روايات

رواية بيت البنات الفصل الحادي والعشرون 21 بقلم أمل صالح

رواية بيت البنات الفصل الحادي والعشرون 21 بقلم أمل صالح

رواية بيت البنات البارت الحادي والعشرون

رواية بيت البنات الجزء الحادي والعشرون

بيت البنات
بيت البنات

رواية بيت البنات الحلقة الحادية والعشرون

هي … قطعةٌ من الثلج تُحتبس تحت الجليد في المحيط المتجمد، تنتظر اليدَ الدافئة التي ستحتضنها بين ثناياها، يدٌ ستتحمل ألم البرودة الناتج عن قطعة الثلج ويتحمل صاحبها تجمد أطرافه بسببها، حتى تنصهر بين يديه وتعود لأصلها.
خرجت من منزلهم تتجه إلى البقالة بوجه مقتطب ولسانها لا يتوقف عن التمتمة بضيق؛ كانت منشغلة بالدراسة وبتركيزٍ شديد قطعته والدتها تصيح بها أن تدعها من تلك الأشياء الفارغة وتقوم لتساعدها بأعمال المنزل وإحضار اللازم لغداء اليوم، تُسمِي التعليمَ بالشيءِ الفارغ!!
آهٍ لو تعلم والدتها كم هي مُلمة به، تتمنى لو عاد بها الزمان بضع سنوات للخلف لتصنع مستقبلَها الخاص برغابتِها هي لا برغبات العادات والتقاليد التي ماتت منذ قرون ودُفنت تحت التراب، ولكن لازال كثير من الناس يعيشون على ذكراها مدّعين أنها “الأصول”.
وضعت “هايدي” الورقة النقدية على الفاصل بينها وبين البائع تخبره بما تريد: كيسين صلصلة و واحدة مرقة دجاج يا عم ربيع..
التفت الرجل يجلب لها ما طلبت والتفت هي للحامل الذي يحوي بداخله أكياس البطاطس تنتقي منه طعمها المفضل، ابتسمت بسعادة طفلة صغيرة ما إن وجدته وما كادت تمد يدها لأخذه حتى سبقتها يده ينتشله بسرعة مردفًا: الشطة والليمون!!
رمقها بمشاكسة واسترسل: كنت متوقع إنه طعمِك المفضل يا قاسية!
انكمش حاجبيها بغضب والتفت للبائع تسألها بنبرة حادة وهي ترفع طرف عبائتها: إيه ياعم ربيع الصلصة خلصت ولا إيه؟!!
أجابها الرجل وهو يسكب الماء المغلي في الكوب أمامه: بعت الواد فؤاد ابني يجيب علبة من المخزن، دقيقتين ويرجع.
ربعت يدها أمامها ووقفت تهز قدميها بحركة مفرطة وهي تمنع نفسها بصعوبة من النظر له بينما “عادل” إبتسم بخفة وتقدم منها ليقف جانبها ماددًا يده للسيد ربيع بالمال.
التقطه منه الرجل وعاد ليقلب كوب الشاي الذي صنعه للتو، ابتسم “عادل” ومد يده لها بالكيس فرفعت له حاجبها بإستنكار، أشار بعينيه بإصرار فضاقت عينيها بغضب: نعم!
رفع كتفيه ببساطة: آخر كيس!
نظرت للسيد ربيع ونطقت بحدة ولهجة شديدة: شكرًا مابشحتش.
تنهد عادل وقال بأسى: أنتِ زي الفل من غير لسانك يا هايدي، حاولي تعملي خارسة ليوم صدقيني هتريحي وترتاحي.
برقت عيناها بعصبية وصاحت بنبرة عالية إنتبه لها ربيع: طب حِل عني بقى للساني يطولك وساعتها مش يرحمك يا سي المحامي.
إبتسم بمراوغة وبمكر ونبرة لعوبة قال: طب ما أحل في قلبِك وأشوف ماله وأداويه.
رفعت طرف ثوبها مرة أخرى وصرخت به قبل أن تغادر محل البقالة: جتك داء في قلبك تنام ما تقوم يا بعيد..
ولم تستمع حتى لنداء صاحب المكان وهو يناديها بدهشة: يا هايدي حاجتِك!!
ضحك عادل وهو يضع يديه في جيوب بنطاله ملتفتًا له: هاخدهم أنا يا حج ربيع.
وتحرك بالكيس الصغير لبيتِها بخطوات متمهلة ولكن مشتاقة، وقف أمام بوابة البناية وقرع الأجراس لمرتين فأتاه صوت والدتها إيمان متسائلة: مين؟
بالداخل أشارت إيمان لها لكي ترى مَن زائرهم ولكنها اعترضت بأسلوبٍ فظ وهي تدخل لغرفتها: أنا معدتش راحة في حتة ولو سمحتِ سيبيني أشوف اللي ورايا وماتندهيش عليا تاني.
تركت إيمان ما بيدها وصاحت وهي تنفض يديها بغضب لتلك الكتب الدراسية التي تأكل عقل ابنتها ووقتها: بلا خيبة وكلام فاضي، وأنتِ يختي هتبقي تعملي ايه بعد كده؟؟ أخرتِك معروفة يا حيلة أمك وزيِك زي كل الحريم، بيتِك وجوزِك..
وتحركت للخارج ليقابلها وجهه المتبسم فقابلته ببسمة واسعة وترحاب صادق: يادي النور يادي النور! الأستاذ عادل بذات نفسيه!
صافحها عادل بسعادة لحب تلك المرأة له، فقد كانت إيمان تعزه بحق ودون سبب واضح، تحدث بعد السلام وهو يناولها الكيس الصغير: الأستاذة هايدي سابت ده في المحل ومشت بسرعة فقولت أوصله وبالمرة أتكلم معاكِ في موضوع كده..
ثم رفع يده يحك مؤخرة عنقه بحرج: بصراحة أنا اتكلمت مع الأستاذ ناصر امبارح بس كان معاه مراته وكان عليها باين تعبانة فمطولتش معاه و…
قاطعته إيمان بفمٍ فارغ واعين متسعة بصدمة: مراته؟؟ ندى؟!!
اومأ عادل بالإيجاب واستأنف دون أن يدرك صدمة مَن أمامه أو ينتبه لها: اديته رقمي بس مردش عليا من أول اليوم فقولت أتكلم مع حضرتِك يمكن هو مشغول..
رمته بنظرات جامدة وبثبات أخفت وراءه صدمتها ببراعة تترقب باقي حديثه بدون أي اكتراثٍ أو إهتمام في حين زفر عادل وقال بإبتسامة: أنا طالب إيد بنت حضرتِك، طالب إيد هايدي.
والآن فقط افاقت من صدمتها لترمقه بزهول وقد استطاع بجملته أن يجعلها تهتم للبقية من حديثه، حيث تابع بحرج وهو يعبث بخصلات شعره: بصراحة حاولت أتكلم معاها قبل كده عشان آخد منها رقم الأستاذ ناصر لكن هي مادتنيش وش، إدتني بالجزمة بصراحة.
قال الأخيرة بدعابة ومرح ليغطي على خجله فابتسمت إيمان بفخرٍ وثقة بإبنتها وقالت بكلمات معتادة في مثل هكذا مواقف: خير يابني إن شاء الله، أنا هتكلم معاها أنا وناصر ونشوف رأيها، برضو الموافقة والرفض في ايدها في الآخر.
قطب جبينه ونبس بإستنكار: رفض! ربنا ما يجيب رفض ياست إيمان إن شاء الله..
واستكمل بقية حديثه بأعين لامعة وشبح ابتسامة يرتسم على فمه: أنا شاري … شاري أوي.
اتسعت تلك الابتسامة لضحكة صغيرة ماكرة: ابقي اتوسطيلي بقى يا حماتي!
ضحكت إيمان بصدق ورفعت يدها تربت على كتفه بموافقة: من عينيا، أنت أصلًا مش محتاج واسطة يا عادل، دانت زينة الشباب وألف مين تتمناك..
غادر عادل بعد أن شعر بالرضا لكلمات تلك السيدة وهناك أمل يلوح له بالأفق بعد يأسه من قبولها له بعد كل هذا الرفض الغير مبرر!
أما إيمان، قبضت على الكيس بين يديها بقوة وعنف حتى اخترقت اظافرها الكيس ومزقته لتضغط على لحم كفها بغضب أعمى، متى أعاد ابنها تلك الفتاة؟ ولما لما يخبرها؟!! لما لم يمر عليها بالأمس وهو رفقتها؟!!
ألهذه الدرجة هو غاضب!
صفعت الباب ودخلت تلقي بما في يدها على الطاولة وهي تنادي بشبه صراخ: هايدي … هـايـدي!
فتحت باب غرفتها وردت وهي تقلب عينها بملل: نعم يا ماما.!
اقتربت منها إيمان بسرعة وتحدثت بصوتٍ مكتوم وهي تجذبها من ذراعها: أنتِ كنتِ عارفة إن أخوكِ رجّع اللي ما تتسمى ندى!
وبدت هايدي متفاجئة حقًا من هذا الخبر، نظرت لوالدتها بتعجب: لأ والله، رجعت امتى؟!
ابتعدت عنها إيمان تدفع ذراعها بغضب وهي تدور حول نفسها وكأنها أُلقَت بمصيبة بينما تسائلت هايدي بصوت متهدج وهي تقترب بإرتياع وتوجس من والدتها: زمانها قالتله على اللي عملته في أختها..
وأحجمت يدها حول ذراع والدتها تستطرد في إرتعاب: ناصر هيبهدل الدنيا يا ماما، خصوصًا إنه عرف إننا كذبنا عليه يوم موت خلود..
دوى صوت إيمان تنهرها بإمتعاض وهي تُبعد يدها عنها بخشونة وغلظة: ودي تتجرأ تفتح بُقها سواء هي ولا أختها؟! دول عقليات غبية يا حبيبتي فوقي، الواحدة منهم تخاف تتكلم الدنيا تتطربق فوق دماغها…
وواصلت زجرها بقسوة وهي تحدق بها بإستخفاف: وبعدين انشفي شوية وجمدي قلبِك عشان تعرفي تعيشي في الدنيا دي، ولا تخافي من ناصر ولا عشرة غيره! حتى لو أخوكِ.
ابتلعت هايدي لعابها وبثت بها تلك الكلمات القوية بعض الراحة والطمأنينة ولكن قلبها لم يهدأ ولم يستكين، أولت إيمان ظهرها ودخلت غرفتها متجاهلة صوت قلبها الثائر الذي يصرخ بها استعيدي ذاتك يا هايدي.
وفي الطابق الثاني في منزل “سيد” شقيق ناصر وزوجته “نورة”، انفرج باب المنزل وارتفع صوت صراخاتها وهي تحاوط يده الممسكة لخصلاتها تترجاه أن يعفو عنها: بالله عليك يا سيد ما هتتكرر، وحياة أغلى حاجة عندك ما تفضحني بالشكل ده، حقك على راسي والنبي!!
كانت تستعطفه بأنين وانتحاب تكاد تجلس أسفل قدميه ألا يفعل ما يدور برأسه، هبط “سيد” السلالم يجرها خلفه من خصلاتها حتى تعثرت ووقعت أرضًا فانخفض يلتقط رأسها بين يده مرة أخرى: قومي! قومي يابنت الـ** أنتِ قومي.
امسكت “نورة” بكف يده ومالت بفمها عليه وبرجاء تحدثت: أنا آسفة يا سيد، أبوس إيدك خلاص!
وذلك القاسي غليظ القلب لم يتحرك قيد انملة أمام ضعفها وتوسلها، خرجت إيمان مهرولة من شقتها بالطابق الأول ومن خلفها هايدي التي ربطت الأحداث ببعضها واعتقدت أن ناصر علم بما فعلت، أما في الطابق الأخير – قبل السطوح – خرج ناصر بسرعة تلحق به ندى جزعة.
هبط ناصر السلالم بسرعة عندما ازدادت الصرخات خلفه وقفت ندى التي توسعت عيناها بدهشة وهي ترى نورة بتلك الهيئة المزرية، بثوبها المنزلي الضيق الذي يغطي فقط أول سنتيمترات من ذراعها ويكشف عن الباقي كما أنها لم تكن ترتدي ما يغطي رأسها وخصلاتها.
أما ناصر فأبعد عينيه عنها بسرعة وسلط بصره فوق وجه أخيه الأكبر: ايه يا سيد اللي عمله في مراتك ده؟؟ عيب اللي بتعمله ده!
رفعت نورة وجهها بسرعة تجاه ناصر تستغيث به من شرور زوجها: الحقني يا أستاذ ناصر..
تجهم وجه سيد وهو يغرز أصابعه في ذراعها يجبرها على الوقوف ومتابعة السير لأسفل، رأى في وجهه والدته إيمان التي صاحت به: جرا ايه ياض يا سيد، قافش في البت كدا ليه؟!!!
فلتت من بين قبضته ووقفت خلف إيمان تحتمي بها وأجاب سيد بتهديد: هتروحي مني فين يعني؟ والله مانتِ بايتة فيها يابنت عبد العظيم، بتعلي صوتِك عليا وتقولي لأ، والله لأربيكِ يا **.
امتعض وجه ندى مِن مَا يلقيه ذلك الفظ من سباب واقترب منه ناصر بوجه ساخط: احفظ لسانك قدام الحريم يا سي الراجل، مشاكلَك أنت ومراتك بينك وبينها مش قدام الخلق كده، ومهما عملت ملكش حق تشتم وتقول الألفاظ الزبالة دي!
أعقبت إيمان على كلامه وهي تلتفت لتلك التي ترتجف خلفها: مش لما نعرف هي عملت إيه؟؟
وعادت تنظر لناصر تعاود الحديث بنبرة ذات مغزى: مراته ويعمل فيها اللي هو عايزه، أحسن ما يسيبها تنطح في اللي رايح واللي جاي ومايهماش حد.
إكفهر وجه ناصر واحتد قسماته وهو يجيبها: مراته يحترمها ومايهنهاش بالشكل ده قدام أي حد، غلطت يعاقبها بما يرضي الله ومن غير ما يغلط فيها ويعاملها المعاملة الزفت دي.
خرجت نورة من خلف إيمان مردفة بإستعطاف ورجاء: بالله عليك يا سيد أمي لو روحتلِها هتموتـ..ـني هي وأبويا، اعمل فيا اللي أنت عاوزه بس وحياة سيدك النبي تسيبني هنا.
كانت على علمٍ بمصيرها إن ذهبت لوالدتها وأخبرتها بغضب زوجها عليها بهذا الشكل، أغرقت والدتها عقلها بأفكار مرعبة وأوهمتها بأنها ستنتهي وتهلك في هذا المجتمع إن صارت “مطلقة”.
وهي ذات الثامنة عشر عامًا التي صدقت تلك الكلمات فكانت حذرة في كل أفعالها وأقوالها، خشت أن ينتهي أمرها على يد والديها وألسنة العالم، تزوجت برجل يبلغ من العمر الثامنة والثلاثون فكانت له كالجارية.
واليوم تعيش أكبر مخاوفها، لا ضير إن ماتت بين يديه وهو يعاقبها، خير لها أن تعود لوالدتها بهذا الشكل وتخبرها أنه يرفض بقاءها بالبيت.
صرخ سيد بوجه ناصر بلهجة آمرة مُحذرة: محدش ليه دعوة وكل واحدة يخليه في نفسه، واحد ومراته بتدخل ما بينهم ليه يا سي العاقل!
برقت عيني ناصر وهو يتقدم خطوة ليكن بمواجهته: طالما مش عايز حد يدخل يبقى كنت تعمل ليك وليها قيمة وتحلوا مشكلتكم في بيتكم، كل واحد يخليه في حاله لما يبقوا مقفول عليكم باب لكن واقف في نص البيت ومبهدلها بالشكل ده يبقى هنقفلك يا سيد.
وخلف إيمان وفي أحد الأركان كانت تقف صامتة تتابع ما يحدث بنظرات حزينة مشفقة، ينهال عليها الماضي بصفعات مؤلمة ذكرتها بما عاشته منذ سنين، مواقف عدة مشابهة لما يحدث الآن ولكن الفرق أنه لم يكن هناك مَن يقف بصفها ويدافع عنها.
التفت هايدي وهبطت السلالم بضيق وهي لا تريد مشاهدة المزيد واقتربت ندى من ناصر تتمسك بذراعه كي يتراجع ولا يقحم نفسه في تلك المشاكل فألقى نظرة أخيرة على شقيقه ووالدته التي تسانده فيما يفعل قبل أن يعود أدراجه لشقته.
وبقت تلك المسكينة بين الأسد وشبله…
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
– لا حول ولا قوة إلا بالله، دي شكلها محااكك تروح لشيخ يابنتي!
تفوهت بهذه الكلمات وجيهة بملامح منكمشة تعاطفًا وشفقة على منة بعد أن قصت نرمين ابنتها عليها ما يحدث مع والدتها وتلك التغيرات المريبة التي تطرأ على أفعالها وصوتها.
ومع بداية الحديث لم يشغل بال أي من توفيق ووجيهة ولكن عندما أخبرتهم عن صوتها وكيف يتحول للغلظة والخشونة أدركوا فورًا وضعها وحالتها.
تنهدت وجيهة بشرود وواصلت: أكيد من الحاجات المهببة اللي عملتها..
كانت تعني السحر والأعمال، سرعان ما استوعبت ما قالت عندما رماها توفيق بنظرات محذرة، فتحمحمت بإستحياء: معلش يابنتي اعذريني، أنا والله خايفة عليها..
ابتسمت نرمين بألم وردت وعينها أرضًا: لأ يا طنط حقِك..
رفعت وجهها تضيف: أنا مجاش في بالي نهائي إنها ممكن تكون ممسوسة، هحاول أتكلم مع أي شيخ ييجي يشوفها واسفة لو قلقتكم.
ربت عمها توفيق على ظهرها: آسفة إيه بس يا نرمين أنتِ بنتنا، ولو أبوكِ مش موجود عمامِك موجودين وواقفين وراكِ، أنتِ تقعدي في البيت هنا وسيبيلنا موضوع الشيخ وأمك ده..
حاولت الحديث رفضًا لتلك المساعدة فقاطعها توفيق بقليل من الحدة: عيب بقى لو قولتِ حاجة بعد كلامي ده! مش معقول البيت يبقى فيه بدل الراجل خمسة ونخلي واحدة من حريمنا تنزل تمشي وتسأل لوحدها.!
ونظر لزوجته مستكملًا: قومي يلا مع طنطِك وجيهة هتفطرِك الأول وبعدين شوفي عايزة تعملي ايه اعمليه، عندِك بدل الأوضة الفاضية اتنين وتلاتة، غوصي ياستي!
قال جملته الأخيرة بمزاح فابتسمت له واومأت بالموافقة، وقف والجًا غرفته وتبعته وجيهة التي طلبت منها التحرك كما لو أنها بمنزلها.
– هتعمل ايه يا توفيق؟
تسائلت وهي تجلس قبالته فوق الفراش فزفر يجيبها وهو يعبث بالهاتف: هكلم حامد واخليه يبعتلِك شهيرة مراته تتطلعولها فوق وإحنا هنحصلكم، وهحاول أكلم البغل جوزها على الله بس يرد ويخزى على دمه.
نفت وجيهة برأسها بأسى وحزن وما كان منها سوى أن رددت لا حول ولا قوة إلا بالله وقد أعاد لها هذا الموقف ذكرى مر عليها ما يزيد عن العشر سنوات، عندما كانت ندى تمر بمثل ما تمر به منة الآن، عندما كانت ابنتها ممسوسة..
وبعد دقائق كانوا يجتمعون في منزل شقيقهم سلطان الذي قطع جميع طرق التواصل التي سلكوها للوصول إليه.
اوصدوا باب الغرفة عليها خشية أن تتهور وتؤذي أي أحد وهي ليست بوعيها وتحركت شهيرة صوب التلفاز وقامت بتشغيل قناة المجد للقرآن الكريم.
وبمجرد أن صدح صوت القرآن وانتشر في المنزل حتى ازداد صراخها الممزوج بصوت مُتلبسها واستمعوا من الخارج لأصوات التحطيم والتكسير التي رافقت صراخها.
انقبضت قلوبهم وظلوا يرددون الأذكار وآيات قرآنية قصيرة وهم ينتظرون قدوم الشيخ محمد الذي كان بمنزل توفيق بالأمس.
بالطابق الثاني استيقظ طارق وجلس رفقة مَجد بعد أن رفضت والدتهم شهيرة رفضًا قاطعًا أن يصعدوا معهم، خافت أن يطولهم أي أذى ففضلت أن يبقيا بالمنزل معًا.
– نعم!! مين سمحله الكلب ده ياخدها، لما يجي بس والله لأوريه.
صرخ طارق ما إن علم بشأن سيارته التي أخذها سامر دون علمه، ابتسم مَجد بهدوء وهو يرتشف من كوب الشاي واللبن فازدادت ثورة الأخير وهو يلتقط هاتفه مقررًا محادثته وتوبيخه على فعلته السوداء.
– أيوة يا زفت الطين.
أتاه صوت متعجبًا يعود لواحدة من بنات عمه: وعليكم السلام يا طارق!
ولم يهدأ غضبه أو يتراجع، صرخ بها وهو يتحرك حول نفسه في الصالون: ايوة يا بسملة، هو فين الزبالة ده!
وما إن استمع لإسمها حتى وضع الكوب أمامه بهدوء وتابع المكالمة باهتمام، لحظة واستمع لصوتها العالي رغم أن طارق لم يقم بتشغيل مكبر الصوت: يوه! وأنا مالي يا طارق أنا بطلع غلك فيا ليه يا جدع، الزبالة راح الحمام ولاطعنا في الشارع بقالنا يجي ١٠ دقايق أهو.
ابتسم مَجد على رد فعلها وأشار لطارق برجاء أن يفتح مكبر الصوت فامتثل الأخير بغضب وهو يستمع لبقية كلامها: حقك يا طارق والله حقك، أوعا تخليه يفلت بعملته عادي كدا، دشمل أمه!
اتسعت ابتسامته وهو يلتقط الكوب باستمتاع وكأنه يستمع لمقطوعة من أغنية هادئة، رفع طارق حاجبيه بتعجب فتراجعت بسملة بسرعة: قصدي هو يعني مش أمك، طنط شهيرة دي قلبي والله!
– بقولك ايه يا بسملة، يرجع تخليه يكلمني فورًا وعرفيه إني مستحلفله، ولو يشوفله مطرح يبات فيه يكون احسن عشان مش هيطلع من تحت إيدي صاغ سليم المرة دي.
ابتسمت بسملة برضا واراحت ظهرها للخلف براحة: عين العقل والله يا طارق، عين العقل!
كاد ينهي المكالمة فأشار له مَجد أن يحضر الهاتف فألقاه بإهمال ودخل المرحاض يصفع الباب خلفه بتجهم ولسانه لا يتوقف عن التوعد لصغيرهم سامر.
– أيوة يا طارق معايا لسة؟
– سي الباشمهندس مَجد، ينفع؟!
اعتدلت بسرعة وبتوتر ابعدت الهاتف عن أذنه لتغلق الهاتف ولكنه كان قد توقع في الفعل فقال بسرعة: الموضوع انتهى يا بسملة.
نظرت جانبًا لبسنت المنهمكة في قراءة إحدى القصص ثم لجنى التي تقف خارج السيارك تتحدث في الهاتف واعادت وضع الهاتف مرة أخرى تنصت لما يقول: عُمر بَح، الصور والتهديدات صاحبهم في السجن دلوقتي..
وابتسم مستأنفًا براحة: خلص الكابوس يا بسبوسة!
شعرت بتلك البسمة التي يتحدث بها بفضل صوته، ادمعت عينيها وابتسمت بتلقائية وقد تسربت إليها الطمأنينة لتستقر بقلبها، وضعت الهاتف فوق صدرها بعد أن انتهت المكالمة وكأنها بتلك الفعلة تحتضنه، تحتضن الهاتف!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مساء اليوم بمنزل شريف القاضي، الساعة الثانية بعد منتصف الليل تحديدًا؛ التفوا جميعًا حول طاولة الطعام لتناول وجبة العشاء، تحدث عثمان بحماس وهو يعطيهم ما توصل إليه من معلومات: جنى توفيق طه الهلالي، عندها ٢٥ سنة، منظمة حفلات وأعراس وعرفت خبر حصري ليا لوحدي إنها هتبدأ تصميم فساتين وملابس للمحجبات بجانب شغلها ده..
قال الأخيرة بفخر قبل أن يتابع وكأنه يقدمها في أحد البرامج الإذاعية رافعًا سبابته للسماء: مش خريجة هندسة لكن الكل بيناديها يا باشمهندسة، فتاة يشهد الجميع بأخلاقها وأدبها وقوتها..
وضع يده أسفل وجهه يستند بمرفقه فوق الطاولة بإبتسامة: وأنا أولهم.
– وأنت يا حبيب أمك عرفت الحصري ده منين؟
اغمض عينيه بثقة وهو يتذكر مجموعة الرجال الذي جلس معاهم: من صحابي، ناس كده مش هتعرفيهم أنتِ يا حجة.
ضحكت جهاد بسخرية وهي تضع أمامه رغيفًا من الخبز: طب امسك نفسك كده اومال! دانت يدوب من كلامك شوفتها مرتين تلاتة!
رمقها عثمان بنفور واستحقار: وأنتِ هتفهمي منين أنتِ يا معدومة الاحساس أنتِ، يابت دانتِ قرن الشطة بيدخل بقك ولا كأنه صابع موز، بس بس اسكتي.
ابتسمت رضوى والدته برضا وتسائلت بحماس وهي تطعمه بسعادة: حلوة يا عثمان؟
التهم ما أعطته إياه وأجاب ببساطة: مركزتش الصراحة.
– أنت عبيط يابني ولا عايز تجنني معاك، واحدة ماتكلمتش معاها غير مرة ولا اتنين وفجأة عايز تتجوزها يبقى أكيد شكلها شدك ليها.
صحح لها بجدية: شخصيتها الحقيقة هي اللي شددتني…
طرقات فوق باب المنزل جعلتهم يقطعون حديثهم فوقفت جهاد تتولى مهمة فتحه تحت نظرات البقية المترقبة للطارق.
ثواني وانتفضوا من الداخل أثر شهقة جهاد وصراخها بإسم “وسام” فهرعوا جميعًا من الداخل ومعهم مصطفى الذي كان يجلس بغرفته..
وجدوا أمامهم صغيرتهم البريئة وسام التي أثقلت ذراعها تلك الجبيرة، اقتربت منها جهاد واحتضنتها بفزع وكذلك عثمان الذي اقترب بسرعة منخفضًا لمستواها بإرتياع: ايه اللي عمل فيكِ كدا يابت.
ولم ينتبها لوجود ولاء طليقة أخيه التي تطلعت لوجه مصطفى ورضوى ثم همست والدموع تغرق وجهها: أنا آسفة..

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية بيت البنات)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *