يتنفس بصوت مرتفع من بين دموعه وذكرى الساعات الماضية تعود له ليترجف صدره ..
بعد رحلة استغرقت ايام طويلة لمملكة سبز، إذ أوصى به إيفان لدى الملك بارق لأجل بعض الأعشاب النادرة التي لا تنبت إلا في بيئة جبلية في سبز، ذهب هو بنفسه للحصول عليها لأجل علاج ليلا ..
وبعد رحلة استغرقت منه وقتًا ومجهودًا، عاد بسرعة يوم عقد قرآن دانيار ليشاركه سعادته، وقد كان تجهز ورافقه حتى بدأ توافد الشعب للقصر، وهو فقط يشارك دانيار سعادته، قبل أن يبصر توتر مرجان الملحوظ بعد تحدث أحد الأشخاص له، وهرولته للخارج .
شعر مهيار بريبة وهو يميل على دانيار هامسًا :
” دانيار أنا سأذهب لاحضر ليلا حسنًا ؟! لقد أخبرت العم أنني سآتي لاصطحبهم ”
ابتسم له دانيار وقد كان في هذه اللحظة لا يطيق صبرًا ليرى زمرد، لذا هو يقدر حالة شوق شقيقه :
” أذهب، لكن لا تتأخر اريدك جواري اليوم مهيار ”
ابتسم له مهيار بحب، ثم ضمه سريعًا يهمس له مربتًا :
” بالطبع لن افوت مشاهدتي لك تحيا احلامك دانيار، ما أحب على قلبي من رؤيتي لك سعيدًا أخي”
ربت دانيار على ظهره يستشعر نبرة القلق التي ظهرت في صوت مهيار، لكنه رغم ذلك ابتسم يقول :
” انتبه لنفسك، ولا تتأخر سأنتظرك حتى تعود ونبدأ الـ ”
” لا، فقط دع كل شيء يسير كما هو مخطط له، أنا سأنتهى واعود سريعًا، لا تؤجل ولا توقف شيء، نحن لا نصدق أن الملك وافق بالفعل، دع كل شيء يسير بشكل طبيعي وأنا لن اتأخر ”
ابتسم له دانيار يهز رأسه، وفقط تحرك مهيار يحضر أحد الخيول يمتطيها مسابقًا للزمن، وقلبه يطرق بقوة، هو منذ الصباح يشعر بالريبة لتأخر ليلا رغم أنه أكد عليها المجئ لتشارك النساء التحضيرات، يود دفعها لتندمج مع الجميع وتخرج من وحدتها التي تحياها وسط زهور والدها.
بعد دقائق وصل المنزل ليهبط عن الحصان في اللحظة التي توقفت عربة أمام المنزل يهبط منها مرجان والذي تأخر حتى وجد عربة تحضره .
تحدث مهيار بلهفة :
” مرجان ما الذي حدث ؟؟”
نظر له مرجان بخوف هامسًا :
” لا أدري، أحد الرجال أخبرني أنه سمع صرخات تخرج من منزلنا و…”
قبل إكمال كلمته سمع نفس الصرخات تترد ليندفع برعب شديد تاركًا دانيار يقف أمام الباب وهو يفكر هل يقتحم المنزل ؟؟ ماذا إن كان أحدهم في وضع غير مناسب ؟؟
ابتلع ريقه وقلبه يقرع بقوة، ولم يحركه سوى صرخة مرجان باسمه :
” مهيار ساعدنا ..”
اندفع كالقذيفة بسرعة مخيفة صوب الغرفة التي يصدر منها الصرخات والتي كانت للاسف الشديد نفسها غرفة ليلا .
دخل ليبصر أكثر مشهد مؤلم قد يشاهده يومًا، ليلا مسطحة على فراشها متعرقة، تتشنج تشنجات مرعبة أدت بها لاذية نفسها وهي تطلق صرخات مخيفة، اتسعت أعين مهيار لثواني وهو يشعر بعدم قدرته على التنفس، لم يفق سوى على صرخة مرجان الباكية الذي حاول أن يتحكم بتشنجات شقيقته :
” مهيار ساعدها ارجوك، ساعدها هي ستؤذي نفسها”
ومهيار فقط حدق بهم، ثواني بأعين امتلئت دموعًا قبل أن يتدارك نفسه وهو يتحرك بسرعة صوب جسد ليلا يصرخ بصوت مرتعب :
” ما الذي حدث، لقد …مرجان ارسل أحدهم لعيادتي في القصر، حقيبتي على المكتب هناك، أحضرها هناك عشبة ستساعدها، بسرعة، وعمي احضر لي أي اعشاب مخدرة ”
نظر له العم باكيًا :
” لكن يا بني …هل هذا آمنًا ؟؟”
” لا تقلق فقط سأعطيها جرعة صغيرة تكفي لترتخي اعصابها، فقط اسرع قبل أن تضر نفسها ”
تحرك الرجل بسرعة في نفس اللحظة التي انطلق بها مرجان للخارج، ليخبره مهيار :
” خذ حصاني واسرع مرجان، اسرع ارجوك ”
اسرع مرجان للخارج وكذلك والده، ولم يتبقى سوى والدة ليلى التي أخذت تنوح وتبكي ابنتها الصغيرة التي لم ترى من الحياة شيئًا لتعاني بهذا الشكل، ومهيار شعر بيده ترتجف وهو يمسك يدي ليلا يحاول التحكم بحالتها وهو يتمالك دموعه بصعوبة .
يضغط على يديها مانعًا إياها إيذاء نفسها وهو يميل هامسًا لها بكلمات، علها تخترق كل ذلك وتصل لها :
” تحملي ليلا، تحملي، أنا آسف لأنني تأخرت، اقسم أنني كنت سآتيك بمجرد انتهاء عقد قرآن أخي، أنا آسف، أنا آسف ليلا ”
وليلا فقط كانت تشعر بالوجع يتملك كامل أنحاء جسدها، وكأنها سقطت من فوق بناية عالية، تساقطت دموعها ومهيار يتابعها بوجع..
ثواني ودخل والدها يحمل بعض الأعشاب، اخذها مهيار بسرعة وهو يضغط على فكها برفق يجبرها على ابتلاع البعض، القليل فقط، بالقدر الكافي الذي يسمح لها بالاسترخاء للحظات.
وهذا ما حدث حيث بدأ جسدها يرتخي قليلًا وتقل التشنجات، وهو لم يكثر من الاعشاب كي لا تتضرر أعصابها، وانتظر عودة مرجان، يهمس لها بكلمات كثيرة علها تسمعه :
” أنا هنا ليلا، لا تقلقي، ستكونين بخير، والله ستكونين بمشيئة الله، فقط اهدأي ”
نظرت له ليلا دامعة وقد أدرك ما تحمله نظراتها من مشاعر أخرى، كانت ببساطة تتوسله، تتوسله مساعدتها، تتوسله الرحيل، لكن هل يحقق لها رغبتها الثانية ؟!
والله لن يفعل ….
بعد دقائق طويلة اندفع مرجان للغرفة مع حقيبة مهيار لينتزعها منه الاخير ويسارع لتحضير الاعشاب التي يأمل أن تشفيها بقدرة الله .
وقد حدث إذ ارتخى جسدها بشكل كامل لتسقط في نومة عميقة جعلت مهيار واخيرًا يتنفس الصعداء بعد ساعة كامل من الرعب .
واخيراً أنهار ارضًا في غرفتها يحدق فيها بتعب نفسي أكثر منه جسدي، يراقب أسرتها تطمئن عليها، وهو فقط يحدق بها بهدوء .
افاق مهيار على صوت طرق الباب يتبعه صوت والدها الذي قال :
” بني هل أنت بخير ؟؟”
مسح مهيار دموعه بسرعة كبيرة يتحدث بصوت خرج يحمل نبرة بكاء :
” بخير يا عم، فقط ثواني وأخرج ”
” لا بأس بني خذ كامل وقتك، أنا فقط قلقت من تأخرك، وكذلك ليلا أفاقت الآن”
ارتفعت دقات قلب مهيار وهو يغسل وجهه بسرعة ثم تحرك للخارج بلهفة خلف الرجل يقول :
” أفاقت ؟؟ هل هي بخير ؟!”
” نعم بخير وتسأل عنك، تعال”
توقف مهيار بتردد ليبتسم له الرجل :
” تقدم يا بني الجميع بالداخل ينتظرك ”
كانت إشارة واضحة منه أنه يستطيع الدخول وأن ليلا في وضع يسمح له برؤيتها .
دخل مهيار يخفض عيونه ارضًا يتنحنح، ثم رفع عيونه بعد كلمات الأب له أن يفحص ابنته .
اقترب من الفراش يبصر وجه ليلا الذي كان الذنب يملؤه وبشدة، تحدق فيه باعتذار وندم، وهو فقط اقترب منها يسحب حقيبته مرددًا بنبرته الحنونة التي لطالما سلبت لبها سابقًا، بنفس بسمته التي كانت تترقبها كل صباح حين يطل عليها في المحل الخاص بوالدها :
” مرحبًا آنستي ..”
ابتسمت ليلا بسمة صغيرة تقول :
” مرحبًا سيدي الطبيب ”
اتسعت بسمة مهيار أكثر وأكثر يقول وهو يجلس على أحد المقاعد أمام الفراش يمازحها :
” تسمحين لي بفحصك آنسة ليلا ؟!”
ضحكت ليلا بخفوت :
” يمكنك سيدي الطبيب ”
ابتسم لها مهيار بسعادة وحب كبير وقد بدأت دقات قلبه تعود لرتمها الطبيعي واخيرًا بعد ساعات قضاها على شفا جرفٍ من الانهيار .
واخيرًا ليلته مضيئة صافية …..
________________________
” هل وصلتي لها؟! ”
” لا، ليس بعد، ارفعني أكثر، كدت اصل لها ”
زفر بصوت مرتفع وهو يرفع جسده أكثر وأكثر حتى اصبع يقف على أطراف أصابعه، وهي تتوسط أكتافه واقفة تمد يدها محاولة الوصول لتلك القنبلة المزعجة التي اختبئ فوق خزانة ضخمة داخل مخزن تميم تتمتم بغضب وحنق شديد :
” يا الله الرحمة، لقد سئمت هذه الحياة ”
تحرك تميم بغضب تسبب في تحرك جسد برلنت التي تعلو جسدت وهو يتحدث بنزق :
” سمئتِ ماذا يا امرأة ؟؟ سمئتِ ماذا أيتها الكارثة ؟؟ بل أنا من سئم مصائبك، إن لم تحضري قنبلتي العزيزة كما القيتها بهذا الشكل لاحضرها بطريقتي واطعمك إياها ”
نظرت برلنت للاسفل صوب تميم ثواني قبل أن تبعد يدها عن الخزانة تقول وقد قررت التمرد واخيرًا :
” إذن انزلني وتعال واحضرها بنفسك، فلن أرهق نفسي لأجل شيء لن أنال ثناءً عليه ”
” هل تساوميني ؟؟ وأي ثناء هذا ؟؟ هذا خطأك أنتِ”
” نعم اساومك، وثناء لأجل ارهاقي بهذه الوقفة المتعبة ”
صرخ تميم من أسفل بصوت مستنكر :
” هذا خطأك أنتِ يا امرأة ..”
” لا يعنيني ”
تحرك تميم بعنف في الاسفل، مما جعل برلنت تصرخ وهي تحاول التمسك برأسه :
” توقف، توقف والله لو سقطت لاشكونك للملك تميم، سأخبره أنك تمارس عليّ العنف ”
تحرك تميم صوب الفراش وهو يهم برمي جسدها عليه يصيح بحنق :
” عنف ؟؟ بالله وتالله ووالله أن العنف يُمارس عليّ أنا ”
ختم حديثه يلقي بجسدها على الفراش لتصرخ برلنت برعب، تتراجع بسرعة للخلف تشير له بتحذير :
” أنا أحذرك الاقتراب ”
وتميم الذي كان على وشك التحرك بعيدًا عنها بالفعل توقف ليعود لها بسرعة كبيرة جعلتها تتراجع على الفراش بخوف اكبر، لكن لم يسمح لها بالابتعاد أكثر إذ جذبها من ثيابها يقول من أسفل أسنانه :
” وتعودين تشكين أنني اخفتك وارعبتك، لا تجبريني على جعلك تختفين عشر سنوات أخرى بعد ما سأفعله بكِ يا ابنتي، لذا تلاشي غضبي ودعينا ننعم بما تبقى من حياتنا في سلام ووئام، حسنًا ؟؟”
هزت برلنت رأسها بقوة وهي تنظر في عيونه بريبة، بينما هو تنفس بعنف يقبل وجنتها بحنان، ثم ترك ثيابها يربت على كتفها بحنان ليس وكأنه كاد يتناولها منذ ثواني :
” أبقي هنا لحين اجد طريقة احضر بها قنبلتي العزيزة التي ألقيتي بها ”
هزت برلنت رأسها بريبة من تصرفاته متسعة الأعين، لكنها فقط تركته يبتعد وهي تفكر أن زوجها جُن أكيد، أو أنه كان هكذا بالفعل منذ البداية، وهي من تعمدت تجاهل هذا الجزء منه وتتمسك بالجزء العاشق الحنون .
تحركت عن الفراش تعدل من ثيابها تراه يقف على مقعد يحاول الوصول لما يريد وهي فقط تتابعه من الاسفل يحاول ويحاول حتى يأس ونزل عن المقعد يتنفس بصوت مرتفع :
” لقد يأست اعتقد أن صناعتي لواحدة أخرى سيكون اسهل من الوصول لهذه ”
نظرت له برلنت بشفقة تعتذر بخفوت عن فعلتها، فهي من شدة غضبها منه ألقت القنبلة بعيدًا لينتهي بها الحال فوق قمة عالية .
” آسفة تميم، رجاءً لا تغضب مني ”
رفع تميم وجهه لها يمسحه بهدوء وهو يقول بعد تنهيدة :
” لا عزيزتي أنا لست غاضبًا، بل مشتعل الغضب، لذلك فقط اختفي من أمام عيوني الآن كي لا احشوكِ بالقنابل ”
فتحت عيونها بصدمة، لكنها رغم ذلك لم تتحدث وهي تتحرك بعيدًا عنه بتردد تنتظر أن يوقفها، ثم يخبرها أنه لا يمكنه الاستغناء عنها، لكن ذلك لم يحدث حتى وصلت لباب المعمل تتوقف قائلة بأمل أن يتراجع عن طردها :
” ماذا قلت ؟!”
رفع تميم عيونه لها، لتتساءل ببسمة مترددة :
” ناديتني تميم ؟؟”
وتميم الذي لم ينبث بكلمة واحدة حتى رفع حاجبه، قبل أن يزفر بصوت مرتفع وهو يفتح ذراعيه لها :
” أوه نعم ناديتك بيرلي، هيا تعالي هنا ”
وهي التي تعلم يقينًا أنه لم يناديها، يكفيها تلك البسمة والكلمات، لتتحرك صوبه بسرعة يتلقفها هو بين أحضانه يقبل رأسها قائلًا :
” لا تحزني حبيبتي، أنا فقط أشعر بالخيبة لأجل ما حدث ”
” آسفة”
” لا تأسفي، سأصنع مثلها إن أردت، لكن بسمتك هذه أين أجد لها مثيل أنا؟!”
اتسعت بسمة برلنت ليبتسم هو لها بسمة واسعة، يمسك يدها مقتربًا من الفراش، ثم جذبها بين أحضانه يربت على كتفها بهدوء :
” بيرلي …”
” نعم ؟؟”
” إن عاد بكِ الزمن وخُيرت الزواج بي، هل كنتِ ستوافقين ؟؟”
رفعت برلنت عيونها له تقول ببسمة :
” لا اعتقد أنني كنت سأنتظر أن تتخذ خطوة وتطالب بي تميم، بل كنت أنا من سأسارع للزواج بك ”
نظر لها تميم في عيونها بحب كبير وقد التمعت عيونه بكل الحب الذي يكنه لها، يقرب له رأسها مبتسمًا، بينما هي رددت حين رأت حنانه وحبه :
” يسعدني معرفة أنني لست الوحيدة الهائمة في هذه العلاقة”
ابتسم تميم بسخرية وهو يشدد من احتضانها مرددًا بكل جدية وحب يمتلكه في صدره لهذه المرأة، سعيد بهذه اللحظة وبعد كل شيء هي بين أحضانه، هل يطمع ويطلب المزيد ؟؟
والله لن يكون وقحًا ويفعل …..
” الوحيدة؟! يا ابنتي عشت نصف عمري اهيم بحثًا عنكِ، والنصف الآخر أهيم حبًا بكِ…”
____________________
تجلس أمام النيل على أحد المقاعد جوار زوجها، مشهد لطالما تخيلته في أحلامها، متسائلة عن شعورها إن حدث، لكن وفي أكثر أحلامها جموحًا لم تتخيل يومًا أن تجالس رجلًا كسالار، هي حتى هذه اللحظة تحاول معرفة السبب الذي جذب رجل بمثل مواصفات سالار لها، ليس تقليلًا من شأنها، لكن …رحم الله امرئ عرف قدر نفسه، وسالار في عيونها كان مثاليًا، وهي لنقل متواضعة القدرات، ليس ذات مقام رفيع كالأميرات، وجمالها مقارنة بجمال البعض متواضع كذلك …
لكن هل تتعجب وتفكر في الأمر ؟؟ لا والله بل تشكر الله وأحمد فضله وتكتفي به نعمة، ثم هي لـ…
قاطع صوت أفكارها الشاردة في زوجها وتأملها في نعم الله المتمثلة به، صوت مزعج صادر من المقعد المجاور لهما، حيث استقر الأخوان يرتشفات بعض ” حمص الشام” مصدرين اصوات مزعجة لها ولأفكارها .
مالت تنظر لهما بحنق :
” إذا سمحتما، هناك من يحاول الشرود هنا، هلّا ارتشفتما المشروب بهدوء قليلًا ؟!”
رمقها صامد يتحدث مشيرًا صوب مشروبه:
” هذا العصير حار، كيف يعقل هذا ؟؟ ”
أجابه صمود وهو يرفع الكوب أمامه:
” يبدو طعمه غريبًا، مالحًا وحارًا وساخنًا، الأمر في غاية الغرابة يا اخي ”
نظر له صامد يفكر معه وقد شردا في اكواب المشروب يفكران بعمق حول هوية هذا المشروب المريب .
بينما تبارك تجاهلتهما وشردت بزوجها الشارد بدوره في المياه أمامه، وهي تدرك أنه لا يشرد اعجابًا بها، بل ربما هي صدمة لما شاهد .
” سالار ..”
نظر لها سالار بانتباه، ثم قال بعد صمت ثواني :
” أنا لم افهم شيء، ما الذي يحدث هنا، وما الذي شاهدته منذ دقائق ؟؟ من هؤلاء المُعذبين وما جرمهم ؟؟”
ابتسمت تبارك بحزن تقول :
” وهل كان لاهل مشكى جرم ليُعذبوا ؟! ”
صمت سالار وفهم ما تريد قوله، ليتساءل :
” إذن المنبوذون في كل مكان ”
ابتسمت تبارك بحزن تشرد أمامها هامسة:
” المنبوذون فقط في عالمك سالار، هنا هم المستضعفون المساكين الذين يسارع الجميع للمطالبة بحقوقهم وامدادهم بالزخائر التي تعينهم على الدفاع عن أنفسهم ضد الأطفال المتوحشين والنساء المتجبرات، والعجائز الأشداء، هنا هم ليسوا بمنبوذين، بل هم أشبه بالضحايا الذين يسارعون لتلبية احتياجاتهم شفقة عليهم من المجهود المبذول في إبادة شعب ”
اتسعت عين سالار يحاول استيعاب ما تقول وهي هزت رأسها تقول بسخرية :
” يا الله فقط تخيل حجم معاناتهم، أن تقضي عمرك بأكمله لا عمل لك سوى قتل البشر وتشريد الاطفال وتدمير المنازل، بؤس ”
كان يستمع لها وهو يحاول تخيل ما يحدث، يحاول جمع الصورة المشتتة التي يراها، هل يلعب الجاني دور الضحية هنا !!
” والجميع يصدقونهم ؟؟”
” رغم كل ما يرونه من مشاهد دامية، فالاجابة للاسف نعم، هم يصدقون رؤيتهم حول أن كل ما يبدر منهم مجرد دفاع عن النفس وأنهم الضحايا هنا، أو بالأحرى هم يريدون تصدقة ذلك، لأن ذلك يخدم مصالح البعض ”
” و….و… أنتم ؟؟ لقد أخبرني الرجل أنهم عرب أمثالكم، أو على الأقل هم مسلمون، لا ردة فعل منكم ؟!”
رمقته تبارك باستنكار شديد، ثم أجابت بمنتهى التلقائية :
” كيف يعقل ذلك سالار، بالفعل وصلهم الرد عنيفًا من جهتنا، وكّلنا بعض النساء والرجال للشكوى في المجالس العالمية والتنديد بالقرارات الصادرة، صرخنا ورفعنا الاصوات وبكينا ”
” ثم ؟؟”
” لا شيء”
وهذه كانت إجابة أكثر من وافية لسالار حتى يبعد عيونه عنها، يحاول تجميع ما سمع في عقله، يحاول ايجاد سبب لما يحدث، إيجاد مبرر لما سمع، لكن كما قالت تبارك …
لا شيء .
وستظل الإجابة” لا شيء ” حتى يستطيعوا بذل ” كل شيء ” للدفاع عن قضيتهم، لكن هل يفعلون ؟؟
وجاءته الإجابة من تبارك التي كانت كما لو أنها سمعت صوته الداخلي :
” نحن فقط …لسنا قادرين على أخذ الخطوة التي اتخذتموها لتحرير مشكى، أياليت لهم نصف حظ مشكى .”
خرجت من شرودها تنظر صوب سالار تحاول سحبه من تلك النقطة وهي ترى الصراع يدور فوق صفحة وجهه، وكأنه يفكر في النهوض وسحب سيفه والتحرك ليحارب وحده، أمسكت كفه مبتسمة تحاول إخراجه من تلك الغيمة التي أحاطت به :
” إذن هل تريد زيارة مكانٍ ما قبل العودة !!”
نظر لها سالار ثواني قبل أن ينفي برأسه وهو يحركها في المكان حوله :
” لا، أنا فقط كـ ….”
صمت فجأة وقد اتسعت عيونه بصدمة يرى أمامه مشهد جعل أعينه اتسع بقوة، فتى يميل على فتاة وقد اختطف قبلة سريعة قبل أن ينتبه له أحدهم، وسالار الذي بالفعل انتبه لهم، ابعد وجهه بسرعة يتمتم بصوت مسموع لتبارك :
” يا الله يا مغيث، ما هذه الوقاحة ؟؟ كيف يفعل مع زوجته هذا على الملأ ؟؟ ”
وتبارك ابتسمت بقلة حيلة ولم تشأ أن تخبره أنه من الممكن أنهما ليسا متزوجان من الأساس، لكنها صمتت ثواني .
ثم تسائلت بجدية تريد سؤاله عن رأيه في عالمها تخشى أن يرى الجانب الاسود منه فقط، وهو الذي لم تسمح له الظروف برؤية جانبهم الجيد :
” إذن سالار، أنت تقريبًا لم ينل إعجابك شيء واحد منذ وطأت هذا العالم، ألا يوجد شيء اعجبك هنا البتة ؟؟”
نظر لها سالار ثواني ثم قال :
” من قال أن لا شيء اعجبني، ثم هل تظنين أن عالمي يخلو من المفسدين ؟؟ لقد كان لدينا الآلاف من المنبوذين تبارك، غير أننا في العام الواحد هناك مئات الجرائم ما بين سرقة وقتل وزنا وغيرهم، لا مكان يخلو من المعاصي ولا من الفساد ”
قاطع حديثه صوت صمود وهو يردد :
” هذا العصير مريع، لقد جعل حلقي يتآكل ”
أشار سالار عليهما يكمل حديثه السابق :
” وهذان الاثنان أكبر دليل على تواجد الفساد في عالمنا ”
أطلقت تبارك ضحكات خافتة وهي ترى نظرات صامد وصمود وهم يحدقون في اكواب المشروب بشك وملامح غريبة جعلت ضحكاتها تتزايد، بينما سالار يكمل:
” وعالمك ليس سيئًا، والدليل على ذلك، أنتِ …”
توقفت تبارك عن الضحك تنظر له بلهفة ليكمل ببسمة :
” إن لم يمتلك عالم من الصالحين عداكِ، لكان ذلك كافيًا لأراه جنة تبارك، يكفيني وجودك”
ابتسمت ليبادلها البسمة مكملًا :
” ثم أنا قابلت الكثير من الصالحين هنا، العم صاحب المحل رحمة الله عليه، السيدة التي دافعت عنك في منطقتك، والرجال الذين يدركون الحق من الباطل وغيرهم الكثيرين، وإن لم يكونوا، فكفى بعالمٍ أنكِ منه ”
” أوه سالار هذا ….هذا رائع ”
ابتسم لها سالار يمسك يدها بحنان :
” الرائع حقًا هو وجودك تبارك، أنا لا أتخـ ….”
قاطع كلماته تلك ولحظات الرومانسية التي طالما تخيلتها تبارك على ضفاف النيل مع زوجها وحبيبها، صوت صراخ صامد وهو يشهق بعنف ومن ثم ردد برعب وهو يحدق في وجه صمود الذي سقط ارضًا كالحوت النافق على الشاطئ :
” يا ويلي يا قائد لقد سمم ذلك العصير الحار صمود، اخي يموت، المفسدون سمموا أخــــــي ”
بعد دقائق…
كان الجميع داخل سيارة الأجرة التي تتحرك بهم صوب أقرب مشفى ليعلموا ما حدث لصمود، وصامد ينوح على شقيقه :
” يا ويلي يا أخي، لقد قتلوه هؤلاء المفسدين، ألا لعنة الله على ذلك العصير الحار، والله لقد شعرت بالريبة مع بداية الكوب الثالث، شعرت بشيء غريب يحدث لكنني كذبت شعوري ”
نظرت تبارك صوب سالار الذي كان يجلس جوارها وجواره على الجانب الآخر صمود، وفي الامام جوار السائق يجلس صامد، هذا ليضمن سالار ألا تجاور زوجته رجلًا غريبًا، حتى لو كان صامد أو صمود .
” كم كوبًا ارتشفتم صامد ؟؟”
نظر لها صامد يردد باكيًا بهلع :
” والله لم نكمل الخامس بعد، ووجدت أخي شاحبًا كالاموات، والله أنني شعرت بالريبة ”
” شعرت ايه ؟؟ ده أنت الاحساس معدوم عندكم، خمس كوبيات حمص الشام ومزودين شطة ده غير البرشام اللي سفتوه ؟؟ ده أنتم تحمدوا ربكم وتسجدوا له لو الموضوع جه على قد تسمم بس، ربنا يعينكم على نفسكم والله ”
توقفت السيارة بعد ثواني أمام مشفى ضخم، جعل رأس تبارك يدور وهي تردد بصدمة :
” مستشفى استثماري ؟! ايه يا اسطا أنت راكب مع وزراء دول ولا ايه ؟! خدنا أي مستشفى عادية أو حتى خـ …..”
قاطعها سالار وهو ينظر لها باستنكار :
” مهلًا هل تقللين من شأننا الآن ؟!”
نظرت له بعدم فهم ولم تكد تخبره أن الليلة في هذه المشفى قد تكلفهم بيع أعضاء صمود نفسه، حتى سبقها صامد وهو يهبط من السيارة يفتح الباب المجاور لصمود، يجذب جسده بصعوبة :
” اخي سيتعالج في هذا القصر الملكي، هذا اقل ما يستحقه من الأساس، ليساعدني أحدكم لانزاله ”
نظرت تبارك صوب سالار :
” سالار اسمعني البقاء في هذه المشفى مكلف و نحن بعنا قدر كبير من العملات الذهبية و…”
أوقفها سالار وهو ينظر لها متحدثًا بهدوء :
” لدينا المزيد بعد، ثم حتى وإن نفذ ما احمل فالاخوين لديهما ذهبهما الخاص، لا تقلقي تبارك وتعاملي مع كل ما يقابلك بواقع أنك أميرة، حسنًا ؟!”
نظرت له ثم ابتسمت بسمة صغيرة تهز رأسها له وهو تحرك يدفع جسد صمود المجاور له للخارج حيث كان يسحبه صامد، وفجأة وجد صامد جسد شقيقه يتدحرج خارج السيارة ليسقط عليه محطمًا عظامه .
وسالار لم يهتم لا بيصياح صامد أو حالة صمود، تخطاهما دون اهتمام، يتحرك سريعًا صوب باب تبارك يفتحه لها بسرعة كبيرة مبتسمًا لها بلطف يمد يده لها :
” هيا تعالي عزيزتي ”
نظرت له تبارك بأعين متسعة مصدومة لما فعل، تضع كفها بين يده ليجذبها سالار بلطف يغلق الباب كأي شخص نبيل، تتعجب ما فعل مبتسمة :
” سالار، كيف تعلمت هذا ؟!”
نظر لها سالار بعدم فهم وهو يتأكد من أن حجابها وجميع ثيابها في وضعها الطبيعي ولم تنحصر بسبب جلوسها في السيارة أو ما شابه :
” ماذا ؟؟ تعلمت ماذا ؟؟”
أشارت تبارك صوب السيارة وهي تقول ببسمة غير مصدقة :
” تفتح لي باب السيارة بهذا النبل، كيف تعلمت هذه اللفتة ؟؟ عادة الأشخاص النبلاء والراقيين فقط من ينتبهون لهذه الأمور ”
رفع لها سالار حاجبه يقول وهو يسحبها من يدها ببساطة :
” تعلمت ماذا عزيزتي ؟! أنا أفعل هذا لكِ طوال الوقت تبارك إن لم تنتبهي، اساعدك للترجل عن ظهر الخيل كما يفعل الجميع في عالمي، هذه ليست لفتة راقية، وليس نبل أو شيء نادر الحدوث، هذه رجوله متأصلة بنا، وللعلم منبعها ليس رجال هذا العالم، نحن توارثناها منذ القديم تحديدًا منذ بداية الفتح الإسلامي وادراكنا مكانة المرأة”
ختم حديثه يغلق باب السيارة يسحب يدها ببسمة لطيفة وهي سارت خلفه متسعة الأعين تفكر في الأمر للمرة الأولى، صحيح في حياتها لم ترى رجل يتجاهل من يخصه من النساء هناك، طوال الوقت يعتنون بهن بكل حرص كأنهن قوارير، تعامل أرسلان وكهرمان، إيفان مع زمرد، تميم وبرلنت، تلك التفاصيل الصغيرة التي قد تكون عادية وتلقائية لهم، كانت تُصنف في عالمها رقي وتحضر ونبل، إلى أي مستوى وصلوا هم ؟؟
سارت خلف سالار الذي مال يحمل جسد صمود عن صامد، ثم ألقاه على كتفه يتحرك به بكل قوة للداخل، ابتسمت تبارك تراه يقف بعد خطوتين، ثم نظر لها يشير لها بعيونه أن تأتي جواره ..
حسنًا هل أطلقت عليه سابقًا رجل كهف ؟؟ إن كان كذلك، فهذا أكثر رجال الكهف رقيًا، وهي تحبه بكل شخصية يمتلكها ….
______________________
” أنا فقط قلقت عليك البارحة حينما لم ابصرك جواري ”
خرج مهيار من المرحاض يجفف خصلات شعره براحة افتقدها لساعات طويلة كانت كالجحيم عليه :
” أنا بخير أخي فقط …تعرضت ليلا لوعكة صحية شديدة، ولم استطع التأخر، لا تحزن اقسم أنه لا أحب على قلبي من أن أشهد سعادتك دانيار، لكن أنت فقط …”
قاطعه مهيار باهتمام وهو يقترب منه بسرعة قلقًا :
” ماذا ؟؟ ولم تخبرني ؟؟ كيف حالها الآن ؟!”
” الحمدلله بأفضل حال، لم اتحرك إلا بعدما اطمئننت أنها بخير، و….”
صمت يرفع عيونه لعيون دانيار القلقة والمهتمة :
” أنا اكتفيت من هذا الوضع أخي، اريد عقد قرآني أنا البارحة كنت….”
صمت ولم يفضي بأفكاره الخاصة تجاه المرأة التي يحب لأحد، ولا حتى لشقيقه، أبت رجولته وحميته أن يعترف الآن أمام شقيقه أنه شعر بالعجز وكم ود لو يعانقها البارحة ويحتفظ بها داخل أحضانه ولو تأذى، فقط يحتفظ بها بين اضلعها، حيث مكانها الذي خُلقت منه، لكن هل يعترف بكل هذا ؟!
استغفر ربه يمسح وجهه وهو يجلس على طرف فراشه بجذع عاري :
” أنا فقط اريد عقد قرآني، هذا ليس عدلًا كنت اول من اتخذ القرار منكم وآخر من ينفذه ”
ابتسم له دانيار يشعر بكل ما يرد شقيقه قوله، لذا تنهد يقول :
” ما رأيك أن تذهب غدًا لابا مرجان تخبره أن نعقد القرآن ؟؟ ”
رفع مهيار رأسه بصدمة كبيرة منتفضًا عن الفراش :
” تعقد القرآن غدًا ؟؟”
ضحك دانيار بصوت مرتفع يقول :
” كنت افكر في بعد يومين، لكن إن أردت غدًا والله لن أرد لك طلبًا يا اخي، غدًا نعقد قرآنك إن وافق والدها ”
وفي ثواني وجد دانيار نفسه يُطحن بين أحضان مهيار الذي ضمه له يردد بسعادة كبيرة :
” يا ويلي دانيار أنا حقًا أحبك، أنت ستأتي معي غدًا لتقنع والدها صحيح ؟؟ ستفعل لأجلي أخي ؟!”
” سأفعل عزيزي، فقط دعني اتنفس وسأفعل لك ما تريد، كم مهيار امتلك أنا ؟!”
ابتعد عنه مهيار بسرعة كبيرة ينظر له باعتذار، بينما دانيار ابتسم بحب يفتح ذراعيه :
” هيا تعال يا صغيري ”
وعلى عكس كل مرة لك يبتأس أو يعترض مهيار على تلك الكلمة، والتي كان في أعماق أعماقه يحبها للحقيقة، أن يظل دانيار يعامله بحب ولطف كما كان يفعل وهم أطفال، أن يظل معتبرًا نفسه مسؤولًا عنها، رغم أنه أضحى رجلًا على مشارف الثلاثين، كل ذلك كان يداعب الجزء الطفولي داخل مهيار .
ودانيار الذي لم يمتلك في حياته بأكملها أغلى من مهيار، كان على استعداد لخوض حرب ضارية في الغد مع والد ليلا فقط كي لا تُمحى سعادته شقيقه هذه، وقد قرر بمجرد الخروج من هنا أن يحضر كل شيء لأجل عقد القرآن، فهو لن يجعل يومًا كهذا يمر ببساطة …
______________________
غدًا ترحل مع شقيقها عن هنا، شعور بالوحشة يصيبها كلما جاءت ورحلت، ليس لافتقادها سفيد التي قضت بها فترة لا بأس بها _ كما تخبر أخاها طوال الوقت _ بل لأنها ستفتقد أهل سفيد، بالتحديد ملكهم .
أغمضت عيونها تستمتع بنسمات الهواء التي تمر حولها وهي تجلس في شرفة الغرفة التي اختارتها، أو بالأحرى اختارها هو لأجلها ..
ابتلعت ريقها تسمع صوت تحرك في الجناح المجاور لها والذي كانت شرفته ملتصقة بخاصة جناحها، أمر لا تعتقد أنه فعله بحسن نية، فمتى ارتبطت حسن النية بالرجال خاصة إن كانوا كالملك أو شقيقها مثلًا ؟؟
” سفيد جميلة صحيح ؟؟”
فتحت عيونها بفزع تستدير جوارها تبصره يقف بكل راحة واسترخاء في الشرفة الخاصة به، كيف ومتى وصل هنا ؟؟ هي للتو كانت ترهف السمع لكل حركة تصدر من جناحه .
وإيفان ابتسم على صدمتها، يبعد عيونه عنها سريعًا يشرد أمامه، وهي حاولت تخطي صدمتها تقول بصوت خافت :
” أوه نعم، جميلة كثيرًا ”
” نعم، فما بالك لو رأيتي هذا الجمال يوميًا، بل وعشتِ داخله؟!”
صمت ثم رفع عيونه ينظر لها نظرة سريعة يقول :
” أو اصبحتي ملكة عليه ؟؟”
انتفض قلب كهرمان وقد باغتها بضربات غير متوقعة، هي من كانت ردودها حاضرة وبكل ثقة تطلقها في وجهه، الآن تعجز عن رد صغير عليه .
ابعدت عيونها صوب الفضاء أمامها تقول بهدوء :
” نعم تبدو هذه فكرة مغرية حقًا مولاي ”
” يمكننا جعلها أكثر من مجرد فكرة إن أردتي سمو الأميرة ”
ابتسمت بسمة صغيرة تهمس وهي ما تزال تنظر أمامها، وهو كذلك ينظر أمامه، من يراهما لن يتخيل أنهما يتحدثان لبعضهما البعض .
” لو كان الأمر بهذه السهولة واليسر مولاي لأصبحت جميع النساء اللواتي تخيلن أنفسهن ملكات على سفيد، هكذا بالفعل ”
رفع إيفان حاجبه يبتسم بسمة جانبية، ثم قال بكل بساطة :
” الخيال وحده ليس كافيًا، يحتاجون لشيء اضافي ليصبحن كذلك سمو الأميرة ”
استدارت له وأخيرًا تتساءل بفضول :
” ما هو يا ترى ذلك الشيء الإضافي ؟؟”
ابتسم يتحدث وهو يحدق في عمق عيونها وكأنه يبحث عن طوق نجاة يتعلق به ينجده من بحارها :
” أن يكونوا أنتِ ”
وهذه الكلمة اختصرت كل ما شحن إيفان بداخله، فهو لن يجلس هنا طوال الليل يصف لها ما تحتاجه الفتاة لتصبح زوجته، ليس لأنه سيمل وصفها لنفسها مثلًا، بل لأنه يدرك أنها تعلم نفسها جيدًا، لذا اقصر وصف وادقهم كان ” أنتِ ” .
” ينقصهن أن يكن كهرمان ..”
صمت ثم ابتسم بهدوء يتابع ردة فعلها على كلماته وهي تحاول انتقاء كلماتها، وهو اكتفى من الوقوف هنا محدقًا في الفراغ وهي جانبه، الأمر أكبر من قدرته على التحمل :
” إذن سمو الأميرة انصحك بالذهاب للنوم فالبرودة أصبحت شديدة هنا ”
ختم حديثه وهو يهز رأسه لها بهدوء مودعًا، يتحرك للداخل وهي فقط ما تزال تنظر أمامها بأعين متسعة وانفاس مسلوبة تردد بهمس :
” هذا الرجل …هل هناك من ينافسه في انتقاء الكلمات حتى ؟؟”
________________________
” أنا مش فاهم أنتم عايزين ايه؟؟ وعصير حار ايه اللي عمل في العملاق ده كده ؟؟ ده لو شرب خلاصة سم الافعى التايبان مش هيحصل فيه كده”
تدخلت تبارك تحاول شرح الأمر بطريقة سهلة مبسطة بعيدًا عن وصف صامد والذي منذ دخل المشفى أخذ يهاجم الجميع وهو يردد أن عصيرهم الفاسد الحار قتل شقيقه، وأنه لن يتوانى عن تدمير عالمهم ليقتص منهم إن حدث له شيئًا، كلمات كانت كافية لتجعل الجميع يخرج هواتفه للتحدث إلى قسم الامراض النفسية .
يبدو أن مشفى الأمراض العقلية هنا ستكتظ بالكثير من البلاغات اليوم .
” هو شرب حمص شام كتير وكان حاطط فيه شطة كتير اوي، ومعدته اساسا مش متعودة على الحاجات دي، فعشان كده تقريبًا حصله تسمم غذائي ”
نظر الطبيب صوب الفراش المسطح عليه صمود بحيرة:
” كل ده عشان حمص الشام ؟؟”
تحدث صامد وهو يربت على كتف شيقيقه بشفقة :
” المسكين لم تتحمل معدته عصائر المفسدين، أخبرتك يا اخي يكفينا ثلاثة أكواب وأنت لم تستمع لي، أنظر ما الذي حدث لك الآن ”
نظر الطبيب صوب تبارك يقول بعدم فهم :
” أنا مش فاهم أنتم مين وعاوزيني اعمل ايه طيب ؟؟”
وقبل أن تفتح تبارك فمها شعرت بجدار يحول بينها وبين الطبيب، وبالطبع لم تكن بحاجة للتسائل عن هوية صاحب الظل الاصهب .
أما عن سالار فهو اكتفى أن يوجه هذا الرجل كلماته لزوجته متخطيًا وجوده هو :
” عفوًا يمكنك الحديث معي سيكون أفضل، لقد أخبرتك زوجتي ما حدث، القادم تحدث به معي ”
والطبيب المسكين لم يكن يفهم ما يحدث، ولِمَ يتحدث هؤلاء القوم بالفصحى ؟؟ ربما هم اجانب كما يتضح عليهم، تجاوز هذه النقطة يقول بجدية :
” تمام تمام، بصوا احنا هنعمل ليه غسيل معدة ونشوف اللي ….”
توقف عن الحديث فجأة حين انتفض صامد عن الفراش يتحدث بعدم فهم :
” ماذا !! ما الذي قلته ؟! معدة اخي نظيفة لا يشوبها شائبة، اذهب وقم بغسل تلك الاكواب التي ارتشف منها العصير الحار ولا تتحدث بهذه النبرة عن معدة اخي ”
رمش الطبيب دون فهم :
” هو ايه اللي معدة اخي نظيفة دي ؟! هو أنا بشمته ؟! ده غسيل معدة يعني …”
رفع صامد إصبعه في وجه الطبيب أو بالأحرى في خصر الطبيب فهذا ما كان يصل له بطوله في الواقع :
” أخبرتك ألا تتحدث بهذا الشكل عن أخي، أخي في غاية النظافة ولا يحتاج لأي غسيل ”
رفع الطبيب عيونه عن صامد، ثم نظر لسالار الذي كان يقف أمامه يضم ذراعيه لصدره بشكل جعل شكله خطرًا، يحول بين أي نظرة من الطبيب لزوجته الحبيبة .
دار الطبيب بعيونه بينهم، ثم نظر لذلك المسطح على الفراش يقول بجدية :
” ومين قال المشكلة في الأكل أي اجنبي في بيسافر لأي مكان بيتعرض لحالة تسمم اسمها التسمم الغذائي أثناء السفر، ودي حالة متعارف عليها في جميع الدول، لأن البكتريا والهواء بيختلف عن البكتريا المنتشرة في بيئته الأصلية فغصب عنه حتى لو الأكل نضيف معرض أنه يتسمم لأنه معدته بتواجه ظروف غريبة عليها ”
رمش صامد بعدم فهم ينظر صوب تبارك التي كانت لا ترى سوى ظهر سالار فقط، والذي تدخل أخيرًا يقول :
” إذن صمود توفي نتيجة تسمم ؟؟”
شهق صامد برعب وهو ينظر صوب جسد صمود الذي كان لا يعي بشيء حوله، بينما الطبيب نظر له يقول :
” لا مين قال كده، ده مش قصدي أنا بس كنت برد على الـ ”
ولم يمنحه صامد فرصة لإكمال جملته إذ أخرج خنجره بسرعة وهو يصيح بصوت مرتفع :
” اللعنة على هذا العالم، والله لأعلنن الحرب عليكم جميعًا، واولهم هذا الطبيب ”
ختم حديثه وهو يحرك خنجره أمام الطبيب الذي تشنج وجهه وهو يراه يلوح بالخنجر أمامه بتهديد، لينتزعه منه بشكل لم يتوقعه صامد وبكل سهولة وهو يقول :
” ولآ بقولك ايه انا ساكتلك من الصبح، أنت هتخوفني بمبرد الاضافر اللي معاك ده؟؟ إياك تكونوا مفكرني محترم عشان مستشفى استثماري بقى وكده، لا ده انا داخلها واسطة اساسا ”
حرك الخنجر أمام عيونهم يقول :
” اخلصوا قولوا عايزين ايه من امي خلوني اغور، عايز اخلص المناوبة وانام ”
نظر سالار للخنجر الذي كان يحركه أمام عيونه بتهديد، ثم رفع عيونه له يقول بهدوء :
” ابعد هذا الخنجر عن وجهي، وتحدث بفمك فقط ”
تشنج وجه الطبيب يردد :
” ما أنا كنت بتحدث بفمي يا خويا، لكن ابن اخوك اللي جايبه معاك ده الواضح مش بيفهم غير بالأيدي”
نظر سالار صوب صامد الذي كان ينظر للطبيب بشر، ثم رفع عيونه يقول بكل بساطة :
” ليس لي إخوة، وهذا ليس ابن أخي، إن أردت قتله فافعل وادفنه جوار أخيه عقابًا له على ترويع مسلم وتهديدك أنا لا أهتم، لكن أن ترفع خنجرك عليّ وأنا أعزل ولم أتوجه لك بأي تهديد فهذا جبن ولا يعفيك من نفس حكم ذلك الاحمق صامد ”
اتسعت أعين الطبيب بصدمة، ثم نظر للخنجر وهو يتساءل هل فعل هذا الخنجر كل هذا ؟؟ تركه فجأة ارضًا ينفض كفيه من كل تلك الكلمات التي أصابته بالارتجاف ثم قال بجدية وهو ينظر لجسد صمود :
” هنعمل غسيل معدة للعملاق ده، وبعد كده هنشوف هنعمل ايه ”
فتح صامد فمه للاعتراض على كل ذلك، لكن نظرة من سالار اصمتته وهو يقول :
” أفعل ما تراه صحيحًا، وإن استطعت غسل عقله هو وأخاه سأكون شاكرًا لك يا طبيب ”
ختم حديثه يرمق صامد الذي اتسعت عيونه بغيظ شديد، بينما تبارك كانت تتابع كل ذلك صوت فقط وقد قطع عليها جسد سالار الصورة، لكنها لم تبتأس فقط كانت تتتمسك بسترته من الخلف تتخيل صورة تلائم الحوار الذي تسمعه .
ابتسمت تنظر لظهر سالار بفخر شديد، فكل كلمة ينطق بها هذا الرجل تنطق بالحكمة والتعقل، وهذا ما يعجبها به بالإضافة إلى أنه سالار …..
__________________
يقف في منتصف الساحة يحمل سيفه وهو يدور به حولها، بينما هي متوقفة في منتصف الساحة تنظر له بترقب بينما هو ابتسم يقول :
” مر وقت طويل ها ؟! ”
ابتسمت ترفع متحفزة لقتال وهو ابتسم لها يقول :
” ما هذا الحماس الذي يشع من عيونك يا امرأة، أهذه فكرتك عن الموعد الاول بعد عقد القرآن ؟؟”
أطلقت زمرد ضحكة مرتفع وهي تتحرك بعيدًا عن عيونه تتأكد من وضع لثامها، ثم غمزت له تقول :
” صدقني هذه الفكرة افضل من أفكارك المائة لقضاء ليلة عقد القرآن زوجي العزيز، سماعي لتصادم السيوف يفوق كلمات الغزل جمالًا ”
” تزوجت بسفاحة ”
ومع انتهاء كلماته كان سيف زمرد يتحرك صوبه بسرعة مخيفة وكأنها تنتوي شقه لنصفين، وهو ابتسم يصدها بكل بساطة بعدما مال نصف ميلة للخلف وهي نظرت في عيونه بتحدي :
” اشتم رائحة اعتراض في حديثك ”
نظر هو لعيونها ببسمة واسعة ثم قال بكل بساطة :
” معاذ الله أن اعترض، أبعد كل ما تكبدته لأجل ارتباط اسمي بك اعترض ؟؟ ”
ومع اخر كلماته كان يعتدل بسرعة يدفعها للخلف وهي تراجعت خطوات وقبل أن تتجهز للضربة التالية، كان هو يهجم عليها بسرعة كبيرة يسقط سيفها ارضًا بشكل جعل أعين زمرد تتسع بصدمة، فمتى أسقط هو سيفها بهذه السرعة ؟؟
حسنًا هو لطالما فعل، لكن ليس بهذه السرعة .
ابتسم دانيار بسمة واسعة يقول :
” يبدو أن الزواج روّضك قليلًا سمو الأميرة ”
تنفست زمرد وهي تشير لسيفها الساقط ارضًا :
” كيف …كيف فعلت، لقد ….لقد ”
صمتت لا تستوعب ما حدث وهو فقط انفجر ضاحكًا بقوة عليها، وهي فقط تشير للسيف تحسب عدد الضربات التي قامت بها قبل أن تخسر، يا الله هي لم تضربه سوى ضربة واحدة وصدها ومن ثم اسقط السيف ؟؟ ما الذي حدث لها ؟؟
اقترب دانيار يطلق ضحكات مرتفعة عليها يلقي سيفه ارضًا، ثم حمل سيفها يضعه بين قبضتها يقول من بين ضحكاته بصعوبة :
” لا تنظري لي هكذا، هاكِ سيفك، أنا من خسرت، يا الله تكاد عيونك تخرج من محاجرها ”
وهي نظرت له يضع سيفها بين يديها تهمس بصدمة :
” هل اسقطت سيفي للتو ؟!”
ابتسم لها يقول وهو يجذبها لاحضانه:
” لا حبيبتي بل سيفي أنا من سقط انظري، سيفك ما يزال بقبضتك، لا عاش من يسقط لكِ سيفًا ويهزمك زمردتي ”
نظرت له زمرد ثواني قبل أن تتلاشى صدمتها وتبتسم بخبث وهي تغمز له :
” وهذا يعلمك ألا تتحداني دانيار، هذه المرة أسقطت سيفك بنظرة، تخيل ما أنا قادرة على فعله المرة القادمة بك ؟؟”
ابتسم لها دانيار ولم يحنق أو يغتاظ من تعليقها، بل ردد بكل بساطة :
” في الأساس نظرة منك تسقطني أنا ارضًا، فكيف يصمد سيفي المسكين أمامها يا امرأة، أنت تطالبين المسكين بما لا يقدر عليه حامله ”
تراجعت رأس زمرد للخلف مبتسمة بسمة واسعة غير مصدقة لكلماته :
” منذ متى أصبح حامل السهام شاعرًا دانيار ؟!”
اتسعت بسمة دانيار يردد بكل جدية :
” منذ اصطدم بسارقة الخناجر زمردتي …”
اتسعت بسمة زمرد أسفل لثامها ليمد هو يده ينتزع طرفه كاشفًا عن ملامحها مرددًا :
” لا حرمني الله رؤية بسمتك، لا تخفيها عني بلثامك مجددًا، هذا يذكرني بتلك الايام التي كان عقلي يجاهد ليرسم لي ملامحك كاملة قديمًا ”
تحدثت زمرد وقد انتشر الخجل في كامل أنحاء وجهها، مهما كانت جريئة وقحة كما وصفها البعض فهي أبدًا لن تتحمل أمام كلماته تلك أبدًا …
شعرت برغبة عنيفة في أن تعبر له عن حبها كما يفعل هو بالكلمات تلك، لكن ماذا تخبره وأقصى ما استطاعت قوله هو ” أحبك” وهذه الكلمة الفقيرة من وجهة نظرها لا تعبر عن نصف المشاعر التي تمتلكها له ..
” هل تأتي لغرفتي اليوم مساءً دانيار ؟؟”
كانت جملة عفوية خرجت منها وهي تفكر في أمر ما، لكن يبدو أن عفويتها تلك لم تكن شفيعًا لها في عقل دانيار الذي اتسعت عيونه بقوة، قبل أن ترتسم بسمة خبيثة على فمه، جعلتها تنتبه وهي تقول :
” ماذا ؟؟ ما الذي تفكر به ؟؟ أنا فقط أردت…”
قاطعها يغمز لها بوقاحة :
” سأنتهي من عملي وستجدينني احتل غرفتك ”
ختم حديثه ولم يكد يضيف كلمة حتى أبصر أحد رجاله يتقدم من الساحة، فاخفى ملامحها باللثام بسرعة يقول بجدية وبسمة واسعة :
” إذن نلتقي في غرفتك مساءً زمردتي ”
ختم حديثه بغمزة أخرى مريبة، ثم تحرك بسرعة صوب ذلك الرجل وقد تلاشت ملامح العبث التي كانت تعلو وجهه يهتف بجدية :
” ما الذي حدث ؟؟؟”
وهي فقط ظلت واقفة مكانها بصدمة كبيرة تحاول أن تستوعب ما وصل لعقله، تستدير نصف استدارة تنظر له بصدمة بينما هو استدار لها أثناء تحركه مع الجندي يشير لها بيده ويحرك فمه بكلمات وصلت لها واضحة :
” في المساء …”
ضحكت زمرد بصوت مرتفع بمجرد رحيلهم وهي لا تصدق ما حدث، ازدادت ضحكاتها صخبًا وهي تردد :
” كنت فقط اريد قضاء ليلة في الشرفة لنتسامر والله يشهد أن نيتي حسنة….”
لكن يبدو أن دانيار لم يهتم برؤية نيتها الحسنة وصوب بمهارة رامي سهام محترف صوب المعاني المبطنة التي لا تقصدها هي من الأساس …
________________
” حمدًا لله على سلامتك يا أخي، لقد نجوت من الموت ”
صمت صامد ثواني ثم همس بصوت منخفض وريبة يتذكر أمر غسيل المعدة :
” لقد اخرجوا معدتك وقاموا بغسلها صمود ”
شهق صمود شاحب الوجه بصدمة وهو يتحسس بطنه برعب :
” ماذا ؟؟ وهل تأكدت أنهم أعادوا معدتي الأصلية ؟؟ لربما استبدلوها بمعدة أحد المفسدين ”
لوى صامد شفتيه بحنق شديد :
” لم يسمحوا لي بالدخول يا أخي ”
كانت تبارك تتابعهم بصدمة من طريقة تفكيرهم، وسالار يتابع الحوار دون اهتمام ينظر حوله بفضول شديد :
” إذن هل انتهينا هنا تبارك أم تريدين فعل شيء آخر ؟؟”
هزت تبارك رأسها برفض :
” لا انتهيت، الحمدلله أننا نسير احرارًا حتى الآن بعدما اعتقدت أن هذه الزيارة ستنتهي بنا لمكانين، إما السجن أو مشفى المجانين ”
سمعت صوت صامد يقول لصمود بجدية :
” وهذا يعلمنا درسًا ثمينًا يا أخي، إياك وطعام المفسدين فهو ….”
وقبل أن يكمل كلماته أبصر شيئًا جعله يتحدث بفضول شديد وهو يشير له :
” هل هذا طعام وردي فاسد هناك ؟؟ ”
استدار صمود صوب ما يشير له شقيقه قبل أن يتحرك الاثنان لتجربة الطعام الوردي الذي يبيعه أحد الرجال في الطريق .
وتبارك تتابعهما بيأس وحنق وملل، التقطه سالار ليظنها حزينة قائلًا :
” هل أنتِ بخير تبارك !! تريدين بعض السحب الوردية مثلهم ؟!”
نظرت له تبارك قليلًا قبل أن تضحك، سالار لديه بعض المسميات اللطيفة على كل شيء في عالمها، يطلق على المقرمشات والحلوى اشياء فاسدة، ويسمي الأدوية سموم كيميائية، ويخبرها أن غزل البنات سحب وردية، كان الأمر أشبه بطفل صغير يطلق مسمياته الخاصة على كل ما تقع عيونه عليه ليسهل تذكره .
” لا، أنا لا احبها لتلك السحب الوردية سالار، إن تناولت قطعة صغيرة منها قد تتسبب بموتي ”
اسرع سالار يجيب بلهفة ورغب يزجرها بكلماته ونظراته :
” لا أراني الله بكِ خدشًا واحدًا تبارك، انتبهي لكلماتك تلك ”
تعجبت تبارك من حدته، ثم تنهدت تقول :
” لم اقصد، فقط كان تعبيرًا مبالغًا بعض الشيء، هذه الحلوى مصنوعة من السكر الخالص سالار ونحن هنا بسبب ما اعاني منه من الأساس”
امسك سالار يدها يجذبها صوبه ولولا أنه في الطرقات تحت أعين الجميع لكان الآن ضمها له يرتشف وجودها :
” شفاكِ الله وعفاكِ حبيبتي، أمر المسلم كله خير، سيجازيكِ الله لصبرك على هذا، لا أراني الله بكِ سوءًا ”
ابتسمت له وكم اراحتها كلماته، استدارت لترى صامد وصمود وهي تنتوي التحرك معهم لشراء شيء اخير قبل الرحيل، شيء تذكرته الآن فقط، لتتحدث بجدية :
” إذن لنتحرك اريد إحضار شيء اخير قبل أن نر…”
وقبل إكمال كلماتها اتسعت عيونها وهي ترى مشهد جعلها تفتح عيونها مرددة :
” يا الله يا مغيث ..”
نظر لها سالار بصدمة من ذكرها كلمته، ولم يكد يستفسر عما يحدث ليجدها تقف امامه تحاول اخفاء ما يحدث عنه، لكن كيف وهي اساسًا أقل منه طولًا :
” ما الذي تفعلينه تبارك ابعدي يدك هذه ”
حاولت أن تدفعه بعيدًا، وهو فقط يريد معرفة ما يحدث حتى سمع صوت موسيقى مزعج، تحركت عيونه صوب ذلك الصوت ليرى مجموعة من الشباب يتراقصون أمام جهاز صغير .
الأمر كان غريبًا على سالار الذي حاول فهم السبب الذي يجعل بعض الرجال يدهسون رجولتهم على مرأى ومسمع من الجميع والرقص بهذا الشكل وأمام شيء مربع اسود اللون .
وتبارك التي تفهم ما يحدث، إذ كان هؤلاء الشباب يصنعون بعض الفيديوهات لنشرها على مواقع التواصل الاجتماعي والتربح منها .
” اتمنى اللي بيحصل ده ميغيرش من صورتنا المهببة في العالم بتاعك، صدقني حتى المفسدين نفسهم مش بيطيقوا النوع ده”
وهناك عند الشباب كان صامد وصمود كلٌ منهما يمسك سحابته الوردية يتناولها وهو ينظر صوب ما يحدث أمامهما بعيون متسعة مترقبة لتلك الحركات التي يرونها .
همس صمود بانتباه وعدم فهم :
” هل هذه حركات قتالية ؟؟”
” لا ادري، لكن يبدو أن الأمر خطير، انظر لحركاتهم تلك ”
ختم حديثه يحرك يده في الهواء يحاول تقليدهم، لكن وأثناء مراقبة ما يحدث بدأ الشباب يهبطون ارضًا ويصعدون في إحدى الحركات الشبابية المعروفة باسم ” التعقيب ” .
و هذا ما لم يدركه صامد أو صمود، فبمجرد أن هبط الشاب ارضًا بسرعة حتى أطلق صامد صرخة مرتفعة وألقى بجسده على صمود الذي حمله يعود للخلف ظنًا أن هناك قنبلة ستسقط عليهم من السماء .
” يا ويلي اركض صمود ”
وتبارك التي كانت تتابع من بعيد أطلقت ضحكة مرتفعة عليهم، وسالار يراقب متشنجًا دون فهم.
حتى اقترب أحد الرجال من الشباب يوبخهم ببعض الكلمات العنيفة مبعدًا إياهم عن المكان، وسالار فقط امسك يد تبارك يسير مبتعدًا لا يفهم ولا يريد الفهم في الحقيقة، هو فقط تنهد مدركًا، أنه حتى وإن كان عالمك بأكمله من المفسدين، فهناك الكثير من الصالحين به، وهذا ما أخبرنا به رسول الله ” الخير في امتي …”
نظر صوب زوجته التي كانت ما تزال تحدق في صامد وصمود ضاحكة :
” إذن عزيزتي ما الذي ينقصك قبل الرحيل ؟؟”
حدقت به تبارك مبتسمة تقول بجدية :
” شيء اخير قبل توديع عالمي سالار، شيء هام انتظرت سنوات لأفعله ….”
_______________________
مرت أيام وجاء اليوم المرتقب في جميع الممالك…
منذ الصباح وجميع سكان مشكى لا حديث لهم، سوى عن موكب سفيد الذي دخل البلاد منذ فجر اليوم، موكب مهيب لم يبصر سكان الممالك مثله يومًا ..
موكب فخم جاء محملًا بخيرات سفيد يتقدمه الملك على ظهر فرسه وخلفه العديد من الجنود يحملون صناديق ذهب ومجوهرات وحرير وهدايا كثيرة، ولم يكتفي بهذا، بل جلب جميع رجال مملكته ذوي الشأن .
قائد جيوشه كلها (سالار) الذي عاد من رحلته منذ يومين فقط، وصانع الأسلحة في جميع الممالك ( تميم )، وقائد الرماة ( تميم)، طبيبه الملكي ( مهيار ) العريف ومساعده ( مرجان)، ملك آبى (آزار)، ملك سبز ( بارق )، جميع مستشاريه ذوي الرتب الهامة، ساق كل من له شأن في بلاده وجميع البلدان لأجلها، احضر كل ما تمكن من حمله لاجلها، جاء بالغالي والثمين لأجل الاثمن…
فكما يردد سالار دائمًا ” الغالي يُساق للغالي ”
أخبره أرسلان أن شقيقته أميرة ولن يقبل بالقليل لأجلها، ووالله أنه بذل ما استطاع وأحضر كل ما تمكن وقاد لها مهرًا ما قُدم يومًا لأميرة في الممالك الأربع، ويشعر أنه قليل لأجلها .
وفي شرفة القصر كان هو يقف يراقب موكب سفيد الذي يتقدم من جدران القلعة، يبتسم بسمة واسعة يرى أن كلماته لإيفان لقت صداها لديه ..
عاد برأسه صوب ذلك اليوم الذي ترك به سفيد آخر مرة منذ اسابيع قليلة، مال يودع إيفان ثم همس له يقول :
” إن أردت شقيقتي كما تقول إيفان فلن اقبل بالقليل لأجلها، اختي يُساق لها الغالي والنفيس، لن اقبل لها بأقل مما جاء به الملك تقي الدين لوالدتك ”
ختم حديثه يبتعد عنه ليبتسم إيفان الذي رأى تحديًا في عيون أرسلان، والده الذي منح والدته نصف خزائنه الخاصة من الذهب وقاد لها حرير يكفي لكسوة نصف نساء شعبه، كل ذلك ليشعرها أنها لا تقل عن أي أميرة، بل أنه سيقدم لها مهرًا لم يُقدم يومًا لاميرة نكاية في من سخر منها وقلل من شأنها، بعد نشر أخبار في المملكة أن خادمة اغوت الملك تقي الدين، قاد لها كبار رجال الممالك الأربعة لطلب يدها من والدها، وهذا في عرفهم يدل على تقديره لها .
والآن تفوق الابن على الاب وقاد أكثر مما قاد والده .
اتسعت بسمة أرسلان الذي لم يكن يهتم لكل ذلك الذهب او أيًا مما احضر إيفان، فخزائن بلاده ممتلئه بالاموال والذهب، وبلاده ورغم ما مرت به بدأت تنهض وتمتلئ بالخيرات، كل ما اهتم به هو أن إيفان بذل كل ما استطاع بذله لأجل شقيقته، لم يفكر مرتين في الأمر، بل فقط جاء بكل ما استطاع ليثبت استحقاقيته لنيل جوهرته، تحداه وفاز إيفان بالتحدي للأسف …
بينما وعند جوهرته كانت كهرمان تقف في شرفة غرفتها وهي تراقب ما يحدث بأعين متسعة وصدمة وجسدها بالكامل يرتجف مما ترى، تهمس بعدم تصديق ولم تتخيل أن يُساق لها يومًا نصف ما ترى الآن :
” يا ويلي ما هذا ؟؟ كل هذا …هذا لأجلي ؟؟؟”
هي لا تغفل عن المهور التي تُقدم للاميرات ومبالغة البعض احيانًا، لكن ما ترى أمامها كان …غير مُصدق .
همست بانشداه وصدمة كبيرة :
” يا ويلي إيفان….”
وعند إيفان كان يتحرك بين شعب مشكى يهز رأسه لهم بترحيب وبسمة واسعة وهو يشير لنصف موكبه بتوزيع ما جاء به لأجل شعب مشكى، ثم تحرك يرى نظرات سالار له ليقول :
” هيا قلها ولا تكتمها في صدرك سالار ”
أطلق سالار ضحكة صاخبة يقول :
” لا أصدق أن أرسلان جعلك تفعلها، أنت من كنت تتغنى أنك لن تنجرف في تلك الموجة من المهور المبالغ بها، ولن تتفاخر كما يفعل البعض وتحضر الكثير ”
نظر له إيفان يقول ببسمة ظهرت دون إرادته وعيونه تحركت صوب القصر يبحث بين جدرانه عن طيفها :
” ماذا افعل وهي تستحق يا أخي؟!”
صمت ثم نظر له يقول :
‘ ثم انظروا من يتحدث، وأنت أهديت سيفك الغالي يوم عقد قرآنك، بل وسُقت لها مهرًا لم يُهدى لسواها سالار ..”
نظر سالار سريعًا صوب العربة التي يجرها بعض الأحصنة والتي تحوي نساءهم يقول ببسمة غامضة :
” لم أفعل بعد ”
” ماذا ؟؟ ”
نظر له يقول ببسمة واسعة :
” لم اهدها بعد مهرها، قررت أن أفعل يوم زفافي عليها، سأهديها مهرها يوم تُزف لي بثوبها الابيض ”
ابتسم له إيفان وهو يحرك نظراته أمامه، يا الله عما فعل العشق بهم، سالار أهدى اغلى ما يملك بحياته لزوجته.
ودانيار وهب لشقيقته كل ما يملك بكل ما للكلمة من معنى وقد ساق لها مهرًا جمع به حياته بأكملها قائلًا بكل فخر ” أختك اميرة، تُهدى مهرًا يليق بأميرة، بل ولا يكفيها، ولو كنت أملك أكثر لاهديتها”
و تميم ذلك العاشق الذي أبى إلا أن يمنح زوجته مهرًا لا يشابه غيرها، منحها إحدى الجواهر النادرة التي عثر عليها يومًا أثناء التنقيب عن مواد في باطن الأرض، جوهرة صنع منها عقدًا لا يقدر بثمن لا ترتدي امرأة في الممالك مثله.
ومهيار الذي وهب كل ما يمتلكه لليلا يوم عقد قرآنهما، بل ووهب نفسه لها ليكون جوارها طوال الوقت وكان على أتم الاستعداد ليصبح طبيبها هي وحدها دون الجميع فقط لتكون بخير.
وهو…انظروا إليه وإلى ما يفعل، ساق جميع ما يمتلك من ماله الخاص وارثه بعيدًا عن مال شعبه لها،
ساق لها مهرًا تفوق على مهر والده لوالدته، بل وأحضر لها جميع الرجال ذوي الشأن في الأربعة ممالك ليحضروا عقد قرآنهما، ويتوسطوا لها عند شقيقها، ورغم كل هذا يشعر أن جميع ما احضره قليلًا لأجلها…
توقف موكب إيفان أمام باب قلعة مشكى ينتظر أن تُفتح الابواب، ليسمع صوتًا قادمًا من فوق أسوار القلعة، صوتًا يعلمه جيدًا، رفع عيونه ليبصر أرسلان يقف بهيبته كالعادة فوق اسوار القلعة يراقب ما احضر ببسمة صغيرة ثم صاح بصوت جهوري قوي:
” افتحوا ابواب قلعة مشكى لرجال سفيد”
انحنى نصف انحناءة وهو يهز رأسه لإيفان:
“أنرت مشكى مولاي….”
صمت يرى نظرات إيفان المبتسم له، ليهتف بصوت مرتفع وهو ينظر في عنق عيونه :
” انصبوا الاحتفالات في ربوع المملكة، مشكى على أبواب احتفال ضخم بضخامة موكب الملك إيفان……”
_____________________
انصبوا الاحتفالات وتجهزوا فالممالك الأربعة على أبواب احتفال ضخم بضخامة ما ساق رجالها لنسائهم …

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية مملكة سفيد)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *