روايات

رواية بيت البنات الفصل الرابع والعشرون 24 بقلم أمل صالح

رواية بيت البنات الفصل الرابع والعشرون 24 بقلم أمل صالح

رواية بيت البنات البارت الرابع والعشرون

رواية بيت البنات الجزء الرابع والعشرون

بيت البنات
بيت البنات

رواية بيت البنات الحلقة الرابعة والعشرون

جالس خلف مقعده يعبث بالأوراق أمامه بشرود، يتطلع للمكتوب أمامه بأعين زائغة وعقله في مكان بعيد عن الواقع وضجيجه؛ يفكر بها وكيف سيُعيدها له بعد أن اكتشف سبب ما كانت تفعله وتقوله، تلك الساذجة!
ضَيَّعت عامًا وأكثر في الفراق والبُعد، ظل يعاني خلال تلك الأشهر في التفكير فيما فعله ليجعلها تأبى العيشَ معه وكأنه وحشٌ بشري، استنزفت طاقته وهو يحاول الوصول لسبب طلبها، ظن أنه ارتكب جرمًا بحقها وهي كانت أكثر مَن مدها بالحنان والحب!
استمرت بالضغط عليه بكلماتها وأفعالها حتى انفجر بها ناطقًا تلك الجملة التي جعلتها غريبة عنه؛ “أنتِ طالق”، جملة من كلمتين ولكن يالا أثرها ووقعها وحقيقتها.!
نظر لعينيها ذلك اليوم، رأى الألم التي تجاهد كي تُخفيه، رأى خذلان وعتاب وكأنه المذنب، آهٍ منها تلك القاسية التي دهست قلبه ثم جلست تبكي على نتائج فعلتها.
ابتسم “مصطفى” بسخرية عندما تذكر أسبابها التافهة – من وجهة نظره -، بدلًا من أن تشاركه آلامها كأي زوجين قررت التصرف وحدها وبعقلها الصغير غير الناضج، قررت الإبتعاد عنها ظاننةً أن قُربها ألم وبُعدها راحة له.
لو تعلم كيف دمَّر الفراق قلبه وشطره لنصفين، لو تعلم كم تمنى كل يوم الذهاب له وإعادتها لأحضانه، لو تعلم أنه تحتل عقله منذ الرحيل ولم تغب لحظةً عن باله، لو تعلم الكثير والكثير!
تنهد مستفيقًا على صوت طرقات الباب تبعها دخول العسكري يُخبره منتشلًا إياه من دوامة أفكاره بوجود عدد لا بأس به من الأفراد يودون الدخول له بعد إمساكهم لأحد المجرمين!
اومأ مصطفى بالإيجاب سامحًا له بإدخالهم وترك هو مقعده يتحرك من خلف مكتبه ليقف أمام الباب ترقبًا لأي شيءٍ قد يحدث وفي لحظة وجد الكثير من الناس يلجون المكان في المقدمة سيدتان في منتصف الأربعينات تمسكان بسيدة غريبة تتشح بالسواد من رأسها حتى اخمص قدميها.
وتبعتهما فتاة تعرّف عليها مصطفى على الفور، رفع حاجبيه بدهشة ونطق لسانه بتلقائية: جنى!
ولم تنتبه له جنى التي كانت تتطالع لتلك الساحرة الشمطاء والتي علىٰ وجهها الحنق والغضب، نفضت أيد السيدات عنها وتطلعت بكرهٍ لعائلة الهلالي اللذين يرتصون أمامها.
أما السيدتان اللاتان كانتا تمسكا بالساحرة، ما إن تأكدوا انها صارت داخل مكتب ضابط الشرطة وأن لا مفر للهرب التفتتا وغادرا دون كلمة واحدة!
رمقتها جنى بصدر يشتعـ.ـل من الغضب وسهام من النفور والاشمئزار تنطلق من عينيها صوب تلك الساحرة الغير مبالية لأي شيء، وكأنها معتادة على هذا وتضمن خروجها سالمة من هذا المكان.
ودون شعور منها اقتربت ملتقطة رأسها بين يديها تريد اقتلاع خصلاتها بين يديها، اخذت جنى تصفعها فوق وجهها وهي لا ترى أمامها من شدة الغل والكره والغضب لتلك الملعونة التي ألحقت الأذى بها وبعائلتها.
فعلت ما فعلته بسرعة لم يستوعبها أي من الواقفين، التفت مصطفى بسرعة ينظر للرجال اللذين جاءوا معها ينتظر أن يتحرك مَن يجذب تلك التي لا تعي لأي شيء حولها.
تقدم سامر خطوة صغيرة جِدًّا للأمام كانت بعيدة جِدًّا عن جنى والساحرة التي لم تستطع إنقاذ نفسها وقال بصوت بارد غير مكترث: مش كدا يا جنى يا حبيبتي براحة!
توسعت عيني مصطفى بعدم تصديق لتلك الكلمات التي يكاد يجزم أنها لم تصل لمسامع جنى التي أعماها الغضب فلم تعد ترى سوى الأحداث التي عاشتها هي وأسرتها منذ أيام.
بجانب سامر كان يقف توفيق وحامد ولم يحرك أي منهما ساكنًا، كانا يريدان أن يفعلا بها أكثر من هذا ولكنها تبقى امرأة لن يستطيع أي منهما رفع يده عليها لذا فقد استحسنوا ما فعلته جنى!
ظلت جنى تصفعها وتجذب خصلاتها حتى هتف مصطفى صائحًا بهم: يا جماعة كل ده يتحسب ضدها، حد فيكم يتحرك عشان ماضطرش أتحرك أنا.!!
تخلى توفيق عن مكانه وبهدوء مستفز تحرك ناحية ابنته، حاول جذبها من ذراعها فلم يستطع بفضل قوتها ورغبتها في التخلص مِن مَن بين يديها، فاضطر آسفًا هو الآخر استخدام قوته وجذبها بعنف يبعدها عن الساحرة.
نظرت بأعين بارقة لوالدها وهدرت بجنون وهي تشير على الساحرة أرضًا: بتشليني عنها ليـــه! دي حلال فيها القتـ.ـل.
وأخذ صدرها يعلو ويهبط ولازال الغضب يسكنه ولم يقل حتى بعد ما فعلته، تريد فعل المزيد تريد الانهاء عليها، لن يخمد تلك النيران المتأججة بصدرها سوى قـ.ـتل تلك اللعينة.
كادت تقترب منها مرة أخرى فأوقفها صوت مصطفى الذي وقف أمامها بغضب: بس كفاية كده يا آنسة جنى، افتكري أنتِ فين عشان كل اللي بتعمليه ده ممكن يأذيكِ جامد، أنتِ في مركز الشرطة يا آنسة!
تطلعت له بأعين حمراء ممتلئة بالدمع، وبلا إهتمام ومبالاة لأن الماثل أمامها ضابط بصقت فوقها وبنفور وقهر قالت: إتفو عليكِ وعلى أمثالِك، ربنا ياخدِك..
والتفت تغادر غرفة المكتب الخاصة بمصطفى بعنف واندفاع، ولم يلحق بها أيٌ من الواقفين وتفرقوا جالسين فوق المقاعد الموجودة بالغرفة وارتمى مصطفى على كرسيه الخاص يطالع هذه الوجوه أمامه بعدم تصديق لهذا الثبات والهدوء، ثم نقل بصره للسيدة المُلقاة أرضًا يفكر في الجرم الذي فعلته والذي جعل جنى تفقد أعصابها بهذا الشكل.
بالخارج، جلست جنى فوق واحدة من المقاعد الخشبية المرتصة أمام قسم الشرطة، استندت بكفيها على المقعد وأخذت تتنفس بعنف وهي لا ترى أمامها بسبب تلك الدموع التي تغرق عينيها، يعلو صدرها ويهبط في شكل سريع بينما صوت تنفسها واضح لمسامع المارة حولها.
رفعت يداها عن المقعد ومسحت وجهها الممتلئ بالدموع بقوة رافضة تلك اللحظة من الضعف التي مرت عليها، هذا ليس الوقت المناسب يا جنى، استقيمي!
توقفت أقدامٌ لمجهولِ أمامها، حماها ظلُه من أشعة الشمس في تلك الأيام شديدة الحرارة من السنة، رفعت وجهها ليقابل وجهه الذي جعل غضبها يتفاقم في هذا الوقت تحديدًا.
كان منخفضًا بنصفه العلوي أمامها، يطالعها بحاجبين معقودين بقلق حقيقي بعد أن رأى نوبة البكاء التي قامت بصدها ومنعها من الخروج، وما إن رأى عينيها الباكية نطق فورًا بحنو خرج بعفوية بحتة لم يبذل أي عناء لإصطناعها: في إيه؟ بتعيطي ليه يا كوتي!
انتفضت من مكانها كمن لسعها عقربٌ واعتدل هو فورًا، قطبت جبينها وصرخت به بغضب وحدة: وأنت مالك؟؟ وأنت مالك يا دكتور يا محترم؟؟
كانت كلماتها الأخيرة تحمل معاني مبطنة وتلميح صريح لم يفهم هو معناه أو سببه، احتدت عيني “عثمان” ولم تتحرك عضلة واحدة بوجهه ولكن رغم هذا كانت قسماته تشع غضبًا لما ترمي إليه.
رفع حاجبه وتحدث بصوتٍ أجش ولم يتزحزح البرود عن وجهه ولو قليلًا: قصدِك ايه يا باشمهندسة؟؟
أشارت بسبابتها عليه وبإشمئزاز أجابت: قصدي أنت فاهمه كويس أوي يا دكتور..
وضحكت ضحكة صغيرة ساخرة تستطرد: وأنا اللي كنت واخدة فكرة معينة عن كل الدكاترة…
نظرت له من رأسه حتى اخمص قدميه وتابعت: طلع فعلًا لكل قاعدة شواذ.
برقت عيناه وارتفعت نبرة صوته وهو يتحدث بعصبية: ما توضحي كلامِك يا آنسة جنى وبلاش اللف والدوران عشان مبحبوش، أنا ملتزم بالهدوء احترامًا ليكِ مش أكتر ولولا اننا في الشارع وأنتِ واحدة سِت كان رد فعلي هيبقى غير.
صرخت بصوت يفوق صوته وقد أعماها الغضب: لأ وأنت ما شاء الله الاحترام مقويك عشان تقول البقين دول، لما واحد المفروض دكتور ليه إسمه ويقول على واحدة حتة عباية السمرا المطلوب مني مثلًا أقول عليه إيه..
زفر بضيق اعتلى وجهه الآن فقط بعد أن فهم مقصدها وسبب ما تقول، نظر حولها مستغفرًا ربه ثم عاد يتطلع إليها مرة أخرى، تحدث بهدوء في محاولة للحديث معها وإفهامها كي لا تظن به سوءًا: طب لو سمحتِ ممكن نتكلم بهدوء وتحضر من غير زعيق وصوت عالي، حابب أفهمِـ…..
قاطعته فاردة كف يدها أمام وجهه تمنعه من استرسال باقي حديثه بحزم ورفض قاطع: أنا ولا هتكلم معاك ولا هسمع منك حاجة، الحمد لله إني افتكرت القرف اللي قولته وافتكرت إنك نفس الشخص وإلا كنت هتخدع بسهولة بتوب الأدب والأخلاق العالية اللي مصدره للعالم..
قاطعها صارخًا بها بهيئة انتفض لها قلبها خوفًا: باشمهندسة!
بترت حديثها وصمتت متطلعة ببرود للطريق خلفه، عقدت ذراعيها أمام صدرها وأخذت تحرك قدمها في حركة تنم عن عصبيتها المفرطة، وهدر هو بها وهو يضغط على كل كلمة يتفوه بها: مش هسمحلِك تتخطي حدودِك أكتر من كدا، مش عايزة تسمعي عنِك ما سمعتي لكن هتغلطي وتطولي لسانِك فهتلاقيني وقفتلِك ومنعتِك..
وتحرك دون أن تجيبه ناحية قسم الشرطة ليجلس فوق واحد من المقاعد البعيدة عن وقفتها، رمقته بغيظ لثواني قبل أن تشيح بوجهها عنه وتعود للقسم مرة أخرى لترى ما آلت إليه الأمور مع تلك الساحرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في بناية آل الهلالي وفي الطابق الرابع بمنزل سلطان الهلالي، خرجت “منة” من المرحاض والضيق يرتسم فوق وجهها بسبب صوت التلفاز العالي، ألقت المنشفة من بين يديها على الكرسي وتحركت بخطوات سريعة ناحية جهاز التحكم بالتلفاز وقامت بإغلاقه وهي تتمتم بضيق.
وعلى أثر اختفاء صوت القرآن الكريم والرقية الشرعية خرجت نرمين من غرفتها وتطلعت في الارجاء بحيرة، أبصرت وجه والدتها التي جلست فوق الاريكة ممسكة براسها بكلتا يديها.
بهدوء وتمهل تركت مكانها وقامت بإعادة تشغيل الصوت، انكمشت المسافة بين حاجبي منة ورفعت وجهها الغاضب لإبنتها: اقفلي الزفت ده دماغي مصدع!
تنهدت نرمين وردت بشجاعة زائفة: الرقية الشرعية قال لازم تفضل شغالة في البيت على طول، وحرام اللي أنتِ قولتيه على كلام ربنا ده.
صرخت بها وهي تضغط على رأسها أكثر: بقولك اقفليه، اقفليـــه!
ابتلعت نرمين ريقها والتفت لغرفتها بهدوء واهٍ، اغلقت الباب عليها واستمعت لصراخ والدتها من الخارج ووعيدها: ماشي يا نرمين، ماشي يا بنت بطني، مصدقة كلام عمامك ومكذبة أمك!
جلست خلف مكتبها الصغير والتقطت هاتفها فوجدت العديد من الوسائل المُرسلة من مجموعة على تطبيق الواتساب خاصة بكليتها، يتحدثون بشأن إختبار المادة القادم، تلك المادة التي لم تفتح لها كتابًا منذ يومين بسبب الأحداث التي يعيشونها.
اهتز الهاتف بين يديها بمكالمة من جنى فمسحت وجهها وتحمحمت كي تحدثها بصوت طبيعي: ألو..
خرجت من مكتب مصطفى متحدثة بهمس وهي تنظر للوجوه بقلق خيفة أن يسمعها أحد: ايوة يا نرمين! مراة عمي جنبِك؟؟
نفت نرمين براسها وأجابت: لأ أنا قافلة عليا في الأوضة وهي برة.
صارت خارج القسم تمامًا، تنهدت براحة: طيب الحمد لله، اسمعي الكلام اللي هقولك عليه ده عشان أنتِ بس اللي هتعرفي تتصرفي دلوقتي، حاولي تعرفيلنا مكان الست الزبالة دي من أمك عشان هي بتنفي كل قولناه وعشان نثبت محتاجين دليل فلازم نعرف مكان بيتها وغالبًا مامتك عارفة مكانها..
تنهدت والتقطت بعض الهواء قبل أن تستأنف: الست دي لو فعلًا اثبتنا إنها بتعمل سحر وأعمال ممكن وقتها تقول إن طنط منة معاها وساعتها هيضطروا يستجوبوها هي كمان ويعرفوا لو فعلًا ساعدتها، فأنتِ اتكلمي معاها وفهميها الوضع.
اومأت نرمين موافقة وشكرتها على استحياء في نهاية المكالمة لحرصها على ألا تتأذى والدتها أو يصبها أي مكروهٍ، وكأنها ليست السبب بما حدث لهم!
خرجت نرمين من الغرفة واتجهت لمنة التي اغمضت عينيها واستندت على ذراع الاريكة براحة بعد أن خف ألم الصداع برأسها.
نظرت بيأس للتلفاز المغلق ثم لوالدتها التي يبدو وكأنها غفت، اقتربت منها بقليل من الخوف ونادت بخفوت: ماما.
وعندما تيقنت من أنها غافية اقتربت منها أكثر لكي تتحدث معها، مدت يدها ناحية كتفها لتحركها ولكن قبل أن تفعل عادت بفزع للوراء عندما شهقت منة منتصبة في جلستها بخوف، حاولت التنفس وبصعوبة في حين ركضت نرمين للمطبخ وعادت بعد لحظات تمسك بين يديها قنينة من المياه.
مدت يدها لمنة التي ارتشفت القليل ثم ناولتها لها مرة أخرى.
– كابوس؟؟
تسائلت نرمين،
وردت منة وهي تغمض عينيها مستندة بمرفقها على قدمها تنفي بتعب: ده كأني بقع من الدور العاشر! يا ساتر يارب ايه ده؟؟
جلست نرمين لجانبها وتحدثت برجاء: ده بسبب اللمس يا ماما، صدقيني والله كل اللي بيحصل معاكِ ده الشيخ محمد قالي إنه بيحصل مع الملبوسين وإن مهما خدتي اي علاج ماهيكونش ليه لازمة..
صمتت لبرهة تترقب رد فعل أمها التي اختفت المسافة بين حاجبيها وهي تطالعها بغضب أعمى، وقبل أن تصرخ بها تحدثت نرمين بسرعة: بتحلمي بحيوانات مفترس بتجري وراكِ، بتحلمي إنِك بتقعي من مكان عالي، صداع نصفي وكامل ومهما خدتي علاج مش بتخفي، بيتهيألك حاجات محصلتش، كل ده بيحصل معاكِ صح ولا غلط!!
واقتربت منها ملتقطة يدها بين كفيها وهتفت بنبرة حنونة هادئة وقد تبدلت الأدوار لتقوم هي بدور الأم وتقوم منة بدور الطفل العنيد: الشيخ محمد أكدلي إن الموضوع ده بدأ معاكِ من بدري بس باختلاف الأعراض، قالي إن التلبس بتكون بدايته ألم في عضو معين من أعضاء الجسم، أوقات وجع بيروح ويجي وساعات وجع دايم ومفيش أي مسكن هيجيب نتيجة ولا دكتور هيعرف يداويكِ…
واستأنفت بلهفة: فاكرة يا ماما لما كنتِ بتشتكي من قلبِك والدكاترة كلهم أكدولنا إن قلبِك سليم ومفيش فيه حاجة! لو ربطتي الأحداث ببعض هتفهمي!
نفضت منة يد ابنتها عنها بعنف وهدرت بها بأعين بارقة: من أبوكِ، من أبوكِ الناقص اللي ماطمرش فيه العشرة والاصول، أبوكِ اللي استحملت معاه القرف لحد ما وقف على رجله، ويا حسرتي!! أول حاجة راح عملها اتجوز عليا واحدة ** زيه..
وقفت نرمين بمواجهتها وصرخت هي بها: مش من بابا، كله بسبب الست الغريبة اللي كانت بتجيلِك هنا! كل اللي احنا فيه دلوقتي بسببها، حرام عليكِ اللي عملتيه وبتعمليه..
لوحت بيدها في الهواء وتابعت: عمي توفيق اللي روحتي عملتيله هو وعيلته سحر هو اللي وقف جنبنا طول فترة غياب بابا، حتى بعد ما عرف اللي عملتيه مشالش إيده من عليا وفضل يطبطب عليا ويقولي أنتِ بنت اخويا يعني بنتي، مراته خدتني في حضنها وطمنتني بوجودها، ولحد دلوقتي مفيش فيهم نفر عايز يأذيكِ وخايفيين عليكِ لدرجة محدش فيهم جاب سيرتِك قدام البوليس..
كانت تستمع لها بحيرة وعقلٍ مُشوَش، عقلها غير قادرٍ على استيعاب كل هذا دفعة واحدة، ابنتها تعلم بأمر قذارتها؟؟ توفيق وعائلته يعلمون بما فعلته، كيف ومتى؟!! وعن أي شرطة تتحدث
أخذت تنفي برأسها بعنف وهي تردد “لا”، رفعت وجهها لابنتها ووقفت بسرعة أمامها، غرزت أصابعها بذراع الماثلة أمامها وتحدثت بفحيح وهي تحذرها: ده إيه الكلام ده، معناه ايه كل اللي قولتيه ده، امتى ده حصل؟؟
رجفة صغيرة سرت بكامل جسدها وهي تتطلع لهيئة والدتها المخيفة وبالأخص عينيها التي احمرت بشدة رغم عدم وجود أي دمعٍ بها، ورغم كل هذا تصنعت الثبات وأجابت ببرود وقوة زائفة: من يوم ما كنتِ في المستشفى، أنتِ اللي حكيتي كل حاجة بلسانِك وكلهم كانوا واقفين برة وسمعوا، عمامي ومراتاتهم وولادهم، كلهم عارفين وكلهم محدش فيهم نطق بكلمة ولا قال حاجة، وساعة ما تعبتي الكل كان بيجري عليكِ..
بللت شفتيها ورفعت حاجبها في حركة ظنت انها ستخفي ارتباكها وتوترها: والنهاردة مسكوا الست المرعبة اللي كانت بتجيلك وطلعوا بيها على السجن، لسة قافلة مع جنى وقالتلي ان الست دي لو جابت سيرتِك هياخدوكِ معاها.
– أنا معملتش حاجة، هم اللي دلوني عليها وقالولي هتساعدِك، معملتش حاجة!!
صرخت بكلمتها الأخيرة فابتعدت نرمين عنها، باتت أبسط الحركات من والدتها ترعبها وتخيفها، لا تعلم متى تكون بطبيعتها ومتى تتغير، تخشى أن تودي بها دون وعيها.
– قوليلي مكانها، لو عرفوا المكان ولقوا فيه حاجة يبقى بنسبة كبيرة مش هيحققوا معاها وساعتها مش هيوصلوا ليكِ، مكانها فين يا ماما؟
ارتمت منة بجسدها للخلف فوق الاريكة ممسكة رأسها بعد أن عاد الصداع مرة أخرى، ظلت صامتة لثواني تسترجع ذكرياتها لتتذكر عنوان منزل تلك الساحرة، لم تزرها سوى مرة واحدة ومن بعدها كانت هي مَن تأتي إليها بأشيائها الغريبة فصَعبُ عليها تذكره.
ظلت نرمين ترمقها بأمل وترقب،
وظلت الأخيرة تمسك برأسها تضغط عليه بكامل قوتها وكأنها تضغط فوق قطعة من الحديد لا رأسها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في منزل السيد أحمد قنديل والد ناصر وهايدي وزوج إيمان، جلست فوق فراشها وتطلعت للفراغ أمامها بشرود، لا تعلم لماذا وفي هذا التوقيت على وجه الخصوص قرر عقلها أن يعيد لها ذكرى مرّ عليها ما يزيد عن العشر سنوات.
عندما تزوجت من ذلك المدعو عبد الحميد، رجل بعمر والدها قرر الزواج بطفلة لم تبلغ السن القانوني حتى، ذو شأن ومكانة في بلدتهم الصغيرة المملوئة بالعاهات والتقاليد.
حيث عندهم مَن تبلغ الثامنة عشر دون زواج فهي عانس، وإن رفضت الزواج بمن مثل عبد الحميد فهي بالتأكيد فتاة سيئة وغير صالحة، لا يهمهم سن الرجل أو أي سمة من سماته، يكفيهم أن تعيش ابنتهم معه حياة سعيدة مترفة.
وكانت إيمان واحدة من هذه السيدات اللاتي رأين سعادة ابنتها في حزمة من الأموال وبيتٍ واسع يكفيها ويفيض، زوّجت هايدي في عمر الخامسة عشر بعد أن استطاعت بسهولة تعبئة عقل هذه الساذجة بأحلام وردية ووهمية.
رسمت هايدي الكثير لنفسها بعد هذه الزيجة التي ستنتشلها من بقعتها لأخرى لم تكن تحلم بها، ورغم أنها كانت تعيش حياة بسيطة مُرضية إلا أنها أرادت الأكثر من هذا.
وكانت أول ضربة ببيت الأحلام الذي صنعته بعد زواجها بشهر، عندما وقفت أمامه تطلب منه إتمام أوراقها الخاصة التقديم في الثانوية العامة.
فوجدته يجيبها بكل برود وهو ينفث دخان سيجارته: ولا في تقديم ولا تعليم ولا غيره، أنتِ هتقعدي هنا وسط أخواتِك واللي أقولِك عليه يتسمع من سُكات، ولا تكونيش عايزة تتطلقي وتجيبي العار لأمك يابت!
صاح بالجملة الأخيرة مهددًا فتراجعت للخلف بسرعة تنفي لها معتذرة مترجية: لأ والنبي يا حج عبد الحميد أنا اسفة، يكش يارب يتقطع لساني لو جبت سيرة التعليم ده تاني، بس بالله ما تطلقني لأحسن أمي تموتني فيها..
وابتسمت هايدي بسخرية وهي تتذكر توسلاتها لهذا الرجل، رجاؤها واعتذراها من أشياء لا تستحق، تنفيذها لكل كلمة يقولها دون أدنى اعتراض، انصياعها لكل ما يريده وكأنها لعبة يحركها كيفما شاء على اهوائه.
حركت رأسها بأسى وشفقة على ذاتها، يا ليتها استمعت لحديث شقيقها الأكبر، يا ليتها اعترضت وقالت “لا” بوجه ذلك العجوز وبوجه والدتها، يا ليت الزمان يعود بها لما فعلت ما فعلت وما حدث ما حدث.
رفعت رأسها عندما طرق باب الغرفة فخمنت انها والدتها وقبل أن ترد لتسمح للطارق بالدخول اندفعت إيمان للداخل ترمي بالخصوصية وواجب الاستئذان عرض الحائط..
جلست أمام ابنتها ورفعت حاجبها تطالعها بشك: ناصر قالِك إيه؟؟ والمتعوسة مراته دي كانت بتعمل ايه؟
رفعت هايدي طرف شفتها بإستنكار: وإحنا مالنا باللي بتعمله، وناصر مقاليش حاجة أنا اللي قولت..
ابتسمت إيمان واعتدلت في جلستها بترقب: وافقتي على عادل؟؟
– لأ رفضت، محدش يعرف يغيرلي رأيي وأنا قولت لأ في الأول وهفضل أقول لأ للآخر، لا هو ولا غيره.
صرخت بها إيمان وهي ترميها بنظرات مغتاظة لتلك الثقة التي تتحدث بها: يختي وأنتِ لاقية يختي، اللي يشوفك يقول العرسان واقفين طابور على الباب وأنتِ ولا حد معبر أمك بحاجة أصلا.
التقطت هاتفها وتصنعت العبث به وهي ترد عليها ببرود: أحسن أنا كدا مبسوطة..
صدح صوت أجراس المنزل فوقفت إيمان تغادر غرفتها لترى الطارق وهي تغمغم بضيق من ابنتها وعقلها الذي يشبه الحجر.
دقيقتان تقريبًا واستمعت لصوتها من الخارج ترحب بأحدهم: اتفضل يا حبيبي اتفضل يا ألف نهار أبيض والله، اقعد يا حبيبي اقعد على ما اعملك كوباية شاي وأندهلَك هايدي.
ما إن استمعت هايدي لهذا تعرفت على الفور على هوية ذلك الضيف وبسرعة وقفت أمام مرآتها تمسح آثار الكحل الذي انهار معها فوق وجنتيها وكذلك آثار الدموع.
التقطت حجاب رأسها ولفته بسرعة على رأسها وبعشوائية وعادت لتجلس بهدوء مصطنع فوق الفراش متصنعة الانشغال بشيء ما بهاتفها.
حتى ولجت عليها إيمان التي انفرجت اساريرها وقالت بهمس وهي تشير للخارج: شوفتي جايلِك يا حزينة لحد عندِك ازاي، قومي فِزي اطلعيله، قومي!
أراحت ظهرها للخلف ببرود: مش عايزة اطلع، أنا اللي عندي قولته..
ولم تكن إيمان قد لاحظت التغيير الذي حدث بشكلها خلال تلك الدقائق التي تركتها بها، قرصتها بذراعها ووبختها بصوتها الخافت: بس يا بنت الجزمة أنتِ بلا كلام فاضي، قومي الراجل مستني برة!
تحسست ذراعها بألم وغيظ وخرجت إيمان بسرعة من الغرفة قبل أن تبدي هايدي أي اعتراض، وعادت الأخرى تقف أمام المرآة تتأكد من هيئتها للمرة الأخيرة بعد أن رسمت البرود والضيق على وجهها استعدادًا لرؤياه.
خرجت من غرفتها تحمل بين اصابعها طرف عبائتها ورفعت وجهها تجوب المكان حولها بحثًا عنه حتى وقعت عيناها عليه يجلس على واحدة من ارائك المنزل.
توسعت عيناها بدهشة وصدمة عندما رأت حالتها المزرية، يرتدي فانلة سوداء فوق بنطال المنزل القطني وكأنه قام من سريره لهنا دون أن يمر على المرحاض حتى.
وقع بصرها على قدمه فابتسمت وكتمت ضحكة كادت تخرج عندما رأته يرتدي فردة من حذاء والدته والأخرى من حذائه.
تقدمت منه بثبات وجلست أمامه فوجدته يطالعها بغيظ: ماشوفتكيش أنا يعني كدا، اضحكي يا حبيبتي اضحكي، يكش يارب تجربي اللي أنا فيه يابنت الحجة إيمان.
تنهدت وربعت ذراعيها متطلعة للحائط: لو سمحت قول اللي جاي عشانه عشان مش فاضية..
ابتسم عادل بتهكم: ليه هو أنتِ وراكِ حاجة غير انك تصدريلي الوش الألموتال ده؟؟
– أستاذ عادل!
تنهد مستندًا بمرفقيه فوق قدميه وتحدث بتعب: ارحمي أستاذ عادل بقى يا سِت!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مطار المنصورة الدولي بمدينة المنصورة الجديدة، جذب الحقيبة من يد زوجته وصاح بها وهو يعطيها طفله الصغير بغضب: خُدي الواد اللي بيزن ده وسكتيه، مش عايزين صداع وقرف على المسا.!
رمقته زوجته بغيظ وصاحت هي الأخرى وهي تربت على ظهر الصغير الذي لا يتوقف عن البكاء: وأنت يعني حبكت تجيبنا على ملَى وشنا كدا، اسكت يا سلطان لأحسن أنا مش طايقاك، اسكت!
دفع الحقيبة من يده لتقع أرضًا والتفت هادرًا بها: بقولك إيه يا نجاة أنا على أخرى ومش طايق نفسي! اظبطي نفسك ولسانك على ما أشوف ههبب ايه في ميتين ام ده يوم.
ثم نظر للصغير وصرخ بصوت عالٍ جذب انتباه المارة: سكتِ الواد ده بقى!!!
ابتعد عنهم وتقدم للأمام للخروج فانخفضت نجاة تحمل الحقيبة بيدها الفارغة بينما تمسك بإبنها بالاخرى قبل أن تلحق به.
وقف واضعًا الهاتف فوق أذنه بإنتظار أن يجيب أي من أخويه توفيق أو حامد، أشار لإحدى سيارات الأجرة وصعد أولًا ثم أشار لزوجته نجاة بأن تسرع بخطواتها قليلًا.
هبط السائق منتشلًا الحقيبة من يدها ليضعها بصندوق السيارة وهو يرمي لك الذكر معها بنظرات ممتعضة بينما جلست هي لجانبها دون أن تنطق ببنت شفة.
وانطلق السائق يشق طريقه في شوراع مدينة المنصورة المزدحمة حيث العنوان الذي أُملى عليه، وجلس هو بالخلف مع زوجته كل منهما يفكر فيما سيحدث بعد ساعات وكيف ستكون المواجهة.

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية بيت البنات)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *