رواية فوق جبال الهوان الفصل الأول 1 بقلم منال سالم
رواية فوق جبال الهوان الفصل الأول 1 بقلم منال سالم
رواية فوق جبال الهوان البارت الأول
رواية فوق جبال الهوان الجزء الأول
رواية فوق جبال الهوان الحلقة الأولى
متسترة بغطاء الليل الحالك، تسللت هذه الشابة الهزيلة في الخفاء، بخطواتٍ حثيثة، بعدما خبأت وجهها بطرف حجاب رأسها غير المحكوم، حتى تضمن عدم تعرف أحد أهل بلدتها عليها إن تصادفت مع أحدهم، لتخرج بعدها من باب منزلها، قاصدة التوجه إلى محطة السكة الحديد، حيث من المفترض أن ينتظرها هناك من قطع لها عهودًا ووعودًا لا تنتهي بالزواج.
انتظرت وهي تتحاشى نظرات المحيطين بها الفضولية، كانت ترتاع من احتمالية تعرف أحدهم على هويتها، ففي ذلك نهايتها حتمًا، خاصة إن علم شقيقها المتعصب بمسألة هروبها من المنزل سرًا. سمعت “مروة” صافرة القطار وهي تعلن عن وصوله إلى المحطة، ترددت في ركوبه بمفردها، كادت كامل خططها تفسد لولا أن ظهر من تنتظره من بعيد، أقبلت عليه تسأله في صوتٍ يعبر عن خوفها:
-اتأخرت ليه “بغدادي”؟
التقط أنفاسه، وأجابها:
-غصب عني، كنت معكوش مع واحد رزل، حلفان عليا 100 يمين ما أسيبه إلا لما أقضي السهرة معاه.
تلفحت بطرف حجابها حينما مر أحدهم بجوارها، فقد لاحظت نظرته المدققة إليها، فارتجفت، وأخفضت بصرها هامسة:
-أنا قلقت لأحسن تكون غدرت بيا.
عاتبها في عبوسٍ مصطنع:
-وده معقول؟ إنتي هتبقي مراتي يا بت.
حذرته في لهجةٍ جادة، رغم خفوتها:
-على سنة الله ورسوله، أنا ماليش في الحرام، إنت عارفني، ولولا “موجي” أخويا كنت آ…
قاطعها قبل أن تتم جملتها مشيرًا نحو عربة القطار:
-مش وقت كلام، القطر هيفوتنا.
لف ذراعه حول كتفيها، واستحثها على السير معه مكملًا كلامه إليها:
-يالا قبل ما حد ياخد باله منك.
أومأت برأسها في طاعة:
-ماشي.
دفعها لتصعد على عربة القطار، فالتفتت –غريزيًا- للخلف لتلقي نظرة أخيرة مودعة لبلدتها، وكل من فيها، فربما لا تعود إلى هنا مرة ثانية!
……………………………….
الصرخات الموجعة المنبعثة منها، أثناء استلقائها على ذلك الفراش القديم، في هذه الغرفة شبه المعتمة، رغم سطوع شمس النهار، جعلت من حولها يرتاع ويقلق، حتى صوت الموسيقى الصاخب لم يكن كافيًا للتغطية على أنات ألمها المتواصلة، كذلك تعذر على حفنة النساء المتواجدات معها إرسال أحدهم لاستدعاء الطبيب من أجلها، بالطبع لم يكن أيضًا من المتاح نقلها إلى أقرب مشفى وإن كان متواضعًا تنقصه الإمكانيات لإسعافها، فكيف لها أن تجيب من يديروه على أبسط الأسئلة لتفسير حالتها تلك؟
المعادلة صعبة بكافة المقاييس، ومع ذلك تحملت كل تلك الآلام العنـــــيــفة على أمل رؤية وليدها وحمله بين ذراعيها، لم تتوقع “وِزة” –صاحبة هذا الاسم الدارج والذي تُنادى به ولا تعرف سواه منذ أن كانت طفلة واعية- أن تصيبها آلام المخاض في هذا الوقت المبكر، فقد دخلت في حالة وضع مفاجئة منذ مطلع النهار، وأصبح الجميع متأهبًا لمساعدتها حسبما ظنت.
تم إيقاف كافة الأنشطة بالمنزل ريثما تنتهي من ولادتها المتعسرة، فمن ذا الذي سينعم بالدلال والتدلل وهو يصغي إلى مثل هذه الأصوات المزعجة؟
في تعبيرٍ متجهم، وغير راضٍ، جلست امرأة خمسينية العمر –تسمى “توحيدة” على أريكة تتسع لأربعة أفرادٍ مجتمعين، ودخان النارجيلة ينبعث من بين شفتيها في دفعات قصيرة متتالية، تساءلت إحداهن من خلفها في توترٍ:
-هنعمل إيه يا أبلتي؟ ده صويتها جايب التايهين!
ردت عليها من تتسيد المنزل بأسره، وتتحكم في شأن جميع من فيه بجمودٍ:
-ولا حاجة، هنستنى لما تفضي اللي في بطنها، وبعد كده هتصرف.
سألتها في نبرة متوجسة، وعلامات القلق تزداد على وجهها:
-طيب وأهل الحتة؟
تصعَّبت بشفتيها قبل أن تقول بغير مبالاة، ويدها الأخرى الفارغة موضوعة أعلى جبينها:
-اللي ليه عندي حاجة يجي ياخدها!
صرخة المولود أكدت تمام عملية وضعه رغم صعوبتها، فأتت إحداهن مهرولة من الداخل لتقول في لهاثٍ:
-“وِزة” ولدت يا أبلتي، وجابت حتت واد إنما إيه فلقة قمر.
لم تبتسم “توحيدة” وهي تأمرها:
-هاتيه من عندها، ونادي على الواد “حمص” يجيلي حالًا.
تساءلت المرأة التي تقف خلفها في استرابةٍ:
-عايزاه ليه يا أبلتي؟
ردت بغلظةٍ:
-ملكيش فيه، إنتي تعملي اللي يطلب منك وإنتي ساكتة.
في التو أظهرت طاعتها لها قائلة:
-عينيا يا ست الكل، اللي تؤمري بيه هيتنفذ.
نهضت بعدها “توحيدة” من موضع جلوسها، وألقت بمبسم النرجيلة أرضًا، لتسير في تباطؤٍ، تاركة لحم جسدها الممتلئ والمترهل يرتج على الجانبين مع كل خطوة تتحرك بها. مشت عبر رواق المنزل الممتد بشكلٍ مستطيل حتى وصلت إلى آخر غرفة موجودة في نهايته، وحينما أبصرتها النساء اللاتي يرتدين ملابس تنوعت ما بين الكاشفة والعادية تحركن للجانب لتمر بينهن في شموخٍ وقوة. استطاعت سماع همساتهن الحائرة عن مصير الأم ورضيعها، فزادها ذلك الشعور بالتسيُّد والسلطة.
تساءلت “وِزة” في صوتٍ واهن، وهي لا تزال طريحة الفراش، ومضرجة في دمــــاء ولادتها:
-ابني فين يا ست “توحيدة”؟
في قسوة غريبة أجابت على سؤالها بآخر:
-مش ركبتي دماغك، وعملتي اللي كان نفسك فيه؟!!
انتابها الخوف أضعافًا مضاعفة، وسألتها بقلبٍ وجل:
-قصدك إيه؟
ظلت على قساوتها المخيفة حينما جاوبتها بما جعل دواخلها تتمزق:
-اعتبريه مـــــــــات!
هنا انتفضت صارخة رغم الألم الشديد الذي ما زال يغمرها:
-حرام عليكي يا ست “توحيدة”، ليه تعملي كده فيا؟
علقت في تهكمٍ أشد قسوة:
-ما هو أصلًا جاي من حرام، ولا نسيتي نفسك يا “وِزة”!!
أزاحت الملاءة المُتـــسِخة بدمائها، لتنهض في ضعفٍ من رقدتها، لم تسعفها قدماها، وسقطت أرضًا، ومع ذلك لم تجرؤ إحداهن على تقديم المساعدة لها، الكل وقفن يراقبن المشهد في حيرةٍ مشوبة بالخوف. زحفت على قوائمها الأربع لتتجه إليها تتوسل رحمة منزوعة منها:
-بالله عليكي ما تحرمنيش منه، أنا هربيه، وهخليه خدام عندك، رهن إشارتك، بس سبيهولي.
انتشلت “توحيدة” قدمها من تحت يديها المتمسحتين فيها، وقالت في جمودٍ، وبلهجة خالية من الرأفة:
-مكانش يتعز يا عين أمك، اِقري عليه الفاتحة.
انفلتت منها صرخة مقهورة عاجزة، وراحت ترجوها ببكاءٍ حـــارق:
-ده لسه حتت لحمة حمرا، أبوس رجلك يا ست “توحيدة” ترحميه.
وكأنها لا تملك قلبًا لتتعاطف مع دموعها الأمومية الصادقة، أخبرتها بلهجتها القاسية:
-أنا بعمل لمصلحتك، أما ترتاحي منه دلوقت، أحسن ما تتعلقي بيه، وساعتها وجعك هيكون أكبر، وبعدين اعتبري نفسك سقطتي.
كلماتها هبطت عليها كالســــوط اللاذع، لم تأخذها بها شفقةٍ أو رحمة، خاصة حينما أضافت في تهديدٍ:
-وده درس ليكي ولغيرك، إن أي واحدة فيكم تستجري تخالف أوامري، يبقى تستحمل أذايا، ما أنا قرصتي والقــــبـــر!
من جديد زحفت تجاهها تستجديها بحــــرقةٍ أكبر لعل وعسى تعدل عن قرارها الشـــــرس، بل الأشد شــــــراســـــة على الإطلاق:
-الله يخليكي يا ست “توحيدة”، هعملك كل حاجة وأي حاجة، بس سبيه يعيش، أنا معنديش حد في الدنيا إلا هو!
هذه المرة ركلتها في بطنها المبتـــــور بعنفٍ قبل أن تأمر النسوة المتزاحمات بالغرفة:
-جرى إيه يا ولية منك ليها، واقفين تتفرجوا، وسايبن الشغل اللي وراكم، يالا المولد اتفض.
سرعان ما اِستجبن إلى أمرها الصارم، وخرجن من الغرفة تباعًا، تاركين الأم المكلومة تبكي فقدان رضيعها قبل أن تضمه إلى صدرها، لتقوم بلطم وجهها بكفيها بلطمـــات عنيفة متتالية، وهي لا تزال تصرخ بعجزٍ وحسرة أمام من تنظر إليها باستحقارٍ وقوة!
جاءت إليها “خضرة”، من تتبعها كظلها، وتحرص على التأكد من تنفيذ كافة أوامرها في غيابها قبل حضورها، لتنظر بشيءٍ من التعاطف والأسى لـ “وِزة”، ثم تساءلت وعيناها لم تحيدا بعد عن هذه التعيسة المفجــــوعة:
-كله تمام يا أبلتي؟
-خديها، خلوهم يحموها وينضفوها، وادوها حاجة تاكلها وتخليها تقف على حيلها، بدل ما هي زي الدبيــــــحة اللي بتطلع في الروح.
من بين نهنهات بكائها الصاخبة، توسلتها مجددًا:
-ابني يا ست “توحيدة”، أبوس رجلك، بلاش تحرميني منه.
تحركت تجاه الباب، وقالت دون أن تنظر ناحيتها:
-اقريله الفاتحة.
القسوة التي كانت عليها استثارتها أكثر، وجعلتها تهتاج، فراحت تصيح حتى بح صوتها:
-حرام عليكي، ليه بتعملي كده.
أقبلت عليها “خضرة” لتكتم أنفاسها محذرة إياها بصوتٍ خفيض:
-اسكتي بدل ما توديكي عن اللي ما يتسموا، وإنتي مش أدهم!
كانت فاقدة لزمام أمرها، فلم يكن أمامها سوى البكاء والعويل بحـــرقةٍ، وهي تعلم تمام العلم أنها لن تؤثر مهما استجدت وتوسلت في مشاعر أي واحدة من قاطني هذا المنزل اللعــــــــين.
……………………………………..
على أحد الأسطح المكشوفة، تلك التي يُبقي فيها سكان العمارة ما لا يحتاجون إليه، جلس “شيكاغو” على الأريكة المتهالكة، ورأسه مطروح للخلف، ومرفقيه يتدليان من على مسنديها، فقد انتهى لتوه من شرب إحدى سجائره غير البريئة، وأتبع ذلك بما أذهب عقله من مُسكرات لاهية، ليشعر وكأنه انفصل ذهنيًا عن العالم المحيط به، وحلق في آخر به ما يسر نفسه ويسعدها فقط. ظل “حمص” يُحادثه في جديةٍ لا تتناسب مع حالته، فرد عليه بصوتٍ شبه ناعس:
-دماغي تقيلة مش قادر أركز.
كرر عليه حديثه بانزعاجٍ:
-ياض الست “توحيدة” عايزانا في مصلحة مستعجلة.
طوح بذراعه في الهواء معقبًا بنفس النبرة الثقيلة:
-روح إنت، وأنا هحصلك.
نهض من جواره متمتمًا في تبرمٍ:
-تحصلني؟ ما هو باين!
التقط قبل أن يذهب إحدى لفائف السجائر المحشوة، وضعها في جيب بنطاله متابعًا:
-يالا ملكش في الطيب نصيب.
خرج من السطح ساحبًا الباب الخشبي خلفه ليغلقه، وأمسك بالدرابزين هابطًا درجات السلم في خطواتٍ أقرب إلى الركض ليجد “خضرة” ما تزال في انتظاره عند المدخل، استعجلته مشيرة بيدها:
-أوام يا سي “حمص”، مش ناقصة أسمع كلمتين من أبلتي.
هتف متذمرًا:
-يعني أركب في رجلي صاروخ؟ ما أنا ماشي معاكي طوالي أهوو.
أسرعت في خطاها طالبة منه:
-طب شد الله يكرمك.
نفخ في سأمٍ مدمدمًا:
-أما نشوف الليلة على إيه؟
واصل كلاهما المشي عبر الأزقة، والشوارع الجانبية الضيقة، ليصلا بعد وقتٍ ليس بقليلٍ إلى مكان بيتها المشهود عنه بسمعته غير الشريفة، وسوء سلوك جميع ساكنيه.
……………………………..
مهمته كانت رغم بساطتها معقدة، فليس من السهل التخلص من طفل حديث الولادة، دون أن يثير جلبة أو فضيحة، أو حتى ينبه السلطات الأمنية لجريمة بشـــــــعة كهذه. ظهر التردد على وجه “حمص”، وأخذ يفرك ذقنه النابتة عدة مرات، كأنما يعيد حساباته في الاستجابة لمطلبها من عدمه، أفصح عما يدور في رأسه صراحةً بحديثه إليها:
-الحكاية عوأ يا ست الحارة.
زمت “توحيدة” شفتيها قائلة بملامحٍ جادة:
-أومال أنا طلباك بالاسم ليه؟
ثم أشارت له بحاجبها قبل أن تغريه بما جعل لعابه يسيل:
-وهعرقك كويس.
رد كنوعٍ من المجاملة:
-خيرك سابق.
مرة ثانية استمرت في إغواء نفسه الطامعة بما تشتهيه:
-ريحنا بس من الداهية دي، وهشوفك، وإنت عارفني اللي برضا عنه، بياكل الشهد من ورايا.
لم يجد بُدًا من الاستمرار في المماطلة، وأومأ برأسه قائلًا في إذعانٍ:
-تمام يا سِتنا.
أشارت بإصبعها كأنما تشرح له:
-اللفة جاهزة عند الخــــرابة، مع بت من بتوعي.
لم ينطق بشيء، فأوصتــه بلهجةٍ لا تبدو متساهلة:
-أنا عاوزة الحكاية تخلص من برا برا، فاهمني طبعًا.
ابتسم فظهرت أسنانه الصفراء من وراء ابتسامته وهو يؤكد لها بثقةٍ غريبة، لم تكن موجودة قبل لحظاتٍ:
-اعتبريها خلصت، وادفـــنـــت.
ما إن سمعت عبارته تلك حتى ارتخت أكثر في جلستها، وارتسمت تعابير السرور على محياها، فها هي عقبة أخرى تزيحها عن طريقها لتواصل أداء عملها دون أن ترهق تفكيرها أكثر بهذا الأمر المزعج.
………الصرخات الموجعة المنبعثة منها، أثناء استلقائها على ذلك الفراش القديم، في هذه الغرفة شبه المعتمة، رغم سطوع شمس النهار، جعلت من حولها يرتاع ويقلق، حتى صوت الموسيقى الصاخب لم يكن كافيًا للتغطية على أنات ألمها المتواصلة، كذلك تعذر على حفنة النساء المتواجدات معها إرسال أحدهم لاستدعاء الطبيب من أجلها، بالطبع لم يكن أيضًا من المتاح نقلها إلى أقرب مشفى وإن كان متواضعًا تنقصه الإمكانيات لإسعافها، فكيف لها أن تجيب من يديروه على أبسط الأسئلة لتفسير حالتها تلك؟
المعادلة صعبة بكافة المقاييس، ومع ذلك تحملت كل تلك الآلام العنـــــيــفة على أمل رؤية وليدها وحمله بين ذراعيها، لم تتوقع “وِزة” –صاحبة هذا الاسم الدارج والذي تُنادى به ولا تعرف سواه منذ أن كانت طفلة واعية- أن تصيبها آلام المخاض في هذا الوقت المبكر، فقد دخلت في حالة وضع مفاجئة منذ مطلع النهار، وأصبح الجميع متأهبًا لمساعدتها حسبما ظنت.
تم إيقاف كافة الأنشطة بالمنزل ريثما تنتهي من ولادتها المتعسرة، فمن ذا الذي سينعم بالدلال والتدلل وهو يصغي إلى مثل هذه الأصوات المزعجة؟
في تعبيرٍ متجهم، وغير راضٍ، جلست امرأة خمسينية العمر –تسمى “توحيدة” على أريكة تتسع لأربعة أفرادٍ مجتمعين، ودخان النارجيلة ينبعث من بين شفتيها في دفعات قصيرة متتالية، تساءلت إحداهن من خلفها في توترٍ:
-هنعمل إيه يا أبلتي؟ ده صويتها جايب التايهين!
ردت عليها من تتسيد المنزل بأسره، وتتحكم في شأن جميع من فيه بجمودٍ:
-ولا حاجة، هنستنى لما تفضي اللي في بطنها، وبعد كده هتصرف.
سألتها في نبرة متوجسة، وعلامات القلق تزداد على وجهها:
-طيب وأهل الحتة؟
تصعَّبت بشفتيها قبل أن تقول بغير مبالاة، ويدها الأخرى الفارغة موضوعة أعلى جبينها:
-اللي ليه عندي حاجة يجي ياخدها!
صرخة المولود أكدت تمام عملية وضعه رغم صعوبتها، فأتت إحداهن مهرولة من الداخل لتقول في لهاثٍ:
-“وِزة” ولدت يا أبلتي، وجابت حتت واد إنما إيه فلقة قمر.
لم تبتسم “توحيدة” وهي تأمرها:
-هاتيه من عندها، ونادي على الواد “حمص” يجيلي حالًا.
تساءلت المرأة التي تقف خلفها في استرابةٍ:
-عايزاه ليه يا أبلتي؟
ردت بغلظةٍ:
-ملكيش فيه، إنتي تعملي اللي يطلب منك وإنتي ساكتة.
في التو أظهرت طاعتها لها قائلة:
-عينيا يا ست الكل، اللي تؤمري بيه هيتنفذ.
نهضت بعدها “توحيدة” من موضع جلوسها، وألقت بمبسم النرجيلة أرضًا، لتسير في تباطؤٍ، تاركة لحم جسدها الممتلئ والمترهل يرتج على الجانبين مع كل خطوة تتحرك بها. مشت عبر رواق المنزل الممتد بشكلٍ مستطيل حتى وصلت إلى آخر غرفة موجودة في نهايته، وحينما أبصرتها النساء اللاتي يرتدين ملابس تنوعت ما بين الكاشفة والعادية تحركن للجانب لتمر بينهن في شموخٍ وقوة. استطاعت سماع همساتهن الحائرة عن مصير الأم ورضيعها، فزادها ذلك الشعور بالتسيُّد والسلطة.
تساءلت “وِزة” في صوتٍ واهن، وهي لا تزال طريحة الفراش، ومضرجة في دمــــاء ولادتها:
-ابني فين يا ست “توحيدة”؟
في قسوة غريبة أجابت على سؤالها بآخر:
-مش ركبتي دماغك، وعملتي اللي كان نفسك فيه؟!!
انتابها الخوف أضعافًا مضاعفة، وسألتها بقلبٍ وجل:
-قصدك إيه؟
ظلت على قساوتها المخيفة حينما جاوبتها بما جعل دواخلها تتمزق:
-اعتبريه مـــــــــات!
هنا انتفضت صارخة رغم الألم الشديد الذي ما زال يغمرها:
-حرام عليكي يا ست “توحيدة”، ليه تعملي كده فيا؟
علقت في تهكمٍ أشد قسوة:
-ما هو أصلًا جاي من حرام، ولا نسيتي نفسك يا “وِزة”!!
أزاحت الملاءة المُتـــسِخة بدمائها، لتنهض في ضعفٍ من رقدتها، لم تسعفها قدماها، وسقطت أرضًا، ومع ذلك لم تجرؤ إحداهن على تقديم المساعدة لها، الكل وقفن يراقبن المشهد في حيرةٍ مشوبة بالخوف. زحفت على قوائمها الأربع لتتجه إليها تتوسل رحمة منزوعة منها:
-بالله عليكي ما تحرمنيش منه، أنا هربيه، وهخليه خدام عندك، رهن إشارتك، بس سبيهولي.
انتشلت “توحيدة” قدمها من تحت يديها المتمسحتين فيها، وقالت في جمودٍ، وبلهجة خالية من الرأفة:
-مكانش يتعز يا عين أمك، اِقري عليه الفاتحة.
انفلتت منها صرخة مقهورة عاجزة، وراحت ترجوها ببكاءٍ حـــارق:
-ده لسه حتت لحمة حمرا، أبوس رجلك يا ست “توحيدة” ترحميه.
وكأنها لا تملك قلبًا لتتعاطف مع دموعها الأمومية الصادقة، أخبرتها بلهجتها القاسية:
-أنا بعمل لمصلحتك، أما ترتاحي منه دلوقت، أحسن ما تتعلقي بيه، وساعتها وجعك هيكون أكبر، وبعدين اعتبري نفسك سقطتي.
كلماتها هبطت عليها كالســــوط اللاذع، لم تأخذها بها شفقةٍ أو رحمة، خاصة حينما أضافت في تهديدٍ:
-وده درس ليكي ولغيرك، إن أي واحدة فيكم تستجري تخالف أوامري، يبقى تستحمل أذايا، ما أنا قرصتي والقــــبـــر!
من جديد زحفت تجاهها تستجديها بحــــرقةٍ أكبر لعل وعسى تعدل عن قرارها الشـــــرس، بل الأشد شــــــراســـــة على الإطلاق:
-الله يخليكي يا ست “توحيدة”، هعملك كل حاجة وأي حاجة، بس سبيه يعيش، أنا معنديش حد في الدنيا إلا هو!
هذه المرة ركلتها في بطنها المبتـــــور بعنفٍ قبل أن تأمر النسوة المتزاحمات بالغرفة:
-جرى إيه يا ولية منك ليها، واقفين تتفرجوا، وسايبن الشغل اللي وراكم، يالا المولد اتفض.
سرعان ما اِستجبن إلى أمرها الصارم، وخرجن من الغرفة تباعًا، تاركين الأم المكلومة تبكي فقدان رضيعها قبل أن تضمه إلى صدرها، لتقوم بلطم وجهها بكفيها بلطمـــات عنيفة متتالية، وهي لا تزال تصرخ بعجزٍ وحسرة أمام من تنظر إليها باستحقارٍ وقوة!
جاءت إليها “خضرة”، من تتبعها كظلها، وتحرص على التأكد من تنفيذ كافة أوامرها في غيابها قبل حضورها، لتنظر بشيءٍ من التعاطف والأسى لـ “وِزة”، ثم تساءلت وعيناها لم تحيدا بعد عن هذه التعيسة المفجــــوعة:
-كله تمام يا أبلتي؟
-خديها، خلوهم يحموها وينضفوها، وادوها حاجة تاكلها وتخليها تقف على حيلها، بدل ما هي زي الدبيــــــحة اللي بتطلع في الروح.
من بين نهنهات بكائها الصاخبة، توسلتها مجددًا:
-ابني يا ست “توحيدة”، أبوس رجلك، بلاش تحرميني منه.
تحركت تجاه الباب، وقالت دون أن تنظر ناحيتها:
-اقريله الفاتحة.
القسوة التي كانت عليها استثارتها أكثر، وجعلتها تهتاج، فراحت تصيح حتى بح صوتها:
-حرام عليكي، ليه بتعملي كده.
أقبلت عليها “خضرة” لتكتم أنفاسها محذرة إياها بصوتٍ خفيض:
-اسكتي بدل ما توديكي عن اللي ما يتسموا، وإنتي مش أدهم!
كانت فاقدة لزمام أمرها، فلم يكن أمامها سوى البكاء والعويل بحـــرقةٍ، وهي تعلم تمام العلم أنها لن تؤثر مهما استجدت وتوسلت في مشاعر أي واحدة من قاطني هذا المنزل اللعــــــــين…………………………
حمل عنها حقيبتها الصغيرة، وعلقها على كتفه، ليسير معها بخطواتٍ شبه متعجلة عبر الطرقات الضيقة والأزقة، فقد انتهى بهما المطاف بعد ساعات من استقلال عربة القطار إلى هذا الحي البعيد بتلك المدينة النائية عن بلدتها. لم تتوقع “مروة” أن يكون مستوى المعيشة هنا متدنيًا، فبناءً على ما أخبرها به سابقًا، من المفترض أنه يعيش في منطقة راقية، بها مظاهر الترف والراحة؛ لكنها رأت عكس ما وصف تمامًا. سألته بقلبٍ متوجس وهي تدير رأسها لتنظر إليه:
-هو احنا هنا فين كده؟
أجابها وهو يدفعها برفقٍ للولوج إلى داخل مدخل هذه العمارة القديمة:
-عند ناس معارفنا.
توقفت فجأة وعلامات الدهشة قد تجسدت على تعابير وجهها، نظرت إليه في شكٍ، وسألته بقلبٍ راحت نبضاته تتصاعد خوفًا وتوجسًا:
-إيه ده؟ مش إنت قولتلي هتاخدني عند أمك؟
برر لها بكذبةٍ غير مقنعة:
-مش هينفع دلوقت، لازمًا أمهدلها الأول، خلي الليلة تسلك وتمشي للآخر.
حاول دفعها برفقٍ لإجبارها على الصعود على سلم الدرج، وهو لا يزال يُحادثها في وديةٍ:
-وبعدين أنا موديكي عند ناس حبايبي جدًا.
ما زالت ترفض التجاوب معه لشكوكها المتزايدة، وسألته في قلقٍ أكبر:
-هي متعرفش عن موضوعنا ولا إيه؟
اضطر للف ذراعه حول كتفيها ليحاوطها، واستمر في دفعها بترفقٍ نحو السلم، وصوته يهمس بالقرب من أذنها:
-يا بت هي عندها خبر وكل حاجة، بس علشان نتجوز كده خبط لزق صعب اليومين دول.
مدفوعة بواسطته، بدأت في الصعود على الدرج، وهي تسأله:
-لما هو صعب طلبت مني أجي معاك ليه؟
تنهد مليًا قبل أن يخبرها متصنعًا الحزن:
-ما أنا مش هطول، على الأقل أجيب أوضة نوم جديدة، وأنا يدوب حوشت نص فلوسها.
مجددًا توقفت عن الصعود، واستطردت:
-أنا راضية أنام على فَرشة قديمة، بس نكون سوا، وفي الحلال.
ابتسم مؤكدًا لها:
-هيحصل، الحكاية كلها أسبوع ولا اتنين…
راح يستحثها من جديد على الصعود متابعًا حديثه إليها:
-وبعدين هو أنا وعدتك بحاجة وكدبت عليكي فيها؟
ردت نافية:
-لأ.
أضاف في جديةٍ:
-ده أنا حتى كنت بحوش فلوسي معاكي، ومكونتش بسرقك.
أخبرته بملامح وجهٍ مشدودة:
-وأنا حافظت على الأمانة.
ابتسم في خبثٍ قبل أن يخبرها:
-وده كان اختباري ليكي، اللي تصون مالي، هتصون عرضي.
وكأنه يعلم جيدًا كيف يستغل سذاجتها، وافتقارها للخبرة، ليخدعها، ويوقعها أكثر في شباكه، فما كان منها إلا أن واصلت السقوط في بئر الهاوية، لتجد “مروة” نفسها أمام باب منزل انقبض قلبها لمجرد رؤيته، وما عزز من هذا الشعور المخيف قوله الغامض:
-تعالي احنا وصلنا.
……………………………………..
دق بأصابعه على الزجاجِ المُغبش، بعدما قرع الجرس مرتين، ليأتيه صوتًا أنثويًا مألوفًا من الداخل يبلغه بالانتظار والصبر، ريثما تقوم بفتح الباب. تطلعت “خضرة” إلى ضيفيها بنظرات شاملة فاحصة، ليأتي سؤال “بُغدادي” في جديةٍ توافقت مع ملامح وجهه:
-الست “توحيدة” موجودة؟
تحولت بناظريها تجاه تلك الشابة المرتجفة في نفسها، وسألته بشكلٍ تقليدي مستهلك:
-أيوه، بس إنت مش لواحدك؟
غمز لها بطرف عينه مرددًا:
-لأ، معايا أمانة.
صدح صوت “توحيدة” من الداخل في صيغة متسائلة:
-مين يا “خضرة”؟
من موضع وقوفها أجابت عليها بنبرة مرتفعة لتضمن سماعها لها:
-ده الواد “بُغدادي” يا أبلتي.
استغربت “مروة” من طريقة تلفظها لهذا اللقب، وحاولت مغالبة ما يعتريها من مخاوف وتوتر. على نفس الوتيرة العالية نادته “توحيدة” من الداخل:
-تعالى يا واد.
أمسك “بغدادي” بمعصم فريـــــســـته الجديدة، وجرها معه إلى الداخل قبل أن تقوم “خضرة” بإغلاق الباب بالمفتاح والمزلاج، وكأنها تضمن بذلك عدم قدرة تلك المخدوعة على الهروب من وكر صاحبة هذا المكان. لم يكن أمام “مروة” سوى الإذعان لما يريده منها من يُعد مجازًا المسئول عن شأنها، ألقت نظرة خاطفة على البيت، كان وضعه مريبًا، أثاثه رغم قدمه يوحي بأشياءٍ لا تحبذ التفكير فيها، تشتت عن الاستغراق في أفكارها الحائرة عندما تكلمت هذه المرأة الغريبة بلهجةٍ بدت مُقلقة إلى حدٍ كبير:
-بقى تهون عليك العِشرة يا قليل الأصل، تاخد في وشك بالشهور وتقول عدولي؟!
علل “بُغدادي” غيابه قائلًا، وقد أدار يده خلف مؤخرة رأسه ليحكها بعدما ألقى بالحقيبة أرضًا:
-لزوم الشغل يا سِتنا.
بنظرة تبدو كعدسة المجهر، جالت “توحيدة” بها على ضيفتها المرتاعة من رأسها لأخمص قدميها، كانت ذات بشرة خمرية، وتمتلك زوج أعين بنية اللون، وفم واسع، وأنف دقيق، لم تتوقف عن فحصها ظاهريا، وتساءلت وهي تلوك العلكة في جوفها بصوتٍ مسموع، وطريقة مقززة:
-مين الحلوة اللي معاك؟
أشار بيده ناحيتها قائلًا في نبرة متباهية:
-إيه رأيك؟ حاجة بكرتونتها، على أبوها!
كلماته الغريبة وطريقة وصفه الأغرب جعلتها ترتاب أكثر في شأنه، وما زاد من هذا الشعور المخيف بداخلها تعليق هذه المرأة الغامضة:
-شكلها باين، أهي دي تجيب رجل الزبون اللي يحب التجديد.
قصف قلبها بارتعابٍ أكبر، وشحب لون وجهها مما تسمعه وتراه، لوهلةٍ ظنت أنها تعايش كابوسًا مؤقتًا، سينتهي بمجرد أن تستيقظ من نومها؛ لكنها ليست الحقيقة، إن ما تختبره الآن واقعًا ملموسًا، وهي طرف متورط فيه، بل إنها محور كل شيء يجري هنا.
تساءل “بغدادي” في لؤم وهو يفرك كفيه معًا:
-أستاهل نفحة؟
أطلقت “توحيدة” ضحكة رقيعة عالية، لتقول بعدها في شيءٍ من الذم:
-مصلحجي طول عمرك.
ما زالت “مروة” على حالتها المصدومة تلك، لا تصدق ما تسمعه بأذنيها، وما أكد صدمتها المُوجعة التي كانت كطعــــنـــة غادرة في منتصف قلبها قوله المتفاخر:
-مش برجعلك باللي يرضيكي.
لم تعد تتحمل “مروة” ما يجري، كل ما يدور يصيبها بالرعب والرهبة، لهذا قررت التخلي عن جمودها لتتساءل:
-مين دول يا “بغدادي”؟
تولت مُضيفتها الإجابة عنه بقولها المتعجرف وهي ترفع ساقها لتثنيها وتضعها على أريكتها، حتى تستند بمرفقها على ركبتها هذه:
-أنا ستك “توحيدة” يا حلوة.
تجاهلتها تمامًا، وتحدثت إلى من جاء بها إلى هذا المكان الباعث على كل ما هو مخيف في عصبيةٍ مشوبة بالتوتر:
-أنا عايزة أمشي من هنا.
من ورائها تكلمت “خضرة” في لهجة ساخرة:
-هو دخول الحمام زي خروجه؟
التفتت “مروة” لتنظر ناحيتها بنفورٍ قبل أن تعاود توجيه سؤالها إليه في حمئة، وهي تمسك به من ذراعه:
-فهمني يا “بُغدادي” مين دول؟
نفض قبضتها عنه بقوةٍ، فانصدمت أكثر من تصرفه غير المتوقع، ليأتي بعد ذلك قوله:
-أنا كده عملت اللي عليا، سلام.
في التو انتفضت متحركة تجاهه لتعترض طريقه، أمسكت به من كلا ذراعيه، وراحت تصرخ فيه:
-استنى هنا، إنت سايبني ورايح فين؟
استخدم نفس الأسلوب الخشن في إبعاد يديها عنه مرددًا بجمودٍ، وعيناه تتطلعان إليها بنظرة متجافية خالية من أي مظهر للحب أو حتى الشفقة:
-هما هيفهموكي الحوار ماشي إزاي.
رفضت تركه يمضي لحال سبيله؛ لكن “خضرة” تدخلت لمنعها من اللحاق به، فتمكن من المغادرة، ورحل من الباب الآخر للمنزل، ذلك الذي لا تعلم عنه شيئًا، لتظل هي محاصرة بين جدران هذا المكان. ما لبث أن تغلب حنقها على خوفها لتصيح بتصميمٍ وقد تخلصت من يدي “خضرة” المحتجزتين لها:
-أنا استحالة أفضل هنا، لازم أمشي مع “بُغدادي”.
مرة ثانية ضحكت “توحيدة” بطريقة مستفزة قبل أن تخاطبها بما جعل الدماء تفر من عروقها:
-هو إنتي لسه معرفتيش حقيقته؟
قالت وهي تجاهد للتغلب على رعشة بدنها الخفيفة:
-حقيقة إيه؟
استرخت الأخيرة أكثر في جلستها، واسترسلت بعدما تصعبت بشفتيها:
-بصي يا حلوة، الواد “بُغدادي” شغلته إنه يجيب الحلوين المغفلين اللي زيك عندي، ده طبعًا بعد ما يوقعهم في حبه، ويفهمهم إنه هيتجوزهم، ويخليهم يهربوا من بيوت أهاليهم زي العُبط، ويسلمهم ليا، وأنا بقى أوضبهم وأسنجفهم علشان يليقوا بزباينا…
برزت عيناها في صدمة عظيمة، لتُضاعف من إحساسها بالحسرة والخذلان بإضافتها:
-ولو بت ناصحة من دول وعجبت رجالتنا، بياخدها يشغلها في كباريه كده، وجايز تطلع في كليب من ضمن البنات اللي بترقص.
هللت “خضرة” في انتشاءٍ سعيد:
-ودي تبقى من التوب واللي الحظ ماسك في ديلها يا أبلتي.
راحت “توحيدة” تشير بعدها بكفيها وهي تتكلم:
-وياما وصلت بإيدي دول بنات وقيع لسلم الشهرة والمجد.
أشادت تابعتها المؤدية لها قولًا وفعلًا بما تقوم بها هاتفة:
-فيكي الخير يا أبلتي.
استوعبت “مروة” أخيرًا حجم الكارثة التي حلت بها، فأطلقت صيحة غاضبة، وقد انتفض كل ما فيها للابتعاد عن هذا البيت المـــلعون:
-أنا استحالة أفضل هنا، المـــــوت أهون عليا من اللي هيحصلني لو استنيت للحظة.
استخدمت “خضرة” قوتها لإيقافها، وهتفت في ضيقٍ:
-شكلك مش ناوية تجي بالذوق.
من الخلف حذرتها “توحيدة” في هدوءٍ عجيب، وعلى وجهها نظرات التسلية والاستمتاع:
-بالراحة يا “خضرة”، هي لسه مستجدة، مالهاش في اللون.
اكتفت فقط بدفعها تجاه ربة عملها مرددة:
-أوامرك يا أبلتي.
كورت “مروة” يدها لتضرب بقبضتها على ذراعها، فتجربها على إفلاتها، وهي لا تزال تصرخ بها:
-شيلي إيدك من عليا لأقطعهالك.
أوجعتها ضرباتها الخرقاء، فاستُفزت على الأخير، وردت في شماتةٍ وحقد:
-جاية تعملي شريفة عليا أنا؟ ده إنتي يا بت مضحوك عليكي من واد مدورها ليل نهار.
توالت عليها الصدمات كالصواعق الكهربية، فبكت قهرًا وكمدًا، ومن الوراء “توحيدة” تهتف بنفس النبرة المستمتعة:
-خديها على الهادي يا “خضرة”، الصدمة لسه كبيرة عليها.
شحذت “مروة” قوى غضبها مما حدث لها، واستخدمتها في التخلص من تلك المرأة السمجة التي ترفض تركها، وصاحت بإصرارٍ معاند:
-أنا مش هفضل هنا ثانية واحدة..
ثم راحت تضربها بقوة أكبر في صدرها، ومعدتها، فتأوهت “خضرة” من الألم، واضطرت في النهاية لتحريرها، لتدفعها “مروة” جانبًا وهي تندفع بخطواتٍ راكضة تجاه الباب صائحة فيها:
-أوعي من سكتي.
تمكنت من إدارة المفتاح في قفل الباب، ومن نزع المزلاج، لتقوم بفتحه؛ لكنها تفاجأت بأحدهم يسد عليها مهربها الوحيد، كان ضخم الجثة، أسمر اللون، ذي ملامح خبيثة، بوجهه ندوب متفرقة جراء مشاجراته الدائمة، عيناه لا توحيان سوى بالشر المستطير. تسمرت في موضعها مندهشة من رؤيته، ارتاعت من احتمالية تعرضها للإيذاء على يده. في التو لحقت بها “خضرة” لتجد ضيفها حاضرًا بغير ميعادٍ مسبق كعادته دومًا، فهتفت تناديه باسمه:
-معلم “عباس”!
لم يبعد الأخير نظراته الفضولية عن وجه تلك الشابة غير المألوف عليه، وسألها في صوتٍ أجش:
-في إيه يا بت؟ صوتك مسمع ليه برا؟
تجاهلته، وحاولت المرور لتجاوزه؛ لكنه قبض على ذراعها بقوةٍ، ودفعها دفعًا للعودة إلى الداخل، فصرخت في ألمٍ:
-ابعد عني.
استغلت “خضرة” فرصة تواجده لتستنجد به:
-حوشها يا معلم، ده أنا بوضبها لكوبارتنا، حتة جديدة نقاوة الست “توحيدة”، وفرز أول كمان.
ظهرت أمارات الاستحسان على تعبير وجهه، فقال في حبورٍ وهو لا يزال قابضًا على ذراعها:
-إن كان كده يبقى ديتها عندي.
بذلت “مروة” كل جهدها للتحرر منه؛ لكنه ضربها بقــــســــوة على مؤخرة عنقها، في بقعة معينة، ليفقدها الوعي في الحال، ارتخى بدنها على ذراعه، فظل ممسكًا بها وهو يتحدث في صوته المتحشرج الخشن:
-نادي على النسوان اللي جوا ياخدوها، بدل ما هما عاملين زي البهايم، أكل ومرعى وقلة صنعة.
هتفت “خضرة” في طاعة:
-عينيا.
في أقل من لحظاتٍ عادت ومعها ثلاثة من نساء هذا البيت، تعاونت جميعًا في حمل جسدها، ونقلها إلى داخل إحدى الغرف، بينما أتت “توحيدة” لترحب بضيفها العزيز في حفاوة شديدة:
-اتفضل يا سيد المعلمين، مطرحك ومكانك.
جلست مجاورًا لها على الأريكة، وأمسك بمبسم النارجيلة ليسحب نفسًا عميقًا منها، قبل أن يتلفظه على دفعاتٍ وهو يخبرها:
-عايزك تظبطيلي مزاجي، لأحسن طالع عيني الأيام اللي فاتت.
وضعت “توحيدة” قبضتيها الممتلئتين على كتفيه لتدلكهما في نعومةٍ ورفق، وراحت تخاطبه بصوتٍ متدلل:
-بكرة الكبير يخرج ويريحك.
نفث دفقة أخرى من الدخان الكثيف في الهواء قائلًا:
-أديني مستني اليوم ده من زمان.
أطلقت ضحكة عالية فرحة، قبل أن تضيف في نشوةٍ:
-خلي التعابين تتلم وتخش جحورها.
……………………………………..
حسب الاتفاق المسبق، استسلم حقيبة سفرٍ قماشية قديمة، عند مكب النفايات العمومي، والموضوع بداخلها الرضيع النائم، ليتحرك بعدها مباشرة لمقابلة أحدهم بعدما خابره هاتفيًا، للقائه في بقعة أخرى مهجورة، ليعطيه إياه. خشي “حمص” من استيقاظ المولود، فيلفت بصوت صراخه الأنظار إليه، لهذا حرص كل الحرص على السير في أماكن تخلو من المارة، ولا يتواجد بها إلا الباحثين عما يُذهب العقل، وينسي الهموم بالأوهام والضلالات الخداعة.
ظل مكللًا بتوتره إلى أن جاء إليه هذا الشقي المشاغب، المعتاد على ممارسة كافة أنواع الإجـــــرام، والمُلقب بـ “سِنجة”، نظرًا لمهاراته غير العادية في استخدام المِـــــطواة في قتـــــالات الشوارع العنــــــــيفــة وإصابة خصومه بإصــــابات مباشرة ومُمِيــــتة. نفث دخان سجائره متسائلًا، قبل أن يتحسس الندبة البارزة في صدغه الأيمن:
-معاك اللفة؟
ناوله الحقيبة قائلًا:
-أيوه.
أخذها منه، وفتح السحاب ليلقي نظرة خاطفة على ما فيها، قبل أن يعاود إغلاقها طارحًا سؤاله التالي:
-والفلوس؟
دس يده في جيبه ليخرج رزمة مطوية من النقود، أعطاها له مرددًا:
-خد.
نظر إلى المال محتجًا بوجهٍ عابس:
-مش قليل ده؟
أخبره “حمص” بجديةٍ:
-ده النص بالنص.
على مضضٍ وضع النقود في جيبه مبديًا سخطه:
-لولا إنها تخص الست “توحيدة” مكونتش عملت معاك الواجب.
عقب عليه غامزًا بطرف عينه:
-ما إنت عارفها اللي يخدمها في حاجة بتدلعه.
يبدو أنه اقتنع بالصفقة، ولم يجادل كثيرًا؛ لكنه استطرد في شيءٍ من التحذير المشوب بالريبة:
-إياكش بس المعلم “عباس” مايخدش خبر، ساعتها هيلهف الفلوس كلها.
أكد له “حمص” بما لا يدع مجالًا للشك:
-من جهتي أنا مش هجيب سيرة.
أعلمه بمشاركته نفس القرار:
-وأنا شـارحه.
همَّ “حمص” بالمغادرة، فقال وهو يلوح بيده:
-أما تخلص إديني التمام.
ابتسم في انتشاءٍ قبل أن يرد:
-بالصوت والصورة يا صاحبي.
افترق الاثنان، كلًا في اتجاه مغاير، ليقوم بعدها “سِنجة” بتبديل الحقيبة القماشية بكيس بلاستيك أسود اللون، ووضع الرضيع بداخلها بعدما أحكم لفه في قطعة قماشية، لم يكترث إن كانت ستطبق على أنفاسه ويخـــتــــنق بها أم لا، فمهمته محددة؛ محو أثره من الوجــــــود.
……………………………………
على أطراف تلك المدينة النابضة بالحياة والعامرة بسكانها، تحديدًا بعد منطقة المقابر، وقبل الخلاء الشاسع الفاصل بين الحضر والصحراء الممتدة، تواجدت بُقعة نائية، معزولة عن العمران، رغم توافر كل المرافق والخدمات الأساسية بها، إلا أنها كانت قصيّة، منفية، أو بالأحرى منسية، تحكمها قوانين ونفوذ أحدهم فقط، دونًا عن البقية، بالقرب من محيط التَبَّة العالية.
شردت بنظراتها القلقة من عينيها –ذات اللون العسلي- تراقب الطرقات المؤدية إليها، فقد كانت الملاذ الوحيد المتاح لعائلتها بعدما انهارت بنايتهم، وأصبحوا بلا مأوى، الاختلاف في مستوى المعيشة والثقافة جعلها أكثر اضطرابًا وتوترًا، فهي لم تطأ مثل هذه المناطق الشعبية المتدنية من قبل، رغم قيام الحكومة بالتعاون مع الجمعيات الأهلية ببنائها للمساعدة في حل أزمة الإسكان، بل إنها كانت تسخر من الأفلام التي تجسد وجودها، والآن باتت رغمًا عنها جزءًا منها. التفتت “دليلة” ناظرة إلى والدتها الجالسة بجوارها في المقعد الخلفي بسيارة الأجرة عندما خاطبت والدها الماكث في المقدمة تسأله:
-فاضل كتير يا “فهيم” عقبال ما نوصل؟
أدار رأسه لينظر ناحيتها قائلًا بتحيرٍ:
-مش عارف…
ثم وجه سؤاله إلى السائق:
-قدامنا أد إيه أسطى؟
بعد زفرة مسموعة، تنم عن تبرمه وشكواه وضيقه من اختياره دونًا عن غيره للقيام بتوصيلهم، أجاب:
-خلاص يا حاج، كلها 5 دقايق، وأوديكم عند العنوان…
قبل أن يفكر “فهيم” في قول شيء آخر، أنذره السائق مشيرًا بيده:
-بس مش هعرف أخش جوا، الشوارع ضيقة، والعربية مش هتعرف تطلع، ده غير إنها حتة كل اللي فيها لَبَط.
وكأنه يبث الشعور بالراحة والأمان في نفوسهم عقب جملته تلك، رددت “عيشة” من ورائه في توجسٍ، وفي نوعٍ من السخرية المتوارية:
-الله يطمنك يا ابني.
مالت “دليلة” على والدتها تخاطبها في صوتٍ خافت، شبه لائم:
-ما كنا روحنا مكان تاني يا ماما؟ إيه اللي يجبرنا على كده؟
ردت عليها بنفس النبرة الخفيضة، آملة في إقناعها بعدم إثارة المشاكل في الوقت الراهن:
-ده وضع مؤقت، لحد ما أبوكي يظبط أموره، وماتنسيش هو شريك في فرن العيش اللي هناك، أهوو القرشين اللي يطلعوا منه، نحوشهم لحد ما ربنا يعدلهالنا ونمشي.
لم تحبذ ما فرضته عليها، وبرطمت في همسٍ:
-ليها حق “إيمان” وجوزها يرفضوا يوصلونا، ما هو بعد ما كنا ساكنين في أرقى مكان في البلد، بقينا أعدين في العشوائيات.
سكتت للحظاتٍ، تتأمل فيها أطنان القمامة المُلاقاة على هيئة أكوامٍ في جانبها الذي تحدق فيه من الطريق عبر نافذتها، أزعجت الرائحة المنفرة أنفها، فأغلقت النافذة، واستدارت تكلم والدتها من جديد:
-وأنا هروح الكلية إزاي؟ ده المشوار بعيد جدًا.
أخبرتها بتهجمٍ واضح على تعبيرات وجهها:
-أبوكي هيوصلك، يا إما أنا هجي معاكي، وخلاص إنتي في آخر سنة في اقتصاد منزلي، وكلها كام شهر وترتاحي من هم التعليم والمذاكرة.
لم يعطِ حديثها التقليدي أي حل لمشكلتها، فطرأ في بالها فكرة ما، لذا لم تتردد في الاستفسار منها عن مدى تطبيقها، وراحت تسألها باندفاعٍ:
-ماينفعش أفضل أعدة مع “إيمان”؟
زادت تعبيراتها وجومًا، وهتفت مستنكرة:
-وجوزها يقول عننا إيه؟ إنتي عارفاه بيتلكك.
جاء تبريرها منطقيًا:
-بس أنا كده مش هعرف أركز، وجايز أسقط في الامتحانات، ساعتها هيكون العمل إيه؟
صمتت “عيشة” لهنيهة تفكر، لتقول بعدها على مضضٍ:
-خلاص لما يجي وقت الامتحانات تبقي تروحي عندها..
مجددًا اعترضت على طول المدة قائلة:
-بس ده لسه بدري، وآ…
قاطعتها في حسمٍ، وهذه النظرة الصارمة تطل من حدقتيها:
-نتكلم بعدين، واحفظي السكة اللي مش باينلها ملامح دي!
عاودت النظر إلى الطرقات الرملية، التي نشرت في الجو سحابة من الغبار والعفر جراء سير إطارات المركبات المختلفة بسرعاتٍ متفاوتة، فلم تتبين وجهتهم تحديدًا، أدركت لحظتها أنه لن يكون من السهل تقبل هذا الوضع الجديد، فهي بالكاد تحاول الصمود والتأقلم؛ ولكن البداية لا تبدو مبشرة على الإطلاق.
……………………………………..
بعدما ألقى نظرة مدققة على محيط هذه المنطقة، وتأكد من خلوها من كاميرات المراقبة، تحرك “سِنجة” تجاه الشارع المزدحم بمختلف أنواع السيارات بجانب الدراجات النارية والمارة، ليلقي على الأسفلت الكيس الذي كان يحمله في يده، وكأنها قمامة يتخلص منها، دون أن ينتبه إليه أحد، فالكل مشغول بشأنه، ليسرع بعدها في خطاه عابرًا للجهة الأخرى من الطريق، محاولًا مراقبة ما سيحدث بتوترٍ وقلق.
من سوء حظ سائق ذلك الميكروباص، أنه دهس بإطار مركبته على الكيس، فانفجــــر ما به، مخلفًا على الطريق بركة كانت مزيجًا من الأشلاء والدماء، توقف فجــأة، ليترجل من مركبته متسائلًا:
-دي قطة ولا إيه؟
لتسود بعدها حالة من الهرج والمرج، وقد تم الكشف عما بداخل الكيس، حيث أطلت بقايا رأس رضيع مُهشـــــمة، وأجزاء ممــــزقة من جسده. فصاح مهللًا في فزعٍ:
-يا ليلة سودة، ده كان في عيل جوا الكيس.
صرخت النساء، وارتفع الصخب، ليردد أحدهم مستنكرًا بشدة فظــــاعة ما جرى:
-مين ابن الحـــــــرام اللي عمل كده؟!
في التو نفى السائق التهمة عنه، والذعر يعتريه:
-وربنا كنت مفكره كيس زبالة.
برر أحدهم تصرفه التلقائي بمنطقيةٍ:
-وإنت هتعرف منين؟ ده مرمي في وسط الشارع.
هتف آخر من الخلف:
-اطلبوا النجدة أوام.
في حيث تحدث أحدهم وهو يضرب كفه بالآخر في حزنٍ وتأثر:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، ذنبه إيه ده تكون نهايته كده؟
مثل البقية التحم “سِنجة” مع الحشد المتفرج، واستخدم هاتفه المحمول لتسجيل الحـــادثة، وكأنها سبق صحفي، قبل أن يتوارى عن الأنظار، ويختفي عن المشهد البـــــشــــع الذي كان هو سببًا رئيسيًا في حدوثه.
……………………………………….
انتهى لتوه من الاغتســـال، فقام أحدهم بإعطائه منشفة قطنية نظيفة، ليجفف بها وجهه ومرفقيه، قبل أن يقذفها إليه، ليأخذ من آخر قميصه الكحلي ليرتديه، قام بعدها بزرِ أزراره على مهلٍ، ثم خرج من الحمام مختالًا في مشيته، ومن خلفه أتباعه كأنهم أفراد حراسته الخاصة أو حاشيته المخلصة. عرج على أحد قوات تأمين حراسة السجن، فلوح بيده له ليحييه، ومر على آخر خاطبه بلهجةٍ مالت للمزاح قليلًا:
-مش هتوحشنا يا “هجام”، يا ريت مترجعش تاني عندنا.
رد عليه في زهوٍ، وكأن قدومه إلى السجن مُدعـــاة للفخر والاعتزاز:
-على حسب الظروف يا باشا.
واصل سيره كالملك إلى أن وصل إلى عنبر السجناء، فتقدم أحد أتباعه ليفتح الباب له، فولج إلى الداخل باحثًا بنظرة شاملة عن أحدٍ بعينه، وجده منزويًا بالقرب من قضبان النافذة الوحيدة بالمكان، فأشار لرجاله بالتوقف، واتجه إليه. وضع “كرم الهجام” كفه على كتف شقيقه الأصغر لينبهه إلى وجوده، ثم استطرد في صوتٍ أجش:
-مش عايزك تقلق، رجالتي معاك طول الوقت، كأني موجود بالظبط.
أطفأ “زهير” سيجارته قبل أن ينهي نصفها بالدعس على عقبها مرددًا:
-ماشي يا “هجام”.
تابع كلامه إليه، كنوعٍ من التحفيز، وهو لا يزال يربت على كتفه بشيءٍ من القوة:
-إنتو مش أخويا الصغير وبس، إنت ابني، وأقرب حد ليا.
لحظتها التفت ينظر إليه، خاصة حينما شدد عليه، وعيناه قد أصبحتا أكثر قتامة وشراسة:
-وحط كلامي ده حلقة في ودنك، اللي يدوسلك على صوباع، اِقــــطـــعله إيده كلها، الضعيف بيتاكل، سامعني؟ وإنت جاي من صلب عيلة “الهجام”، مش واخد الصيت والسلام.
هز رأسه مقتضبًا في الرد:
-حاضر.
سحبه بعدها من كتفيه بعيدًا عن النافذة، وهو لا يزال يتحدث إليه، في نبرة جادة رغم خفوتها:
-تعجبني، الليلة مش هبات معاك هنا في العنبر، بس اعتبرني موجود.
عقب عليه مرددًا:
-الحكاية كلها كام يوم وأخرج.
ربت مرة ثانية بقوةٍ طفيفة على منبت كتفه محفزًا إياه:
-السجن للجدعـــان، واحنا ملوك التَبَّة!
اكتفى بتحريك رأسه مبديًا تأييده لما اعتبره خطابه التشجيعي، وجلس معه على سريره يتبادلان المزيد من الأحاديث الجادة عن أمور شتى، كأنما يراجعان كيفية سير جدول أعمالهما داخل جدران السجن، وخارجه.
………………………………………
انقلبت حياتهم رأسًا على عقب ذلك النهار الغائم، جراء إصرار أحد جيرانهم -والذي يقطن بالطابق الأرضي- على إجراء تعديلاتٍ في التصميم الهندسي داخل منزله، فهدم الجدران لتوسعة الصالة، مما أثر على البنية الأساسية للمبنى القديم، وجعله عرضة للانهيار في أي لحظة، فصدر الأمر المباشر من الحي بإخلاء جميع العائلات منه، وانتقالهم للعيش في أماكن أخرى، ولكون الأمر فجائيًا، وغير مرتب له، لم يكن أمام السيد “فهيم حجاب” سوى الانتقال إلى هذا المنزل المتواضع، والذي كان قد حصل عليه منذ زمن عن طريق الاشتراك في الجمعيات الأهلية التي توفر السكن للمواطنين بأسعارٍ في المتناول، ريثما يتمكن من توفيق أوضاعه، والانتقال إلى حي سكني آخر يليق بالعائلة.
بعد مداولات، ومشاورات، وزيارات متعددة لأباطرة السَّمْسَرة تمكن من مبادلة شقته الوضيعة بأخرى أفضل حالًا، في هذا الحي الجديد النائي، وبفارق سعرٍ بسيط، يتناسب مع ظروفه الاقتصادية، كانت لحسن حظه قريبة من المخبز الذي يتشارك فيه مع أحد معارفه بنسبة الثلث إلى الثلثين، بالطبع لم يمتلك حق الإدارة، وكان فقط يحصل على حصته من الأرباح السنوية، تلك التي لم تعد تكفي للمعيشة بعد بلوغه سن المعاش، وانخفاض راتبه إلى الحد الأدنى.
كذلك تزويج ابنته البكرية –”إيمان”- ومساعدتها على الاستقرار مع زوجها قضى على كافة مدخراته، وما تبقى بالكاد يكفي للمشاركة في شراء الأثاث والأشياء الضرورية لزواج ابنته الصغرى إن جاء أحدهم وتقدم لخطبتها؛ لكن القدر لم يمهله الفرصة للحفاظ على هذا المال، فسحب جزءًا كبيرًا منه لدفع النقود المطلوبة لتوضيب سكن العائلة وشراء الأثاث، وإلا لنصبوا إحدى الخيمات وجلسوا بداخلها في العراء!
-حاسبي يا ماما.
قالت “دليلة” هذه العبارة محذرة أمها لتنتبه لخطواتها أثناء محاولتها العبور على الرصيف المهدم، على أمل ألا يلمس حذائها ماء الصرف العطن الذي يغرق الشارع الضيق منذ بدايته. كما قامت برفع طرف ثوبها لئلا يتســــخ أو يبتل، لتتساءل “عيشة” في ضيقٍ:
-هو البيت مكانه فين؟
أجابها السمسار “كيشو” مبتسمًا بسماجةٍ:
-على الناصية يا حاجة.
لم تستطع “عيشة” منع نفسها من إظهار نقمها على سوء اختياره، خاصة مع رؤيتها لمدى تدني مستوى المعيشة بالمنطقة:
-ملاقتش أبعد من كده يا “فهيم” علشان نسكن؟
لحظتها استدار زوجها ناظرًا إليها بعتابٍ، وهمهم في صوتٍ خفيض:
-مش قصاد الراجل.
كان السمسار قد سبقهم في خطاه، فوصل إلى منتصف المسافة، وأشار بيده نحو أحد الأبنية القديمة قائلًا:
-وربنا الحتة هناك هواها يرد الروح، دي بحري، في الصيف طراوة، والشتا مقولكش.
حاول “فهيم” مجاراته في خطواته السريعة، ليصغي إليه بتركيزٍ وهو يعطيه معلومة هامة:
-وفرن العيش بعدها بعمارتين.
استحسن ذلك معقبًا:
-كويس.
انتفضت “عيشة” وابنتها معًا حينما صدح فجـــأة أصوات صرخات ملتاعة فزعة، من مكانٍ قريب، توحي بأن كارثة مفجعة قد وقعت للتو، فتساءلت بعفويةٍ:
-إيه الصويت ده؟
استطاع “كيشو” تحديد مصدر الصوت، وقال في لهجةٍ محذرة، وقد انقلبت سحنته:
-مالناش دعوة، وخصوصًا جماعة الست “توحيدة”، دي مسنودة، والزعل معاها وحش.
في لمحةٍ من السخرية تساءلت “دليلة” وهي غير قادرة على منع نفسها من الابتسام:
-مين دي كمان؟ زعيمة عصابة ولا إيه؟
سمعتها والدتها فوكزتها في ذراعها تنذرها:
-بطلي تريقة يا “دليلة”، إنتي مش سامعة الراجل بيقول إيه، ما هو ده اللي ناقص نشبك مع الأشكال اللي هنا!!
بعد بضعة دقائق وصلوا جميعًا إلى مدخل العمارة، لم يكن في أحسن صوره، ولا مشجعًا على تقبله، فتشققات الطلاء ظاهرة، بجانب الصدوع الممتدة بطول الحائط، ورشح المياه، ناهيك عن الرائحة الغريبة المنبعثة من طفح مجاري الصرف الصحي الموجودة بالمنور الخلفي. سدت “دليلة” أنفها بطرف حجابها، وتبعت أمها في خطاها الصاعدة على الدرج لتستوقفهم إحدى الجارات الفضوليات متسائلة بتطفلٍ شبه فظ:
-مين دول يا “كيشو”؟ طالعين عند مين هنا؟
أجابها بلا ابتسامٍ:
-جيرانكم الجداد، اللي ساكنين في الدور الأخير.
وكأنهم وضعوا تحت عدسة المجهر، مررت الجارة نظراتها المدققة عليهم قبل أن تهتف في وديةٍ عجيبة:
-يا مراحب، منورين الحتة، إن شاء الله تكون بالخير عليكم.
ترفعت “عيشة” عن الرد عليها، بينما تولى “فهيم” دفة الكلام مجاملًا:
-تشكري يا حاجة.
وفجـــأة راحت الجارة تنادي على معارفها لتطلعهم على ما اعتبرته بالأخبار العاجلة، لتعلق “دليلة” هازئة مما يحدث معهم:
-الظاهر هنا محدش يعرف حاجة عن مفهوم الخصوصية.
مجددًا راحت والدتها تحذرها بنفاد صبرٍ:
-خلينا في حالنا.
أكملوا صعودهم إلى الطابق الأخير، ومن ورائهم كانت الأبواب تُفتح لرؤيتهم بشكلٍ أوضح بعدما انتشر خبر وصولهم كسرعة البرق.
………………………………………
الترقية التي حصل عليها مؤخرًا في عمله، جعلته يتولى إدارة فرع هذا البنك الاستثماري كنائبٍ عن المدير في حالة غيابه، مما أكسبه سمة العجرفة والاستعلاء على الغير، خاصة هؤلاء الذين يعرفون أصله، وكيف بدأ بموظفٍ بسيط بعقدٍ مؤقت في بنك لا يسمع عنه أحد، فظل يتمسح لهذا وذاك، إلى أن واتته فرصة حقيقية، وانتقل عبر وساطة أحدهم إلى بنكٍ آخر ذائع الصيت، فسهل عليه إظهار مهاراته في الإدارة وتولي الأعمال.
نثر “راغب” عطره باهظ الثمن بإفراطٍ على قميصه السماوي، قبل أن يفرقع بإصبعيه لزوجته لتحضر له سترته الكحلية، ساعدته على ارتدائها، ثم استخدمت فرشاة الملابس لتمسح عليها ببطءٍ حتى تزيح قشرة الشعر وأي أشياءٍ صغيرة قد تفسد مظهره الأنيق. ابتسمت “إيمان” لوجاهته، وقالت في شيءٍ من العتاب:
-مش كان واجب علينا روحنا مع ماما وبابا وأختي نطمن عليهم في بيتهم الجديد.
نظر لها من طرف عينه، قبل أن يرد متهكمًا:
-هما المكان اللي سكنوا فيه ينفع أصلًا يتراحله؟
وجمت ملامحها في إحباطٍ، فتابع على نفس النهج الوقح:
-دول ساكنين مع المجــــرمين، وسط النــَّور والهليبة.
ابتلعت بصعوبةٍ ريقها، وردت مبررة اضطرارها للانتقال إلى هناك:
-ما إنت عارف إنه وضع مؤقت.
وكأنه يحملها اللوم في أمر ليس لها أي يدٍ فيه، فسألها:
-وأبوكي ما خدش شقة بالإيجار ليه في مكان أحسن؟ لازم يعني يعمل فيها صاحب أملاك!!
تعللت له بأسبابٍ بدت من وجهة نظرها منطقية:
-إنت عارف إنه ما بيحبش يسكن عند حد، وبعدين المكان مش وحش للدرجادي، هو إكمنه مِتـــطــــرف شوية، فطالع عليه السمعة دي.
استخدم يده للتطاول عليها، ولكزها في جبينها مستهترًا بما فاهت قبل أن يخرج من غرفة نومهما:
-إنتي مش عايشة معانا ولا إيه؟
تأوهت من وكزته القاسية، وسارت خلفه لتتبعه مواصلة الدفاع عن عائلتها:
-وبعدين ما تنساش بابا وقف جمبنا وساعدنا إننا ننقل هنا، ولولاه كنا زمانا لسه في سكن الموظفين.
وكأنها مست كرامته وجرحتها بهذه الحقيقة، فتوقف عن السير ليلتفت تجاهها هاتفًا في حقدٍ:
-وأظن إن اللي استلفته منه سددته كله على داير المليم، بس هو اللي ضيعه في توضيبات مالهاش لازمة، على أساس لما يجي لأختك عريس يلاقي بيتكم زي القصر.
استشعرت “إيمان” أن زوجها يفتش بطريقته الحانقة تلك عن أسباب للجدال وإثارة الخلاف بينهما، فوأدت المشاجرة في مهدها قبل أن تنشب بقولها الحاسم:
-“راغب” هي الحكاية مش مستاهلة نتخانق.
كان مثلها لا يريد تعكير صفوه بالحديث عن ذكريات الماضي، فتجاوز مشادتهما الوشيكة بإعلامها:
-أنا احتمال اتأخر، عندنا مراجعة وتقفيل ميزانيات.
ضبطت رابطة عنقه، وتبسمت في وجهه قائلة بتدللٍ خفيف:
-براحتك يا حبيبي، هستناك علشان ناكل سوا.
بلا ابتسامٍ قال وهو يبتعد عنها متجهًا نحو باب المنزل:
-طيب.
شيعته بناظريها، وهي لا تزال محافظة على ابتسامتها اللطيفة الودودة إلى أن صفق الباب بعنفٍ طفيف، وقتئذ تلاشت بسمتها، واحتل التجهم تقاسيمها، لتلومه في استعتابٍ حزين:
-ليه المعاملة دي يا “راغب”؟ أومال لو مكانش أهلي بيحبوك وعملوا كل حاجة ترضيك، علشان تكون إنت مرتاح ومبسوط!
ظلت مطرقة الرأس لبعض الوقت، وهي تقاوم غزو دموعها لحدقتيها، اضطرت أن تسحب نفسًا عميقًا لتثبط به ما غصَّ بصدرها من مشاعر مختنقة، تجعلها دومًا في صراعٍ ما بين إرضائه، وإسعاد أسرتها.
………………………………………..
في دوائر صغيرة، راح السمسار يلتف في أرجاء الصالة بعدما انتهى من إجراء التعديلات المطلوبة لجعل المكان يبدو أفضل إلى حدٍ ما، وفرشها بالأثاث الذي لم يكن مماثلًا لما امتلكوا في وقتٍ سابق، ثم قام بفتح كافة النوافذ، وشــرح مزايا السكن هنا لهم، ليستدير مخاطبًا “فهيم” بحماسٍ متقد:
-مافيش بعد كده يا حاج، كل اللي طلبته اتعمل.
رد في امتنانٍ مقتضب:
-تسلم.
تفقدت “دليلة” محيط المنزل عبر نوافذه في تعجلٍ، وعادت إلى والدتها، لتميل عليها هامسة في تذمرٍ:
-هو احنا هنقعد إزاي هنا؟ ده البيوت كلها بتطل على بعض!
تحركت “عيشة” من موضع وقوفها لتنظر بتدقيقٍ إلى موقع المنزل في هذه المنطقة المتواضعة، وابنتها من ورائها تعقب في نفس النبرة المنزعجة:
-مافيش إلا الصالة اللي يدوب جايبة الشارع.
نهرتها أمها من جديد في استياءٍ معكوسٍ عليها:
-خلاص بقى يا “دليلة”، أنا على أخري، ومش قادرة أستحمل، يدوب متلصمة.
استغلت حالتها تلك لتطلب منها بإلحاحٍ:
-طب ما تقنعي بابا نغير المكان، واحنا لسه فيها.
زفرت عاليًا، وحدجتها بهذه النظرة المحذرة قبل أن تنطق بصبرٍ قد نفد تقريبًا:
-اللي قولته هنعيده تاني؟ لما الظروف تسمح.
وقف “فهيم” أمام النافذة، وتطلع إلى الطريق بتركيزٍ، فأخذ “كيشو” يشرح له مستخدمًا يده في الإشارة:
-من الشارع ده تقدر تمشي لآخره لحد ما توصل قسم الشرطة، والله يبعد سيرتهم عننا، ومن الناحية التانية لو مشيت طوالي هتوصل للتَبَّة، ودي حتة ربنا يكفينا شر الناس اللي فيها.
سمعت كلتاهما من الخلفية وصفه للطريق، فعلقت “دليلة” ساخرة:
-كلامه يطمن أوي.
تساءلت “عيشة” وهي تستدير بجسدها لتسير نحو ردهة صغيرة:
-على كده شكل الحمام إيه؟!
سبقها “كيشو” في خطواته، وقال بتفاخرٍ:
-دي حاجة أبهة!
قام بفتح الباب الخشبي للحمام، وولج إلى داخلها مشيرًا بيده، وفي نفس الوقت مخاطبًا “فهيم”:
-غيرت الإشاني يا حاج، والقاعدة أفرنجي أهي، بدش خارجي مش بلدي زي ما كنت مفكر.
ألقى الأخير نظرة على مقعد المرحاض الأبيض، بالفعل كان قد تم تغييره إلى آخر جديد، بجانب الحوض، وكذلك المغطس، والبلاط الذي كان مزيجًا من اللونين اللبني والأبيض. استحسن صنيعه مرددًا بابتسامةٍ باهتة، رغم عدم اقتناعه بذوقه العجيب في اختيار مثل هذه الألوان:
-كويس.
سمع جميعهم صوتًا يصدر عن مقعد المرحاض، فبدا وكأن شيء ما يخمش سطحه الداخلي. رفع “كيشو” الغطاء، فتفاجأ بوجود فــأر صغير يقفز بداخله، في التو أعاد وضع الغطاء البلاستيكي ريثما يبحث عن شيء يساعده على التخلص منه، بينما صرخت “دليلة” في فزعٍ وهي تشير بإصبعها تجاهه:
-ماما، الحقي فـــــار!
ذعرت والدتها هي الأخرى وتراجعت للخلف لتقف عند عتبته، بينما تمكن السمسار من استخدام عصا الممسحة في القضــــاء على ذلك المتسلل القميء، ثم أمسك به من ذيله، فانكمشت “دليلة” على نفسها، ليقوم بإلقائه من النافذة الصغيرة مرددًا في زهوٍ:
-جبت خبره.
تساءل “فهيم” في دهشةٍ:
-إزاي طلع من القاعدة كده؟
جاء رد “كيشو” عاديًا:
-تلاقيه مشى في المواسير.
من الخلف هتفت “دليلة” متسائلة، وعلى وجهها علامات الذهول والتأفف:
-عملها إزاي؟!
أجاب عليها والدها بتبرمٍ:
-ابقي اسأليه، أنا اللي هعرف.
هذه المرة وجهت سؤالها للسمسار، فحادثته بتعبيرٍ مشمئز:
-على كده الحتة مليانة من الكائنات دي؟
كعادته، أتى رده واضحًا للغاية:
-متعديش، بس حلها سهل، مصيدة وحتة جبنة وهتجيبي أبوهم، مش قِصة هي.
اقشعرت شعيرات جلدها، فعقبت في سخرية مغلفة بالخوف:
-أنا أخاف يطلعلي تعبان وأنا جوا.
تصنع “كيشو” الضحك، قبل أن يخاطبها:
-مش للدرجادي، بكرة تتعودوا…
ثم اتجه ناحية “فهيم” ليناوله مفتاح المنزل قائلًا:
-المفتاح أهو يا حاج، وربنا يجعلها قدم السعد عليكم.
أخذه منه، وسار معه نحو الصالة هاتفًا في شيءٍ من التقدير:
-تعبتك معايا يا “كيشو”.
رد عليه مجاملًا:
-متقولش كده يا حاج…
ناوله “فهيم” مظروفًا مطويًا، وضع بداخله العمولة المتفق عليها مسبقًا، فمد يده ليأخذها في سرورٍ، وشكره:
-يدوم يا رب..
ثم وضع المغلف في جيبه بعدما تفقده بنظرة سريعة، ليتابع كلامه إليه:
-لو احتجت حاجة أنا في الخدمة.
هز رأسه مرددًا:
-أكيد طبعًا.
أوصله إلى خارج المنزل، وبقيا على البسطة يتحدثان للحظاتٍ، بينما قامت “عيشة” بإلقاء نظرة أخرى مدققة لمحيط بيتها، وهي تتمتم برجاءٍ:
-ربنا يعدي اللي جاي على خير ……………………………..!!
…………………………………….
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية فوق جبال الهوان)