روايات

رواية بيت البنات الفصل التاسع والعشرون 29 بقلم أمل صالح

رواية بيت البنات الفصل التاسع والعشرون 29 بقلم أمل صالح

رواية بيت البنات البارت التاسع والعشرون

رواية بيت البنات الجزء التاسع والعشرون

بيت البنات
بيت البنات

رواية بيت البنات الحلقة التاسعة والعشرون

بعض العقول قد تحتاج لصدمة قوية كي تستفيق من غفلتِها، صدمة بمثابة ضربة عنيفة تُدمر غشاوة أبصارهِم وتُريهم مرارة الواقع وحقيقته المفجعة.
ركضت في طرقات المشفى وهي تتلفت حولها مخترقة بعينيها كل غرفة وكل ركن بالمكان، تعثرت عشرات المرات وكادت تقع لولا استعادتها لتوازنها بسرعة.
لمحت من على بُعد بضعة أمتار شهيرة زوجة حامد وهي تخرج من إحدى الغرف “المرحاض” تجفف يدها بينما تتحرك في الممر الجانبي لهذه الغرفة التي خرجت منها، سرعان ما زادت من سرعة حركتها وركضت نحوها دون أن تنطق بكلمة واحدة أو تنادي حتى.
فُزعت شهيرة بوقوف منة المُفاجئ أمامها وانتفضت تعود بضع خطوات للخلف وهي ترمقها بأعين متسعة جراء صدمتها التي تلاشت رويدًا وحل مكانها الضيق والغضب.
أطبقت منة بيدها على ذراع شهيرة بلهفة وأعينٍ جاحظة بعد أن ابتلعت ريقها وتحدثت بكلمات عشوائية غير مرتبة: نرمين .. بنتي، هي كويسة؟؟ فين؟؟
عقدت شهيرة حاجبيها بتجهم واكفهر وجهها وهي تنفض يدها عنها تحدق بوجهها بامتعاض ونفور، وتابعت سيرها للأمام حيث البقية دون أن تجيبها بما يريح قلبها ويهدأ من روعها..
ظلت منة واقفة في مكانها لبرهة من الزمان وكأن الجزء المخصص للإستيعاب بعقلها قد توقف، وبسرعة حركت قدميها تلحق بها: لأ استني! بنتي … بنتي عايشة يا شهيرة مش كدا؟!!
بللت شفتيها الجافة والمتشققة ونظرت لها برجاء واستعطاف، تنتظر جوابها على أحر من الجمر، تنتظر أن تُريحها برَدٍّ يُثلج صدرَها ويخمد نيرانه المتأججة.
وما كان من شهيرة سوى أن رمتها مرة أخرى بذات النظرة المُشمئزة ولكن تلك المرة أجابتها بحدة وانفعال: بنتِك؟؟ دلوقتي بقت بنتِك؟؟ افتكرتي إن ليكِ ضنا دلوقتي يا منة؟!!
ترقرقت الدموع بمقلتي شهيرة وهي تستطرد بحسرة وحزن على تلك الفتاة المسكينة التي اعتبرتها يومًا ابنة لها: بس بعد ايه؟؟ بعد إيه يا منة؟!! حرام عليكِ والله أنتِ وأبوها، حرام عليكوا اللي وصلتوها ليه..
ونفت برأسها وهي تنظر ناحية جمع الرجال بنهاية الطُرقة لتستكمل: بقالها أكتر من ٣ ساعات في أوضة العمليات، دكاترة خارجين ودكاترة داخلين وكلهم بيجروا ولا حد فينا عارف ايه اللي بيحصل، ولسة لحد دلوقتي محدش طمنا عليها…
عادت برأسها لتنظر إلى تلك التي تستمع وأسواط الألم تهبط فوق قلبها تُدميه وتزيده آلامًا فوق آلامه، ينهال الدمع من عينيها دون توقف كالشلالات ويرتفع صدرها ويهبط في حركات متتالية سريعة نتجت عن شهقاتها وبكائها: ربنا بيعاقبِك على اللي عملتيه في الناس، يمهل ولا يهمل … ربك كبير أوي يا منة…
وأشارت حيث الغرفة التي يقف الجميع أمامها تتابع بقسوة: ذنبها في رقبتِك أنتِ وسلطان لو حصلها حاجة، ادعي تطلع منها عايشة عشان تعرفوا تكفروا عن اللي عملتوه فيها.
تركتها شهيرة وسارت نحوهم بعد أن ألقت تلك الكلمات التي كانت تجوش بصدرها في وجه منة، جلست فوق المقعد المجاور لبسملة التي جفت عيناها وذبلت من كثرة البكاء، الصمت يحوم حولهم وينتشر في المكان ولم يقطعه سوى صوت شهقاتها الذي يخرج من حين لآخر مصاحبًا لصوت أنينها.
مدت شهيرة يدها نحوها ماسحة فوق فخذها دون أن تتحدث، فلم يعد الحديث يُزيد أو يُنقص من ارتياعهم وخوفهم، اعتادوا تلك الكلمات كـ” لا بأس” و”كل شيء سيكون على ما يرام” حتى صارت بلا معنى.
جرّت منة قدميها واقتربت منهم وعينها مثبتة على غرفة الجراحة المغلقة، لا ترى الجميع من حولِها وثَبُتَ وجه ابنتها الحبيبة فقط أمام وجهِها.
كان حامد أول مَن انتبه إليها، ارتفعت وتيرة تنفسه وبات صوت أنفاسه مسموعًا بشكل واضح للجميع، اندفع من مجلسه باهتياج وتقدم منها والغضب يعميه ليقف أمامها صارخًا: أنتِ بتعملي ايه هنا يا ست يا ** أنتِ، ليكِ عين تيجي كمان؟!! يا بجاحتِك يا شيخة…
انتفض توفيق تاركًا مكانه هو الآخر بسرعة مقتربًا من أخيه الذي ينسى كل شيء عند الغضب وكذلك اقترب جميع الواقفين ليلتفوا حوله، تحدث توفيق بهدوء وهو يجذبه من كتفه للخلف: صلي على النبي يا حامد، اقعد دلوقتي وسيبها عشـ…
بتر حديثه وقطع كلامه عندما أبعد حامد يده عنه صارخًا به هو الآخر: أسيبها؟؟ دا بعينها الـ** دي، والله في سماه ما هخليها تقرب منها سَنتي واحد، خليها تتلوى وتتحرق من قهرتها..
– تـوفـيـق!
صوتٌ قطع هذا الجدال القائم من بعيد وهو ينادي بإسم توفيق مقتربًا منهم والرعب يتشكل على معالم وجهه الأربعينية، لم يكن سوى “سلطان” الذي ما إن علم بما حدث لإبنته وغالية قلبه حتى ترك ما بيده وتجاهل جرح رأسه ومرضه وهرول مسرعًا لهنا والخوف يأكل في قلبه أكلًا..
وقف أمام هذا الجمع – المجهول سببه بالنسبة إليه – وحدق بوجه توفيق الذي ارتاح القلق على وجهه جراء ما يحدث وما سيحدث بوجود منة وسلطان الذي سيزيد من غضب أخيه – حامد – الذي إن طال شيئًا فلا يتركه إلا وهو أطلال وحطام.
تحدث سلطان بصوت مرتجف واعين محمرة أثر دموع عينيه المحتجزة داخلها: نرمين .. بنتي يا توفيق!
وأخيرًا هبطت أولى دمعاته التي سحبت خلفها بقية العائلة ليشكلوا مسارًا من الدموع انهمرت فوق وجهه، اقترب سلطان خطوة من أخيه توفيق وكرر بصوت منكسر وضعف: بنتي مالها يا توفيق، ايه اللي حصلها؟؟
تنهد توفيق وهم على اجابته بإختصار ولكن خطوات حامد نحو سلطان جعلته يعيد إغلاق فمه من جديد، تفاقم غضبه واهتاج ما إن رأى وجهه فلم يستطع السيطرة على انفعالته وردة فعله وتناسى المكان والزمان والأشخاص المحيطة به ولم يعد يرى سوى ذلك الذي لُقب بالأب بمجيئها لهذه الحياة ولم ينل من هذا اللقب سوى أحرفه.
جز حامد فوق أسنانه ليُصدر صوتَ صرير أقلق الجميع ورفع يده ملتقطًا تلابيب ملابس سلطان بين يديه يهزه بعنف هادرًا: ايه اللي حصلها؟؟ يهمك أوي كدا يابن أبويا؟؟ أنت المفروض بني آدم أنت؟!! دانت شيطان ومحسوب وسط البني آدمين غلطة..
ودفعه مشيرًا للطريق خلفه بسبابته وبنبرة مهددة ومحذرة قال: تاخد بعضك وتغور في ستين داهية تاخدك، وحسك عينك المح طيفك هنا تاني ولا في البيت عندنا تاني عشان ورحمة أمي يا سلطان لأكون مخلص عليك فيها ومطلع روحك في ايدي.
أشار بذراعه لباب غرفة العمليات المغلقة وتابع دون أن يشيح بوجهه عنه بل أخذ يوزع نظراته بينه وبين منة: ولما تخرج بالسلامة تنسوا إن ليكوا بنت خالص، نرمين بالنسبة ليكم بَح خلاص، ولا هسمح لحد فيكم يشوفها من بعيد حتى، هاخدها تعيش معايا في البيت، وسط ناس بتحبها بجد مش ام وأب أنانيين ناسيين وجود بنت ليهم..
ثبت بصره على وجه أخيه وتابع متهكمًا: خلي البيه عايش على قفا مراته اللي فضلها على بنته وعيليتها اللي شوية وهتزهق منك..
ثم نظر لمنة بقسوة: وأنتِ خليكِ عايشة في القرف اللي أنتِ فيه ده لحد ما ربنا ياخدِك ونخلص.
رفعت منة يدها ومسحت وجهها من الدموع بعنف ثم تحركت بهدوء وجلست فوق احد المقاعد وتحدثت ببرود رغم قلبها الذي تفتت لأجزاء صغيرة بالداخل: مش هتحرك من مكاني ولا هروح في حتة إلا لما أطمن على بنتي..
واعقب سلطان على كلماتها بصوت عالٍ غاضب: ولا أنا، اللي أنت بتمنعنا عنها دي بنتنا، ملكش الحق تعمل اللي بتعمله ولا تقول اللي بتقوله، وأنا ليا لسان برضو وبعرف أتكلم وأقدر أرد عليك الصاع صاعين وأقف في وشك..
ورفع شفته يرمقه بنظرات مستخفة: لتكون فاكر يعني إنك خوفتني وإن البُقين اللي قولتهم دول هيمشوا عليا، لأ يا حامد … مش متحرك من مكاني غير وأنا معايا بنتي وابقى وريني هتعمل ايه ساعتها…
ختم حديثه المُتحدي ونظر إلى حامد يترقب الجواب على ما قال فأتاه الرد فوري ومباشر على هيئة لكمة قوية عرفت طريقها لوجهه جعلته يرتد للخلف شاعرًا بدوار قوي يعصف به فأسند كفه على الحائط بجواره وأغمض عينيه في محاولة لإستعادة توازنه.
شهقت شهيرة بفزع عقب فعلة زوجها وصرخت باسمه وهي تقترب منه: حامد!
تقدم حامد تلك الخطوات الفاصلة بينه وبين سلطان ولم يُشفى غليله بعد بتلك اللكمة فأراد النيل منه وتلقينه المزيد وقبل أن يهبط بقبضته فوق وجهه من جديد وقف مَجد بوجهه يمنعه من فعل ما ينتوي عليه محاوطًا جسده ودافعًا إياه للخلف بقوة.
وكذلك وقف توفيق خلفه يجذبه من ذراعه وهو يحاول تهدئته كي لا يتفاقم الأمر ويزداد سوءًا ولكن ذلك الثائر الغاضب أبى التراجع عما يريد، هذان المتبجحان – منة وسلطان – سبب كل ما هم به الآن ورغم هذا يقفان أمامه بكل برود وكأنه لم يمسوها بأي أذى!! وكأن كل هذا ليس من صنع أفعالهم الشنيعة وأنانيتهم!
كم يريد اقتلاع رأسه بين يديه ثم إلقائها أرضًا ودهسها أسفل قدميه حتى تتهشم وتصبح حطام، كم يتمنى لو أن له الحق بصفع تلك التي تُدعى «أمها» حتى يُدمي لها وجهها ويخفي ملامحها خلف علامات ضربه!
وتبقى مجرد رغبات وامنيات بداخله،
لا قدرة له بفعلها.
استطاعوا بصعوبة جذبه لممر آخر بعيدًا عن هذا الذي يتواجد به سلطان ومنة، تركه توفيق وكذلك ابتعد عنه مجد فوقف يتنفس بصوتٍ عالٍ وقد وصل غضبه لذروته حتى بات يخنقه ويطبق على أنفاسه.
نظر حامد لهما وصرخ بجنون: بتشيلوني من عليه ليه؟؟ ده ** عايز ياخدله علقة عشان يفوق ويتربى من أول وجديد..
زفر توفيق ورد عليه بوجه جامد وصوت هادئ وحاد بعض الشيء: فوق أنت يا حامد ولاحظ إحنا فين وليه، إحنا مش شوية بلطجية واقفين على ناصية في الشارع، إحنا في المستشفى لوحدنا، إحنا في مكان موجود فيه عيانين وأهالي شايلة الهم وربنا وحده عالم بيهم!
وخفف من قسوة لهجته واستأنف: اهدى كدا واعقلها، البنت كدا كدا لسة جوة أهي والله أعلم هتخرجنا ولا لأ ولو خرجت هتبقى عاملة إزاي، هو أبوها وهي امها وحقهم يشوفوها ويطمنوا عليها…
قاطعه حامد بنظرة قوية من عينيه البارقة أخافت ولده مَجد وجعلته يتراجع عن قراره بالحديث معه وحثه على الاسترخاء وعدم الشجار مع أخيه “سلطان”.
في حين لم تهز هذه النظرة شعرة واحدة بتوفيق الذي أكد حديثه بقوله: أيوة حقهم يشوفوها بتبصلي كدا ليه؟!! دول أب وأم ومقهورين على بنتهم اللي يا عالم هترجعلهم تاني ولا لأ، على الأقل ينجبر قلبهم بشوفتها سليمة! وبعدها ياسيدي محدش هيقولك أنت بتعمل ايه؛ عايز تخليها عندك براحتك، عندي براحتك برضو، عايز تمنع سلطان من دخول البيت عندنا تاني حقِك، عايزهم يفضلوا بُعاد عنها حقك وحقنا كلنا بس مش من حقك تمنعهم يطمنوا عليها.!!!!
هدأ حامد قليلًا بهذه الكلمات المتعقلة ولكن رغم ذلك لم تهدأ نيران غضبه وظلت تتأجج وتزداد اشتعالًا كلما مر بخاطره أنهما مَن تسببا بكل ما حدث لابنتهما..
انسحب مجد بهدوء وترك المهمة لعمه توفيق الذي واصل حديثه الهادئ حتى يتأكد من عودة عقل أخيه لرأسه وعدوله عما كان ينوي فعله.
جلس لجوار بسملة فصارت بالمنتصف بينه وبين والدته شهيرة التي كانت مغمضة عينيها تدعو الله بأن ينتهي الأمر بسلام دون أية عواقب ومع شعورها بجلوسه بالقرب فتحت عينيها سريعًا واستمرت بطرح الأسئلة عن زوجها وعن حاله إلى أن طمأنها هو.
انتهى من الحديث مع والدته ونظر لبسملة التي كانت تتوسطهم ورغم هذا بدت بعيدة كل البعد عن أرض الواقع: بسملة!
لم تستجب له فكرر نداءه بنبرة صوت أعلى: بسملـة.
حركت رأسها بتيه والتفت تحدق به بنظرات خالية من أي شعور، فتنهد مجد بشفقة لحالها وحال الجميع وتكلم: قومي اغسلي وشِك في الحمام واظبطي طرحتِك وحالك وتعالي تاني.
عادت تنظر للفراغ أمامها ولم تجيبه فنظر لوالدته – التي استمعت له – وأشار نحوها بحدقتيه لتلتفت إليها شهيرة مؤيدة: قومي يا بسملة يا حبيبتي، قومي يلا اسمعي الكلام واتوضي بالمرة وخشي صلي في اي أوضة من الاوض وادعيلها..
وشجعتها وهي تقف تعاونها على الوقوف هي الأخرى ثم تحركت بها صوب المرحاض الذي سبق وخرجت منه منذ دقائق.
وداخل إحدى غرف المشفى تحديدًا تلك التي يقبع بها كل من الأربعة؛ سامر، طارق، جنى وأخيرًا عثمان الجالس فوق واحدٍ من أسرة المشفى علامات التعب بادية على وجهه بعد أن تم سحب الدمـ.ـاء من جسده.
تنهد طارق وتحدث بصوت هادئ وامتنان: حقيقي مش عارف أشكرك ازاي يا دكتور، مش هنسى خدمتك لينا في وقت زي ده أبدًا، شكرًا ليك بجد.
ضاقت المسافة بين حاجبي عثمان وهتف بضجر وحدة مصطنعة: طب بس بس بلاش الكلام اللي يموّع النفس ده، أومال لو مكناش أهل يا جدع!
قال الأخيرة بمكر وهو ينقل بصره لينظر إليها فوجدها ترميه بنفس ذات تلك النظرة الممتعضة ثم سرعان ما اشاحت بوجهها عنه وأخذت تتمتم مع نفسها بغيظ.
بينما سامر وطارق لم يعلق أي منهما على ما قال ظنًا أنه قال هذا كنوع من انواع المجاملة، وقف سامر وربت على كتف عثمان وأعاد صياغة حديث أخيه الشاكر والممتن: شكرًا يا عثمان، أنت بجد نجدتنا.
– أنتوا عيلة بتحب التهزيق بقى ولا إيه؟؟
قالها مداعبًا إياهم فابتسم الشابان بخفة وظلت هي محتفظة بتعابيرها الجامدة والباردة، ونبس سامر وهو يعود بضعة خطوات للخلف: هروح أجيبلك شوية عصاير من المول اللي قصاد المستشفى وآجي على طول.
وقفت جنى بسرعة ونطقت: هَـ .. روح أنـ … نا.
طالعها سامر: لأ خليكِ أنا كدا كدا عايز اغسل وشي وايدي فهعدي على الحمام وبعدين اروح أجيبهم وارجع تاني.
نفى عثمان يآسًا وهو يُخفض رأسه: والله يا جماعة تاعبين نفسكم على الفاضي، ملوش لزوم ده كله!
وابتسم بتوسع رافعًا رأسه ليغمز لسامر بمشاكسة: بالمانجو بقى يا حُب عشان عندي حساسية من التفاح.
ضحك سامر ضحكة صغيرة واومأ له بالموافقة قبل أن يغادر الغرفة، نظر عثمان لجنى يدقق النظر بوجهها بصمت مما جعلها ترفع له حاجبها بشيء من التهديد.
بلل شفتيه وتحدث بجدية: على فكرة تُقل لسانِك ده مش حاجة عادية يتسكت عليها، ده لقدر الله ممكن يأذيكِ لو ملحقتيش الموضوع.
انتبه له طارق – الذي شرد قليلًا عقب خروج أخيه – وتسائل بعدم فهم: إزاي؟؟
أدار وجهه ناحية طارق وأخذ يشرح له: تقل اللسان المفاجئ بدون أي أسباب مرضية قبله بيكون سببه غالبًا حاجة من الاتنين؛ أول كتمان كتير عمل تراكمات جواها ولما جسمها بدأ يتعب من التراكمات دي بدأ يطلعها في هيئة مرض جسدي، وتاني شيء صدمة كبيرة حصلتلها خلتها مفزوعة لفترة وعقلها مش قادر يستوعب..
وعاود النظر إليها مستأنفًا: وفي حالتها أنا شايف الشيئين، كتمان وتراكمات وصدمة من أحداث اليوم.
تنهد يستطرد: إن شاء الله خلال أيام لو قللتي كلامك وحاولتي ما تجبريش لسانك على الكلام هيتعدل تاني لوحده، بس الفكرة بقى لو فضلتِ على نفس الحال فالمرة الجاية هتكون اسوء وممكن بعد الشر عنِك يفضل تُقل اللسان ملازمِك..
ثم حدق بطارق مرة أخرى وهتف ممازحًا ليخفف من التوتر الذي انتشر بالمكان فجأة: عيطوها كتير ياعم طارق وخلوا عينيها تنشف من كُتر العياط.
ابتسم طارق ونظر لإبنة عمه – جنى – التي كانت تستمع إليه بإنصات، رغم أنها أظهرت السخرية والتهكم من حديثه إلا أن داخلها كان ينتفض خوفًا وقلقًا من أن يصير معها ما يقول.
إنها تلك الشخصية الكتومة التي لا تخبر أيَ أحد بما تمر به أو يحدث معها، تتفنن في إظهار قوتها وثباتها وبالداخل هي محطمة، تخبئ الكثير والكثير من الأشياء التي إن خرجت ستصدم الجميع.
هكذا شكّل الزمان شخصيتها،
هكذا أجبرتها الأيام على تكوين ذاتٍ لا تشبهها،
وهكذا رُدمت أسفل ثوب رقّع جوهرها وكيانها.
ومرت ساعة إضافية حتى فُتح الباب أخيرًا وخرج من خلفه الطبيب – الذي أرهقته تلك المريضة وأتعبته – يزيل عن وجهه قناع الوجه الطبي “الكمامة” ويمسح جبينه المتعرق بمعصمه.
هرولوا جميعًا ناحيته ووقفوا أمامه صامتين مترقبين، تنهد الطبيب وتحدث: الحقيقة والله مش عارف أقولكم إيه..
هوت قلوبهم من محاجرها عقب جملته ونفت منة برأسها بصدمة هامسة بهلع: بنتي!
– الحالة صعبة جِدًّا وفرصة نجاتها كانت ضعيفة خصوصًا إنها وقعت من مكان عالي وده اتسبب في كسر في العمود الفقري لسة مش محددين أوي مدى سوئه وهنعرف لما تفوق بالإضافة طبعًا للكسور والكدمات اللي مالية جسمها ودا يعتبر حاجة بسيطة مقارنة بالكسر والالتهاب اللي في العمود دا غير إن في حاجات تانية إحنا لسة هنحددها لما هي تصحى إن شاء الله…
وتنهد الطبيب ملتقطًا كمًا كبيرًا من الهواء بعد هذا الذي فقده خلال حديثه، نظر للوجوه أمامها – التي تباينت ما بين مرتاحة وحامدة لخبر عيشها وأخرى حزينة ومهمومة لنتائج الوقعة – وتابع: مقدرش أحدد لحضراتكم الوقت اللي هتستنوه لحد ما تفتح عينِها، ولا أقدر أضمنلكم تمام صحتها كذلك لما تصحى، وللأسف مش هينفع أي حد يدخلها دلوقتي على الأقل كمان ساعة أو ساعتين…
زفر خاتمًا قبل الاستئذان للإنصراف: كل اللي عليكم دلوقتي تدعولها وتنتظروا..
تركهم وغادر بعد أن قال ما قال وتفرق الجمع الذي كان يلتف حوله وسلك كل فرد من أفراد العائلة طريقه الخاص، ارتمى سلطان على المقعد خلفه والحسرة تغمره حتى أذنيه وبقت منة ثابتة في مكانها لبضع ثواني قبل أن تنهار أرضًا لتبكي بحُرقة وأسى.
عاد مَجد ليقف متكأً على الجدار كما يقف منذ بداية اليوم مُسندًا رأسه للخلف ليطالع السقف بشرود، ومسح توفيق وجهه بقوة وهو يردد “لا حول ولا قوة إلا بالله ” في حين ردد حامد “الحمد لله” بنفس راضية؛ فمنذ دقائق قليلة فقط لم يكن يتوقع أحد خروجها على قيد الحياة لذا حتى وإن عانت من ما قاله الطبيب فيكفي وجودها رفقتهم!
أما شهيرة فتحركت لتعاون منة على الوقوف، على الرغم من عدم قدرتها على النظر بوجهها حتى إلا أنها لازالت لا ترضى لها المهانة بجلوسها بهذا الشكل: قومي يا منة، احمدي ربنا إنها لسة عايشة بدل ندبك ده!
واتخذت جنى مسارها الخاص لخارج المشفى دون أن تتفوه ببنت شفة مستغلة ذلك الاتصال الهاتفي الوارد من والدتها ومتخذة إياه حجة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صباح اليوم التالي، بيت شريف القاضي حيث يلتفون جميعًا حول طاولة الطعام لتناول الفطور، شهقت السيدة رضوى بفزع وهي تضع يدها فوق صدرها: يلهوي! نطت؟!
اومأ عثمان – الذي كان يقص عليها ما حدث البارحة – يؤكد لها صدق حديثه قبل أن يسترسل بتعاسة على تلك العائلة: والله يا ماما حالهم ووضعهم يصعبوا على الكافر، واحدة من بنات عمها فضلت ترجّع واغمى عليها، وجنى حصلها تُقل مفاجئ في لسانها دا غير أمها وأبوها اللي فهمت إنهم سبب اللي حصل.
تركت رضوى الطعام من بين يدها بحزن صادق: لا حول ولا قوة إلا بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله! اللهم إني أعوذ بك من فواجع الأقدار..
ورفعت وجهها ترمق ولدها بفمٍ مقوس: هو أنا ينفع أزورهم يا عثمان؟؟
لوت ابنتها جهاد فمها وردت نافية: لأ طبعًا مينفعش!
وتنهد عثمان يجيب: لأ الفترة دي مينفعش، استني أسبوع كدا ولا حاجة تكون فاقت واتطمنوا عليها وأنا بنفسي هاخدِك تشوفيها، لي بس حاليًا مش هينفع خالص لأن زي ما قولتلك الدكتور قال الوضع مش مستقر، كمان هم الفترة دي مش محتاجين أي تدخل من أي حد غريب فاستني بس كام يوم..
عادت رضوى تحدق بالفراغ بشرود ولسانها لا يتوقف عن الدعاء لها وللعائلة جميعها، إذا كانت هي مجرد غريبة سُرد عليها الأمر وتشعر بهذه المشاعر فماذا عنهم وهم يعيشونه الآن!!
وفي غرفة مصطفى،
انتهت طفلته “وسام” من تجهيز نفسها من أجل اليوم الذي وعدها بقضائه رفقتها ورفقة والدتها “ولاء”، ثم ولجت الغرفة بسعادة وحماس تلتفت حول نفسها: شكلي عسول يا بابا؟؟
كان يقف أمام المرآة يتتم على مظهره حين قالت وهي تقف خلفه، استدار لها مبتسمًا وأخذ يتفحصها بنظرات مُقيمة قبل أن يجيب: شكلك عسول ومحتاجة تاخدي بوسة كمان!
ضحكت بسعادة على اطرائه ثم رمقته مقلدة نظراته المدققة لها منذ ثواني: اممم … وأنت كمان شكلك قمور.
ضحك عاليًا على كلماتها ومال بجزعه لمستواها يعيد إحدى خصلاتها التي تمردت خلف اذنها متحدثًا: تاخدي تكلمي ماما تعرفيها إننا خلصنا.
توسعت عيناها بحماس وضمت قبضتيها مجيبة: okay.
اعتدل يعطيها هاتفه بعد أن فتحه على رقم “ولاء” وعاد لينظر لهيئته بالمرآة ملتقطًا زجاجة العطر خاصته لينثر القليل منها فوق ملابسه..
ونصف ساعة وأكثر بقليل كان يقبع بالسيارة أمام منزلها، ينتظرها بشوق ينبض من عيناه العاشقة، حتى أقبلت عليه بطلتها البسيطة والخاطفة للأنفاس كذلك!
ترتدي فستان فضفاض للمحجبات باللون البُني، ذو أكمام واسعة تنتهي عند معصمها بعقدة لطيفة على هيئة فيونكة، تحمل بين أصابعها حقيبة صغيرة بلون الرمال وحجاب بلون القهوة جعلها تبدو كتحفة فنية تسير على الطريق.
وقفت أمام السيارة تنظر للمقاعد بالخلف حيث استقرت وسام على واحدٍ منهما ثم عادت ببصرها لتنظر إليه من النافذة، تحركت يدها بتلقائية وأخذت تعدل من الحجاب فوق كتفها كرد فعل ناتج عن توترها وارتباكها.
فحل مصطفى هذه المشكلة وفتح لها الباب من الداخل لتجلس بجواره، نظرت إليه بدهشة وقبل أن تتحدث وترفض الأمر وجدته يسير بعينيه للخلف حيث طفلتها التي تضحك بسعادة لرؤيتها.
فتنهدت وصعدت لجانبه بصمت تستقبل عناق ابنتها السعيدة بإبتسامة واسعة وسعادة مماثلة: ماما وحشتيني أوي!
توقف بهما بعد دقائق أمام حديقة الملاهي، قفزت وسام للخارج مهرولة للداخل بسعادة طفولية وأغلق هو السيارة ثم لحقا بها معًا.
سارا جنبا لجنب بخطوات متمهلة وكل منهما ينتظر أن يتقدم الآخر، وما إن رأت ولاء المقاعد المرتصة أمام الألعاب لم تفكر للحظة وارتمت فوق واحد منها بشكل مفاجئ جعله يطالعها بإستغراب ودهشة.
رفعت يدها مرة أخرى لتضبط حجابها متحدثة وهي تتحاشى النظر إليه: رجلي وجعتني..
نظر لقدميها وجدها ترتدي حذاء أبيض مريح فرفع حاجبه الأيمن باستنكار هاتفًا: سلامة رجلِك يا قمر!
ترك مكانه وتقدم من الأرجوحة التي صعدتها وسام فور رؤيتها لها وجلس أمامها يشجعها بإبتساماته على الاستمرار باللعب متمنيًا ألا تلاحظ توتر الأجواء بينه وبين والدتها كي لا تحزن.
وظلت ولاء جالسة في مكانِها تشير لطفلتها من بعيد عندما وجدتها تبحث عنها بين الوجوه، تضحك عندما تضحك وسام وتبتسم عندما تبتسم … وعندما يبتسم هو كذلك!
يا ليت الأيام تعود وما ضغطت عليه بطلبها كما فعلت، ليته يحل له فترتمي بأحضانه بأي وقت وكلما أرادت، بعد أن كانت تسير متعلقة بذراعه وترمقه بحب يراه الأعمى قبل أن المبصر باتت لا تستطيع حتى الإمساك بيده أو لمسها.
مسحت دمعة فرت من عينيها لوجهها بسرعة ونظرت للأرض كي لا يراها أحد تخرج منديلًا ورقيًا من حقيبتها، تجفف به دموع عينِها أما عن دمعات قلبها فالحرية لها لتهبط وتنهمر كيفما تشاء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في حيٍ من أحياء مدينة المنصورة الذي يشتهر بكثرة مبانيه المعمارية، تحديدًا المبنى رقم 73 حيث يعيش عُمر.
كان يجلس داخل الشرفة يستند بمرفقه فوق السور ومُسندًا وجهه فوق يده ينظر للطريق بالأسفل بشرود، يفكر فيما فعله قبل بضعة أيام عندما رفضته بسملة أمام سكن الكلية، ولماذا حتى اليوم لم يأته الرد على طلبه؟!!
حيث ذهب لمحل عمل توفيق واقتحم المكان ليقف خلف توفيق الذي كان يؤيد حسابات بضاعته بورقة بين يديه: عم توفيق..
استدار توفيق لهذا الصوت اللاهث وتعجب كثيرًا عندما أبصر وجهها ورأى حالته المزرية: نعم يابني!
ودون سابق إنذار أو أي كلمات افتتاحية قال: أنا عايز اتجوز بسملة بنت حضرتك…
توسعت عيني توفيق وطالعه بدهشة وهو يترك ما بيده: لا حول ولا قوة إلا بالله! إيه يابني هو الكلام ده بيتقال على الواقف كدا؟؟
وتحرك لمقعده الخاص مشيرًا إليه: صلي على النبي وتعالى اقعد بس كدا..
تحرك عمر خلفه ووقف أمام المكتب الفاصل بينه وبين توفيق مكررًا بتصميم: عليه افضل الصلاة والسلام، عمر محمد عمر، عندي ٢٧ سنة، خريج كلية هندسة معمارية وبشتغل وبصرف على نفسي وهعرف أأمنلها حياتها..
ازداد توسع عيناه وصاح به وهو يشير للمقعد: ما تقعد يابني وخُد نفسك في ايه؟!!
زفر عمر بضيق وهو يعود من ذاكرته لاكمًا رأسه بعدة لكمات خفيفة وهو يوبخ ذاته: مانت اتغابيت برضو يا عم عمر!
انتصب واقفًا عندما وصله صوت طرقات فوق باب شقته وتحرك ليقوم بفتحه وهو يتمتم متذمرًا من فعلته الحمقاء بهذا اليوم.
فتح الباب فتفاجئ بشخص يتشح بالسواد واقفًا أمامه، وقبل أن يدرك الأمر ويفهم ما يحدث داهمه هذا الملثم بطعـ.ـنة في جانبه بواسطة مدية حادة قائلًا بصوت يحمل في طياته شرًا كبيرًا: سلامي ليك وللمُزة..

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية بيت البنات)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *