رواية ميثاق الحرب والغفران الفصل الحادي عشر 11 بقلم ندى محمود توفيق
رواية ميثاق الحرب والغفران الفصل الحادي عشر 11 بقلم ندى محمود توفيق
رواية ميثاق الحرب والغفران البارت الحادي عشر
رواية ميثاق الحرب والغفران الجزء الحادي عشر
رواية ميثاق الحرب والغفران الحلقة الحادية عشر
فتحت عيناها بفزع وانتفضت جالسة فوق المقعد الذي لازمته منذ أمس وغفيت عليه دون أن تشعر، تلفتت برأسها في أرجاء الغرفة ولم تجده فتنهدت مطولًا براحة واعتدلت في جلستها ترفع كفها لعنقها تدلكه بلطف وهي تتمايل برأسها يمينًا ويسارًا بفعل الألم الذي يعصف بعظامها، توقفت بعد لحظات وقادت خطواتها البطيئة تجاه الحمام لتغسل وجهها وبينما كانت بطريقها توقفت للحظة تتطلع بذلك الجلباب الأسود الذي ترتديه منذ أمس فتأففت وعادت مجددًا لحقيبتها تفتحها وتخرج منها عباءة منزلية مطرزة باللون الأزرق وبأكمام واسعة وطويلة وأخرجت معها بقية ملابسها الداخلية وذهبت للحمام لكي تأخذ حمامًا دافيء، داخلت وأغلقت الباب بإحكام خلفها تحسبًا لوصوله بأي لحظة وقد قررت بأنها ستأخذ حمامًا سريعًا قبل أن يعود.
وقفت أسفل المياه ساكنة دون حركة تترك الماء تطهرها من الأيادي التي انهالت عليها تنوي قتلها دون ذنب، تركتها تمحو الشوائب المبعثرة في نفسها المقهورة، تنظفها لتعيدها لحالتها اللامعة مرة أخرى وتطرد عنها الأتربة التي كادت تملأها لرأسها وتخنقها.
خرجت من الحمام بعد دقائق قصيرة ثم توجهت نحو المرآة المعلقة في باب الخزانة وأخرجت فرشاة الشعر خاصتها وبدأت في تسريح شعرها وهي تتأمل ملامحها الذابلة، لكنها مازالت تحتفظ ببأسها وقوتها رغم الحزن، استقرت عيناها على شفتيها المتورمة وأسفل عيناها الذي يميل للأزرق فلمعت عيناها بالعبرات لكنها اسرعت وجففتهم رافضة المزيد من الضعف، واستمرت يداها تسير بالفرشاة على شعرها بهدوء تام وملامح وجهها أصبحت جامدة فقط تتطلع لانعكاس صورتها ببرود.
انتبهت حواسها على أثر طرقة الباب الرقيقة ومن بعدها انفتح وظهرت من خلفه فريال التي دخلت وأغلقت الباب خلفها ثم تسمرت بأرضها تتطلع بآسيا وبوجهها في صدمة، أن كان الشك يأكلها فالآن هي متيقنة أن الأمر لم يكن مجرد زواج من أجل إنهاء حرب بين عائلتين.
رمقتها آسيا مطولًا بثبات قبل أن تشيح بوجهها مجددًا وتكمل تسريح شعرها وهي تهتف ببرود غريب:
_ إيه چاية تشمتي فيا يافريال.. بس عندك حق تشمتي أنا نفسي مش فاهمة كيف في يوم وليلة كل حاچة حصلت ولقيت نفسي في الآخر في بيت أبوكي، البيت اللي رچلي حرمت تعتب عتبته من بعد ما أبويا اتقتل وكان بنسبالي محرم عليا، وأخوكي اللي كنت بتوعدله ومبطيقش ابص في وشه اديني في اوضته دلوك
الذهول كان يستحوذ على فريال التي لا تحيد بنظرها عن آسيا تتمعن حالتها المزرية وتشتعر القهر في نبرة صوتها القوية رغم كل هذا، فتقدمت منها بتريث ووقفت بجوراها تسألها بترقب:
_ عملتي إيه يا آسيا ؟!
رمقتها بنظرة لا روح بها كأنها شبح يستعيد أنفاسه ليعود للحياة وقالت باسمة بشيطانية:
_ صدقيني أنا لغاية دلوك معملتش حاچة كل ده كان لعب عيال
ضيقت عيناها باستغراب وقلق من كلماتها الغامضة فعادت تلقي عليها سؤال مختلف:
_ اتچوزتي عمران ليه وكيف جلال وافق، أنا عارفاه زين مستحيل يوافق يرمي اخته عشان صُلح!
ابتسمت آسيا ساخرة وردت بشراسة:
_ ليه متروحيش تسألي أخوكي أصله محرچ عليا متنفسش بدون أذنه، ولو قولت حاچة يمكن يعلقلي حبل المشنقة
كانت تتحدث بكل استهزاء تخبرها بخوفها وأوامر أخيها لكن نبرتها ونظراتها تثبت العكس وأنها لا تكترث له.. فاشاحت فريال بوجهها عنها تتأفف بنفاذ صبر بعدما أدركت أنها لن تستطيع الحصول على معلومة مفيدة منها حول حقيقة زواجها هي وأخيها فقررت تسألها لآخر مرة لكن هذه المرة ونظرات ثاقبة:
_ وإيه اللي عمل في وشك إكده؟!
تقوست ملامحها بضيق وردت مقتضبة:
_ وقعت من على السلم.. أنتي چاية تحققي معايا ولا إيه يافريال!!
فريال بحزم:
_ مش بحقق يا آسيا لكن اللي بيحصل ده مش لادد عليا ومتوكدة أن في حاچة منعرفهاش.. اللي قصادي مش آسيا اللي أعرفها
آسيا بنظرة مميتة وجديدة تمامًا كلها جبروت:
_ صُح ومن إهنه ورايح هتشوفوا آسيا چديدة، ملكيش صالح بيا وركزي على نفسك
هتفت بتساءل وجدية:
_ اركز على نفسي في إيه؟!
آسيا في عين ثابتة ونبرة تضمر خلفها خبايا وأسرار:
_ يعني ارچعي لچوزك قبل ما تخسريه وتاچي تبكي وتولوي كيف الحريم اللي عچينها اتكب، أنت أول واحدة هتندمي ويمكن محدش هيندم غيرك.. چلال مش هيقعد يبكي وراكي كيف الحريم حتى لو بيعشقك
انقبض قلب فريال وتوغل الخوف له فراحت تسألها بعدم فهم واضطراب:
_ قصدك إيه يعني؟
ابتعدت آسيا عنها وردت بنظرة جانبية باردة:
_ مسيرك تفهمي قصدي لو فضلتي في صف أبوكي القاتل
رغم الرعب الذي استحوذ عليها من إمكانية خسارتها لزوجها إلا أنها رفضت الاستماع لصوت قلبها مجددًا ولم تكترث لكلام آسيا لترد عليها بغضب رافضة تصديقها:
_ شكل الحزن والضيق سيطر عليكي وبقيتي تخرفي، أنا ماشية
انهت عباراتها واندفعت لخارج الغرفة تترك آسيا تتابعها ببسمة ساخرة وهي تنعتها بالحمقاء! .
***
كان يجوب الغرفة إيابًا وذهابًا ودمائه تغلي في عروقه كلما يتذكر حديثه مع إبراهيم والذي انهاه برده عليه كالآتي …
_ وأنا مش هطلق
اتاه الرد الغاضب من إبراهيم:
_ كيف يعني مش هطلق!
هتف جلال برد مفحم وقاسي:
_ كيف ما سمعت طلاق مش هطلق وخلي بتك عندك طالما هي عاوزة تتطلق
ولم يمهله اللحظة ليجيب عليه بل انهى الاتصال والقى بالهاتف على الفراش وهو يزفر النيران من بين شفتيه، حتى الآن هو لا يصدق أنها تخلت عنه بكل هذه السهولة وتريد الانفصال الأبدي.. كان يقنع نفسه بالبداية أنها مجرد نوبة غضب وستمر ثم تعود له مجددًا ورغم سخطه ونقمه على فعلتها إلا أنه كان على استعداد أن يسامحها أن عادت له نادمة واعتذرت عن خطأها، لكن أتضح أنها ليست مجرد نوبة غضب بل هجر، لم تخطأ دون وعي وبلحظة ضيق بل كانت عن عمد ومدركة تمامًا أنها تتركه بمنتصف الطريق وتهدم سور العشق والحياة التي أسسوها معًا، حثنت بكل وعودهم ودعست على قلبه وكبريائه وعشقه لها بقدمها.
توقف ثم رفع كفه يمسح على وجهه وهو يزفر أنفاسه الساخنة والموجوعة، اقترب من الفراش وجذب هاتفه ومفاتحيه ثم دسهم بجيب جلبابه واندفع لخارج الغرفة بعدما حسم قراره الذي لا عودة منه.
نزل درجات السلم حتى وصل للطابق الأرضي فوجد أمه تجلس فوق الأريكة وتنظر من النافذة شاردة في المارة بالشارع، أخذ نفسًا عميقًا وتقدم منها يجلس بجوارها ثم ينحنى ويلثم رأسها بحنو متمتمًا:
_ صباح الخير ياما
التفتت له جليلة وابتسمت بدفء هاتفة:
_ صباح النور ياحبيبي
احتضن جلال كف أمه وسألها باهتمام وخفوت:
_ كيفك دلوك؟
أجابت بهدوء مبتسمة ببعض الحزن:
_ زينة الحمدلله اطمن ياولدي
هز رأسه بإماءة بسيطة وهو يردد ” الحمدلله ” ثم استحوذ عليه الصمت لبرهة من الوقت وهو يفكر، مما أصابها بالريبة وسألته بتعجب وقلق :
_ في حاچة ولا إيه ياچلال؟!
خرج عن صمته وتطلع لأمه بثبات يجيبها بثبات :
_ بت ياسر الچزار هي اللي كنت عاوزاني اتچوزها ؟
اتسعت عيني جليلة بصدمة وراحت تتطلع في ابنها بعدم استيعاب ولم تجيبه فقط هزت رأسها بالإيجاب بسبب دهشتها فوجدته يكمل بنظرة كلها قسوة تحمل الوعيد والغضب:
_ وأنا موافق كلمي أمها وشوفوا يوم عشان نروح نطلبها بس اصبري يومين إكده أظبط أموري وبعدين هقولك كلميها
لمعت عيني جليلة بفرحة وقالت بحماس:
_ صُح ياچلال موافق تتچوز
حين لم تجد رد منه سوى الصمت وجمود الملامح فتابعت بخبث:
_ مش هتندم صدقني البت قمر وهتنسيك كل حاچة وهتسعدك
لم يكترث لوصفها لتلك الفتاة ولم يبدي أي ردة فعل حيث استقام واقفًا يهم بالرحيل لكنها اوقفته بعبارتها المتشفية والحاقدة:
_ مكنتش تستاهلك بت إبراهيم وقولتلك مليون مرة دي ملهاش آمان كيف أبوها وناسها، خليها تتحسر دلوك أنها خسرت زين الرچال لو لفت الدنيا من شرقها لغربها مش هتلاقي راچل كيفك
القى على أمه نظرة مريرة تحمل السخط على زوجته التي هجرته، ثم استدار واندفع لخارج المنزل بأكمله يترك جليلة تبتسم بلؤم أنها نجحت في تحقيق رغبتها.
***
داخل زوايا غرفة عمران بمنزل إبراهيم الصاوي …
عيناها كانت عالقة على فراشه أمامها تتمعنه باشمئزاز، رغم الآلام التي تعصف بجسدها بسبب جلوسها الدائم على الكرسي ونومها عليه بالأمس إلا أنها مازالت تكابر وترفض لمس فراشه والنوم عليه، حين وجدت الألم اشتد عليها تنازلت بعض الشيء واستقامت تتحرك نحو الفراش ثم جذبت وسادته واستدرات تهم بالعودة لمقعدها مجددًا حتى تضع الوسادة خلف ظهرها لكنها رفعتها لأنفها بتلقائية فتغلغت رائحته وضربت برأسها من شدتها، نفرت بسرعة وابعدت الوسادة ثم القت بها على الفراش مجددًا وهي تهتف بقرف:
_ استحمل الألم احسن.. أساسًا مش هقعد إهنه كتير هو اليوم ده الأخير
انفتح الباب فجأة فأصابتها نفضة بسيطة واسرعت ترفع غطاء شعرها فوق رأسها وعيناها عالقة على الباب الذي ظهر هو من خلفه بقامته الطويلة وهيبته المعتادة، حين سقطت عيناه عليها وهي تقف بمنتصف الغرفة بجانب فراشه هكذا ضيق عيناه وسألها بغلظة:
_ واقفة عندك إكده ليه؟!
لم تجيبه واكتفت بنظرتها المشتعلة بينما هو فاحتدمت نظرته لها عندما لم تجيب مما دفعها للرد مجبرة:
_ إيه كمان هتتحكم في وقفتي أوقف فين ولا كيف!!
رمقها بحدة ولم يجيبها فلم يكن في مزاج للعصبية أبدًا، ثم نزع عنه عباءته واتجه نحو الحمام وهو يلقي عليها أوامره هاتفًا:
_ هطلع من الحمام وهننزل عشان الغدا تحت
ردت برفض قاطع وغضب:
_ معاوزاش اكل ولا اقعد معاكم على صينية واحدة
توقف والتفت برأسه للخلف يحدقها بقوة ثم استدار واقترب منها يهتف:
_ إيه ناوية تقعدي من غير وكل كتير لغاية ما تموتي
طالعته بصلابة وهتفت بشموخ:
_ ملكش صالح بيا
لوى فمه بغيظ وهو يحاول تمالك أعصابه حتى لا ينفعل وقال يعيد توجيه أوامره لكن هذه المرة دون أن يعطيها مجال للرفض:
_ مش هعيد كلامي تاني، لفي طرحتك زين لبين ( لغاية) ما اطلع من الحمام عشان ننزل.. ومعاوزش اسمع لا دي يا آسيا الكلمة تتنفذ من أول مرة
هتفت منفعلة رغم اضطرابها منه :
_ قولتلك مش هنزل
أظلمت عيناه ولاحت بشائر عواصفه المخيفة فأدركت أن لا مجال لها للرفض والعناد فقررت اللجوء للحل البديل وقالت بصوت محتقن وهي تشيح بوجهها بعيدًا :
_ مش هنزل قصاد حد بالمنظر ده ياعمران
دقق النظر في وجهها من الجانب فوجد أن تورم شفتيها هدأ تمامًا ولم يتبقى سوى أثر بسيط من التورم أسفل عيناها فقال بحزم:
_ مفيش حاچة في وشك الورم اللي شوفته امبارح خف ومحدش هيلاحظ.. البسي واچهزي يلا
تابعته بنظراتها النارية وهو يختفي عن أنظارها داخل الحمام، وراحت تشتم في خالد الذي لم ينفذ مهمته كاملة، ربما لو فعلها لم تكن لتقف أمامه وهي زوجته وتتلقى منه الأوامر ومجبرة على تنفيذها خشية منه حتى لو لا تعترف لنفسها بأنها تخشاه لكنها الحقيقة للأسف.
اقتربت من المرآة المعلقة على باب الخزانة ووقفت أمامها تلف حجابها فوق شعرها بإحكام، ثم أخذت تدقق النظر في وجهها وفي التورم الذي أسفل عيناها لتهز رأسها بالنفي هاتفة:
_ لا مش هنزل قصادهم كدا
ثم التفتت برأسها للخلف نحو الحمام تفكر فيما سيفعله حين تصمم على عدم تناول الغذاء معهم ومرافقته للأسفل، تأففت بصوت عالي وفكرت بحل أسهل حيث اندفعت لخارج الغرفة بسرعة وأخذت تتلفت حولها في الطابق تتأكد من عدم وجود أحد ثم تحركت تجاه غرفة فريال بسرعة وراحت تطرق على الباب بقوة حتى فتحت لها فريال الباب والتي رمقتها بدهشة.. لكن آسيا لم تمهلها اللحظة لتندهش حيث دخلت بسرعة قبل أن يراها أحد وأغلقت الباب.
تراجعت فريال خطوة للخلف وهتفت بحدة:
_ في إيه يا آسيا مالك؟!
سألتها مباشرة بجدية:
_ عندك مكياچ؟
غضنت فريال حاجبيها باستغراب دون أن تجيب فعادت تسألها مجددًا بخنق:
_ عندك ولا لا؟ هتفضلي تبحلقي فيا كتير!
ردت فريال بعدم فهم:
_ عندي بس عاوزاه ليه؟
طالعتها آسيا بصمت مطولًا دون أن تجيب وملامح وجهها مختنقة ترسل لها إشارات بعيناها لتفهم سبب رغبتها به.. ارتفع حاجبي فريال بعدما فهمت وسألتها مرة أخرى باستغراب:
_ طب وعاوزة تحطيه ليه، أنتي مش قاعدة في الأوضة ومحدش بيدخل عليكي أصلًا!!
تأففت بنفاذ صبر وقالت بسخط واغتياظ:
_ اخوكي چابرني انزل تحت اقعد معاكم على الغدا وأنا مهنزلش بالمنظر ده طبعًا.. لساتك هتسألي حاچة تاني كمان ولا لا
استحوذ الذهول على فريال وهي تتمعن بها، تلاحظ اضطراب آسيا التي لا تخشى أحد وهي تتحدث عن إجبار أخيها لها لتنفيذ أوامره و تبحث عن حلول بدلًا من رفض رغبته بكل سهولة كما تفعل مع الجميع وتفرض سيطرتها عليهم.. رغمًا عنها فشلت في حجب ابتسامتها التي ارتفعت لثغرها.
اشتعلت عين آسيا حين رأت ابتسامتها وهتفت بشراسة:
_ بتضحكي علي إيه!
اخفت ابتسامتها بصعوبة وقالت بنبرة عادية وهي تشير لها بعيناها على مكان أدوات التجميل:
_ ولا حاچة.. المكياچ عندك علي التسريحة أهو خدي اللي تعوزيه وحطي
القت عليها آسيا نظرة كلها غطرسة واتجهت نحو طاولة التزيين وبدأت تأخذ بعض أدوات التجميل المناسبة وتضع منها فوق وجهها تخفي آثار الكدمات والتورم، وفريال تقف تتابعها عاقدة ذراعيها أسفل صدرها وهي تبتسم، لا يمكنها الإنكار أنها شعرت بالتشفي فهي تستحق رجل كعمران حتى يعيدها لصوابها كلما خرجت عن حدودها الحمراء.
انتهت آسيا وأخفت كل الآثار عن وجهها تمامًا ثم استدارت وقالت لفريال بهدوء:
_ شكرًا
هزت رأسها لها فقط وهي تبتسم هاتفة بخبث:
_ عشنا وشوفنا اليوم اللي نشوفك فيه خايفة وبتنفذي الكلام بالحرف يا آسيا
التهبت نظراتها وهتفت بعصبية شديدة وحدة:
_ أنا مخيفاش من حد يافريال أنا سايبة أخوكي يعمل اللي هو عاوزه بمزاچي خلي بالك من كلامك زين
هزت فريال رأسها مبتسمة وهي تتصنع تصديق كلامها وتقول مستنكرة:
_إيوة واضح من غير ماتقولي
رمقتها آسيا شزرًا واندفعت لخارج غرفتها ودمائها تغلي في عروقها من الغيظ وفور وصولها لغرفة عمران وفتحت الباب اصطدمت به فارتدت للخلف بفزع وإذا بها تشعر بيده الفولاذية تقبض على رسغها يجذبها للداخل ويغلق الباب صائحًا:
_ كنتي وين؟!
انتشلت يدها من قبضته وصاحت بغضب رغم توترها منه:
_ هو أنا محبوسة ولا إيه والمفروض مطلعش من الأوضة يعني !
صر على أسنانه وهتف بنظرة تحمل الإنذار:
_ لما أسالك تچاوبي على قد السؤال من غير لف ودوران
ردت بنرة مقتضبة ومستاءة:
_ روحت لفريال اخدت منها مكياچ عشان اداري اللي في وشي
دقق في وجهها فلاحظ وجود القليل من أدوات التجميل فتلونت عيناه بالأحمر القاتم وقال بلهجة تدب الرعب في القلوب:
_ وأنتي بتمشي من دماغك.. مين قالك إني كنت هوافق تحطي القرف ده وتنزلي بيه قصاد الكل
صاحت منفعلة بتحدي وتصميم:
_ وأنا مش هنزل غير إكده، مش هسمح اخليهم كلهم يتفرچوا عليا ويشمتوا فيا أنا عمري ما خليت حد يشوفني ضعيفة ولا مكسورة فمش هتاچي أنت وتچبرني اطلع قصاد ناسك اللي قتلوا أبويا وأبان قصادهم مكسورة
رأت قسمات وجهه تقوست بشكل مخيف وخرج صوته الرجولي يقول:
_ كنت ممكن أوافق لو اتكلمتي بأدب وصوتك معليش عليا لكن بعد اللي عملتيه ده غصبن عنك هتخشي تغسلي وشك
هدرت بعناد تتحداه في شجاعة:
_ مش هغسله ياعمران
ارتفع حاجبه باستنكار وحدة من عنادها معه فقرر تأديبها بطريقته الخاصة، حيث انحنى بجزعة للأمام وحملها فوق ظهره عنوة متجهًا بها نحو الحمام وسط مقاوماتها وصياحها به وهي تضربه بكفيها على ظهره حتى يتركها لكن دون جدوى، ولم ينزلها سوى أسفل صنبور مياه الاستحمام ودون أن يمهلها اللحظة لتحاول الفرار منه فتح المياه الدافئة لتنهمر فوق جسدها كله فشهقت هي بزعر وصابتها نفضة بسيطة من اندفاع المياه عليها وبتلقائية راحت تمسح وجهها حتى تتمكن من التنفس والرؤية وتصرخ به:
_ أنت مچنون! بعد عني
راحت تصرخ به بهستيريا وهي تضربه فوق صدره تفض كل ما بنفسها من غضب وقهر:
_ بعد بقولك اوعاك تلمسني تاني
كانت تلهث أسفل المياه وهي تتطلع إليه بشراسة حتى وجدته ينحني عليها ويمد يده خلفها يغلق الصنبور ثم يعتدل ويقول بنبرة عنيفة:
_ دلوك تقدري متنزليش هخليهم يچبولك الأكل إهنه، لكن ده كان أدب ليكي عشان تتعلمي تردي عليا زين بعد إكده وتبطلي قولة لا دي.. هتتعلمي غصبن عنك تقولي حاضر يا آسيا ومتحطيش راسك براسي وكلمتي تتنفذ طوالي
احتقنت نظراتها وتجمعت العبرات في عيناها بحرقة لكنها شدت على محابسهم جيدًا لتقول له بصوت مبحوح وهي تتفادى النظر إليه:
_ اطلع برا وهملني عشان اغير هدومي
القى عليها نظرة متفحصة ثم استدار وغادر يتركها بمفردها في الحمام تبكي بصمت ولم تلبث سوى دقائق قصيرة حتى خرجت فلم تجده، اتجهت نحو حقيبتها واخرجت ملابس جديدة ثم عادت للحمام لكي تبدل ملابسها المبتلة.
***
كانت حور تسير خلف صديقتها التي تجرها عنوة وتهتف لها بخنق متأففة:
_ يابنتي سبيني هستناكي تحت أنا إيه اللي يخليني احضر معاكي أنتي في رابعة وأنا تالتة
التفتت لها صديقتها وقالت باصرار:
_ وتقعدي وحدك ليه تحت في الكافتريا احضري معايا وونسيني بدل ما اقعد وحدي
تنفست حور الصعداء بعدم حيلة وقالت في خوف:
_ طيب والدكتور لو عرف إني مش معاكم هيزعق ويبهدلني صح
قالت نافية في إيجاز:
_ لا مش هيزعق ومش هيعرفك أصلًا اخلصي بقى ياحور احسن ميدخلناش احنا الاتنين
زفرت بقوة مغلوبة ووقفت خلف صديقتها التي طرقت باب القاعة وفتحته وبمجرد ما أشار لها الأستاذ بالدخول دخلت وكانت هي خلفها مباشرة ولسوء حظهم أنا القاعة كانت ممتئلة كلها ولم يجدوا سوى مقعدين في المنتصف، دخلت حور أولًا وجلست وبجوارها صديقتها.
وجهت تركيزها مع الأستاذ رغم أنها لا تفهم شيء من دروس الهندسة المعقدة إلا أنها انتبهت خوفًا من أن يحرجها أمام الجميع إذا وجدها غير منتبهة، وبعد دقائق طويلة نسبيًا وجدت قلم سقط أسفل قدميها من صاحب المقعد المجاور لها فانحنت بتلقائية تلتقطه لكي تعيده له وحين رفعت رأسها ومدت يدها بالقلم صابتها الصدمة وارتبكت فسقط القلم من يدها مرة أخرى.
طالعها بلال بحيرة ولم يتمكن من حجب ضحكته التي أظهرت أسنانه البيضاء بوضوح، يضحك عليها وعلى منظرها حين اسقطت القلم مرة أخرى، بينما هي فلم تفق سوى على صوت الأستاذ الذي هتف بغضب:
_ اتفضل برا يا أستاذ ياللي بتضحك في النص أنت
أدرك بلال أنه يقصده هو فلم يجادل معه وتوقف بكل هدوء وسار لخارج القاعة وإذا به يسمع الأستاذ يكمل:
_ وأنتي معاه مش كنتوا بتتكلموا، اتفضلوا كملوا كلامكم برا
تلفتت حور حولها بدهشة وهي تشير إلي نفسها بعدم استيعاب فوجدت الرد مفحم من الأستاذ وهو يصيح:
_ أيوة أنتي هو في حد غيرك كان جمبه اتفضلي يلا متعطلوناش
نظرت لصديقتها التي عاتبتها بنظراتها فهزت حور كتفيها بعدم حيلة واستقامت واقفة تسير للخارج تلحق به، كان هو يقف خارج القاعة ينتظرها وفور خروجها رمقها رافعًا حاجبيه يتصنع الضيق لأنها كانت السبب في طرده من محاضرته، حين رأت تلك النظرة في عيناه أطرقت رأسها أرضًا بإحراج وتقدمت نحوه بخطا متوترة متمتمة:
_ آسفة مكنتش أقصد والله اخليك تتطرد بسببي
بلال بجدية وخنق مزيف:
_ أنتي مكملتيش عشر دقايق واتطردتي وطردتيني معاكي
زمت شفتيها بإحراج شديد وهي تجفل نظرها تخجل من النظر إليه حتى سمعته يقول مازحًا بضحك:
_ أنتي ملكيش ذنب العيب على القلم اللي وقع صُح هو السبب!
رفعت نظرها وحين رأته يضحك هدأ توترها وقالت براحة:
_ الحمدلله يعني أنت مش مضايق.. لو مضايق ممكن ارجع وأقول للدكتور أنا اللي اتكلمت وأخليه يدخلك.. بجد والله مش بهزر
قهقه بصوت عالي وهتف من بين ضحكه:
_ دي چامعة مش فصل خامسة ابتدائي عشان تدخلي تقوليله أنا اللي اتكلمت معلش دخله تاني
ضحكت لكنها ردت بغيظ بسيط :
_أنت بتتريق!!
بلال مبتسمًا بكل لطف:
_ لا طبعًا مقصدش أنا بهزر بس
اماءت بتفهم وقالت في رقة جميلة:
_ طيب أنا هنزل تحت وآسفة مرة تاني
هز رأسه لها بالموافقة وتحركت خطوة بعيدًا عنه ثم توقفت والتفتت له تهتف بخجل وتوتر :
_ أنت اسمك محمد صح؟
ابتسم لها بعدما فهم محاولاتها البريئة لمعرفة اسمه ليقول بلؤم:
_ لا بلال!
شعرت أنه كشف خدعتها السخيفة فقالت بتلعثم:
_ أه تشرفت يابلال
رد بخفوت ونبرة رجولية قوية:
_ أنا اكتر ياحور!
أرسلت بسمة سريعة ثم اندفعت وسارت مبتعدة عنه من فرط خجلها وتوترها.. لكنها توقفت فجأة بعدما اختفت عن أنظاره وأدركت جملته الأخيرة عندما ودعها باسمها، اتسعت عيناها بذهول محاولة فهم كيف عرف اسمها فهي لم تخبره! .
***
صعد بشار الدرج قاصدًا الطابق الأخير من المنزل تحديدًا بالسطح لكي يأخذ شيء وبيده هاتفه يضعه فوق أذنه يتحدث مع أحد الرجال بأمر يخص العمل، وفور وصوله سقطت عيناه على ابنة عمته رحاب التي تجلس فوق الأريكة الخشبية وتبكي بصمت فغضن حاجبيه بتعجب وتمكن منه القلق فانهى اتصاله بسرعة واقترب منها هاتفًا:
_ رحاب!!
انتفضت بفزع على أثر صوته ومالت برأسها للجانب بعيدًا عنه تكفكف دموعا بسرعة في توتر بينما هو فجذب مقعد وجلس أمامها مباشرة يسألها باهتمام:
_ بتبكي ليه؟ في حد ضايقك ولا عملك حاچة؟!
اكتفت بهز رأسها بالنفي دون أن تنظر له بسبب إحراجها من رؤيته لها وهي تبكي أما هو فتابع بجدية بسيطة وقلق:
_ طب أمال في إيه قلقتيني!
خرج صوتها ضعيف ومبحوح وهو تقول:
_ مفيش حاچة يابشار أنا شديت مع أمي شوية في البيت وچيت إهنه
هدأت حدة أنفاسه وقال لها بخفوت جميل:
_ طيب وقاعدة لحالك في السطح وبتبكي إكده ليه؟!
أجابته برقة وصوت يكاد يسمع بصعوبة:
_ كنت قاعدة مع مرات خالي إخلاص تحت بس حسيت نفسي مخنوقة فطلعت إهنه اقعد لحالي شوية
حدقها مطولًا بعدم اقتناع وعيناه كانت ثابتة عليها يتمعنها بتدقيق وهي تتهرب بنظراتها منه ليقول لها بتشكيك:
_ يعني اتخانقتي مع أمك بس مفيش حاچة تاني؟
أماءت لها بالإيجاب في صمت فطالت نظرته الدافئة لها لكن سرعان ما تحولت للامتعاض حين سقطت عيناه على يدها اليمنى ورأى خاتم الخطبة، علقت عيناه المستاءة التي تحمل المرارة على أصبعها ولم يشيح بنظره إلا عندما سمع صوت رنين هاتفها.. وجدها تلتقط الهاتف وفورًا انهت الاتصال دون تجيب بغضب، لم يقرأ اسم المتصل ولكنه لمح صورته وكان خطيبها فلوى فمه بحنق واستقام واقفًا فورًا يهتف بهدوء على عكس الثوران الداخلي له:
_ أنا هسيبك تقعدي لحالك شوية وتهدي، عاوزة حاچة؟
هزت رأسها بالنفي وهي تبتسم بلطف ثم تابعته وهو يستدير ويسير بعيدًا عنها ويتركها بمفردها تمامًا، فور رحيله عاد صوت رنين هاتفها يصدح بالرنين من جديد فتنهدت وردت على خطيبها! .
نزل الدرج وهو يمسح على وجهه ويتأفف بصوت عالي من فرط الخنق والغضب، إلى متى ستستمر مشاعره المؤلمة تلك لا يدري.. لم تعد له ومازال قلبه يرفض التخلي وأن أتبعه في هواه لن يرتاح وربما سيقوده للهاوية وينهيه بالكامل.
اصطدم بزوجة عمه التي كانت تصعد للسطح ونظرت له متعجبة تهتف:
_ بشار كنت بتعمل إيه فوق دلوك؟!
هتف بثبات متصنع وصوت خشن:
_ ولا حاچة يامرت عمي طلعت أچيب حاچة ولقيت رحاب فنزلت
هزت إخلاص رأسها بتفهم وسألته باهتمام:
_ كانت زينة طيب لما شوفتها؟!
رد بخنق وعدم اكتراث مزيف:
_ معرفش اطلعي شوفيها
ولم يلبث للحظة أخرى حيث اندفع من أمام إخلاص يقود خطواته تجاه غرفته بينما هي فالتفتت برأسها للخلف وتابعته مطولًا بحزن ويأس! .
***
بتمام الساعة التاسعة مساءًا كانت فريال بطريق عودتها للمنزل بعدما انتهت من شراء بعض مستلزماتها الشخصية وكانت تسير نحو الطريق العام لتستقل بسيارة أجرة تعيدها للمنزل، لكنها مرت من أمام معرض الأجهزة الكهربائية الخاص بزوجها وعائلة خليل صفوان.. تسمرت قدمها بأرضها ووقفت أمامه ترسل نظراتها للداخل بحثًا عنه، حاولت الرحيل لكنها فشلت أمام صراخ قلبها المشتاق لروحه البعيدة عنه، كانت تقف فقط تأمل أن تلمحه حتى من بعيد فمنذ أن تركته لم تسمع صوته ولم تراه، تطمئن على أحواله فقط من أولادهم عندما يأتون لزيارتها كل يوم.
تراقص قلبها فرحًا حين لمحته يقف مع أحد الرجال ويتبادل معه أطراف الحديث بجدية، لمعت عيناها بوميض العشق وارتفعت بسمتها الناعمة فوق ثغرها دون أن تشعر، بقت مكانها تتأمله بشوق وشرود لدرجة أنها لم تنتبه له عندما رآها ونظر لها بدهشة، لم تفق سوى على صوت خطواته المتجهة نحوها فحبست أنفاسها للحظة وأخرجتها زفيرًا متهملًا وهي تستعد لمواجهته بعد مرور أيام على فراقهم، وجدته وقف أمامها وهتف بحزم:
_ بتعملي إيه إهنه؟!
اندهشت من رده الجاف فانعقد لسانها ولم تجد ما تجيبه به حتى وجدته يمسك بيدها ويجذبها معه للداخل، لم تفهم إلى أين يأخذها أو حتى لماذا يتصرف معها بهذه القسوة كانت تتوقع أن تتعرض للتوبيخ وتقابل غضبه الشديد منها لكن قسوته كانت أصعب، لم تقاومه بل سارت معه بكل طواعية واستسلام إلى حيث ياخذها فانتهى بها المطاف داخل غرفة مكتبه الخاصة بالمعرض ورأته يغلق الباب ويقترب هاتفًا بغضب:
_ كنتي وين وإيه اللي چابك إهنه؟
اتسعت عيني فريال ثم قالت بخوف شديد وحزن وهي ترفع الأكياس التي بيدها لمستوى نظره:
_روحت اشتري كام حاچة محتچاها من السوق وأنا وراجعة عديت من قصاد المعرض بالصدفة فشفتك
صاح جلال منفعلًا وكأنه وجد حجة ليفرغ شحنة غيظه امنها:
_ وطالعة وحدك دلوك الساعة تسعة كنتي ناوية تفضلي برا لغاية أمتى تاني ياست هانم
انكمشت ليس خوفًا بقدر مهو مرارة من معاملته لها فقالت بخفوت:
_ أنا كنت راچعة أساسًا البيت ياچلال وبعدين مفيش حد يطلع معايا
رفع سبابته في وجهها يهتف بصوت رجولي مخيف يلقي عليها تعليماته:
_مش معنى أنك قاعدة في بيت ناسك يبقى تطلعي وتدخلي على هواكي لساتك مرتي.. على الله تكرريها تاني يافريال وتطلعي في الوقت ده فاهمة
تلألأت العبرات في عيناها ثم ردت عليه بألم:
_ أنت بتكلمني إكده ليه ياچلال!
اخفض من نبرة صوته وقال في شدة:
_ المفروض اكلمك كيف يافريال هانم؟
انهمرت دموعها وقالت بأسى وصوت موجوع:
_ للدرچة دي متعصب مني ومش طايقني
رغم أن قلبه تمزق لدموع بندقيتها التي يعشقها وكان للحظة سيقلي بكل شيء بعرض الحائط ويجذبها إليه يروى روحه المتعطشة لها ويسرق معها بعض لحظاتهم الغرامية كما كانوا يفعلون لكنه سيطر على مشاعره وتصرف ببرود وهو يجيبها بغضب:
_ أنتي اللي تخيلتي وسبتيني يافريال يبقى تستحملي، صدقتي نفسك ومسمعتيش لحد حتى ليا رغم أنك عارفة زين أنا كنت مستعد اچبلك نچوم السما لو طلبتي وكنت هتنازل عن كل حاچة عشانك كيف ما تنازلت من قبل بس أنتي اثبتيلي أنك مكنتيش تستاهلي اللي ضحيت بيه عشانك
سالت دموعها بغزارة فوق وجنتيها وراحت تهتف وسط بكائها برجاء وألم:
_ بزيادة متكملش ابوس يدك.. كلامك ده تقيل قوي ياچلال
انحنى عليها فأصبح وجهه أمام وجهها مباشرة وأنفاسه الساخنة كانت تلفح صفحة وجه بعنف وهو يتمتم بصوت نابع من صميمه:
_ واللي عملتيه فيا كان واعر قوي واكتر كمان، لما موافقتش اخليكي تطلعي من البيت چبتي أبوكي عشان ياخدك مني ويقف قصادي ويقولي بتي معدش ليها قعاد معاك وهي معاوزاكش، صغرتيني ودوستي على رچولتي قصاد ناسي كلهم اللي هما كانوا عاوزني اطلقك من وقت ما أبوكي قتل أبويا وأنا اللي رفضت وخرصت لسان الكل ومعدش حد يتچرأ يفتح الموضوع ده تاني في البيت، عملت إكده عشان بحبك ومقدرش على بعدك ومهمنيش اللي عمله أبوكي ولا مشاكلنا مع ناسك، وأنتي چيتي قصاد الكل تقوليلي معاوزاكش وتسبيني.. هاا لسا عاوزاني اكملك ولا بزيادة إكده!
أجفلت رأسها أرضًا وهي تبكي بنشيج مسموع وكان ذلك الصوت يقتله ويأكل في صدره من الألم لكنه اخرص صوت قلبه وتعامل بجفاء لا يليق به أبدًا وبالأخص مع زوجته وحبيبته، بعد لحظات معدودة رفعت وجهها الغارق بالدموع ورمقته بعيناها المريرة تسأله بصوت معذب:
_يعني أنت معدتش عاوزني خلاص؟!!
لم يجيب واكتفى بصمته القاتل يتطلعها بثبات مزيف رغم صراعاته الداخلية أمام منظرها المزري ودموعها التي تقتله، بينما هي فكانت تتطلعه بانكسار تنتظر إجابته التي ربما ستعيد لجسدها الروح مرة أخرى بعد معاملته وكلامه القاسي.. لكنها حصلت على الإجابة منه بالصمت وفسرتها بتأكيد على سؤالها فانهارت جميع حصونها واندفعت من أمامه تنوي الرحيل بعد الألم الذي اجتاح قلبها جراء صمته، لكن قبض على ذراعها يوقفها هاتفًا بغلظة:
_ رايحة وين؟!
قالت بغضب وصوت متألم:
_ راچعة بيت أبويا عندك اعتراض في دي كمان ما أنت خلاص معدتش عاوزني عاد
هتف بصوت رجولي صارم:
_أنا هوديكي اقعدي إهنه استنيني لغاية ما أخلص شغلي وهاخدك معايا مش هترچعي وحدك دلوك
فريال بصوت مبحوح من فرط البكاء:
_ مش عايزة اروح معاك ياچلال هملني لحالي
جلال بعصبية:
_ قولتلك اقعدي واستنيني، اسمعي الكلام من غير عند يافريال
استسملت مجبرة أمام انفعاله وصيحته بها فأبعدت يده عنها وراحت تجلس فوق الأريكة وهي تجفف دموعها بظهر كفها رغم أنها لا تتوقف عن الانهمار
اقترب هو من مكتبه وجذب علبة الممسحة الورقية واعطاها لها هاتفًا:
_ خدي امسحي دموعك بزيادة بكا العيال قاعدين معايا إهنه وممكن يدخلوا في أي وقت متخلهمش يشوفوكي إكده
راحت تسحب ممسحة ورقية تجفف بها دموعها وتمسح أنفها محاولة استعادة حالتها الطبيعية حتى لا يروها أولادها بهذه الحالة البشعة.. وبالفعل لم يكن سوى دقائق معدودة ودخلا الطفلين غرفة مكتب أبوهم فاندهشوا بوجود أمهم، وكلاهما ركضوا عليها يعانقوها بفرحة.
هتف معاذ ببسمة متسعة يسأل أمه:
_ إيه اللي چابك إهنه ياما؟
ابتسمت لابنها بدفء ونقلت نظرها بين طفليها وبين أبوهم الذي يقف يتابعهم وينتظر إجابتها فردت هي بمرارة تحاول إخفائها:
_ كنت بشتري حاچات وعديت عشان أشوف أبوكم واطمن عليه
طرح عمار سؤال آخر بحماس:
_ هترچعي معانا البيت يعني خلاص؟
عبس وجهها ونظرت لجلال بشجن عندما تذكرت صمته على سؤالها ثم عادت بنظرها لولديها تلثم شعر كل منهم بحنو أمومي متمتمة:
_ لا لسا ياحبايبي هقعد شوية عند چدكم
ظهر الضيق على وجه معاذ وقال بجدية ولهجة اشبه برجل ناضج:
_ بزيادة عاد ياما احنا اتوحشناكي قوي ارچعي معانا.. حتى أبوي زعلان واتوحشك صُح يابوي؟
لم يجيب جلال على ابنه وبقى صامتًا مما ازعجها وألمها أكثر فردت على ابنها برباطة جأش:
_ احنا قولنا إيه يامعاذ مش اتكلمنا في الموضوع ده كذا مرة ياحبيبي
زم معاذ شفتيه بيأس لكن ذلك لم يمنعه من اقترابه ومعانقته لأمه مرة أخرى في حب وشوق فابتسمت هي وادمعت عيناها رغمًا عنها وراحت تفرد ذراعها تضم عمار أيضًا لصدرها وسط قبلاتها لهم التي كانت توزعها على شعرهم وجبهتهم.
اضطر جلال للمغادرة عندما طلبه أحد العاملين بالمعرض ليأخذ رأيه في أمر يخص العمل فخرج وتركهم بمفردهم يتبادلون الحديث ويضحكون فقد نجحوا الأولاد في رسم البسمة على ثغر أمهم! .
***
داخل غرفة عمران بمنزل إبراهيم الصاوي……
انفتح باب الغرفة ودخل فوجدها جالسة فوق نفس المقعد وتتطلع إليه بصمت وضيق، لم يعيرها اهتمام كثيرًا وبدأ في نزع جلبابه عنه وكالعادة أخرج ملابس جديدة له من الخزانة واتجه للحمام ليأخذ حمام دافيء يزيح عن جسده ارهاق العمل طوال اليوم، وبقت هي تتابعه بعيناها في سيره نحو الحمام حتى اختفى عن أنظارها وبداخلها تتوق للحظة المناسبة حتى تحقق رغبتها وتتخلص منه.
دقائق طويلة نسبيًا مرت حتى خرج من الحمام وكان يرتدي بنطال أبيض ملائم لحجم جسده وشعره الأسود الغزير مبتل تتساقط منه قطرات المياه فوق لحيته الكثيفة وشاربه مما أعطاه شكل رجولي مثير وزاد من وسامته الرجولية، التفتت هي بتلقائية نحوه وحين استقرت عيناها عليه ورأته عاري الصدر اشاحت بوجهه بسرعة مجددًا وصاحت به بغضب:
_في حمام بنلبس فيه الهدوم، طالع قصادي إكده ليه!
رمقها بنظرة جانبيه باردة ثم هتف بنبرته الرجولية الغليظة:
_ عشان أنا في اوضتي وفي بيتي يعني اعمل اللي اعوزه
هتفت بعصبية دون أن تنظر له:
_ وأنت مش لحالك في اوضتك يعني تعمل حسابك على إكده
هتف بهدوء أعصاب مستفز متعمد:
_ هو في حد تالت معانا في الأوضة ولا إيه!
حاربت خجلها ونظرت له تقول بقوة:
_ وأنا مش مكفياك!!
قال بعين ثاقبة:
_ لا أنتي مرتي يعني مش حد غريب
وكما كانت رغبته نجح في إشعال نيران غيظها على أثر عبارته وهو يذكرها بأنه زوجها، فوثبت واقفة واندفعت نحوه تقف أمامه مباشرة هاتفة بغيظ:
_ أنت كل اللي بتعمله ده بتنتقم مني عشان حاولت اقتلك صُح؟
ابتسم ورد بنبرة خشنة ونظرة مميتة:
_ لا بربيكي من أول وجديد يا آسيا
جزت على أسنانها بغيظ وبسبب نظرته المرعبة لم تتجرأ من الرد عليه واكتفت بالتطلع إليه في نارية لكن بعد لحظات ردت بأنف مرتفع:
_ لو فاكر إنك إكده هتكسرني تبقى غلطان
اشتدت حدة نظراته وهدر بصوت يقذف الرعب في الأبدان:
_ ده بدل ما تشكريني إني نقذتك من ناسك اللي كانوا هيقتلوكي
هتفت ببأس رغم قهرها:
_ الموت كان ارحم من أني اتچوزك ياعمران وادخل البيت ده
ابتسم باستهزاء ليقول بعدم مبالاة وهو يبتعد عنها ليجذب جلبابه الأبيض الذي فوق السرير ويرتديه:
_خلاص اعتبري نفسك ميتة إهنه كمان وملكيش وجود
اشتساطت غيظًا وأظهرت عن أنيابها الشرسة حتى أن عيناها أصبحت حمراء من فرط الغضب وباتت أقرب لمنظر الساحرة حقًا، فاندفعت نحوه وقالت بشجاعة ونبرة صادقة:
_ صدقني مندمناش إني حاولت اقتلك ولو چاتلي الفرصة هعملها تاني والمرة دي بنفسي وهتكون أنت وأبوك عشان اخلص منكم واريح أبوي في تربته واخد حقه
رأت في عيناه نظرة أقسمت أن لو كان بأمكان النظرات القتل لكانت قبضت روحها في الحال، ودون أن تشعر وجدت قدميها تتراجع بخطواتها للخلف خشية من بطشه وكأنها ندمت على ما تفوهت به.
أن كانت هي الساحرة فهو الجن الذي حضرته دون وعي منها، تراجعت ثلاث خطوات للخلف وتقدم هو نحوها كالوحش ثم انحنى ومد يده في صحن الفاكهة يلتقط منه السكين ثم بيده الأخرى جذبها من ذراعها حتى اصطدمت بصدره بعنف واحكم قبضته عليها جيدًا ووضع بيدها السكين في قوة وطالعها بنظراتها التي سرت رعشة بجسدها على أثرهم ثم سمعته يصرخ بها بعدما أعطاها السكين:
_ السكين معاكي وريني يلا هتقدري تقتليني كيف!
كانت تتطلع في عيناه بخوف ملحوظ دون أن تجرأ على تحريك يدها أنشًا واحدًا فباغتها بصرخة أخرى نفضتها:
_ يلا اقتليني!!
لم تتمكن من التحكم بأعصابها وحين نظرت للسكين التي بيدها وتذكرت دماء والدها انهارت قواها وافلتت السكين من يدها بسرعة لتسقط فوق الأرض، فتجده يبتسم بسخرية وينحنى على وجهها هامسًا بصوت يقارب إلى فحيح الأفعى:
_متقوليش كلام أنتي مش قده تاني يابت خليل.. لساتك متعرفنيش وكل اللي شوفتيه مني في اليومين دول ولا حاچة يعني أنتي تنفشي ريشك على الخلق كلها وعندي أنا لو فكرتي بس هنتفهملك فاهمة
شعرت أنها على وشك البكاء فدفعته بعيدًا عنها بعنف وهرولت نحو الحمام تلتقط أنفاسها وتترك العنان لدموعها فقد تدمرت فور تذكرها لمنظر أبيها وهو غارق وسط دمائه، وضعت يدها على فمها تكتم صوت بكائها حتى لا يصل إليه.
تمدد هو فوق فراشه وامسك هاتفه يتصفحه والوقت مر بسرعة حتى قارب على الخمسة عشر دقيقة ولم تخرج حتى الآن من الحمام، نظر للحمام باستغراب وظل يتابعه لدقيقة ينتظر خروجها لكنها لم تخرج أيضًا، تسلل القلق لثناياه من أن تكون أصابت نفسها بمكروه تلك المجنونة فوثب واقفًا وتوجه نحو الحمام يطرق على الباب بقوة هاتفًا:
_ آسيا.. آســـيــا
لم يحصل على رد منها وازدادت حدة القلق بصدره فطرق بقوة أعنف يهتف منذرًا إياها:
_ آسيا لو مفتحتيش الباب هدخل
والإجابة كان نفسها وبالفعل وضع يده على مقبض الباب ينوي الدخول لكن الباب انفتح فجأة وظهرت هي من خلفة تقف بكل شموخ وقوة، أخذ نفسه براحة عندما رآها بخير لكنه صاح بعصبية:
_ كنتي بتعملي إيه ده كله چوا ؟!
ردت عليه ببرود مماثل له:
_ إيه حتى الحمام مينفعش ارتاح فيه براحتي شوية
رأت القلق والزعر في عيناه رغم محاولاته للظهور بالامبالة فابتسمت وقالت بشراسة:
_ متخافش مش أنا اللي أعمل حاچة في روحي.. عمر ما حد قدر يوصلني للمرحلة ومحدش هيقدر، لسا قصادي مشوار طويل عشان اخد حقي من اللي كان السبب في اللي أنا فيه دلوك
لم يجيبها وسكت فلا يكترث لكلامها يكفيه أنها لم تأذي نفسها فهو يتوقع من امرأة مثلها أي شيء، تركته وابتعدت عنه ثم توجهت نحو الخزانة واخرجت مفرش صغير ووضعته فوق الأرض ثم جذبت وسادة من على الفراش، وسط كل هذا كان هو يتابعها باستغراب ليقول:
_ بتعملي إيه؟!
ردت دون أن تنظر له:
_ كيف ما أنت شايف هنام على الأرض، أكيد مش هنام چارك على السرير يعني
لم يعقب وسكت يتابعها بهدوء وهي تتمدد فوق الأرض وتنام بالفعل.. فتأفف بخنق والقى بجسده على الفراش يتمتم بصوت منخفض في قرف:
_ دايب فيكي أنا عشان اقرب منك لما تنامي چاري يعني، خليكي على الأرض تريحي
كانت تنام وتوليه ظهرها لكن عيناها بقت مستيقظة ولوقت طويل لم تنام، في الواقع هي كانت تنتظره هو لينام، بعد مرور ما يقارب النصف ساعة التفتت برأسها للخلف ورفعتها عن الأرض قليلًا تلقي عليه نظرة لتتأكد إذا نام أم لا فوجدته غط في سبات عميق، تنفست الصعداء براحة وابتسمت ثم استقامت واقفة بسرعة وأسرعت نحو حقيبتها تغلقها بكل بطء وحذر حتى لا توقظه ووقفت أمام المرآة تلف حجابها جيدًا بسرعة ثم حملت حقيبتها وسارت لخارج الغرفة على أطراف أصابعها بكل حرص، فتحت الباب ببطء شديد وخرجت ثم اغلقته بنفس البطء، تلفتت حولها وحين لم تجد أحد اندفعت بسرعة للدرج تقصد الطابق الأول لكي يتثنى لها الهروب بسرعة قبل أن يراها أحد.
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية ميثاق الحرب والغفران)