روايات

رواية بيت البنات الفصل الثلاثون 30 بقلم أمل صالح

رواية بيت البنات الفصل الثلاثون 30 بقلم أمل صالح

رواية بيت البنات البارت الثلاثون

رواية بيت البنات الجزء الثلاثون

بيت البنات
بيت البنات

رواية بيت البنات الحلقة الثلاثون

– أنتِ بتتكلمي جَد يا بسملة؟!
صاحت بها ندى وهي تنتفض من مكانها بفزع عقب كلمات شقيقتها التي ألقتها على مسامعها وهي تروي لها ما حدث بمنزلهم قبل أسبوع وبضعة أيام.
أكدت لها بسملة صدق حديثها فصرخت ندى من جديد وهي تعتدل متحركة لغرفتها بخطوات شبه راكضة: حرام عليكم يا بسملة، إزاي حاجة زي كدا تحصل ومحدش فيكم يكلف نفسه ويرفع سماعة التلفون يعرفني!
تنهدت بسملة على الجانب الآخر وبصوتٍ هادئ خالٍ من الحياة أجابتها: اللي حصل يا ندى بقى، إحنا مكناش عارفين راسنا من رجلينا الأيام اللي فاتت دي والأيام كانت تقيلة وعدت من فوقنا دشملتنا، مجاش في بال حد فينا خالص نعرفك ولسة حالًا لما رنيتي افتكرت والله.
قطبت ندى جبينها بانزعاج ولم تعجبها تلك الحجة أو تدخل عقلها وبحدة وانفعال تحدثت وهي تجذب باب خزانة الملابس بعنف: اقفلي يا بسملة، اقفلي.
أغلقت هاتفها قبل أن تستمع لرد الأخرى وألقته فوق فراشها بغضب بينما تتمتم بضيق وقلق في نفس الوقت. عبثت بعجلة بملابسها تبحث بينها عن ثوبٍ مريحٍ وسريعٍ كذلك كي ترتديه وتذهب إليهم.
كانت تدور حول نفسها داخل الغرفة بتيهٍ وتشتت، تبحث عن علبة الدبابيس التي تُحكم الحجاب فوق رأسها بينما هي أمام مرأى عينيها واضحة للعيان وتحاول العثور على هاتفها الذي ألقطه للتو فوق السرير، وكل هذا ناتج عن عدم تركيزها الذي ينصب الآن في التفكير بأحوال عائلتها.
وجدت الهاتف أخيرًا وخرجت من الغرفة دون وضع مثبتات للحجاب، طرقت باب الغرفة التي تقطن بها هايدي ثم ولجت بسرعة تتحدث وهي تتأكد من وجود كل متعلقاتها بحقيبة اليد الصغيرة: هايدي أنا نازلة راحة البيت عندنا، عندِك نسخة من مفاتيح البيت عشان لو حبيتِ تجيبي حاجة من برة أو تنزلي تحت…
رفعت وجهها مسترسلة بحاجبين معقودين اضطرابًا: ومتشديش مع طنط إيمان بالله عليكِ عشان ما تتخانقوش، يلا سلام..
قالتها وهي تلتفت بإستعجال لتغادر المكان وهاتفها فوق أذنِها بعد أن قامت بالإتصال بزوجها – ناصر – كي تُعلمه بشأن تحركها وتركها المنزل بسبب ظرف طارئ ببيتها.
أما هايدي فقد انتفضت فزعًا لدخول ندى عليها بهذا الشكل المرعب وكأن طامّة قد أصابتها، تنفست الصعداء بالبداية واستمعت لها بشرود فلم تكترث لما تقول أو تهتم وكان عقلها في مكانٍ بعيد تمامًا عن ما يصير حولها.
حيثُ توقف في ذاك الوقت وتلك النقطة من الماضي، يومٌ مر عليه ما يزيد عن أسبوعٍ ولازالت تقف بالخلف، تعيد وتزيد في أحداثه حتى فتك الصداع برأسها واحتله الألم ورغم هذا لم تتوقف عن التفكير، التفكيرُ فيما قالت، التفكيرُ فيما فعلت، والتفكيرُ فيه!
ذلك المسكين الذي أحبها بصدق،
أحبـها رغم ذاتهـا الغـارقة بالعيـوب،
أحبـها رغم روحها المليئة بالندوب،
أحبها رغم لسانها السليط وردودها السخيفة!
تغاضى عن كل شيء؛
عن نظراتها الماقتة، كلماتها الحادة،
ردود أفعالها الغير محتملة،
وكل هذا فقط من أجلها.!
وماذا فعلت هي؟؟
استمرت في اعطائه المزيد، لم تبالي لجرحه الذي كان يزداد اتساعًا بعد كل لقاء بينهما، لم تراعي كبرياءه الذي استمر بدهسه والمرور فوقه فقط ليصل إليها، لم تهتم لعينيه التي كانت تنبض حبًا لها.
كم أحبت اهتمامَه بها،
كم أحبت مشاكستَه لها،
كم أحبت ضحكاته وابتساماته وغمزاته!
والآن،
ها هي تبكي على اللبن المسكوب،
ها هي تتمنى لو تعود بها الأيام لما فعلت ما فعلت،
لما قالت ما قالت.
تفتقده!
بعد أن كانت تصده وتُبعده عنها بكل الوسائل صارت تريد قربه وتشتاق إليه خلال تلك الأيام التي لم تراه بها، تشتاق لمضايقاته وكلماته المُحبة التي كان يرميها وسط حديثه الغاضب والمتذمر، تشتاق للحاقه بها ووجه الذي تراه فجأة في أي مكانٍ تتواجد به.
كم هو غريب الإنسان!
يتكبر على ما يريد عندما يضمن وجوده الدائم،
ويعض على يده ندمًا عند زواله.
يرفض مبتغاه وما يهوى،
ويذرف الدمع عند فقده حزنَا.
لم تشعر هايدي بعبراتها وهي تنساب فوق وجنتيها إلا عندما لامست شفتيها، تذوقت مرارة مغزاها وسببِها بدلًا من مُلوحتِها.
أخرجت منديلًا ورقيًا من العلبة أمامها ومسحت به أنفها و أخرجت واحدًا آخر مسحت به وجهها ثم أمسكت بالهاتف جوارها تعيد قراءة رسائله القديمة بقلب مفطور.
ليتها تستطيع البوح بما يجوش بصدرها،
ليتها تستطيع إخباره أن كل هذا نابع من شخصِها الذي كونته الأيام والسنين.
إنه يعلم أنها ليست كذلك، جارُها هو منذ أن وعت على الدنيا؛ يعرف كيف كانت، ويعرف كذلك لما هي هكذا الآن.
ولكنه إنسانٌ!
له طاقة محدودة،
يمتلك كمًا معينًا من الصبر،
عند نفاذهما تنتهي معهما لوعة الحب والشوق.
خرجت من هذه المعركة خاسرة
وحاصلة على وسام الفشل.
وقفت وتحركت من مكانها للخارج ثم لمنزلها بالأسفل تنوي إحضار بعض من ملابسها الخاصة التي لم تستطع إحضارهم معها بسبب سرعة ما حدث.
كان الباب مفتوحًا كما تتركه إيمان عادةً فولجت مباشرة للداخل ثم تحركت لغرفتها تحمد الله على اختفاء والدتها التي لا تستعد للقائها الآن بالمرة.
أخذت ما تريد وتحركت مرة أخرى لتصعد شقة أخيها بهدوء كما جائت ولكن ولسوء حظها خرجت “نورة” زوجة “سيد” شقيق ناصر من المطبخ تناديها بدهشة: هايدي!
اغمضت عينيها تسبها سرًا على غبائها قبل أن تلتفت ترمقها بتجهم بينما تجيبها: نعم!
وضعت نورة يدها فوق ذقنها متسائلة ببسمة سمجة ومزاح غير مقبول: الله! مالك بتتسحبي زي الحرامية كدا ليه؟؟ ماتقولي سلامو عليكو وأنتِ داخلة كدا داحنا حتى قرايب.
ابتسمت هايدي تحرك رأسها بالايجاب: عينيا المرة الجاية هخش بزَفَتِي يا نورة..
– يادي النور يادي النور..
استدارت هايدي بسرعة عقب سماعها لصوتها وكذلك فعلت نورة التي واصلت اعدادها للطعام، ابتلعت هايدي غصة ثقيلة بجوفها تحدق بوجه والدتها بفؤادٍ متخبط وعينين مرتبكتين تنظر في كل الانحاء إلا وجهها المقابل لها.
قطبت إيمان جبينها وتقدمت خطوة للأمام: بتعملي ايه هنا يابت أنتِ؟؟
لماذا تجمدت أطرافها وتيبست؟!
لماذا تسمر جسدها في مكانه وحاصرها الخوف من جميع الجهات؟!
– جيت آخد هدوم ليا.
قالت جملتها دفعة واحدة ثم احكمت ذراعيها حول الملابس التي تحملها ومدت قدمها للأمام تهم على الحركة والمغادرة بسرعة قبل أن ينشب بينهما شجار لن ينتهي على خيرٍ أبدا.
ولكن ليس كل ما يطمح إليه الإنسان يناله، حيث صرخت إيمان بها بأعينٍ بارقة ووجه ممتعض: وهي زريبة يا روح أمك؟؟ شوقِك يجيبِك ويوديك؟؟ مش روحتِ واتحاميتي في اخوكِ والسنيورة مراته مني؟! جاية هنا تعملي ايه!
احتدت نظرة عيناها وهي تنتشل الملابس منها بعنفوان: أنتِ ملكيش حاجة هنا، كل اللي هنا فلوسي، عايزة حاجة عندِك أخوكِ أهو اطلبي منه ما بدى لِك.
نظرت هايدي لمتعلقاتها التي ألقتها أرضًا ثم رفعت وجهها تنظر داخل عيني والدتها تبحث عن أي ذرةٍ من الحنان فلم تلقى سوى القسوة والغلظة.
حركت رأسها بالإيجاب وتمالكت أعصابها التي كادت تنفلت لتفتضح أمرها ولم تقل سوى: ماشي..
وتخطتها للخارج بسرعة وآخر ما استمعت إليه هو حديثها وهي تحادث نورة بنفور: شيلي الحاجات دي من الأرض، لو عاجبِك حاجة خُديها وارمي الباقي، بلاش قرف على الصبح كدا…
ولم تستطع كبح عبراتها أكثر من هذا فانهمرت من جديد وهي تصعد السلالم للأعلى، تود الصراخ وإزالة ذاك الثقل الذي يتربع فوق قلبها، تريد أن تقول الكثير والكثير من الكلام الذي صار يطبق على أنفاسها ولكنها مُقيدة بقيدٍ قوي يمنعها من فعل هذا.
وعلى الناحية الأخرى، بالبيت المجاور لبيتها حيث يسكن عادل وعائلته، ألقى مجموعة من أوراق العمل كانت بين يديه على مكتبه الخاص أمامه وزفر بإختناق متحدثًا لوالدته – السيدة دعاء – أمامه: يا حجة ما تسيبيني في حالي بقى، مخنوق من الشغل وضغطه عادي زي اي انسان طبيعي!
لوت دعاء فمها ترميه بنظرات مستنكرة: ضغط شغل ايه اللي يعمل فيك كدا ياواد، دانت ولا اللي مصيبة قطمت ضهره، بقالك يجي ١٠ أيام من الشغل للأوضة ومن الأوضة للشغل ولا بتاكل ولا بتشرب زي البني آدمين، قول لأمك بس وفضفض.
أسند مرفقيه فوق المكتب ومسح وجهه بكفيه مستغفرًا ربه، نظر إليها برجاء وأكد لها بكلامه مجددًا: والله مضغوط في الشغل، سيبيني بس كمان كام يوم وهكون كويس إن شاء الله…
رمته بنظرة مغتاظة أخيرة قبل أن تتركه وتغادر الغرفة وهي تغمغم مع نفسها بكلمات غير مفهومة، أرجع عادل جسده للخلف مُسندًا رأسه براحة على مقدمة المقعد من فوق ثم أغمض عينيه بتعب.
لم يكذب عندما أخبر والدته أنه مختنقٌ بسبب ضغط العمل، بل كان هذا سببًا من أسباب ضيقه وتبرمه وكذلك أقل المسببات لحزنه!
مرَّ كثيرًا بضغوطات العمل تلك ولم تؤثر عليه هكذا من قبل، تبقى هي أكبر الأسباب.
ابتسم عادل بسخرية يؤنب ذاته الحمقاء على ركضها خلفها، أذل نفسه وكبرياءه ودعسهما من أجلها ولم يلقَ في النهاية سوى المهانة والإساءة.
انتظر طوال تلك الأيام الماضية أن تأتي له آسفة نادمة تعتذر له عن ما بدر منها وكان سيسامحها فورًا ولكنها لم تفعل فزادت من الفجوة الفاصلة بينهما.
فجوة سقط بها عشرات المرات وهو يحاول الوصول إليها من فوقها، حارب كثيرًا كي ينالها ولكنها كلما فعل كانت تعود للخلف مصعبة الأمر عليه أكثر فحسب.
كفاكَ ركضًا خلف لعنة الحب يا فتى،
كفاك إذلالًا لذاتِك،
كفاك إهمالًا لحياتِك،
كفاك رفضًا للجميع سواها،
كفاك!
فتح عينيه على حين غرة، اعتدل في مجلسه ونظر أمامه حيث اللاشيء بشرودٍ وتفكير، على وشك إتخاذ ما يتحسر عليه مستقبلًا، يقف على جرفِ هاوية تغوص بالندم.
بعد كل تفكير هناك فعلٌ،
ولكل فعلٍ نتيجة،
وليتحمل كلُ شخصٍ نتيجة أفعاله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في الغرفة التي تمكث بها نرمين داخل المشفى، كانت تتمدد فوق الفراش تبتسم لتلك الجالسة لجوارها تلتصق بها كالعلكة.
صاحت وجيهة بحدة وهي ترمي ابنتها بنظرات مُحذرة: بسملة! قومي من جنب البت خليها تاخد راحتها على السرير بدل ما أنتِ لازقة فيها كدا من ساعة ما شَمّت نَفَسها.
عقدت بسملة حاجبيها بضيق وردت عليها وهي تقترب منها أكثر: الحق عليا خايفة تقع من على السرير وهي بتتقلب.
ضحكت شهيرة – التي كانت تجاور وجهية في الجلوس – على جملتها بينما نقلت بسملة بصرها لنرمين تسألها بإبتسامة: أنا مضايقاكِ يا نيمو؟؟
نفت نرمين برأسها فالتفت بسملة تنظر لوالدتها تؤكد لها أن لا ضرر من جلوسها هكذا فتوعدتها وجيهة بنظراتها القوية وتمتماتها التي لم يسمعها أحد.
عادت بسملة تنظر لنرمين تسترسل حديثها بحماس: الدكتور قال لبابا إنك ممكن تخرجي على آخر الأسبوع وبابا وعمو اتفقوا إنك تيجي تقعدي عندنا في البيت.
حركت رأسها بالإيجاب ولم تجيبها وواصلت بسملة حديثها مع نرمين التي اكتفت فقط بتحريك رأسها، وعلى مقعدٍ من المقاعد الحديدية الموضوعة داخل الغرفة كانت جنى تجلس ولجانبها بسنت تُرتبان متعلقات نرمين داخل بعض الأكياس البلاستيكية.
همست بسنت – التي كانت تتابع الحوار الدائر منذ ثواني – لجنى: هو الدكتور قال ايه بخصوص سكوتها ده؟
تنهدت جنى وتركت ما كان بيدها ترمق إبنة عمها بأسى: قال بسبب .. صدمة، وإن المراكـ .. كز المسؤولة عن النـ .. ـنطق سليمة.
استطردت وهي تحيل ببصرها لوجه أختها: مش .. فاهمة أصـ .. ـلًا صدمة… إيه!
أجابتها بسنت مخمنة وهي تعقد الأكياس التي انتهوا منها: ولا أنا فاهمة برضو أي حاجة يا جنى والله، نطت ليه وازاي وامتى، كل دي اسئلة ملهاش تفسير غير عند نرمين…
وزفرت بإبتئاس وهي تنظر إلى نرمين: ونرمين مش بتتكلم والله أعلم بسبب إيه ولا هترجع تتكلم امتى..
غلفت طبقة من الدموع عينيها مستأنفة بصوت مختنق: أنا مش عارفة ليه بيحصل في عيلتنا كدا، إحنا كنا عايشين كويسين! ليه فجأة كل حاجة اتشقلبت؟!! ليه كل المشاكل دي مرة واحدة بالشكل ده!
ربتت جنى على كتف شقيقتها تواسيها بصمت وتلك التساؤلات التي طرحتها وأكثر تملء عقلها هي الأخرى، إنها أكثر مَن يحمل هَم كل شيء وأكثر مَن يفرط بالتفكير في كل صغيرة وكبيرة، وأكثر من يريد أن ينتهي كل هذا اليوم قبل الغد.
وقفت وجيهة مقتربة من الفراش وهي تحمل بين يديها صينية صغيرة: طب قومي وسعيلها الحتة عشان تعرف تاكل.
اعتدلت بسملة بسرعة تمد ذراعيها لوالدتها: هاتي هاتي هَأكِلهَا أنا.
فجزت وجيهة على أسنانها بغيظ: يابت .. يابت ماتعصبينيش قومي!
نفضت بسملة الغطاء الذي كانت تتشاركه هي ونرمين ووقفت بغضب مغمغمة بضيق وهي ترتدي خفها الذي جاءت به من المنزل: أنا يعني هاكُلها ولا هاكُل أكلها؟؟ منا بقول هأكِلهَا أهو في إيه؟!!
وتحركت صوب الباب تنوي الخروج فاستوقفتها بسنت سريعًا منادية وهي تقف: استني يا بسملة..
ناولتها بسنت بعض الأكياس المُرتبة وأردفت بإبتِسَامة لطيفة: زمان الصلاة خلصت والناس طلعت من المسجد، خُدي الكيسين دول وإديهم لسامر أو مَجد، اللي هيروح البيت منهم إديهم ليه.
كانت بسملة تستمع إليها بحاجبٍ مرفوع وقسمات ساخرة مُتهكمة، وما إن انتهت قالت: تعرفي تصطبحي؟؟
ابتسمت كلٌ من شهيرة ونرمين في حين صاحت وجيهة محذرة: بسملة! انجري خديهم طالما طالعة برة.
جذبت الأكياس بعنف وتحركت للخارج بإمتعاض وهي تحادث نفسها بتذمر، ولم تَسِر مترين خارج الغرفة حتى لتتفاجئ بمنة زوجة عمها تقف أمامها..
دقائق معدودة مرت ووجدوها تعود لهم من جديد تحمل بين يدها الأكياس وتتحرك بخطوات ثقيلة متمهلة، نظروا إليها بعدم فهم وجهل حتى تحدثت بهدوء وهي تشير بإبهامها للخلف: طنط منة عايزة تدخل تشوف نرمين..
انمحى الاستغراب عن وجوههم وحل مكانه الضجر والتبرم سواها هي، أخذ صدرها يعلو ويهبط وانكمشت ملامح وجهها وتجعدت وصارت تحرك رأسها نافية بعنف ترفض وجودها أو دخولها لها.
اقتربت منها جنى سريعًا تحاول تهدئتها وطمئنتها بأن لا شيء سيحدث إلا برضاها هي وموافقتها وكذلك اقتربت منها بسنت.
بينما تحركت كلٌ من وجيهة وشهيرة للخارج وقسمات وجهيهما لا تُبشر بالخير، ارتسم الاكفهرار والغضب على وجه الأولى، والضيق والعبوس على وجه الثانية.
وجداها تجلس على أطرافِ واحد من المقاعد المرتصة بالرُدهة، تحرك قدمَها لأعلى وأسفل في حركاتٍ متتالية سريعة، تمسح بكفِ يدِها أنفَها السائل ووجهها المحمر بشدة والذي غمرته أدمُعها.
اقتربتا منها ووقفت هي ما إن رأتهما من على بُعد، قبل أن تستقرا أمامها كانت تهرول تجاههما غير عابئة لهيئتها أو لمن ينظرون لها.
توقفت أمامهما وتحدثت والدمع يتدفق من عينيها دون توقف، وبصوتها المبحوح – والذي تغير كثيرًا عن ما كان سابقًا – قالت: بالله عليكم أشوفها قبل ما إجوازتكم يجوا، بالله عليكم أطمن عليها، أنا هموت وأشوفها وحياة أغلى حاجة عندكم..
كانت تتحدث وبصرها يتنقل ما بين وجوههم وبين باب الغرفة خلفهم بأمتار، تشتاق لوجهها وتتلهف لرؤيتها، عزيزةُ قلبِها التي منعوها من رؤيتِها بعد تلك المرة التي رأتها بها عندما خرجت من غرفة العمليات وتأكدوا من سلامتِها.
قطبت وجيهة جبينها وتقدمت عن شهيرة خطوة للأمام ترد عليها بحدة: رَوّحي يا منة بنت زي العسل جوة، الحمد لله ربنا سترها وجَت على قد حاجات بسيطة فبلاش تكبري الحاجات البسيطة دي بوجودِك دلوقتي.
نفت منة رافضة هذا الحديث وتحدثت بتوسل واستعطاف: لأ والنبي يا وجيهة، بالله عليكِ أنا مش قادرة أغمض عيني وأنا مش مطمنة عليها بنفسي…
ونقلت بصرها ناحية شهيرة عندما لم تلقَ جوابًا من وجيهة واستكملت وهي تربت فوق صدرها برجاء: بالله عليكِ يا شهيرة، نفسي آخدها في حضني والنبي..
واغمضت عينيها بقوة تصرخ وهي تعود بضع خطوات للخلف: حرام عليكم دي بنتي، حرام عليكم والله حرام!
خرجت شهيرة عن صمتها وتحدثت هي الأخرى: لو سمحتِ يا منة ملوش لزوم صريخك ده، البنت كويسة وإحنا طمناكِ مرة خلاص، مش هناكلها دي من لحمنا برضو!
اضافت وجيهة بسخرية: إذا كان أمها وأبوها اللي من دمها وصلوها للي هي فيه دا..
بينما ختمت شهيرة تخبرها بالأمر بوضوح ودون مراوغة: ونرمين رافضة تشوفِك ومش عاوزة وأول ما سمعت اسمك جالها حالة رفض غريبة لمجرد سماع الإسم!
ربنا وحده أعلم بالسبب لأنها مش بتتكلم دلوقتي والدكتور قال إنها سليمة وإن غالبًا دي صدمة ولحد ما تستعيد عافيتها وتتكلم ياريت تفضلي بعيدة عنها، أرجوكِ عشان صحتها مش عشان حاجة تانية.
توقف عقلُها وسمعُها عند بداية الحديث، ابنتها لا تريد رؤيتها؟!! لماذا؟!! ما الخطأ الجلل الذي اقترفته كي تصل معها لنقطة كتلك؟ هل كل هذا بسبب رفضها للعلاج من المَس؟!
رفعت عينَها عن تلك النقطة الفارغة التي شردت بها ونظرت لهما سريعًا تحرك رأسها رافضةً هذا الحديث وبتيهٍ قالت: لأ لأ..
اقتربت منهما مرة أخرى: هي … هي زعلانة مني بس عشان …. عشان مرضتش أسمع كلامها..
توسعت عيناها وهي تتابع بلهفة: ادخلوا قولولها إني موافقة، هعمل كله اللي تعوزه مني، هروح للشيوخ وهقرأ القرآن كل يوم…
وعادت لتنتحب وتربت على صدرها بتوسل: بس أشوفها بس بالله عليكم…
وعلى حين غفلة وبسرعة انخفضت تلتقط كف يد وجيهة التي كانت أقرب لها تشرع في تقبيلها فجذبت وجيهة يدها بسرعة ترمقها بصدمة: إيه بس يا منة اللي بتعمليه ده، عيب ياستي كدا.
زفرت شهيرة ونظرت بطرف عينيها لوجيهة التي لم تعد تعلم ما الذي يجب فعله ثم تحدثت: هدخل أقولها تاني يا منة، بس أمانة والله هي اللي مش عايزة تشوفِك ولو رفضت المرة دي مش هنعرف ندخلِك ليها.
اومأت بسرعة توافق على هذا الاقتراح ووقفت جانبًا تمسح وجهها وعينَها، تنتظر عودتها وترجو الله أن تأتيها شهيرة بالموافقة.
ولجت شهيرة الغرفة، وجدتها تُسند رأسها على كتف جنى التي جلست على يمينها وأخذت تسير بيدها على ذراعها بحنو بينما على الجانب الآخر جلست بسنت صامتة كبسملة التي تقف أمام السرير لازالت على حالها تحمل الكيسين بين يديها.
أشارت لبسملة بعينيها فتحركت سريعًا وجلست هي، نظرت إليها بعطف وقالت بهدوء: نرمين يا حبيبتي..
نظرت إليها واعتدلت، فاسترسلت: ماما عايزة تيجي تطمن عليكِ، خمس دقايق بس يا حبيبتي وهتمشي..
نفت بقوة ترفض ذلك الكلام، تود أن تقولها صريحة بلسانها لكن ذلك القيدُ الذي يحتجز بينه لسانَها ويجعلها كالبكم منعها من ذلك فاكتفت بتحريك رأسها بـ”لا”.
ولم تكررها شهيرة أو تضغط عليها ووقفت عائدة للخارج بهدوء كما دخلت وجذبت جنى نرمين إليها مرة أخرى.
تلقت منة أمر رفض ابنتها كما الطعنـ.ـة بمنتصف الصدر، هوت أرضًا في مكانها ولم تنطق ببنت شفة أو تستمع لأصوات سلفاتها اللاتي حاولتا معاونتها على الوقوف والصمود، انخفض صوت العالم من حولها وأخذت تلك الجملة التي قالتها شهيرة لها تصدح في المكان مغطية على باقي الأصوات “مش عايزة برضو تقابلِك يا منة”.
داخل الغرفة، تشنج وجه نرمين بسبب ذلك الصداع الذي داهم رأسها فجأة، اعتدلت مبتعدة عن جنى عندما شعرت بخدران وضعف مفاجئ في وجهها وبعض أجزاء في جسدها.
ومرت دقائق وقد ظنت أن هذه الأعراض ستنتهي ولكن ازداد الأمر سوءًا، بدأت فجأة تشعر بالغثيان ورغبة قوية في التقيؤ كما تشوشت الرؤية أمامها، إنها نفس الأعراض التي غَزتها منذ يومين!
لحسن حظها ولج الطبيب ليتأكد من صحتها ومعدل تعافيها فشرحت له الأمر فأثار استغرابها وقلق الجميع حركته السريعة في فحصها.
وقف الطبيب يطالعهم بحدة هادرًا بهم: إزاي يعني محدش يتكلم على طول بعد الأعراض اللي ظهرت عليها دي يا جماعة؟!!
أجابته بسنت بقلق: ليه يا دكتور هو في حاجة ولا ايه؟؟
تنهد الطبيب ورمقهم بنظرة مطولة ذات مغزى ثم تحرك للخارج ليلتقي خلال ذلك بكلٍ من شهيرة ووجيهة التي أوقفته متسائلة: ايه يا دكتور نرمين عاملة ايه؟؟
– والله يا حجة اللي شوفته جوة لا يبشر بخير بالمرة، أنا دقايق وهرجع تاني عشان اتأكد وخليكم جنبها لحد ما آجي.
رفض أن يضيف المزيد وتابع سيره للأمام وولجت السيدتان للغرفة، وقفت جنى ما إن ولجت والدتها وزوجة عمها وخرجت بسرعة خلف الطبيب: ثواني وهرجع..
لحقت بالطبيب بخطواتها الراكضة حتى استطاعت أن توقفه وتسأله عن سبب ردة فعله بالداخل فصدمها جوابه: يا آنسة دا بنسبة كبيرة نزيف دماغي، ومن كلامها واضح إن أعراضه ظهرت عليها من بدري والتأخير ده مش في صالحنا لو هو فعلًا نزيف!
تحركت عائدة للغرفة من جديد، تجر قدميها الثقيلة بصعوبة بينما حديث الطبيب يتكرر داخل عقلها، عندما أخبرها أن الأمر يمكن أن يودي بحياة ابنة عمها وخصوصًا بعد التأخير كل هذه الأيام.
– جنى!
التفتت تنظر لصاحب الصوت الذي ناداها فوجدته سامر ابن عمها حامد والذي عاد لتوه من الصلاة، سار بجانبها متسائلًا: كنتِ فين كدا؟؟
– كُنت بسـ … ـأل الدكتور عن حـ … ـالة نرمين.
– وقالِك إيه؟؟
أومأت: الحمد لله..
– ونرمين دلوقتي كويسة؟
– الحمد لله..
– وأنتِ؟؟
– الحمـ…..
قطعت حديثها وتوقفت عن السير لثانية ففعل المثل ونظر إليها بترقب، تنهدت وابتسمت بخواء: الحمد لله.
دخلت جنى الغرفة أولًا وتبعها سامر الذي ما إن رأته بسنت صاحت: سامر!
نظرت للباب ثم اليه وتابعت: متقولش إن مَجد روّح.
اخرج هاتفه على الفور وتحدث وهو ينظر إليها: أيوة سايبه بيجيب ازازة مياه من السوبر ماركت عشان هيروّح، عايزة حاجة ولا ايه؟؟
– أيوة كان في شوية حاجات محتاجين نرجعها البيت.
فتح الهاتف وتحدث براحة: طيب مفيش مشكلة هو زمانه مابعدش هكلمه أقوله يستنى.
أومأت بسرعة وهي تنظر للأكياس الكبيرة بقلق حيال أمرهم بينما خرج هو من الغرفة كي يستطيع الحديث مع أخيه.
دقائق وعاد يخبرهم أنه لازال بالقرب من المشفى ولم يتحرك كثيرًا فتحركت بسملة مُرغمة بخطوات ثقيلة متريثة وتأفف.
سارت في ممر المشفى الفاصل بين الغرف وبعضها، تنظر حولها بملل بينما تغمغم مع نفسها حتى قطع سيرها ذاك رؤيتها لشخص جعلها تتخشب في مكانها.
فتحت عيناها أكثر تتأكد أنه ليس وهمًا فصُدمت من صدق ما أبصرته عيناها، اقتربت خطوة للأمام تجاه هذه الغرفة وهمست بعدم تصديق: عُمر!!
ولجت الغرفة فورًا دون أن تكترث لوجهتها أو لذلك الذي ينتظرها ووضعت الأكياس أرضًا مقتربًا من الفراش منادية بصوتٍ مرتبك ومرتجف: عُمر..
كيف ولماذا ومَن؟؟
إنه وحيدٌ على أي حال، ليس مِن مَن يحوم حولهم العديد من الناس لذا من الصعب أن يكوّن أية عداوة! فكيف حدث هذا؟؟ ومَن قد يكون خلفها؟؟
وكيف جاء إلى هنا؟؟
ذكر لها من قبل أن علاقته بوالده ليست بأفضل حال كما أنه يعيش في شقته وحيدًا، إذن كيف؟!
شعرت بخطوات من خلفها فالتفت بسرعة لترى الطبيب المشرف على حالته والذي ما إن رآها سألها بلهفة: تعرفيه يا أستاذة؟؟
اومأت بنعم بسرعة ثم طرحت هي الأخرى السؤال الذي يشغل بالها: جِه ازاي لهنا يا دكتور؟؟ وايه سبب وجوده هنا؟؟
تنهد الطبيب براحة قبل أن يجيبها: واحد من الجيران لقاه غرقان في دمـ.ـه قصاد باب البيت جابه لهنا هو وحارس العمارة..
قطب جبينه مسترسلًا: الغريب إنه هنا من أكتر من أسبوع ومحدش جِه يزوره أو يطمن عليه، غير حارس العمارة اللي مجاش غير مرة واحدة والرقم اللي سابوه لينا بيقوله لوالده لكنه مش بيرد!!
ونظر إليها بتمعن: أنتِ تقربيله ايه؟؟
نظرت حولها بارتباك: أعرفه، مش فردمن عيلته يعني..
حرك الطبيب رأسه باطمئنان: طب كويس، ياريت حضرتك لو تعرفي تتواصلي مع أبوه أو غيره لأن لازم ولي الأمر يكون موجود عشان ورق المستشفى وغيره..
نظرت إليه وهو ينام بهدوء رغم ملامحه المنكمشة بسبب الألم المنتشر بجسده: هو كويس يا دكتور؟؟
– الحمد لله بخير، أول ما جالنا كنا متأكدين إنه بنسبة ٧٠ في المية إنه هيموت بسبب مكان الطعـ.ـنة وكمية الد.م اللي خسرها لكن بفضل الله خرج منها سليمة..
رددت الحمد لله بتلقائية عقب حديث الطبيب الذي خرج بعد أن انتهى من الحديث وعادت هي لتجلس فوق المقعد المجاور للسرير.
ظلت تتطلع إليه بأعين حمراء دامعة وقلبها يتألم لرؤياه طريح الفراش وشاحب الوجه هكذا، طغى الضعف على جسده ووجه خلال أيام فصار أنحف عن ما كان.
رأته يحرك رأسه فرفعت يدها سريعًا ومسحت وجهها بطرف كُمها ووقفت بسرعة، حملت الأكياس التي جاءت بها وتحركت للخارج.
لتصطدم بوجه مَجد الذي كان يقف خارج الغرفة، وبدى من هيئته ونظرات عينيه أنه يقف منذ وقتٍ طويل!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في منزل العائلة، عاد حامد بعد يومٍ طويل قضاه بالعمل ليأخذ حمامًا باردًا قبل أن يذهب للمستشفى ليطمئن على إبنة أخيه.
انتهى وخرج من جديد ليتحرك صوب سيارته فاستوقفه نداء أحدهم: عم حامد!
التفت حامد فوجده يحيى ذلك الشاب الذي يسكن بالمبنى المقابل لمبنى منزلهم، ابتسم له حامد بإرهاق وسلّم عليه ببشاشة.
وبعد السلام والتحية وسؤال يحيى عن نرمين وعن أحوالها، تحدث وهو يمسح مؤخرة عنقه بحرج: أنا بصراحة ياعم حامد بقالي بتاع اسبوع كدا لا بنام ولا على بعضي، كل ما أقول خلاص أعرفك أو أعرف حد من الرجالة معرفش..
– ما تقول يابني في إيه؟؟
بلل يحيى شفتيه وألقى حديثه الذي كان بمثابة قنبـ.ـلة موقوتة ألقاها بوجه حامد: أنا شوفت اللي حصل يومها، نرمين ما نطتش يا عم حامد، نرمين أمها اللي زقتها..
كونوا على استعدادٍ لإستقبال حريق جديد قد اندلع، نيرانٌ لإخمادها لابد من معجزة كونية!

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية بيت البنات)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *