روايات

رواية نيران الغجرية الفصل الثالث والأربعون 43 بقلم فاطمة أحمد

رواية نيران الغجرية الفصل الثالث والأربعون 43 بقلم فاطمة أحمد

رواية نيران الغجرية البارت الثالث والأربعون

رواية نيران الغجرية الجزء الثالث والأربعون

نيران الغجرية
نيران الغجرية

رواية نيران الغجرية الحلقة الثالثة والأربعون

القرار لكِ.
__________________
” مهما كنت صادقا في حديثك ، ستجد من يكذبك !
ومهما كانت تصرفاتك صحيحة ستجد من يتهمها بالخطأ !
هكذا هي طبيعة البشر … لا شيء يسير وفق رضاهم ” # حين_ينطق_الصمت
فزع و نفور ، صراخ صامت و حركة مشلولة ، ألسنة نار مشتعلة تكاد تلتهمه بلا رحمة …
ثم صوت بعيد ، و لمسة على الكتف إنتشلته من الهاوية …

تفرق جفناه مستيقظا من تلافيف الظلام فصرعت خلاياه وهو يرى نفسه واقفا على حافة الشرفة.
– عمار مالك يا بني ؟

بلغته الكلمات مشوهة من طرف صاحب اليد الذي تمسكه بعد ان تناثرت بقاياها وهو يسحبه ناحيته فاِفتر حلقه عن تأوه لم يتبين بسبب حلقه الجاف و تفاجأ عمار عندما وجد والده يقف أمامه و على وجهه قسمات الرعب و الذعر.
ظل يرمقه لثوان صامتا فهزه رأفت بقوة مجددا :
– عمار ابني انت سامعني ؟

هنا استيقظت باقي حواسه و ادرك ما حوله فاِلتفتِ سريعا لجثة مريم الهامدة داخل الغرفة لكنه لم يجدها ، نظر ناحية اليمين أين كانت تقف والدته فرأى أن طيفها قد تناثر ، و انمحق كالقمر حينما تبزغ أول خيوط الشمس فجرا !
لقد غرق في نوبة هوس مجددا و لكن هذه المرة أقوى من سابقاتها فهو أوشك على إلقاء نفسه من الشرفة التي تبعد عن الأرض بمئات الأمتار !
أدرك عمار هذا بينما يناظر أباه فأغمض عيناه يزفر بإختناق قبل أن يهمس :
– انا .. انا سامعك … انا كويس.

هز الآخر رأسه بذهول وهو يعيد تنظيم أنفاسه التي اِنقطعت لوهلة مما رآه.
يتذكر أنه منذ دقائق كان مع شقيقه عادل في المكتب و عند ذهابه لينام لمح باب غرفة عمار مفتوحا و تصدر منها همهمات لم تلتقطها أذناه بشكل واضح فظن ان ابنه يحدث أحدهم على الهاتف …
و حين ذهب ليغلق الباب تزعزع قلبه من مكانه وهو يراه واقفا على حافة الشرفة ويبدو أن صلته بالواقع انقطعت تماما لأنه لم يسمع مناداته و للحظات ظن أنه يحاول القاء نفسه لذلك ركض ناحيته سريعا و أمسكه …

استيقظ رأفت من شروده و سحب عمار على حين غرة ليحضنه بقوة مرددا :
– لثواني حسيت قلبي هيقف الحمد لله انك بخير.

تشتت الآخر ولم يسعفه خموله ليندهش من عناق أبيه أو ينفر منه فظل متسمرا مكانه دون أن يبدي حركة واحدة و هذا ما جعل رأفت يتشجع و يشدد عليه بشوق لحضن ولده الوحيد الذي حرمه منه بكل طواعية منذ سنين طويلة ..
بعد دقيقتين انتشل عمار نفسه مهمهما :
– انا كويس … مقدرتش انام فجيت للبلكونه عشان اشم شوية هوا.

ارتخت أعصاب رأفت فضيق حاجباه بتوبيخ غالبه العتاب :
– قمت وقفت ع الحافة و غمضت عينيك ايه اللي كان هيحصل لو فقدت توازنك او رجلك زلقت.

بل كان سيرمي نفسه بكل طواعية و يتحول لجثة هامدة في ثوان لو أن والده لم يحضر في الوقت المناسب ، هذا ما فكر به عمار وهو يحدق فيه بصمت مدقع أثار حسرة الآخر فتنهد و سحبه من يده الى السرير و جلسا عليه.
رمقه قليلا ثم تكلم بتأنيب ضمير :
– انا ضغطت عليك اوي في اخر فترة صح مكنش ينفع اعمل كده و اضايقك اكتر بس والله عشان مصلحتك و من خوفي عليك.

هز رأسه بمضض و لم تكن له القدرة على التعمق في هذا الموضوع أكثر فقال مغيرا مجرى الحديث وهو ينظر إلى الساعة :
– الساعة واحدة الفجر حضرتك صاحي ليه لحد دلوقتي في مشكلة تانية في الشغل.

فهم رأفت نيته وسايره فربت على كتفه مجيبا :
– فكرت اني اتكفل برحلة للأطفال اليتامى و كنت بناقش الموضوع ده مع عادل و طلبت منه يجمعلي أسامي دور الأيتام و عددهم عشان احدد الميزانية.

همهم عمار بشرود :
– وانا هساهم معاكم كمان ياريت متنقصوش حاجة عليهم.

– متقلقش احنا طول عمرنا بنعمل كده حتى مع الناس اللي مش محتاجة … فاكر يا عمار كنت ابعتلك ايه كل اسبوع وانت في المدرسة الداخلية ليك انت و صحابك كانو يتبسطو اوي بالهدايا.
تمتم رأفت بعفوية متذكرا السنين الماضية ولم يدرك أنه مسَّ وترا شديد الحساسية عند عمار الذي تجمد للحظات قبل أن ينظر لوالده و يغمغم بنبرة رخيمة حملت داخلها جرحا لم يندمل بعد :
– بس انا مكنتش عايز هدايا و فلوس عشان غيري يشوف قد ايه عيلتي غنية و مكنتش عايز في ال weekend غير انك ترجعني ابات في بيتي وفي حضنك انت و لتيتا الله يرحمها … و على فكرة الولاد دول كانو مصاحبيني علشان الهدايا و الفلوس اه بس ده مكنش يمنعهم يروحو لبيت أهاليهم في نهاية كل اسبوع و اقضي انا الويكاند لوحدي.

اختفت ابتسامته و انسحبت الدماء من وجهه فجأة عند سماع حديثه ، و اعتصر قلبه كما لم يفعل من قبل وهو يزم شفتاه بوجع و ندم تآكله من الداخل.
فأبعد عيناه عن خاصة ولده الذي نجح في إلقاء جمرات مشتعلة في صدره ثم قال :
– انا عارف اني جرحتك و ظلمتك اوي بس كنت مدمر بعد وفاة والدتك و لأسباب …

قاطعه عمار بإنفعال خفيف :
– ايه الاسباب ديه اللي تخلي أب يبعد ابنه عنه في عز تعبه و احتياجه ليه حضرتك انا كمان كنت مدمر بعد أمي ما ماتت و كنت محتاج ليك جدا عشان تهون عليا و متحسسنيش باليتم بس انت …
اذا كان انا لسه بحس بالحزن عشان البيبي اللي مات قبل ما يجي للدنيا وكل لما اشوف ولد صغير في الشارع اتخيله ابني و اتمنى لو قدرت اشوفه و المسه مرة واحدة بس ، يبقى ايه اللي هيخليك تبعدني عنك !!

لوهلة شعر أنه رأى عينا والده تدمعان و أحس بالندم لأنه تمادى في كلامه لكن صدقا هذا العبء أصبح يثقل كاهله بشدة تجعله عاجزا عن متابعة حياته بشكل طبيعي لذلك أراد الإفصاح قليلا عما يعتريه ربما يخفف حِمله.
بينما رأفت تنهد بحرارة و أردف :
– مهما عملت ومهما جرحتك و حسستك باليتم افضل متأكد اني عمري ما كرهتك يا عمار و كنت دايما بدور على مصلحتك حتى لو اخترت الطرق القاسية و النتيجة بقيت راجل عملي يعتمد عليه و مبيسيبش فرصة تضيع من ايده غير لما يستغلها و انا اتأكدت من النقطة ديه لما قدرت تصلح غلطاتك في الشركة في غضون اسبوع واحد.

صمت قليلا ثم تابع :
– اسمع النصيحة ديه مني حتى لو مش عايزها … لو جه يوم و اضطريت تختار بين عقلك و قلبك اوعى تخلي مشاعرك تتحكم فيك امشي ورا المنطق دايما و شوف عقلك بيرسملك ايه لان القلب بيتعب و بيضيع.

أنهى رأفت كلامه ثم ربت على ساقه و غادر الغرفة تاركا عمار يتخبط بين الماضي و الحاضر و نبضات قلبه تزداد كلما تذكر أنه كاد يقتل نفسه.
اللعنة كان سيلقي حدفه لولا وصول والده في الوقت المناسب ، لقد اعتقد أنه يحلم عندما رأى والدته لكن اتضح أنه كان مستيقظا و يتخيلها و بسببها صعد على الشرفة.

ألم يكفيها ما فعلته به منذ طفولته ، لماذا تقتحم خيالاته الآن ألن يرتاح عمار منها ؟
ولكن مالذي كانت تقصده فيروز عندما قالت أن والده أحبها بالشكل الخطأ و كيف ظهرت هذه الكلمات على لسانها وهو يتخيلها من الأساس ؟ هل سمع جملة شبيهة لها في الماضي و ترجمها الاوعي في نوبة هوسه ؟

هل حقا سيتسبب عمار في أذية أحبائه اذا استمر بهذا الشكل لذلك يجب الإبتعاد عنهم … عنها هي ؟!

________________
– انا بشك في ان عمار بيه عامل خطة علشان يوقعني يا فندم.
قالها سليم الذي وقف عادل بعدما استدعاه فإندهش الأخير و تساءل باِحتراز :
– ايه اللي بتقوله ده انت عرفت منين ؟

طأطأ رأسه و أجابه بجدية :
– امبارح استدعاني لمكتبه في الشركة زي ماحضرتك عارف وبعد ماكنت فاكر انه هيرفدني من شغلي فاجأني وهو بيعتذر مني علشان اتعصب عليا و ضربني.

تأفف عادل بنفاذ صبر و حثه على الإكمال :
– انا عارف اللي حصل بينكم ادخل في الموضوع.

– عمار بيه طلب مني اكمل شغلي و ادور على الشخص اللي حطله جهاز تتبع و قال انه بيثق فيا بس حسيت كلامه مش حقيقي لان اللي يشوف غضبه و عصبيته وهو بيضربني مبيصدقش ان ممكن يرجع يثق فيا تاني.

توقع سليم أن ينفجر به سيده غضبا لكن على عكس ما كان يظن رأى الآخر هادئ و ينظر للفراغ كمن يفكر في شيء ما ، ثم ابتسم و هتف :
– متقولش ممكن لأن فعلا عمار لسه موثقش فيك … ابن اخويا ذكي و انا كنت عارف انه مش هيسكت هو بدأ يفوق من غيبوبته و يرجع يركز في كل حاجة تحصله.

سأل سليم باِستفهام :
– طيب احنا هنعمل ايه يا فندم احتمال كبير يكون حطلي GPS هو كمان و يراقب تلفوني او يبعت حد من ورايا يشوف انا بعمل ايه و بكلم مين.

– لا هو مش هيحطلك GPS و متوقعش يراقب تلفونك بس احتمال كبير يبعت حد وراك.
غمغم بتأكيد فقطب الآخر حاجباه بغرابة :
– حضرتك ازاي متأكد من اللي ممكن عمار بيه يعمله و اللي مستحيل يعمله.

ابتسم عادل بمكر و اقترب منه ليضع يده على كتفه متمتما بعنهجية :
– اهم حاجة في المنافسة انك لازم تبقى عارف تفكير خصمك و انهي طريقة بيعتمدها في حالة حزنه و فرحه و غضبه ، و انا قوتي بتكمن في اني عارف عمار من طفولته و راقبته في كل خطوة عملها في حياته علشان كده ببقى قادر اتوقع هو هيعمل ايه.
بس عمار عكسي تماما هو مش عارف مين الشخص اللي بيدور عليه و بالتالي صعب عليه يعرف نمط تفكيري … و بطريقتي انا هخليه يوصل للمجهول اللي دمرله حياته و قتله ابنه بس هيلاقي حد تاني غيري وانت عارفه كويس.

– يعني هو مش هيقدر يعرف خالص مين اللي بيأذيه.

نظر له عادل و صحح له بأريحية :
– انا مش عايز اؤذي عمار هو ابن اخويا و بحبه مبكرهوش بس غلطته الوحيدة انه خد مني حقي و زعل بنتي و رفضها علشان كده لازم يتعاقب لكن انا عمري ما كرهته … بالعكس عنده مكانة خاصة في قلبي.

حملق فيه سليم باِستهجان للحظات قبل أن يستفيق و يخفض راسه كي لا تظهر تعبيراته على وجهه.
هل السيد عادل يمزح معه أم ماذا لا يعقل أن يكون جديا ، هل يقول أنه يحب إبن أخاه ولا يريد اِيذاءه لأن لديه مكانة خاصة في قلبه ، حقا ؟

هل الرجل الذي راقب عمار لسنين طويلة و قتل طفله قبل أن يولد و سبب له مشاكل في عمله عندما حرض مجلس الإدارة عليه و ينوي الإيقاع بينه و بين أبيه … هو نفسه من يردد الآن بكل جدية أنه لا يكرهه !

_______________
عدلت وضع الشال على كتفيها لتقي نفسها من البرد في هذا المساء بعدما توقف الأمطار عن الهطول منذ ربع ساعة ، ثم أطلت من الشرفة تنظر للطرقات المبتلة حيث يظهر الناس وهم يرتدون ملابسهم الثقيلة ، و بدون إرادة منها سافرت ذاكرتها إلى ما قبل سنين ، حين أهدت لعمار أول هدية صنعتها بنفسها ….

Flash back
( نظرت من زجاج نافذة السيارة و قالت بإبتسامة :
– يا سلام السما بتمطر اوي.

نظر لها بطرف عينه معلقا :
– الجو وحش جدا دلوقتي كويس اني شوفتك برا و ركبتك معايا عشان اروحك … لو سبتك على راحتك كنتي هتباتي في الشارع بسبب الزحمة.

كان قد سمح لها في الصباح بالذهاب لإحدى المتاجر من أجل شراء بعض الأعشاب و البخور الذي تدمن عليه و طلب منها ان تتصل بالسائق عندما تنتهي ليقلها الى المنزل.
و لكن عندما تأخرت عن طلب السائق و ظلت تمشي في الشوارع بإستمتاع بالمطر تفاجأت مريم بإتصال عمار الذي أخبرها بأن تستدير خلفها و عندما فعلت رأته داخل سيارته و يشير لها بالمجيء.
و بالطبع بعد ربع ساعة من التوبيخ على تأخيرها هاهو يقلها و يرمي عليها الكلام فإلتفت نحوه و قالت بخفوت :
– انا بحب الجو لما يبقى كده بحس بدفى غريب.

– دفى في عز الخريف ؟ انتي غريبة.
هتف عمار بإستنكار أضحكها ثم أردف مستدركا :
– صحيح انا دورت ع الكتب اللي كنتي عايزاها و ملقتهاش في المكتبات اللي هنا عشان كده طلبت اوردر من مكتبة الاسكندرية هتوصلك بكره.

شهقت مريم بتفاجؤ سعيد :
– بجد ! انا فقدت الأمل في اني الاقيها بس ليه تعبت نفسك مكنش في داعي متشكرة اوي.

ضم كف يدها بخاصته ولم يرد عليها ، و بعد دقائق وصلا الى الشقة و صعد معها يحمل أغراضها ثم قال لها :
– انا همشي دلوقتي عايزة حاجة.

غامت عيناها بخيبة و مطت شفتها بحزن لأنها اعتقدت بأنه سيبيت معها الليلة و لابد أن عمار لاحظ هذا فاِقترب منها وضم وجهها بلطف هادرا بصوته الخشن :
– كنت عايز افضل معاكي بس مع الاسف عندي شغل في الشركة ولازم اروح فورا … اوعدك اجيلك اول ما افضى.

همهمت مريم و هزت رأسها على مضض ثم المتعت عيناها شاهقة :
– استنى انا افتكرت حاجة ثواني متمشيش.

تركته و ركضت الى الغرفة و عادت بعد لحظات وهي تحمل بيدها شيئا ما ، ثم تقدمت منه بخطوات بدت له مترددة خجولة و تمتمت :
– انا حبيت اعملك حاجة ب ايديا.

قارنت قولها بمدها لما تحمله فإلتقطه عمار بإستغراب ليجده شالا من الصوف الناعم باللون الرمادي به بعض النقوش السوداء و رائحة البخور الطيبة ملتصقة به ، داعبه بين أصابعه ثم شمه بعمق هامسا :
– معقول انتي عملتيه بنفسك.

لم تستطع تبين ردة فعله من نبرته وخافت أن يكون قد أثار سخطه و سخريته لأنه لم يعجبه فرددت بإضطراب :
– انا قلت لو اشتريته هيبقى احسن بس بعدين فكرت في اني اعمله بنفسي الشال معجبكش صح والله …

قاطعها عمار بقبلة مفاجئة على شفتيها و ابتعد عنها بعد ثوان مبتسما تلك الإبتسامة التي تجعلها تذوب :
– مش هكدب لو قولت ان ديه احلى هدية حصلت عليها في حياتي.

توقف قلبها عن النبض بشكل طبيعي و أشرق وجهها الذي زينت وجنتاه بحمرة خجولة لذيذة وهي تهتف بنبرة هامسة :
– بجد الشال حلو و عجبك … في اجمل منه بكتير اكيد الهدايا اللي جتلك من قبل أفخم.

تشدقت بها وهي تفكر بعبوس بكمية الهدايا التي من الممكن ان يكون قد حصل عليها شاب مثله من فتيات طبقته الإجتماعية و خاصة ابنة عمه المدللة و لكن عمار ابتسم و داعب وجنتها بصدق :
– بس محدش اشتغل و تعب عليها زيك يا مريم … انا مكنتش اعرف ان شغل ايديكي بيبقى حلو و متقن كده برافو عليكي.

لو ان هناك جهاز يقيس مقدار السعادة لما كان سيستطيع قياس سعادتها في هذه اللحظة فمديحه لها بنبرته الرجولية هذه و زيتونيتاه الامعتان تجعلانها تشعر و كأنها اجمل و أفضل امرأة في الكون …
لذلك تشجعت و أخذت الشال و شرعت تلفه بنفسها حول عنقه تحت نظراته التي بدأت تتحول لأخرى راغبة ، فضغط عمار على خصرها و همس في أذنها بنبرة مثقلة :
– كده ريحتك هتفضل معايا ع طول … استنيني الليلة ديه و متناميش.

أخفضت مريم عيناها المكحلتان فطبع عمار قبلة على شعرها المجعد و رحل بينما ركضت هي الى الشرفة كي تودعه … )

Back
استفاقت مريم من شرودها و تنهدت متذكرة أن عمار لم يتخلَّ عن الشال الذي حاكته بيديها طوال هذه السنين حتى أنها رأته ذلك المرة في غرفة مكتبه بالشركة عندما استدعتها ندى بكل وقاحة و رأتها تقبض عليه و كأنه ميراث من عائلتها.
فزفرت بضيق و فكرت أيضا بأن عمار لا يزال يحتفظ بكل ما يخصها حتى صندوق اكسسواراتها و خاتم الأوبال لكنها لا تفهم لماذا يفعل هذا إن كان لا يكن لها مشاعر عاطفية.

هالة محقة في نصيحتها فبعد آخر حديث بينهما قررت التفكير بحيادية دون وضع فكرة القتل في رأسها و بالفعل وجدت أن عمار فعل الكثير ليجعلها تشك في حقيقة أنه قتل طفلها بل و تجعل قلبها الأحمق هذا ينبض ببلاهة مزعجة حينما تطرأ لها إحتمالية أن يكون عمار قد أحبها في يوم من الأيام.
تأففت مريم وهزت رأسها زاجرة نفسها :
– الدنيا في ايه و انتي في ايه معقول بعد كل ده لسه متعلمتيش ايه اللي جاب فكرة الحب ديه في دماغك مش فاهمة !

قطبت حاجباها بحنق و عادت تتدبر في الأمر و تدرس كل المواقف بتركيز ، حادثة الاجهاض و المشفى و كلام الممرضة كل ذلك يجعلها تتهم عمار و لكن حينما ترى تصرفاته و ردود أفعاله و نبرة صوته ولمعة عينيه وهو يخبرها بأنه لا يعلم كيف أذاها تجعلها تتساءل ماذا لو كان بريئا ، ماذا لو ظلمته و اتهمته بما لا يد له فيه ؟
هل حقا عليها المواجهة و سؤاله ، ربما توضع النقاط على الحروف و تتوضح تعقيداتها ، و ربما يكون عمار بريئا و قاتل طفلها هو شخص آخر لا يزال طليقا يسخر من غبائها !

تنفست مريم باِختناق و في لحظة متهورة أخرجت هاتفها لتتصل به إلا أنها توقفت وهي تتذكر وعدها لنفسها بأنها لن تتصل به مجددا مهما حصل و بينما هي غارقة في ترددها لمحت سيارة عمار تدخل إلى ساحة المبنى ..
فتمتمت بإسمه بلهفة و ركضت الى الداخل تنتظر دخوله و بالفعل سمعت صوت فتح الباب بعد دقائق وجيزة.

أغمضت عيناها بإستعداد مقررة بأن تفصح عن كل شيء اليوم ومن دون أن تدري رفعت يديها تعدل هيأتها مثلما كانت تفعل في السابق و لم تنتبه للوحش الضاري الذي يربص بها من خلفها ، و عندما استدارت تفاجأت بشكله المريب حيث أنه يقف بصلابة يرمقها بحدقتيه القاتمتين و يده تضغط على ورق لم تتبين ماهيته.

فأصابها القلق و سأله بإحتراز :
– عمار في ايه.

لم يجبها وهو يقترب منها فاِزدردت لعابها بينما تردد باِرتباك :
– انا كنت عايز احكيلك على حاجة.

حينها تفاجأت بسخريته البادية على وجهه و التي سرعان ما تحولت لأخرى غاضبة وهو يلقي الملف على الطاولة أمامها ، و كادت مريم تصاب بنوبة قلبية عندما توضحت لها صور ابن خالتها و أبنائها فاِنتفضت رافعة رأسها نحوه تطالعه بذعر ظهر في عينيها الملبدتين بغيوم الذنب و الخوف مما كانت تخشاه قط.

غير أن عمار لم يدخر جهدا وهو يحقق لها خوفها عندما غمغم بأكثر نبرة قاسية في الوجود :
– انتي دلوقتي لو محكيتليش عن خالتك ديه و ليه خبيتيها عني و امتى اتواصلتي مع ابنها و هربتي معاه ازاي … صدقيني مش هيبقى ليهم وجود خالص في غضون 24 ساعة و انتي عارفة اني اقدر اعملها … القرار ليكي.

___________________

خطوة جريئة.
_________________
” نحن لا نقرر التغير فجأة اتجاه أحدهم …
المشاعر عملية تراكمية … إهمالهم ، صمتهم ، جبنهم ، تجاهلهم ، جميعها تسقط بدواخلنا ، وعندما تحين اللقطة التي لم نتوقع أن تحين …
تجد نفسك لا تطيق النظر لهم ولا تود سماعهم ، و بودك لو أنك تركض مسرعا بإتجاه آخر .. ” # لي_أنا_أولا
– انتي دلوقتي لو محكيتليش عن خالتك ديه و ليه خبيتيها عني و امتى اتواصلتي مع ابنها و هربتي معاه ازاي … صدقيني مش هيبقى ليهم وجود خالص في غضون 24 ساعة و انتي عارفة اني اقدر اعملها … القرار ليكي.

كان الخوف ينضح من وجهها ، و احتمالية أذية عائلتها عادت لتسيطر على عقلها مجددا وهي تسمعه يهددها مباشرة ، لدرجة أنها لم يكن لديها الوقت لتفكر بكيف وصل اليهم فمريم تعلم جيدا مدى نفوذ عائلة البحيري و الرجل الذي وجدها منذ سنة ونصف و حذرها بعدم العودة بالتأكيد لن يصعب على إبنه كشف سرها عاجلا أم آجلا.
إلا أنها لم تتوقع أن يحدث هذا بسرعة لقد أخذت احتياطاتها و حتى السيد رأفت أخبرها بأن عمار لن يستطيع معرفة مكان اختبائها طالما بقي هو حريصا على اختفائه ، اذا كيف حدث و ان وصل لخالتها و ابنائها !

تصبب جبينها بالعرق من كثرة الانفعال غير أنها انتفضت أعصابها عندما صدح صوته البارد :
– انا مش هستناكي كتير.

– انت عرفت بخالتي منين و ازاي ؟
تساءلت بحشرجة بفعل حنجرتها الجافة فتجاهل الآخر سؤالها و هدر :
– ردي عليا يا مريم و احكي كل حاجة و متغفليش عن اي تفصيلة ، انطقي و قولي مين خالتك ديه و ازاي وصلتيلها و الا مش هكتفي بيهم هما بس لأ هحط عمك في القائمة معاهم.

انتفضت مريم و صاحت بلهفة غاضبة :
– عمي ملوش دعوة اساسا هو ميعرفش حاجة عن خالتي !
كان الصدق بادٍ عليها في هذه اللحظة ولكن عمار رفض الانقياد وراء ملامحها لأنها كاذبة لعينة ولن يتعجب اذا عرف بأن كل هذا كان مخططا بينها وبين عائلتها أجمع.
لذلك جلس على الأريكة و طالعها بنظرات مميتة صامتة جعلت منها تتأكد بأن لا مجال للهروب بعد الآن ، فتنهدت باِستسلام و جلست هي كذلك محدقة في الصور …

و بعد ثوان تمتمت :
– خالتي اسمها نورهان كانت أصغر من ماما الله يرحمها عاشو في قبيلة الغجر سنين طويلة وبعدين هي زي ماما حبت واحد من المدينة شافته اول مرة لما روحو في يوم للاسكندرية عشان يبيعو العطور اللي بيصنعوها بنفسهم.
لما طلب منها الجواز عيلتها رفضت و قالولها كفاية أختك اتحدتنا واتجوزت واحد من مصر و حبو يربطوها براجل اكبر منها بكتير بس هي فضلت رافضة و هربت معاه و بكده أهلها اتبرو منها و منعو اي حد يجيب سيرتها.
و عمي احمد لما سمع بقصتها عمل مشكلة لبابا و ماما و حذرهم يتكلمو عنها في البيت عشان مورثش منها ومن قبيلتها أخلاقهم السيئة …

لوت شفتها بتهكم مكملة :
– طبعا ماما و خالتي من الغجر اكيد هيبقو عديمات احترام و شرف ، بس ماما ثريا الله يرحمها كانت بتحكيلي عنها كتير وكنت اتمنى اقابلها في يوم خاصة اني عارفة انها متجوزة في الاسكندرية و عندها ولد اسمه محمد و اصغر مني بسنتين ، حاولت اوصلها في مراهقتي في الاسكندرية بس مقدرتش كل الطرق كانت مقفولة في وشي علشان كده استسلمت و قررت مدورش عليها تاني ولا اتكلم عنها.

لم يكن هذا السبب الوحيد لصمت مريم ، في الحقيقة كانت ستخبر عمار عنها في إحدى المرات إلا أنها تراجعت عندما بدأت تلاحظ برود زوجها و إهماله لها فتوقعت بأن تنتهِ علاقتهما في يوم من الأيام ، و يجب أن يكون لها مكان آخر تذهب اليه فالبتأكيد إبن عمها لن يدعها و شأنها ان عادت اليهم لذلك قرىت الاحتفاظ بهذا السر.
ومن حسن الحظ أنها فعلت ذلك !

صدحت نبرة عمار الحادة :
– و امتى افتكرتي وجودها ازاي وصلتيلها !

ضغطت مريم على يدها و أطياف الماضي تعود اليها من جديد لتقلب عليها مواجعها ترقرقت عيناها بالدموع التي أوقفتها سريعا كي لا ينتبه لها ثم رفعت وجهها أليه هاتفة مجروح :
– لما طلبت منك تعلن جوازنا و انت مسحت بكرامتي الأرض و مسبتش كلمة إلا وقولتهالي … ساعتها بدأت افكر اطلق منك و امشي … فاكر الليلة اللي مرضت فيها وانت جيت بالصدفة ولقيتني مرمية ع الارض ؟
وقتها عرفت اني مينفعش افضل عايشة كده و استنى حضرتك تتكرم عليا و تجي تشوفني …

Flash back
( – انتي ناوية تعملي ايه دلوقتي هتتصرفي معاه ازاي بعد كده هتعتبري ان مفيش حاجة حصلت و هتكملي حياتك معاه عادي ؟

قالت هالة فرفعت مريم وجهها نحوها بحدة :
– لأ أنا مش هسمحله يلمسني تاني ولا يطول شعرة مني اللي قاله مش قليل يا هالة مش هنسى إهانته و كسرة قلبي حتى لو كنت كلمته بطريقة غلط بس مش من حقه يقلل مني.

– مش هتخليه يلمسك ازاي ما انتي مراته و طول مانتي قاعدة في بيته مش هتقدري تمنعيه عنك …. انتي عندك مكان تروحيله من غير بيت عمك ؟

عضت مريم على شفتها بقهر :
– لأ مفيش مكان حتى هو عايرني وقالي مليش ملجأ اقعد فيه غير هنا و ….. لالا استني.

توقفت عن التكلم و اتسعت عيناها فجأة بإدراك :
– ايه ده انا ازاي كنت ناسية كل ده.

سألتها هالة بتحفز :
– في ايه ؟

زفرت مريم بظفر مرددة :
– أنا عندي مكان أروحله يا هالة … بيت مستعد يستقبلني في أي وقت و محدش عارفه حتى هو …. حتى عمار مسمعش فيه قبل كده و مستحيل يقدر يعرفه أبدا !

تحفزت و اعتدلت في جلستها بتركيز :
– مين يا مريم قوليلي.

– انا كنت حكيتلك وقولتلك ان عندي خالة متجوزة في اسكندرية صح و حاولت مرة اوصلها بس فشلت ماما قالتلي انهم كانو قريبين من بعض جدا و التقو اكتر من مرة في السر بعد جوازهم خالتي كانت عايزة تشوفني كتير بس أهلي مقدروش يودوني ليها عشان عمي ميعرفش.

– طيب انتي هتلاقيها ازاي دلوقتي.
– ماما قالتلي ع اسم جوزها الكامل يمكن اقدر المرادي اعرف مكانها و اروحلها … )

back
مسح عمار على وجهه و حدق بها ليجدها تطالعه باِتهام صريح و حزن عاد يصبغ عيناها المحمرتان ، جاهد لكي لا يجعل نفسه يتأثر بها ثم زفر يحثها على المتابعة :
– وبعدين ايه اللي حصل معقول قدرتي تلاقيها بالسهولة ديه.

هزت رأسها ببطء :
– لأ … بعد خناقتنا التانية يعني بعد حضرتك ما عرفت اني حامل و رفضت البيبي ساعتها صممت اكتر ع الهرب بس اتفاجأت ب مكالمة من رقم مجهول … محمد ابن خالتي هو اللي اتصل بيا.

بهت وجهه بذهول و أحس بعدم الإستيعاب من كمية الصدمات التي تنزل عليه فهمس بتشتت :
– هو كلمك ازاي ده عرف يوصل لرقمك منين !

رأت مريم الشك في عينيه فتنهدت و أغمضت عيناها مصرحة بقلة حيلة :
– هو قدر يوصل لعمي و طلب منه يديه رقمي يا عمار و اداهوله فعلا …

flash back
(
انتفضت مريم باكية مجددا وهي تتذكر ما حدث بينهما ليلة البارحة عندما قابل خبر حملها بالرفض و الصراخ و التهديد ، جزء منها يعاتبها لأنها لم تأخذ الإحتياطات الازمة التي تمنع حملها.
و جزء آخر يخبرها أن هذا كان مقدرا و سيحدث في كل الأحوال لذلك يجب أن تدافع عن صغيرها و تمنحه الحياة التي يستحقها بعد أن تترك حياة عمار نهائيا …

و في خضم حزنها و غضبها …. لم تنتبه مريم للحقد الذي تآكل داخل قلبها إتجاه من يسمى زوجها …. حقد أهوج و رغبة لذيذة في الإنتقام بدأت تتغلغل داخلها لكنها دفنت مؤقتا عند سيطرة الحزن على قلبها …. و ذلك الإتصال الهاتفي الذي جاءها على غفلة !!

تجاهلت الاتصال في البداية و لكن رنينه المزعج جعلها تتأفف و تلتقط الهاتف على مضض ترى من هذا الذي يطلبها في هذا الوقت لتجد أن صاحب الرقم غير معروف.

عقدت مريم حاجباها بضيق و قررت عدم الرد و لكن الإتصال المتكرر أشعرها بالقلق و فكرت باِحتمالية أن يكون عمها او زوجته.
فحمحمت تنظف حنجرتها المتحشرجة من البكاء و أجابت :
– ألو.

– ألو … مريم معايا ؟
كان صوت شاب غريب فتفاجأت و أخفضت الهاتف تنظر للرقم مجددا ثم أعادته قائلة بحذر :
– ايوة مين حضرتك.

– انا محمد … محمد ابن خالتك نورهان.

فتحت فمها بدهشة ولم تنطق بحرف اضافي فتابع الآخر قائلا بأنه كان يبحث عنها منذ وقت طويل و استطاع الوصول الى عمها بصعوبة و عرف أنها تزوجت لذلك جاء لهذه المدينة باحثا عنها.
و بعدما تأكدت بأنه من عائلته فعلا فتحت معه مكالمة فيديو وبمجرد رؤيته لها هتف منذهلا :
– انتي شبه خالتي و أمي و اختي ثريا كأنك نسخة عنهم !

ضحكت بدموع ثم استقامت واقفة و رددت بلهفة :
– انا دورت عليكم كتير و مقدرتش الاقيكم مكنتش اعرف ولو معلومة صغيرة عنكو مش مصدقة اني شايفة ابن خالتي دلوقتي و بكلمه الحمد لله اللي جمعني بيكو … اختك ثريا فين عايزة أشوفها.

ابتسم و أدار الكاميرا ناحية الفتاة ذات الشعر المموج و التي كانت نائمة بعمق فتساءلت عند رؤية الشاش الأبيض الملتف على رأسها :
– هي مالها ؟
رد عليها بتجهم :
– حصلت معانا حادثة سيئة امبارح ولولا شاب ابن حلال كان الوضع هيبقى أسوء … المهم قوليلي انتي فين دلوقتي اقدر اوصلك ازاي يا مريم انا سيبت أمي في اسكندرية و جيت مع اختي ندور عليكي وهي حاليا مستنية اتصال مني اقولها فيه اني لقيتك.

تجمدت أصابعها على الهاتف للحظات لم تستطع النطق فيها ثم تمتمت باِضطراب :
– محمد مقدرش اديلك عنواني دلوقتي يمكن انت عرفت من عمي الطريقة اللي اتجوزت انا بيها دلوقتي وضعي معقد كتير و مقدرش اعمل خطوة انا مش متأكدة منها.
– ازاي يعني مش فاهم هو جوزك مانعك تتواصلي مع عيلتك ولا بيعاملك وحش علشان كده خايفة منه فهميني !
– هو مبيعرفش بوجودكم اساسا بص انا هخلي رقمك عندي و ممكن اتصل فيك بعد يومين او تلاتة ساعتها هحكيلك كل حاجة و ممكن … ممكن اجي معاكم كمان.
– انتي من عيلتي يا مريم و زي أختي ثريا اوعى تفكري نفسك وحيدة ماشي … )
back

ظل عمار يستمع لحديثها و رواياتها وهو يضم رأسه بين يديه غير مصدق لكمية الحقائق التي يكشفها الآن واحدة تلوَ الأخرى و الأدهى من ذلك أنه قد اكتشف بأن حتى عم مريم المريض كان يكذب عليه حين أخبره بجهله عن مكان ابنة أخيه و بأن زوجته اللطيفة كانت تحيك الخطط من وراء ظهره وهو لم يعلم بذلك !

فكل هذه الأمور حدثت بعدما تعطل نظام كاميرا المراقبة و جهاز التنصت على هاتفها لذلك لم يستطع معرفة أنها تلقت اتصالا من طرف فرد من عائلتها و اللعنة على ذلك ألف مرة لأنه كان يصافح نفس الشاب الذي أتى الى هذه المدينة خصيصا ليأخذ مريم منه …
فاض به الكيل من فكرة أن الجميع استغباه هكذا فاِنتصب واقفا يدمدم بصوت عال :
– ايوة وبعدها جه هربك من المشفى ولا ايه مش فاهم !

رفعت مريم رأسها له مجيبة :
– لا انا هربت لوحدي و كنت لسه حافظة رقم محمد بعد ما مسحت مكالمته و اتصلت بيه وهو جه مع اخته و ودوني معاهم.

اختفى صوتها مع آخر كلماتها و بقيت تطالعه دون أن ترمش كي لا يستطيع كشف كذبتها.
نعم لقد كذبت في آخر جملة لها لأنها لم تتصل بمحمد … بل هو من وجدها لحظة محاولتها الإنتحار بعد هروبها من المستشفى …
flash back
( بعد دقائق طويلة كانت تقف على حافة جسر يطل على النهر ، و راحت تطالعه بنظرات ميتة حتى اتخذت قرارها و استعدت للقفز.
غير أنها عندما أوشكت على شعرة من رمي نفسها ، شعرت بيد تلتقفها و تحيط بخصرها مبعدة إياها من الخصر فصاحت مريم بهلع وقد إعتقدت بأن عمار :
– لأ ابعد عني سيبني.

– اهدي يا فندم اهدي متخافيش.

تابعت مريم الصراخ بحرقة وهي تتلوى و تنازع لإبعاد يدي المجهول الذي لم ترى وجهه بعد بينما تستمع لكلماته :
– صدقيني مفيش حاجة مستاهلة تعملي كده في نفسك يا …

صمت الشاب عندما إلتفتت إليه على حين غرة و رآها ثم فغر فاه بدهشة منقطعة النظير وهو يهمس بصوته الذي بدى مألوفا لها :
– ايه ده انا مش مصدق معقول ديه انتي … مريم !

و كان إسمها على لسانه آخر ما التقطته أذناها قبل أن تغمض عينيها و يرتخي جسدها ساقطا بين ذراعيه …

وبعدما استفاقت وجدت نفسها في المقاعد الخلفية لسيارة ما و رأسها موضوع على ساقي أحد لم تتبينه ، لفت عيناها في المكان و صوت يأتيها من بعيد :
– حمد لله على سلامتك اشربي شوية مياه.

انتفضت مريم و نهضت جالسة تحدق في الشاب المنحني عليها و الفتاة التي كانت نائمة على قدميها ثم رددت برعونة :
– انتو مين ابعدو عني ليه انقذتني ليه مسبتنيش اموت.

كان يتوقع انهيارها هذا من شكلها الذي لا يبدو طبيعيا فأمسكها من كتفيه مقاوما دفعها له ثم قال بصوت عال نسبيا :
– مريم اهدي متخافيش ده انا محمد ابن خالتك.

صاحت رافضة لما يقوله و ظلت تتململ بين يديه حتى صرخ فيها بقوة و أجبرتها على أن تنظر اليه و عندما فعلت ذلك و ركزت في ملامحه انبسطت تقاسيم وجهها و همست بصوت مبحوح :
– محمد …

اومأ بتأكيد مردفا :
– ايوة انا و ديه ثريا اختي … ارتاحي شويا احنا هنوديكي للمشفى عشان…

قاطعته بلهفة و ذعر :
– لا متودنيش لأي مكان ارجوك هو هيلاقيني ومش هيرحمني انا خايفة منه ابوس ايدك متاخدنيش للمشفى.

تفاجأ من كلامها و حالتها المريبة و أصابه الغضب فهتف بتوعد :
– اللي بتحكي عنه ده جوزك ولا ايه مش فاهم هو عملك ايه وانتي كنتي هتقتلي نفسك ليه يا مريم قوليلي مين خلاكي في الحالة ديه وانا م هرحمه.

– لا هو هيأذيك … و يأذيني هيقتلني … هيقتلني …
رددت مريم تلك الكلمات بهستيرية فنطقت ثريا التي كانت تشاهد الموقف منذ البداية بتردد :
– أبيه محمد مريم تعبانة و حالتها سيئة جدا مش وقت نستجوبها …

وجد الآخر أنها محقة فأومأ بمضض و أخذ للفندق الذي يبيتان فيه وبعد ساعة استعادت مريم رشدها و انهمرت في البكاء الشديد قائلة بأن زوجها خانها و قتل طفلها و تسبب في دخولها الى المشفى لذلك يجب عليها الهروب منه.
و أخذت منهما وعدا بعدم فعل شيء فقط أخذها معهما الى مكان بعيد حيث لا يصل فيه عمار اليها … وقد كان. )

back
عادت مريم من تلك الذكرى التي قلبت عليها مواجعها و أظهرت لها كم كانت ضعيفة ، فلولا ظهور محمد المفاجئ لكانت ألقت نفسها في المياه و تركتهم يسخرون منها وهم يحضرون لزفاف أبنائهم ، و المشكلة أنها قد اضطرت لكشف الحقيقة الآن و لا تدري ماذا سيكون مصير عائلتها …

لذلك لململت شتات نفسها و وقفت مقابله تهتف :
– انا حكيتلك على كل اللي عايزه يا عمار ولو انت متعصب دلوقتي و عايز تنتقم ف انا واقفة قدامك اهو بس متأذيش عيلتي هما ملهمش دعوة كل اللي عملوه انهم حموا بنتهم.

تسارعت وتيرة أنفاسه و ازدادت نظراته حدة فدنى منها بخطوات كان من شأنها بعث الذعر داخلها إلا انها صمدت ولم تظهر ما يعتريها.
غير أنها تفاجأت عندما قبض عمار على ذراعها و جذبها ناحيته صارخا :
– من لما رجعتي وانتي بتقولي اني أذيتك و كسرت قلبك و خنتك و دمرتلك حياتك و دلوقتي خايفة اؤذي عيلتك و بتقدمي نفسك قربان مقابل مقربش عليهم … هو انتي فاكراني ايه بالضبط ليه راسمة عني في دماغك صورة المجرم المفتري.

طالعته مريم بدهشة ساخرة :
– و اللي بتعمله حضرتك هيخليني افكر ازاي مثلا انت اهو لسه داخل عليا وبتقولي همحي عيلتك من وش الأرض لو متكلمتيش.

شدد الضغط عليها أكثر و غمغم من بين أسنانه :
– انا لو كنت ناوي اؤذيهم بجد مكنتش جيت و عملت اتفاق معاكي لأ كنت بدأت شغلي من بدري ولو كنت ناوي انتقم ع اللي عملتيه كنت وديت عمك و هالة ورا الشمس يا مريم … مش صاحبتك اللي ساعدتك تطلعي من الشقة يوم فرحي و اخوها هو اللي دبر بطاقة الدعوة المزيفة عشان تقدري تدخلي للقصر ؟

كان سيفعل هذا و يؤذيهم حقا ، بل و كان ينوي أن يضع اسماءهم بالترتيب في لائحته و يبدأ بتدميرهم واحدا تلوَ الآخر ولكنه توقف في آخر لحظة وهو يفكر بأنهم كانوا لعبة في يد مريم التي تحرك عواطفهم بدموعها الكاذبة اذا هم لا شأن لهم لأنه لو كان هو مكانهم لم يكن سيتردد بمساعدة فرد من عائلته.
الخطأ كله يقع على مريم التي فكرت و حللت و استنتجت بمفردها و رسمت الخطط لأذيته ولم تكلف نفسها بمواجهته بشرف.

و لهذا قربها منه أكثر و رفع اصبعه في وجهها مدمدما بصلابة :
– هما ملهمش دعوة الحق كله واقع عليكي و ده الفرق اللي بيننا انتي اخترتي تنتقمي مني فعيلتي و تشوهي سمعتها اما انا مقدرتش اللي انتي عملتيه و اخترت ادور و افهم الاسباب اللي مخلياكي تكرهيني بس تعرفي يا مريم …

صمت يطالعها في جو يسوده الصمت إلا من صوت أنفاسهم المتسارعة باِنفعال حتى ردد :
– من النهارده مش هسألك عن حاجة ولا هجري وراكي و اترجاكي تتكلمي لا بالعكس انتي حرة في تصرفاتك بس في نفس الوقت مش هسكتلك وكل فعل منك هيبقاله رد مني عارفة ليه لاني النهارده فهمت ان مهما كنت ظالم في حكايتنا ديه بس انتي هي الظالمة الاكبر عشان خبيتي و خططتي و غلطتي وكل ده بسبب افكار مريضة عقلك رسمهالك.

حدجته مريم بتشتت فأفلتها عمار أخيرا و قال :
– انا هدور على الحقيقة لوحدي و اقسم بالله يا مريم لو عرفت انك ظالماني وكنتي قادرة تحلي المشكلة لو بس اتكلمتي … ساعتها هندمك على كل حاجة عملتيها !

ولم تستطع النطق ، شعرت وكأنها قد ابتلعت لسانها و بقيت عاجزة عن إخراج حروفها تلافيف ذكرى الإجهاض تعبث بعقلها و تحفزها للتحدث الآن و لكنها عجزت عن ذلك بعد سماع كلامه.
و لصدمة مريم فقد شعرت بالخوف من فكرة أن تخبره بأمر إتهامه بالجريمة و يثبت هو براءته ولكن ذعرها هذا لم يكن بسبب تهديده ، بل لأنها أحست هذه المرة لو قالت له بأنها اعتبرته طوال هذه السنين مجرما قاتلا لجنينها سيتركها ، سوف يتخلى عن محاولات استمالتها ولن ينظر في وجهها مجددا.

و عندما أدركت مريم بفزع هذه الحقيقة لم تجد عمار أمامها ، لأنه كان قد انسحب و غادر الشقة بعدما أغلق الباب بعنف !

__________________
جلس على إحدى المقاعد في صالة الإنتظار الخاصة بأكبر العيادات الخاصة في المدينة ، و شرد وهو ينظر الى النافذة محركا ساقه اليمنى بوتيرة سريعة يكاد يحطم هاتفه من كثرة الضغط عليه.

كان لهذه الخطوة جهود كبيرة و تردد أكبر استهلك كل شجاعته ليعترف بأنه يحتاج العلاج فعلا ، و هاهو عمار بعد مرور 3 أيام على اخر مواجهة بينه و بين مريم يأخذ موعدا من طبيبة سمع كثيرا عن مهاراتها و سريتها في العمل.
و رغم أن ميعاده لم يحن بعد إلا أنه جاء مبكرا لسبب لا يعلمه ربما لأنه كان يريد التأكد من المكان أو لمراقبة المرضى المتابعين عندها و استخلاص ردودهم بعد تكلمهم معها.

استفاق من شروده عندما سمع المساعدة تناديه فنهض و دخل بعد طرقه الباب ثم وقف مكانه يلف بصره في الغرفة ذات الأثاث المرتب و الألوان المريحة حتى وقع نظره على تلك الجالسة خلف مكتبها.
كانت سيدة في اواخر العشرينات او بداية الثلاثينات ربما ، ذات شعر بني متوسط الطول مربوط بإحكام و عينان خضراوتان تخفيهما خلف نظارتها الطبية التي لم تنقص من أناقتها شيئا.

فرفع عمار حاجبه مطالعا إياها وقد ظن بأن الطبيبة هي سيدة كبيرة في السن و ذات خبرت مهنية مثلا لتكون قادرة على فهمه و مساعدته غير أن هذه الفتاة لا يبدو عليها أنها ستنفعه بشيء.
أفاق من تفكيره على صوتها الجدي الذي لم يتناسب مع ابتسامتها :
– حضرتك تقدر تتفضل لو خلصت تأمل فيا.

حمحم يستجمع نفسه و تقدم ناحيتها ليجلس على الكرسي المقابل لها دون أن يتكلم ، فمنحت له الطبيبة كوبا من الماء مردفة :
– استاذ عمار مفيش داعي للتوتر خد اشرب مياه وانا هستناك تهدا.

نظر الأخير الى الكوب دون أن يلمسه و هنا أدرك الموقف الذي أوقع نفسه فيه حقا ، فهو الآن يجلس أمام امرأة لا يعرفها و سيضطر للتكلم معها عن مكنوناته و أسراره و فضح كل ما يخصه ، الأحداث التي كتمها بينه وبين نفسه لمدة فاقت ال 24 سنة سيأتِ و يكشفها الآن بحجة أن الحديث عنها سيساعده فب التحسن ، بالله عليه ماهذا الذي يفعله !

انتصب واقفا فجأة وهو يبتلع ريقه و يمسح العرق المتصبب على جبينه هامسا بتقطع :
– اسف.

و في لحظات كان عمار يهرع خارج العيادة و يذهب للحديقة التابعة لها وهو يسحب أنفاسه و ينفثها بصعوبة بالغة أما ركبتاه فأصبحتا كخيط رفيع من الهلام يوشك على الإنفراط في اي ثانية.
غلغل أصابع يده في شعره الرطب نادما على مجيئه ولكن جزء منه يود العودة و العلاج ، لقد سئم من الأدوية و آلام الرأس و هلوساته و تعبه الدائم …
سئم من ذكرياته التي تدمر حاضره و مستقبله يريد التخلص من حمل هذا العبء على كتفه و لكن هل سيتحقق هذا بالحديث مع هذه الطبيبة ؟ هل سيزوره الإطمئنان أخيرا ..

مرت نصف ساعة كاملة وهو غارق في أفكاره الامنتهية حتى أخذ قراره و نهض ليدخل الى العيادة مجددا ، و عندما طرق الباب و دلف وجد الطبيبة تبتسم دون أن ترفع رأسها عن أوراقها :
– كنت مستنياك عارفة انك هترجع.

ثم نظرت اليه و تابعت :
– لحسن الحظ لسه فاضل حوالي ساعة ونص قبل ما تخلص الحصة بتاعتنا اتفضل اقعد لو سمحت.

هز رأسه باثبات و فعل مثلما طلبت منه بإضغان ثم تنهد بعمق مرددا بهدوء :
– كنت محتاج وقت اقعد فيه مع نفسي … مش سهل اتكلم عن اللي مخبيه و صعب اقتنع اني مريض و محتاج اتعالج.

صححت له بلطف :
– مش كل حد يجي لهنا يبقى هو مريض ، احيانا المشاكل اللي بنعيشها بتخلينا مش عارفين نكمل حياتنا بصورة طبيعية علشان كده بنبقى محتاجين ل أننا نتكلم و انا موجودة هنا علشان اساعدك تطلع اللي جواك.

– يعني يا دكتورة انتي بتضمني انك هتعرفي تساعديني … مقصدش اقلل منك بس انا من كام يوم كنت هرمي نفسي من البلكونة لو ملحقونيش حالتي صعبة للدرجة ديه.
قالها ببساطة فهزت الأخرى رأسها بإيجاب :
– ان شاء الله اكون سبب في انك تتحسن و متقلقش كل اللي بيحصل و يتقال هنا مش هيطلع لبرا … بالمناسبة انا ريماس.

وجهها الجميل المطمئن و نبرتها الواثقة وهي تمد يده لتصافحه جعلت الراحة تتسلل لقلبه قليلا ، فبادلها الاِبتسامة ولم يجد مانعا من مصافحتها هاتفا :
– و انا عمار يا دكتورة … عمار البحيري.
_______________
ستووب انتهى البارت
رايكم بيه ؟ كنتو تتوقعو الأحداث اللي حصلت مع مريم في مشاهد الفلاش باك ؟
في رايكم عمار عنده حق يتعصب من مريم ؟ هيعمل ايه لما يعرف انها كانت بتتهمه بقتل ابنها.
عمار بدأ مرحلة جديدة مع الدكتورة يا ترى هيقدر يتعالج ؟

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية نيران الغجرية)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *