رواية فوق جبال الهوان الفصل الثاني 2 بقلم منال سالم
رواية فوق جبال الهوان الفصل الثاني 2 بقلم منال سالم
رواية فوق جبال الهوان البارت الثاني
رواية فوق جبال الهوان الجزء الثاني
رواية فوق جبال الهوان الحلقة الثانية
انفطر قلبها منذ اللحظة التي حرمت فيها من وجود رضيعها إلى جوارها قبل حتى أن تشتم رائحته، تضمه إلى صدرها، أو حتى تُطعمه من لبنها، كان ذلك أقسى ما استطاعت اختباره في هذه الدنيا المجحفة، فمنذ أن رمتها الحياة إلى هذا المنزل المملوء بكل مساوئ البشر، تحملت كل شيء، وصبرت على ما لا يمكن لفردٍ سوي احتماله، لعل وعسى يأتي من ينتشلها من هنا، ومع ذلك ظلت قابعة في الوحــل، تتنقل بين الرجال كأنها سلعة مستهلكة، هذا يهينها، وهذا يدللها، وهذا يصب عليها جام غضبه، سكتت، وتقبلت الهوان على نفسها، إلى أن علمت بمسألة حملها، شعرت آنذاك بأن هناك بارقة من الأمل، ستكون لها عائلة، وإن كانت مكونة منهما فقط.
لكن ربة المنزل وصاحبته اللئيمة رفضت إكمال هذا الأمر بشدة، وسعت لإجهاضها والتخلص من بذرة الســــوء تارة بالضـــــرب المُبرح، وتارة أخرى بالأدوية المسببة لإسقـــاطها، إلا أن جنينها أظهر تشبثه أكثر بالحياة، فتخلت “توحيدة” عن مسألة حرمانها منه، وقتها ظنت “وِزة” أن قلبها رقَّ إليها، وستمنحها ما تطمح فقط لامتلاكه؛ لكن تحطمت أبسط أحلامها على صخرة الواقع القاسية حينما اختطـــــفته منها، لتأخذه إلى المجهول.
لم ينضب دمعها، ولم تكف عن النواح والاستجداء، بل إنها تحينت كل فرصة تجدها فيها رائقة المزاج، لتسألها عن مصيره، ورغم أن جوابها كان متكررًا، بأن تنساه، إلا أنها لم تفقد الأمل، فقد توهمت أنها أودعته كأمانةٍ عند أحدهم، كنوعٍ من العقاب لها لمخالفتها أوامرها.
هذه المرة انتظرت انتهائها من تمضية وقتها الخاص مع “عباس” لتتسلل إلى مخدعها، كان الأخير في الحمام الملحق بالغرفة يغتسل، و”توحيدة” تتمدد باسترخاءٍ على سريرها وهي في قميص نومها ذي لون الأحمر القاني. ولجت “وِزة” إلى الداخل دون استئذانٍ، مقتحمة عليها خصوصيتها المزعومة، ثم أحنت رأسها في ذلٍ، وتوسلتها بصوتها الباكي:
-بالله عليكي يا أبلتي تخليني أشوف ابني.
انتفضت لرؤيتها بداخل غرفتها في وقاحة فجة منها، وصاحت بها وهي تعتدل في رقدتها:
-إنتي اتجننتي؟ داخلة عليا أوضتي من غير إحم ولا دستور؟
اعتذرت منها في التو:
-حقك عليا، بس نفسي تريحيني.
نهضت عن الفراش، وسحبت روبها الملقي بإهمالٍ على الأرضية لترتديه، وهي لا تزال توبخها بحدةٍ:
-إيه ما بتزهقيش من الأسطوانة دي؟
هدر “عباس” من داخل الحمام مبديًا تذمره من صوتهما المرتفع:
-في إيه يا “توحة”، ليه في دوشة عندك؟
انقلبت سحنتها للغاية من تسببها في تكديره، ولو بشكلٍ بسيط، راحت “توحيدة” تلكزها في كتفها لتدفعها نحو باب الغرفة وهي تعنفها بغيظٍ:
-عاجبك كده، قلبتي مزاج المعلم…
بقدر استطاعتها حاولت مقاومة طردها لها وهي ترجوها:
-علشان خاطري بس، أطمن عليه.
صرت على أسنانها في حنقٍ، وزَعقت فيها بغلٍ وقد شحذت كامل قواها لطردها خارج الغرفة:
-قولتلك هو مـــات، مـــــــــــات، إيه ما بتفهميش!
انكفأت “وِزة” على وجهها من إثر الدفعة العنيفة، فوقفت بجوارها تصيح في صوتٍ غاضب:
-يا “خضرة”! إنتي يا ولية، تعالي خدي الهبابة دي من هنا.
بخطواتٍ راكضة أتت إليها في الحال، وردت وهي تنحني عليها لتشدها من ذراعها، وتُبعدها عن محيط ناظريها:
-حاضر يا أبلتي.
انخرطت الأخيرة في بكاءٍ شديد، وحاولت استجدائها من جديد؛ لكنها صفقت الباب في وجهها، لتطلب منها “خضرة” في قليلٍ من التعاطف:
-يالا يا “وِزة”، كفاية كده، بدل ما تسلط عليكي اللي ما بيرحمش.
بثقلٍ نهضت من موضعها، وهي لا تتوقف عن البكاء المرير، فما زال الأمل يحدوها بأنها ستكون على لقاءٍ قريب برضيعها.
………………………………………
بداخل غرفة مكتب مديره الفخمة، ذات الحوائط الزجاجية اللامعة، حيث تغطي الستائر البلاستيكية معظمها، تلك التي يحلم بالجلوس على مقعد رئاستها، وتعليق لافتة تحمل اسمه بالخارج والداخل، وقف “راغب” أمام رئيسه يحني رأسه مبديًا احترامه له، خاصة والأخير يخاطبه في نبرةٍ جمعت ما بين الجدية والاهتمام:
-إنت عارف إنك من المفضلين عندي يا “راغب”.
ابتسم مجاملًا وهو يرد:
-أكيد يا فندم.
تابع رئيسه المباشر كلامه إليه بنفس الدرجة من الشفافية والوضوح:
-وأنا بجهزك علشان تمسك فرع البنك في العاصمة.
بلا خجلٍ أفصح عن رغبته:
-يا ريت ده يحصل، أنا بحلم باليوم ده من زمان.
بدا معجبًا بما وصفه بحماس الشباب، وراح يؤكد عليه:
-عايزك الفترة الجاية تستعد كويس، وتكون على أد المسئولية الجديدة دي.
هز رأسه في طاعةٍ حينما عقب:
-اطمن، وإن شاءالله هكون عند حسن ظن سيادتك.
أشار له ليغادر مكتبه هاتفًا في نبرة رسمية:
-تقدر تشوف شغلك.
ظل محافظًا على ابتسامته المصطنعة وهو يخاطبه قبل أن يستدير متجهًا نحو الباب:
-تمام يا فندم، عن إذنك.
ما إن خرج حتى لفظ تنهيدة عميقة محملة بالآمال والأحلام، ليُحادث نفسه مرددًا:
-يا سلام لو ده حصل، هبقى في حتة تانية خالص.
………………………………………..
الصخب غير المفهوم الذي كان يحيط بها جعل مداركها تتيقظ ببطء، فبدأت في الاستفاقة من حالة الإغماء التي فُرضت عليها، لتشعر بشيءٍ غريب، وكأن هناك برودة قارصة تأتيها من كل جانب، تجبر أطرافها على الارتعاش، استوعبت الأمر حقًا، كانت مجردة من كامل ثيابها، فيما عدا ملابسها التحتية، وهناك فقط ملاءة بيضاء قديمة، تسترها عن الأعين النسائية المحدقة فيها بفضولٍ.
فزعت “مروة” لكونها على هذا الوضع المشين، وسحبت بيدين مرتعشتين الملاءة حتى كتفيها لتغطي جسدها المكشوف، طافت بنظرة مذعورة على من حولها، إنها وسط مجموعة من النسوة الغرباء عنها، يجلسن في أسِرَّةٍ متفرقة تزدحم بها الغرفة، وكلهن يتطلعن إليها بنظرات متفاوتة جمعت بين الاستخفاف والحيرة، وهن بالكاد يرتدين ما يسترهن. انكمشت على نفسها، وأطلقت دفعة من الأسئلة المتلاحقة مرة واحدة، وتعبير مفزوع يحتل كامل تقاسيمها:
-أنا فين؟ وإنتو مين؟ وفين هدومي؟!!
ضحكت إحداهن ساخرة منها:
-الوارد الجديد صحت يا نسوان.
تحولت “مروة” ببصرها تجاهها لتجدها تطلي أظافرها في اهتمامٍ، قبل أن تدير رأسها للجانب الآخر عندما قامت إحداهن بالإجابة عليها في صيغة متسائلة:
-مش إنتي يا حبيبتي اللي جابك “بُغدادي” عندنا؟!!
علقت أخرى في عبوسٍ منزعج:
-ياما جاب الغراب لأمه.
عادت الشابة الأولى لتتكلم وهي تشير بفرشاة طلاء الأظافر الملطخة باللون الأحمر:
-نص اللي هنا جابهم اللي ما يتسمى.
ردت عليها أخرى في كرهٍ:
-ده طلع دحلاب ابن (…..)، عرف إزاي يضحك علينا، ولبسنا في الحيطة.
الآن تذكرت كل شيء، لقد تم خداعها تحت وعود الزواج الزائفة، واستدراجها بحماقةٍ لتهرب من بيتها، ومن ثَمَّ جرها إلى هذا المستنقع الملعون. ظلت متشبثة بالملاءة، والذعر يعتريها، لتتساءل في صوتٍ مهتز شبه صارخ:
-فين هدومي؟ ردوا عليا!
نهضت امرأة ما من على فراشها المحشور في الزاوية لتقول بفمٍ ملتوٍ:
-ده علشان ياختي كشف الهيئة.
لم تفهم مقصدها بالضبط؛ لكن دبيب قلبها ارتفع بشدةٍ حتى كاد يصم أذنيها، ابتلعت ريقها وسألتها:
-نعم؟ يعني إيه؟
تجاهل الجميع الرد عليها، وكأنهن اتفقن ضمنيًا على مفاجأتها بما لا يمكن لخيالها المحدود أن يصوره لها. هتفت أخرى عاليًا:
-نادي على “خضرة” وقوليلها البت فاقت.
عصفت بـ “مروة” موجة من الغضب الممزوج بالخوف، وراحت تصرخ في عصبيةٍ:
-أنا عايزة أمشي من هنا، وديتوا هدومي فين؟
ادعت امرأة ثالثة الضحك، لتقول وهي تتصعّب بشفتيها:
-يا ريتها كانت بالساهل، مكانش حد غلب.
في غمرة حديثهن المخيف لها، جاءت “خضرة”، ووقفت عند أعتاب الغرفة هاتفة في نبرة هازئة:
-أخيرًا فوقتي، نوم العوافي يا ادلعدي.
تذكرتها في الحال، فتوسلت إليها “مروة” بعينين تحبسان الدموع فيهما:
-من فضلك يا ست “خضرة” خليني أمشي من هنا، وأرجع لأهلي.
منحتها الأخيرة نظرة إشفاقٍ واهية قبل أن تسخر منها:
-أهلك، يا حـــرام!
لحظتها شعرت “مروة” بأن محاولتها لنيل تعاطفها باءت بالفشل، ولن تترأف بها. استمرت “خضرة” على وتيرة سخريتها قائلة وهي تشير إلى عينها:
-قطـــــعتي في قلبي، وأنا دمعتي قريبة!
فجأة تحولت للنقيض، لتبدو كشخصيةٍ قاســـية للغاية، ووبختها:
-دول لو شافوكي هيـــــدبــــــحوكي! ده إنتي هربانة مع واحد من الشارع يا روح الروح!
ثم صفقت بيديها صائحة فيمن حولها بلهجةٍ آمرة:
-يالا يا بنات شوفوا شغلكم.
تفاجأت “مروة” بالتفافهن حولها في طرفة عين، فذعرت أكثر، وصرخت في هلعٍ:
-إنتو هتعملوا إيه؟
عقدت “خضرة” رابطة إيشارب رأسها جيدًا، وأخبرتها بغموضٍ ملبك للأبدان وهي تدنو منها:
-ده كاس وداير يا حبيبتي على كل حد جه هنا.
اشتدت قبضتها على الملاءة، وكأنها درعها الوحيد والمتاح لها لحمايتها، رأت نظرة “خضرة” الشريرة إليها، فأيقنت أنه لا مهرب لها منها، خاصة عندما أكدت بما جعل الدماء تفر من كامل عروقها:
-والدور عليكي تدوقي منه!
فجأة انقضضن عليها جميعًا، أمسكن بها من كتفيها لتثبيتها على ظهرها، ونزعت أخرى الملاءة عنها، لتشعر وكأنها بلا ستر يغطيها، صرخت في هلع متزايد، فوضعت واحدة منهن قطعة من القماش لتسد به جوفها، وتكتم صرخاتها المستغيثة، فلا تجد لها مخرج. تعرت ظاهريًا، وجسديًا، ونفسيًا، لتشرع “خضرة” في اقتحام بواطنها السرية بلا خجلٍ، وكأنها معتادة على ذلك بلا عناءٍ، حتى تتأكد من طُهرها، وبالتالي إن ثبتت الرؤية، ونجحت في اجتياز كشفها، ستصبح الهدية المثالية لتقديمها لمن يستحق، خاصة علية القوم ممن يترددون على هذا المكان، ويطمحون في مُضـــــــاجعة مثيلاتها.
……………………………………….
حجزت هاتفيًا موعدًا لدى الطبيب النسائي، لتتجنب عدم بقائها ضمن المنتظرين باستقبال عيادته لوقت طويل، خاصة مع شهرته الكبيرة، وتزاحمها بالكثير من الطامحات في أن تصبحن أمهات المستقبل. جاءت على الموعد المحدد، وناولت الممرضة نفحة زائدة لتضمن دخولها سريعًا، وحدث ما خططت له، فالتقت به بعد خمس دقائق من قدومها، وانتظرت على أحر من الجمر سماع نتائج التحاليل التي أجرتها في وقت سابقٍ. تأهبت “إيمان” في جلستها، ونظرت إليه بعينين مترقبتين، فاستطرد الطبيب شارحًا لها بوضوحٍ:
-زي ما قولتلك يا مدام في المرة اللي فاتت، إنتي معندكيش مشكلة، وجوزك معندوش مشكلة، والتأخير في الحمل ده طبيعي.
لم تبدُ مقتنعة كليًا بما فاه به، فتأخر الإنجاب يزيد من الفجوة التي تشعر بها في حياتها مع زوجها، خاصة مع انشغاله الدائم بالعمل، وبقائها بالساعات بمفردها دون أن تفعل ما تملأ به وقت فراغها الممل. انتصبت بكتفيها وسألته في شيءٍ من الإلحاح:
-طب ما فيش أدوية، ولا أي حاجة محفزة تخليني أحمل؟!!
نفى ببساطةٍ:
-إنتي مش محتاجة ده، كله في الآخر بتاع ربنا سبحانه وتعالى.
اعترضت على عزوفه عن مساعدتها:
-بس أنا بقالي كتير متجوزة.
جاء رده منطقيًا:
-في ناس بتقعد بالسنين، ولما ربنا بيأذن بيحصل الحمل.
امتلأ وجهها بتعبيرٍ مهموم، وسألته كحلٍ أخير:
-طب هل في إمكانية أعمل حقن مجهري؟
تطلع إليها قائلًا، وابتسامة خفيفة قد برزت على ثغره:
-مافيش مشكلة، اتشاوري مع جوزك، وأنا جاهز.
نهضت بعدها من على المقعد لتخاطبه في وديةٍ:
-شكرًا يا دكتور.
حرك رأسه باهتزازةٍ مقتضبة وهو يرد:
-العفو يا مدام.
غادرت العيادة، وعقلها قد شرد يفكر في كيفية طرح هذه المسألة الهامة، وإقناع زوجها بسحب عينة منه، لإتمام العملية. حررت زفرة ثقيلة عن صدرها لتُهمهم مع نفسها في رجاءٍ:
-يا رب توافق على الحل ده يا “راغب”.
وقفت بعدها على طرف الرصيف تنتظر قدوم سيارة أجرة شاغرة لتستقلها عائدة إلى منزلها، وهي لا تزال مشغولة البال بهذا الأمر.
………………………………………
في الباحة الخلفية للسجن، حيث يجتمع السجناء عادة لتمضية أوقات الراحة بها والتسامر معًا، وتحديدًا عند أقدم شجرة بهذا المكان، تظلل “الهجام” أسفلها، وأتباعه من حوله يحيطون به، ليبدأ في إملاء أوامره الصارمة عليهم، ونظرة لا تعرف الرأفة تُطل من حدقتيه:
-عينكم ما تتشالش عن “زهير”، تلازموه طول الوقت، والأهم إنه ما يخدش باله.
رد عليه أحد رجاله مؤكدًا:
-اطمن يا كوبارتنا، هو تحت الحماية.
تابع موضحًا سبب شموله برعايته الشديدة:
-أنا عارف إنه خارج قريب من هنا، بس هو لسه على قديمه، مش زي ما أنا عايزه، بيحسبها مليون مرة قبل ما ياخد خطوة…
بدت نبرته عميقة للغاية وهو يتم جملته:
-وفي دُنيتنا ما بيعملوش حساب إلا للي قلبه مـــــــــيـت من زمان!
مجددًا أخبره تابعه المخلص:
-احنا في ضهره، مش هنسيب حاجة تمسه.
شدد مرة ثانية على اتباع أوامره بحذافيرها مشيرًا بسبابته:
-المهم هو ما يحسش بحاجة.
رد عليه في طاعة:
-أوامرك يا كبير “الهجامة”.
أشعل بعدها سيجارته ليلتفت ناظرًا إلى جانبه، حيث لاحظ اقتراب أحد الضباط منه، ومن ورائه أفراد قوة الشرطة، وصل صوته إليه مناديًا:
-يالا يا “كرم”، هتترحل من هنا علشان نخلص إجراءات خروجك.
ألقى بسيجارته قبل أن ينتهي منها أرضًا، ودعس عليها بقدمه مرددًا:
-ماشي يا باشا.
هلل أحد رجاله من الخلف ملوحًا بيديه في الهواء عندما همَّ بالانصـــراف:
-هتوحشنا يا كوبارتنا.
لم ينظر تجاهه، وقال مبتسمًا من زاوية فمه، وفي شيءٍ من السخرية:
-إنتو لأ.
……………………………………….
على نفس المصطبة المتهالكة، جلس كلاهما في استرخاءٍ، أحدهما يشعل الفحم في القصعة، والآخر يعيد ربط المبسم في النارجيلة بعد تسليك مجراه من الشوائب. استطرد “شيكاغو” متحدثًا وهو يحرك مروحة ورقية فوق الجمرات المتقدة:
-“عصفورة” جه يبلغنا إن كبير “الهجامة” طالع.
رد عليه “حمص” وقد أمسك بالملقط لينتقي أكثرهم سخونة ليضعها في موضعها على موقد النارجيلة:
-لازم الكل يكون في شرف استقباله.
وافقه الرأي مومئًا برأسه:
-مظبوط.
بدأ “شيكاغو” في سحب أنفاسًا متتالية منها، ليختبر مدى جودتها بعدما ناوله رفيقه المبسم، حرر الدخـــان في الهواء، وسأله في مكرٍ:
-أومال إيه حوارك مع “سِنجة”؟
أجابه بغموضٍ:
-مصلحة واتقضت.
أتى سؤاله التالي مباشرًا:
-و”عباس” عنده عِلم بيها؟
لوى ثغره مرددًا، وهو يأخذ منه المبسم ليدخن:
-لأ، والأفضل ما يعرفش، إنت عارفه ياكل مال النبي.
لحظتها سأله “شيكاغو” في تبرمٍ:
-ونصيبي فين؟
أجابه بامتعاضٍ:
-هو إنت كنت فايق أصلًا؟
ثم أخرج من جيبه قطعة شبه مربعة، ملفوفة في ورقٍ مفضض، وضعها نصب عينيه قائلًا بابتسامة عابثة:
-بس ما تقلقش، أنا جبتلنا حتة حكاية للدماغ المتكلفة.
في التو اختطفها منه “شيكاغو” وتأملها بلعابٍ مسال، ليردد بعدها في حبورٍ:
-أهو ده الكلام.
…………………………………………
بعد فحصٍ مصحوب بهذا الشعور المتعاظم بالمهــــانة، والإذلال، واستباحة ما لا يجوز، تأكدت بالدليل القاطع من نقائها، فقلما أحضر لهن “بغدادي” شابة مثلها، على سجيتها، معدومة الخبرة، لا تشوبها شائبة، منذ أن امتهن هذه المهنة الوضيـــــعة، وتخصص في استدراج الفتيات وخداعهن. كانت تعد كورقةٍ رابحة لمن يظفر بها، بالطبع ظلت “مروة” أسيرة حصارهن المُحكم إلى أن فرغت منها “خضرة”، لحظتها فقط تمكنت من التحرر من أياديهن القابضة عليها، لتنزع القماشة التي تكبت صوتها وتلقيها أرضًا، قبل أن تصيح فيهن في بكاءٍ شديد:
-إنتو استحالة تكونوا بشر.
ضحكت “خضرة” في استخفافٍ، وأخبرتها ساخرة:
-علقة تفوت ولا حد يموت، مش غنيوة هنفضل نرددها ليل نهار!
نهضت “مروة” من على الفراش مواصلة صراخها الباكي فيهن:
-هاتولي هدومي، أنا مش هستنى هنا لحظة واحدة، حتى لو فيها مـــــــوتي.
اعترضت الأخيرة طريقها، وحذرتها بنظرة لا تبدو مُبشرة، وقد أمسكت بها من معصمها:
-قولتلك إن دخول الحمام مش زي خروجه.
في نفورٍ واشمئزاز نفضت قبضتها عنها مكملة هديرها الحانق بها:
-حاسبي إيدك دي عني.
من موضع وقوفها، استطاعت أن ترى حقيبتها التي جاءت بها مُلقاة عند أحد أركان الغرفة، فأسرعت ناحيتها، وأخرجت منها ملابسها لتضعها عليها، وهي عاقدة العزم على الفكاك من هنا قبل أن تتطور الأوضــــاع للأسوأ، وتخسر أهم ما في حياتها، بل الأغلى على الإطلاق.
………………………………….
لم تتمكن “خضرة” من إيقافها، وحاولت بشتى الطرق منعها من الذهاب، فارتفعت أصوات صرخاتها الجاذبة للانتباه، ليخرج “عباس” من خلوته مع صاحبة البيت متسائلًا في ضجرٍ:
-إيه الدوشة دي؟
تفاجأ بالشابة التي أفقدها الوعي تقف أمامه، وهي لا تزال على حالتها الثائرة، نظر إليها شزرًا وسألها وهو يزرّ أزرار قميصه:
-برضوه إنتي تاني؟
من ورائه خرجت “توحيدة” لتتفقد ما يدور، قامت بعقد رباط روبها المفتوح، فوجدت تابعتها تقبل عليها لتشكو إليها باستياءٍ:
-يا أبلتي البت اللي جابها “بغدادي” سايقة علينا العوج، ومش عاجبها الحال.
بغنجٍ تحركت “توحيدة” ناحية هذه المستجدة المتمردة، لتعنفها في استعلاءٍ:
-في إيه يا بت؟ شايفة نفسك علينا ليه؟ ده إنتي هربانة من بيت أهلك، وجاية لحد عندنا بمزاجك.
في التو نفت تُهمها الباطلة بنبرة غاضبة وعالية، تعبر عن حنقها وشعورها بالظلم والقــــهـــر:
-لأ، إنتي غلطانة، أنا مش بالشكل ده، هو ضحك عليا، وأنا اللي عبيطة وصدقته، وخلاص فوقت، وراجعة من مطرح ما جيت.
ثم انطلقت صوب الباب وهي تدفع بيدها كل من تعترض طريقها، وصوتها يصرخ:
-حاسبوا من سكتي.
اغتاظ “عباس” من محاولتها استعراض القوة أمامه، وكأن وجوده لا يرهبها، ولا يعني لها شيئًا فتبعها هادرًا:
-وأنا مش عاجبك ولا إيه؟
صوته الأجش جمدها في موضعها، فاستدارت تنظر إليه بتوترٍ، في حين جاءت من خلفه “توحيدة” ترجوه بتدللٍ:
-اهدى يا معلم “عباس”…
ثم ضحكت بشكلٍ رقيع ومفتعل لتضيف:
-دي هبلة.
رد عليها بوجومٍ، ونظرة مخيفة تنبعث من حدقتيه:
-والهبلة تتعلم.
لم تظل “مروة” على جمودها كثيرًا، أولته ظهرها وهمَّت بالمغادرة؛ لكنها تفاجأت به ينقض عليها ليمسك بها من كومة من شعرها، صرخت من شدة جذبه في ألمٍ:
-آه، شعـــري.
أرجع رأسها للخلف، وهمس بالقرب من أذنها في نبرة تهديدٍ صريحة:
-عايزة تطلعي من هنا، وجب…
قصف قلبها رعبًا من طريقته المخيفة، وازداد إحساسها بالخوف أضعافًا عندما أتم جملته:
-بس من غير ولا حاجة.
بلا أي مقدماتٍ أمسك بحقيبة يدها وألقاها أرضًا، ثم راح ينتزع عنها ما يستر جسدها من أقمشة ويمزقها إربًا، فصرخت تحت يده وهي تستغيث:
-شيل إيدك، حرام عليك.
تأكد من بقائها بالخفيف من الثياب، ما يحجب مفاتنها بالكاد، لتبدو في أعين الجميع شابة لعوب، منفلتة، منحلة، مُدنسة، تُجيد إغواء الرجال واستدراجهم لارتكاب المحــــرمات.
جرها خلفه بخشونةٍ نحو الباب، وفتحه على مصراعيه، وهو يأمرها بغلظةٍ وصرامة:
-يالا قدامي.
قاومته بكل ما أوتيت من قوة، ومع ذلك عجزت أمام طوفـــان غضبه الأعمى، ساقها كالبهائم إلى الخارج، بل إنه حرفيًا جرها على درجات السلم ليمعن في إهانتها، وكسر شوكتها، ولم تجرؤ أي واحدة على منعه من أخذها قسرًا. تصعبت “توحيدة” بشفتيها مرددة:
-دي هتبقى فضيحة للركب…
ثم التفتت نحو المتفرجات بصالة منزلها تأمرهن:
-هاتولي العباية أوام.
في التو رددت “خضرة” وهي تركض:
-عينيا يا أبلتي.
…………………………..
مستعينًا بإحدى وسائل النقل الصغيرة، استخدم “فهيم” مركبة التوكتوك لنقل ما قام بتخزينه من متعلقاتٍ شخصية تخص عائلته في مخزن أحد رفاقه، لوضعها في بيته الجديد، كانت الوسيلة الوحيدة المتاحة للتمكن من الدخول والتحرك بيسرٍ عبر الأزقة والشوارع الضيقة.
تذمر العمال من صعودهم مرارًا وتكرارًا لعدة مراتٍ حتى انتهوا كليًا من نقل كافة الأشياء، مما دفع “فهيم” لإعطائهم المال الإضافي كنوعٍ من الترضية لهم. وجدت “دليلة” نفسها مضطرة لتوضيب كل شيء بجانب محاولتها للاستذكار، فمن الصعب على والدتها إنجاز هذه الأمور بمفردها. اشتكت من استنفاذ طاقتها في رص أدوات الطهي في الدواليب بالمطبخ، خاصة حينما طلبت منها أمها التوجه إلى غرفة النوم لطي الثياب ووضعها على الرفوف بالدولاب.
قبل أن توشك على أداء مهمتها التالية قرع جرس الباب، فأمرتها “عيشة” من الداخل:
-روحي شوفي مين جه.
هتفت في تبرمٍ وهي تسير تجاهه:
-طيب، حاضر.
ثم أمسكت بالمقبض، وأدارته، تطلعت “دليلة” إلى الضيفة الغريبة التي وقفت عند أعتاب الباب بنظرة حائرة، فقد كانت ممتلئة الجسد، متوسطة الطول، وترتدي قميصًا منزليًا يبدو فضفاضًا في حالته العادية؛ لكنه يلتصق بشحمها ولحمها، وتحمل في يدها طبقًا مغلفًا بورق الفويل. لم تبتسم لها وهي تسألها مستفهمة:
-أيوه، مين حضرتك؟
رفعت المرأة يدها الأخرى الخالية لتضعها أمام فمها، ثم أطلقت زغرودة عالية، دون أي مقدمات، لتهلل في ابتهاجٍ:
-يا مرحب بالسكان الجداد، أنا جارتكم “إعتدال”.
في البداية انتفضت بشكلٍ لا إرادي مذهولة من تصرفها، لتدارك الأمر قائلة بابتسامة مقتضبة:
-أهلًا وسهلًا، لحظة أنادي ماما.
لم ترفع “إعتدال” عينيها عنها، رغم ترك “دليلة” لها عند الباب لتسرع في خطاها نحو الداخل، بل إنها اقتحمت الصالة دون استئذان لتتأملها بنظراتٍ مبهورة وهي تطوف بعينيها على كل ركنٍ فيها. زمت شفتيها هاتفة في استحسانٍ:
-إيش إيش على الحلاوة.
تحسست ظهر الأريكة المذهبة بيدها، وتابعت حديثها إلى نفسها:
-الواد “كيشو” مكدبش أما قال إنه قلب الخـــرابة دي قصر.
…………………………………
-مين يا “دليلة”؟
تساءلت والدتها بهذه العبارة وهي تنهض عن سجادة الصلاة بحذرٍ، لتجد ابنتها تخبرها في صوتٍ خافت، وهي تشير بيدها نحو الخارج:
-واحدة بتقول إنها جارتنا.
انحنت “عيشة” لتلتقط السجادة من على الأرضية، طوتها على عجالةٍ، وأمرتها وهي تشير نحو ضلفة الدولاب المفتوحة:
-طب خليكي جوا، وكملي رص الهدوم.
اكتفت بهز رأسها، لتسير بعدها والدتها متجهة إلى الصالة، دون أن تبدل إسدال الصلاة، حيث تنتظرها الضيفة الغريبة. وضعت على وجهها ابتسامة مهذبة، واستطردت تُحييها:
-السلام عليكم
في أريحية زائدة ردت عليها:
-وعليكم السلام يا حبيبتي، أنا جارتكم “إعتدال” ساكنة في الأول.
مدت “عيشة” يدها لمصافحتها؛ لكنها تفاجأت بها تجذبها ناحيتها لتنهال عليها بعشرات القبلات على وجنتيها كنوعٍ من الترحيب الحار. بالكاد تمكنت من التملص منها، وقالت مجاملة، وهي تجاهد للحفاظ على ابتسامتها الودية:
-أهلًا بيكي، شرفتينا، اتفضلي.
جلست “إعتدال” على الأريكة، وتساءلت في اهتمامٍ:
-ما اتشرفتش باسمك.
أجابتها الأخيرة باقتضابٍ:
-أنا “عيشة”.
انتقلت لسؤالها الفضولي التالي:
-واللي البنوتة الحلوة اللي فتحتلي تبقى مين؟
بعد زفرة سريعة أخبرتها:
-دي بنتي “دليلة”.
هتفت مجاملة:
-عاشت الأسامي…
ثم أضافت في ألفةٍ عجيبة، وكأنها على سابق معرفة بعائلتها:
-أنا قولت أشأر عليكم، وأشوف إن كنتم محتاجين حاجة.
قالت في امتنانٍ:
-كتر خيرك.
مدت بعدها يدها بالصحن الذي أحضرته معها، واستطردت في إصرارٍ:
-اتفضلي يا “عيشة” ياختي، حاجة كده تفتح نفسكم، عمايل إيديا وحياة عينيا.
شكرتها على هديتها في تهذيبٍ:
-مالوش لازمة تعبك، كفاية زيارتك الطيبة.
تصنعت الضحك، وهتفت في صوتٍ شبه صاخب:
-ولا تعب ولا حاجة، ده إنتي ما تعرفنيش…
لم تعقب “عيشة” بكلمة، فاستمرت ضيفتها في الاسترسال عن مدى تفوق مهاراتها في طهي الطعام:
-وربنا مافيش حد في الحتة دي يعرف يعمل محشي زيي.
كنوعٍ من المجاملة ردت:
-ما هو باين من الريحة الحلوة.
عادت “إعتدال” لفضولها المتطفل، وتساءلت في صوتٍ جاد:
-على كده معندكيش إلا المحروسة دي؟
اضطرت على مضضٍ للإجابة عليها:
-لأ، في بنتي الكبيرة “إيمان”، وهي متجوزة، وأعدة في بيتها.
ابتهجت أساريرها مرددة:
-يا صلاة النبي.
ردت بتلقائية:
-عليه الصلاة والسلام.
بنفس النهج الذي تتبعه، لاحقتها “إعتدال” بسؤالها التالي:
-والحلوة دي متجوزة ولا في حد متكلم عليها؟
الوداعة التي كانت على وجهها اختفت بالتدريج، لتبدو قسماتها جادة إلى حدٍ ما وهي تخبرها:
-“دليلة” لسه بتدرس، واحنا مش بنفكر في الكلام ده دلوقت، أبوها مستني أما تخلص دراسة.
مصمصت جارتها شفتيها مرددة:
-وماله، في النهاية الواحدة مالهاش إلا بيت جوزها، وراجل تخدمه، وتشوف طلباته.
لم تكن “عيشة” راضية عن محدودية تفكيرها في هذا الشأن، ومع هذا لم تجادلها، واكتفت بالحفاظ على صمتها وهدوئها، لتتفاجأ بها تعرض عليها بتصميمٍ:
-وبعدين ماتقلقيش، لو مجالهاش عدلها، أنا سدادة، عندي بدل العريس عشرة، أنا مجوزة نص بنات الحتة.
بلا ابتسامٍ ردت:
-متشكرين.
وقبل أن تستمر في وصلتها التحقيقية التي جاءت من أجلها، نهضت “عيشة” من على الأريكة هاتفة:
-أنا مش عايزة أعطلك معايا، وزي ما إنتي شايفة البيت مكركب، والحاج زمانه راجع فلازم أروقه.
بتثاقلٍ وكسل نهضت هي الأخرى قائلة:
-أه وماله، أنا جاية أصلًا زيارة على الواقف أتعرف بيكم…
إلى حدٍ ما انقلبت سِحنة “عيشة” عندما أتمت جارتها السمجة جملتها:
-وبعد كده هتلاقيني ليل نهار عندك، احنا كلنا هنا في الحتة زي العيلة الواحدة.
حرصت على ألا تعقب بشيءٍ، فاتخاذ موقفٍ صارم مع هذه النوعية من الشخصيات الفضولية قد يأتي بنتائج عكسية، خاصة في منطقة شعبية كتلك. ظلت على وديتها المصطنعة، وأشارت لها لتصحبها تجاه الباب، و”إعتدال” لا تزال تكلمها:
-لو عوزتي حاجة نادي عليا من السلم، أنا باب بيتي مفتوح ليل نهار.
هزت رأسها كأنما توضح لها دون كلامٍ أنها تصغي لها، لتضيف الأخيرة في جديةٍ:
-ماهو مافيش حد غريب بيدخل حتتنا دي، احنا مقفول علينا.
أوجزت في التعليق عليها:
-واضح.
بصبرٍ أوشك على الانتهاء، تساءلت “دليلة” بعدما خرجت من الغرفة في ضيقٍ وتذمر:
-مين الست الحِشرية دي؟
قبل أن تجيبها، انتبهت كلتاهما لهذا الصـــراخ المخيف الذي صدح فجـــأة في المكان، وكأن إحداهن قد فقدت عزيزًا لديها، فراحت تنعي وفاته بطريقتها. من تلقاء نفسها استطردت “دليلة” وهي تتجه نحو الشرفة:
-في صويت جامد في الشارع.
تبعتها أمها قائلة بشيءٍ من الفضول الحائر:
-خلينا نشوف في إيه؟
……………………………
كلصٍ يتم مُطاردته ومعــــاقبــته من قِبل الجميع، جُرت جرًا إلى خارج مدخل العمارة، وهي بالكاد تحاول تغطية ما برز منها بيدٍ، وباليد الأخرى تقاوم سحب هذا الرجل العتيد لها، بينما احتشد أهالي المنطقة، في المساحة الضيقة الفاصلة بين العمائر والأبنية القديمة، ليشهدوا بأم أعينهم على ما يجري الآن بما يسمى بفضيحةٍ علنية، بطلتها شابة مجهولة الهوية، ممسكٌ بها الذراع الأيمن لمن يفرض السطوة والقـــانون هنا، كذلك امتلأت الشرفات بعشرات النساء والأطفال، ممن شعروا بالأسف على هذه المسكينة التي وقعت في يد من لا يرحم.
هدر “عباس” عاليًا، وذراعه مفرود على طوله في الهواء:
-يا أهل الحتة، تعالوا اشهدوا، واتفرجوا…
ضمن الحوز على انتباه الحشد الغفير له، ثم بخشونةٍ كبيرة دفع “مروة” للأمام، ففقدت اتزانها، وانكفأت على وجهها، وطرحت أرضًا، مما جعل أجزاء أخرى من جسدها تنكشف، ومع هذا لم يتجرأ أي شخص على منحها ما تستر به نفسها، لتصرخ في حسرةٍ وعجز وهي تحاول مواراة ما ظهر من لحمها بيديها:
-حـــــرام عليك.
أشار ناحيتها بإصبعه مُلقيًا باتهاماته المجحفة عليها:
-المحروسة، بنت الأصول، هربانة من بيتها، ومش عاجبها إن الست “توحيدة” سترتها عندها، ومسألتهاش عن اللي كانت بتعمله..
ارتفعت صيحات الاستهجان وسرت بين الجموع المشاهدة
-وقالت تخليها تشتغل في خدمة البيوت، إكمنها شغلانة بالحلال.
لم تكن لها أي مطالب سوى الخروج من هذا المستنقع قبل أن تطأه؛ لكن عاصفة الظلم هبت، وجرفتها معها، راحت “مروة” تصرخ مدافعة عن نفسها:
-والله العظيم ده كداب، أنا شريفة، ومعملتش حاجة غلط.
ظل الجميع يتابعون في صمتٍ وجل ما تتعرض له، و”عباس” يزيد في اضطهــــاده لها:
-شايفين؟ هو ده اللبس اللي جاية بيه؟
دنا منها حتى وقف أمامها، نظر إليها من علياه، وقال بشبح ابتسامةٍ مخيفة:
-وأنا لو مكان أهلك كنت صــــفيت دمـــــك.
للغرابةِ تدخلت “توحيدة” بعدما خرجت من المدخل وفي يدها ملاءة شبه بالية، ألقتها على هذه المغلوبة على أمرها، وتوسلته في سمةٍ من التعاطف الزائف:
-خلاص يا معلم “عباس” ربنا أمر بالستر.
حتى وإن كانت ما ألقته خُـــرقة بالية لأخذتها حتى تتوارى بداخلها، فما اختبرته الآن يفوق قدرتها على الاحتمال. ربتت “توحيدة” على كتفه قائلة:
-احنا مش ملايكة، بس ربنا غفور رحيم.
منحها نظرة ذات مغزى، فبادلته أخرى ممتنة، لكونه ببساطة قد نجح في إتقان الدور، وإخضــــاع من تفكر في عصيانها، تكلمت بعدها آمرة تابعتها اللصيقة بها:
-خديها يا “خضرة” فوق.
في التو امتثلت لأمرها، واتجهت ناحيتها قائلة:
-حاضر يا أبلتي.
عاونتها على النهوض، ولفت من حولها الملاءة، لتهمس في أذنها بشماتةٍ:
-مش قولتلك قبل سابق، دخول الحمام مش زي خروجه.
طأطأت “مروة” رأسها في خزي، وانساقت هذه المرة بطواعية منها عائدة إلى الداخل، ليهدر “عباس” في صوتٍ مرتفع وهو يصفق بيديه:
-المولد اتفض، كل واحد يشوف سِكة.
مثلما اجتمعوا تفرقوا في ثوانٍ معدودة، لتظل “توحيدة” معه تنظر لها بافتنانٍ وإعجاب قبل أن تمتدحه، ويدها تمسح على صدره برفقٍ:
-طول عمرك راجلي وراجل الناس يا سي “عباس”.
زجرها في خشونةٍ:
-اطلعي وراها يا ولية احنا في الشارع.
ضحكت بشكلٍ رقيع، وعلقت وهي تتغندر في مشيتها:
-أمــــوت فيك وإنت حِمش.
…………………………………….
لم تكن لتبالي للحظة واحدة بما جرى على مرأى ومسمع منها، لو كان ما تشاهده مشهدًا عابرًا ضمن أحداث أحد تلك الأفلام الهابطة التي تعرض على التلفاز في السهرة؛ لكن ما حدث للتو لا يصدق أبدًا، شعرت “عيشة” بالذعر والخوف، وخاصة على ابنتها النقية التي أرغمت على رؤية إذلال إحداهن وإلصــاق العـــار بها لذنبٍ لا تعلمه، وربما لم ترتكبه من الأساس، وذلك لأنها فقط تمردت على أمثال هؤلاء الأشداء القســــاة.
انتشلها من تفكيرها المرتعب صوت “دليلة” المتسائل:
-إيه الناس دي؟
صاحت بها في تعصبٍ استغربته:
-مالناش دعوة بيهم، حاجة ماتخصناش، واقفلي الشباك ده خالص.
اندهشت للغاية من عصبيتها التي استثيرت فجأة، وهتفت بملامحٍ حائرة:
-أنا مش فاهمة حاجة.
وكزتها أمها، وأرجعتها للخلف لتقوم بغلق شباك الشرفة الكبير وهي تعقب بنفس اللهجة الصارمة:
-مش مهم، وملكيش دعوة بحد هنا…
كادت تنطق بشيءٍ محتج لولا أن أضافت والدتها لتعلمها بما قررته فجـــأة:
-وأنا هشوف صِرفة مع أبوكي وأخليكي تروحي عند أختك.
انفرجت أساريرها ابتهاجًا، وقالت في سرورٍ كبير، وتنهيدة ارتياحٍ تنطلق من رئتيها:
-يا ريت والله.
…………………………………….
فهم بالتدريج أن ما يقدمه العامل له، طوال النهار، من حجج وأعذار سخيفة هي مجرد وسيلة لإلهائه ومماطلته ريثما يأتي صاحب الفرن ليتحدث شخصيًا إليه، فجاء الحاج “درويش” بالفعل، وسحب كرسيه الخشبي وجلس مجاورًا له، ليخبره بأن المخبز الذي يتشارك فيه معه لا يحقق الربح الكافي، وعلى وشك الإفلاس. نظر إليه “فهيم” مدهوشًا، وسأله باستنكارٍ:
-إيه الكلام ده؟ إزاي الفرن ما بيكسبش؟
حسبما تابع منذ وقت جلوسه المبكر، فإن الزبائن يترددون عليه دون انقطاعٍ، وبأعدادٍ معقولة، فأفصح عما رآه بعفويةٍ:
-ده ما شاء الله الناس داخلة خارجة عليه.
آنئذ خمَّس “درويش” بكف يده في وجهه هادرًا بضيقٍ، وقد حل العبوس على كامل تقاسيمه:
-الله أكبر، إنت هتحسد مالي ولا إيه؟
استهجن ردة فعله، وسأله:
-مالك؟
واصل “درويش” هجومه اللفظي عليه:
-دول كام ملطوش يدوب بجيب بيهم مصاريفه، هتبص فيهم كمان؟
غامت تعبيرات وجهه من أسلوبه الفظ، وقال رغم هذا بهدوءٍ::
-طب هات الدفاتر أراجعها.
انفـــــجر فيه صائحًا بغلظة:
-إنت بتسرقني كمان؟
في التو برر له مقصده لئلا يستمر في إساءة تفسيره:
-حاشا لله، أنا بس عايز أعرف الغلط فين.
كانت كلماته قاسية، مهينة إلى حدٍ كبير، خاصة عندما خاطبه في استحقـــار وهو يوكزه في كتفه:
-بقولك إيه يا عم “فهيم”، روح شوف حالك، وتبقى تيجي أول كل شهر تاخد اللي فيه النصيب.
حفظًا لماء وجهه علق بعدما نهض من على المقعد، وهو يبتلع تلك الغصة المريرة العالقة في جوفه:
-أنا مش بشحت منك، أنا ليا لي في الفرن ده.
قام الأخير بدوره، وناطحه في تحدٍ مستفز:
-ده اللي عندي، ولو مش عاجبك اشتكي.
كور “فهيم” قبضة يده معقبًا:
-حقي هجيبه، بس ما ترجعش تزعل يا .. حاج.
جاء رده على هيئة تهديد أخطر، وأكثر بثًا للرعب في قلبه:
-إنت عندك بنات، أحسنلك تخاف عليهم، لأنك ما تعرفش أنا تبع مين، وأقدر أعملك فيك إيه.
لم يكن بالممازح معه، نبرته، ونظرته أكدت أنه قادر على ســـحقــه ما لم يتراجع عن موقعه معه؛ لكنه رغم هذا قبل بذلك النوع من التحدي غير المحمود العواقب، ورد بإباءٍ:
-هنشوف ……………………………….. !!
…………………………………………
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية فوق جبال الهوان)