روايات

رواية الدهاشنة 2 (صراع السلطة والكبرياء) الفصل الثاني عشر 12 بقلم آية محمد رفعت

رواية الدهاشنة 2 (صراع السلطة والكبرياء) الفصل الثاني عشر 12 بقلم آية محمد رفعت

رواية الدهاشنة 2 (صراع السلطة والكبرياء) البارت الثاني عشر

رواية الدهاشنة 2 (صراع السلطة والكبرياء) الجزء الثاني عشر

الدهاشنة 2 (صراع السلطة والكبرياء)
الدهاشنة 2 (صراع السلطة والكبرياء)

رواية الدهاشنة 2 (صراع السلطة والكبرياء) الحلقة الثانية عشر

عادت لمنزلها هائمة بهذا الآسر الذي استولى على عصابةٍ تفكيرها، وتربع بداخل قلبها، فتارة ترتسم على شفتيها ابتسامة تداعبها بخلسةٍ وتارة أخرى تنفض تفكيرها وتحاول الهاء عينيها بتأمل الخضرة مبدعة الجمال المنثورة على الجانبين أثناء تحرك العربة بين الحقول والمزارع بطريق عودتها للمنزل، وليتها تمكنت من السيطرة فمازالت كلماته المرحة تضحكها بين الحين والآخر، حتى أصبحت تتساءل عن كناية شخصيته الغامضة بالنسبة إليها؟!.
هل هو هذا الشخص الحازم المتفاني في عمله؟… أم هو ذاك الشخص الذي يمتلك قلبٍ أبيض وروح من ذهب تتبع تلك الإبتسامة التي لا تفارقه أينما كان؟.. بالطبع هو مختلف كلياً عما قد تظن به أنها تعلمه..
أفاقت “تسنيم” من غفلتها الشاردة بالآسر الوسيم على صوت توقف العربة، فإنخفضت عنها ثم عاونت والدها على اخلاء العربة من الحشائش ومن ثم صعدت للأعلى لتغتسل ومن ثم تذهب لثرايا “فزاع الدهشان” لتنجز عملها، توقفت قدميها عن متابعة الصعود، حينما نادتها والدتها التي تقطن بالدور الأسفل الخاص بالطهي وإستقبال الضيوف عوضاً عن الأعلى الخاص بغرف النوم، وتابعت بندائها وهي تضيف بحنقٍ:
_كده يا بت تطلعي من غير ما تسلمي على خالك!
ارتعشت اطرافها وهي تواجه ما هو أسوء من الموت، بالاستدارة للخلف لرؤية ملامحه التي قد تسوء حالتها الغير مستقرة، ومع ذلك ضغطت على شفتيها السفلية واستدارت وهي تردد بابتسامةٍ مصطنعة:
_أهلاً يا خالو… نورت.
لوى فمه الغليظ وهو يعدل أطراف شاربه الكبير، مشيراً بإصبعيه لشقيقته بحزنٍ مصطنع:
_شايفة بنتك مش مستعنية تيجي تسلم على خالها، لا بصراحة عرفتي تربي..
التهبت عين وولدتها بغضبٍ لا وصف له، فصاحت بها بعصبية شديدة:
_ما تنزلي يا بت هنا وتسلمي على خالك، أيه المياعة دي..
انقبض قلبها وهي تستمع لكلمات والدتها القاسية، فإن كانت لا تعلم ما الذي تواجهه ابنتها او ربما لم يستعب عقلها الطبيعي ما أخبرتها به سابقاً فهي بنهايةٍ الامر تمتلك الف عذر، ومع كل خطوة خطتها “تسنيم” تجاهه وكأنها تجني الشوك بين يدها فتدلى ليلامس بطن قدميها حتى انتهى بها الحال امامه، فمدت يدها المرتجفة من امامه وهي تبتسم بوجعٍ:
_ازيك يا خالي..
احتضنها بصورةٍ مفاجئة ومن ثم مرر يدها على ظهرها وكأنه يحتضنها بشوقٍ، وبأنفاسٍ كريهة ردد:
_وحشتيني يا بنت الغالية..
ابتعدت عنه “تسنيم” وهي ترتجف دون توقف، فمنحها نظرة دانيئة جابت كل أنحاء جسدها وهو يردد بشهوانيةٍ مريضة:
_كبرتي وبقيتي عروسة وعايزة الجواز اهو.
تعالت ضحكات والدتها وهي تجيبه بحنان:
_أيوه امال ايه وهنلاقي مين أحسن من خالها اللي يسلمها لجوزها وبيت عدالها..
انتقلت نظرات “تسنيم” الغاضبة تجاهها ومن ثم قالت بصوتٍ يحبس الدموع:
_ويسلمني هو ليه وأبويا عايش.. ربنا يديه طولة العمر ويباركلنا فيه.
ولم تترك المجال لسماع اللازع منهما، فصعدت للأعلى سريعاً وما أن ولجت لغرفتها حتى أغلقتها بالمفتاح لتسقط من خلفه باكية، منكسرة، محطمة الفؤاد… عادت تلك الحالة الشنيعة تهاجمها من جديد، فينخر البرد عظامها وكأنها في فصل الشتاء وليس الخريف، دقائق مضت عليها قاسية وهي تحاول بها استجماع شجعاتها للسيطرة عما يحاربها ولكن ماذا بيدها وهو أقوى منها ومن طاقتها الضيئلة بالمحاربة؟!.
********
توقفت سيارة “يحيى” أمام العمارة، فهبط ومن ثم فتح باب السيارة، ليجذبها برفقٍ، حملت “ماسة” الألعاب بفرحةٍ ثم لحقت به فما أن ولج بها للداخل، حتى وجد “إلهام” بانتظاره كما أخبرها هاتفياً، أشار لها “يحيى” قائلاً:
_خدي “ماسة” وخليها ترتاح وأنا هطمن على “حور” وهجي وراكم.
أومأت الأخيرة برأسها ثم جذبتها للأعلى، فقصد “يحيى” الشقة الخاصة بالفتيات، طرق عدة مرات، ففتح “عبد الرحمن” الباب، ثم قال:
_لحقت… ادخل.
ولج وهو يتمتم بغيظٍ:
_يعني هعرف اللي حصل ومش هرجع!
اتبعه، ثم أشار له على غرفة الضيافة، فوجد “أحمد” بالداخل هو الأخير، فقال:
_طمنوني “حور” عاملة أيه دلوقتي؟
رد عليه “أحمد” بحزنٍ:
_أحسن… بترتاح جوا في أوضتها فسبناها على راحتها وخصوصاً لأن الجرح في رجليها.
تفهم “يحيى” الوضع، فتغاضى عن فكرته بالدخول للإطمئنان عليها، فتساءل باهتمامٍ:
_هي جوه لوحدها، مفيش حد معاها؟
أجابه “عبد الرحمن” بهيام مع نطق حروف إسمها:
_”تالين” جوه معاها.
أومأ “يحيى” برأسه ثم عاد الصمت ليختزل معالمه من جديدٍ، والأخير يراقبه بتمعنٍ ولدقائق طالت لتكسر بسؤاله:
_أنت كويس؟ ، حصل حاجه ولا أيه؟
اتجهت نظرات “أحمد” تجاهه ليستكشف الأمر فور سماع عبد الرحمن، ابتلع “يحيى” ريقه بارتباكٍ من أن تسوء العلاقة بينه وبين أحمد مجدداً بعد سماع الشكوك التي تراوده وبالأخير يظل مجرد شك، فمن الممكن أن يكون أصابها دور برد عادي لذا كان حريصاً حينما أجابه:
_مفيش، الواحد حزين بس على “حور” طول عمرها جدعة وبتخدمنا من غير ما نطلب منها ده.
أجابه “عبد الرحمن” بتأييدٍ:
_ومن سمعك كلنا زعلانين عشانها بس الحمد لله الدكتور طمنا وقالنا الجرح مش عميق يعني أسبوع أو إتنين وهتبقى زي الفل.
هز رأسه وهو يردد:
_ إن شاء الله.
********”
الخروج من هذا المنزل الذي أصبح يسكنه هذا البغيض بات من أسمى أمنياتها، ولحسن حظها بأنها لم تخفي عن والدتها أمر عملها بمصنع عائلة “الدهاشنة” فبات أمر خروجها من المنزل أمراً عادياً، وأخيراً بعد طريقها الطويل وصلت أمام البوابة الضخمة التي تحمل لقبهم باعتزاز وكأنه شيئاً ثمين، لعقت شفتيها بلعابها بارتباكٍ، ومن ثم فتحت البوابة لتدلف للداخل، غمرها الاسترخاء وهي تتأمل المساحات الخضراء التي تحد هذا المنزل الضخم، الذي على الرغم من ثراء أهله الا أنه مازال من الطراز القديم، وكأن أهله يسعدون بقدم طرازه كتذكار بأعمدة عائلة “الدهاشنة” وأصولها التي تمتد للجد الأكبر ليليه الابن ومن ثم “فزاع الدهشان” وصولاً لفهد ولاحقاً بالآسر..
راق لها تمسكهم بالطراز القديم كثيراً، فقد رسمت صورة معاكسة لما ستجده بالداخل، ظنت بأنها ستجد فلة أو قصراً يميل لطراز البندر، انتبهت “تسنيم” لذاتها الشاردة، فاستكملت طريقها للأعلى، حتى طرقت الجرس العالق على الحائط الجانبي وانتظرت قليلاً حتى فتحت أحدى الخادمات حيث كانت كبيرة بالعمر ويبدو عليها الوقار، فتساءلت باستغرابٍ لرؤية تلك الفتاة للمرة الأولى، فعلى الرغم من الصداقة القوية التي تجمعها بحور الا أنها لم تفكر بزيارتها يوماً بمنزلها:
_أجدر أساعدك في حاجه يابتي؟
أجلت صوتها قائلة بارتباكٍ:
_أنا من قسم المحاسبة الخاص بالمصانع وعندي معاد مع بشمهندس “آسر”..
أومأت الخادمة برأسها عدة مرات، وهي تجيب بتذكرٍ لما قاله:
_آيوه ايوه يا الف مرحب بيكي يا حبيتي، اتفضلي عما أدي البشمهندس خبر.
اتبعتها على استحياء فأشارت لها على غرفة بالأسفل، ففطنت بأنها غرفة المكتب، لم تتردد كثيراً وفتحت بابها ثم ولجت للداخل، لتختار الجلوس على المقعد المقابل للباب الذي تركته مفتوحاً على مصراعيه، انتبهت”تسنيم” لامرأة فاتنة الجمال، على ما يبدو بالعقد الرابع من عمرها، تدلف من الباب الخارجي من المنزل وعلى ما يبدو عليها الإرهاق الشديد مما تحمله من أكياس ثقيلة، فرفعت صوتها تنادي:
_”نعمة” أنتي فين، تعالي خدي مني..
لم تجيبها الخادمة فكانت بالأعلى تنادي “آسر” لم تتردد “تسنيم” في مساعدة أحداً عاجز يحتاج لها، فأسرعت تجاهها لتحمل الأكياس التي كادت بالتساقط أرضاً، رفعت “رواية” رأسها لتشكر من عاونها فانكمشت معالمها بذهولٍ من تلك الفتاة الجميلة، ابتسمت “تسنيم” من تعجبها الشديد ثم قالت:
_أنا “تسنيم” بنت عم “فضل” وبشتغل في قسم المحاسبة اللي تبع بشمهندس “آسر”.
ارتسمت بسمة رقيقة على وجه”راوية” فقالت بترحابٍ:
_يا أهلاً وسهلاً بيكِ يا حبيبتي..
ثم وضعت الأكياس التي تحملها على الأريكة، لتجذب الأغراض من يدها قائلة بحرجٍ:
_طب والله فيكِ الخير، عنك دول تقال أنا خلاص شلت الأكياس من إيدي.
تراجعت بجسدها للخلف وهي تجيبها بتصميمٍ:
_لا مش تقيلة خالص، قوليلي بس أحطهم فين وأنا مع حضرتك.
اتسعت ابتسامتها، فأشارت بيدها على الرواق البعيد عنهما:
_طيب مدام مصممة المطبخ من هنا وأنا وراكي أهو.
منحتها ابتسامة صغيرة ثم اتجهت بالاتجاه الذي أشارت لها عليه، فحملت “رواية” باقي الأغراض ثم لحقت بها بالطرقة الطويلة، حتى وصلوا سوياً للمطبخ، فوضعت الأغراض من يدها على الطاولة لتصيح بضيقٍ شديد لمن تقفن أمامها:
_أيه يا جماعة بنادي من الصبح أنتوا نايمين على ودانكم ولا أيه؟
نهضت “ريم” عن الأرض، لتجفف يدها من بقايا صلصة الأرز المحشي الذي تعده بذاتها، ثم أسرعت لتحمل الاغراض من يدهما وهي تبرر لها بلهفةٍ:
_والله يا حبيبتي ما سمعتك، معلشي.
استدارت “نادين” تجاهها بيدها المتسخة بالصابون، لتخبرها بسخريةٍ:
_ورحمة الرغوة الطاهرة دي مسمعناكي يا غالية..
تعالت الضحكات فيما بينهما، حتى “تسنيم” ابتسمت هي الاخرى وهي تتايع حوارهما بمحبةٍ، سُلطت انظار “نادين” تجاهها، فتساءلت بدهشةٍ:
_مين المزة الجامدة دي؟
وضعت “تسنيم” الأكياس من يدها بحرجٍ من تعريفها عن كناياتها لأكثر من مرتين، فعرفتهم بها “رواية” بالنيابة عنها، تبادلت “نادين” السلام الحارق معها، أما “ريم” فقالت بابتسامةٍ هادئة:
_كان ودي أسلم عليكي يا حببتي بس زي مانتي شايفة اكده ملبوخة بالمحشي والوكل لازمن يبقى جاهز قبل المغرب..
بتذكر أضافت “رواية”:
_يا خبر هو انتوا لسه مخلصتوش؟
أجابتها”نواره” وهي تدنو من المطبخ:
_أنا أهو خلصت المعمر والفراخ شويتها برة بالفرن..
قالت “ريم”:
_لا انا لسالي شوية، بس في أمل الحلتين اللي على النار قربوا يستوا..
اضافت” نواره”:
_طب اني هجهز العصاير قبل ما الضيوف يوصلوا..
اقتربت “تسنيم” من ريم ومن ثم انحنت لتجلس مقابلها ثم شرعت بمساعدتها، فقالت الاخيرة باعتراضٍ:
_بتعملي ايه يا بتي ميصحش.
ردت عليها بابتسامة لطيفة:
_حضرتك زي والدتي ولو اتحطت بالموقف ده اكيد هساعدها وبعدين انا بستنى البشمهندس لما بنزل هسيبك تكملي وهخرج.
ابتسمت ريم باعجابٍ شديد:
_شكلك بنت أصول يا بنتي والله.
قالت “رواية” بثناء:
_ومش هتبقى بنت اصول ليه وهي بنت عم “فضل” الراجل الطيب اللي العيبة مبطلعش منه.
ثم أضافت قائلة وهي تهم بالخروج:
_ هطلع أغير هدومي وأجي أساعدكم.
وبالفعل اتجهت للأعلى، فرددت”نادين” بتعبٍ:
_ربنا هيتوب علينا أمته بقا من الاكل اللي يكفي 100فرد ده، كل يوم ناس داخلة وناس طالعة..
اجابتها “نواره” بعتاب:
_ربنا يجعل بيت الكبير عامر بالخير دايماً، تعب الوقفة والطبيخ بيروح لما الناس تاكل وتنبسط.
تابعت “تسنيم” الحوار المتبادل فيما بينهما باعجابٍ شديد، فشعرت بألفة عجيبة وهي تستمع لحديثهما، شعرت بالدفء والحنان والحب الذي ينتقل فيما بينهما، شعرت لوهلة وإنها تجلس بين أفراد عائلتها، الابتسامة لم تفارق وجهها..
هبط “آسر” للأسفل، فإتجه لغرفة مكتبه، فانكمشت ملامح وجهه حينما لم يجد سوى حقيبتها، فاستدار ليتساءل باستغرابٍ:
_هي فين يا “نعمة”؟
قالت وهي تتفحص الغرفة بدهشةٍ:
_كانت هنا يا بشمهندس والله.
خرج من الغرفة باحثاً عنها، فاستمع لصوت الضحكات المرتفع القادم من الرواق، سلكه” آسر”حتى وصل للمطبخ، فوجدها تجلس جوار “ريم” تعاونها باعداد الطعام والابتسامة ترتسم على وجهها برقةٍ سلبت زمام تركيزه، فتسلل لمسمعه صوت “نادين” المتساءل:
_بتعمل أيه هنا يا آسورة.
انتبهوا جميعاً اليه، فانتصب بوقفته ثم قال بجديةٍ يحاول الإتسام بها:
_هنقضي الشغل في المطبخ ولا أيه؟ ، لو كده تمام أنا معنديش مشكلة بس معتقدش الكرنب وورق العنب هينجز الأوراق اللي مستانية توقيع دي!
ضحكت “ريم” ثم قالت:
_والله حبناها اوي، ما شاء الله عسولة وبنت ناس.
منحتها “تسنيم” ابتسامة ممتنة، ثم نهضت لتغسل يدها جيداً ومن ثم وقفت مقابل هذا الهائم الذي تناسي كونه يحجب الباب بجسده، عبث أصابعها بفستانها الأسود الطويل بتوترٍ، التمسه من نظرات عينيها، فانتبه لوقفته ليتنحى جانباً مشيراً لها بالمرور، أسرعت بتخطيه لتتجه للخارج، فسلكت منعطف خاطئ من فرط ارتباكها، التقطت اذنيها صوته الرخيم الذي أسيل أغورها، وهو يناديها:
_”تسنيم”.
وقفت محلها ثم استدارت لتقابله بوجهها الأحمر من فرط خجلها، فأشار بيديه على الباب الذي تكاد على تخطيه، عقدت حاجبيها بعدم فهم، فقال بابتسامةٍ صغيرة:
_من هنا.
تطلعت لما يشير اليه، فازداد ارتباكها وتوترها أضعافاً، اتبعته لغرفة مكتبه فما أن ولجوا سوياً حتى أغلق الباب من خلفهما، فتوقفت عن الخطى ثم قالت بخوفٍ شعر به “آسر” بوضوحٍ:
_حضرتك قفلت الباب ليه، سيبه مفتوح أفضل.
لثاني مرة يرى الخوف يدمس عينيها لسببٍ ظنه عادياً بالنسبة لفتاة وشاب يجمعهما غرفة واحدة، ومع ذلك فتح الباب على مصرعيه مجدداً وهو يردد بهدوءٍ:
_أنا بس كنت حابب اننا نركز لأن هنا ناس داخلة وناس طالعه..
أومأت برأسها بتفهمٍ، فأشار لها بالجلوس، جلست وهي تراقبه بدهشةٍ حينما رفض الجلوس على المقعد الأساسي لمكتبه وفضل الجلوس أمامها، حاولت أن تشغل ذاتها بفتح الحقيبة وهي تعدل حجابها بارتباكٍ، أخرجت الملفات جميعاً فكادت بعضها بالسقوط أرضاً، فنهض سريعاً لينتشلها منها مردداً بهمسٍ:
_حاسبي.
قربه منها جعل جسدها يرتجف بصورةٍ غير طبيعية، فجذبت الملفات التي يساندها بيديه ليشعر بتلك الرجفة الغريبة، فوضعتهما فوق الطاولة الصغيرة التي تفصلها عنه، عاد “آسر” للجلوس محله وهو يتطلع لها باستغرابٍ، قدمت له أول ملف، فشغل ذاته بقراءته قبل أن يوقعه، وأحياناً كان يراجع على الحسابات من أمامه..
طرقت “نعمة” على الباب، ثم تقدمت منهما لتضع صينية العصير على سطح المكتب وقبل أن تغادر أغلقت الباب من خلفها كما اعتادت الدخول لأي غرفة من غرف المنزل، انقبض قلب “تسنيم” بشكلٍ مبالغ به، فوزعت نظراتها بين الباب تارة والعصير الموضوع من أمامها تارة أخرى، كان يراقبها من أسفل الملف الموضوع من أمامه، فنهض ليشير له بتهذبٍ:
_أيه رأيك نقعد برة في الحديقة جنب الاسطبل وبالمرة أعرفك على “همام” و”مهجة”.
كانت تعلم بأنه اقترح ذلك للخوف الذي يستحوذ عليها وراق لها موقفه الرجولي كثيراً، فأعادت الملفات للحقيبة مجدداً، بينما حمل “آسر” العصير ليرافقها للخارج، فسألته باستغرابٍ:
_مين “همام” و”مهجة”دول؟
ابتسم وهو يردد:
_لما نوصل هقولك.
أشارت له برأسها بهدوءٍ ثم اتبعته للخارج، فوقفت على مسافة بعيدة عنه، تراقبه وهو يضع الطاولة المستديرة جوار الاسطبل ويعاونه أحد العمالين بالثرايا، فوضع الكراسي ثم أشار لها بالاقتراب، اقتربت منه ووضعت الحقيبة عليها فأشار بيديه على الفرس الاصيل من جواره، لتتبعه لهجة فخر واعتزاز:
_ده يا ستي “همام” واللي جنبه دي “مهجة”..
تعلقت انظارها بهما فأحبتهما كثيراً، مررت يدها على جسد الفرس الأبيض وهي تتساءل بترددٍ:
_شكلك بتحب الخيل.
قال بشغفٍ:
_جداً، وبالأخص”همام”.
وقال كلماته وهو يمرر يديه على جسده، ثم تابع بقول:
_مامته ماتت وهي بتولده وكان ضعيف جداً بس أنا كنت جنبه ومسبتوش غير لما بقا زي ما أنتي شايفة.
ربما لم تستمع لنص حديثه، فكانت شاردة به وهو يتحدث إليها، تمنت لو بقي العمر بأكمله يتحدث وهي تستمع إليه هكذا، باتت لا تعلم ما الذي يصيب قلبها بوجوده، بالرغم من نفورها من صنف الرجال جميعاً، ثمة شيئاً بداخلها يخبرها بأنه ليس مثلهما، بل منفرد وإختلافه تكتشفه يوماً عن يوم، صفقها صوته الذي ارتفع حينما ردد:
_” تسنيـــــــــم”
تمتمت بشرودٍ:
_هاا..
ابتسم ساخراً:
_ها أيه بناديكي من بدري.. تعالي يلا نخلص الملفات اللي حمضت دي.
ابتسمت واتبعته لتجلس مقابله فشرعوا بالعمل سوياً..
**********
انتشل يديه من بين يدها وهو يردد بتعصبٍ شديد:
_خبر أيه يا “رواية” ساحبة بقرة وراكي وأيه كل الرسايل اللي على التليفون دي!
كبتت ضحكاتها وهي تشير له بالصمت قائلة بحماسٍ:
_ما انت مش هتطلع معايا غير كده والموضوع مهم ومستعجل.
تطلع للشرفة ثم قال ساخراً:
_والموضوع المهم هيتقال إهنه!
هزت رأسها بدلالٍ ومن ثم أشارت بيدها على الحدائق وبالأخص المكان المجاور للاسطبل، فتطلع “فهد” تجاه ما تشير، فوجد ابنه يجلس جوار فتاة ما ويتابع عدد من الأوراق الموضوعة من أمامه، فقال بعدم فهم:
_أبص على أيه، ولدك وبيشتغل أيه اللي يشد في كده؟!
لوت شفتيها بتذمرٍ:
_بالذمة بصتك دي قدرت تحلل الموقف، أنت طول عمرك مش مدي لنفسك فرصة تتمعن وتتفحص الامور.
ابتسم وهو يداعبها بالحديث المرن:
_طب قوليلي انتي شايفة أيه؟
هام هو بها وهامت هي بما تراه على متن مترات منها:
_شايفة نظرات اعجاب في عين ابنك، وإن يكن مش حب بس على الاقل البنت مناسبة ليه يا “فهد” لما تتكلم معاها هترتحلها جداً.
ترك التطلع بها ثم تساءل بجدية:
_هو انتي تعرفيها؟
كبتت ابتسامته من التحليل القاتم التي ستستمع له عقب ما ستتفوه به، فقالت:
_آه.
منحها نظرة شك فقالت بتوضيحٍ:
_لسه متعرفة عليها من شوية، بت زي العسل يا فهد جمال وأدب ده كفايا انها بنت عم “فضل”.
اتنقلت نظرات” فهد” تجاههم ثم قال بعد صمت وتفكير:
_أنا معنديش مانع بس ابنك جاهز للخطوة دي؟… يمكن ميكنش بيفكر بيها بالشكل ده من الاساس..
ابتسمت بفرحةٍ حينما تابع الحديث معها بلهجتها، فيزداد عشقها له أضعافاً حتى ولو أصبحت على عتبة الموت، انتبهت من غفلتها وهي تخبره:
_متقلقش هتكلم معاه وهعرف اللي في قلبه بالظبط.
منحها ابتسامة مهلكة، ومن ثم طبع قبلة صغيرة على جبينها ليهمس بحبٍ:
_طيب يا حبيبتي اتكلمي معاه ولو كده هدخله انا ونشوف هنعمل أيه!.
أومأت برأسها بفرحةٍ لمسها “فهد” الذي ابتعد ليتجه للمندارة، فتابعها وهي تتطلع لآسر بفرحة وتمنى، فابتسم رغماً عنه وهو يهمس بصوتٍ لا يسمعه سواه هو:
_يارب يفرحك دايماً يا نور جلبي.
**********
انتهت “تسنيم” من عملها، فنهضت ثم جمعت الملفات بحقيبتها، قائلة بابتسامةٍ صغيرة:
_كده كل الورق تمام، عن أذن حضرتك.
وكادت بتخطيه، فأسرعت “رواية” بالاقتراب منها ثم قالت بحزمٍ:
_على فين ان شاء الله؟ … أنتي مش هتخطي خطوة بره البيت ده من غير ما تتغدي معانا.
كادت بأن تعترض سريعاً، فوجهت “رواية” حديثها لابنها قائلة بغضبٍ:
_من أمته وضيوفنا بيمشوا من غير الواجب يا “آسر”..
رفع كتفيه وهو يردد بقلة حيلة:
_معاها معتقدش، منك ليها أوكي.
لم تستعب ما قاله، ولكنها لم تبالي بل جذبتها للداخل عنوة، فقالت تسنيم:
_والله ما هقدر أنا أكلت قبل ما أجي.
قالت بصرامةٍ:
_مفيش حد بيدخل هنا وبيخرج كده، وبعدين يا ستي لمتنا هتفتح نفسك مش كده ولا أيه يا آسر.
رغم تعجبه لمعاملة والدته المميزة لها الا انه قال:
_صح… اللمة بتجوع إساليني أنا.
وجدت ذاتها تنخضع اليها، فلحقت بهما للداخل على استحياءٍ فلا مجال للهروب من عند وضع طرفيه أمام فرد من الدهاشنة.
******
شعرت بإختناق صدرها، فلم تعد تجد ما يخفف عنها، أو يجرف تفكيرها بعيداً عن هذا الرجل الغامض الذي ظهر لها من العدم، فتمكن مما فشل معشوق طفولنها من فعله، لم تعد تعلم ما الذي يتوجب عليها فعله، فلم تعد تملك التحكم بعقلها الذي يفكر به كل دقيقة، وكلما حاولت تشتت ذهنها بالتفكير بخطيبها تعود للتفكير به من جديدٍ، جلست”روجينا” على الرمال المترسلة على مياه البحر، تتأمل الأمواج الثائرة من أمامها وكأنها تحاربها او تذكرها بأن ما تفكر به لن يحدث أبداً، وكأن هناك مصباح لتحقيق الأمنيات، او ربما حورية تتدلل بين صفحات البحر فاستمعت لدموع تلك الفتاة البائسة، الحائرة، فمنحتها تحقيق لامنيتها، وها قد أتي صوته الرجولي العميق من خلفها يردد:
_مش قولنا نبعد عن اليخوت والبحر، ناوية تنخطفي تاني ولا أيه؟
فتحت عينيها على مصرعيها ثم التفتت للخلف لتجده يقف مقابلها بطالته التي لم تفشل يوماً بالسيطرة عليها، نهضت عن الرمال وهي تردد بابتسامةٍ مشتتة:
_انت!
وضع “أيان” يديه بجيوب بنطاله القصير، ومن ثم اقترب وهو يردد:
_أيوه أنا..
ثم منحها نظرة أربكتها قبل أن يستطرد:
_اتعودي انك هتشوفيني كل ما هتتهوري وتركبي يخت غلط او تفكري تقربي من المياة.
ابتسمت على دعبته اللطيفة وإن كانت تحمل معنى مبطن بقلقه عليها، ربما يشعرها بأنها تعني له، انتبهت لذاتها الهائمة به كالبلهاء، فلعقت شفتيها بارتباكٍ، ساد الصمت ليقطعه “أيان” حينما قال بخبثٍ:
_شكلك مش مرتاحة لوجودي، أشوفك بعدين.
وكاد بالمغادرة، فركضت لتجتاز طريقه وهي تردد بلهفةٍ:
_لا بالعكس أنا فرحت إنك هنا.
توقف عن المضي قدماً ثم تطلع لها فوجدها تغلق عينيها باحراجٍ شديد ومن ثم سمحت لذاتها بالجلوس أرضاً، ثم أخذت تردد بتشتت:
_أنا مش عارفة مالي بجد، من ساعة ما شوفتك وأنا متلخبطة..
والتقطت نفس طويل قبل أن تتابع بضيقٍ:
_بحاول أخرجك من دماغي مش عارفة، ومستغربة لاني مشفتكش غير كام مرة.
ورفعت عينيها اللامعة بالدموع تجاهه وهي تشير بأصبعها تجاهه:
_أنا مخطوبة وهتجوز كمان شهرين والمفروض اني بحب خطيبي، طب ليه بفكر فيك دايماً.
ابتسم “أيان” وهو يتابعها بمكرٍ وعدم تصديق لنجاحه السريع بخطته التي لم تكلفه عناءٍ، انخفض لمستواها ثم عاونها على الوقوف، ليمنحها نظرة واثقة، كسرها بعد دقيقة من الصمت حينما قال:
_هتصدقيني لو قولتلك اني لما شوفتك حسيت بشيء غريب.
ورفع شفتيه بعدم اكتثار:
_يعني واحدة بتتعرض لاعتداء وساعدتها، واتعرضت للموت قدام عيوني وجايز لو نزلت المية وراها بوقت زي ده مكنتش أطلع حي وبالرغم من كده خاطرت بحياتي وانا معرفش ايه اللي ممكن يربطني بيها.
ثم ابتسم بمكرٍ:
_بس ده ميمنعش انك طلعتي جميلة.
ابتسمت “روجينا” ثم قالت:
_أنا مش فاهمه انت عايز تقول ايه؟
اعتلت معالمه الجدية وهو يردد بثباتٍ مخيف:
_اللي قصده بكلامي أن القدر بيلعب لعبته احياناً، أوقات بنقابل أشخاص وبيختلط علينا الاعجاب بالحب، وأحياناً بينفرض علينا كره أشخاص من قبل حتى ما بنشوفهم، يمكن لو اتقابلوا في ظروف تانية غير دي كان ممكن يكون في أمل ان الحياة ما بينهم تبقى طبيعية..
شتتها كلماته الغامضة، فودعها بابتسامة خبيثة وهو يشير لها بيديه:
_الجو برد، أشوفك بعدين.
وتركها ملبكة فيما قاله وغادر والابتسامة تتسع وجهه المنتصر!
********
تناولت الطعام في جو من الالفة، وسط نساء الدهاشنة، ارتحت للحديث برفقة “رواية” وريم، وأحبت “نادين” بمرحها الذي يصنع البهجة، ودت لو جلست معهن العمر بأكمله، الى أن حان وقت الرحيل، هبطت “تسنيم” من الأعلى لتغادر فانخطف لونها وتشنجت قدميها عن المضي قدماً حينما رأت أمامها صورة معلقة تحمل أخر شخص توقعت رؤياه!!
تلك الفتاة الهزيلة تحمل بقلبها ضغينة من الاسرار والمتاهات التي جعلتها أسيرة مقيدة، وهاجسها كره الرجال حد الموت، فلم تواجه بشاعة رجل واحد بل نخر القدر عظامها لتكون الشاهدة الوحيدة على وقعة ستهز أرجاء منزل كبير الدهاشنة فماذا اذا اصبحت منهما؟ والسؤال المهم هل ستتمكن بالبوح بالسر المرتبط بصاحب تلك الصورة، لم تكن الاجابات الكافية لمثل تلك الاسئلة اللعينة فسقطت أرضاً بباحة منزل الكبير “فزاع الدهشان” فاقدة للوعي ولتلك الحقيقة البشعة!!…

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية الدهاشنة 2 (صراع السلطة والكبرياء))

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *